الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي الهادي

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

أولا ـ الحكيم

1 ـ مراتب المخاطبين

الطباع:

القدرات:

التوجهات:

الأحوال:

الحاجات:

الأعراف:

 

2 ـ مراتب الخطاب

الإيمان:

1 ـ الإلهيات:

2 ـ النبوات:

3 ـ الغيبيات:

العمل:

1 ـ العبادات:

2 ـ الأخلاق:

3 ـ الشرائع:

3 ـ مراتب الأساليب

الحكمة:

الموعظة:

الحوار:

4 ـ مراتب الوسائل

العيان:

اللسان:

الإحسان:

السنان:

 

أولا ـ الحكيم

بدأت رحلتي من بلاد الهند .. تلك البلاد التي بدأ بها التاريخ .. وفيها التقيت أول حامل لمشعل من مشاعل الهداية النبوية، وهو (مشعل الحكمة) .. وفيها تعرفت على (النبي الحكيم) .. سأقص عليك القصة من البداية:

كنت أسير في مدينة نيودلهي .. وأمام مسجد من مساجدها العظيمة اسمه (نظام الدين)[1] التقيت رجلا كان الناس يطلقون عليه لقب الكاندهلوي[2] .. وقد ذكر لي أن اسمه (محمد زكريا) .. وذكر لي ـ وهو فرح فخور بذلك ـ أنه يحمل اسم نبيين كريمين، هما من أكبر الهداة إلى الله .. أما أحدهما، فقدر الله له أن ينتصر في دعوته .. وأما الثاني، فقدر الله له أن يشنق في سبيلها.

كان أول ما التقيته في مكتبة قرب (نظام الدين)، حسبته في البدء صاحب المكتبة، فقد رأيته يرتب كتبها، وينظمها باهتمام، وكأنه صاحبها.

أردت في تلك الأيام أن أنشغل بتعلم النحو، فقد رأيت أنه لا مناسبة أحسن من تلك المناسبة لتعلمه .. فطلبت منه أن يعطيني حاشية من الحواشي على الألفية، فقال لي، والابتسامة تشع من شفتيه: أتسمح لي أن أسألك سؤالا؟

قلت: سل ما بدا لك.

قال: هل أنت مبتدئ في تعلم النحو .. أم لك خبرة سابقة فيه؟

قلت: بل أنا مبتدئ .. وإن شئتُ قلتُ: أنا أجهل الناس بهذا العلم .. وقد دعتني الغربة إلى الانشغال بتعلمه.

قال: فأنصحك إذن أن تقرأ كتبا أيسر وأبسط .. ولدينا الكثير منها هنا.

قلت: لكني سمعت أن هذه الحاشية من أفضل ما كتب في النحو.

قال: الأفضل يتعدد .. فما صلح لزيد قد يضر عمرا، وما حسن لبكر قد يقبح بخالد.

قلت: لا بأس .. سأعمل بنصيحتك .. دلني على هذه الكتب التي نصحتني بها ..

سار بي قليلا في أركان المكتبة .. وفي جناح من أجنحتها كتب على لوحه (نحوُ المبتدئين)، وكتب في الدرج الذي فوقه (نحوُ المتوسطين)، وفي درج فوقهم جميعا (نحوُ المحترفين)

قلت: هذه أول مرة في حياتي أرى الكتب ترتب بهذا الأسلوب؟

قال: ليست كتب النحو وحدها هي التي رتبت بهذا الأسلوب .. لقد من الله علي، فرتبت الجميع بحسب مراتبها ..

قلت: أنت مهتم بمكتبك، وبزبائنك كثيرا؟

قال: هذه مكتبة أخ من إخواني في الله ..

قلت: فأنت تعمل عنده؟

قال: أنا أعمل عند الله .. لقد رأيت هذه الكتب لا تراعي مراتب الناس، فأردت أن أرتبها، ليتيسر على كل طالب علم أن يجد بغيته من غير عناء .. وقد طلبت من صاحب المكتبة أن أفعل هذا .. في البداية رفض .. ولكنه عندما رأى نفور الناس من مكتبته، طلب مني أن أرتبها بحسب ما ذكرت له .. وهو الآن ـ بحمد الله ـ راض عما يجنيه منها، بل يعتقد أن الترتيب الذي وضعته هو السر في إقبال الزبائن عليها.

قلت: من أنت .. لكأني بك أحد الذين أبحث عنهم؟

قال: أنا الذي أعرف للمراتب حقها .. فلا أتجاوز بها منازلها.

قلت: ففمك هو الفم الأول؟

قال: إن كانت الحكمة هي الفم الأول .. ففمي ـ بحمد الله ـ هو ذلك الفم.

قلت: لقد طلبت من صاحب هذه المكتبة أن ترتب كتبه لوجه الله .. فهل لك أن ترتب كتبي لوجه الله؟

قال: إن كنت الباحث عن الهادي .. فقد ظفرت ببغيتك عندي.

قلت: أنا ذلك الرجل ..

قال: فاصبر معي لأعلمك حكمة الحكيم الذي يضع الأمور في مراتبها، ولا يتجاوز بها منازلها.

قلت :﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً )(الكهف: من الآية69)

***

سرت معه إلى بيته .. وقد كان في غاية النظام والترتيب .. وغاية الجمال والتناسق، قلت له: أراك تهتم بالترتيب في كل شيء ..

قال: من رأى النظام البديع الذي بنى الله به أكوانه، ومن رأى الترتيبات العجيبة التي رتبها لا يملك إلا أن يجعل من حياته كلها مرآة يتجلى فيها بديع الصنع الإلهي.

قلت: البعض يعتبر ذلك وسوسة.

قال: الوسوسة في الفوضى، لا في النظام .. والوسوسة في عالم النفس، لا في العوالم المرتبطة بالله .. ونحن بحمد الله لا نتحرك حركة إلا بنية تربطنا بالله .. فلذلك نرجو من الله أن يأجرنا عليها ..

قلت: سواء كانت من الدنيا أو من الآخرة.

قال: ليس هناك دنيا ولا آخرة إلا في أعين المحجوبين .. أما الموصولون بالله، فهم عبيد لله مطلقا .. سواء كانوا في هذه الدار أو في تلك الدار.

شد انتباهي في مكتبة بيته أربعة سجلات ضخمة .. غلافها مفهرس بفهارس مختلفة، فقلت: أهذه كتب تكتبها؟

قال: بل هذه مشاريع لكتب أكتبها.

قلت: في أي مواضيع تكتب .. لا بد أنك تكتب في الشريعة؟

قال: أنا أكتب من يكتب في الشريعة .. أو من يعيش الشريعة.

قلت: لم أفهم .. ما الذي تقصد؟

قال: افتح دفترا منها، وسترى ما أكتب.

1 ـ مراتب المخاطبين

فتحت الدفتر الأول، وكان عنوانه (مراتب المخاطبين)[3] .. وقد زين غلافه بقوله تعالى:﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286) .. وفوقها كتب قوله تعالى:﴿  لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق:7)، وبينهما قوله تعالى :﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(طـه: من الآية50)

قلت: لاشك أن هذا الكتاب في فقه الدعوة .. فإني أرى لك اهتماما بهذا النوع من الفقه.

قال: افتحه .. وستعرف موضوعه ..

فتحته .. فتعجبت .. فلم أر فيه إلا جداول كثيرة ملئت بأسماء كثيرة .. وبجانب كل اسم وضعت بعض المعلومات المرتبطة به ..

قلت، وقد أصابني بعض الفزع: أنت من المخابرات إذن؟

ضحك، وقال: تستطيع أن تقول ذلك .. ولكني من المخابرات الإلهية .. لا المخابرات الأرضية.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: المخابرات الأرضية تبحث عن أمن الأرض، وأمن أهل الأرض .. ومخابرات أهل الله تبحث في أمن النفس، وأمن عالم النفس ..

قلت: وما حاجة عوالم النفس لهذه المعلومات؟

قال: ألا ترى الطبيب الحاذق الناصح الماهر كيف يسجل مرضاه .. ويسجل ما يرتبط بمرضهم من تواريخ ومن أدوية .. ونحوها؟

قلت: أجل .. رأيت بعض الأطباء يفعل ذلك؟

قال: لم؟

قلت: يفعل ذلك نصحا للمرضى .. وحتى لا يسقيهم دواء قد يصطدم مع بعض أدوائهم.

قال: وهكذا عالم النفس .. وعالم الروح .. وجميع العوالم الخفية التي يتكون منها بنيان الإنسان .. فقد يصطدم الخطاب مع بعضها مع الآخر .. وذلك قد يؤدي إلى تشنجات خطيرة لا يصبح بها الإنسان إنسانا.

قلت: فماذا فعلت حتى تتجنب هذا النوع من التشجنات؟

قال: سجلت أسماء جميع المرضى الذين رغبت في علاجهم .. ثم سجلت ما يرتبط بكل واحد منهم من طباع وعلل وحاجات مختلفة حتى أراعيها في حال خطابي لهم حتى لا أسقيهم من الشريعة ما ينفرهم عنها.

قلت: أراك وضعت أمام كل اسم ست خانات ..

قال: أجل .. فقد رأيت أن كل إنسان يختلف عن غيره في طباعه وقدراته وتوجهاته وأحواله وحاجاته، وأحيانا يكون الشخص من عائلة معينة، وتكون لهم أعراف معينة .. فلذلك صارت الخانات ستا.

قلت: من أي عالم نفس .. أو من أي عالم اجتماع .. استلهمت هذه المعاني؟

قال: من عالم العلماء، وإمام الأئمة، وهادي الهداة وحكيم الحكماء..

قلت: من؟

قال: ومن غير السراج المنير الذي أنار الله به عوالم الدين والدنيا!؟

قلت: محمد رسول الله !؟

قال: مبتدع أنا إن سرت خلف غيره .. ودني همة أنا إن اخترت لنفسي قالبا غير القالب الذي اختاره.

قلت: فحدثني عن شواهد استنانك .. فلا يمكن أن نثبت السنة إلا بالسنة.

قال: وبالقرآن .. ألم يكن خلق محمد r هو القرآن؟

قلت: بلى .. هكذا حدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ

قال: بل هكذا حدث القرآن وحدثت السنة وحدثت السيرة .. وحدث كل من شهده r وتشرف بصحبته.

الطباع:

قلت: فلنبدأ من الخانة الأولى .. ما الذي تريده بالطباع؟

قال: لقد تأملت الخلق، فرأيتهم متفاتون في طباعهم تفاوتا عجيبا، فرأيت منهم صاحب الحس المرهف، والطبع الرقيق، الذي يتأثر بالعاطفة، ويستجيب للموعظة بسهولة ويسر.. ورأيت منهم العقلاني ذا التفكير الذي لا يناسبه إلا الطرح العقلي، والاستدلالات الرياضية .. ورأيت منهم الذي يؤخذ بالترغيب.. ورأيت منهم الذي يتأثر بالترهيب.. ورأيت منهم المسالم المنصت.. ورأيت منهم المجادل العنيد.. ورأيت منهم المتعالم.. ورأيت منهم المتجاهل.. ورأيت منهم القوي.. ورأيت منهم الضعيف.

وقد رأيت من العبث ومن الفوضى أن لا ألتفت لهذه الصفات المتنافرة المتغيرة .. لأني حينذاك لن أحصد إلا الفشل .. وأكون حينذاك كمن يزرع في الأرض الجافة النباتات التي تحتاج إلى الرطوبة .. فيقتلها بالجفاف، ولا يجني غير السراب.

قلت: فالتأمل هو الذي هداك لهذا؟

قال: لقد تغذى تأملي بالقرآن الكريم .. ولولا القرآن الكريم .. ولولا تدبره ما اهتديت إلى هذا .. لقد رأيت القرآن الكريم كيف يتغلغل إلى النفس البشرية، ليوحي إليها قدرة بارئها على معرفة ما يجري داخلها ..

اسمع قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(الأنفال: 24) .. وقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ)(غافر: 19) .. وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(ق: 16)

واسمع كيف تُشعر هذه الآيات بهيمنة الله على ملكوته ؛ بالعلم والقدرة والسمع والبصر، وبمراقبة الله للعبد في كل حين، وفي كل قول وفعل .. ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير )(الأنعام:18) ..

ألا ترى كيف تختم هذه الآية باسم (الخبير) .. إن هذا الاسم يعني أن الله هو العالم بخفايا الأمور، والمطلع على دقائق الأشياء .. ولذلك يتعامل مع عباده على أساسها؟

لذلك يخبرنا الله تعالى في معرض الحديث عن أحكامه عن خبرته بأعمال خلقه، لأن العالم بذوات الخلق أعلم بأعمالهم[4]:

ففي معرض ذكر الله تعالى لجواز تزين النساء بعد انتهاء إحدادهنا، قال تعالى :﴿  وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (البقرة:234)

وهي تحمل عتابا مبطنا لمن ينكر عليهن، لأن في إنكاره تعديا على الله، فالله هو الخالق الخبير بخلقه، وهو أعلم بما في نفوسهم وبواطنهم، وله وحده لذلك الحق في الإنكار أو عدمه.

وفي معرض ذكره للصدقات قال تعالى :﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (البقرة:271)، فالله تعالى عقب على هذا السلوك الذي هو إظهار الصدقات أو إخفائها بكونه خبيرا، وكأنه يخبر من أظهر الصدقات بأن الله خبير يعلم نيته في إخراجه لها علانية ... فالعلانية لا تدل بحد ذاتها على الإخلاص أو على الرياء، ولهذا فهي تحتاج إلى خبير يميز بينهما.

ومثل هذا يقال في قوله تعالى:﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (آل عمران:153)، وقوله تعالى :﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (آل عمران:180) وغيرها من آيات القرآن الكريم.

لقد كان لي صاحب من مصر .. ولو أن أصله من الهند[5] .. كان اسمه سيد .. وقد حدثني مرة عن هذا، فقال ـ وهو يحدثني عن الأسلوب الذي تميز به القرآن المكي ـ :( كان هذا القرآن يُواجه به النفوس في مكة، ويروضها حتى تسلس قيادها، راغبة مختارة، ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة، تنوعاً عجيباً.. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية، والمؤثرات الجارفة.. وتارة يواجهها، بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس، فلا يطيق وقعها، ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارَّة الودودة، التي تهولها المشاعر، وتأنس لها القلوب..! وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب..! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة، ونصاعة، لا تدع مجالاً للتلفت عنها، ولا الجدل فيها.. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح، والأمل الندي، يهتف لها ويناجيها.. وتارة يتخلل مساربها، ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها، فترى ما يجري في داخلها رأي العين، وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها، وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها!.. ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات.. يطلع عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة  الطويلة، وذلك العلاج البطيء، ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصيّة العنيدة)[6]

قلت: أعرف طريقة القرآن الكريم في هذا .. ولكن هذا كلام الله، والله هو اللطيف الخبير، العالم بما دق وما جل .. ولا يمكن لغير الله أن يفعل هذا؟

قال: الكامل هو الذي يتأسى بربه .. ويترقى ليتخلق بما تقتضيه أسماؤه الحسنى .. وقد كان محمد r هو النموذج الأكمل لهذا التأسي وهذا الترقي.

أنت تعلم أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ من صحابة رسول الله r الكبار؟

قلت: أجل .. فقد كان من أوائل السابقين إلى الإسلام، أسلم في أول البعثة خامس خمسة، وكان رأسا في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة والاخلاص .. وكان يوازي ابن مسعود في العلم .. وقد قال فيه رسول الله r :( ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر .. من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر)[7]

قال: ومع هذا الفضل العظيم .. فقد نصحه r بأن لا يتولى الإمارة .. بل نَصَحَهُ أن لا يقترب منها ..

