الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي الإنسان

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

سابعا ـ القائد

1 ـ السياسة

الدستور:

الشورى:

2 ـ الإدارة

الكفاءة:

التحفيز:

النظام:

3 ـ القضاء

التثبت:

الحكم:

4 ـ الأمن

القوة:

الأخلاق:

التخطيط:

 

 

سابعا ـ القائد

بعد أن خرجت من (بارلا) وجبالها الشامخة قصدت أسطمبول.. تلك البلدة العريقة من بلاد الترك.. والتي استعصت على كل الفاتحين إلا على ذلك الفاتح الشاب الذي استطاع أن يقهر عتوها، ويحولها بلدة تفوح بالطهر والسماحة والإيمان.

وأنا أتجول في شوارعها تذكرت محمدا الفاتح.. وراح خيالي يبحث عن صورة له.. وراحت خواطري تبحث في منهجه القيادي الذي أتاح له أن يفتح الأبواب التي استعصت على غيره.

وأنا في شرودي ذلك لقيت رجلا شابا ممتلئا قوة وشبابا يحييني بأدب، ويقول: أرى أنك غريب بهذه البلاد.. فإن احتجت إلى شيء، فاطلبني، فكل الناس يعرفونني في هذه البلدة..

قل لهم:( أوصلوني إلى محمد الفاتح).. قل هذه الكلمة فقط، لتجد نفسك أمامي، وتجد كل مطالبك محققة.

تعجبت من هذا الموقف الشهم، وقلت من غير أن أشعر: لا شك أن هذا هو نفس سلوك محمد الفاتح الذي استطاع أن يفتح هذه البلاد.

نظر إلي بابتسامة وقال: أنا من أحفاد ذلك الرجل.. ولكني لم أرث هذا السلوك إلا من الرجل الذي ورث منه جدي محمد الفاتح.

قلت: فممن ورث جدك سلوكه هذا؟

قال: من الإنسان الكامل.

قلت متعجبا: الإنسان الكامل!؟

قال: أجل.. ألست تبحث عنه؟

قلت: بلى.. لقد قطعت في سبيل البحث عنه الفيافي والقفار..

قال: فهل وجدته؟

قلت: وجدت بعض ورثة محمد.. وكلهم يخبر أن محمدا هو الإنسان الكامل.

قال: صدقوك فيما أخبروك.. فما عرفت منهم؟

قلت: لقد عرفت محمدا العارف، ومحمدا العابد، ومحمدا الزاهد، ومحمدا الورع، ومحمدا الإمام.

قال: فاصحبني لتعرف محمدا القائد.

قلت: وهل كان محمد قائدا؟

قال: لن يكتمل الإنسان الكامل حتى يكون له حظ من القيادة.. وحظ من النجاح فيها.

قلت: فمن أين تعلمت علوم القيادة حتى تعرفني بمحمد القائد؟

قال: من محمد r.. فهو الإنسان الذي استطعت من خلال التعلم من مدرسته أن أحول هذه المدينة إلى أسعد مدن الأرض، وأكثرها استقرارا.

قلت: ألك سلطة في هذه المدينة خولت لك ذلك؟

قال: أنا أمير هذه المدينة.. وقد انتخبني أهلها صغارهم وكبارهم من غير أن أطلب منهم ذلك.

قلت: فما الذي رغبهم فيك؟

قال: تلك قصة طويلة.. ولها علاقة بمحمد r.. ولا يليق أن أحدثك عنها هنا.. تعال معي إلى البيت، وسأحدثك منها ما تقر به عينك، وتعلم أن محمدا r هو القائد الوحيد الذي اكتمل له من فن القيادة ما لم يكتمل لغيره.

***

التفت الوارث إلينا، وقال: لقد كان (محمد الفاتح) هو الوارث السابع الذي تعلمت منه علم اليقين بأن محمدا r هو الرجل القائد الذي استطاع أن يؤسس دولة الأجساد، كما كان الإمام الذي استطاع أن يؤسس دول الأرواح.

سرت مع محمد الفاتح إلى بيته.. وقد استغربت عندما أدخلني بيتا متواضعا بسيطا، فقلت: أهذا بيتك!؟.. لقد ذكرت لي أنك أمير هذه البلدة.

قال: أجل.. وما علاقة ذلك ببيتي؟

قلت: عهدي ببيوت القادة والساسة من أكثر البيوت رفاهية.. فالقائد لا يمكن أن يفكر إلا في بيت مكيف مملوء بالزينة والزخارف.

قال: ألم أقل لك بأن مصدر قيادتي وراثة من محمد r؟.. فهل كان لمحمد r من البيوت ما ذكرت؟

قلت: الوضع مختلف تماما.. نحن الآن في عصر آخر.

قال: إن ما تقوله هو الحجاب الأعظم الذي زور وراثة رسول الله r.. نعم الزمن زمن آخر.. ولكن البشر هم عين البشر.

في عهد رسول الله r كان القياصرة والأكاسرة، وكان لهم من النعيم ما لم يكن لملوك هذا الزمان ورؤسائه.. فهل ترى محمدا r تأسى بهم، أم تأسى بالحقيقة التي طلب منه أن يكون عليها.

قلت: لقد رضي محمد لنفسه هذه الحياة.. وهو لم يوجبها على غيره.

قال: من أراد أن يرث محمدا في قيادته، فعليه أن يحيا حياته.

قلت: إنك تكلف القادة عنتا.

قال: أصدقك القول.. أنا لم أصل إلى القيادة إلا من هذا الطريق..

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد رأيت قومي يتصارعون في انتخابات تملأ أجواءهم بالبغضاء والحقد والقطيعة.. فنأيت عن كل ذلك.. واخترت أن أصل إلى الناس بالأسلوب الذي وصل به محمد r..

وقد استطعت أن أصل من خلاله إلى القيادة التي حلمت بها أحزاب ضخمة.. وشركات كبرى.. وعصبيات عريقة.

قلت: فكيف وصلت إلى ذلك؟

قال: لقد رحت أبحث في تاريخ البشرية عن أمهر قائد استطاع أن ينجح في أقل مدة في تحقيق ما عجز غيره عن تحقيقه.

قلت: لم؟

قال: لأسلك سلوكه.. وأتحقق بالقيادة الناجحة التي طالما حلمت بها.

قلت: فما وجدت؟

قال: لقد وجدت القيادة بكمالها وجمالها وترفعها تأبى إلا أن تكتمل في محمد r..

قلت: فقد استغللت تعرفك عليه في الوصول إلى ما هفت إليه نفسك.

قال: عندما عرفته زهدت في القيادة.. لكنها جرت خلفي.. وأبت إلا أن أكون قائدا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لا تستعجل.. فما تعلم من استعجل.. هيا معي إلى البيت لترتاح.. وفي الغد إن شاء الله سنزور المدينة.. وسأخبرك عن كيفية استثماري لقيادة النبي r واستنانني بها.. ولتعلم مدى النجاح الذي يحققه من أحيا هذه السنة.

1 ـ السياسة

بت تلك الليلة في بيت محمد الفاتح.. في الجناح الذي خصصه للضيوف.. ولم أكن الوحيد فيه، بل كان معي ناس من مختلف الأوطان والمشارب والمذاهب.. وكان محمد الفاتح يقدم لهم من الخدمات ما يملأ قلوبهم محبة له وإعجابا به.

سألته عن سر تصرفه هذا، فقال: هذه سنة من سنن رسول الله r في الحياة، وفي القيادة.. فالقائد هو الذي يخالط الناس ويعرف حاجاتهم ويخدمهم، لتكون طاعتهم له طاعة متولدة عن محبة، لا عن خوف ورهبة.

لقد كان r يعتبر الاحتجاب عن الرعية نوعا من الاستبداد، وكان يقول في ذلك:( من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)[1] 

ولهذا كان من السهل على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله r والجلوس معه.. لقد قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ يصف رسول الله r:( والله ما كان رسول الله r تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله r لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)[2]

ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله r خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ)[3]

وقد أشفق الصحابة على رسول الله r مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى.. قال العباس ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله r:( لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)[4] 

سرت مع محمد الفاتح إلى مقر حكمه على سيارته الخاصة.. والتي لم يكن لها من الشارة ما كان لسيارات القادة والزعماء.. بل كانت بسيطة، وكان يقودها بنفسه.

كان لمقر الحكم جناحان، كتب على أحدهما (الهيئة الدستورية)، وكتب على الثاني (مجلس الشورى)، سألت محمدا الفاتح عنهما، فقال: لقد استننت بسنة رسول الله r في إقامة الحكم على هاتين الدعامتين الكبيرتين: دعامة الدستور، ودعامة الشورى، فلا يمكن للعدالة أن تقوم من دونهما.

قلت: للعدالة هيئات كثيرة.. فكيف اختصرتها في هاتين؟

قال: للعدالة قوانين نظرية تنطلق منها، وهي التي يتشكل منها الدستور، ولها تطبيقات عملية، وهي التي تستدعي استشارة أهل الاختصاص.

لقد أشار رسول الله r إلى كلتا الدعامتين، فقال:( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدى، فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنه الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)[5]، ففي هذا الحديث ذكر رسول الله r سنته باعتبارها المرجع الأعلى، والذي يمثل الدستور، وذكر سنن الخلفاء الراشدين وهي تمثل الآراء البشرية السديدة التي تخدم الدستور، وتوفر المناخ الصالح لتطبيقه.

الدستور:

دخلت مع محمد الفاتح إلى ما يسمى بـ (الهيئة الدستورية)، فرأيت نفرا من الناس كل منهم يحمل ملفا، وبيده قلم أحمر، وكأنه أستاذ يصحح أوراق الإمتحان، سألت محمدا عن هؤلاء، فقال: هذه هي الهيئة الدستورية.. ونحن نعرض عليها كل ما نريد تنفيذه في هذه البلدة، وهي تقوم بمراجعته لترى مدى مناسبته مع العقد الذي تعاقدنا على تنفيذه مع هذا المجتمع.. فإن رأت انسجامه معه وافقت عليه، وإن رأت مخالفته شطبت عليه، ومنعتنا من تنفيذه.

قلت: تمنعك، وأنت الحاكم العام من تنفيذه!؟

قال: أجل.. إن هذه الهيئة هي أعلى هيئة في البلد، ولا يمكن لأحد أن يخالفها إلا إذا أخطأت في فهمها للدستور، فيصحح لها فهمها، أو يناقشها فيما فهمته.

رفعت رأسي إلى أعلى القاعة، فرأيت لافتة كتب عليها (القانون فوق الجميع)، فقلت له: لقد كنت تزعم أنك لم تستمد قيادتك إلا من محمد.. وها أنت ذا تضع هذا الشعار.. وهو شعار أنتجته هذه الحضارة.. ولم تعرفه حضارة محمد.

قال: لا.. أنت تخطئ في ذلك خطأ جما.. لقد كان محمد r هو صاحب القوانين والدساتير العادلة.. ولم يحكم فيما أتيح له أن يحكم فيه إلا بتلك القوانين.. ولم يسن لأمته أن تحكم إلا بما شرع لها من قوانين.

سأذكر لك بعض الشواهد التي تبين لك أن محمدا r لم يكن يرجع في حياته القيادية إلا لما تمليه القوانين العادلة[6]..

سأبدأ لك من الأول، لتعرف أن محمدا r لم يبدأ حياته القيادية إلا وفق ما تمليه القوانين العدالة.

أنت تعلم أن المدينة التي بدأ فيها رسول الله r بممارسة مهامه كأول حاكم مسلم هي المدينة المنورة.

وبما أن القوانين العدالة تقتضي الاتفاق بين الرعية وراعيها على المبادئ التي يتم على أساسها الحكم، والحاكم العادل لا يرضى أن يحكم إلا على أساس ذلك الاتفاق، فقد سن رسول الله r في هذه الناحية هذا النوع من القوانين أو العقود.

ولعل أدل دليل على ذلك ما حصل في بيعة العقبة الأولى.. لقد كانت تلك البيعة هي النواة التي حددت قواعد الأخلاق الاجتماعية العامة التي تعتبر الأساس لمجتمع فاضل.

وكانت بيعة العقبة الثانية بداية الاضطلاع بمسئوليات الحكم الفعلية بالنسبة للرسول r بما تضمنته من شروط تتعلق بالنصرة والحرب، وما تم بعدها من تعيين النقباء الاثني عشر.

ولهذا، فإن اضطلاع الرسول r بمهامه بوصفه رئيسا للدولة يعتبر واقعة تعني الالتزام بشروط الدولة من قبل الأنصار.

وكذلك فإن البيعتين تعتبران واقعتين دستوريتين في العهد النبوي، بل من أهم الوقائع الدستورية في هذا العهد، لأنهما نقطة الانطلاق في إنشاء الدولة الإسلامية.

قلت: إن الدستور لا يمكن إطلاقه إلا على قوانين ذات طابع خاص، ولم يتعرف على هذا إلا بعد قرون كثيرة.. فكيف تزعم أن ذلك حصل في تينك البيعتين؟

قال: أرى أنك مهتم بهذا الجانب.

قلت: أجل.. إن كل من يعنيه شأن العدالة يهتم بهذا الجانب.. فلا يمكن أن تقوم العدالة من غير قوانين تضبط المجتمع، وتضبط قادة المجتمع.

قال: فما الشروط التي ينبغي توفرها في الدستور ليصير دستورا؟

قلت: إن أي دستور ينبغي أن يبين: لمن الحكم؟.. وما حدود تصرفات الدولة؟.. وما الحدود التي تعمل سلطات الدولة في حيزها؟.. وما الغاية التي تقوم لأجلها الدولة؟.. وكيف تؤلف الحكومة لتسير نظام الدولة؟.. وما الصفات التي يتحلى بها القائمون بأمر الحكومة؟.. وماذا يكون في الدستور من أسس المواطنة؟.. وبأي طريق يصبح الفرد عضوا في كيان الدولة؟.. وما الحقوق الرئيسة لمواطني الدولة؟.. وما حقوق الدولة على المواطنين[7]؟

قال: لقد ذكرت لك أن تينك البيعتين كانتا الأساس الذي قامت عليه الدولة الإسلامية العادلة.. وقد تضمنت تلك البيعة بجملها القصيرة جميع ما تنتظمه الدساتير العادلة.

لقد تضمنت الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، وهو توحيد الله عز وجل بمفهومه الشامل.. وهذا الأساس هو أهم المسائل الدستورية للدولة الإسلامية.. وهو المنطلق الذي تنطلق منه جميع سلوكاتها.

