المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي
الإنسان |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
خرجت من العراق قاصدا اليمن.. وببلدة من بلادها
تسمى (حضرموت)[1] نزلت.. لعلكم تعرفونها.. لقد كانت في ذلك الحين
مضمخة بعطر الزهد والإيمان، وكأنها تصيح بملء فيها مصدقة ما أخبر عنه رسول الله r حين قال:( أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الايمان
يمان، والحكمة يمانية)[2]
رأيتها، وهي تبادل رسول الله r الأشواق حين قال:( أين أصحاب اليمن؟ هم مني وأنا منهم، وأدخل
الجنة فيدخلونها معي، أهل اليمن المطروحون في أطراف الأرض المدفوعون عن أبواب
السلطان، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يقضها)[3]
لست أدري كيف انتابني ذلك الشعور في مدخل تلك
المدينة العريقة..
لقد استوى عندي التبر بالتراب.. والأكواخ
بالقصور.. والمراكب الفخمة التي أتقن صنعها أهل عصرنا بتلك المراكب البسيطة التي
كانت تزدان بها طرقات حضرموت.
لقد قلت لنفسي: ما فائدة اللهث وراء دنيا تختم
بالموت.. وما جدوى الاحتراق بوهج الحرص، وما في القناعة يكفي لحياة مليئة بالسعادة
غير مكدرة بأي منغص.
لقد كنت ألاحظ في شوارع تلك المدينة البسيطة
المارة وهم ممتلئون بسعادة لم أر لها نظيرا في المدن العالمية الكبرى التي زرتها
مع أن أولئك الحضرميين لم يكونوا يملكون من الدنيا قليلا، ولا كثيرا.
اقترب مني بعض المارة حين رآني غريبا، وقال:
أراك تبحث عن شيء.. فهلا ذكرته لي حتى أساعدك في البحث عنه؟
قلت: أنا أبحث عن الإنسان.
قال: كلهم يبحثون عن الإنسان.. وكلهم يتيه في
بحثه.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: هم يتعلقون بطين الإنسان، لا بروح
الإنسان.. وهم لذلك ينشغلون بما تطلبه طين الإنسان من كلأ وماء.. ويغفلون عما
تطلبه روحه من علم وإيمان.. وهم يزنون الناس بما يملكون من أطنان التراب والماء،
ولا يزنونهم بما يملكون من حقائق العلم والإيمان.
قلت: لم تزدني إلا يأسا.
قال: اليأس ينبت الشوق، والشوق ينبت الحرص.. ومن
حرص على شيء وصل إليه.
قلت: أنا لست حريصا على أي طين ولا علي أي
ماء.. أنا أبحث فقط عن الإنسان الذي نفخ فيه روح الإنسان.
قال: ما دمت قد ذكرت ذلك.. فسأدلك على رجل من
أهل الله، ومن ورثة رسول الله.. هو بهذه البلاد.. وهو سر بركتها، وسر ما تراه فيها
من أمن وسعادة.
قلت: من هو؟.. لم أسمع برجل له مثل هذه
البركات.
قال: ولكن هذه البلدة سمعت به.. إنه (داود
الطائي)[4].. هو رجل
ملأ قلوب الناس قناعة ورضا.. فلم يحسد فقيرهم غنيهم، ولم يشح غنيهم على فقيرهم..
فلذلك لا ترى بينهم لصا ولا غاشا ولا مختلسا ولا محتكرا ولا قاتلا.. ولا شيئا مما
تمتلئ به سجون العالم.
قلت: أسرع بي إليه.. فذلك الذي أبحث عنه.
***
لقد كان دواد الطائي هو الوارث الرابع الذي
عرفت منه، بل علمت علما لا يزاحمه الشك بأن محمدا r هو سيد الزهاد وأكملهم.. وأنه لو اجتمع زهد جميع الزهاد ووزن بزهد
رسول الله r لوزنه زهد رسول الله r.
سار بي الرجل في شوارع كثيرة قبل أن أصل إلى
بيت داود.. كانت شوارع بسيطة، تخلو من كل مظاهر الترف.. ولكنها مع ذلك نظيفة تفوح
من جنباتها الصحة والعافية والسلام.
عندما وصلنا إلى بيت داود رأينا رجلا يخرج منه،
فالتفت إلي صاحبي، وقال: أتعرف هذا؟
قلت: لا.. لقد ذكرت لك أني غريب بهذه الديار.
قال: هذا والي حضرموت.
قلت: والي المدينة نفسه يزور هذا الرجل!
قال: ويزوره الوزراء والأمراء والملوك.
قلت: لقد ذكرت لي أنه زاهد.. فكيف يزوره كل
هؤلاء؟.. وهل ينسجم الزهد مع هذا؟
قال: ألا ترى بيته البسيط؟
قلت: أجل.. وهذا ما زادني عجبا.. فكيف يزور أحد
في الدنيا من هذا بيته؟
قال: لا يزورونه إلا لأن هذا بيته..
قلت: فكيف لا يرحمونه بقصر من قصورهم؟
قال: لو طمع في قصورهم ما طمع في قبول زيارته
لهم.. ولكنه لما زهد فيهم حرصوا عليه..
لقد عرضوا له من الدنيا ما شاءت لهم نفوسهم أن
تعرض.. ولكنه أبى.
قلت: فلم يزورونه؟
قال: لأن كلام الزهاد ينطلق من الروح.. وفي كل
إنسان شوق عظيم لأن يسمع كلام الروح.
قلت: حتى المحاصرون في سجن الجسد؟
قال: أجل.. ألا ترى السجين كيف يشتاق إلى
الحرية؟
قلت: بلى..
قال: فكذلك أرواح أولئك المكبلين في قضبان
أجسادهم تشتاق لسماع نغمات الأرواح الطيبة التي تنطلق من أفواه الزهاد.
قلت: فهل ينتفعون بزيارته؟
قال: كما لا ينتفعون بزيارة بعضهم لبعض.. إن ما
تراه من رشحات الرحمة والعدل التي يبدونها في بعض الأحيان لا تنطلق إلا من هذا
البيت وأمثال هذا البيت.
قلت: فلم تتعب المعارضة نفسها في تحقيق
مطالبها.. فلو أنها اتخذت بيتا مثل هذا البيت لنالت مطالبها من غير عناء؟
قال: وأين الحرص والطمع؟.. فهما الذئبان
العاويان اللذان لا هم لهما إلا القضاء على حقيقة الإنسان.. لقد ذكر رسول الله r ذلك، فقال:( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص
المرء على المال والشرف لدينه)[5]
بينما نحن كذلك إذ خرج صبي صغير من البيت،
ونادى فينا: من يريد السيد فليدخل.. فإن السيد في انتظاره.
قلت لصاحبي: أترى الصبي يقصدنا؟
قال: أجل.. ألا تراه يلتفت إلينا؟
قلت: فهل تدخل معي.. أم سأدخل وحدي؟
قال: بل ستدخل وحدك.. أما أنا فلن يشق علي أن
أزوره في أي حين أردت.
دخلت بيتا بسيطا متواضعا، جلس على كرسي من
كراسيه شيخ كبير قد عضته السنون بنابها، لكن ملامح الشباب والقوة لا تزال تعمر
جوارحه، وكأنه شاب لبس لباس شيخ، أو كأنه شيخ احتفظ بإكسير الشباب ليضمخ به شيخوخته.
ووجدت بجانبه رجلا كهلا قد مد يده يصافحه،
وكأنه يهم بالمغادرة، وهو يقول له: سيدي.. يا طبيب القلوب.. قد عرفت الرحم التي
بيننا، فأوصني.
فدمعت عينا داود، ثم قال:( يا أخي، إنما الليل
والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن
استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب،
والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك،
إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تضييعا مني لذلك)[6]
انصرف الرجل، وبقيت وحدي، فالتفت إلي، وقال،
والابتسامة تشع من محياه: يزعم الناس أني زاهد، فلا تقل قولهم.. فإن الزاهد من زهد
في الحقير، لا من زهد في العظيم.. الزاهد من باع سعادة الأبد بسعادة وهمية سرعان
ما ينكشف له عوارها[7].
قلت: من تقصد؟
قال: أقصد هؤلاء الخلق الذين انشغلوا بالأدنى
عن الأعلى.. ورضوا بالقليل، وتركوا الكثير.. وباعوا الله وفضل الله ورضوان الله
ليشتروا بدله السراب الذي لا يغنيهم من جوع، ولا يرويهم من ظمأ؟
قلت: ولكن الخلق تواطأوا على أن يسموا أولئك
(حريصين)، وأن يسموك أنت ومن معك زهادا.
قال: ما أكثر ما يخطئ الخلق في تعابيرهم.. إنهم يسمون الأشياء بغير مسمياتها.
قلت: فممن
نتعلم تسمية الأشياء بأسمائها؟
قال: من
الله.. لقد علم الله ﴿ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31)..