قلت: ذلك صحيح .. فقد حدث أبو ذرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله r: (يا أبا ذرٍ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيمٍ)[8] .. وفي رواية عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذرٍ إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) [9]

قال: فقد لاحظ رسول الله r في هذا طباع أبي ذر .. فأبو ذر صادق وزاهد .. ولكن طبعه الذي جبله الله عليه لا يسمح له بتولي الإمارة.

قلت: وعيت هذا ..

قال: فقد كان r يلاحظ الطباع في جميع ما يفعله، وما يتعامل به .. ولهذا لما رأى في خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ ما رأى من القوة، والمكر المحمود، جعله قائداً مقدماً في ذلك على من هم أفضل منه.

ولكن ذلك لم يمنعه r من أن ينكر على خالد ـ رضي الله عنه ـ خطأه في قتل بني جذيمة، قائلا له على الملأ: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)[10] .. ولم يعزله، رغم فعله هذا، لما رأى فيه من القوة على الأعداء.

ومثل ذلك لما رأى رسول الله r الزحام على تقبيل الحجر قال لعمر ـ رضي الله عنه ـ: (يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله، فهلل وكبر)[11]

ومثل ذلك لما آنس r من بعض الصحابة ـ وهو زيد بن ثابت ـ القدرة على التعلم أمره أن يتعلم السريانية[12] .

ولما رأى ـ خلاف ذلك ـ من بعض الصحابة العجز عن ذلك رخص له أن لا يقرأ سورة الفاتحة في الصلاة، بل أمره أن يقول بدلها: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)[13]

القدرات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الأولى .. فما (القدرات) التي وضعتها في الخانة الثانية؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها يختلفون كذلك ـ بل أكثر من ذلك ـ في توجيههم للقدرات والملكات التي وهبهم الله .. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)

فبعضهم صرف هذه القدرات للعلم .. وبعضهم صرفها للتجارة .. وبعضهم صرفها للسياسة .. وبعضهم للصناعة .. وهكذا ..

وليس من الحكمة أن يخاطب الجميع بنفس الأسلوب .. ليس من الحكمة أن يُدعى طلبة علم إلى علم يعلمونه ويدركونه، كأن يشرح لهم حديث جبريل في أركان الإيمان والإسلام، فربما كان المدعوون أعلم من الداعي في ذلك ..

كما أنه ليس من الحكمة أن يخاطب العامة في تفاصيل علمية، كعلم أصول الفقه، أو مصطلح الحديث، أو أنواع كلام الله عند الفِرق، أو في خلافات العلماء، أو في دقائق لغوية، فإن لهذه المسائل مقاماً غير مقام الدعوة، وغير مقام جمهور الناس.

قلت: صحيح ما ذكرت .. وقد رأيت في الواقع من يسئ التصرف في مثل هذا .. فلا يجني من تصرفه إلا الشوك والحنضل ..

قال: ولذلك كان رسول الله r حكيم الحكماء يراعي هذه النواحي في خطابه وفي تعامله:

ومما ورد في السنة من مراعاة رسول الله r لأحوال المدعويين العلمية حديث ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، وكشف عورته فيه، فقام أصحاب رسول الله r ليقعوا فيه.. لكن سيد الحكماء r أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة ..

ولذلك عالجه بما يناسب حاله .. فعالج جهله بالتعليم ..

وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، ولو كان كاشف العورة، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل ..

لذلك بدأ رسول الله r بمعالجة حاله، ونهى الصحابة أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)

 ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله r بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله r:(  اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)[14]

وقريب من هذا ما حدث به معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال:( بينا أنا أصلي مع رسول الله r إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله r فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ـ أو كما قال رسول الله r ـ قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان قال: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم، قال: قلت ومنا رجال يخطون قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)[15]

انظر .. لقد كان سلوك رسول الله r مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها :( ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)

وانظر كيف ألان ذلك التعليم الرحيم قلب الرجل، فراح يسأل رسول الله r تلك الأسئلة التي لم يتجرأ على سؤاله عنها لو أنه لم ير من رحمته ورفقه ما رأى.

وانظر في مقابل هذا كيف خاطب رسول الله r ابن عمر عندما طلق زوجته، وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله r، فتغيَّظ رسول الله r، ثم قال: (ليراجعها ثم يمسكها حتى تَطْهُر، ثم تحيض فَتَطْهُر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله)[16]

ومثل ذلك غضبه من أسامة ـ رضي الله عنه ـ لما شفع في شأن المخزومية، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله r ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله r ؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله r :( أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟)، ثم قام فاختطب، ثم قال: (إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيُمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)[17]

وجدت في بعض خانات هذا العمود كلمة (صاحب مكانة)، وأمامه كتب ملاحظة (يحتاج إلى عناية خاص)، فقلت: ما هذا؟ .. ألم تقرأ سورة عبس؟

قال: بلى .. قرأتها .. فما علاقتها بهذا؟

قلت: لقد أبدى النبي r بعض الاهتمام ببعض سادة قريش، فنهي عن ذلك.

قال: لم ينه رسول الله r عن اهتمامه بالقرشيين، وإنما نهي من التقصير في حق الأعمى.

قلت: كلا الأمرين سواء.

قال: لا .. النهي عن شيء لا يدل على النهي على غيره إلا بدليل ..

قلت: ألا يكفي في الاستدلال قوله تعالى :﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)﴾ (عبس)؟

قال: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن المستغني عن الله .. وهو يتحقق في الأغنياء كما يتحقق في الفقراء ..

قلت: ولكن كيف بدا لك أن تضع أمامه تلك الملاحظة؟

قال: هذا لم يبدو لي .. بل هي سنة رسول الله r .. بل هي سنة الأنبياء قبله جميعا .. لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم دعوة الأنبياء إلى الملأ من قومهم، وتلطفهم معهم ..

لقد ذكر الله تعالى كيف أرسل موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون، فقال:﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾ (طه) .. انظر كيف أمرهما الله تعالى بدعوة فرعون بكلام رقيق لين ‏سهل، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجح ولما في ذلك من التأثير في الإجابة ذلك ‏أن الكلام الذي فيه شدة وخشونة بادئ ذي بدء من أعظم أسباب النفرة، وعدم الاستجابة، ‏والتصلب في الكفر لا سيما إذا كان المدعو من الكبراء الذين تغلب عليهم صفة الكبر والتجبّر.

قلت: إن موقف موسى u في هذا موقف خاص .. ولا يصح القياس عليه.

قال: لا بأس .. فلنعتبره موقفا خاصا .. ولنسر نحو النبي الحكيم لنرى كيف كان يتعامل مع هذا النوع من الناس .. فالسنة لا تتلقى إلا منه ..

لقد وردت النصوص الكثيرة الدالة على حرص رسول الله r على إسلام هؤلاء .. ففي السيرة روي: اجتمع علية من أشراف قريش .. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ‏ليكلموك، فجاءهم رسول الله r سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو ‏، وكان حريصًا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.

ومما يدل على هذا موقفه r مع عتبة بن ربيعة، وهو أحد سادات قريش[18]، فقد أظهر ‏ r من العناية به والتلطف في دعوته ما جعله يعود بغير الوجه الذي جاء به.

بل كان r يبدأ بعرض الدعوة على ذوي المكانة من الأشراف والسادة، قال ابن إسحاق:( لما ‏انتهى رسول الله r إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف ‏وأشرافهم .. فدعاهم إلى الله)[19]

ثم لما عاد r إلى مكة كان لا يسمع بقادم يقدمها من ذوي المكانة والشرف إلا ‏تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده، ثم بدأ يعرض دعوته على وفود العرب في ‏موسم الحج وأسواق العرب، وكانت مناسبات هامة للالتقاء بذوي المكانة من رؤساء العرب، ‏وكان يصطحب معه أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ليعرفه بذوي ‏المكانة والشرف من هؤلاء الوفود فيبدءوهم بعرض الدعوة عليهم.

وقد بين r الحكمة في العناية بذوي المكانة بقوله:( لو آمن بي عشرة من ‏اليهود لآمن اليهود)[20] .. لقد علق ابن حجر على هذا الحديث بقوله:( والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعًا لهم)[21]

وهذا هو الأسلوب الذي انتهجه ورثته مع أمثال هذا النوع:

فمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ وهو مبعوثه r إلى المدينة ليقوم بمهمة ‏الدعوة والتعليم ـ أظهر عناية عظيمة بذوي المكانة من الأشراف والسادة في المجتمع ‏المدني، فقد استفاد من أسعد بن زرارة ـ رضي الله عنه ـ وهو من ذوي المكانة في قومه حيث ‏نزل ضيفًا عليه، وأخذ يصطحبه في جولاته الدعوية ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة ‏والشرف ليوليهم عناية خاصة في الدعوة، فحينما دخلا حائط بني عبد الأشهل، وأقبل عليهما ‏أسيد بن حضير لزجرهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير : هذا سيد قومه ‏قد جاءك، فاصدق الله فيه.

وحينما أسلم أسيد بن حضير، وانضم إلى سلك الدعوة قال لهما مبينًا مكانة سعد بن معاذ في ‏قومه: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد ‏بن معاذ .. فلما أقبل سعد قال أسعد بن زرارة لمصعب : (أي مصعب، جاءك والله سيد من ‏وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان)[22]

فكان لهذه العناية بهذين الرجلين الأثر البالغ حيث أسلم بإسلامهما جميع دور بني الأشهل.

التوجهات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثانية.. فما (التوجهات) التي وضعتها في الخانة الثالثة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، يختلفون كذلك في توجهاتهم .. فمنهم الدهريون الذين لا يؤمنون برب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا دين .. ومنهم المشركون الذين يعبدون الأصنام .. ومنهم أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله خالقاً، وبكثير من الرسل، ولكنهم يشركون بهم، أو بغيرهم، ولا يؤمنون برسالة الإسلام .. ومنهم المنافقون الذين يُظهِرون الإسلام، ويُبطِنون الكفر .. ومنهم العُصاة من المسلمين الذين غلب عليهم الفسق، وطغت عليهم المعصية، وهيمنت عليهم شهواتهم وأهواؤهم، حتى أصبحت تُلازِمهم، فلا يهتمون بدين، ولا يُفكرون بتوبة .. ومنهم المقتصدون الذين يأتون بالواجبات، ويجتنبون المحرمات، ولكنهم لا يسارعون في الخيرات، وإذا ما وقعوا في بعض الذنوب لم يصروا عليها، ويسارعون إلى التوبة .. ومنهم بعد ذلك كله الأخيار الذين أتوا بالواجبات على وجهها، وبمعظم النوافل، واجتنبوا محارم الله أو تابوا منها توبة نصوحاً .. وبين هؤلاء جميعا طبقات كثيرة لا يمكن حصرها.

فهل ترى من الحكمة أن يخاطب هؤلاء جميعا بأسلوب واحد وبمعاني واحدة؟

قلت: لا شك في أن ذلك لا يصح .. ومن فعل ذلك يكون كمن عالج مريض القلب بأدوية الزكام .. أو عالج المزكوم بأدوية أمراض القلب.

قال: ولهذا وضعت هذه المرتبة .. فلم أر من الحكمة أن أتكلم مع الدهرين عن طاعة الله، ومحبة رسوله r، والتمسك بالدين، وأحتج لهم بالآيات والأحاديث، وهم لا يؤمنون برب، ولا يقرون بدين.

ولم أر من الحكمة ولا من الشرع أن أتكلم مع أهل الكتاب عن أهمية الصلاة، أو وجوب الحجاب، أو حرمة الاختلاط، أو أحكام الطلاق، وهي من شعب الإيمان، وهم لا يُسلِّمون بالأصل.

قلت: فأين هذا في القرآن الكريم أو في حياة رسول الله r التي تستند للقرآن؟

قال: هذا كثير في القرآن .. فالقرآن الكريم يذكر اختلاف أصناف الناس .. ويذكر مدى تميزهم في توجهاتهم .. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ عن أصناف ورثة الكتاب :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)

وهو يخاطب الناس بحسب توجهاتهم .. فيخاطب الدهريين بإثبات وجود الخالق، فيقول:﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيىءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ((الطور: 35)، ويقول :﴿ هـَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ((لقمان: 11)، ويقول :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ)(الروم: 20)

ويحاجَّ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ الدهريَّ بقوله :﴿ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِى بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) (البقرة: 258)

ويخاطب المشركين بما يناسبهم في اعتقاداتهم، فيقول :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ)(العنكبوت: 61)، فألزمهم الله بمقتضى هذا الإيمان أن لا يشرك به.. لأن العبادة تصرف لخالق هذا الكون والمتصرف فيه، ولا تصرف لغيره.

وقال تعالى مخاطبا لهم :﴿ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(الأعراف: 194)

وقال :﴿ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ)(النحل: 20، 21)

وقال :﴿ وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ)(الأحقاف: 5)

ويخاطب أهل الكتاب بما يناسب معتقداتهم، فيقول :﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران: 64)، ويقول :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (النساء:171)، ويقول :﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة:75)

بل يقول لهم :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (المائدة:68)، فانظر كيف أمرهم باتباع ما يعتقدون صحته، ولم يأمرهم مباشرة باتباع القرآن، لأن اتباعهم للتوراة الصحيحة سيجعلهم ـ لا محالة ـ يؤمنون بالقرآن.

ومثل ذلك خطاب القرآن الكريم لعُصاة المسلمين، فقد خاطبهم بما يتناسب وإيمانهم، وتسليمهم لأمر ربهم، فتارة يُخاطبهم بما في قلوبهم من إيمان فيقول :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)

وتارة يُخاطبهم بالترهيب كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278)، وقوله :﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً )(البقرة: من الآية231)، وقوله :﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (النور:17)، وقوله :﴿  فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة: من الآية275)

وهكذا كان رسول الله r يتعامل مع مختلف أصناف .. فيعطي لكل شخص حقه من التوجيه والخطاب ..

فقد خاطب رسول الله r أهل الكتاب بغير ما كان يخاطب به كفار قريش .. فخاطب اليهود ـ مثلا ـ بوجوب التزامهم التوراة الصحيحة، وعدم التحريف فيها، فلو أنهم التزموها لآمنوا، ومما وري في ذلك ما حدث به ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله r، فذكروا له رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله r :( ماتجدون في التوراة؟) قالوا : نفصحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقال ماقبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك، فرفع يده فاذا آية الرجم، قالوا : صدق، فأمر بهما رسول الله r فرجما)[23]

وخاطب وفد نجران ـ وهم من المسيحيين ـ في إبراهيم u بأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ..

وكان قد كتب لهم قبل ذلك يقول :( بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران .. إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب،  أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد .. )[24]

فانظر كيف ذكر لهم الأنبياء وسماهم لهم لكونهم يؤمنون بهم ..

وهكذا في خطابه r لملوك وسلاطين العالم، فقد كان يخاطبهم بحسب توجهاتهم الدينية، ولذلك كان خطابه لكسرى المجوسي مختلفا عن خطابه للنجاشي من أهل الكتاب.