لقد جاء ذلك في نص البيعة الأولى، عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال:( بايعنا رسول الله r ليلة العقبة الأولي على أن لا نشرك بالله شيئا.. )[8]

وتضمنت حقوق الدولة على المواطنين.. وذلك في قوله r في بيعة العقبة الثانية:( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني ـ إذا قدمت عليكم ـ مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)[9]

وتضمنت حقوق المواطنين على الدولة ممثلة في شخص رئيسها رسول الله r، وقد ورد ذلك في قول الرسول r:( بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)[10]

وتضمنت البيعة الثانية تعيين النقباء الاثني عشر عن طريق اختيار الأنصار لهم، وفي هذا تطبيق لمبدأ الشورى في اختيار الأشخاص، حيث ترك الرسول r ذلك للأنصار، ومبدأ الشورى من المبادئ الدستورية الرئيسة في النظام العادل.

وتضمنت البيعة الثانية تنظيم وتحديد أطراف المعاهدة التي على أساسها ستنشأ الدولة، فرسول الله r نائب عن قومه، والنقباء نائبون عن قومهم، قال رسول الله r للنقباء:( أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحوارين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل قومي)[11]

وقد نتج عن البيعتين إيجاد الجو والمكان الملائمين لنشر دين الله والدعوة إليه.. وهذان الأمران هما الغاية التي قامت لأجلهما الدولة الإسلامية، ومن المعروف أن تحديد الغاية التي تقوم لأجلها أي دولة من المسائل الدستورية الرئيسة.

قلت: فقد أسس محمد زعامته لأهل المدينة على بيعة منهم له، ورضى منهم به حاكما عليهم؟

قال: أجل.. فما كان للحاكم العادل أن يرضى بأن يستبد بالأمر من دون أهله.

قلت: ولكن الكثير يأتون بهذا الطريق.. يطلبهم الشعب، ويقبل أيديهم طمعا في أن يحكموه، فإذا حكموه ولوا ظهرهم له.

قال: أولئك أهل الاستبداد والجور.. أما محمد r، فكان أرفع من ذلك.. لقد كان أول ما بدأ به توليه لحكم المدينة التي سلمت نفسها له عن رغبة وطيبة نفس أن وضع الدستور العادل الذي يحكمها من خلاله.

قلت: وضع محمد دستورا لأهل المدينة!؟

قال: أجل.. لقد كتب محمد r عند دخوله المدينة وثيقة تنظم العلاقات بين سكان الدولة الجديدة، هي بلا شك وثيقة دستورية بالغة الأهمية، بما احتوته من تنظيمات عادة ما تكون الدولة الناشئة في حاجة لها، إضافة إلى تميزها بصياغة قانونية شاملة ودقيقة، لا مجال للاختلاف حول مفهومها وتطبيقها.

وهي تعد أهم واقعة دستورية في العهد النبوي[12].. 

قلت: لقد شوقتني إليها، فحدثني حديثها.

قال: لقد علقنا هذه الوثيقة في هذه القاعة، ونحن نستمد منها كل ما نحتاجه فيما يرتبط بالدستور.. تعال معي.

سرت معه، فأراني الوثيقة.. وراح يقرؤها علي بصوت ممتلئ بالخشوع، وكأنه صحابي من الصحابة عاش كتابتها، فهو يسترجع ذكريات ذلك..

( بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

2. إنهم أمة واحدة من دون الناس.

3. المهاجرون من قريش على ربعتهم[13]، يتعاقلون[14]بينهم وهم يفدون عانيهم[15] بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

4. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.

6. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.

7. وبنو جشم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

8. وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

9. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

10. وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

11. وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

12. وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا[16] بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

13. وإن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

14. وإن المؤمنين المتقين على من بغي منهم أو ابتغى دسيعة[17] ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.

15. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن.

16. وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض، دون الناس.

17. وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

18. وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.

19. وإن كل غازية غزت معنا، يعقب بعضها بعضا[18].

20. وإن المؤمنين يبيء[19] بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

21. وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه.

22. وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.

23. وإنه من اعتبط[20] مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

24. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا، أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف.

25. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد r.

26. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

27. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ[21]، إلا نفسه وأهل بيته.

28. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

29. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

30. وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

31. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

32. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

33. وإن ليهود بني ثغلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

34. وإن جفنة بطن من ثعلبه كأنفسهم.

35. وإن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف.

36. وإن البر دون الإثم.

37. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

38. وإن بطانة يهود كأنفسهم.

39. وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد r.

40. وإنه لا ينحجز على ثار جرح[22].

41. وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.

42. وإن الله على أبر هذا[23].

43. وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.

44. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

45. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

46. وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.

47. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

48. وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

49. وإنه لاتجار حزمة إلا بإذن أهلها[24].

50. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله r.

51. وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

52. وإنه لا تجار[25] قريش ولا من نصرها.

53. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.

54. وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين ـ إلا من حارب في الدين ـ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

55. وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

56. وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.

57. وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

58. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.

59. وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله r)[26]

بعد أن انتهى من قراءة الوثيقة بالهيئة التي وصفتها لكم بادرته قائلا: إن أكثر ما ورد في هذه الوثيقة مما يرتبط بذلك العصر، فكيف استفدتم منه؟

قال: إن هذا يستدعي أن تفقه أسرار الدستور وروحه.

قلت: فحدثني عن ذلك.

قال: لن يتحدث عن الدستور إلا أعضاء الهيئة الدستورية، ولذلك سأتركك لهم، ليشرحوا لك ما فهموه منها، وما يمكن أن نستوعبه في حياتنا منها ليكون حكمنا إرثا من إرث النبوة، وسنة من سننها.

تقدم بي محمد الفاتح إلى أعضاء الهيئة الدستورية، وقال: إن هذا الرجل يريد أن يعرف علاقة الدستور النبوي بالدستور الذي تسير عليه هذه البلدة، ويريد أن يرى مبلغ الإنسانية الذي تضمنه دستور النبوة.

قال رجل من الهيئة: نعم ما يطلبه هذا الرجل.. فليجلس.. وسنشرح له ما استفدناه من دستور النبوة.

 جلست، فقال الرجل: إن أول ما استفدناه من هذه الوثيقة المباركة ما ورد في مادتها الثانية من أن سكان المدينة (أمة واحدة من دون الناس).. وهي بذلك تشير إلى أن المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس.

وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول r قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فقد قالت الصحيفة عنهم أنهم (أمة واحدة)، وقد جاء به القرآن الكريم تأييد ذلك، قال تعالى:﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)

وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل المدينة، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار.

لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة، وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس (من دون الناس)

قلت: وعيت هذا، فما الذي أفادكم في دستور هذه البلدة؟

قال: لقد كانت هذه البلدة مشغولة بالصراع العرقي.. فكان لكل قبيلة أو طائفة من الناس من القوانين ما تستعلي به على غيرها.. وقد دعانا النظر في هذه الصحيفة إلى أن نخلص دستورنا من كل ما يمكن أن يؤدي إلى أي عنصرية بغيضة.. فلا يمكن أن تقوم العدالة على العنصرية.

قلت: فماذا فعلتم؟

قال: لقد استننا بسنة النبي r في هذا.. فرحنا نؤاخي القبائل بعضها ببعض، والأفراد بعضهم ببعض.. لقد كان أول ما فعله محمد r عند قدومه للمدينة المنورة هو مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين[27].

وقد ساهم ذلك النظام الذي أسسه رسول الله r في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول r هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم.. وهو إخاء تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.

وقد جعل الرسول r هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.

قلت: فهل استطعتم إحياء تلك القيم النبيلة التي سادت في المجتمع الذي أسسه محمد؟

قال: أجل.. إن محمدا r ترك لنا كل الوسائل التي يمكننا أن نستنبت بها من جديد تلك القيم النبيلة التي زرعها في حياته.

لقد رحنا نستعملها واحدا واحدا.. وننشر بين الرعية الوعي بقيمة الأخوة والاتحاد والتضامن.. وراح خطباؤنا يلهجون بمثل قوله تعالى:﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)، وقوله تعالى:﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63)، وقوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)

وبمثل قوله r:( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)[28].. وبمثل قوله r:( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه[29] ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)[30]

قلت: فما أثمرت الخطب.. عهدنا بها أنها لا تثمر إلا السراب!؟

قال: ذلك عندما تكون الخطب جوفاء.. وعندما ينأى الخطباء بأنفسهم عن المعاني التي يخاطبون الناس بها.. وعندما يكون الحكام في واد ورعيتهم في واد ثان.. عند كل ذلك تكون الخطب جوفاء..

أما نحن، فقد حولناها بفضل الله حية ممتلئة حياة.

قلت: كيف ذلك.. ما أصعب ذلك؟

قال: لقد استننا بسنة النبي r في ذلك، فراح الجهاز الحاكم بجميع أعضائه يعطي القدوة الصالحة للمجتمع في ذلك.. فراح المجتمع كله يسير سيرة حكامه.

قلت: فقد طبقت ما يقال من أن الناس على دين ملوكهم.

قال: بل طبقنا سنة نبينا r.. وقد صدقنا في تطبيقنا.. وربطنا الرعية بنيبنا قبل أن نربطهم بأشخاصنا، بل اعتبرنا أنفسنا نوابا للنبي r ووكلاء عنه.. فلذلك راحت الرعية تسلم لنا زمام الطاعة، ورحنا نسلم زمام الطاعة لنبينا.

تقدم رجل ثان، وقال للأول: حسبك ما ذكرت يا سعد.. دعني أحدثه عن بنود أخرى.. وما استفادته هذه المدينة منها.

قال ذلك، ثم اقترب مني، وقال: أنت تعلم أن هذه المدينة متعدد الأديان والمذاهب والطوائف؟

قلت: أعلم ذلك، فكيف عالجتم هذا التعدد؟

قال: بما عالج به r التعدد الذي كان موجودا في المدينة المنورة عندما قدم إليها.. لقد نصت مواد كثيرة من دستور النبي r على هذا.

أشار الرجل إلى بنود أخرى، وقال: هذه البنود تحل مشكلة التعدد الطائفي.. لقد اعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها.. انظر ما ورد في الصحيفة في (المادة 16): (وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم)، ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..)

إن هذه البنود جميعا تبين أن رسول الله r اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجاء الدولة الإسلامية مواطنين عاديين.

قلت: ولكنه ذكر أنهم طائفة قائمة بذاتها.

قال: هذا علاج آخر للتعدد.. فالإسلام يترك الحرية الدينية وما يرتبط بها لكل طائفة من الطوائف، فلا يتدخل إلا إذا تطلبت العدالة ذلك.

قلت: تقصد حكم الطوائف لنفسها؟

قال: أجل.. فلكل طائفة ما يمليه عليه دينها من قوانين.. وبما أن الإسلام يحرم الإكراه في الدين، فإنه يحرم ـ كذلك ـ الإكراه على مخالفة ما يقتضيه الدين من أحكام إلا إذا انتقلت من العدل إلى الجور.. وحينذاك يقف الإسلام في نصرة المظلوم ضد ظالمه.

قلت: وهل يمكن أن ينسجم الحكم الذاتي مع المواطنة العامة؟

قال: أجل.. وهذا ما فعله رسول الله r، وهذا ما حاولنا به التأسي في هذه البلدة..

لقد أطلقنا الحرية لجميع الطوائف لتمارس ما تمليه عليها معتقداتها..

فلهذه الطوائف محاكمها الخاصة.. ودور عبادتها الخاصة.. وميادينها الخاصة.. ودور نشرها الخاصة.. ووسائل إعلامها الخاصة..

نحن لا نتدخل في أي شيء من هذه الأشياء.. اللهم إلا إذا مس الأمن أو العدالة.. وحينذاك نتدخل بأسلوب أهل السلام.. لا بأسلوب أهل الصراع.. هذه سنة من سنن نبينا r.. فلم يخير r بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

قلت: فهذه البنود حلت مشكل الطائفية إذن؟

قال: كما حلت البنود التي ذكرها لك سعد مشكل العرقية.

قلت: ولكني أرى بعض ما في هذه الوثيقة يتناقض مع ما ذكرت؟

قال: يستحيل ذلك.. إن هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق النبوية تقلبت بين مختصين في جميع المجالات.. وعلى مدار الزمان.. وكان أعداء محمد أحرص الناس على اكتشاف أي ثغرة في شخصه أو في دينه، وقد أعجزهم إيجاد ذلك.

قلت: انظر.. لقد ورد في هذه الوثيقة في المادة (23) ( وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد r ).. أليس في ذلك نوعا من الديكتاتورية المقيتة؟

ابتسم، وقال: إن هذه المادة تشير إلى أن المرجعية العليا للدولة الإسلامية هي (الله ورسوله).. فالله الذي خلق الخلق هو الذي له الحق في أن يشرع لهم ويحكمهم، ورسوله هو الممثل لدينه والمعرف به.

قلت: قد تصلح هذه المادة للمسلمين، ولكنها لا تصلح لغيرهم.

قال: لقد ذكرت لك أن لكل طائفة حكمها الذاتي الخاص بها والذي تفرضه عليها قناعاتها.. ولكنها فيما سوى ذلك ـ مما يرتبط بالمصالح العامة ـ خاضعة لسلطة الدولة العادلة التي تحكم بما تفرضه قوانين العدالة.

لقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة بمن فيهم اليهود بموجب المادة (43)، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً، بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا، فبوسعهم الاحتكام إلى النبي r، وقد خير القرآن الكريم النبي r بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى:﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42)

ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول r فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، فنزل قوله تعالى:﴿  وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)( المائدة: 45)

تقدم رجل آخر، وقال: من النواحي المهمة التي وردت في الصحيفة.. والتي لها شأن خطير في الدستور ما ورد في المادة (40)، فقد جاء فيها:( وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة)، وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، ولا يمس أهلها في أموالهم وأنفسهم.

وقد أرسل النبي r أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.

قلت: فما الذي استفدتم من هذه المادة؟

قال: لابد لكل دستور من تحديد الرقعة الجغرافية التي تسري أحكامه فيها.. ولابد لكل دولة من رسم حدودها حتى لا يدب التنازع بينها وبين جيرانها.

اقترب رجل آخر، وقال: إن أهم ما ورد في الصحيفة ما قررته من مبادئ ترتبط بالحريات وحقوق الإنسان.

لقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، وغيرها، فحرية الدين مكفولة: (للمسلمين دينهم ولليهود دينهم)، كما قال تعالى:﴿  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 256)، وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة.

وقد نصت الوثيقة على أن على الدولة الإسلامية أن تقيم العدل بين الناس، وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً، وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.

لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة: 8)، أي لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم قوم على محاباتهم والميل معهم.

أما المساواة؛ فقد صرحت نصوص كثيرة في الصحيفة بمراعاتها، منها: (أن ذمة الله واحدة) وأن المسلمين (يجير عليهم أدناهم) وأن (بعضهم موالي بعض دون الناس)، أي أنهم يتناصرون في السراء والضراء .. وتضمنت المادة (19) أن (المؤمنين يبيء[31] بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله)

قلت: فما استفدتم من هذه المواد؟

قال: لقد بحثنا عن كل ما يطلبه الإنسان من حقوق مشروعة، فرحنا نبني تشريعاتنا لأجل تحقيقها ومراعاتها..

قلت: لقد قيدت الحقوق بكونها مشروعة.. وفي ذلك يتلاعب المتلاعبون من المستبدين حيث لا يسمحون إلا بالحقوق التي تخدمهم أو لا تضرهم.

قال: لقد اعتبرنا الفطرة مقياسا نقيس به حاجات الناس وحقوقهم، فلذلك لم نعتبر للشذوذ عن الفطرة أي حقوق يمكن احترامها.

قلت: ولكنك نصصت على أن الدستور يضمن المساواة؟

قال: الدستور يرفع البشر، ولا يضعهم، والدستور الذي يخدم الشواذ ويلبي مطالبهم الشاذة دستور يخدم الإنحراف.. والدولة التي أسسها النبي r مدرسة كبيرة تربي رعاياها وترفعهم إلى آفاق الإنسانية السامية، وهي لذلك لا تستجيب لمطالبهم التي تنزل بهم إلى حظيظ البهيمية.

ظللت مع الهيئة الدستورية أسألها، وتجيبني فترة من الزمن إلى أن جاء محمد الفاتح، والبسمة على وجهه، وهو يقول: هل اقتنعت بما في دستورنا من قيم العدالة والإنسانية؟

قلت: أنا لم أعجب من ذلك فقط.. بل عجبت من كون دستوركم كله مستمد من ذلك الدستور القديم الذي وضعه محمد. 

قال: ليس في العدالة ولا في الإنسانية قديم أو جديد.. العدالة والإنسانية وجميع المبادئ قيم ثابتة قد تجد في التاريخ القديم من تمسك بها، فكان أسوة لغيره فيها، وقد تجد في التاريخ الحديث من انحرف عنها، فارتد بانحرافه إلى البهيمية والبدائية.

قلت: أتلك الوثيقة المحمدية هي مرجعكم الوحيد في دستوركم؟

قال: لا.. هناك وثائق أخرى كثيرة.. سأمر بك على بعضها.. فنحن نحتفظ بنسخ منها في هذا المحل[32].

سار بي محمد الفاتح في أرجاء القاعة حيث رأيت كتبا مكتوبة بخط قديم.. فقلت له: ما هذه الكتب؟

قال: هذه صور عن كتب النبي r التي كتبها في حياته[33].. ونحن نهتدي بهديها في قوانيننا وعلاقاتنا الداخلية والخارجية.. ولم نر منها بحمد الله إلا البركات.

اقتربت من بعضها، فقرأت فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من دهمهم بظلم، وعليهم نصر النبي، ما بل بحر صوفه إلا أن يحاربوا في دين الله، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله ولهم النصر على من بر منهم واتقى)

قال: هذه معاهدة بني ضمرة.. وسببها أن رسول الله r سار في أول غزواته حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة، فوادعته قبيلة بني ضمرة، فكتب النبي r هذه المعاهدة التي قرأتها[34].

قلت: فما الذي أفادتكم هذه المعاهدة؟

قال: لقد أفادتنا الكثير.. إنها تنص على الأمن على الأموال، والأنفس، والنصر في مواجهة العدو، ونصر هؤلاء الحلفاء في حالة الاعتداء عليهم، وهو ما يسمى اليوم بمعاهدة الدفاع المشترك، أو الحلف الدفاعي.

وقد مارسنا هذا النوع من الحلف مع جيراننا، فصرنا قوة لا يفكر أعداؤها في مواجهتها إلا بعد أن يحسبوا لذلك ألف حساب.

سرنا قليلا في أرجاء القاعة، فرأيت وثيقة أخرى كتب فيها:( هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه: وأن بيننا عيبة مكفولة[35] وأنه لا إسلال ولا إغلال[36]، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل عقد قريش وعهدهم دخل فيه)

قال: هذه معاهدة صلح الحديبية، وقد عقدها r حين قدم من المدينة معتمرا، لا يريد حربا، وساق معه الهدي، لكن قريشا ذعرت من هذا الزحف المباغت من المسلمين، وفكرت بجد في منع المسلمين من دخول مكة مهما كلف الأمر ؛ لأنها رأت أن دخول المسلمين مكة واعتمارهم بعد كل ما وقع بينهم من حروب ودماء سيؤدي إلى نزع مهابتها من قلوب الناس، وفي الوقت نفسه عرفت قريش أن قتالها للمسلمين لردهم عن البيت ليس لها فيه حجة أمام نفسها وأمام أحلافها، لا سيما وأن المسلمين لا يريدون حربا ؛ لذلك سيرت قريش الوسطاء يفاوضون الرسول r لعلهم ينتهون معه إلى مخلص من هذه الورطة, إلى أن انتهى الأمر بأن بعثت قريش سهيل بن عمرو, حيث تكلم مع الرسول r وأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح، وتم بعد ذلك تم تدوين المعاهدة بين المسلمين وقريش، يمثل الدولة الإسلامية قائدها رسول الله r ويمثل قريشا سهيل بن عمرو.

قلت: أعرف هذه الحادثة.. فما الذي استفدتم منها؟

قال: لقد اعتبر القرآن الكريم ما حصل في هذه المعاهدة فتحا مبينا مع أن البشر ـ بفهمهم المحدود ـ اعتبروها نوعا من الاستسلام الذليل.

قلت: أعرف هذا.. فما الذي استفدتم منه؟

قال: استفدنا الكثير.. إن هذه المعاهدة جنبتنا الكثير من الويلات، بل فتح لنا بسببها من الفتوح ما لا نزال ننعم به.

قلت: لم أفهم.

قال: إن رسول الله r في هذه المعاهدة لم يكن يهمه إلا شيء واحد تخلى من أجله عن كثير من مظاهر النصر الباهت..

قلت: ما هو؟

قال: السلام.. الرسول r اعتبر السلام.. وإحلال السلام بينه وبين أعدائه هي فرصة النصر التي يجوز أن يضحى في سبيلها بكل شيء..

قلت: لكن الأعداء فهموا السلام استسلاما؟

قال: فلتمل عليهم عقولهم وأهواؤهم وشياطينهم ما شاء لها أن تملي.. العبرة بمن ينتصر أخيرا.. النصر الحقيقي لا النصر المزيف.. وذلك ما حصل لرسول الله r.

قلت: فكيف استفدتم من هذا؟

قال: رحنا نبحث عن كل جذور العداوة التي بيننا وبين جيراننا.. فاجتثثناها واحدا واحدا.. ورحنا بما أملت علينا أخلاق أهل الإيمان نوثق الصلات بيننا وبينهم حتى صاروا أميل إلى تقديسنا منهم إلى حربنا.

سرت مع محمد الفاتح في تلك القاعة طيلة ذلك الصباح، وقد اطلعت على الكثير من الوثائق[37]، وقد جعلني ذلك أقتنع اقتناعا تاما بمبادئ العدالة العظيمة التي مارسها r في حياته القيادية.

الشورى:

في ذلك المساء، طلبت منه أن يسير بي إلى (مجلس الشورى)، سار بي إليه، وقد عجبت عندما رأيت كبر القاعة التي خصصت له، وتعدد فروعها، فقلت: ألا ترى أنكم قد بالغتم في كبر هذه القاعة واتساعها.

قال: ومع ذلك، فهي لا تضم كل من هو في مجلس الشوري.. إن مجلس الشورى الحقيقي يضم المدينة جميعا.

قلت: عهدي بمجلس الشورى أن لا يضم إلا المنتخبين.

قال: تلك مجالس الشورى الصورية.. مجلس الشورى الحقيقي هو الذي يستشير الرعية كل حين، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، وقد يرى العامي ما لا يرى المختص.

قلت: على أي نظام ديمقراطي اعتمدتم على هذا؟

قال: على نظام محمد r.. فمحمد r لم يكن يميز في شوراه بين الخاصة والعامة.. لقد كان يستشير الكل، وكان الكل يشير عليه، لقد أمره الله بذلك، فقال:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

قلت: إن الآية تشير إلى تأثير الشورى في تأليف القلوب.

قال: ما أعظم أن تتوحد قلوب الرعية مع قلوب حكامها.. إنهم حينذاك يصيرون قوة لا يمكن لأحد قهرها.

سأضرب لك مثالا عن واقعنا استقيناه من واقع النبي r..

إن كل ما تراه في المدينة من إنجازات ضخمة بركة من بركات الشورى.. لقد كنا في كل حين نجمع الرعية، ونخاطبها، ونطلب رأيها، وكنا بحمد الله نجد من بركات ذلك ما عاد علينا بالخير والمنفعة.

لقد وجدنا الرعية تقبل على المشاريع تنفذها برغبة تامة، وهي مقتنعة تمام الاقتناع بمدى جدواها.

قلت: من أين استفدتم هذا من واقع محمد؟

قال: من كل حياة النبي r.. فقد كان أكثر الناس استشارة للمؤمنين[38]، حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله r[39].

قلت: أرى في هذه القاعة فروعا كثيرة، فما سرها؟

قال: هناك حالات خاصة لابد فيها من المختصين.. ولذلك لا نستشير فيها إلا المختصين.. فلا يمكن أن نسأل المهندسين عن قضايا الطب.. ولا الأطباء عن قضايا الهندسة.

 

 

2 ـ الإدارة

في اليوم الثاني، وبعد أن امتلأت قناعة بالسياسة الحكيمة التي انتهجها محمد الفاتح والفريق الحاكم معه، طلبت منه أن يسمح لي بزيارة مؤسسات مدينته المختلفة، والتي يتم من خلالها الحكم المباشر للرعية، ويتم من خلالها تقديم الخدمات المختلفة، فأذن لي، واعتذر عن عدم إمكانه صحبتي بسبب ما تتطلبه وظيفته من أعمال.

لقد رأيت جميع إدرات المدينة في منتهى الدقة والنظام.. وكانت الرعية بسبب ذلك في غاية الراحة والطمأنية.. فلم تكن حقوقها تضيع، ولا مصالحها يعبث بها.

بعد عودتي في المساء إلى بيت محمد الفاتح سألته عن سر ذلك، فقال: ألم أقل لك: إن كل ما تراه في هذه المدينة من استقرار وسعادة ونظام بركة من بركات الاهتداء بسنة النبي r..

قلت: فأي السنن جعل لإدارتكم هذه الكفاءة.

قال: ثلاث سنن من سنن المصطفى r.

الكفاءة:

قلت: فما أولاها؟

قال: الكفاءة.. إن كل من رأيتهم من الموظفين لم يعينوا إلا بسبب كفاءتهم.

قلت: أهذه سنة من سنن محمد؟

قال: هذه من أعظم سنن محمد r.. ولا يكون الوارث وارثا حتى يكون له الحظ الوافر منه.

 قلت: والطبقية.. تلك العقبة الكؤود التي تحول بين الكفاءات والمناصب التي تصلح لها.

قال: إن كل وارث يسمع  قوله تعالى في تأديب نبيه r:﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) ‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ ‏أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾ ‏‏( عبس) يقول لكل ضعيف مستضعف إذا رآه:( مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى)

لقد كان التعالى على الطبقية بجميع أنواعها هو سنة النبي r.. ففي الوقت الذي كان يفرق فيه بين الموالي والأحرار آخى النبي r في أول الهجرة بين عمه حمزة ومولاه زيداً ‏.. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلالا بن رباح أخوين.

وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار، فيهم ‏خالد بن الوليد.

وكان آخر عمل من أعماله r أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش ‏لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه، وصاحباه، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين، وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه ‏r، ومن أسبق قريش إلى الإسلام.

وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث، وفي ذلك قال ابن عمر ـ رضي ‏الله عنه ـ: بعث رسول الله r بعثاً أمر عليهم أسامة بن زيد ‏ـ رضي الله عنه ـ فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي r:( إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان ‏لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ. وإن هذا لمن أحب الناس إلي)

ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم ‏إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله r ضربته الحاسمة في ‏هذا الأمر، فقال:( سلمان منا أهل البيت)، فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل ‏أفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها. ‏‏. وجعلة من أهل البيت رأساً!

ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح ـ رضي الله عنما ـ ما أفلت معه لسان أبي ‏ذر بكلمة:( يا ابن السوداء) غضب لها رسول الله r غضباً ‏شديداً؛ وألقاها في وجهه أبي ذر عنيفة مخيفة: (يا أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن ‏البيضاء على ابن السوداء فضل)، ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال ‏، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال، تكفيراً عن قولته ‏الكبيرة.

لقد كان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ‏قال: قال رسول الله r:( يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته ‏في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة)، ‏فقال: ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً ‏في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.‏

وكان رسول الله r يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: (ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب)، وقال عنه: (ملئ عمار إيماناً ‏إلى مشاشه)، وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله r قال: (‏إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي ـ وأشار إلى أبي بكر وعمر ـ ‏ واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)

وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله، عن أبي ‏موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن ‏مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله r من كثرة دخولهم ‏على رسول الله r ولزومهم له.

وجليبيب ـ وهو رجل من الموالي ـ كان رسول الله r يخطب له ‏بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا ‏على رسول الله r أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. ‏فرضيا وزوجاها.

وقد افتقده رسول الله r في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة ‏قصيرة من زواجه، فعن أبي برزة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ‏ r في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: (هل ‏تفقدون من أحد؟) قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: (هل تفقدون من ‏أحد؟)، قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: (هل تفقدون من أحد؟)، ‏فقالوا: لا. قال: (لكني أفقد جليبيباً)، فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد ‏قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي r فوقف عليه، ثم قال: (قتل سبعة ‏ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه)، ثم وضعه على ساعديه، ليس له ‏سرير إلا ساعدا النبي r، ثم حفر له، ووضع في قبره[40].

وعلى هذا المنهج سار ورثة رسول الله r..