ولكن بني آدم سرعان ما نسوا ما علمهم الله من أسماء، وراحوا يبتدعون ما شاءت لهم
أهواؤهم منها.
قلت: فهل ذكر الله في كلماته المقدسة الحرص
والزهد؟
قال: لا يمكن للكلمات أن تكون مقدسة ما لم
تعلمك حقائق الوجود، وما تقتضيه حقائق الوجود.
قلت: فما قالت كلمات الله المقدسة في هذا؟
قال: لقد امتلأ القرآن الكريم بذكر الذين زهدوا
في الآخرة، وباعوها بالدنيا، وامتلأ بذكر ما وقعوا فيه من غبن وخسارة:
فذكر أنهم بتصوراتهم المشوهة عن الدنيا والآخرة
واقعون في ضلال بعيد، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (ابراهيم:3)
وذكر أنهم هم الخاسرون، فقال:﴿ وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11)
وقارن بين ما كسبوه في الدنيا من متاع قليل،
وما ضاع منهم مقابل ذلك من متاع لا يمكن تصور حدوده، فقال:﴿ وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص:60)، وقال:﴿
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)
سكت قليلا، ثم قال: لقد
ضرب القرآن الكريم للدنيا التي انشغل بها هؤلاء عن الله أمثلة، فإن شئت ذكرت لك
منها ما يجلي لك حقيقتها، ويمسح عن عينيك الغشاوة التي تحجبك عن رؤيتها بصورة
الحقيقية التي يحاول الدجالون بأنواع الطلاء سترها.
قلت: يسرني ذلك.. فأنت
تعلم أني من قوم قد ملأ حب الدنيا قلوبهم، فصاروا يرمون بالجنون والدجل كل من
يراها بغير الصورة التي يرونها بها.
قال: ليس عصرك وحيدا في
ذلك.. إن إله (حب الدنيا) والشغف بها هو الحجاب الأكبر الذي حال بين الخلق واتباع
الحقائق.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ
بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ (107)﴾ (النحل)، وقال:﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً) (النساء:74)، وقال:﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ
لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )(الأنعام: من الآية70)،
وقال:﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ
هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (لأعراف:51)
وذكر سخرية هؤلاء الذين استحبوا الحياة الدنيا
بالمؤمنين، فقال:﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)
قلت: إن القرآن يتحدث عن الواقع بشفافية تامة.
قال: وهو يصف الحقائق، ويضرب لها الأمثال بنفس
الشفافية..
لقد قَالَ تعالى يصف الحياة الدنيا، ويضرب لها
الأمثال:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ
أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (يونس: 24)، وقال:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ
نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا
وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
(الكهف: 45-46)، وقال:﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ
وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ
وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الغُرُورِ ﴾ (الحديد: 20 )
قلت: أنا لم أجئ إليك
لتعرفني بالدنيا وزهادتها، فقد كانت لدي ومعي، وقد رأيت منها ما ملأني زهدا فيها..
ولكني جئتك لأتعرف على الإنسان الكامل.. ذلك الذي نصبه الله علما لعباده يهتدون
بهديه، ويسيرون سيرته.
قال: لن يكون الإنسان
كاملا حتى يرى الوجود بصورته الحقيقية، فيسير فيه وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق
ما تقتضيه الأهواء.
قلت: فمن هو ذلك الذي لم
ينحجب بالأهواء عن الحقائق؟
قال بسرعة، وبصوت عال:
ذلك هو الكامل الأكبر.. ذلك هو محمد رسول الله.. هو الإنسان الوحيد الذي اكتملت له
معرفة الحقائق، فصار مرآة لتجلياتها، وفهرسا لمفرداتها.. فإن شئت أن تبصر حقائق
الأشياء، فأبصرها من خلال مرآته.
قلت: فما قال في الدنيا؟
قال: لقد استن محمد r بسنة القرآن في ضرب الأمثال، فراح
يعلم كل من يتعلم على يديه حقيقة الدنيا، وحقيقة المواقف حولها، ليسير تلاميذه
فيها وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.
حدث أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جلس
رسول الله r على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: ( إن مما أخاف عليكم بعدي: ما
يفتح عليكـم من زهـرة الدنيـا وزينتها)، فقـال رجـل: أوَيـأتي الخيـر بالشـر يا
رسول الله؟ قال: فسكت رسول الله r، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه
ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: أين هذا السائل؟ ـ وكأنه حمده ـ
فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا[8]أو يُلم[9]، إلا آكلة الخْضِر[10]، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت[11] وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو
لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله r ـ وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا
يوم القيامة)[12]
التفت إلي، فرأى وكأني لم أفهم المراد من المثل
بدقة، فقال: في هذا الحديث مثلان:
أحدهما: للِمُفْرطِ في جمع الدنيا، والآخر:
لِلْمُقْتَصد في أخذها والانتفاع بها.
فأمَّا قوله: (وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل
حَبَطًا أو يُلِمَّ) فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها؛ وذلك أن الربيع
ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند
مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقُّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تُقارب الهلاك؛ وكذلك
الذي يجمعُ الدنيا من غير حقها ويمنعها من حقها: قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل
في الدنيا.
وأما مثل المقتصد، فقد أشار إليه رسول الله r بقوله: (إلا آكلة الخضر)؛ وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول
وجيِّدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من التي ترعاها
المواشي بعد هيج البقول ويبْسِها، حيث لا تجد سواها، فلا ترى الماشية تكثر من
أكلها ولا تَستَمْرِئُهَا، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصر في أخذ
الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما
نجت آكلة الخضِر[13].
ولهذا قال r:( أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت
وبالت).. إن في هذه الكلمات ثلاث فوائد:
أولها: أنها لمَّا أخذت حاجتها من المرعى،
تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.
والثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في
المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما
أكلته وإخراجه.
والثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته
من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها.
وهكذا جامع المال.. فإن مصلحته أن يفعل به كما
فعلت هذه الشاة.
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله r مثالا آخر للدنيا، ومقارنتها بالآخرة، فقال:( ما الدنيا في الآخرة
إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم، فلينظر بم ترجع؟)[14]
التفت إلي، وقال: إن هذا المثل من أحسن
الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا
انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور.. بل لو فرضنا أن السموات والأرض
مملوءتان خردلاً، وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفني الخردل، والآخرة لا تفنى؛
فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل[15].
لقد ذكر القرآن هذا المعنى وكرره.. فالله تعالى
يقول داعيا نبيه r إلى الرغبة في الله وفيما عند الله مقارنا لذات الدنيا بلذات
الآخرة:﴿ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً
مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقَى) (طـه:131)، ويقول مخاطبا من حجبوا بمتاع الحياة الدنيا وزينتها:﴿
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص:60)، ويقول:﴿
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
(الشورى:36)
سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله r للدنيا مثالا بالمسافر، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود ـ رضي
الله عنه ـ قال: دخلت على رسول الله r وقد نام على حَصِير، وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو
اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: (ما لي وللدنيا؛ ما
أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلّ تحت شجرة ثم راح وتركها)[16]
نظر إلي، وقال: تأمل حسن هذا المثال، ومطابقته للواقع؛ فإن
الدنيا في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد
مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها
دارًا، ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن
الرفاق[17].
لقد أشار رسول الله r إلى هذا في حديث آخر، فعن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه
كان واقفًا بعرفات، فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب فبكى واشتد بكاؤه.
فقال له رجل عنده: يا أبا عبدالرحمن قد وقفت معك مرارًا لم تصنع هذا، فقال: ذكرت
رسول الله r وهو واقف بمكاني هذا فقال: (أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما
مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)[18]
إن هذا الحديث يشير إلى أن الدنيا كلها ليست
سوى يوما واحدا بعث رسول الله r في آخره قبل غروب الشمس بيسير.
سكت
قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله r لقيمة الدنيا مثالا آخر ينطبق عليها تماما، فعن جابر بن عبدالله ـ
رضي الله عنه ـ أن رسول الله r مر بالسوق، داخلاً من بعض العَوَالي، والناس كنفتيه، فمر بجدي ميت
أسك[19]، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال: أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟
قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشي، ما نصنع به؟ إنه لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنَّهُ
أسكُّ. قال: (فوالله للدُّنيا أَهون على الله من هذا عليكم)[20]
قلت: وعيت هذه الأمثلة.. وهي تنطبق على الدنيا
كما ذكرت.. ولكني أتساءل، ولست أدري هل يحق لي أن أتساءل أم لا..؟
قاطعني، وقال: لقد تساءلت مثلك كثيرا إلى أن
وقعت في بحار التسليم التام.. فسل ما بدا لك.