وكان r يخاطب من عصى من أصحابه بالإيمان الذي في قلوبهم، وبالتذكير بمحبة الله حتى يكون ذلك رادعا لهم ..فعن عبد الله بن مغفل ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فمر بها رجل أو مرت به فبسط يده إليها، فقالت: مه إن الله ذهب بالشرك وجاء بالاسلام فتركها وولى، وجعل ينظر إليها، حتى أصاب وجهه الحائط، فأتى النبي r، فذكر ذلك له، فقال:( أنت عبد أراد الله بك خيرا، إن الله إذا أراد بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)[25]

وكان r يفرق في خطابه لأصحابه بين من اشتد حبله في الإسلام، وبين من لا زال منهم غضا طريا فيه، فهو يدعو مثلا ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ لقيام الليل عندما يقول :( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)[26]

ويقول لعبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ :( يا عبد الله لا تكن مثل فلانٍ: كان يقوم الليل فترك قيام الليل)[27]

بينما يقبل من الأعرابي المبتدئ إسلامه الاكتفاء بالفرائض.. فعن طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله r من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله r، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله، r: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرهن ؟ قال: لا، إلا أن تطوع فقال رسول الله r: وصيام شهر رمضان قال: هل علي غيره ؟ قال: لا، إلا أن تطوع قال: وذكر له رسول الله r الزكاة فقال: هل علي غيرها ؟ قال: لا، إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال رسول الله r :( أفلح إن صدق)[28]

ومن محاسن الإشارة في هذا أن رسول الله r خاطب سراقة سراقة بن مالك الذي خرج يطارد رسول الله r، وصاحبه أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ وهما مهاجران خفية عن أعين قريش بما ناسب ما خرج من أجله ..

لقد روي أنه بينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول r وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، وصاحبه، أو يخبر عنهما .. وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد النبي r أن يكفيهما من وراءه .. في هذه اللحظة قال النبي r :( يا سراقة.. كيف بك إذا لبست سواري كسرى)[29]

انظر .. النبي r يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! ملك الملوك! .. والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد.

بينما في حادثة أخرى .. ومع عمر ـ رضي الله عنه ـ وفي موقف كان الحال فيه أفضل بكثير من حال المطاردة .. اختلف أسلوب رسول الله r في حديثه ..

لقد دخل عمر على رسول الله r، وقد أثّرت الحصير في جنبه، فبكى عمر، فقال رسول الله r :( ما يبكيك؟) فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال له رسول الله r:(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)[30]

انظر .. لقد اختلف جواب رسول الله r لسراقة اختلافاً كبيراً عن جوابه لعمر.. فالأول كان وعداً بالدنيا.. والآخر وعداً بالآخرة.. فلماذا اختلف الخطاب؟! ولماذا لم يقل لسراقة ستُسْلم وستكون لك الجنة... ولماذا لم يَقُل لعمر ستكون أميراً عظيماً، وسلطاناً مهيباً، وستملك ما تحت قدم قيصر وكسرى؟

ذلك لأن رسول الله r كان في دعوته وإجاباته مستحضراً حال المدعو الإيمانية...

فأما سراقة فلم يخرج لاحقاً رسول الله r إلا للمال، ونفسيته نفسية غير إيمانية، فهو لا يقيم وقتئذ للإيمان والجنة وزناً، فلا يناسب أن يقال له: ستكون مؤمناً، وستدخل الجنة، لأن نفسيه ـ يومئذ ـ كانت نفسا دنيوية، وقصده من اتباع النبي r كان قصداً مادياً محضا، فناسب أن يَعِدَهُ الرسول r بالمادة (سواري كسرى) التي هي مقصده الأول وقتئذ، ومعلوم عند سراقة أمانة رسول الله وصدقه.. وأنه إذا وعد وفى.

وأما عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد كان صاحب نفس مؤمنة لا تقيم للدنيا وزناً، أمام رضا الله تعالى وجنته، فناسب أن يخاطب نفس عمر بما يناسبها، فقال له:(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة)

الأحوال:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثالثة.. فما (الأحوال) التي وضعتها في الخانة الرابعة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، يختلفون كذلك ـ وبشكل كبير ـ في الأحوال التي تمر بهم .. فقد ينتقل الإنسان من الثراء الفاحش إلى الفقر المدقع .. وقد ينتقل من الصحة والعافية إلى المرض والبلاء .. وليس من الحكمة أن يخاطب في جميع الأحوال بأسلوب واحد، وبمعاني واحدة ..

ليس من الحكمة إذا كان ثمة زلزال، أو حريق .. وحصل هلع، ووقع هرع، وتكشفت النساء، واختلطن بالرجال، أن يعاب عليهن، وهن لم يقصدن ذلك، أو يقف الداعية ـ وقتئذ ـ  ليعظهن في حلال وحرام.

ومثل ذلك ما لو كان المسلمون في بلد تحت الاضطهاد، فليس من الحكمة أن يخاطبهم بما يخاطب به أهل البلاد الآمنة ..

قلت: ما ذكرته صحيح .. وهو عين الحكمة .. ولكن هل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على مراعاة هذا؟

قال: جاهل أنا إن حكمت عقلي .. وهربت من النصوص المقدسة .. إن الغنى كل الغني في النصوص المقدسة ..

ففي مراعاة هذه الناحية ورد قوله تعالى ـ مثلا ـ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:97)

انظر .. إن هذه الآية تحوي عتابا شديدا على هؤلاء المستضعفين باعتبار أنهم أطاقوا الهجرة، لكنهم لم يفعلوا .. بينما الآية التالية تستثني أصحاب الظروف الخاصة الذين قعدت بهم ظروفهم عن الهجرة، قال تعالى :﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء:98)

وقد كان r يراعي هذه الناحية .. والأمثلة كثيرة على ذلك ..

من ذلك مثلا أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ لما أسلم أمره رسول الله r أن يرجع إلى قومه قائلا له:(ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)[31]، فالنبي r في هذا الحديث أمره أن يمكث في أهله، ولا يهاجر حتى ينتصر الرسول r ويتمكّن في الأرض.

قلت: كيف ذلك مع أن الهجرة كانت فرضا .. وقد قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (لأنفال:72)

قال: لأن ظروف أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف سائر الصحابة .. فلم يكن أبو ذر من أهل مكة، ولم يكن له ناصر منهم، فيؤذونه أذى كبيرًا، فلذلك طلب منه رسول الله r ذلك.

قلت: وعيت هذا .. فاذكر لي أمثلة أخرى ..

قال: من ذلك ـ مثلا ـ أن رسول الله r مر بامرأة تبكي على ولدها، فقال:(اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي r، فأتت باب النبي r، فلم تجد عنده بَوَّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال:(إنما الصبر عند الصدمة الأولى)[32]

انظر .. لا شك أن  كلمتها (إليكَ عني) كلمة كبيرة على أحدنا، فكيف إذا قيلت لرسول الله r .. ولكن النبي r حكيم الحكماء، أدرك ما كانت المرأة عليه من حالة خاصة، فضلاً عن أنها لم تعرفه .. فاكتفى بأن أعرض عنها، بل أعرض عن تعليمها، لأنها في حال لا يُمَكّنها من القبول والفهم، فلما جاءته وكانت في نفسية غير نفسيتها الأولى، أقبل عليها الرسول r يعظها ويعلمها ولا يعاتبها.

ومثل ذلك لما نزلت الآيات بتبرئة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حادثة الإفك، قالت لها أمها: قومي فاحمدي رسول الله r، فقالت:(لا والله؛ لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل)[33]

لا شك أن هذا القول لا يتناسب، ومقام الرسول r .. ولكن النبي r سيد الحكماء أدرك حالها الخاصة، فلم يجد في نفسه عليها، بل لم يعاتبها مجرد عتاب على هذا التصرف.

ومثل ذلك ما روي أن شابا جاء إلى النبي r فقال: ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[34].

انظر كيف أدرك رسول الله r حالته الخاصة، فلقد كان يتصارع في نفس الشاب شهوة عارمة، وإيمان صادق، ولم ير الشاب ـ وقتئذ ـ حلاً لهذا الصراع، وَفَضَّاً لهذا النزاع.. إلا إذناً مؤقتاً من النبي r يتجاوز به حدود الشرع مؤقتا.. ثم يرجع إلى الشرع.

فتَقَدَّم إلى النبي r ليستأذنه بالزنى بكل صراحة، وأدرك النبي r حال الشاب، فلم يتوجه إليه بموعظة إيمانية، فضلاً عن أن يُعنِّفه أو يُوَبِّخه أو يطرده، لأن الشاب كان ممتلئاً إيماناً، ولولا ذلك لزنى دون إذن النبي r وعلمه، وما دفعه إلى الاستئذان إلا الإيمان. فراح النبي r يُذَكِّرُهُ بما في هذا العمل من مفسدة أخلاقية عظيمة.. تستبشعها الفطر السليمة، وتستقبحها النفوس العفيفة.. إذ أن المسألة ليست مسألة حرام فحسب... بل فيها مفاسد أخرى، فكأن النبي r يقول له: إذا استأذنت لك من الله... فكيف نحصل على الإذن من آباء المزني بهن، وإخوانهن، وأعمامهن، وأخوالهن.. وإذا أذنت لك بالزنى بقريبات هؤلاء.. فهل ترضى أن آذن لهم فيزنوا بقريباتك...

ولما بدأ الشاب يشعر أن لا مجال للإذن، ولا سماح بالإثم.. سارع رسول الله r إلى تثبيته بدعاء، يثلج الصدور.. ويطمئن القلوب.. ويهدئ الأنفس (اللهم اغفر ذنبه.. وطَهِّر قلبه.. وحَصِّن فَرْجَه)

قلت: ألا ترى أن قوله r :( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)[35] مما يمكن أن يدخل هذا الباب؟

قال: بورك فيك .. أجل .. فهذ الحديث يدل على أنه إذا سقط من عُرِفَ عنه التُّقى، أو الوجاهة، في زلة أن يُعفى عنه، ويُغض الطرف عن زلته .. قال الشافعي:(وذوو الهيئات الذين يقالون في عثراتهم: هم الذين ليسوا يُعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة)[36]

قلت: لقد ذكرتني بما ورد من إكرام رسول الله r عدي بن حاتم الطائي ـ رضي الله عنه ـ لما قدم إليه .. فقد قدم له وسادة إكراماً له، فهو ابن كريم مشهور[37].

وذكرتني بما ورد من النهي عن مناصحة السلطان علنا[38]، كما ورد في الحديث :( من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه، فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له)[39]

قال: الأمثلة في هذا أكثر من أن تنحصر .. وقد أشار إلى قاعدتها وقاعدة هذا الباب جميعا قوله r :( أنزلوا الناس منازلهم)[40]

الحاجات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الرابعة.. فما (الحاجات) التي وضعتها في الخانة الخامسة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، يختلفون كذلك في الحاجات التي تعرض لهم ..

وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الحاجات أثناء خطابه لهم ..

قلت: ما هذه الحاجات؟

قال: الحاجات كثيرة .. فقد يكون المخاطب مريضا يحتاج إلى العلاج .. وقد يكون جائعا محتاجا إلى طعام .. وقد يكون ظمآن .. وهكذا ..

لقد خرج رسول الله r مرة، فإذا بأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الطريق، وقد خرّ على وجهه من الجَهْد والجوع، فقال له: يا أبا هر فقال: لبيك رسول الله وسعديك، فأخذ بيده فأقامه. وعرف الذي به، فانطلق به إلى رحله، فأمر لي بعُسّ من لبن، فشرب منه، ثم قال: (عد فاشرب يا أبا هريرة)[41]

انظر .. لقد تَفَطُّن رسول الله r إلى حال أبي هريرة، وعدم تجاهل حاجته... ولذلك تعامل معه وفق ما تطلبته هذه الحاجة.

قلت: لقد ذكرتني بما ورد في الحديث أن أحد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أتى زوجته في رمضان، فسأل النبي r عن ذلك، فقال له: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا.. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين..؟ قال: لا.. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا.. قال الراوي: فمكث النبي r، فبينا نحن على ذلك أتي النبي r بِعَرَقٍ فيها تمر، فقال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي r حتى بدت أنيابه.. ثم قال: (أطعمه أهلك)[42]

انظر تقديره r لظروف المدعوين .. لقد انقلب الذنب بالنسبة لهذا الرجل ـ لصدقه ولحاله ـ نعمةً.

قال: أجل .. ومثل ذلك أن رسول الله r لما أدرك حاجة بعض أصحابه إلى الزواج نصحه به، بل ساعده عليه، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أخدم النبي r فقال يوما : يا ربيعة ! ألا تتزوج ؟ فقلت والله يا رسول الله لخدمتك أحب إلي! ثم أعاد علي بعد مرة أخرى، فقلت مثل ذلك فقلت : والله لرسول الله r أعلم بما يصلحني مني ! فلئن قال لي مرة فلأقولن : بلى يا رسول الله، فقال لي : يا ربيعة ! ألا تتزوج ؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال: إيت فلانا ـ لرجل من الأنصار ـ فليزوجوك ابنتهم فلانة، فأتيتهم فقلت : إن رسول الله r يأمركم أن تزوجوني، فقالوا : مرحبا برسول رسول الله r! لا يذهب رسول رسول الله r إلا بحاجته، فزوجوني ولم يسألوني بينة، فأتيت رسول الله r وأنا كئيب، فقال : ما لك يا ربيعة ؟ قلت: يا رسول الله ! أتيت قوما كراما، فزوجوني ولم يسألوني بينة وليس عندي ما أصدق، فقال رسول الله r: اجمعوا له وزن نواة من ذهب، فجمعوا لي وزن نواتين من ذهب فأتيتهم به، فقبلوا وقالوا : كثير طيب، فأتيت رسول الله r وأنا كئيب، فقال : ما لك يا ربيعة ! فقلت: يا رسول الله! أتيت قوما كراما فقبلوا وقالوا : كثير طيب، وليس عندي ما أولم، فقال : اجمعوا له في ثمن كبش، فجمعوا لي في ثمن كبش، وأرسل رسول الله r إلى أهله، فأتى بمكتل فيه شعير فأتيتهم به، فقالوا: أما الكبش فاكفوناه أنتم، وأما الشعير فنحن نكفيكموه، ففعلوا ذلك، وأصبحت فدعوت رسول الله r وأصحابه[43].

قلت: ومثل ذلك أن النبي r كان ينصح بزواج البكر .. ولكن لما أتاه من يحتاج إلا الزواج من الثيب أقره عليه .. فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r قال له :( هل نكحت؟) قلت : نعم , قال : (أبكرا أم ثيبا؟) قلت : ثيب , قال: (فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك)[44], قلت : يا رسول الله قتل أبي يوم أحد وترك تسع بنات، فكرهت أن أجمع إليهن خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، قال: (أصبت)[45]

قال: ومثل ذلك أن النبي r كان يأمر الأئمة أن يخففوا من الصلاة، معللاً ذلك بقوله :( أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلّى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة)[46]

قلت: لقد فهمت .. إن النبي r في كل هذه الأحاديث يراعي الحاجات المختلفة، ويتعامل مع أصحابه على أساسها.

قال: صدقت .. فغنى الفقير، وزواجَ الأعزب، وشِبَعَ الجائع، مطلبٌ عظيم، وحاجة ملحةٌ، لا ينبغي للحكيم الداعية إلى الله أن يغفل عنها.

الأعراف:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الخامسة.. فما (الأعراف) التي وضعتها في الخانة السادسة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، ويختلفون في الحاجات التي تعرض لهم، يختلفون كذلك في الأعراف التي تؤمن بها البيئات التي نشأوا فيها .. بل تذعن لها.

وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الأعراف أثناء خطابه لهم ..

قلت: ولكن الأعراف قد تكون أعراف سوء .. والداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله r مكلف بتطهير البيئات منها لا بإقرارها ..

قال: لقد وضعت في هذه الخانة ثلاثة أنواع من الأعراف .. وكلها مما يحتاج الحكيم للتعرف عليه، ومعاملة المخاطبين على أساسه.

قلت: فما النوع الأول؟

قال: ما ذكرت من العادات السيئة والأعراف القبيحة ..

قلت: فما العمل مع هذا النوع من الأعراف .. هل يقرهم الحكيم عليه؟

قال: لا .. الحكيم لا يقر حراما ..