فأول ما فعله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ هو ما حفظه عن صاحبه r ما أراده في أمر ‏أسامة، فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس ‏الجيش الذي أعده رسول الله r وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر ‏المدينة.. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل، ويستحي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: ( يا خليفة ‏رسول الله لتركبن أو لأنزلن)، فيقسم الخليفة: (والله لا تنزل، ووالله لا ‏أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟)

ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر، وقد حمل عبء الخلافة الثقيل، وقد كان ‏عمر حينها جنديا في جيش أسامة.. ولا بد من استئذانه فيه.. ‏فإذا الخليفة يقول: (إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل)

وهكذا سار عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ على ‏الكوفة.

ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال، لأنهما كانا من ‏السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر، فتورم أنف أبي سفيان، ويقول بانفعال ‏الجاهلية:(لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!)، فيقول ‏له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام: (أيها القوم. إني والله أرى ‏الذي في وجوهكم. إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى ‏الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟)

ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد ‏الله عن سر ذلك قال له: (يا بني، كان زيد ـ رضي الله عنه ـ أحب إلى رسول الله ‏r من أبيك! وكان أسامة ـ رضي الله عنه ـ أحب إلى رسول الله ‏r منك! فآثرت حب رسول الله r على حبي)

ويرسل عمر عماراً ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق ‏فيلببه بردائه.. بل يروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه، فتظهر براءته ‏فيفك وثاقه ويعممه بيده.. وخالد لا يرى في هذا كله بأساً، فإنما هو عمار ‏صاحب رسول الله r السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول ‏الله r ما قال!

وعمر هو الذي قال: (ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته) يقول ‏هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا علياً، ولا طلحة ولا الزبير.. إنما جعل ‏الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحداً بذاته!

وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يرسل عماراً والحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ ‏إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ‏فيقول: (إني لأعلم أنها زوجة نبيكم r في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها).. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم ‏المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ

وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في ‏الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: (أنا بلال بن رباح، وهذا أخي أبو ‏رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن ‏شئتم أن تدعوا فدعوا)، فلا يدلس عليهم، ولا يخفى من أمر أخيه شيئاً، ولا ‏يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول، فيطمئن القوم إلى هذا ‏الصدق، ويزوجون أخاه، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال ‏المولى الحبشي وسيطه!

لقد استقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك ‏آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة.. وقد كان عبد الله بن ‏عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه.. وكان عبد الله بن عمر يذكر ويذكر معه ‏مولاه نافع.. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين.. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد ‏الرحمن بن هرمز.. وفي البصرة كان الحسن البصري.. وفي مكة كان مجاهد بن ‏جبير وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء.. وفي مصر تولى الفتيا ‏يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة[41].. 

التحفيز:

قلت: عرفت السنة الأولى، فحدثني عن السنة الثانية.

قال: السنة الثانية هي التحفيز.. فالكفاءة التي لا تجد التحفيز الكافي لا تستطيع أن تؤدي أي عمل نافع.. بل يقف الإحباط بينها وبين أي إنجاز ناجح.

قلت: أعرف قيمة التحفيز.. فهل مارسه محمد في حياته الإدارية.. وكيف ذلك، وهو داعية آخرة، لا داعية دنيا؟

قال: التحفيز مرتبط بالحياة.. والحياة تشمل الدنيا والآخرة.. وليس الكمال إلا في التحفيز الذي يشملهما جميعا[42].

قلت: فحدثني عن بعض ما روي عن محمد في ذلك.

فكر قليلا، ثم قال: في تحرك من تحركاته r بجيشه نحو حُنين قال r لأصحابه:( ألا فارس يحرسنا الليلة؟).. عندما قال هذا أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه فقال: أنا ذا يا رسول الله، فقال r:( انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا، فلا تنزلن إلا مصلياً أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك)، قال: فبتنا حتى أضاء الفجر وحضرنا الصلاة، فخرج علينا رسول الله r، فقال: (أأحسستم فارسكم الليلة؟)، قلنا: لا والله، فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلّم رأيت رسول الله r ينظر خلال الشجر، فقال: (أبشروا جاء فارسكم)، وعندئذ جاء الفارس، وقال: يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل عن فرسي إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحداً، فقال رسول الله r:(ما عليه أن يعمل بعد هذا عملاً)[43]

نظر إلي، وقال: انظر كيف عمد رسول الله r إلى التخيير وبث روح المنافسة بين فريق عمله، فقال:( ألا فارس يحرسنا الليلة؟)

كما أنه استقبل حديث أنيس، وهو يتحدث عن دوره وإجادته في تنفيذه بنفس طيبة، فلم يتهمه النبي r وهو يعرض موقفه بنقص في إخلاصه لا سيما وأنه يدلي بهذا الحديث أمام جمع من صحابته ـ رضوان الله عليهم ـ ثم يبادر النبي r بتشجيعه وتحفيزه بقوله:( ما عليه أن يعمل بعد هذا عملا)

قلت: يستطيع محمد أن يقول مثل هذا.. ولكن أنتم ما عساكم تقولون، وأنتم لم تطلعوا على الغيب.

قال: لقد ترك لنا رسول الله r ثروة من النصوص المقدسة.. جعلناها شعارا لنا في كل دوائرنا.. فنحن نشجع بواسطتها على إتقان الأعمال، باعتبار ذلك من الجهاد في سبيل الله..

لقد أخبر r بأن أي حركة ـ مهما كانت بساطتها ـ ما دامت في سبيل الله فهي خير من الدنيا وما فيها، قال r:( لغدوة في سبيل اللَّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها )[44]، وقال r:(  رباط يوم في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل اللَّه تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها )[45]

وأخبر r عن الجزاء المعد للمرابط في سبيل الله، فاعتبره لا يقل عن جزاء الصائم القائم القانت الذي لا يقعد عن ذلك طيلة غياب المجاهد في سبيل الله، فقد قيل لرسول الله r: يا رَسُول اللَّهِ ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال:( لا تستطيعونه )، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول:( لا تستطيعونه )، ثم قال:( مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه )[46]

بل أخبر r أن اليوم والليلة من المرابط في سبيل الله خير من صيام شهر كامل وقيامه، فقال r:( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)[47]

بل أخبر r بما هو فوق ذلك، فقال:( رباط يوم في سبيل اللَّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل )[48]

التفت إلي، وقال: أليست هذه أجور عظيمة؟

قلت: كيف لا تكون عظيمة؟

قال: فإن هذه الأجور هي التي حركت القلوب المؤمنة المحتسبة للنهوض بأي عمل مهما كان دقيقا أو جليلا.. وهذه النصوص نفسها هي التي أخبرت بأن للعامل إن احتسب من الأجر ما لا يقل عن أجر المجاهد:

فقد رأى بعض الصحابة شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله r عليهم بقوله: ( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )[49]

بل صرح r بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله )[50]

قلت: أيكتفي عمالكم بأجور الآخرة وتحفيزاتها؟

قال: لا خير فيمن لا يقدر أجور الآخرة حق قدرها..

قلت: ولكن لابد من أجور الدنيا.

قال: لقد ذكرت لك أن الآخرة لا تنفي الدنيا.. كما أن الدنيا لا تنفي الآخرة.

قلت: فهل سن محمد في تحفيز الدنيا شيء؟

قال: بل سن أشياء كثيرة، وأعطانا قاعدة لذلك، فقال:( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )[51]، وفي رواية أخرى: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)[52]

بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، حيث عبر بأفعل التفضيل ليدل على أن من الكمال شكر وسائط الجود الإلهي، ليني ما قد يتوهم من أن ذلك مناف للتوحيد، قال r:( إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس)[53]

 وفي هذا المجال، فقد دعا r إلى مقابلة الإحسان بالشكر والثناء والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، قال r:( من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر)[54]، وقال r:( من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)[55]، وقال r:( من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر)[56]

بل اعتبر r المثني على الخير والشاكر له في درجة العامل به، فعندما أعجب المهاجرون بأخلاق الأنصار وتضحياتهم في سبيل الله، قالوا لرسول الله r: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير، ولا مواساة في القليل منهم، ولقد كفونا المؤونة، فقال r:(  أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم؟)  قالوا: بلى، قال:( فذاك بذاك)[57]

قلت: كيف يستوي العامل والشاكر مع أن الشاكر ليس له من العمل شيء؟

قال: لأن التشجيع على الخير بذكره ونشره والثناء عليه من أكبر وسائل نشره والدعوة إليه والحض على الثبات عليه، وهو بذلك ينطبق مع قوله r:( إن الدال على الخير كفاعله)[58]، فالشاكر على الخير مقر به دال عليه، فلذلك اعتبر مساويا للفاعل له.

بل إن الشخص قد يشكر على القليل، فيدعوه ذلك لبذل الكثير، بل قد يشكر على ما لم يفعله، فيجد نفسه مسارعا لفعله، بل قد يشكر على شيء معلقا على شيء، فيسرع إلى رفع التعليق ليستوفي الشكر كاملا، ولهذا لما قال r:( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)، قَالَ سَالِمٌ مبينا أثر هذا القول في سلوك ابن عمر t:( فَكَانَ عَبْدُ اللّهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لاَ يَنَامُ مِنَ اللّيْلِ إِلاّ قَلِيلاً)[59]

النظام:

قلت: فما السنة الثالثة؟

قال: النظام.. فلولا النظام ما أمكن أن ينجح أي عمل من الأعمال.

قلت: فمن أين استلهمتم النظام؟

قال: من كثرة ما ورد في النصوص من الاهتمام بتنظم الصفوف.. لقد قال الله تعالى يأمر بذلك:﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4)

وقال واصفا ملائكته:﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً) (النبأ:38)، وقال:﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22)

وقد حثنا رسول الله r على الاقتداء بالملائكة ـ عليهم السلام ـ في هذه العبودية المنظمة، فقال:(ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟)، قالوا:( يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟)، فقال:( يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف)[60]

لقد كان هذا الحديث أساسا لجميع الأنظمة التي تقوم عليها إدارة هذه المدينة وجميع مؤسساتها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد رأينا أن الصفوف ورصها وتنظيمها وربطها ببعضها البعض تختصر الكثير من الجهود، وتنظمها، وتجعل منها جهودا إيجابية، فلذلك رحنا نرتب الرعية كلها بنظام الصفوف.

ابتسمت، وقلت: كيف ذلك.. أأخرجتم الرعية إلى الشوارع وطلبت منهم إقامة الصفوف؟

قال: أرواح الصفوف هي التي تنظم الرعية، لا أجسادها؟

قلت: فكيف تعاملتم مع أرواح الصفوف؟

قال: لقد أحصينا الرعية.. ثم رتبناهم مراتب مختلفة.. ثم وضعنا كل مرتبة منها في محلها الخاص..

قلت: تقصد إنزالهم منازلهم.

قال: أجل.. لقد وضعنا الفقراء في محالهم، ورتبناهم بحسب حالتهم وعوزهم.. ورتبنا الأغنياء بحسب ثرواتهم.. ورتبنا طلبة العلم بحسب طاقاتهم.. ورتبنا العلماء بحسب إنجازاتهم وتخصصاتهم.. وهكذا..

قلت: لم كل هذا؟

قال: حتى نتعامل مع كل صنف بما يحتاجه من معاملة.. فلا يمكن أن نكلف الفقير بوظيفة الغني.. ولا الغني بوظيفة العالم.

قلت: ولكن الغني قد يكون عالما.. فماذا تفعلون؟

قال: نضعه بين الأغنياء، وبين العلماء.. فإذا احتجنا إلى غناه قصدناه.. وإذا احتجناه إلى علمه سألناه.

 

 

 

 

 

3 ـ القضاء

في اليوم الثالث، طلب مني محمد الفاتح أن أسير معه للمحكمة، فتعجبت من ذلك، وقلت: لقد تصورت ـ بسبب ما رأيته من عدالة في سياستكم ـ أن القضاء عندكم منفصل عن الحكم..

قال: ما الذي تقصد بانفصاله؟

قلت: أقصد أن الحاكم لا يحق له أن يتدخل في شؤون القضاء.. إن هذا هو الذي تنص عليه قوانين العدالة التي ابتكرها أهل العصر الحديث.

قال: هذا لم يبتكره أهل العصر الحديث.. بل هذا ما جاء به محمد r.. وهو ما طبقه ورثة محمد r.. لقد قال الله تعالى يأمر بذلك:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)﴾ (النساء)

لقد روي في سبب نزول هذا الآيات الكريمة ما يدل على وجوب استقلال سلطة القضاء في الإسلام عن سلطة الحكم.. ففي الحديث عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله r في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله r فقال: إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها، فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله r ليلا فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله r فبرأه وعذرَه على رءوس الناس، فأنزل الله هذه الآيات[61].

قلت: فما حاجتك إلى الذهاب إلى المحكمة إذن؟

قال: أنا ذاهب إلى المحكمة باعتباري فردا من هذه المدينة، لا باعتباري حاكما لها.

ابتسمت، وقلت: وهل يمكن للحاكم الذي انتخب حسب مواثيق العدالة أن يكون مجرد مواطن عادي كسائر الناس؟

قال: أجل.. هو في منصة حكمه حاكم.. ولكنه فيما عدا ذلك مواطن كسائر الناس.

قلت: فما حاجتك للذهاب إلى المحكمة؟

قال: لقد ادعى بعضهم بأني ظلمته.. وقد استدعاني القاضي للتحري في مظلمته.. ويلزمني الذهاب طاعة للقاضي، كما قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59)

قلت: لقد حيرتني.. هل أنت ولي الأمر أم هو؟

قال: هو ولي أمري في شؤون القضاء.. وأنا ولي أمره في الشؤون التي يتطلبها الحكم.. ولا ينبغي لأحد منا أن يبغي على الآخر.. لقد قال r يشير إلى هذا، ويدعو إلى مراعاته:( أنزلوا الناس منازلهم)[62].. إن هذا الحديث هو القاعدة التي تحكم هذه المدينة قبل أن أحكمها أنا، وقبل أن يحكمها أي مجلس من المجالس.. فلكل منزلة أهلها، ولا يمكن أن نتدخل في شؤونهم إلا إذا اقتضت العدالة ذلك.

سرت مع محمد الفاتح إلى قاعة المحكمة، وهناك وجدنا قسمان كبيران:

التثبت:

دخلنا الأول، وكان اسمه قسم التثبت.. وقد كتب على بابه قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وبجانبها كتب قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)

في داخل القاعة وجدنا مجموعة رجال واقفين، وقد صنفوا صنفين، وقد عرفت فيما بعد أنهم الشهود..