قلت: أليس الإسلام دين حياة.. ودين جاء لإصلاح
الدنيا.. ولا يمكن تطبيق تعاليمه إلا في الدنيا؟
قال: بلى.. ذلك صحيح.
قلت: فلماذا زهد محمد في الدنيا كل هذا
التزهيد؟.. ولماذا احتقرها كل هذا الاحتقار؟
قال: أرأيت الصبي الذي تشغله لعبه عن دروسه..
فيظل متعلقا بها لا يريد أن ينشغل عنها بأي شاغل؟
قلت: ما به؟
قال: ما رأيك لو ترك لهذا الصبي الحرية المطلقة
في التعلق بلعبه على حساب دراسته، فلم يؤدب، ولم يؤنب، ولم ينهر؟
قلت: لو ترك كذلك، فإن مصيره أن يعيش جاهلا،
ويموت جاهلا.
قال: فهذا ما أرادت النصوص المقدسة أن تقرره..
فنبينا r حين ينهانا عن التعلق بالدنيا، والانشغال بها يتعامل معنا كما
يتعامل ذلك المؤدب مع الصبي الذي انشغل بلعبه عن حياته وما تقتضيه حياته من معارف.
لقد ضرب القرآن مثلا يكاد يشبه هذا الصبي المنشغل
بلعبه.. لعلك تعرفه.. إنه قارون.. فقد كان حاله في انشغاله بكنوزه وزينته لا يختلف
كثيرا عن ذلك الصبي الذي حدثتك عنه..
لقد قال الله تعالى يذكر خبره:﴿ إِنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا
لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ
آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا
أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ (82)﴾ (القصص)
التفت إلي، وقال: هذا هو مشهد رجل من أهل
الدنيا.. ربما يمثل ملايين البشر الذين مروا على هذه الأرض.. أو يمثل ملايين من
الذين لا يزالون يعمرون هذه الأرض، ويملأونها بالخراب..
إن هذا الرجل لم يكن ينظر إلا إلى نفسه، وإلى
تلك الحياة الدنيا التي يعيشها، فيتصور أن الوجود يتوقف عندها.
وقد كان هذا الرجل يتصور أن قيمته بقيمة تلك
اللعب التي كان يملكها، فلذلك كان يمشي بين الخلق مزهوا مختالا لأن له من اللعب ما
لم يكن لغيره.
قلت: كيف تسمي الكنوز لعبا؟
قال: لأنها مجرد ملهاة لا تختلف كثيرا عن أي
لعبة من لعب الأطفال..
قلت: ولكن بتلك الكنوز نستطيع أن نعمر الدنيا
التي أمرنا بعمارتها؟
قال: يستحيل أن نعمرها إذا كان في عقولنا
التفكير القاروني.. فالتفكير القاروني المتعلق بالدنيا يحب الكنوز .. والكنوز
تتنافى مع العمارة.. لأن الكنوز تهتم بالبنيان أكثر من اهتمامها بالإنسان.. ولا يمكن
للحضارة أن تقوم على البنيان وحده.
قلت: فكيف نمحو التفكير القاروني من عقولنا؟
قال: عندما نعلم أن هذه الحياة التي نعيشها
ونتفانى من أجلها حياة دنيا.. وأن هناك حياة أرفع منها.. وأنه لا يمكن أن نظفر
بتلك الحياة إلا بعد أن نترفع على هذه الحياة.
هذا ما كان يعلمه رسول الله r أصحابه.. وهذا ما كان يربيهم عليه.. فلذلك استطاعوا أن ينشئوا
أعظم حضارة عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.
سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض النصوص التي
تبين لك هذا.. لتكتشف من خلالها مدى النصح العظيم الذي نصح به محمد r أمته حتى لا تغرها الحياة الدنيا عن الحياة الحقيقية:
حدث عمرو بن عوف الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ
أنَّ رسولَ الله r بَعَثَ أَبَا عبيدة بنَ الجَرَّاح إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي
بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ
بقُدُومِ أَبي عُبيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ الله r، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله r انْصَرفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ الله r حِيْنَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ( أظُنُّكُمْ سَمعتُمْ أنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟) فقالوا: أجل، يَا رسول الله،
فقال:( أبْشِرُوا وَأَمِّلْوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى
عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ
عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا،
فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ)[21]
وعن أَبي سعيد الخدري ـ
رضي الله عنه ـ قَالَ: جلس رسولُ الله r عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: ( إنَّ ممَّا أخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ
بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا) [22]
وقَالَ r:(إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ
وَإنَّ الله تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ،
فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ)[23]
التفت إلي، وقال: إن
محمدا r في هذه الوصايا يحذر من الاستغراق في
الدنيا والانشغال بها.. وهو ما يؤدي إلى التنافس فيها.. وهو ما يؤدي إلى الصراع..
ولا يمكن للصراع أن يولد إلا الهلاك.
ولهذا كان رسول الله r يضع البدائل عن الاستغراق في جمع
كنوز الدنيا وملذاتها بالاستغراق في جمع الأعمال الصالحة.. فالأعمال الصالحة هي
الباقية، أما ما عداها فكالسراب الذي ﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ (النور: من الآية39)
لقد قَالَ r يذكر ذلك: ( يَتْبَعُ الْمَيِّتَ
ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى
وَاحِدٌ: يَرْجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ وَيبْقَى عَمَلُهُ)[24]
وأخبر r أن جميع نعيم الدنيا لا يعدل لحظة
عذاب يعذب فيها المتنعم بسبب ذنوبه، فقَالَ: ( يُؤْتَى بِأنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيَا
مِنْ أهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ
يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ خَيْراً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ
قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسَاً في
الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ
لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ بُؤساً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ
قَطُّ؟ فيَقُولُ: لاَ وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأيْتُ شِدَّةً
قَطُّ )[25]
وأخبر r أن أكثر ما يملأ الدنيا مجرد لهو
فارغ لا قيمة له في ميزان الحقيقة، قال r:( أَلاَ إنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا
فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعالِماً وَمُتَعَلِّماً )[26]
وعن عبدِ الله بن
الشِّخِّيرِ ـ رضي الله عنه ـ أنه قَالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ r، وَهُوَ يَقْرَأُ:﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾
(التكاثر:1)، ثم قَالَ:( يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مالي، وَهَلْ لَكَ يَا
ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ
فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟!)[27]
بل إن النبي r كان يعتبر المنشغل بأمثال تلك اللعب
عبدا رقيقا لها، قال r: ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ،
وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ
يُعْطَ لَمْ يَرْضَ )[28]
قلت: فهل أثرت هذه
الوصايا في أصحابه؟
قال: أجل.. ولولاها ما
انتشر الإسلام ذلك الانتشار.. ولولاها ما ظهرت في المسلمين تلك القيم التي لم يظهر
لها أي نظير في العالم.
قلت: مثل ماذا؟
قال: كل القيم النبيلة من
التضحية والكرم والإيثار وعلو الهمة وغيرها.. كلها ثمار من نبات الزهد.. لقد أشار
رسول الله r إلى هذا في حديثين أساء البعض
فهمهما:
أما الأول فهو ما حدث به
عبدِ الله بن مُغَفَّل ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رجل للنبي r: يَا رسولَ الله، وَاللهِ إنِّي
لأُحِبُّكَ، فَقَالَ: ( انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ؟ ) قَالَ: وَاللهِ إنِّي
لأُحِبُّكَ، ثَلاَثَ مَرَّات، فَقَالَ:( إنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ
لِلْفَقْرِ تِجْفَافاً[29]، فإنَّ الفَقْرَ أسْرَعُ إِلَى مَنْ
يُحِبُّني مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ)[30]
وأما الثاني، فهو ما حدث
به أبو العباس سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النبي r، فقال: يَا رسولَ الله، دُلَّنِي
عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أحَبَّنِي اللهُ وَأحَبَّنِي النَّاسُ، فقال: ( ازْهَدْ
في الدُّنْيَا يُحِبّك اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبّك النَّاسُ
)[31]
قلت: فما الخطأ الذي وقع
في فهم الحديث الأول؟
قال: لقد تصور البعض أن
النبي r في هذا الحديث يفضل الفقر على
الغنى.. فأخطأوا، فما كان النبي r ـ وهو العارف بربه ـ أن يفضل بلاء
على بلاء، أو نعمة على نعمة.
قلت: فما الصواب الذي
تفهمه أنت؟
قال: إن النبي r في ذلك الحديث يبين أن من آثار محبة
رسول الله r التي تملأ قلب المحب رفع قيود
العبودية للدرهم والدينا.. وهو بذلك يصبح فقيرا لا يملك شيئا، لأنه يعتقد أن كل ما
يملكه ملك لله، فهو يرسله ذات اليمين وذات الشمال كما كان يفعل محبوبه.
قلت: والثاني؟
قال: لقد تصور البعض أن
الزهد يجلب محبة الناس، لأن الزاهد قد كف شره عن الناس، فهو لا ينافسهم فيما
يتنافسون فيه.