قلت: إذن هو يسعى لتغييره.

قال: بما تقتضيه الحكمة .. لا بما يقتضيه الطيش.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: الحكيم يتعامل مع مثل هذه الأدواء مثلما يتعامل الجراح الماهر مع ما يريد استئصاله من الأدواء .. فهو يتلمس لذلك كل سبل الحكمة .. بينما الطائش لا يبالي بما يفعل، وقد يقتل المريض بطيشه.

قلت: فهل يمكن أن تضرب لي أمثلة عن هذا النوع من الأعراف؟

قال: إن في بلادنا أعرافا كثيرة متوارثة .. ولها تحكم في الكثير من الناس .. لعلها من بقايا الوثنية .. ولم أر من الحكمة أن نستعجل بالإنكار عليها .. بل رأيت أن الأولى هو تقديم القناعات الكافية التي تجعل أصحاب هذا النوع من الأعراف يقلعون عنها من غير شعور.

قلت: أليس السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز؟

قال: لكل حاجة وقتها ومرتبتها .. ولا يصح أن نخترق المراحل .. أو نبدل الأوقات ..

قلت: فهل لذلك دليل من السنة؟

قال: أدلة ذلك لا تحصى .. لقد جاء النبي r إلى بيئة كانت ممتلئة بالعادات القبيحة .. أخبرني كيف كانت عقود الزواج في تلك البيئة التي جاءها النبي r؟

قلت: لقد كانت عقود الزواج فيها أكثرها عقود سفاح .. فقد ورد أن الزواج كان عندهم على أنواع[47]: منها نكاح الاستبضاع، وهو أن يعجب الرجل نجابة رجل آخر ونبله وتقدمه فيأمر من تكون له من حرة أو أمة أن تبيح نفسها له، فإذا حملت منه رجع هو إلى وطئها حرصا على نجابة الولد .. ومنها أن تكون المرأة لا زوج لها، فيعاشرها الجماعة من الرجال منفردين أو مجتمعين، فإذا استمر بها حمل دعتهم، وقالت لأحدهم: هذا منك، فيلزمه ذلك ويلحق به ولا يمكنه الامتناع منه .. ومنها زواج البغايا، اللاتي كن يجعلن الرايات على مواضعهن فمن رأى تلك الراية علم أنه موضع بغي فيتكرر عليها بذلك من شاء الله من الناس حتى إذا استمر بها حملها قالت لبعضهم : هو منك , فيلحق به .. ومنها ـ بعد ذلك ـ الزواج الصحيح الذي أقره الإسلام.

وكان من عادات بعض العرب في الجاهلية ـ والتي وردت به الروايات الكثيرة في أسباب النزول ـ أنه إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها، وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت دون تزويج، حتى تفتدي نفسها بشيء .

وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه، فمنعها من الناس، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة، فإن كانت جميلة تزوجها ؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، أو تفتدي نفسها منه بمال، فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه!

وكان بعضهم يطلق المرأة، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد ؛ حتى تفتدي نفسها منه، بما كان أعطاها كله أو بعضه.

وكانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبا فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى تشيب أو تموت فيرثها وإن هي انفلتت فأتت أهلها قبل أن يلقى عليها ثوبا نجت.

وكان الرجل منهم تكون عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لما لها فيمسكها  ولا   يقربها حتى تفتدى منه بمالها أو تموت فيرث مالها.

وكان الرجل منهم تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، حتى يكبر ابنه الصغير ليتزوجها، ويأخذ مالها[48].

قال: فهل رأيت النبي r من خلال ما ورد في السيرة .. أو من خلال ما ورد في القرآن المكي يتحدث عن هذه القضايا، ويركز عليها، ويجعلها محط اهتمامه؟

قلت: لا .. ولولا أن المحدثين ذكروها في أسباب نزول بعض آيات المدنية ما عرفنا ذلك.

قال: لقد كان النبي r حكيما في تعامله مع البيئة التي كلف بإصلاحها .. لقد بدأ بالمحرك الذي يتحرك من خلاله كل سلوك إنساني، فأصلحه .. فلما أصلحه صلح الإنسان جميعا ..

قلت: فما النوع الثاني؟

قال: على عكس هذا .. عادات طيبة متوارثة .. كالكرم والمروءة، وإغاثة الملهوف، والتعاون في حاجات المجتمع، وما شابه ذلك.

قلت: لقد كفى هؤلاء شرهم .. فما حاجتهم للحكيم؟

قال: الحكيم هو الذي يعتني ببذور الخير الموجودة في هذه النفوس والمجتمعات ليخرج منها الثمار اليانعة الطيبة.

قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى هذه ؟

قال: أجل .. فنحن بحمد الله لا نستقي إلا من بحار النصوص المقدسة.

قلت: فاذكر لي أمثلة على ذلك.

قال: من أمثلة ذلك أن القرآن الكريم أثنى على بعض العادات الطيبة عند أهل الكتاب، فقال ـ مثلا ـ :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:75) .. فهذه الآية تثني على الوفاء عند بعض من أهل الكتاب .. ولم يمنع كفرهم من الثناء عليهم.

قلت: وعيت هذا .. فهل ورد في السنة ما يشير إليه؟

قال: لقد ورد في الحديث أن النبي r أثنى على بعض أفعال الجاهلية، ومن ذلك ثناؤه على التحالف الذي كانوا يفعلونه على عمل الصالحات، كحلف المطيَّبين[49]، وحلف الفَضول[50]، فقال r :( شهدت حلف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَمِ، وأني أنكثه)[51]

قلت: فما النوع الثالث؟

قال: بين هذا وذاك .. عادات سكت عنها الشرع، فلم يحرمها ولم يوجبها .. وقد ترك الشرع هذه المساحة عفوا ..

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل ما اعتاده الناس في أطعمتهم وألبستهم وولائمهم وأفراحهم، وأدويتهم، وطرق بنائهم، وما شابه ذلك ..

قلت: وما حاجة الحكيم لهذا؟

قال: ألا تعرف المثل الذي يقول (إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم)؟

قلت: بلى .. أعرفه ..

قال: فالحكيم هو الذي يطبقه مع مخاطبيه .. فهو يراعي أعرافهم ويحترمها ليكون ذلك سببا في إقبالهم عليه، وانفعالهم له.

قلت: فهل لذلك أمثلة؟

قال: بل ترك النبي r لذلك قاعدة لها تحكم في كثير من فروع الأحكام .. لقد قال r في هذا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)[52]

2 ـ مراتب الخطاب

وضعت الدفتر الأول في محله، ثم فتحت الدفتر الثاني، وكان عنوانه (مراتب الخطاب) .. وقد زين غلافه بقوله تعالى:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)،وتحتها قوله تعالى :﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189)

قلت: أهذا الدفتر ـ مثل الذي سبقه ـ وضعته لأسماء من تريد أن تخاطبهم؟

قال: لا .. لقد وضعت في هذا الدفتر المعاني التي أريد أن أخاطب بها من أرى نفسي ملزما بدعوتهم إلى الله.

قلت: الدعوة تشمل الإسلام جميعا بجميع ما ورد فيه من تفاصيل ..

قال: والحكيم هو الذي يضع تفاصيل أحكام الإسلام في مراتبها الصحيحة .. فلا يتجاوز مرتبة قبل أن يحكم التي قبلها.

قلت: لم أفهم.

قال: بم وصى رسول الله r معاذا ‏حين بعثه إلى اليمن؟

قلت: لقد قال له:( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه ‏شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله ‏قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم ‏أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)[53]

قال: ألا ترى كيف رتب r المواضيع التي أراد من معاذا أن يدعو إليها؟

قلت: ذلك صحيح ..

قال: أرأيت لو أن معاذا خلط هذا الترتيب .. فبدأ بالزكاة .. كيف سيتصوره الناس حينها؟

قلت: سيرونه جابيا أو لصا.

قال: فلهذا أمره رسول الله r أن يعمق الإيمان في قلوبهم أولا، فإن هم آمنوا أمرهم بالصلاة التي هي عبادة محضة .. فإن هم فعلوا، وزينت قلوبهم بحلاوة العبادة أمرهم حينها بالزكاة والصدقات.

قلت: نعم .. هذا ما تقتضيه الحكمة .. وأحفظ في هذا حديثا آخر قريب مما ذكرته، وهو ما حدث به بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله r ‏إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من ‏المسلمين خيراً، ثم قال:( اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله . ‏اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، فإذا لقيت عدوك من ‏المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم ‏إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من ‏دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ‏وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب ‏المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من ‏الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، وإن هم أبوا فسلهم الجزية، ‏فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم ‏وقاتلهم .. )[54]

قال: إن حياة النبي r كلها كانت مخططة بهذه الطريقة .. فلم يكن r يتحرك حركة إلا بحسب ما يمليه عليه ظرفها.

الإيمان:

فتحت الدفتر، وكان أول عبارة قابلتني فيه (الإيمان قبل العمل)، فسألته عنها، فقال: لقد تأملت ما ورد في النصوص حول مرتبتي الإيمان والعمل .. فوجدتها جميعا تنص على تقديم الإيمان على العمل .. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ :﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) (النساء:39) .. فقد قدم الله في هذه الآية الإيمان على النفقات ..

قلت: أحفظ من ذلك الكثير .. فقد قدم الله تعالى الإيمان على الجهاد في قوله تعالى:﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86)، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)

وقدمه على أدب الاستئذان في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:62)

وقدمه على النفقات في قوله تعالى :﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد:7)

قال: وهكذا .. لقد وجدت القرآن في كل المناسبات يرتب الإيمان قبل العمل، فهو يخاطب المؤمنين بالتكاليف بحسب ما عندهم من الإيمان، فيقول ـ مثلا ـ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، ويقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208)، ويقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:254)

فهذا النداء المرتبط بالإيمان كأنه يقول للمخاطبين: ما دمتم قد تحققتم بالإيمان، وامتلأتم به، فإن ذلك يفرض عليكم أن تلتزموا بالسلوك الذي يقتضيه الإيمان.

وهكذا في تعليل أسباب دخول الكفار إلى جهنم، فقد قيد الإيمان على العمل، فقال تعالى:﴿ إنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)(الحاقة)

قلت: صدقت .. بل إن القرآن يحدد الإيمان كشرط لإمكانية التحقق بالعمل، كما قال تعالى ـ مثلا ـ :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232) .. فكأن الله تعالى يقول في هذه الآية: إن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه لن يتأثر بموعظة، ولن يستجيب لطلب .. ويكون حاله في ذلك كحال الكافرين في قولهم لأنبيائهم :﴿ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ)(الشعراء: 136)

ومثل ذلك ما ورد في السنة كقوله r :( من كان يؤمن باله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت)[55]، وقوله r :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت)[56]، وقوله r :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليصمت) [57]

فقد اعتبر r في هذه الأحاديث الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس الذي تنبني عليه تلك المكارم التي حض عليها.

قال: ولهذا .. فإن النبي r مكث في قومه ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى الإيمان، ويُربِّيهم عليه، دون أن يتعرض لمعظم الأحكام، أو ينهى عن معظم المحرمات .. مع أنه كان من أصحابه في ذلك الوقت من يمارس ما عُدّ بعد ذلك من الكبائر، كالخمر، والميسر وما شابه ذلك، ولم ينههم عنها r.

لقد حدث أبو أمامة قال: قلت لعمرو بن عبسة: بأي شئ تدعي أنك ربع الإسلام ؟ قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على غير شئ، وأنهم ليسوا بشئ وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله r مستخفيا جراء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت ؟ قال: نبي، قلت: وما نبي ؟ قال: أرسلني الله، قلت: بأي شئ أرسلك ؟ قال: أرسلني بصلة الرحم وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به، فقلت: من معك على هذا ؟ قال: حر وعبد، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال[58].

قلت: أجل .. فمن المشهور أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بعد ثلاث سنوات خَلَوْنَ من هجرته r إلى المدينة.

قال: ولذلك كان لذلك النهي تأثيره الكبير الذي لم يكن ليحدث لو لم تفرش تلك الأرضية الصحيحة من الإيمان ..

قلت: لقد ذكر أنس ـ رضي الله عنه ـ تأثير ذلك النهي في الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فقال: كان لنا خمر غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضِيخ[59]، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وماذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلاس يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل[60].

قال: وهكذا استقبل النساء الأمر بالحجاب ..

قلت: أجل .. لقد حدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ)( النور: 31)، شققن مُرُوطَهُنَّ[61] فاختمرن بها)[62]

قال: ذكرتني بعائشة ـ رضي الله عنها ـ لقد كانت فقيهة من فقهاء هذا الباب، كما كانت فقيهة في غيره .. لقد قالت: إنما نزل أول مانزل منه (أي القرآن) سورة من الُمفصَّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد r وإني لجارية ألعب :﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر:46)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده[63].

قلت: ومثلها في هذا الفقه ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فإنه لما رأى إعراض الناس عن الأحكام، وعدم العمل بالقرآن ـ رغم حفظهم له ـ علَّلَ ذلك بمخالفة هذه القاعدة، وأن الأحكام سبقت عند هؤلاء الإيمان، فلم يعملوا بالأحكام حق العمل، فقال رضي الله عنه:(لقد عشنا بُرْهةً من دهرنا، وأحدُنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد r فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرَهَا وزَاجِرَها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تَعَلَّمُونَ أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يُؤتى أحدُهُم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحتِهِ إلى خاتمتِهِ، ما يَدْرِي ما آمِرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثُرُه نَثْرَ الدَّقَلِ)[64]

قال: أتدري ما الثمرة التي ينالها من قدم الدعوة إلى العمل على الإيمان؟

قلت: هو لن ينال أي ثمرة .. فيستحيل على من لم يؤمن أن يخضع للتكاليف.

قال: الأصل هو ما قلت .. ولكنه بنوع من الهمة والاجتهاد قد ينال بعض الثمار .. ولكنها ثمار مرة سامة .. لقد عبر الله عن تلك الثمار، فقال :﴿ إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسالىََ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هـَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً )( النساء: 142-143)

قلت: تقصد النفاق؟

قال: هكذا سماه القرآن .. فالمنافق هو الذي يتحرك بالحركات الظاهرة .. ولكن باطنه المقصود بتلك الحركات خاو منها .. ولهذا ذكر الله تعالى أنهم يقومون كسالى لأداء أوامر ربهم، ثم هم لا يقصدون بأدائها إلا الرياء والسمعة.

قلت: فهمت سر الرياء .. فما سر الكسل؟

قال: أرأيت لو أن الكسول النائم المستحلي لنومه عرض في السرير الذي ينام عليه حريق.. هل تراه يبقى نائما، أم تراه يسرع فارا بنشاط وحيوية؟

قلت: بل أراه يسرع فارا بنشاط وحيوية.

قال: لم؟

قلت: إن ما يراه من نار تريد أن تلتهمه يجعله يطير من غير جناحين.

قال: فإن لم ير النار في تلك الحال، ولكن ثقة أخبره بأن حريقا سينزل بتلك الدار على تلك الساعة التي ينام فيها .. أتراه يظل نائما؟

قلت: لا .. فالأمر في الحالين سواء.

قال: فالإيمان هو الذي جعله يتحرك إذن بذلك النشاط .. فلولا الإيمان ما حدثت حركة جادة في الوجود كله .. لا في عالم الإنسان وحده.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُواْ رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(البقرة: 45-46)، فالله تعالى يخبرنا ـ في هاتين الآيتين ـ أن أداء الصلاة شاق على الذين لا يؤمنون بها، ولا يخشعون فيها، وذلك لفقدان الإيمان بالعبادة المؤداة.