وقف محمد الفاتح حيث أمره المحقق أن يقف، ثم توجه المحقق إلى أولئك الشهود قائلا: اسمعوني جيدا.. أنا مجرد ناصح.. إن شئتم أن تقبلوا نصيحتي، فافعلوا، وإلا فإن لله يوما يسأل فيه الإنسان عن كل فعل فعله، وعن كل كلمة قالها.

فلهذا أدعوكم ـ قبل أن نتوجه لمجلس العدالة ـ أن تتثبتوا جيدا مما ستشهدون به، لقد قال الله تعالى داعيا إلى ذلك:﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ )(الطلاق: من الآية2)

ونهى عن قول الزور، فقال:﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(الحج: من الآية30)، وأخبر عن صفات الصالحين، فقال:﴿ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان:72)

ونهى أن يخبر الإنسان بما لا برهان له عليه، فقال:﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)

وأخبر عن خطور الكلمة، فقال:﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)

وأخبر r عن الخطر الذي يقع فيه من شهد شهادة زور، فقال في مجلس مثل هذا المجلس:( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ‏قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين).. وكان متكئاً فجلس، وقال:( ألا وقول ‏الزور، ألا وشهادة الزور).. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)‏ [63]

وقال:( من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)[64]

قال رجل من القوم تظهر عليه الحدة: لكأني بك تريد أن تثنينا عن الشهادة التي نريد أن ندلي بها ضد هذا الرجل بحجة أنه أمير هذه البلدة.

قال المحقق: معاذ الله أن أقول ذلك، أو أنوي ذلك.. إن ما أقوله لك هو ما سبق أن قلته لغيرك من الشهود ممن يريدون الشهادة عكس شهادتك.

ثم كيف أقول ذلك.. وقد نهينا عن كتمان الشهادة، قال تعالى:﴿ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية283)، ونهى الله تعالى الشهداء من التهرب من الشهادة، فقال:﴿  وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ (البقرة: من الآية282)

لست أدري كيف حدثتني نفسي حينها، وقلت: ما أسهل أن يخترق مثل هذا القضاء، وما أيسر أن يحتال عليه.. إن الأمر لا يعدو فيه نصائح تلقى، ثم تضيع الحقوق بعدها.

لقد قلت ذلك في نفسي، ويشهد الله أنه لم تتحرك به شفتاي، لكن المحقق نظر إلي، والابتسامة تملأ فمه، ثم قال: ليس ذلك صحيحا يا بني.. نعم نحن نعتمد النصيحة ثقة في الشهود.. ولكنا لا نكتفي بها..

لقد علمنا أقضى القضاة كيف نحتال في التحري عن الحقائق.. ومن ذلك ما روي أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، قال لهما r:( هل مسحتما سيفيكما؟)، قالا: لا، قال: فأرياني سيفيكما.. فلما نظر فيهما، قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه.

انظر كيف اعتمد r على دراسة الآثار.. وتعرف من خلالها على القاتل.. لقد اقتفى أثره في هذا ورثته.. فقد كانوا يستعملون كل وسائل التحري للوصول إلى الحقيقة التي لا يمكن أن تقوم العدالة إلا عليها..

سأحدثك عن أحد تلاميذه r لترى كيف كان التحري والتثبت قبل إرسال الأحكام.. إنه علي ـ رضي الله عنه ـ ذلك القاضي الذي هو مرجع قضاة الإسلام.. 

لقد حدث عبيد الله بن أبي رافع قال: خاصم غلام من الأنصار أمه إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فجحدته، فسأله البينة، فلم تكن عنده، وجاءت المرأة بنفر، فشهدوا أنها لم تتزوج وأن الغلام كاذب عليها، وقد قذفها.. فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بضربه، فلقيه علي ـ رضي الله عنه ـ فسأل عن أمرهم، فأخبر فدعاهم، ثم قعد في مسجد النبي r وسأل المرأة فجحدت، فقال للغلام: اجحدها كما جحدتك، فقال: يا ابن عم رسول الله r إنها أمي، قال: اجحدها، وأنا أبوك والحسن والحسين أخواك، قال: قد جحدتها، وأنكرتها.. فقال علي لأولياء المرأة: أمري في هذه المرأة جائز؟ قالوا: نعم، وفينا أيضا، فقال علي: أشهد من حضر أني قد زوجت هذا الغلام من هذه المرأة الغريبة منه، يا قنبر ائتني بطينة فيها درهم، فأتاه بها، فعد أربعمائة وثمانين درهما، فدفعها مهرا لها، وقال للغلام: خذ بيد امرأتك، ولا تأتنا إلا وعليك أثر العرس، فلما ولى، قالت المرأة: يا أبا الحسن، الله الله هو النار، هو والله ابني، قال: وكيف ذلك؟ قالت: إن أباه كان زنجيا، وإن إخوتي زوجوني منه، فحملت بهذا الغلام، وخرج الرجل غازيا فقتل، وبعثت بهذا إلى حي بني فلان، فنشأ فيهم، وأنفت أن يكون ابني، فقال علي: أنا أبو الحسن، وألحقه بها، وثبت نسبه.

وذكر الأصبغ بن نباتة أن شابا شكا إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ نفرا، فقال: إن هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يعد أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله؟ فقالوا: ما ترك شيئا، وكان معه مال كثير، وترافعنا إلى شريح، فاستحلفهم وخلى سبيلهم، فدعا علي بالشرط، فوكل بكل رجل رجلين، وأوصاهم ألا يمكنوا بعضهم أن يدنو من بعض، ولا يدعوا أحدا يكلمهم، ودعا كاتبه، ودعا أحدهم، فقال: أخبرني عن أبي هذا الفتى: في أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمن غسله ودفنه؟ ومن تولى الصلاة عليه؟ وأين دفن؟ ونحو ذلك، والكاتب يكتب، ثم كبر علي فكبر الحاضرون، والمتهمون لا علم لهم إلا أنهم ظنوا أن صاحبهم قد أقر عليهم.

ثم دعا آخر بعد أن غيب الأول عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبه، ثم الآخر كذلك، حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كل واحد منهم يخبر بضد ما أخبر به صاحبه، ثم أمر برد الأول، فقال: يا عدو الله، قد عرفت غدرك وكذبك بما سمعت من أصحابك، وما ينجيك من العقوبة إلا الصدق، ثم أمر به إلى السجن، وكبر، وكبر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم الحال لم يشكوا أن صاحبهم أقر عليهم، فدعا آخر منهم، فهدده، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت كارها لما صنعوا، ثم دعا الجميع فأقروا بالقصة، واستدعي الذي في السجن، وقيل له: قد أقر أصحابك ولا ينجيك سوى الصدق، فأقر بمثل ما أقر به القوم، فأغرمهم المال، وأقاد منهم بالقتيل.

وهكذا، فإن للقاضي أن يستعمل كل الوسائل التي يستطيع بها أن يصل للحقيقة.

لقد ذكر ابن القيم هذا، فقال:( وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان).. ويقول:( إن الله أرسله رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه).. ويقول:(بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له) [65]

قلت في نفسي: وهذا أيضا قد يكون طريقا من طرق الجور.. فالقاضي الذي يعذب المتهم سيستخرج منه لا محالة ما شاء من الاعترافات.

التفت إلي، والابتسامة تملأ فمه، وقال: الكل يمكن أن يفعلوا ذلك.. الكل يمكنوا أن يظلموا ليتسنى لهم أن يعدلوا إلا محمدا r.. وإلا ورثة رسول الله r، فإن ما ملأ الله به قلوبهم من رحمة تمنعهم من أن يفعلوا ذلك..

الحكم:

بعد أن استعمل المحقق كل ما أمكنه من وسائل للتثبت من الشهود والبينات خرجنا إلى القسم الثاني، وقد كان قاعة كبيرة تشبه قاعات المحاكم المعروفة، وكانت  مليئة بالحضور[66].

وكان أول متحدث فيها رجل تبدو عليه سيما الصلاح، وقف في الجمع خطيبا، وقال: أيها الجمع المبارك.. أنتم تعلمون أن هذه المحكمة بقضاتها، وكل من يعملون فيها، وبعد أن بذلوا كل جهودهم للبحث عن قضاء عادل يحقق قيمة العدل السامية في أعلى درجاتها لم يجدوا قوانين عادلة كالقوانين التي جاء بها الإسلام.. ولم يجدوا قاضيا عادلا بلغ به عدله أكمل الدرجات كرسول الله r.. لذلك ساروا خلفه، واعتبروه أسوتهم الأعلى، وقدوتهم الأرفع.. وصارت همة الكل هو السعي للتحقق بوراثة رسول الله r.

وقد وقفت هنا بينكم ـ قبل أن يذكر القاضي الأحكام التي وصل إليها بعد التحري والتثبت والتدقيق ـ لأذكر لكم قيمة العدل وخطورة الظلم.. ليرتدع كل ظالم وجائر سواء كان من المتهمين أو من القضاة:

التفت إلى المنصة التي جلس فيها القضاة، وقال يخاطبهم: أما القضاة، فقد أخبر النبي r عن الخطر الذي يتعرضون له إن هم أعرضوا عن العدالة التي بذلوا جهودهم للوصول إليها.. فقال r:( ما من حاكم يحكم بين الناس إلا جاء يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله فإن قال الله تعالى ألقه ألقاه في مهواه أربعين خريفا)[67]

وفي حديث آخر قال r:( من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين)[68]

وقال:( ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقبض بين اثنين في تمرة قط)[69]

والنبي r بهذا التشديد ينبه إلى خطورة هذا المنصب حتى لا يطلبه إلا من أنس من نفسه القدرة عليه، أو أنس فيه ولي الأمر القدرة عليه، ولهذا قال r:( من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله تعالى ملكا يسدده)[70]

ولهذا.. فإن رسول الله r قسم القضاة إلى ثلاثة أقسام، ففي الحديث الشريف:( القضاء ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق،  فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار)[71]

وقد نهى r أن يحول بين القضاة والعدل الذي كلفوا بتنفيذه أي حائل، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن امرأة سرقت في عهد رسول الله r في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله r؟ فقيل: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله r؟ ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعون به إلى رسول الله r فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله r فقال: (أتكلمني  ـ وفي لفظ (أتشفع) ـ في حد من حدود الله) قال أسامة: يا رسول الله استغفر لي، فلما كان العشي قام رسول الله r خطيبا فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد فانما أهلك الناس ـ وفي لفظ (الذين من قبلكم) ـ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ـ وفي لفظ: (أقاموا عليه الحد) ـ والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[72]

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r إلى اليمن قاضيا، وأنا حدث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال: (إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)، قال: فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد[73].

ولهذا، فإن ورثة رسول الله r من الحكام والقضاة لم يتعاملوا مع الرعية إلا على ما يقتضيه العدل بينهم من المساواة التامة التي لا جور فيها ولا ظلم.. لقد أقام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حد الشرب على قدامة بن مظعون الجمحي، وكان صهر عمر بن الخطاب على أخته، وقيل هو خال أم المؤمنين حفصة ـ رضي الله عنها ـ وأخيها عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، وكان فوق ذلك أميراً على البحرين[74].

وأقام القصاص على جبلة بن الأيهم الذي داس على ردائه أعرابي وهو يطوف حول الكعبة، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه، فلطم الأعرابي المسلم، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب، فقضى بلطم الأمير على الملأ[75].

لقد ترك لنا هذا الرجل الفاضل رسائل للقضاة ـ استلهمها من هدي النبي r ومن وراثته له ـ ظلت منارة لقضاة الإسلام على مدار تاريخه.. فمن رسائله رسالة قال فيها:( أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، واس بين الاثنين في مجلسك، ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يأيس وضيع وربما قال ضعيف من عدلك؛ الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك وربما قال في نفسك ويشكل عليك؛ ما لم ينزل في الكتاب، ولم تجر به سنة؛ وأعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور بعضها ببعض، فانظر أقر بها إلى الله، وأشبهها بالحق فاتبعه، واعمد إليه، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً حداً، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء قرابة، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، أو بينة عادلة؛ فإنه أثبت للحجة، وأبلغ في العذر، فإن أحضر بينةً إلى ذلك الأجل أخذ بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء. البينة على من أدعى، واليمين على من أنكر. إن الله تبارك وتعالى تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم الشبهات، وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصم في مجالس القضاء التي يوجب الله فيها الأجر، ويحسن فيها الذخر. من حسنت نيته، وخلصت فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، والصلح جائز فيما بين الناس، إلا ما أحل حراماً، أو حرم حلالاً؛ ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل دنيا، وآجل آخرة والسلام)[76]

وفي رسالة أخرى كتب يقول:( أما بعد، فإني كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيراً، فالزم خصالاً يسلم دينك، وتأخذ بأفضل حظك عليك؛ إذا حضر الخصمان فالبينة العدول، والأيمان القاطعة؛ أدن الضعيف حتى يجتري قلبه وينبسط لسانه، ويعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأساً، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء)

وبناء على هذا، فقد أجمع فقهاء الإسلام على أن على القاضي أن يكون حيادياً، فلا ينحاز لأحد ‏دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدم المساواة، وأن يتجرد عن كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما.

ونصوا على أن على القاضي أن يساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر ‏والمخاطبة، قال ابن القيم:( إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى ‏خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان ‏عنوان حيفه وظلمه.. وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان إحداهما: طمعه في أن ‏تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر محجته)[77]

ونصوا على أن القاضي يمنع من النظر في دعوى أقاربه، لتأمين حياده تجاه الخصوم، فلا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن ‏لا تقبل شهادته له كوالده وولده وزوجته ولا على عدوه[78].

ونصوا على أنه يحرم على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي إلا أن ‏يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ليتضح للقاضي تحرير الدعوى.

ونصوا على أنه يحرم على القاضي أن يضيف أحد الخصمين أو يستضيفه لئلا يكون إعانة على خصمه وكسر قلبه، وأنه يحرم على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته أو ممن كانت له حكومة مطلقاً؛ لأن ‏قبولها ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته.

ونصوا على أنه يحرم على القاضي أن يحكم بعلمه منعاً لاتهامه وتحيزه، والطعن في حياده.

وفوق ذلك كله.. فقد أمر رسول الله r القاضي أن يكون في حالة نفسية طيبة تسمح له بالتحقيق وبالحكم، ففي الحديث:( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)[79]، وفي حديث آخر قال r:( لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان)[80]

قال ذلك متوجها به للقضاة، ثم التفت إلى المحل الذي جلس فيه الخصوم، وقال: وأما أنتم، يا من لجأتم لهذه المحكمة للبحث عن العدالة، فإني أذكركم الله، فإن القاضي لا يحكم إلا بما تظهره له الأدلة.. فمن كان منكم غاشا أو مخادعا أو مزورا، فليحذر من الله، فإن محكمة الله العادلة ستقيم عليه من العدل ما لم تستطع محاكم الدنيا أن تفي به.