قلت: وما تفهم أنت من
الحديث؟
قال: الزاهد الكامل هو
الذي لا يكف شره عن الناس فقط.. وإنما من ينالهم من خيره ما يملأ قلوبهم محبة له.
قلت: إن ذلك يستدعي أن
يكون الزاهد مالكا، والزهد يتنافى مع الملك.
قال: بل الزهد لا يكمل
إلا بالملك، فمن السهل أن يدعي المعدم الزهد، وما أصعب أن يدعيه المالك[32].. لقد قال رسول الله r يبين هذا:( الزهادة في الدنيا ليست
بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق
منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغبَ منك فيها لو أنها
أُبقيتْ لك)[33]
وعلى هذا الفهم السليم للزهد سار الورثة الذين
ورثوا علم رسول الله r وعمله وحاله.. فهذا يونس بن ميسرة يقول معبرا عن ذلك: (ليس الزهد
في الدنيا بترك الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد
الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء،
وأن يكون مادحك وذامّك في الحق سواء)
وهذا إبراهيم بن أدهم يقول: (الزهد فراغ القلب
من الدنيا لا فراغ اليد، وهذا زهد العارفين، وأعلى منه زهد المقربين فيما سوى الله
تعالى من دنيا وجنة وغيرهما، إذ ليس لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إلى الله تعالى
والقرب منه)
وهذا الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول: (أخرج
الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك، فإنها لا تضرك)
قلت: أنت تكر على كل المعارف التي أقنعتني بها
لتمحوها.. ألست ترى نفسك متناقضا؟
قال: لا.. يستحيل على من تعلم من محمد r أن يقع في التناقض..
قلت: فقد كنت أسمعك تقرأ من كتابك، وتحدث عن
نبيك أروع النصوص في ذم الدنيا..
قال: الدنيا المرادة من تلك النصوص ليست هذا
الزمان الذي نعيشه.. ولا هذه الأرض التي نعيش فوقها.. والتي يمكن أن نجعل منها
مسجدا كبيرا لطاعة الله وعبوديته.. ولكنها الدنيا التي ترتبط بالهمم.. الهمم التي
تقصر نظرها على نصيبها المحدود غافلة عن نصيبها غير المحدود.
إنها دنيا الغافلين الذين اشتغلوا بما رأو من
عاجل النعيم عن آجله، فانهمكوا ينتهزون فرصة العمر في استيعاب ما استطاعت لهم
قواهم من أصناف اللذات.
ومع ذلك فإن النصوص المقدسة لا تعيب على هؤلاء
ما انهمكوا فيه من أصناف النعيم، بل تعيب عليهم اشتغال أنفسهم وهممهم به عن التدبر
فيما بعده:
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:﴿
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)
(الأنعام:29)، وقال:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) (البقرة:86)، وقال:﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ) (البقرة:200)، وقال:﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا
نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ)
(لأعراف:51)، وقال حاكيا قولهم:﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37)
ولهذا يجمع الله تعالى بين همتي المؤمنين الذين
ترقت هممهم فلم تقف مع زينة الحياة الدنيا، ولم تحبس نفسها في قيودها مع همة
الكافرين التي باعت نفسها لأول ما لاح لها من مظاهر الزينة، قال تعالى:﴿ زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)
وفي هذه الآية تصوير بديع لسخرية الكافرين
الذين استغرقوا في حب الدنيا، وعبادتها، بل فنوا فيها عما سواها من المؤمنين الذين
تعاملوا مع الدنيا بعقولهم لا بشهواتهم، وبربهم لا بأنفسهم، وبدينهم لا بأهوائهم.
جاء ذلك الصبي الصغير الذي أدخلني إلى بيت
داود، وقال ـ وقد كان يتابع حديثنا على كثب باهتمام شديد ـ: لقد صنف أهل الله فرق
هؤلاء وطوائفهم كما يصنف قومنا الأحزاب والمذاهب والأجناس.. ولكن الفرق بينها هو
أن هذه الطوائف تنتشر في كل مكان، كانتشار النار في الهشيم.
ومن الطوائف ـ التي ذكرها الغزالي[34] ـ طائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة
أمورهم، فتصوروا أن المقصود من الدنيا أن نعيش أياماً نجتهد نجتهد فيها على كسب
القوت ثم (نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون
ليأكلوا)
وهذا دين أكثر الخلق ممن ابتلاهم الله بالحاجة
للعمل، بل حتى ممن لم يبتلوا من الذي صار العمل عندهم هواية وشغلا للقلب والقالب.
وليس العمل هو المعيب في سلوك هؤلاء، وإنما
المعيب هو انشغالهم بالعمل عن الغاية التي وجدوا من أجلها، قال الغزالي:( وهذا
مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب
نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع
إلا بالموت)
ومن الطوائف طائفة ترقت عن هؤلاء، فزعمت أنها
تفطنت لما لم يتفطن له من قبلها، فقالت:( ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا
يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا).. وهؤلاء هم الذين
انصرفوا إلى الشهوات، فما جمعوه في النهار بالعناء والجهد يقضون عليه في الليل
بالشهوات والملذات.
وهذا الفكر الدنيوي الذي تتبناه هذه الطائفة هو
الفكر الذي تغرسه المدنية الغربية باعتباره بديهية البديهيات، فلذلك تستنكر من يذم
الدنيا، وكأنها تعتبر نفسها المقصودة بكل ذلك الذم.
ومن الطوائف من (ظنوا أنّ السعادة في كثرة
المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم
يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون،
ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم، وفي
ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في
الشهوات واللذات، فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته)
وهؤلاء الذين ورد ذمهم في القرآن الكريم
باعتبارهم عبيدا للمال، كما قال تعالى:﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
(1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)﴾
(الهمزة)
ومن هذه الطوائف طائفة استعبدهم الجاه،
وانشغلوا بالشهرة، فـ ( ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء
والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في
المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون
أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن
ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس)
ومن هذه الطوائف طائفة (ظنوا أن السعادة في
الجاه والكرامة بـين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا هممهم إلى
استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها
على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا
سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس،
فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم
ومعادهم)
ومن هذه الطوائف طائفة ظنوا أن إكسير الحياة
منفوخ ضمن الهواء الذي يسكن جلد كرة القدم.. ومنهم من رآه في الموجات الصادرة من
حنجرة أي ناعق أو مغن.. ومنهم من رآه في حركات ممثل.. ومنهم من رآه في تغنج
غانية..
قاطع داود الصبي، وقال: أما دنيا المؤمنين
العارفين بربهم، والذين ترقت هممهم على أن يستعبدها غير مولاهم، فإنها كآخرتهم، لا
فرق بينهما، بل إن العارفين بالله الذين رفعوا حجب الكثافة التي تحول بينهم وبين
حقائق الأزل، وتخلصوا من كل همة دنية يعيشون الآخرة في الدنيا، وما الموت عندهم
إلا مفارقة لتلك العلاقات البسيطة التي ارتبطوا بها كما يرتبط المسافر مع رفقة
سفره.
ولهذا يمن الله على هؤلاء العارفين بأنه جمع
لهم بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة، قال تعالى:﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ
الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل
عمران:148)، وقال تعالى:﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ
وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل:30)، وقال
تعالى:﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ) (النحل:41)
ويذكر النماذج الرفيعة من أوليائه وأصفيائه
الذين رزقوا من الحظوظ مالم يرزقه أهل الدنيا أنفسهم، ومنها حظ الجاه الذي وهب
للمسيح u، قال تعالى:﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل
عمران:45)
ومنها نموذج إبراهيم u الذي جمع له بين الحسنتين حسنة الدنيا والآخرة، قال تعالى:﴿
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ) (النحل:122)
وهذه النعم والحظوظ التي من الله بها على
اصفيائه ليت خاصة بهم، بل هي قانون من قوانين الله وسنة من سننه، قال تعالى:﴿
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:134)
وكأن هذه الآية تخاطب القاصرين الذين ينظرون
بعين واحدة إلى الأشياء، فيتصورون أن إقبالهم على الدين يحول بينهم وبين الإقبال
على الدنيا، أو أن رغبتهم في الآخرة تحول بينهم، وبين زينة الدنيا، ولهذا يستنكر
الله تعالى أن تحرم الطيبات، ويعتبر أنها من منن الله على جميع البشر، وأنها خاصة
بالمؤمنين خالصة لهم في الآخرة، قال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (لأعراف:32)
قال الصبي: بل إن الله تعالى ذكر أن هؤلاء
العارفين يدعون الله لدنياهم كما يدعونه لأخراهم.. قال تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201)، وقال ذاكرا دعاء من أدعيتهم:﴿
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ
هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:156)، وقال ذاكرا دعاء نبيه يوسف u:﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
(يوسف:101)
قلت: وعيت كل ما ذكرتماه.. ولكني لم أفهم ما
الفرق بين وضع الدنيا في القلب أو وضعها في الجيب.. أليس كلاهما سواء؟
قال الصبي: إن أذنت لي ـ يا جدي ـ حدثته عن
نموذج الوارث الذي تربى على يدي رسول الله r.. وكان الزهد هو المعراج الذي عرج به إلى سموات العدالة التي لم
يحلم بها جميع ملوك العالم وحكامه.