قال: قارن بين هذا وبين قوله r :( وجُعلت قرّة عيني في الصلاة)[65]

قلت: وقد كان r يقول لبلال ـ إذا حان وقت الصلاة ـ:(أرحنا بها يا بلال)[66]

قال: وفوق هذا كله فإن الدعوة إلى الإيمان قبل الدعوة للأحكام نوع من مضيعة الوقت .. ذلك أن الإيمان شرطٌ لقبول العمل، فلا يصح عمل بلا إيمان، كما قال تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ)(الأنبياء: 94)

قلت: ولأجل هذا كان رسول الله r يذكر بالإيمان في كل مناسبة، كقوله r:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)[67]، وقوله ـ للرجل الذي قال له: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ :( قل آمنت بالله، ثم استقم)[68]

لقد أشار القرآن الكريم إلى معنى هذا الحديث، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)( فصلت : 30 -31)

1 ـ الإلهيات:

رأيت مراتب كثيرة تحت (الإيمان) .. وهي مرتبة بمراتب مختلفة، فقلت: ما هذه المراتب .. أحسب الإيمان شيئا واحدا، فكيف عددت مراتبه؟

قال: في قضايا الإيمان أصول وفروع .. وليس من الحكمة أن أبدأ بالفروع قبل الأصول .. وفي الإيمان متفق عليه ومختلف فيه .. وليس من الحكمة أن أبدأ بالمختلف فيه قبل المتفق عليه.

قلت: ألم تقوله تأصيل شرعي، أم هو مجرد اجتهاد؟

قال: ما كان لعقلي أن يجتهد في أمر خطير كهذا .. إن هذا ما تدل عليه النصوص الصريحة القطعية .. فالله تعالى رتب مراتب الإيمان وأصوله فقال :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ( (البقرة: من الآية177)، وقال :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( (البقرة:285)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً( (النساء:136)

وذكر r الأركان الأساسية للإيمان، فقال :( الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره )[69]

قلت: ألهذا وضعت الإلهيات قبل النبوات، ووضعت النبوات قبل السمعيات؟

قال: أجل .. فلا يمكن أن ندعو إلى النبوة قبل أن نعرف بالله .. إن تعريف (رسول الله) لا يستقيم إلا بعد التعريف بالله .. والإيمان بالغيبيات لا يستقيم قبل إثبات النبوات.

قلت: الواو في اللغة لا تفيد الترتيب .. فكيف فهمت أنت منها الترتيب؟

قال: أنا أعلم أن كلام الله مفصل تفصيلا عجيبا .. فلذلك لا يقدم ولا يؤخر إلا لغرض.. وقد قال r مشيرا إلى هذا :( أبدأ بما بدأ الله به)[70]

بالإضافة إلى أني وجدت أن الدعوة للإيمان بالله وتوحيده هي أساس دعوة الرسل ـ عليهم السلام ـ، كما قال تعالى :﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(الزخرف:45)، وقال تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الانبياء:25)

وقد ذكر الله تعالى عن كل من الرسل ـ عليهم السلام ـ أنهم افتتحوا دعوتهم بتوحيد الله، قال تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( (لأعراف: من الآية59)، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ( (لأعراف:65)، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( (لأعراف: من الآية73)، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( (لأعراف: من الآية85) 

ولهذا كان التوحيد هو أول ما يُدخل به إلى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال r :(  من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )[71]

ولهذا كان من سنة رسول الله r التأذين في أذن المولود، ليكون أول ما يسمعه توحيد الله، وقد كانت أم سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول r ـ ورضي الله عنهم ـ أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل : لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه : لا تفسدي على ابني فتقول : إني لا أفسده[72].

قلت: أراك وضعت قائمة بأسماء الله الحسنى، ومراتبها ..

قال: أجل .. إن أسماء الله الحسنى هي المعارف التي أذن الله فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، وهي لذلك من الأهمية بحيث لا يمكن مقارنتها بأي معرفة من المعارف الأخرى، لأن كل ما في الكون أثر من آثار أسماء الله.

وهي لذلك أبواب علاقتنا بالله، لأن لكل اسم من أسماء الله دلالته الخاصة التي تتطلب عبوديته الخاصة.

ولهذا أمرنا الله تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، مستشفعين بها إليه، ومتوسطين بها لديه، كما قال تعالى :﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( (الأعراف: من الآية180)

قلت: صدقت في هذا .. فالدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، وقد أشار ابن عقيل إلى سر الصلة بين الدعاء وأسماء الله الحسنى، فقال:( قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ : أحدها : الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى، الثاني : الغنى، فإن الفقير لا يُدعى، الثالث : السمع، فإن الأصم لا يُدعى، الرابع : الكرم، فإن البخيل لا يُدعى، الخامس : الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى، السادس : القدرة، فإن العاجز لا يُدعى)

قال: وهكذا لو ذهبنا نعد مع ابن عقيل ـ رحمه الله ـ لوجدنا أن أسماء الله تعالى تقتضي رفع أيدينا إليه بالسؤال، بل إفراده في هذا الرفع .. ولهذا نرى امتزاج أدعيته r بأسماء الله ..

قلت: أجل .. ومما أحفظه من ذلك أن رسول الله r كان جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال النبي r:( لقد دعا الله باسمه العظيم)[73]

وأخبر r أن دعاء يوشع بن نون الذي دعا به ربه به فحبست له الشمس بإذن الله كان :( اللهم إني أسألك باسمك الزكي الطهر الطاهر المطهر المقدس المبارك المخزون المكنون المكتوب على سرادق المجد وسرادق الحمد وسرادق القدرة وسرادق السلطان وسرادق السر إني أدعوك يا رب بأن لك الحمد لا إله لا أنت النور البار الرحمن الرحيم الصادق عالم الغيب والشهادة بديع السموات والأرض ونورهن وقيمهن ذو الجلال والإكرام حنان منان جبار نور دائم قدوس حي لا يموت )[74]

وقد علم r من أصابه هم أو حزن أن يقول :( اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي )[75]، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال :( فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا )

وعلم رسول الله r عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تقول إذا وافقت ليلة القدر :( قولى: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى )[76]

قال: إن تأثير الدعوة إلى هذه الأسماء ليس مقتصرا على الدعاء فقط .. بل إن لها تأثيرا تربويا عظيما .. إنها تغير الإنسان كله.

قلت: لقد ذكرتني بقول العز بن عبد السلام :( فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من : الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات )[77]

ويقول مفصلا أسباب ذلك:( ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر )

ومثله يبين ابن القيم .. فقد ذكر تأثير أسماء الله الحسنى في كل عبادة من العبادات الظاهرة والباطنة، بل يجعل كل العبادات أثر من آثار المعرفة بأسماء الله الحسنى، فيقول:( لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني : من موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح )[78]

ثم يذكر الأمثلة الموضحة لذلك، فيقول :( فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة : يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوزام التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور : يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء ... وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة، هي موجباتها .. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات )  

ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى في الوقاية من الأمراض القلبية، كالحسد، والكبر، اللذين هما منبع كل أمراض القلوب، فيقول :( لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال،   لم يتكبر ولم يحسد أحداً عى ما آتاه الله ؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله ؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)[79] 

ويبين أثر التبعد بأسماء الله تعالى وصفاته في الوقوف الصلب أما المحن والبلايا، فيقول :( من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيما يحب )[80]، ويقول :( فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض :) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً( (الاسراء:5)

وقد اهتم الغزالي في كتابه الجليل (المقصد الأسنى) بالبعد التربوي لأسماء الله الحسنى، فكان يذكر عند نهاية شرح كل اسم حظ العبد السلوكي منه، فهو يعتبر ولكل صفة من صفات الله تعالى أو اسم من أسمائه أثره الخاص به، والذي لا يمكن للإنسان الحصول عليه إذا لم يستولي على قلبه معنى ذلك الاسم او تلك الصفة، وهو معنى الإحصاء الذي ورد في قوله r :( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة )[81]

قلت: لم أرك تذكر في هذا الباب ما يطنب الكثير في الدعوة إليه من ..

قال: دعنا من لغوهم .. فلسنا أعرف بالله من رسول الله r ..

قلت: ولكنهم يقتبسون ما يذكرونه من رسول الله r ..

قال: بم أمر الله نبيه r أن ينبئ عباده؟

قلت: لقد قال له :﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)(الحجر)

قال: فهل في أسماء الله الحسنى (ذو الساق .. وذو اليد .. )؟

قلت: لا .. ولا ينبغي أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه .. ولكنهم يعتبرون ذلك صفات ولا يعتبرونه أسماء.

قال: فأين كلمة (صفات الله) في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله r ..

قلت: لا أحفظ نصا في ذلك.

قال: ولا يوجد نص في ذلك .. إن المعرفة التي طولبنا بها هي معرفة الله بأسمائه الحسنى .. أما ما عداها .. فعقولنا أعجز من أن تحيط به أو تدركه .. ولذلك نفوض لله علم ما لا نعلم، ولا نشغل عقول العوام الغارقة في التشبيه في مثله.

2 ـ النبوات:

رأيته في المرتبة الكبرى الثانية من مراتب الإيمان يضع النبوات .. فسألته عنها، فقال: إن النبوات هي العنصر الثاني من الأركان الأساسية للإيمان، ولذلك امتلأت آيات القرآن الكريم بالثناء عليهم وذكر قصصهم وأحوالهم لتملأ القلوب محبة لهم وإجلالا، وتشحن الطاقات قدوة وسلوكا، فيعيش المؤمن في صحبتهم، ويترفع من خلالها إلى الآفاق العليا من الكمال الإنساني.

قال: ولذلك كان رسول الله r يحبب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إلى أصحابه، ويقص عليهم قصصهم .. بل يصف لهم أحيانا صورهم لتقريب ما يصفه القرآن الكريم من أحوالهم، قال r :(  رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا فابراهيم قال انظروا إلى صاحبكم )[82]، وقال r :( رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأي)

قال: لقد كان رسول الله r يعلم التأثير التربوي العظيم الذي يحمله الإيمان بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ .. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( (الأنعام: من الآية90)

قلت: لقد ظللت دهرا أبحث عن سر هذا .. فالنبي r في منتهى الكمال، فكيف يؤمر بالاقتداء بالأنبياء ـ عليهم الصلاة ـ .. أيؤمر الفاضل بالاقتداء بالمفضول؟

قال: ليس في هذا الباب فاضل ولا مفضول .. فالسلوك الطيب يمثل معناه ولا يمثل شخص من سلكه .. فسلوك الكرم الذي اشتهر به حاتم كان داعية للكرم ولم يكن داعية لحاتم.

قلت: فلم لم يكتف بالأمر بالمعاني، بل رأينا الله تعالى يأمرنا بالاقتداء بمن تلبس بها؟

قال: ذلك يرجع إلى أن المعارف تظل أرواحا مجردة قد لا تجد من يلتفت إليها حتى تجد الأجساد الطاهرة التي تمثلها، فتخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع.

وكمثال على ذلك تمثيل الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لدور التجرد والإخلاص في التعامل مع الله، وهذا ما تبرهن عليه خطبهم لأقوامهم في القرآن الكريم، والتي يحرص القرآن الكريم على ذكرها وتكرارها لتصبح في محل نظر المقتدي، فلا يتيه بالحوادث عن مواضع القدوة، قال تعالى على ألسنتهم:) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ( (هود:51)

ولهذا أمر رسول الله r أن يردد أقوالهم، اقتداء بهم فقال ':) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً( (الفرقان:57)

ولهذا كان r يستحضر مواقف الأنبياء ليعيد إحياءها من جديد، فكان يستحضر في المواقف المختلفة ما حصل لإخوانه من الأنبياء، عن عبد اللّه بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قسم رسول اللّه r ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه، قال، فقلت: يا عدو اللّه أما لأخبرن رسول اللّه r بما قلت، فذكرت ذلك للنبي r فاحمر وجهه ثم قال :( رحمة اللّه على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )[83]

وفي موقف آخر قال r :( أقول كما قال أخي يوسف :) لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ( (يوسف: من الآية92))[84]

وقد استدل ابن عباس t بهذا على مشروعية سجدة سورة ص، فعن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ :)  وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَان( (الأنعام: من الآية84)، ) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ( (الأنعام: من الآية90)؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم r أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فسجدها رسول اللّه r )[85]

قلت: لقد ذكرتني بقول جميل لابن القيم يدعو فيه إلى الاقتداء بالأنبياء في جدهم في طريق الله، فيقول :( يا مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح اسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب )[86]

قال: بورك فيه .. فنعم ما قال.

قلت: إن بعضهم لا يذكر الأنبياء إلا ويذكر معهم من الخطايا ما يندى له الجبين.

قال: أولئك حجب .. فلا تلتفت للحجب ..

قلت: كيف تقول هذا .. وهذا قد ذكر في كتب التفسير والحديث .. بل اعتبر الكلام فيه من الكتاب والسنة.

قال: ذلك دين كعب الأحبار ووهب بن منبه .. لا دين محمد r .. فمن رغب في دين محمد r فعليه أن يصفي عقله وقلبه وروحه وسره من كل تأثير غير التأثير الذي دعاه إليه نبيه r .

3 ـ الغيبيات:

قلت: أرك وضعت الإيمان بعوالم الغيب[87] في المرتبة الأخيرة ..

قال: أجل .. لأنه لا يمكنك أن تدعو للإيمان بالملائكة قبل أن تدعو لله ولرسول الله.

قلت: وعيت أنه لا يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لله .. ولكن لم لم يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لرسل الله؟

قال: لأنه لولا رسل الله ما عرفنا الملائكة .. إن العلماء يسمون هذا الباب من العقائد (السمعيات) .. ذلك أنه يكتفى فيها بالأدلة المعصومة، ويعزل العقل عن البت فيها بقول أو بدليل إلا دليل الإمكان.

قلت: أجل .. وقد قال تعالى بعد ذكر كثر من الأخبار والقصص :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ( (آل عمران:44)، وقال :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ( (هود:49)، وقال :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ( (يوسف:102)، وقال:﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض( (الكهف: من الآية26)

قال: ولهذا الإيمان تأثيره النفسي والتربوي الكبير على الإنسان .. إنه ينقله من عالم البهيمية الذي تلقيه فيه غرائزه وأهواؤه إلى عالم الإنسانية الرفيع ..

قلت: لقد ذكرتني بسيد، فقد قال:( والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود )[88]

ويرد على المفكرين المعاصرين الذين يتصورون الإيمان بعوالم الغيب نوعا من الهروب عن الواقع، فيقول :( لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة:  الذين يؤمنون بالغيب  والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين ! )[89]

قال: صدق سيد وبورك فيه .. لقد كان صديقا عزيزا.

قلت: إن بعض الناس يمزجون الحديث بعالم الغيب بقصص هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق[90]؟

قال: عالم الغيب هو العالم الذي وردت النصوص المعصومة بالإخبار عنه، أما ما عداه فعالم خرافة.

قلت: ولكن تفاصيله مبثوثة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه؟

قال: كتبة تلك الكتب بشر .. يخطئون ويصيبون .. فخذ بصوابهم، واحذر من خطئهم.

قلت: فكيف أميز صوابهم من خطئهم؟

قال: ما جاءك من المعصوم، فهو معصوم .. وما جاءك من غيره، فخذ منه ودع.

قلت: فما آخذ، وما أدع؟

قال: ما دل عليه العقل .. فخذه .. وما لم يدل عليه، فدعه.

قلت: أأقدم عقلي على دين الله.

قال: لقد خلق الله لنا العقول لنميز بها الطيب من الخبيث والحق من الباطل، ولم يخلقها لنا لنودعها سجون الإهمال.