  لقد حدثت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله r سمع جلبة خصمين بباب حجرته فخرج إليهما، فقال:( إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فأنا أقطع له قطعة من النار)، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما لصاحبه: حقي لك، فقال رسول الله r:( أما إذا فعلتما ذلك فاقتسماه وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا[81].

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضيين)[82]

قال ذلك، ثم أخذ يعظهم بمواعظ تتفتت لها القلوب..

رأيت الدموع تنحدر حارة من بعض الخصوم، ثم إذا بأحدهم يصيح بصوت يملأ أركان قاعة المحكمة:( أستغفر الله.. أنا المذنب.. فطبقوا علي من حدود الله ما يطهرني من ذنوبي.. إن جسمي يطيق عقاب الدنيا.. ولكنه لن يطيق عذاب الآخرة.. )

ثم قال آخر مثل ذلك..

ولم يبق أحد في منصة الخصوم إلا قال ذلك إلا الرجل الذي ادعى على محمد الفاتح، فقد ظل مصرا على دعواه..

بعد أن انتهى الواعظ من وعظه[83] جاء دور القضاة.. وقد تقدم أحدهم، وقال: بارك الله في أخينا ابن السماك[84].. لقد ملأ قلوبنا بالمخافة من الجور والظلم.. ونحن نستغفر الله قبل النطق بأي حكم.. وندعو الخصوم أن يراجعوا أنفسهم، فما غاب عنا لن يغيب عن الله.

قال ذلك، ثم نطق بالحكم.. وقد أسفت كثيرا عندما سمعت القاضي يحكم للمدعي على (محمد الفاتح).. لكن محمدا الفاتح لم يظهر عليه أي أسف، بل رأيته يتوجه إلى الله حامدا شاكرا.

اقتربت منه، وقلت: لقد حكم قاضيك ضدك.

قال: الحمد لله.. لقد تحققت لي الأسوة برجل امتلأت له حبا من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي.

قلت: من هو؟

قال: أمير المؤمنين ابن عم رسول الله r على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ

قلت: ما  الذي حصل له؟

قال: حدث الشعبي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ ضاعت منه درع، فوجدها عند نصراني. فأقبل به إلى القاضي (شريح) يخاصمه، وقال علي: هذه الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فالتفت شريح إلى على وقال: يا أمير المؤمنين، ألك بينة؟ فابتسم علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى خطوات ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.. الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك وأنت منطلق إلى صفين، قال: أما إذ أسلمت فهي لك.

كان خصم محمد الفاتح يتنصت علينا ليرى موقف محمد الفاتح من حكم القاضي.. فلما سمع ما سمع سقطت دموع حارة من عينيه، ثم جثا على ركبتيه بين يدي محمد الفاتح، وقال: هذا ما أردت منك.. هذا ما أردت منك..

أنا نصراني.. لعلي من أحفاد ذلك الرجل الذي خاصم عليا.. وقد قرأت هذه الحادثة، وأثرت في تأثيرا عظيما.. ولكنها لما كانت مجرد أوراق حفظها التاريخ لم تحيي في نفسي ما ينبغي أن تحييه، فلما رأيتها اليوم ماثلة أمامي أحيت ما كان ميتا.. وأنا اليوم أشهدك، وأشهد الجمع بأن الحق لك.. وأني لم أقم بما قمت به إلا اختبارا للعدالة التي جاء بها محمد.. وأنا اليوم أقول ما قال ذلك النصراني لعلي:( أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)

 

 

 

 

4 ـ الأمن

في اليوم الرابع، طلب مني محمد الفاتح أن أسير معه للثكنة التي يدرب فيها الجند المكلف بحماية أمن المدينة، فقلت: ألهذه المدينة الممتلئة سلاما ثكنة وجيش!؟

قال: لولا أن لها ثكنة وجيشا لطمع فيها أعداؤها.. لقد قال الله تعالى يأمر بإعداد العدة الكافية التي تردع نوازع الشر في المجرمين:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)

قلت: إن هذه الآية تأمر بالإرهاب[85]

قال: أجل.. ولكنه إرهاب النفوس الأمارة، وما تحمله من نوازع شريرة، لا إرهاب النفوس المطمئنة وما تحمله من سلام..

القوة:

كان أول محل دخلنا إليه في الثكنة مركز للتدريب.. وقد لاحظت شدة التدريبات ودقتها.. ولكني مع ذلك لم ألحظ على الجند أي ضجر أو قلق، بل رأيتهم يقبلون على التدريبات بحيوية ونشاط، والابتسامة تملأ وجوههم، اقتربت من أحدهم، وقلت: أراك تمارس تداريب شاقة.. فلم لا ترحم نفسك.. فليس هناك أي عدو يتربص بكم؟

قال: أنا أطبق أمر الله لنا بالإعداد، ولا يهمني إن كان هناك عدو يتربص بنا أو ليس هناك.. لقد قال r يفضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف:( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)[86]

بالإضافة إلى هذا، فقد أمرنا الله تعالى بالحذر وبأخذ السلاح حتى لا نترك لأعدائنا أي فرصة.. لقد قال الله تعالى:﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:102)

انظر كيف تلح هذه الآية الكريمة في ضرورة أخذ السلاح وضرورة أخذ الحذر.

قلت: ذلك في الحرب.

قال: ونحن نتعلم في السلم كيف نأخذ السلاح.. فالسلاح لا يقاتل إلا باليد التي تحمله.

قلت: على أي سلاح تتدربون؟.. هل بالأسلحة التي سنها لكم نبيكم، أم بالأسلحة التي استنبطها أهل العصر الحديث؟

قال: مع أننا نكره ما استنبطه أهل هذا العصر من أنواع الأسلحة المدمرة إلا أننا مضطرون لتعلمها واستعمالها.. لأنه لا يردع الأعداء إلا ذلك.

قلت: وتخالفون دينكم بذلك؟

قال: لا.. لقد أمرنا الله بإعداد القوة مطلقا.. ولم يحدد لنا وسائلها، ولا أساليبها.. ومع ذلك، فقد ورد في سنة النبي r ما يدل على ضرورة تتبع التطور في هذا المجال مراعاة لإعداد القوة، فقد كان r حريصاً على تزويد جيش الإسلام بالأسلحة المعاصرة، والتي لم يألفها العرب من قبل، وعلى تدريب المسلمين عليها، ثم استخدامها في القتال، فقد أرسل r بعثة في اثنين من المسلمين هما: عروة ابن مسعود وغيلان بن سلمة إلى (جرش) ليتعلما صنعة العرادات والمنجنيق والدبابات، وكلها من أسلحة القتال التي لم يألفها المسلمون من قبل[87].

وقد استخدم الرسول r ـ كذلك ـ المنجنيق والدبابات في حصار الطائف، كما روي أنه نصب المنجنيق في حصار (خيبر) للتهديد، ولكنه لم يرم به فعلاً.

ومن حرص رسول الله r على التقدم في هذا المجال اعتبر صانع السلاح في سبيل الله ومن جهز به غازياً مثل الرامي به، فقال: (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به)[88]

ولم يكتف المسلمون في عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين وما بعده بملاحقة التطور في أسلحة القتال فقط، بل إنهم تناولوا الأسلحة والمعدات الحربية بالتحسين والتطوير حتى أدهشوا في ذلك الفرس والروم خلال سير الفتوحات الإسلامية.

قلت: ولكني سمعت بأن نبيكم سن لكم الرمي.

قال: أجل.. لقد حث رسول الله r على الرمي واهتم به.. واهتم به ورثته من بعده.. لقد حدث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول وهو على المنبر:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(لأنفال: من الآية60) ألا وإن القوة الرمي)[89].. وفي الحديث الآخر، قال r:( ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا)[90].. وفي حديث آخر، قال r:( كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل، إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله. فإنهن من الحق)[91]

وقد أشاد الرسول r بمن يجيد الرمي، فقال لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وهو يرمي بين يديه يوم أحد (ارم فداك أبي وأمي)[92].. وفي أحد أيضاً كان رسول الله r يقول لأصحابه: (نبلوا سهيلاً)، يقصد سهيل بن الأحنف ـ رضي الله عنه ـ أي اعطوه نبلكم، وذلك لدقته ومهارته في الرمي.

وقد أمر r جند المسلمين بالاستمرار في التدريب عليه، وحذر من الانقطاع فقال: (من ترك الرمي بعد ما علمه فإنما هي نعمة جحدها)[93]، وقال: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا)[94]

قلت: ولكن الرمي سوى وسيلة واحدة من وسائل الجندي.. والمعركة لا يمكن أن تتم بالرمي وحده؟

قال: الرمي هو أهم أدوات الجندي في المعركة..

قلت: ذلك في القديم.

قال: ليس في هذا قديم ولا جديد.. ألا ترى تلك القنابل التي تنزل مطرا صاعقا على الصبيان والنساء والشيوخ.. وعلى الزرع والضرع..؟

قلت: أراها.. ما بها؟

قال: إن النبي r عندما أمرنا بالرمي يشير إلى هذا.. هو يقول لنا: تعلموا الرمي والتسديد حتى لا تصيبوا بأسلحتكم إلا من واجهكم وأراد قتالكم..

بينما نحن كذلك، إذا بالمدرب يستدعي جنوده، فيذهب ذلك الجندي الذي حدثني، وأذهب معه.. بعد أن اجتمعوا قال المدرب: لقد جمعتكم لأذكركم بحديث رسول الله r:( لايشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لايدري لعل الشيطان ينزع في يده. فيقع في حفرة من النار)[95].. وفي حديث آخر قال r:( من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)[96].. وفي حديث آخر قال r:( من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك، أو ليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب - أي حتى لايصيب - أحداً من المسلمين منها بشيء)[97]

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: (نهى النبي أن يتعاطى السيف مسلولاً)[98]

روى هذه الأحاديث، ثم قال: إن النبي r في هذه الأحاديث يحث على ناحية مهمة لها ارتباط بما نحن فيه.. إن النبي r يحثنا على مراعاة احتياطات الأمن في التدريب.. فالتزموا سنة نبيكم r في هذا.. فلا أفلح من ضيع سنة نبيه.

الأخلاق:

بعد أن امتلأت إعجابا بالتداريب التي كانت تمارس في مركز التدريب سرت حيث كان يجلس محمد الفاتح.. فوجدت رجلا يرتدي بذلة الضباط يخاطب جنده قائلا[99]: أيها الجنود البواسل.. يا من نذرتم أنفسكم لحماية أمن هذه المدينة.. اسمعوني أقول لكم كلمات هي أهم لكم من كل التدرايب التي تمارسونها..

إن الإسلام دين أحيا الله به قلوبا أماتتها الشهوات، وأنقذ به عقولا سممتها الشكوك والشبهات، وأحل به من الأغلال أفكارا قيدتها الخرافات وسجنتها التخرصات، وجدع به أنوفا شمخت بها الجاهلية الجهلاء.. وهو دين ينشط الإنسان للعمل، ويحث على طلب العلم، ويدعو لاحترامه واستثماره.. وهو دين العقيدة الرائقة، التي تطهر النفس، وتزكي القلب، وتربي الخلق وتغذي العقل، وتوقف الغريزة عند حدها، وتعطي مطمح من مطامح الإنسان معناه الذاتي وسيره الطبيعي.. وهو عقيدة استعلاء.. تبعث في روح المؤمن الإحساس بالعزة من غير كبر، وروح الثقة من غير اغترار.

والإسلام بجانب هذا.. دين المسالمة مع المسالمين، والردع للمعادين.. هو نور يهدي المسالمين، وهو نار تحرق الطغاة الآثمين.. نعم هو يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لكنه إذا جد الجد كان الصخرة التي يتحطم عليها كل جبار عنيد.

ولهذا، فإنه يطلب من المسلمين أن يكونوا على حذر في وقت السلم، حتى لا يؤاخذوا على غرة.. ويدعو المسلمين إلى الاستشهاد من أجل عزة الإسلام، ولا يعدل الجهاد في سبيل الله مال، ولا ولد، ولا والد ولا عشيرة، ولا أهل.

لقد تعلمنا من المعارك التي خاضها المسلمون، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.. سواء في غزوة بدر أو القادسية، أو اليرموك، أو حطين أو عين جالوت، أو العاشر من رمضان.. أو غيرها كثير.. أن الوسائل المادية ليست وحدها هي التي تفصل في المعارك، ولا يوجد ما يصون الاستعداد العسكري إلا العقيدة؛ لأنها هي التي تربط القلوب بالله، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب..

ولو انتظر المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حتى تتكافأ قوتهم، وقوة خصومهم، ما قامت للمسلمين قائمة.. إنما القلة المؤمنة بعقيدتها.. استعدت بقدر ما استطاعت، ثم خاضت المعركة فكان فيها الفرقان..

لقد خطب عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ في جنده يشجعهم على لقاء العدو، حينما فزعوا من كثرة عَدده، وعُدده في غزوة مؤتة فقال: (يا قوم إن التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول, ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. انطلقوا, فوالله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان, ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد.. انطلقوا, فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ماوعدنا الله ورسوله, وليس لوعده خلف..وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان)

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: شهدت يوم مؤتة, فلما دنا المشركون منّا رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة، والسلاح، والكراع، والحرير، والديباج، والذهب.. فبرق بصري, فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة: كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: إنك لم تشهد بدراً معنا, إنّا لم ننتصر بالكثرة[100].

والأمثلة من واقع صفحات التاريخ الإسلامي كثيرة، وكلها تشهد لجنود الجيش الإسلامي بالصدق والإيمان، فما كانوا يرهبون الردى، يقدمون غير هيابين، ولا وجلين, لقد كان قائلهم يردد بشجاعة وحزم:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي

فلم ينظروا إلى كثرة جنود الأعداء، وحتى لو عرفوا, فما كان يحملهم ذلك على التراجع أو التردد.. وفي الوقت نفسه كان لهم من إيمانهم بالله، وثقتهم في النصر.. كان لهم من ذلك ما يدفعهم إلى الإقدام:

كنا جبالا في الجبال وربما        سرنا على موج البحار بحارا

كنا نقدم للسيوف صدورنا        لم نخش يوما غاشما جبارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا         قبل الكتائب يفتح الأمصارا

لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها  سجداتنا والأرض تقذف نارا

وكأن ظل السيف ظل حديقة       تنبت من حولنا الأزهارا

أنشد ذلك، ثم قال: من أراد منكم أن يكون وارث الجندية من رسول الله r فعليه أن يتحلى بالمبادئ العظيمة التي كان رسول الله r يأمر بها جنده.