قال داود: حدثه عن عمر.. فعمر هو خير من حدث عن
عمر.
قلت: فالصبي هو (عمر) إذن؟
قال: أجل.. لقد رزقني الله محبة عمر.. فسميت
حفيدي هذا على اسمه.
قال الصبي: لقد استطاع طلحة بن عبيد الله ـ رضي
الله عنه ـ أن يكتشف تأثير الزهد فيما تميز به عمر ـ رضي الله عنه ـ من خصال،
فقال:( ما كان عمر بن الخطاب بأولنا إسلامًا، ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا
في الدنيا، وأرغبنا في الآخرة)
ومثل ذلك قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه
ـ:( والله ما كان عمر بن الخطاب أقدمنا هجرة، وقد عرفت بأي شئ فَضَلنا، كان أزهدنا
في الدنيا)
هذه الشهادات كافية في إثبات السر الذي جعل عمر
يعدل تلك العدالة التي لم تحلم بها البشرية..
لقد واصل عمر ـ رضي الله عنه ـ ما كان عليه
رسول الله r من الدعوة إلى الزهد، فخير ما حمى الرعية من جشع الحرص، والتنافس
على الدنيا هو إشاعة روح الزهد في الدنيا، والرغبة في الله، وفيما عند الله..
عن أبي الأشهب قال: مر عمر ـ رضي الله عنه ـ
على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التى تحرصون
عليها، وتبكون عليها.
وروي أنه قال: نظرت في هذا الأمر، فوجدت إن
أردت الدنيا أضررت بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا،
فأضرّ بالفانية.
وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر
إليهم في تأخره، وقال: إنما حبسني غسل ثوبى هذا، كان يغسل ولم يكن لى ثوب غيره.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حاجّا من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب
له فسطاطا، ولا خباء، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة فيستظل تحته.
لقد كان هذا الموقف منه وهو خليفة يسوس رعية من
المشرق والمغرب تهابه الملوك.. ومع ذلك يجلس على التراب، وتحت رداء كأنه أدنى
الرعية، أو من عامة الناس.
دخلت عليه مرة ابنته حفصة أم المؤمنين ـ رضي
الله عنها ـ وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهرعليه، فقالت: إن الله
أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاما أطيب من ذلك، ولبست ثيابا
ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك، فذكر أمر رسول الله r وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله r، وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لى صاحبان سلكا طريقا،
فإن سلكت طريقا غير طريقهما سلك بي غير طريقهما، إني والله سأصبر على عيشهما
الشديد لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرَّخِيّ.
لقد كان عمر ـ بما آتاه الله من وعي ـ يدرك
خطورة الحرص.. وخطورة المال المصحوب بالحرص.. ولذلك كان يبكي كلما رأى الثروات،
وهي تتدفق في جيوب الأمة من كل مكان..
يقول إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: لما أُتي
عمر بن الخطاب بكنوز كسرى قال عبد الله بن الأرقم: ألا تجعلها في بيت المال حتى
نقسمها؟ قال: لا والله، لا أظلها سقف بيت حتى أمضيها، فأمر بها فوضعت في صرح المسجد،
وباتوا عليها يحرسونها، فلما أصبح أمر بها، فكشف عنها، فرأى ما فيها من البيضاء
والحمراء ما كان يتلألأ منه البصر، فبكى عمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك
يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا ليوم شكر، ويوم فرح؟! فقال عمر: ويحك إن هذا لم
يعطه قوم قط إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء.
لست أدري كيف جرى على بالي ذكر الطعام بين يدي
الصبي، فقال: إن البطون التي لا تمتلئ هي السبب الأكبر في كل ما يصيب البشر من
مجاعة وفقر وجور واستبداد..
ولهذا كان عمر ـ رضي الله عنه ـ حريصا على خواء
بطنه، ليشعر بجوع الجائعين، وفقر المعوزين.. ولئلا يؤدي به إلف المطعم والمشرب إلى
الغفلة التي إذا رانت على قلوب الحكام فملأتها بالقسوة والاستبداد..
حدث حفيده سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب
كان يقول: والله ما نعبأ بلَذَّات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط لنا، ونأمر
بلباب الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان حتى إذا صار مثل عين
اليعقوب، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقى طيباتنا، لأنا سمعنا الله
يقول:﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾
(الأحقاف: 20)
وحدث أبو عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب:
لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكيله، ولكنا ندعه لـ ﴿ يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾(الحج: 2)
وحدث أبو بكرة الثقفي قال: أُتي عمر بن الخطاب
بخبز وزيت فمسح على بطنه، وجعل يأكل، ويقول: على الخبز والزيت.
بل كان من شدة زهده في الطعام، ينهى عن نخل
الدقيق، وفي ذلك يقول يسار بن نمير: والله ما نخلت لعمر دقيق قط إلا وأنا له عاصٍ.
ويقول مولاه أسلم: رأى عمر إنسانا ينخل الدقيق،
فقال: أخلطه، إن السمراء لا تنخل.
وكان يقول: إنه لا أجده يحل لى لحل مالكم إلا
عما كنت آكلًا من صلب مالى: الخبز والزيت، والخبز والسمن.
ويحكى عتبة بن فرقد فيقول: قدمت على عمر ـ رضي
الله عنه ـ بسلال خبيص عظام.. فقال: ما هذه؟ فقلت: طعام أتيتك به، لأنك رجل تقضي
من حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت أن ترجع إلى طعام فتصيب منه فقواك،
فكشفت عن سلة منها، فقال: عزمت عليك يا عتبة، إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من
المسلمين مثل السلة، فقلت: والذي يصلحك يا أمير المؤمنين، لو أنفقت مال قيصر كله،
وما وسع ذلك، إن النفقة تكثر!.. فقال عمر: فلا حاجة لى فيه فيما لا يسع العامة، ثم
دعا بقصعة من ثريد، خبزًا خشنًا، ولحما غليظا. وهو يأكل معى أكلا شهيا، فجعلت أهوى
الى البضعة البيضاء أحسبها سنامًا، فاذا هى عصبة، والبضعة من اللحم أمضغها، فلا
أسيغها، فإذا هو غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعة، ثم دعا بعُسٍّ من نبيذ، قد
كاد يكون خلًا، فقال: اشرب، فأخذته، وما أكاد أن أسيغه، ثم أخذه، فشرب، ثم قال:
أتسمع يا عتبة، إنا ننحر كل يوم جزورًا، فأما ودكها وأطيابها فلمن حضرنا من
المسلمين، وأما عنقها فلآل عمر، يأكل هذا اللحم الغليظ، ويشرب هذا النبيذ.
وفي عام الرمادة ـ العام الذي جاع فيه المسلمون
ـ مثل عمر ـ رضي الله عنه ـ الزهد في الطعام في أروع صوره..
حدث أسلم مولاه قال: أصاب الناس عام سنة، فغلا
فيها السمن، وكان عمر يأكله، فلما قل، قال: لا آكله حتى يأكله الناس، فكان يأكل
الزيت فقال: يا أسلم، اكسر عني حره بالنار، فكنت أطبخه له، فيأكله فيتقرقر بطنه
عنه فيقول: تقرقر، لا والله لا تأكله حتى يأكله الناس.
وقال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: تقرقر بطن
عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرم عليه السمن، فنقر بطنه
بإصبعه، وقال: تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس.
وقال حفص بن أبي العاص: كان عمر ـ رضي الله عنه
ـ يغدينا بالخبز والزيت، والخل، والخبز واللبن والخبز والقديد، وأول ذلك اللحم
الغريض، يأكل وكنا نعذر، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فكله طعام، وكان يقول: ما
لكم لا تأكلون؟ فقلت: يا أميرالمؤمين إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك، فقال: يا
ابن أبى العاص، أما تراني عالمًا أن أرجع إلى دقيق ينخل في خرقة فيخرج كأنه كذا
وكذا؟.. أما ترانى عالمًا أن أعمد إلى عناق سمينة، نلقى عنها شعرها، فتخرج كأنها
كذا وكذا؟.. أما تراني عالمآ أن أرجع إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء
وأصب عليه من الماء، فيصبح كأنه دم الغزال؟.. قال قلت: أحسن ما يبعث العيش يا أمير
المؤمنين، قال: أجل، والله لولا مخافة أن ينقص من حسناتى يوم القيامة لشاركتكم في
لين عيشكم، ولكنى سمعت الله ذكر قومًا، فقال:﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ
فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾ (الأحقاف: 20)
وحدث الربيع بن زياد الحارثي فقال: إنه وفد على
عمر بن الخطاب، فأعجبه هيئته ـ يعني هيئة الربيع ـ فشكا عمر وجعًا به من طعام غليظ
يأكله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيب، وملبس لين، ومركب وطيء
لأنت.