العمل:

بعد أن انتهيت من سرد مراتب الإيمان على الكاندهلوي وشرحها لي .. وجدت مرتبة العمل، فسألته عنها، فقال: إذا باشر الإيمان القلب هان عليك أن تكلفه التكاليف .. بل إن المدعو نفسه هو الذي يرغب إليك في أن تعمله ما كلفه به ربه .. فيؤديه عن طواعية ومحبة.

1 ـ العبادات:

رأيته وضع في المرتبة الأولى (العبادات) .. فسألته عنها، فقال: إن أول ما يبدأ به الداعية إلى الله في تقريب العباد إلى الله هو الدعوة إلى عبادة الله .. فإنه لا يثبت الإيمان في القلوب كالعبادات ..

قلت: والسلوك!؟

قال: كما أن الإيمان يمهد للعبادة .. فإن العبادة تمهد للسلوك .. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت:45)، وقال :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة:103)

وقال r: (صوم ثلاثة أيام من الشهر تذهب وحر الصدر[91])[92]

وقال :( الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ مابين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)[93]

قلت: تعلمت أن أبدأ الدعوة للإيمان من الإيمان بالله، فمن أين أبدأ الدعوة للعبادات؟

قال: بم أمرنا رسول الله r أن نبدأ .. فقد علمنا سيد الحكماء كيف نرتب الأمور في مراتبها، وكيف لا نعدو بها منازلها .. لقد حدث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)[94]

وما ذكره r هو ما تدل عليه النصوص الكثيرة الدالة على أن أول ما بدأ به رسول الله r تربية أصحابه هو تربيتهم على إقامة الصلاة .. ومن ذلك ما ورد في سورة المزمل ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ـ من الأمر بالصلاة، ومن الإخبار بحرص رسول الله r الصحابة عليها، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل:20)

وقد وردت الأحاديث الدالة على ما كان يبذله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من جهد لتحقيق هذا الأمر الإلهي، فعن سعيد بن هشام أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله r ؟ قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك، ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله r قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله r كان القرآن، فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله r قلت : يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله r قالت : ألست تقرأ هذه السورة :﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (المزمل:1)؟ قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام رسول الله r وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهراً، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة [95].

وقد استمر رسول الله r إلى آخر حياته يهتم بالصلاة باعتبارها أولى الأولويات، فعن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعت رسول الله r على إقام الصلاة، وإيتاء ‏الزكاة، والنصح لكل مسلم[96].

قلت: لقد ذكرتني بابن حجر، فقد قال مبينًا البدء بالصلاة بعد التوحيد:( وكان ‏النبي r أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ‏ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس) [97] 

2 ـ الأخلاق:

بعد مرتبة (العبادات) وجدت مرتبة (الأخلاق)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله لن يصعب عليك أن تدعوه لمكارم الأخلاق..

قلت: لم .. ولم لم نبدأ بالدعوة لمكارم الأخلاق؟

قال: إن الأخلاق بجميع فروعها تستدعي قوة إيمانية عالية .. لأنها تستدعي ثبات داعي الحق أمام داعي الهوى .. ولا يمكن لداعي الهوى أن يدحر ويهزم إلا إذا قاومه داعي الإيمان.

قلت: ولكني أرى على البعض ـ رغم عدم تدينه ـ من الأخلاق ما ليس للمتدينين؟

قال: صدقت .. هناك من فطر على كثير من الأخلاق الطيبة، أو ربي عليها، وقد قال r في هذا لبعض أصحابه ـ وهو أشج عبد القيس ـ:(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)[98].. ومثل ذلك أخبر r عن معادن الناس، فقال:(تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ)[99]

قلت: إن هذه النصوص تقضي على ما ذكرت من الدعوة للأخلاق .. فالأخلاق شيء فطري لا يحتاج إلى التكلف للدعوة إليها؟

قال: إن قولك هذا يشبه قول من يقول: إن الصحة شيء فطري .. ولا حاجة للأطباء .. أترى هذا القول مستقيما؟

قلت: لا .. فقد يمرض الصحيح، وقد يصح المريض.

قال: فكذلك الأخلاق .. فقد ينحرف صاحب الخلق الطيب، وقد يعتدل صاحب الخلق الخبيث ..

قلت: فما الذي يرجح الطيبة أو الخبث؟

قال: الدعوة .. الدعوة إلى السلوك الطيب تنشر الطيبة .. والدعوة إلى السلوك الخبيث تنشر الخبث ..

قلت: أهذه سنة رسول الله r ؟

قال: أجل .. بل إن النبي r أخبر أن من أساسيات دعوته الدعوة إلى مكارم الأخلاق، فقال :(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[100] ..

وكان يربي أصحابه على هذا .. فهو r يعرف البر ـ الذي هو جامع خصال الخير ـ بأنه حسن الخلق، فعن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال: سألت رسول الله r عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)[101]

وبما أن كل مؤمن يود أن يثقل ميزان حسناته يوم القيامة، فقد أخبر r أنه (ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي[102])[103]

وبما أن كل مؤمن يود أن يدخل الجنة، فقد أخبر r عن دور الخلق الحسن في ذلك .. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سئل رسول الله r عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج[104].

وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أقرب الناس إلى رسول الله r، فقد أخبر r عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال :( إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)[105]

وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أكمل المؤمنين إيماناً، فقد أخبر r عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال:( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)[106]

وكان r يصحح النظرة القاصرة التي تحصر الدين في العبادة المجردة، دون أن تجعل له أي علاقة بالأخلاق .. فكان يقول :( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)[107]

وفي حديث آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رجل يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال :( هي في النار)، قال: يا رسول الله فإن فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال :( هي في الجنة)[108]

قلت: أعرف ما ورد في النصوص المقدسة من فضائل الخلق الحسن، وأنا لا أسألك عنه الآن، ولا أجادلك فيه .. ولكني أسألك عن مراتب الخطاب .. فكيف عرفت أن الدعوة للأخلاق مرتبة من المراتب السابقة؟

قال: لا شك أنك تعرف حديث جعفر ـ رضي الله عنه ـ مع النجاشي.

قلت: أجل .. كيف لا أعرف تلك الخطبة الجليلة التي هي من أعظم خطب الدعوة للإسلام.

قال: فماذا قال جعفر للنجاشي؟

قلت: لقد قال له :( : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصناما ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام) .. فعدد عليه أمور الإسلام، ثم قال: (وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى: فعبدنا الله تعالى وحده ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا إلا نظلم عندك إيها الملك)[109]

قال: بورك في قراءتك للخطبة جميعا، فكلها تبين أهمية الخلق ومدى تأثيره .. ففيها أن خلق النبي r هو الذي جذب القلوب إليه .. وفيها أن النبي r كان يدعو إلى الأخلاق .. وفيها أن أساس اختيار النبي r الحبشة لهجرة أصحابه هو ما كان ينعم به ملكها من حسن الخلق.

قلت: إن هذا يتجلى ـ أيضا ـ في حديث أبي سفيان مع هرقل .. ففيه قول أبي سفيان ـ بعد أن سأله هرقل قائلا: فما ‏يأمركم ـ :( يأمرنا بالصلاة والصدقة، والعفاف والصلة)[110].. فانظر كيف رتب العفاف والصلة على الصلاة والصدقة.

3 ـ الشرائع:

بعد مرتبة (الأخلاق) وجدت مرتبة (الشرائع)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله، ثم ملأته بالحنين للقيم الرفيعة والأخلاق النبيلة، لن يصعب عليه أن يتلقى الشرائع الإلهية .. بل إنه سيتلقاها بطيبة نفس ورحابة صدر.

قلت: فما سر ذلك؟

قال: لأن الشرائع هي التنفيذ العملي لما تتطلبه الأخلاق الكريمة .. ولذلك نحتاج إلى التوعية بقيمة الأخلاق قبل الدعوة للتنفيذ العملي لها.

قلت: اضرب لي مثالا يقرب هذا.

قال: سنة النبي r في دعوته إلى الله كلها تدل على هذا وتمثل له.. سأضرب لك مثالا عن شريعة مهمة وخطيرة من شرائع الإسلام، وهي شريعة (تحريم الخمر)، وهي الشريعة التي لم يطق أي دين من الأديان ولا قانون من القوانين تنفيذها .. ألا تعرف حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ فيما يرتبط بها؟

قلت: أجل لقد روي أنه لما نزل تحريم الخمر قال: (اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا)، فنزلت هذه الآية التي في البقرة :﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )(البقرة: من الآية219)، فدُعي عمر فقرئتْ عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النساء :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )(النساء: من الآية43)، فكان منادي رسول الله r إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(المائدة: 91)؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا[111].

قال: فما تفهم من هذا الحديث؟

قلت: هذا الحديث يذكره العلماء في موافقات عمر ـ رضي الله عنه ـ لكتاب الله.

قال: ليس عمر ـ رضي الله عنه ـ فقط هو الذي وافق كتاب الله ..

قاطعته قائلا بغضب: كيف تقول هذا .. هذه منقبة خاصة بعمر ـ رضي الله عنه ـ؟

قال: منقبة فرد لا تلغي منقبة الجمع .. واعتبارها مجرد منقبة يلغي الاستفادة منها.

قلت: ما تعني .. أو بالأحرى ماذا تفهم أنت من الحديث؟

قال: أفهم أمرا عمليا أعظم من مجرد ذكر الحديث في باب المناقب.

قلت: شوقتني .. فما هو؟

قال: لقد بث رسول الله r عن طريق الدعوة إلى الأخلاق الحسنة وعيا عاما بضرورة وضع التشريعات التي تحمي الأخلاق، وتحفظها، وتؤسس لها .. ولذلك صار المخاطبون هم الذين يطالبون بالتشريعات .. لا التشريعات هي التي تريد أن تفرض نفسها على المخاطبين.

قلت: ألا تضرب لي مثالا يقرب لي هذا؟

قال: أرأيت لو أن مدرسا أراد أن يضيف ساعات دراسة لتلاميذه مع إعطاء الحرية لهم في الحضور وعدمه .. هل تراهم سيحضرون؟

قلت: أما تلاميذ هذا الجيل .. فلا شك أنهم يتمردون عليه.

قال: ولو أنه قدم لذلك بما يملأهم رغبة في العلم وحبا له.

قلت: حينها سيطالبون هم بالساعات الإضافية.

قال: فهكذا يفعل الحكيم .. فهو لا يهجم على الناس بالتشريعات .. بل يدع واقعهم الإيماني والأخلاقي هو الذي يطلب تلك التشريعات.

قلت: لقد ذكرتني بموقف آخر لعمر ـ رضي الله عنه ـ يدرج في باب موافقاته يمكن أن يدرج في هذا المحل أيضا.

قال: تقصد موقفه من الحجاب؟

قلت: أجل .. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إن أزواج رسول الله r كُنّ يخرجن .. وكان عمر يقول لرسول الله r: (احجب نساءك)، فلم يكن رسول الله r ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله r، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: (قد عرفناك يا سودة)، حرْصًا أن ينزل الحجاب، قالت: فأنزل الله الحجاب[112].

قال: لقد ملأ النبي r أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بحب العفاف والحرص عليه، فلذلك صاروا يطالبون بالشرائع التي تساعد على تحقيق هذا الخلق الرفيع في المجتمع.

قلت: لقد وضع الإسلام منظومة كاملة من الشرائع التي تحقق هذا الخلق في المجتمع.

قال: ولولا أنه قدم لها بتلك المقدمات الطويلة من الوعي لما استطاع أن يفرض تلك الشرائع، ولا أن يجد النفوس المستعدة لتنفيذها.

قلت: إن بعض قومي يركزون في دعوتهم للدين على الدعوة للشرائع .. ولا أراهم يبدأون إلا بالحدود .. حتى توهم البعض أن الإسلام لم يأت إلا ليقطع ويجلد ويرجم ..

قال: أولئك جهلة منفرون .. إن مثلهم مثل من وصف طبيبا حكيما، فقال من غير مقدمات تبين مهنته: هذا رجل لا هم له إلا إسالة دماء من يقصده، وتقطيع أوصالهم .. فهل ترى أحدا من الناس سيقبل عليه؟

 قلت: وكيف يقبلون عليه، وقد نفروا منه .. بل خوفوا منه؟

قال: ولو قال لهم: هذا طبيب خبير يستأصل الأدواء، وينعم الله على من يصحبه بالشفاء.. وهو إن اضطر إلى إسالة الدماء، فإنه لا يسيلها إلا ليداوي بها العلل، ويبرئ بها من الأسقام.

قلت: حينذاك سيقبل الجميع عليه .. بل يتوددون له حتى يطهرهم.

قال: وهذا ما فعله رسول الله r .. لقد بث من الوعي الإيمان والأخلاقي في المجتمع ما جعل المجتمع هو الذي يطالب بتطهيره وإقامة الشرائع عليه.

قلت: صدقت .. وقد قرأت قصة ماعز والغامدية في هذا ..

قال: وهي قصة لا يمكن أن تتحقق إلا في تلك البيئة الطيبة التي رباها رسول الله r أو رباها ورثته من بعده.

قلت: وعيت كل ما ذكرته في مراتب الخطاب، ولكن اعتراضا يفرض نفسه ..

قاطعني، وقال: تقصد قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3)؟

قلت: أجل .. فإن ما ذكرته قد يصلح مع من عاش الإسلام في مراحله الأولى .. أما نحن الآن فلسنا في العهد المكي .. ولذلك قد ينهار كل ما ذكرته من مراتب.

قال: لا أقصد بما ذكرته لك أني أريد إعادة إحياء العهد المكي بحروفه وسنواته، فإن ذلك لم يقل به أحد من الناس، ولكني أقصد بأن الأسلوب الذي تعامل به رسول الله r مع من دعاهم سواء في المرحلة المكية أو المدنية كله يدل على هذا ..

سأذكر لك نصين قد يقربان لك هذا، ويفتحان لك من الآفاق في هذا الباب ما كان منغلقا:

أما أولهما .. فما ورد في حديث وفد ثقيف، فعن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي r أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي r بعد ذلك يقول:(سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا)[113]

أما الحديث الثاني، فما حدث به نصر بن عاصم عن رجل منهم: أنه أتى النبي r، فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين فقبل ذلك منه[114].

فالنبي r في كلا الحديثين تنازل ـ في الظاهر ـ عن بعض الأحكام، ولكنه في الحقيقة يعلم أن من التزم ببعض أحكام الشريعة التزاما صادقا سيؤدي به ذلك على التزام سائر أحكامها.. فالشريعة سلسلة من سلاسل الرحمة يؤدي بعضها إلى بعض لا محالة.

قلت: إن ما ذكرته من الحديثين عظيم .. فهل يمكن القياس عليه؟

قال: قس عليه ما تشاء .. واعلم أن الموت على المعصية خير من الموت على الكفر.

قلت: صدقت .. لطالما كنت أحلم بنص يدلني على هذا .. فأنا ـ أحيانا ـ تأتيني المرأة الحريصة على الإسلام .. ولكنه لا يحول بينها وبين دعوتها إليه إلا ترددها في الحجاب، فهي لا تحب أن تتخلى على ما تعودته من زينة .. وأنا أخشى أن أعرض لها الإسلام من دون حجاب، فأكون كمن أنقص من شرائع الإسلام ما لم يؤذن له بإنقاصه.

قال: فإذا لقيت مثل هذه المرأة .. فلا تحدثها عن الحجاب .. ولا عن أي شريعة قد تحجبها عن ربها .. فإن حلاوة الإيمان وحدها كافية لتجعلها تأتيك ـ بعد ذلك ـ لتسألك عن أحكام شريعة ربها .. بل لعلها تأتيك، وفي قلبها من الورع ما لم يكن يخطر على بالك.