قال جندي من الجنود: كلنا يحب أن يكون ذلك الوارث.. فما هي أخلاق جنود رسول الله؟

قال القائد: أولها الإخلاص.. فلا يكون للجندي غرض إلا طاعة الله وخدمة الحق والعدل والسلام.. إياكم أن تكونوا أدوات في يد أي ظالم أو مستبد أو طاغية.. فإن من أعان ظالما حشر معه..

لقد قال r يحث على الأخلاص في الجندية ـ وقد سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ ـ:( من قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا، فهو في سبيل الله)[101]

وفي حديث آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله r:( لا أجر له)، فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عد لرسول الله r، فلعلك لم تفهمه فقال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا قال:(لا أجر له)، فقال للرجل: عد لرسول الله r فقال: له الثالثة فقال له:( لا أجر له)[102]

وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله r:( لا شئ له)، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله r:(لا شئ له)، ثم قال: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه)[103]

قال آخر: فقهنا هذا.. فما الثاني؟

قال: التقوى.. فمن لم يتق الله في قتاله لم يزده قتاله عن الله بعدا.

قال آخر: فكيف نتقي الله في قتالنا؟

قال: لقد حدث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r ‏إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من ‏المسلمين خيراً، ثم قال:( اغزوا باسم الله، في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. ‏اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً. فإذا لقيت عدوك من ‏المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم ‏إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من ‏دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ‏وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب ‏المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من ‏الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. وإن هم أبوا فسلهم الجزية. ‏فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم ‏وقاتلهم)[104]

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي ‏رسول الله r فنهى رسول الله r ‏عن قتل النساء والصبيان[105].

وعن رجل من جهينة، أن رسول الله r قال:( لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون ‏أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا ‏يصلح لكم)[106]

وعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال: نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر، ومعه من معه من ‏المسلمين، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً، فأقبل إلى النبي r ‏فقال: يا محمد! لكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب ‏رسول الله r وقال:(يا ابن عوف اركب فرسك، ثم ‏ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة)، فاجتمعوا. ثم صلى بهم، ثم ‏قام فقال: ( أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً ‏إلا ما في القرآن! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو ‏أكثر. وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب ‏نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم)[107]

وعلى هذا الهدي سار جميع ورثة رسول الله r.. فعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال مخاطبا جنده:( ستجدون قوماً ‏زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ‏ولا صبياً ولا كبيراً هرماً)[108]

وقال زيد بن وهب: أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه:( لا تغلوا، ولا ‏تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، واتقوا الله في الفلاحين).. ومن وصاياه:( ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى ‏الزحفان، وعند شن الغارات)

قال آخر: ولكن الله تعالى أخبر عن ورثة رسول الله r أنهم أشداء على الكفار، فقال:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29)

قال: الشدة لا تعني الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة.. والشدة لا تعني التمثيل بالجثث والأشلاء.. الشدة لا تعني إلا مقاومة المحاربين والضرب على أيديهم.. فمن فعل ذلك، فقد استن بسنة رسول الله r.. ومن تعداهم إلى غيرهم، فقد استن بسنن الظلمة والمتجبرين الذين لا يرعون حرمة، ولا يحفظون حقا.

التخطيط:

أخذ محمد الفاتح بيدي، وقال: هيا بنا نسير إلى قاعة خاصة.. لولا علمي بالهدف النبيل الذي تحمله ما سمحت لك بالدخول إليها.

قلت: ما هي هذه القاعة؟

قال: هي القاعة التي يضع فيها قاعدتنا خططهم العسكرية..

قلت: هل تريد أن تطلعني على أسرار الأمن القومي لهذه المدينة؟

قال: أريد أن أعرفك فقط بأسوتنا في ذلك.. أما ما يرتبط بتفاصيل الأمن المرتبطة بهذه المدينة.. فهي من أسرار الخاصة من الذين وكلوا أنفسهم لهذا الجانب[109].. وأنا نفسي لا أطلع عليها.

 دخلنا القاعة، فرأيت طاولة كبيرة جلس فيها مجموعة رجال بزي مدني.. قال أحدهم[110]: لقد قمت بما كلفتموني به.. وقد أتيت لكم اليوم بتصوري عن المراحل التي مرت بها سياسة رسول الله r العسكرية.. وهي مراحل استنتجتها من خلال الاستقراء التام للغزوات والسرايا التي خاضها رسو الله r..

لقد وجدت أن السياسة العسكرية للرسول r تضمنت ثلاث مراحل، هي على الترتيب: مرحلة الاستمكان، ومرحلة التعرض والهجوم داخل شبه الجزيرة العربية أو (إنذار أم القرى)، ومرحلة التعرض والهجوم خارج شبه الجزيرة العربية أو (إنذار من هم حول أم القرى)

لقد استلهمت هذه المراحل من قوله تعالى:﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام:92)

قال رجل منهم: فما تقصد بمرحلة الاستمكان؟

قال: أشير بها إلى المرحلة الدفاعية التي دافع خلالها الجيش المسلم بقيادة رسول الله r عن المجتمع الإسلامي الوليد، وقد استمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات من رمضان في العام الثاني إلى ذي العقدة من العام الهجري الخامس، وقد شملت هذه المرحلة معركة بدر، التي وقعت في رمضان من العام الهجري الثاني وهي المعركة الأولى التي خاضها الجيش المسلم دفاعاً عن المجتمع الإسلامي الوليد.

وشملت معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من العام الثالث الهجري، وهي من المعارك التي اختبر الله فيها المؤمنين ليعدهم للمراحل التالية[111]..

وشملت معركة الخندق التي وقعت في شهر ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وهي آخر معارك الدفاع ومرحلة الاستمكان.

قال آخر: فما تقصد بمرحلة التعرض والهجوم داخل شبه الجزيرة العربية أو (إنذار أم القرى)؟

قال: في هذه المرحلة بدأ الجيش المسلم في التحول من الأعمال الدفاعية الثابتة إلى الأعمال الهجومية، وقد استمرت هذه المرحلة من رمضان في العام الهجري الثامن إلى شوال من نفس العام.

ومن المعارك التي شملتها هذه المرحلة معركة فتح مكة.. فهذه المعركة تعتبر درة في جبين التاريخ العسكري الإسلامي، حتى يمكننا القول أنها كانت بياناً عملياً عن أسلوب مهاجمة المدن والاستيلاء عليها بأقصى سرعة وبدون خسائر؛ حيث كان نصر الله المبين مصداقاً لقوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح:24)

ومنها معركة وادي حنين، وقد تمت بعد فتح مكة بأيام قليلة بعد أن تجمع المنافقون والكافرون في وادي حنين، وتعتبر هذه المعركة هي المعركة الوحيدة في تاريخ السياسة العسكرية التي وضعها الرسول r التي كان الجيش المسلم يتمتع فيها بالتفوق في القوات والعتاد، ومن عجب أيضاً أن الجيش المسلم تعرض للفشل في بداية المعركة، وحيث كان الدور العظيم الذي قام به القائد أثر إعادة لم شمل الجيش واستكمال المعركة، وفي ذلك يقول الله تعالى:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)﴾(التوبة)

قال آخر: فما تقصد بمرحلة التعرض والهجوم خارج شبه الجزيرة العربية؟

قال: لقد لاحظت أن رسول الله r قد أعد جيشه ودربه استعداداً لتنفيذ هذه المرحلة، وقد توفي رسول الله r قبل بدايتها.

قال آخر: هل تقصد بالتعرض والهجوم الاستعمار والتوسع؟

قال: أنا أتحدث عن رسول الله r ولست أتحدث عن نابليون أو نيرون أو هتلر.

قال الرجل: أعلم ذلك.. وذلك الذي حيرني.

قال: أقصد الحرب التحريرية.. فمن مقاصد الجهاد في الإسلام تحرير المستضعفين من نير المستكبرين.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75)

إن هذا بالضبط هو الهدف الذي قامت من أجله جميع الفتوحات الإسلامية..

قال آخر: نعلم ذلك.. وهو من البديهيات.. لقد ذكرت أن الرسول r درب جنده للقيام بالمرحلة الثالثة.. متى تم ذلك، وكيف؟

قال: لقد خطط الرسول r أن يتم التحول من مرحلة إلى أخرى في إطار موضوعي وواقعي، وحيث تم إعداد الجيش المسلم وتدريبه على الأعمال الهجومية بعد انتهاء مرحلة الاستمكان واستعداداً للمرحلة التالية من خلال معركة مؤتة، ونفس الشئ تم عند إعداد الجيش المسلم وتدريبه للانتقال للمرحلة الثالثة بعد انتهاء المرحلة الثانية من خلال معركة تبوك.

ففي معركة مؤتة تم تدريب وإعداد الجيش للتحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة التعرض.. وتم من خلالها اكتساب الجيش المسلم مهارات التحرك لمسافات طويلة وأسلوب السيطرة على هذا التحرك، وتوفير الإعاشة للقوات.. كما اكتسب الجيش المسلم خبرة عظيمة في القتال تحت ضغط العدو، وذلك عندما استشهد القادة الثلاثة وتولى القيادة خالد بن الوليد، والذي قام بتنفيذ الانسحاب النموذجي لقواته.

وهذا ما نلاحظه كذلك في معركة تبوك.. فبناء على أن الجيش المسلم سوف ينطلق في المرحلة الثالثة إلى من هم حول أم القرى، وسوف يواجه الجيش المسلم دائما تفوق الطرف الآخر، لذلك ركز الرسول r قبل انتقاله للرفيق الأعلى على موضوع استنفار القوات، وأنتم تعرفون بالطبع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، وقام المجتمع المسلم بمقاطعتهم.

ونظراً لأن الجيش المسلم خلال المرحلة الثالثة سوف يتجه شرقاً وغرباً وفي أماكن طقسها مغاير لطقس شبه الجزيرة العربية، وفي أماكن أخرى طقسها يتصف بالقسوة، فقد اختار رسول الله r أن تنفذ هذه المعركة في طقس سيءقاس، حتى أطلق على معركة تبوك: معركة العسرة.

 

***

مكثت في تلك البلدة التي آثرت أن تحكمها قوانين العدالة التي جاء بها النبي r ثلاث سنوات رأيت فيها من عجائب العدالة والرحمة ما لم أره في أي مجتمع من المجتمعات.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تغادر هذه المدينة الفاضلة؟

قال: تلك قصة طويلة قد لا يفي هذا المجلس بذكرها.

قلت: فحدثنا عن خلاصتها.

قال: لقد سخر شياطين الإنس والجن بعض من ملأ حب الدنيا قلوبهم، فراحوا يغيرون على ذلك الحكم الراشد ليحولوا منه كسروية وقيصرية، ويعيدوا للاستبداد مجده الذي قضى عليه محمد r.. وقضى عليه بعده وارثه محمد الفاتح.

قلت: ألم يحسب محمد الفاتح حسابه لهذا؟

قال: بلى.. حسب حسابه لهذا.. ولذلك لم يستطع أعداؤه أن يظفروا به.. ولعلكم ستسمعون عن قريب باسمه يعود من جديد ليحطم كرسي قيصر وكسرى، ويحل محله ذلك الحصير البسيط الذي كان يجلس عليه محمد r وهو يعلم الأجيال قوانين العدالة.

 

 

 



([1])رواه أبو داود، والترمذي.

([2]) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

([3]) رواه ابن سعد.

([4]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

([5]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن ماجة.

([6]) استفدنا الكثير من المعلومات المرتبطة بالقوانين في حياة النبي r من كتاب (الإسلام والدستور) لمؤلفه الفاضل (توفيق بن عبد العزيز السديري) من نشر: وكالة المطبوعات والبحث العلمي وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1425هـ.

([7]) انظر: تدوين الدستور الإسلامي، أبو الأعلى المودودي في كتابه، ص 21 - 76.

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) رواه أحمد، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير: وهذا إسناد جيد على شرط مسلم.

([10]) رواه أحمد وابن إسحق.

([11]) رواه ابن إسحق.

([12])تناولت هذه الوثيقة بالدراسة من الناحية السياسية الكثير من الكتب، منها: د. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد سليم العوا: النظام السياسي للدولة الإسلامية، د. منير البياتي: الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، د. عون الشريف قاسم: دبلوماسية محمد، د. أحمد حمد: الجانب السياسي في حياة الرسول.. وغيرهم.

([13]) ربعتهم: حالتهم وشأنهم، والمعنى: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.

([14])يتعاقلون: من العقل وهو الدية، المعاقل: الديات واحدتها معقلة.

([15])العاني: الأسير.

([16])المفرح: المثقل بالدين، وتروى بالجيم، وهي بنفس المعنى.

([17])الدسيعة: العظيمة، وهي في الأصل: ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، وأراد بها هنا: ما ينال عنهم من ظلم.

([18])أي يتناوبون فإذا خرجت طائفة غازية ثم عادت تكلف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها.

([19])يبيء: من البواء وهو المساواة.

([20])اعتبطه: أي قتله بلا جناية توجب القتل.

([21])يوتغ: يهلك.

([22])الحجز: المنع، وحجز عليه ماله أي حبسه، أي لا يترك ثأر جرح، وذكر ثأر الجرح لبيان أخفى أفراد القود، لبيان شدة الأمر وأنه لا يغمض عن أدنى جناية، ولا يعفي.

ويمكن أن تكون هذه الجملة كناية عن التشديد في مواد العهد، أي لا يترك شيء من مواد العهد، ولعل هذا التأكيد والتهديد، من أجل علمه r بغدر اليهود وغوائلهم وقلة مبالاتهم بعهودهم، وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين. (على بن حسين علي الأحمدي، مكاتيب الرسول، 2/ 255 - 256 )

([23]) علي أبر هذا: أي علي الرضا به.

([24])أي لا تعطى ذمة ولا عهد، والمراد بالحرمة هنا الجوار، فلا يجير الجار مستجيرا إلا بإذن مجيره.

([25])أي لا تعطى عهدا ولا ذمة، والذمة الأمان.

([26])وردت هذه الوثيقة بهذا النص المطول عن ابن إسحاق مرسلة، كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية، وابن هشام في السيرة، وابن إسحاق هو أول من أورد نص الوثيقة كاملا، وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الوثيقة في تاريخه، ويبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة، كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، كما وردت في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري.

وقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: (ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة) وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها (فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول r،  ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم؛ لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة، ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي r يعطيها توثيقاً آخر (انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/275) للعمري)

([27]) وروي أنه r آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب.

ويعتبر البلاذري (ت276هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت463هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما، وقد روى الحاكم عن ابن عمر: آخى رسول الله r بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان)، وعن ابن عباس: (آخى النبي r بين الزبير وابن مسعود)

وأنكر ابن القيم هذا، فقال: (وقد قيل إنه ـ أي النبي r ـ آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه، والثبت الأول(يعني المؤاخاة في المدينة)، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار»( زاد المعاد (2/79)

ولا نرى ما ذكره من الأدلة كافيا، فقد كان المسلمون في المدينة أيضا مستغنين بأخوة الإسلام، ولكن التنظيم كان يستدعي عقد مثل هذه الأخوة.

([28]) رواه البخاري.

([29])أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه.

([30]) رواه البخاري.

([31])يُبيء هو من البواء، أي: المساواة.

([32]) من الوثائقِ النبوية التي لا تزال محفوظة في أماكنَ متفرقةٍ من أنحاء العالم (رسالة النبي r إلى المقوقس عظيم مصر)، حيث يُروَى أن فرنسيًّا يُدعى بأرشيمليه عثر على هذه الرسالة في كنيسة مدينة أخميم في صعيد مصر سنة 1850م، وكانت ملصقةً على غلاف إنجيل قبطي قديم، ولما تبيَّن له أن هذه الرسالة تخص النبي r قدَّمها إلى السلطان عبد المجيد العثماني الذي أمر بحفظها داخل إطار ذهبي وُضع بداخل صندوق من الذهب الخالص المزخرف بأروع الزخارف.

وأبعاد هذه الرسالة المكتوبة على الرق 42.5 × 30سم وقد بلغت بعض أقسامها من الوسط، وهي محفوظةٌ في فرع الأمانات المقدسة في متحف قصر طوبقا بوسراي بإستطنبول بتركيا، وما زالت محفوظةً به حتى الآن.

ومنها (رسالة النبي r إلى هرقل إمبراطور الروم وبيزنطة)، وهذه الرسالة اشترها الشيخ زايد بن سلطان بمبلغ وصل إلى مليون جنيه إسترليني، وذلك سنة 1975م بعد أن ثبت له صحة هذه الرسالة، وقد تمَّ اكتشافُها في حوزة أميرة عربية تُقيم في لندن.

واشترك في عملية التحقيق من صحتها عددٌ كبيرٌ من العلماء والمسلمين والأوروبيين، كما استُعِين بالإمكانات المتاحة لدى المتحف البريطاني بلندن ومختبرات جامعة ليدز البريطانية، وقد استغرقت عمليةُ التحقيق من صحة الرسالة حوالي عامًا كاملاً.

وقد أسفرت عملية التحقيق عن ترجيح صحة نسبتها إلى رسول الله r، أما عن المراحل التي مرَّت بها حتى تصل إلينا فيذكر أنها كانت متوارثةً في أسرةِ هرقل، وكان منهم حكام الأندلس، وكان آخر العهد بوجودها عند أمير طليطلة (أذفونشد) ثم انقطعت أخبارُها بعد ذلك، وكان من المعتقد أنها فُقِدت بعد خروج المسلمين من الأندلس، ولكن تبيَّن أنها آلت إلى أميرةٍ عربيةٍ تقيم في لندن، وقد تمَّ نقل الوثيقة من زيوريخ حيث كانت مودعةً في خزانة خاصة بأحد البنوك هناك وبحضور الأميرة إلى خزينة أخرى بأحد بنوك لندن حيث تمَّ فحصُها ودراستُها، وهي مكتوبةٌ على رق غزال.

ومنها (رسالة النبي r إلى نجاشي الحبشة)، وقد بذل الأستاذ حميد الله جهدًا بليغًا في تحقيق نص الرسالة، واستعان في ذلك كثيرًا باكتشافات العصر الحديث، وأكد أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي r إلى النجاشي بعد صلح الحديبية، ويذكر صفي الرحمن المباركفوري في الرحيق المختوم أن هذا الكتاب ليس هو الذي بعثه النبي r إلى أصحمة، ولكنَّ النبيَّ r كتبه بعد موتِ أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم دون تحديد مَن هو اسم النجاشي.

وهذه الرسالة عثر عليها المستر دنلوب كما جاء في مجموعة الوثائق السياسية، والرسالة محفوظةٌ في الجمعية الجغرافية البريطانية، ونُشِرت في مجلة الجمعية الملكية الأسيوية سنة 1940.

ومنها (رسالة النبي r إلى أمير البحرين)، وقد عثر عليها في دمشق، وتوجد صورة منها بدار الآثار العراقية تحت رقم 8/100، وتوجد صورة منها في كتاب مكاتيب الرسول لعلي الأحمدي.

([33])من أهم الكتب التي حاولت أن تجمع الوثائق التي كتبت في عهد النبي r ما قام به الأستاذ محمد حميد الله الحيدر أبادي من جمعه لمجموعة ما تعلَّق بالنبي r من وثائقَ مكتوبةٍ، وكذلك ما يخص الخلفاء الراشدين في كتابٍ طُبِع باللغةِ الأرديةِ بعنوان (رسول أكرم كي سياسي زندكي)، والكتاب تُرجِم إلى العربية بعنوان (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)، وقد حاول الأستاذ محمد حميد الله بإخلاص جمعَ هذه الوثائق من أمهات كتب التاريخ والمتاحف، وقدَّم لنا معلوماتٍ مفيدةً يمكننا الاعتماد عليها كثيرًا.

كما أعد الباحث محمد بن عبد الله عبد القادر أطروحةَ دكتوراه تحت عنوان (مرويات الوثائق المكتوبة من النبي r وإليه: جمعًا ودراسةً)، وقد تناول في هذه الدراسة الوثائق المكتوبة من النبي r والمتعلقة بالمجتمع الإسلامي، سواءٌ كانت متعلقةً بالعهدِ المكي وما قبله أو المتعلقة بالعهد المدني، كذلك الوثائق المتعلقة بأمراءِ النبي r وعماله، وكذلك المتعلقة بإقطاعاته وإقراراته، والوثائق النبوية المتعلقة بتأمينه r للقبائلِ والأشخاص والمُدن، إلى جانب مكاتباته لكلٍّ من دولتي الفرس والروم ومناطق نفوذهما، وتعرَّضت هذه الدراسة أيضًا للوثائقِ النبويةِ المكتوبةِ المتعلقةِ بالقبائلِ العربية واليهود والنصارى، وقد حصر مكاتبات النبي r، وعدَّ منها 24 كتابًا فيما يُطلق عليه اليوم (وثائق).

([34]) تعرضنا للحديث عن هذه الغزوة وغيرها في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

([35]) أي أن تكف عنا ونكف عنها، فلا تكون بيننا عداوة.

([36]) الإسلال: السرقة الخفية، والإغلال: الخيانة.

([37]) من الوثائق أخرى التي ورد ذكرها في النصوص ما حدث به علي ـ رضي الله عنه ـ لما سئل هل عندكم من رسول الله r شيء بعد القرآن، قال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عز وجل رجلا في القرآن، أو ما في الصحيفة، فقلت: وما في الصحيفة، قال: (العقل، وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر)( رواه أحمد)

وقال على ـ رضي الله عنه ـ: ما عهد إلي رسول الله r شيئا خاصة دون الناس، إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة قال: فإذا فيها من أحدث حدثا أو أوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، قال: وإذا فيها إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة حرام ما بين حريتها، وحماها كله، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال، قال: وإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده)( رواه أحمد)

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي r كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، أن يعقلوا معاقلهم وأن يقدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين (رواه أحمد)

وقال رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ: (إن مكة إن تكن حرما فإن المدينة حرمها رسول الله r، وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني)( رواه مسلم)

وعن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في قصة قتل كعب بن الأشرف، وقال في آخر الحديث: ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا، ينتهون إلى ما فيه، فكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة. (رواه مسلم)

وعن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس: أبلغك أن رسول الله r قال: لا حلف في الإسلام؟ فقال: قد حالف رسول الله r بين قريش والأنصار في دارى.( رواه البخاري ومسلم)

([38]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بسنة النبي r في هذا في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة، فصل (استبداد)

([39]) رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.

([40]) هذه النصوص منقولة والتعليقات المرتبطة بها منقولة من (في ظلال القرآن) ببعض التصرف.

([41]) انظر: في ظلال القرآن: 7 / 452.

([42]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)

([43]) رواه الواقدي.

([44] )  رواه البخاري ومسلم.

([45] )  رواه البخاري ومسلم.

([46] )  رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: أن رجلاً قال: يا رَسُول اللَّهِ دلني على عمل يعدل الجهاد. قال:« لا أجده » ثم قال:« هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، فقال: ومن يستطيع ذلك!

([47] )  مسلم.

([48] )  رواه التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَن صحيحٌ.

([49])  رواه الطبراني في الكبير عن كعب بن عجرة.

([50])  رواه الحاكم عن اليسع بن المغيرة، واليسع بن المغيرة المخزومي المكي قال أبو حاتم: ليس بالقوي وذكره ابن حبان في الثقات. تهذيب التهذيب:11/378.

(1) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.

(2) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح، قال الحافظ المنذري: روى هذا الحديث برفع الله وبرفع الناس، وروى أيضا بنصبهما وبرفع الله وبنصب الناس وعكسه، أربع روايات.

(3) رواه أحمد ورواته ثقات والطبراني.

(1) رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه.

(2) رواه الطبراني وابن أبي الدنيا.

(3) رواه ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد لا بأس به.

(4) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له.

(5) رواه الترمذي وقال: غريب.

(1)  مسلم.

([60]) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

([61]) ابن مَرْدُويه، وقد رواه الترمذي بغير هذه الصيغة مطولا، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني، ورواه ابن حاتم وابن المنذر في تفسيره، ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره، ورواه الحاكم، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

([62]) رواه أبو داود.

([63]) رواه البخاري ومسلم.

([64]) رواه البخاري ومسلم.

([65]) الطرق الحكيمة ص 14.

([66])وردت النصوص الكثيرة الدالة على وجوب علانية الجلسات القضائية حرصا على تحقيق العدالة.. فقد كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يتخذون الأماكن البارزة مواضع لفصل الخصومات، فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقضي في السوق.. وقضي يحيى بن يعمر في الطريق.. وقضى الشعبي على باب داره.. وقال الإمام الشافعي:( أحب أن يقضي القاضي في موضع بارز للناس لا يكون دونه حجاب وأن يكون متوسطاً للمصر )

ومما يؤيد هذا المبدأ أن بعض الفقهاء استحب للقاضي أن يدعو العلماء للجلوس معه عند نظره في القضايا، وإنما استحبوا ذلك من أجل مشاورتهم، وقد ورد عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ  أنه إذا جلس في المسجد، وجاءه الخصمان قال لأحدهما: اذهب فادع علياً، وقال للأخر: اذهب فادع طلحة والزبير، ونفراً من أصحاب النبي  r، ثم يقول لهما: تكلما ثم يقبل على القوم فيقول:ما تقولون؟ فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه، وإلا نظرا فيه فيقومان وقد سلما.

وكان شريح: إذا جلس للقضاء ينادي مناد من جانبه: (يا معشر القوم اعلموا أن المظلوم ينتظر النصر، وأن الظالم ينتظر العقوبة، فتقدموا رحمكم الله)

([67]) رواه أحمد والبيهقي في السنن.

([68]) رواه أحمد والدارقطني والاربعة.

([69]) رواه أحمد.

([70]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

([71]) رواه أبو داود والبيهقي.

([72]) رواه البخاري ومسلم.

([73]) رواه أبو داود.

([74]) رواه البخاري.

([75]) رواه ابن سعد في الطبقات.

([76]) رواه الدارقطني وابن شبة في أخبار المدينة ‏ووكيع في أخبار القضاة.. وغيرهم.. وقد لقيت هذه الرسالة عناية العلماء واهتمامهم، قال ابن القيم عنه:(وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تعقله والتفقه فيه)( انظر: أعلام الموقعين 1/86)

([77]) انظر: أعلام الموقعين 1/89، وانظر المغني لابن قدامة 14/62.

([78]) انظر: المغني لابن قدامة 8 / 155.

([79]) رواه البخاري.

([80]) رواه الدارقطني.

([81]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة وغيرها.

([82]) رواه البخاري ومسلم.

([83]) السنة المطهرة بحسب ما ذكرنا من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ تدل على أهمية تقديم الوعظ قبل الحكم وتأثيرها.

([84]) ابن السماك واعظ من كبار وعاظ الإسلام، وقد كان يعظ بين يدي الحكام، وسنتحدث عنه في الرسالة التالية (النبي الهادي)

([85]) تحدثنا بتفصيل عن المعاني السامية التي تحملها هذه الآية ومثيلاتها في رسالة ( النبي المعصوم) من هذه السلسة.

([86]) رواه مسلم.

([87])انظر: (السيرة النبوية)، لأبي الحسن علي الحسني الندوي.

([88]) رواه الترمذي وغيره.

([89]) رواه مسلم وغيره.

([90]) رواه مسلم.

([91]) رواه البخاري ومسلم.

([92]) رواه البخاري ومسلم.

([93]) رواه أبو داود وغيره.

([94]) رواه أحمد ومسلم.

([95]) رواه البخاري ومسلم.

([96]) رواه مسلم.

([97]) رواه البخاري ومسلم.

([98]) رواه أبو داود والترمذي.

([99]) بعض النص المذكور هنا منقول من مقال بعنوان (من وحي القوة في الإسلام)، لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح، بتصرف.

([100]) رواه الواقدي.

([101]) رواه البخاري ومسلم.

([102]) رواه أبو داود.

([103]) رواه النسائي.

([104]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

([105]) رواه البخاري ومسلم.

([106]) رواه أبو داود.

([107]) رواه أبو داود.

([108]) رواه مالك.

([109]) أشير إلى ضرورة استقلال الناحية العسكرية في الدولة عن الناحية السياسية، وهو ما تدل عليه الأدلة الكثيرة.

([110]) انظر: مخطط السياسة العسكرية، العميد: مصطفى أحمد كمال، وهو عميد أركان حرب بالقوات المصرية.

([111]) أشرنا إلى ما تحمله غزوة أحد من معاني النصر في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.