وكان عمر متكئًا وبيده جريدة نخل فاستوى
جالسًا، فضرب به رأس الربيع بن زياد، وقال له: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي وإن
كنت لأحسب فيك خيرًا، ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؛ إنما مثلنا كمثل قوم سافروا،
فدفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟
قال: لا.
وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يسعى جاهدًا في
أن تكون أسرته، كحاله تمامًا، فيروى ابنه عبد الله يقول: دخل عليّ عمر، وأنا على
مائدة، فأوسعت له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله، ثم ضرب بيده فلقم لقمة، ثم ثَنّى
بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم لحم، فقال عبد الله: يا أمير
المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليا، فاشتريت بدرهم من
المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنا، وأردت أن يزاد عيالى عظمًا عظمًا، فقال عمر: ما
اجتمعا عند رسول الله r إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر، فقال عبد الله: عد يا أمير
المؤمنين، فلن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك، قال: ما كنت لأفعل.
جرى ذكر اللباس على بالي، فقال الصبي: لقد حدث
أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: لقد رأيت بين كتفي عمر بن الخطاب أربع رقاع
مُلبدة بعضها على بعض في قميص له، وهو يومئذ أمير المؤمنين.
وحدث أبو عثمان النهدي قال: رأيت عمر بن
الخطاب، يرمي الجمرة وعليه إزار مرقوع.
وحدث عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع
عمر بن الخطاب حاجًّا من المدينة إلى مكة إلى أن رجعنا، فما ضرب فسطاط ولا خباء
حتى رجع، وكان إذا نزل يُلقى له كساء، أو نطع على الشجرة، ويستظل تحته، فوطاؤه إذا
ركب، هو فراشه إذا نزل.
خطر على بالي تلك المراكب الفارهة التي يتباهى
بها المترفون، فقال الصبي: حدث أسلم مولى عمر قال: لما قدمنا على الشام أناخ بعيره
وذهب لحاجته، فألقيت فروتى بين شعبتى الرحل، فلما جاء ركب على الفرو، فلقينا أهل
الشام يتلقون عمر فجعلوا ينظرون، فجعلت أشير لهم إليه.. قال عمر: تطمح أعينهم إلى
مراكب من لا خلاق له، يريد مراكب العجم.
وحدث قيس بن أبى حازم قال: لما قدم عمر الشام
استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونًا يلقاك
عظماء الناس ووجوههم، فقال عمر: ألا أراكم ههنا، إنما الأمر من ههنا ـ وأشار بيده
إلى السماء ـ خلوا سبيل جملى.
وحدث طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام أتته
الجنود، وعليها إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس بعيره يخوض الماء، فقالوا له: يا
أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذا الحال؟.. فقال عمر: إنا
قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره.
بقينا كذلك مدة لا يخطر
على بالي شيء إلا حدثني الصبي به حديثا أو أحاديث عن زهد عمر وتأثير زهده في القيم
العظيمة التي كان يحملها، والتي أشاعها في المسلمين.
لست أدري كيف قلت من غير
أن أشعر: أرانا انشغلنا بالحديث عن زهد الورثة عن زهد محمد.
قال داود: في بداية
إرادتي.. عندما توجهت همتي للبحث عن الإنسان الكامل.. لقيت رجلا حكيما ممتلئا
بالأنوار.. قال لي كلمة لا أزال أذكرها.. لعلها خير جواب عما ذكرت.
قلت: ما قال؟
قال داود: لقد قال لي:(كل
شمس لا تطيق الوصول إليها يمكنك أن تعبر إليها من خلال من يدل عليها)[35]
قلت: لقد سمعت مثل هذا
كثيرا.. بل إنهم كلهم يقول هذا.
قال: من ذلك الوقت علمت
أن حياة محمد r القصيرة لا تستطيع أن تعبر عنه كل
التعبير.. لذلك، فإن كل الورثة هم في الحقيقة امتداد لحياة محمد r.. لأنهم لا يستلهمون سلوكهم إلا منه[36].
قلت: فهل كان في سلوك
محمد r ما كان مدرسة تعلم منها عمر ـ رضي
الله عنه ـ ذلك الزهد؟
قال: لقد كان سلوك رسول
الله r مدرسة تعلمت منها كل الأجيال، لا عمر
وحده.. فعمر مجرد تلميذ من تلاميذ محمد r.. وتلاميذ رسول الله r لا يخلو منهم زمان من الأزمان.
لقد حدثك عمر عن عمر..
ولم يكن عمر فريدا في ذلك..
فهذا أبو بكر ـ رضي الله
عنه ـ يحدث عنه زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ بمثل ما تحدث الرواة عن عمر، قال:
كنا مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إذ استسقى، فأتي بماء وعسل، فلما وضعه على يديه
بكى وانتحب، حتى ظننا أن به شيئا، ولا نسأله عن شئ، فلما فرغ قلنا: يا خليفة رسول
الله r، ما حملك على هذا البكاء؟ قال: بينما
أنا مع رسول الله r رأيته يدفع عن نفسه شيئا ولا أرى
شيئا، فقلت: يا رسول الله ما الذي أراك تدفع عن نفسك، ولا أرى شيئا؟ قال: (الدنيا
تطلعت لي) فقلت: إليك عني، فقال لي:(أما إنك لست بمدركي) قال أبو بكر: فشق علي،
وخشيت أن أكون قد خالفت أمر رسول الله r، ولحقتني الدنيا[37].
وهذا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ رمز
العدالة والأمانة الأكبر يردد نفس ما ردد صاحباه من قبله.. عن أبي صالح قال: قال
معاوية لضرار ابن ضمرة: صف لي عليّاً. فقال: أو تعفني؟ قال: بل تصفه لي قال: أو
تعفني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى،
يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش
من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة،
يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب[38].. كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه،
ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا
نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين،
لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض
مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على
لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا
دنيا أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ، هيهات هيات، غُرِّي غيري؛ قد بتتك ثلاثًا،
لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد
السفر، ووحشة الطريق.
قال داود ذلك بتأثر شديد،
أجهش بعده بالبكاء..
بعد فترة من الصمت، قال
الصبي: إن شئت حدثتك بما ذكر الرواة من زهد رسول الله r ما يبين لك أن عمر وغير عمر لم يسلكوا ذلك السلوك
الرفيع لمجرد تعاليم تعلموها، أو دروس حضروها، وإنما لأنهم رأوا بعيونهم أنوار
القيم تتجلى أمامهم في أرفع صورها.
قلت: يسرني ذلك.. فيعلم الله أنه لا هدف لي في
الحياة إلا البحث عن الإنسان الكامل.
قال الصبي: سأبدأ لك بحادثتين وقعا لعمر ـ رضي
الله عنه ـ ربما كانتا الدرس الذي جعل حياة عمر تتوجه ذلك التوجه الذي رأيته، بل
رأته البشرية جميعا.
أما الحادثة الأولى، فهي ما حدث به أبو هريرة ـ
رضي الله عنه ـ قال: خرج رسول الله r ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال:( ما أخرجكما من
بيوتكما هذه الساعة؟ ) قالا: الجوع يا رسول الله، قال: (وأنا، والذي نفسي بيده،
لأخرجني الذي أخرجكما، قوما) فقاما معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في
بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله r:( أين فلان؟ ) قالت: ذهب يستعذب[39] لنا الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله r وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني،
فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية، فقال له رسول
الله r: ( إياك والحلوب ) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق
وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله r لأبي بكر وعمر: ( والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم
القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم)[40]
وأما الحادثة الثانية، فهي ما حدث به عمر نفسه
عندما قال: دخلت على رسول الله r فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه،
فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة،
وصبرة من شعير، فهملت عيناي، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من
خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا وجهه، فقال: (أفي شك أنت يا ابن
الخطاب؟) ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون
لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟) قلت: بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل)، ثم قال:(
يا عمر لو شاء أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت)[41]
التفت الصبي إلى، وقال: لقد كان هذا درسا من
الدروس التي قدمها رسول الله r لأصحابه.. وعلى أساسها ساروا لا تغرهم دنيا، ولا يثنيهم عن القيم
التي خرجوا من أجل نشرها أي إغراء[42].