3 ـ مراتب الأساليب

وضعت الدفتر الثاني في محله، ثم فتحت الدفتر الثالث، وكان عنوانه (مراتب الأساليب) .. وقد زين غلافه بقوله تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)

قلت: أهذا كتاب نحو، أم كتاب بلاغة؟

قال: هو كتاب نحو وكتاب بلاغة .. فهو يبحث في الأساليب .. والأساليب تحتاج إلى كلا العلمين.

فتحت الدفتر، فلم أجد فيه لا نحوا ولا بلاغة، فقلت: أتسخر مني .. وإنت إمام؟

قال: لم أسخر .. أنا لم أقل لك إلا الحقيقة .. أليس النحو هو التعرف على مراتب الكلمات، فلا توضع إلا في محالها الصحيحة؟

أليس اللحن في النحو هو خلط تلك المراتب، بنصب الفاعل أو رفع المفعول .. فتختلط المراتب؟

قلت: بلى .. ما تقوله صحيح ..

قال: فمن خلط في كلامه لمن يريد أن يدعوهم بأن رفع ما ينبغي أن ينصب، أو نصب ما ينبغي أن يرفع كان لاحنا .. واللحن في هذا أخطر من اللحن في النحو؟

قلت: ذلك صحيح .. فكيف ذكرت أنه يبحث في البلاغة؟

قال: أليست البلاغة هي أن يكون الكلام متناسبا مع موضوعه، فلا يتحدث في الرثاء بأسلوب التهنئة؟

قلت: بلى .. ذلك صحيح ..

قال: فلهذا كان هذا الدفتر دفترا لنحو الدعاة وبلاغتهم.

ابتسمت، وقلت: لقد عرفت كيف تتخلص.

قال: من العلوم الضرورية للدعاة أن يعرفوا كيف يتخلصوا .. وإلا فسيكونون حجابا لا دعاة.

قلت: التخلص يحتاج إلى الحيلة .. والمسلم أشرف من أن ينزل إلى حضيض الاحتيال.

قال: حيلة أهل الحق ليست بالكذب ولا التزوير .. إنها حيلة تحاول أن تتسلل إلى القلوب لتطهرها من رجسها وتدلها على ربها .. وهي لا تجد لذلك من سبيل إلا الصدق .. فلا يمكن أن تكون النجاة في غيره.

الحكمة:

فتحت الدفتر، فوجدت أول كلمة فيه (الحكمة)، فقلت: أليست كل هذه الدفاتر تبحث في الحكمة؟

قال: بلى ..

قلت: فكيف يتحول الكل جزءا؟

قال: الحكمة نوعان: حكمة في المنهج .. وهي الكل الذي تنضم حوله كل ما رأيته من أجزاء .. وحكمة في الأسلوب .. وهو ما وضعت مراتبه هنا.

قلت: فما دليلك عليه؟

قال: الآية التي أذنت لي في أن أبحث في هذا ..

قلت: الآية التي زينت بها مدخل الكتاب؟

قال: كتاب الله أعظم من أن نختصره في التزيين .. إن كل آية من كتاب الله بحر من بحار العلم  .. ولا خير في علم لم يزين مدخله بكلام ربه.

قلت: فما الفرق بين هذه الأساليب الثلاث؟

قال: من خلال اطلاعي على علاقة المخاطبين بالحقائق وجدت ثلاثة أصناف كبرى، تنطوي تحتها أصناف كثيرة .. وقد وجدت أن هذه الآية الكريمة تعلمنا الأسلوب الذي نخاطب به هؤلاء الثلاثة.

قلت: فما أول هذه الأصناف، وبم يخاطبون؟

قال: أولهم هم أهل البحث عن الحقائق، والاستعداد لتقبلها، وهم من غلبوا عقولهم على نفوسهم .. وهؤلاء يخاطبون بأسلوب (الحكمة) التي هي عرض الحقائق مع براهينها الدالة عليها.

قلت: وما الصنف الثاني، وبم يخاطبون؟

قال: هم من أصحاب النفوس التي تمتلئ رغبة ورهبة ..

قلت: إن هؤلاء محجوبون بنفوسهم عن عقولهم، فكيف يمكنك خطابهم، وبينك وبين عقولهم تلك الحجب الكثيفة؟

قال: بالموعظة التي دلنا عليها ربنا .. فالموعظة هي التي يمكن التسلل من خلالها إلى العقول والقلوب والأرواح وجميع اللطائف.

قلت: وما الصنف الثالث، وبم يخاطبون؟

قال: هم أصحاب عقول، وأصحاب نفوس .. فهم لم يتمحضوا لعقولهم، ولم يتمحضوا لنفوسهم ..

قلت: إن خطاب مثل هؤلاء صعب.

قال: لقد أرشدنا الله إلى استعمال الجدال الحسن مع هؤلاء ..

قلت: لم؟

قال: لنميز خطاب النفس من خطاب العقل، ولنتسلل من خلال ذلك إلى خطاب العقل والروح والسر وكل لطائف الإنسان.

قلت: أترى انحصار الطوائف في هذا؟

قال: أجل .. لقد استقرأت كل طوائف الناس، ونوع الأسلوب الذي يتناسب معهم، فوجدت أن الآية تعلمنا كيف نخاطبهم جميعا[115].

قلت: فحدثني عن الأسلوب الأول.

قال: هذا الأسلوب هو أصل الأساليب، ومبدؤها، ولا مندوحة للداعية إلى الله من تحصيل العلوم الموصلة إليه.

قلت: أيحتاج هذا الأسلوب إلى علوم؟

قال: أجل .. كل أسلوب من الأساليب يحتاج علوما خاصة به.

قلت: فما الذي يحتاجه هذا الأسلوب من علوم؟

قال: يختلف ذلك باختلاف من تريد أن تخاطبهم .. فإن كنت تريد أن تخاطب فيلسوفا بالحكمة، فعليك أن تكون عارفا بفلسفته، ومنهج تفكيره لتتسلل إليه من خلاله.

وإن كنت تخاطب رجل دين .. أي دين .. فعليك أن تكون مطلعا على دينه، وعلى المنهج العقلي الذي ارتضاه لنفسه لتخاطبه من خلاله .. وهكذا .. فالحكمة أن تخاطب العقول بما تفهم .. وأن تنطلق من البديهيات والمسلمات إلى ما لم يسلم لك، وما لم يقبل منك.

قلت: إن الحكمة بذلك تحتاج قدرات كبيرة.

قال: أجل .. ولهذا، فإن الله تعالى أثنى على الحكمة وأهلها ثناء عظيما في القرآن[116] .. قال تعالى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( (البقرة:269)[117]

وقد اعتبر القرآن الكريم الحكمة نوعا من أنواع النعم التي من الله بها على عباده المؤمنين، فقال تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( (البقرة: من الآية231)

وهو يخبره عن فضله على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بإعطائهم الحكمة، قال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ( (آل عمران: من الآية81)، وقال:﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً( (النساء:54)، وقال :﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ( (البقرة: من الآية251)، وقال :﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ( (آل عمران:48)، وقال :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ( (صّ:20)، وقال :﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ( (الزخرف:63) 

وهو يمن على رسول الله r بأن الله أنزل عليه الحكمة، فقال :﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً( (النساء: من الآية113)، وقال :﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً( (الاسراء:39)

قلت: فهل في سنة رسول الله r ما يدل على هذا الأسلوب؟

قال: سنة رسول الله r كلها تدل على هذا الأسلوب حتى أن من الناس من سمى السنة (حكمة) مستنبطا ذلك من قوله تعالى :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151) وغيرها من الآيات[118].

قلت: فاذكر لي مثالا يقرب لي هذا.

قال: سأذكر لك أمثلة على ذلك .. ولعلك تلتقي من ورثة رسول الله r من يزودك بالكثير من الأمثلة على هذا[119].

لقد حدث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن ضمادًا قدم مكة وكان من ‏أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمدا مجنون، ‏فقال : لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال : يا محمد : إني أرقي ‏من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك ؟ فقال رسول r:( ‏إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..)، قال : فقال أعد كلماتك ‏هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله r ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد ‏بلغن قاموس[120]البحر، قال : فقال : هات يدك أبايعك على الإسلام، قال : فبايعه، فقال ‏رسول الله r :(وعلى قومك)، قال: وعلى قومي[121].

انظر هذا الرجل الفاضل كيف اكتفى من رسول الله r بتلك الكلمات الممتلئة بفيوضات الحكمة .. اكتفى بها من غير جدل، ولا مراء، ولا خصومة .. وقد عرف النبي r ما تنطوي عليه نفسه من خير، فلذلك بايعه على أن يدعو قومه لله.

لقد كان أكثر السابقين للإسلام من هذا النوع ..

فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وبقية العشرة المبشرين بالجنة كانوا من الحكماء الذين استعمل معهم رسول الله r هذا النوع من الأساليب .. حدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله ‏r ـ وكان له صديقاً في الجاهلية ـ فلقيه فقال: يا أبا القاسم، فُقدْتَ من ‏مجالس قومك واتَّهموك بالعيب لآبائها وأُمهاتها، فقال رسول الله r:( إني رسول الله ‏أدعوك إلى الله)، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله r وما ‏بين الأخشَبَيْن أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر؛ مضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن ‏عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة ‏بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سَلَمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا ـ رضي ‏الله عنهم ـ[122].

وذكر ابن إسحاق أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لقي رسول الله r فقال: أحقٌ ‏ما تقول قريش يا محمد من تَرْكِ آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله r:( بلى، إنِّي رسول الله ونبيُّه، بعثني لأُبلِّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق فوالله إنه للحق، ‏أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته)، وقرأ عليه القرآن، ‏فلم يقرَّ ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو ‏مؤمن مصدِّق.

وقد شهد رسول الله r بهذا لأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، فقال:( ما دعوتُ أحداً إلى الإِسلام إِلا كانت عنده كَبْوة وتردّد ونظر ‏إلا أبا بكر، ما عَكَم[123] عنه حين ذكرته ولا تردد فيه)[124]

وهكذا ما ورد في دعوة رسول الله r لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، ففي حديث ثَوْبان ـ رضي الله عنه ـ: وأخذ ‏رسول الله r بضَبْعَيه وهزه وقال: (ما الذي تريد؟ وما الذي جئت؟) فقال له عمر: ‏اعرض عليَّ الذي تدعو إليه، فقال: (تشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ‏ورسوله)، فأسلم عمر مكانه وقال: أخرج[125].

وهكذا ما ورد في دعوة رسول الله r لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فعن عمرو بن عثمان قال: قال عثمان دخلت على خالتي أعودها ـ أَرْوَى بنت ‏عبد المطلب ـ فدخل رسول الله r فجعلت أنظر إليه ـ وقد ظهر ‏من شأنه يومئذٍ شيء ـ فأقبل عليَّ فقال: مالك يا عثمان؟ قلت: أعجب منك ومن ‏مكانك فينا وما يقال عليك، قال عثمان: فقال: (لا إله إلا الله) ـ فالله يعلم لقد اقشعررت ‏ـ ثم قال :﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) (الذاريات)، ثم قام فخرج فخرجت خلفه، فأسلمت[126].

وهكذا في دعوته r لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .. لقد ذكر ابن إسحاق أنَّ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جاء وهما ـ أي النبي r وخديجة ـ رضي الله عنها ـ يصلِّين، فقال علي: يا محمد، ما هذا؟ قال: (دين الله الذي ‏اصطفَى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر اللات ‏والعُزَّى)، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أُحدِّث به أبا طالب؛ ‏فكره رسول الله r أن يفشيَ عليه سرَّه قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي، إذ ‏لم تسلم فاكتم)، فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثم إنَّ الله أوقع في قلب عليَ الإِسلام فأصبح غادياً إلى ‏رسول الله حتى جاءه، فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله r :( تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزَّى، وتبرأ من الأنداد)، ففعل عليٌّ ‏وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم عليٌّ إسلامَه ولم يظهره.‏

وهكذا في دعوته r لعمرو بن عَبَسة ـ رضي الله عنه ـ فعن شدّاد بن عبد الله قال: قال أبو أمامة: يا عمرو بن عَبَسَة، بأيِّ شيء تَدَّعي أنك رُبْعُ ‏الإِسلام؟ قال: إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً، ثم سمعت عن ‏رجل يخبِّر أخباراً بمكَّة ويحدِّث أحاديث، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة فإذا أنا برسول الله r مستَخْفِياً، وإذا قومه عليه جُرَآء، تلطَّفت له فدخلت عليه فقلت: ما أنت؟ قال:(أنا نبي ‏الله)، فقلت: وما نبي الله؟ قال: (رسول الله) قال: قلت: آلله أرسلك؟ قال: (نعم) قلت: بأي شيء ‏أرسلك؟ قال: (بأن يوحَّد الله ولا يشرك به شيء، وكسر الأوثان، وصلة الرحم)، فقلت له: من ‏معك على هذا؟ قال: (حرٌّ وعبد) ـ أو عبد وحر ـ وإذا معه أبو بكر ابن أبي قُحافة ‏وبلال مولى أبي بكر، قلت: إنِّي متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ولكن إرجع إلى ‏أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي)، قال فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت .. فخرج رسول الله r مهاجراً إلى المدينة، فعلت أتخبَّر الأخبار حتى جاءَ رَكَبَة من ‏يثرب، فقلت: ما هذا المكِّي الذي أتاكم؟ قالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك وحِيل بينهم وبينه، ‏وتركْنا الناسَ إليه سراعاً، قال عمرو بن عبسة: فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه ‏فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: (نعم، ألستَ أنت الذي أتيتني بمكة؟) قال قلت: بلى، فقلت: يا ‏رسول الله، علمني ممَّا علمك الله، فذكر الحديث[127].

وهكذا في دعوته r لخالد بن سعيد بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فعن محمد بن خالد بن الزُبير قال: كان إسلام خالد بن سعيد ابن العاص قديماً وكان أول إخوته أسلم، ‏وكان بَدْء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وُقِفَ به على شفير النار.. فذكر من سَعَتها ما الله أعلم به، ويرى في النوم كأنَّ أباه يدفعه فيها، ويرى رسول الله r آخذاً بحَقْوَيه ‏لئلا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إنَّ هذه لرؤيا حق. فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ‏ذلك له، فقال: أُريد بك خيرٌ، هذا رسول الله r اتْبَعْهُ فإنك ستتبعه وتدخل معه في ‏الإِسلام، والإِسلام يحجُزُك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله r ‏وهو بأجْياد، فقال: يا محمد، إلامَ تدعو؟ قال: (أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ‏ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا يبصر، ولا ينفع ولا يدري مَنْ ‏عَبدَه ممن لا يعبده)، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فسُرَّ رسول الله ‏r بإِسلامه.‏

وتغيّب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأُتي به فأنَّبه وضربه بمَقْرعة في يده حتى كسرها ‏على رأسه، وقال: والله لأمنعنَّك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، ‏وانصرف إلى رسول الله r فكان يلزمه ويكون معه[128].