لقد حدث بعض الصحابة.. والذي صار بعد ذلك
أميرا.. عن تلك التوجيهات العملية التي كانوا يتلقونها على يدي رسول الله r، فقال يخاطب رعيته[43] بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم[44]، وولت حذاء[45]، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها[46] صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير
ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما،
لا يدرك لها قعرا، والله لتملأن أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من
مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد
رأيتني سابع سبعة مع رسول الله r، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت[47] أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت
بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من
الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا )[48]
قلت: سمعت بعضهم يتحدث عن الزهد الاضطراري..
أليس زهد محمد من هذا النوع؟
انتفض الصبي، وقال: كيف يقال هذا في رسول
الله.. لقد كان لرسول الله r من المكانة عند الله والمنزلة ما لا يدعه في ضرورة أبدا..
لقد حدث أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أمشي
مع النبي r في حرة بالمدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: ( يا أبا ذر ) قلت: لبيك
يا رسول الله، فقال: ( ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام
وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا
وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار، فقال:( إن الأكثرين هم الأقلون يوم
القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه (وقليل
ماهم)[49]
وفي حديث آخر قال رسول الله r، قال: ( لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال
وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) [50]
وفي حديث آخر قال رسول الله r: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما،
وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) [51]
وفي حديث آخر عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة
قال: قيل يا رسول الله r إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا
نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)،
فأنزل الله:﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ
ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)
(الفرقان:10)
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: نام
رسول الله r على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم
سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه
الجبال لسارت)[52]
وروي
أن جبريل u جلس إلى رسول الله r، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل
منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا
عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله r إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله r أن تواضع لربك، فقال رسول الله r: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن عباس: فما أكل بعد تلك طعاما متكئا
حتى لقي ربه)[53]
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول
الله r يقول: (لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط
على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا
عبدا وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فلو أني قلت: نبيا
ملكا لسارت الجبال معي ذهبا)[54]
وعن خيثمة قال: قيل للنبي r:( إن شئت أعطيناك خزائن الأرض، ومفاتيحها، ما لم يعط شئ قبلك، ولا
نعطيها أحدا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في
الآخرة)، فقال r: (اجمعوها لي في الآخرة)[55]
وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول
الله r: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع
يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت
حمدتك، وشكرتك)[56]
وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمام رسول الله r طول حياته، فقد حدث أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ عن الأيام الأخيرة
لرسول الله r، فذكر أنه r جلس على المنبر فقال: (إن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة
الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده)، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا،
قال: فعجبنا له فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله r عن عبد خير، وكأن رسول الله r هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به[57].
بل إن النبي r كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي
تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول:( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)[58]
قلت: لقد سمعت بعض الخطباء يذكر أن محمدا كان
يحب أصنافا من الطعام، وأصنافا من اللباس، وأنه لو كان في وقتنا لاتخذ سيارة
فارهة، وسكن قصرا شامخا.
قال الصبي: دعهم يملوا على نبيهم ما شاءت لهم
أهواؤهم أن تملي.. ولنذهب إلى الأسانيد الصحيحة التي أخبرت عن الحال التي كان
يعيشها رسول الله r، فخير من حكم على حياة الإنسان الأخبار التي تروى عنه.
قلت: فحدثنا عما ذكرته الأخبار من هذا.
قال: عن أي شيء تريد أن أخبرك؟
قلت: أخبرني عن فراشه، فعهدي بالمترفين يجلسون
على الفرش الوثيرة.
قال: لقد حدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله r عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله
r فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية
دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده،
وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو
شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة)[59]
وعن إسماعيل بن أمية قال: صنعت عائشة لرسول
الله r فراشين، فأبى أن يضطجع على واحد[60].
وعن عائشة ـ رضي الله عنه ـ قالت: اتخذت لرسول
الله r فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما
أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع
إليها أبدا)[61]
قلت: فحدثني عن طعامه، فعهدي بالمترفين يتفنون
في أصناف المطاعم والمشارب.
قال: لقد ذكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ حياتها
مع النبي r، فقالت: كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر
والماء، إلا أن نؤتى باللحم) [62]
وقالت:( ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام
متتابعات، حتى قبض r)
وقالت:( ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا
إحداهما تمر)
وقالت: توفي رسول الله r حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.
وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.
وقالت: والله لقد مات رسول الله r وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.
وقالت: ما رفع رسول الله r غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين،
ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا
لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة[63].
وقالت:( والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى
منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟
قالت: كنا نقول أف أف [64].
وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله r من خبز الشعير قليل ولا كثير [65].
وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله r من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط [66].
وقالت: ما شبع رسول الله r ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله [67].
وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى
الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله r نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء،
إلا أنه قد كان لرسول الله r جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله r من ألبانها، فيسقيناه.
وكانت تقول له:( وايم الله، يا ابن أختي إن كان
يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله r نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار - جزاهم الله
خيرا في الحديث والقديم - فكل يوم يبعثون إلى رسول الله r بغزيرة شياههم، فينال رسول الله r من ذلك، ولقد توفي رسول الله r وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت
منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من
أدم حشوه ليف)
وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول
الله r حتى مات، لفعلت[68].
وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة من بيت أبي
بكر ـ رضي الله عنه ـ فوالله إني لأمسكها على رسول الله r ويحزها، أو يمسكها علي رسول الله r وأحزها، قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح
لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة [69].
وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر
حتى ذاق رسول الله r الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله r، فلما مات أنصبت علينا صبا[70].
وقالت: ربما قال النبي r: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين) [71]
وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله r طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه،
وإن أكل خبزا لم يزد عليه [72].
وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت
بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا
أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله r، ما شبع رسول الله r في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله [73].
وقال: دخلت على عائشة، وهي تبكي، فقلت: يا أم
المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت، أذكر رسول
الله r وما كان فيه من الجهد [74].
وقال: دخلت على عائشة وهي تبكي، فقلت: يا أم
المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكي إلا بكيت، وذلك لأن رسول الله r كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز بر[75].
وعلى ما شهدت به عائشة ـ رضي الله عنها ـ
تواترت الشهادات الكثيرة من المقربين لرسول الله r.. ذكر أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ
جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله r فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن
آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) [76]
وقال: مشيت إلى رسول الله r بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى
في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) [77]
وقال: إن النبي r لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف [78].
وقال: شهدت وليمة للنبي r ما فيها خبز ولا لحم [79].
وقال: أكل رسول الله r بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما
كان يسفه إلا بجرعة من ماء[80].
وقال: ما أعلم أن رسول الله r رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط [81].
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: لقد
رأيت رسول الله r يلتوي يومه من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء به بطنه [82].
وعن يزيد الرقاشي قال: قدم على عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه وفد من قبل البصرة فيهم الأحنف بن قيس، فرأوا طعاما خشنا
وثوبين خلقين، فكلموا حفصة أن تكلمه في ذلك، فكلمته، فجعل عمر ـ رضي الله عنه ـ
يناشدها الله، هل تعلمين أن رسول الله مكث عشرين سنة لم يشبع من خبز الشعير؟ لم
يشبع ثلاثين يوما تباعا [83].
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: والذي
نفسي بيده، ما شبع رسول الله r وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا[84].
وقال:( ما كان يفضل عند أهل بيت رسول الله r خبز الشعير) [85]
وقال: مات رسول الله r لى ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير [86].
وقال: ما شبع رسول الله r من الكسر اليابسة، حتى فارق الدنيا، وأصبحتم تهذرون الدنيا [87].
وقال: دخلت على رسول الله r وهو يصلي جالسا، قلت: يا رسول الله ما أصابك؟ قال: (الجوع)، فبكيت
قال: (لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الجوع لا تصيب الجائع - يعني يوم القيامة -
إذا احتسب في دار الدنيا)[88]
وقال: أتى رسول الله r يوما بطعام سخين، فأكل، فلما فرغ قال: (الحمد لله ما دخل بطني
طعام سخين منذ كذا وكذا) [89]
وقال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما
عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول
الله r: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار
فقال: أنا يا رسول الله r، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أعندك شئ؟ فقالت: لا، إلا قوت
صبياني [90].
وروي أنه مر بالمغيرة بن شعبة وهو يطعم الطعام،
فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النقي واللحم للمسلمين قال: وما النقي؟ قال:
الدقيق، فعجب أبو هريرة، ثم قال: عجبا لك يا مغيرة، رسول الله r قبضه الله تعالى، وما شبع من الخبز والزيت مرتين في يوم، وأنت
وأصحابك تهذرون ههنا الدنيا بينكم ونقد باصبعه، يقول كأنكم صبيان [91].
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان
عامة خبزهم خبز الشعير [92].
وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: لم يكن
ينخل لرسول الله r دقيق قط[93].
وعن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال:
خرج رسول الله r من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير [94].
وعنه قال: مات رسول الله r ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرنا أخرنا لما هو خير لنا [95].
وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: أتينا في بيت عبد
الرحمن بن عوف بصحيفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، قلت: ما يبكيك؟
فقال: مات رسول الله r ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير
لنا [96].
وعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: ما شبع
رسول الله r في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا [97].
وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: ما كان
يفضل من أهل بيت رسول الله r [98].
وعن النعمان بن بشير قال: ألستم في طعام وشراب
ما شئتم، لقد سمعت ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: لقد رأيت نبيكم r يلتوي من الجوع، وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه [99].
وعنه قال: احمدوا الله عز وجل فربما أتى على
رسول الله r اليوم يظل يلتوي ما يشبع من الدقل [100].
وعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: ما
شبع آل محمد r من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله [101].
وقال: ما شبع رسول الله r من غداء وعشاء حتى لقي ربه [102].
وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت
المناخل على عهد رسول الله r؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي r الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا
نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) [103]
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: دخلت مع
رسول الله r حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بشرا أخضر، فقال: (كل يا ابن
عمر)، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: (ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام أكله رسول الله
r منذ أربعة أيام) [104]
وعن عتبة بن غزوان ـ رضي الله عنه ـ قال: لقد
رأيتني سابع سبعة مع رسول الله r ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا [105].
قلت: فحدثني لباسه.
قال: لقد حدث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال:
كنا جلوسا مع رسول الله r، إذ جاء رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول
الله r: ( يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟ ) فقال: صالح، فقال
رسول الله r: ( من يعوده منكم؟ ) فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا
نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئناه، فاستأخر قومه
من حوله حتى دنا رسول الله r وأصحابه الذين معه[106].
وعن أسماء بنت يزيد ـ رضي الله عنها ـ قالت:
كان كم قميص رسول الله r إلى الرصغ[107])[108]
قلت: فحدثني عما ترك من الإرث.. فأنا أعلم أن
بعض الناس يضيق على نفسه ليترك ماله تركة لمن بعده.
قال: لقد حدث عمرو بن الحارث أخو جويرية بنت
الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنها، قال: ما ترك رسول الله r عند موته دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا إلا
بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال:
أخرجت لنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ كساء وإزارا غليظا، قالت: قبض رسول الله r في هذين[109].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: توفي رسول الله
r ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير[110].
***
بقيت مع داود الطائي مدة أنهل من علمه وزهده..
وقد كان يأتيه الكبار والصغار والعامة والوجهاء.. فلا يختلف سلوكهم معهم جميعا..
وكأنهم بالنسبة إليه شخص واحد يتعامل معه باعتبار إنسانيته لا باعتبار رتبته
وطبقته.
وكان الجميع ـ على حسب ما رأيت ـ لا يخرج من
عنده إلا بعزيمة صادقة، وهمة عالية، وكأنه سقاهم الترياق الذي يسيرون به في حياتهم
وفق ما تقتضيه الهمم العالية، لا وفق ما تتطلبه الحظوظ الدنية.
لقد تعلمت من صحبته قيمة الزهد وأثره العظيم في
الإصلاح بكل جوانبه.. الإصلاح النفسي.. والإصلاح الاجتماعي.. بل والإصلاح
السياسي..
وعنده تعلمت أن الزهد ـ الذي كنت أحتقره ـ قيمة
من القيم الرفيعة، وخلق من الأخلاق العالية.. وأن معانيه لو انتشرت بين العامة
والخاصة لجردت الحياة من أشواك الصراع التي ينبتها الحرص والرغبة والطمع والتثاقل
إلى الأرض.
بقيت مع داود إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لقي
فيه ربه.. وقد بكيت فيه كما لم أبك على أقرب أقاربي..
التفت الوارث إلينا، وقال: إن شئتم حدثتكم عن
حفل التأبين الذي أقيم له.. والذي حضره كل من تتلمذوا على يديه من الكبار
والصغار.. بل إني لم أر في حياتي ازدحاما على جنازة أحد كما رأيت الازدحام على
جنازته.
أشرنا إليه بالإيجاب، فقال: في ذلك اليوم قام
خطيب من الخطباء تخنقه دموعه، عرفت بعد ذلك أن اسمه (ابن السماك)[111]، وقال: يا
أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة
الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا
والآخرة، وإن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون،
فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر، فإنكم منه تعجبون
وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت
من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان
حيا وسط موتى)
قال ذلك، ثم توجه إلى نعش داود مخاطبا له،
وكأنه حي أمامه: يا داود.. ما أعجب شأنك.. ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل،
أهنتها وإنما تريد كرامتها، وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد
تشريفها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما
تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه، وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت
نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي
لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت.. كأن
سيماك في عملك وسرك، ولم يكن سيماك في وجهك، فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت
الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا
تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الأخوان هدية،
آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس
جالسا، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت
حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون
من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي
بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء
ما يكفيك، ثم اصطنعت به ملحا فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك،
وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد
أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوسا فيأنس بهم وأما أنت فسجنت
نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في
بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش
تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك? مطهرتك قلتك
وقصعتك تورك وكل أمرك يا داود عجب، أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام
طيبه ولا من اللباس لينه? بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما
أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل
وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي لا يدخلك عجبها ولا
يلحقك فتنتها فلما مت شهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك
عرفت أن ربك قد أكرمك)
فلما فرغ من خطبته قام آخر، عرفت فيما بعد أن
اسمه (محمد بن الحسين)[112] فقال: لما
علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم
يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله r زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً،
وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من
الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها
باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا
إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما
علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق
مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم)
ثم قام خطباء آخرون رددوا فضائل داود.. ورددوا
معها فضائل القيم التي كان يحملها ويدعو إليها.. وقد كان لتلك الخطب تأثير كبير في
المستمعين..
لقد أحسست حينها أن موت داود كحياته.. كلاهما
كان بركة على من لقيه وتتلمذ على يديه أو على أخباره.
في ذلك اليوم.. وبعد انصراف الناس، رأيت
حضرموت، وكأنها قد أظلمت علي، فلم أملك إلا أن أخرج منها، وقد تركت فيها قطعة من
قلبي لا تزال عالقة في ثراها.
([1]) هي من البلاد التي تشرفت بتسمية رسول الله r لها في قوله:( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء
إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
([2]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى:( أتاكم أهل اليمن هم أضعف
قلوبا وأرق أفئدة، والفقه يمان والحكمة يمانية)
([6]) هذه الوصية مروية عن داود الطائي رواها محمد بن أشكاب قال: حدثني
رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوما: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا
فأوصني، قال:.. ثم ذكر الوصية. (صفة الصفوة)
([7]) حدث أبو محمد العابد قال: دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له:
ما رأيت أحدا رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها
عوضا عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.
وقال
حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على
من رضي بأقل من ذلك? من رضي بالدنيا كلها عوضا عن الآخرة.
([8]) الحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال: حبط
الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا إذا أصابه ذلك.
([10]) الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس
من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم
غيره.
([29]) التجفافُ: َهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُهُ الفَرَسُ، لِيُتَّقَى
بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإنْسَانُ.
([36]) وفي هذا المعنى ما يذكره العلماء من أن كل كرامة لولي هي في
الحقيقة امتداد لمعجزات الرسول r لأنه لولا المتابعة الصادقة لرسول الله r ما حصلت له تلك الكرامة، فلذلك نقول هنا:(لولا المتابعة التامة
لرسول الله r ما حصل للورثة ذلك السلوك الرفيع الذي تميزوا به)
([41]) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي،
والترمذي، وصححه.. والجملة الأخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.
([42]) ذكرنا في مناسبات كثيرة أن مفهوم الصحبة لرسول الله r لا ينطبق بحقيقته إلا على من تربوا على يدي رسول الله r، ومثلوا الدين أحسن تمثيل.. أما من اكتفى من رسول الله r بالرؤية وغيرها من غير أن يتمثل الدين فيه تمثيلا صحيحا، فإن من
أعظم الإساءة لرسول الله r أن نعتبره صاحبا له.. ثم ننشر بعد ذلك الحكمة التي تقول:(قل لي من
تصاحب أقول لك من أنت)
وهؤلاء
الذين يدافعون عن هذا النوع من الصحبة يستاءون أن ينسب إلى صحبتهم تلاميذ تعلموا
على أيديهم ـ إن خالفوهم في التوجهات التي اختاروها لأنفسهم ـ فكيف يرضون لرسول
الله r ما لا يرضون لأنفسهم؟
([62]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا
روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.