وهكذا في دعوته r لرجل لم يحفظ التاريخ اسمه، ولكنه حفظ لنا حكمته، والأسلوب الذي خاطبه به رسول الله r .. فعن حرب بن سُريج قال: حدثني رجل من بلْعَدَوِيَّة، قال: حدثني جدِّي قال: ‏انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة وإِذا المشتري يقول للبائع؛ ‏أحسن مبايعتي، قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلَّ الناس أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا ‏رجل حسن الجسم عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من ثُعْرة نحره إلى سُرّته مثل ‏الخيط الأسود شعر أسود، وإِذ هو بين طِمْرين قال: فدنا منا فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ‏ألبث أن دعا المشتري فقال: يا رسول الله، قل له: يحسن مبايعتي، فمدَّ يده وقال: (أموالكم تملكون، ‏إنِّي أرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم ولا ‏عرض إلا بحقه، رحم الله أمرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل الأخذ، سهل العطاء، سهل القضاء، ‏سهل التقاضي)، ثم مضى، فقلت: والله لأقضينَّ هذا فإنه حسن القول، فتبعته فقلت: يا محمد، فالتفت إليَّ بجميعه فقال: (ما ‏تشاء؟)، فقلت: أنت الذي أضللتَ الناس وأهلكتَهم وصدَدتهم عمَّا كان يعبد آباؤهم؟ قال: (ذاك ‏الله)، قال: ما تدعو إليه؟ قال: (أدعو عباد الله إلى الله)، قلت: ما تقول؟ قال: (أشهد أن لا إله إلا ‏الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أنزله عليَّ، وتفكر باللات والعُزَّى، وتقيم الصلاة، وتؤتي ‏الزكاة)، قلت: وما الزكاة؟ قال: (يردّ غنينا على فقيرنا)؛ قلت: نِعمَ الشيء تدعو إليه. ‏قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إليّ منه، فما برح حتى كان أحب إليّ من ولدي ‏ووالديَّ ومن الناس أجمعين، فقلت: قد عرفتُ؛ قال:( قد عرفتَ؟) قلت: نعم؛ قال: (تشهد أن لا ‏إِله إِلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أُنزل عليّ)، قلت: نعم، يا رسول الله، إنِّي أرد ماءً ‏عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه، فإنِّي أرجو أن يتَّبعوك، قال: نعم، فادعهم؛ فأسلم ‏أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله r رأسه[129].

الموعظة:

رأيت في المرتبة الثانية من مراتب الأساليب (مرتبة الموعظة)، فسألته عنها، فقال: هي كل أساليب التأثير التي تخاطب بها النفوس لتمتلئ بحقائق الإيمان.

قلت: فمن أصحاب هذه المرتبة؟

قال: لقد ذكرهم الرازي، فقال: (هم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية)[130]

قلت: فهم وحدهم المخصوصون بهذه المرتبة إذن؟

قال: لا .. كل المخاطبين قد يحتاجون إلى هذه المرتبة .. وما ذكره الرازي هو الأعم الأغلب.

قلت: ما تعني؟

قال: إن كل إنسان مهما بلغت به مرتبته من الكمال العقلي، فإنه لا محالة صاحب نفس، وهي لا محالة تؤثر فيه، وتؤثر عليه .. ولذلك كان من كمال الخطاب العقلي مزجه بخطاب النفس.

قلت: فبم تخاطب النفس؟

قال: النفس ترغب وترهب، وتحب وتبغض، وتشح وتحرص .. فلذلك يتسلل إليها العاقل مما تحب ليوجهها إلى عوالم الحكمة والحقائق.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت اللص الحريص على جمع المال من حله وحرامه؟

قلت: هو مجرم بفعله.

قال: أعلم ذلك .. وأنا لا يهمني أن أحكم عليه .. بل كل همي هو التفكير في كيفية تخليصه من اللصوصية والإجرام.

قلت: أحسن وسيلة هي أن يزج به في السجن مع المجرمين.

قال: أترى السجن رادعا له؟

قلت: لو حوى السجن من أساليب التعذيب ما يقهر نفسه لتاب من جرائمه.

قال: فأنا أفعل هذا معه.

قلت: ألك علاقة بالشرطة؟

قال: لي علاقة بالشرطة الإلهية .. فأنا كما ذكرت لك من المخابرات الإلهية .. لا من المخابرات الأرضية.

قلت: صرح، فأنا لا أطيق فهم التلميح.

قال: إن هذا الرجل الذي برمجت نفسه على الخوف من الألم، والحرص على الراحة والسعادة .. أطرق نفسه من هذه الأبواب لأخرجه من ظلمات نفسه إلى نور الإيمان والحكمة.

قلت: كيف؟

قال: بالموعظة الحسنة.

قلت: فما الموعظة الحسنة .. وما ضوابطها .. وما سنة رسول الله r فيها؟

قال: لن أجيبك أنا عن هذا .. فأنا الحكيم ولست الواعظ .. ولا ينبغي لي أن أتحدث خارج تخصصي.

قلت: فمن يجيبني؟

قال: إن علم الله صدقك، فسيرسل لك من يعلمك الموعظة، كما أرسل لك من يعلمك الحكمة[131].

الحوار:

رأيت في المرتبة الثالثة من مراتب الأساليب (مرتبة الحوار)، فقلت له: لقد ذكر القرآن (الجدل)، فكيف وضعت أنت (الحوار)؟

قال: أنا لم أرغب عن المصطلح الذي وضعه القرآن الكريم، ولكني وجدت أن الحوار هو المصطلح المتعارف عليه للدلالة على (الجدال بالتي هي أحسن)، ولا مشاحة في الاصطلاح.

زيادة على أن هذا المصطلح استعمله القرآن الكريم، قال تعالى :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1)، ففي هذه الآية إخبار بأن رسول الله r استعمل الحوار في إقناعه المرأة.

وفي آية أخرى أخبر الله أن بعض ورثة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ استعمله في دعوة صاحبه لله، قال تعالى :﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ (الكهف:37)

قلت: فمن يخاطب بهذا الأسلوب؟

قال: لقد ذكر الغزالي أنه يخاطب به اثنان من الناس: (إما من فيهم فطانة ظاهرة ترقوا بها عن العوام ولكنها ناقصة ،أو كانت في ‏الفطرة كاملة ،ولكن باطنهم مشحون بالخبث والعناد والتعصب والتقليد)

قلت: فما المجادلة الحسنة، وما أصولها؟

قال: لقد ذكر الغزالي أنها (أخذ الأصول التي يسلم بها المجادل، واستنتاج  الحق منها، مع الإبتعاد عن اللجاجة والمراء والجدال المنهي عنه) .. وقد ضرب الغزالي لها مثلا، فقال :( وليته كانت له أسوة حسنة بإبراهيم الخليل _ صلوات الله عليه _ حيث حاج خصمه، فقال :﴿  رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ )(البقرة: من الآية258)، فلما رأى أن ذلك لا يناسبه ،وليس حسنا عنده عدل إلى الأوفق بطبعه والأقرب لفهمه،فقال :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)(البقرة: من الآية258)

قلت: فاذكر لي أصول هذا الأساليب وآدابه، فإن من قومي من يبدأون بالحوار، وينتهون بالجدل، ومنهم يبدأون بالحوار، وينتهون بالشغب.

قال: لست المكلف بتعليمك علوم هذا .. وإن تك صادقا، فسيقيظ الله لك من يعلمك ما طلبته[132] .. ولكني أكتفي بذكر مثال لك يبرهن لك على سنية هذا الأسلوب، وعلى مدى جدواه.

لقد جاء شاب إلى رسول الله r يستأذنه r في الزنا بكل جرأة وصراحة، فهمَّ بعض الصحابة أن يوقعوا به؛ فنهاهم وأدناه وقال له r بكل هدوء:( أترضاه لأمك ؟!)، قال الشاب: لا، قال رسول الله r :(فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، ثم قال:( أترضاه لأختك ؟!)، فقال الشاب: لا، فقال r :( فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)[133]  .. وهكذا بقي رسول الله r مع الشاب إلى أن اقتنع بأن من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم الزنا ..

 

 

 

 

 

 

 

4 ـ مراتب الوسائل

وضعت الدفتر الثالث في محله، ثم فتحت الدفتر الرابع، وكان عنوانه (مراتب الوسائل[134]) [135]، وقد زين غلافه بقوله تعالى:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد:25)، وتحته قوله r :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك ‏أضعف الإيمان)[136]

قلت: ما الذي تقصد بالوسائل؟

قال: أقصد بها كل الأدوات التي يستخدمها الداعي إلى الله من أجل تبليغ رسالة الله.

قلت: ألهذه الأدوات المراتب؟ .. قد كنت أحسب أن الداعي إلى الله هو الذي لا يدخر أي أداة في سبيل تبليغ رسالة ربه.

قال: لكل شيء في هذا الوجود مرتبته الخاصة به .. فمن حاد به عنها وقع في الانحراف والضلال والإضلال.

قلت: فما الإضلال الذي يمكن أن يقع في هذا الباب؟

قال: أكثر الإضلال يقع في هذا الباب .. فقد يستعمل بعضهم من الوسائل ما لم يسمح له باستعماله، وقد يقدم بعضهم من الوسائل ما ينبغي أن يؤخر، وقد يؤخر ما ينبغي أن يقدم.

قلبت صفحات الدفتر، فوجدت أربعة مراتب كبرى، هي (العيان، واللسان، والإحسان، والسنان)، فقلت: أهذه مراتب هذا الباب؟

قال: هذه بعض مراتب هذا الباب .. أو هي مجامع مراتب هذا الباب.

العيان:

قلت: فما العيان؟

قال: الإنسان.

قلت: لم أفهم .. كيف يكون الإنسان وسيلة؟

قال: الإنسان هو أعظم الوسائل .. وليس في الدعوة إلى الله أعظم من الإنسان.

قلت: تقصد لسان الإنسان، أم جميع الإنسان؟

قال: لسان الإنسان بعض الإنسان .. وهو وسيلة من الوسائل .. وهو أقصر بكثير من وسيلة (الإنسان)

قلت: أنت تعلم صعوبة حلي للألغاز، فوضح لي ما ترمي إليه.

قال: أرأيت لو أن خطيبا مفوها جاء بخطبة طويلة عريضة يصف فيها سلعة من السلع .. ثم جاء آخر لم يتحدث كلمة واحدة، وإنما عرض السلعة، وأراهم من خلال سلوكها وفوائدها قيمتها .. أيهم أقوم قيلا، وأفصح لسانا؟

قلت: لا شك أنه الثاني .. فـ (ليس الخبر كالعيان)[137]

قال: فهكذا في عرضنا للإسلام .. قد نعرضه في مقالات وخطب .. وتظل تلك المقالات والخطب مجرد كلمات قد تبث فيها الحياة، وقد تظل ميتة لا يهتم لها أحد، ولا يستفيد منها أحد .. لكنا لو عرضنا الإسلام عبر النماذج الإنسانية الراقية، وقلنا للعالم :( هذا هو الإنسان الذي لا يصنع إلا في مصنع الإسلام) حينها سيدخل الناس في دين الله أفواجا.

قلت: تقصد صناعة القدوة؟

قال: إن البشر بطبيعتهم التي جبلوا عليها لا تكفي في تغييرهم الأقوال، وهم لذلك يحتاجون إلى النماذج الراقية التي تبعث الحياة في أجساد الكلمات.

قلت: فما مجامع هذا، وما أصوله، وكيف نصل إليه؟

قال: ذلك علم من العلوم لم يؤذن لي أن أبثه لك .. وإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك من يعلمك علومه[138].

قلت: فاذكر لي دليلا يدل عليه.

قال: قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً( (الأحزاب:21)، فقد أشار الله تعالى في هذه الآية إلى أن رسول الله r داعية إلى الله بأفعاله وسلوكه وآدابه.

اللسان:

قلت: فكيف جعلت اللسان في المرتبة الثانية؟

قال: لأن الله تعالى جعل اللسان هو وسيلة الخطاب .. ولذلك فإن الداعية إلى الله يستثمره أعظم استثمار في الدعوة إلى ربه .. لقد ورد لفظ : (قل) الداعي إلى استعمال هذه الوسيلة ‏في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة آية .. وقد أثني الله تعالى على أقوال الدعاة إلى الله، فقال :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)

وقد أخبر الله تعالى أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه، فقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (ابراهيم:4)

قلت: فهل استثمر رسول الله r هذه الوسيلة؟

قال: أعظم استثمار .. فلم يكن رسول الله r يدع مناسبة من المناسبات، ولا فرصة من الفرص إلا ودعا فيها إلى ربه ..

فحينما خرج رسول الله r إلى الطائف دعاهم إلى الله بالقول، يقول ابن إسحاق :  لما انتهى ‏رسول الله r إلى الطائف عمد إلى نفر ثقيف .. فدعاهم إلى الله، وكلمهم ‏بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.

وحينما ‏أمره الله بعرض نفسه على القبائل، كان يدعوهم بالقول، يقول ابن إسحاق:  فكان رسول الله ‏r على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى ‏الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الهدى والرحمة.

وبالقول استطاع رسول الله r إقناع وفد الأنصار بدعوة الحق حين التقى بهم، فقد قال لهم ـ ‏كما يروي ابن إسحاق ـ: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا : بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز ‏وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

وكان القول وسيلة مبعوثيه r في إقناع مدعويهم، فقد قال مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ وهو مبعوثه r إلى ‏المدينة المنورة لزعيمي بني عبد الأشهل:  أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن ‏كرهته عزلنا عنك ما تكره؟

فهذه النصوص وغيرها كثير تبين أن اللسان من أهم وسائل الدعوة إلى الله.

قلت: فكيف نستثمر هذه الوسيلة؟

قال: بكل ما يمكن أن تستثمر به .. بالموعظة التي تدمع لها العيون .. والخطبة التي ترتجف لها القلوب .. والحوار الذي يصد عن الباطل ويهدي إلى الحق .. والمعلومة التي يقضى بها على الجهل .. وهكذا فميادين اللسان لا يمكن حصرها.

قلت: إن ذلك يستدعي علوما كثيرة.

قال: أجل .. ففاقد الشيء لا يعطيه .. وما اللسان إلا ثمرة لما غرس في الجنان.

قلت: فبأي لسان نتحدث .. فالألسنة كثيرة؟

قال: لقد قال الله تعالى  :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (ابراهيم:4)

قلت: إن ذلك يستدعي تعلم لغات العالم.

قال: أجل .. فما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.

الإحسان:

قلت: فما الإحسان، وكيف جعلته في المرتبة الثالثة؟

قال: ألا تعرف البيت الذي يقول:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

قلت: بلى .. أعرفه .. فهذا  البيت أشهر من نار على علم .. يعرفه منا الصغير والكبير، والنساء والرجال.

قال: أتدري لم يحفظونه؟

قلت: أجل .. فهو يعبر عن حقيقة تمتلئ بها نفوسهم جبل عليهم طبعهم، فلا يستطيعون الانفكاك عنها.

قال: أي طبيعة؟

قلت: الإنسان بطبعه يميل إلى من أحسن إليه، ويحبه، ويخضع له.

قال: ولذلك كان الداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله r هو الذي يستثمر هذه الطبيعة ليتسلل منها إلى القلوب ليملأها بأنوار الهداية[139].

قلت: ألا تخاف أن تنبت هذه الوسيلة المنافقين؟

قال: قد تنبت المنافقين .. ولكنها قد تنبت الصادقين.

قلت: فلم لم تسد الذريعة التي تنبت النفاق؟

قال: وكيف أسد الذريعة التي قد تنبت الصادقين؟

قلت: إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

قال: إن أعظم مفسدة هي الضلال .. والضلال يتحقق في كل ما يبعد عن الله سواء كان كفرا أو معصية أو نفاقا ..

قلت: فهل في السنة ما يدل على هذا؟

قال: ألم تقرأ قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:60)؟

قلت: بلى .. إن هذه الآية تذكر مصارف الزكاة.

قال: ألا ترى أن من مصارف الزكاة التي نصت عليها الآية مصرف (المؤلفة قلوبهم)؟

قلت: بلى .. ولكني سمعت أن عمر ـ رضي الله عنه ـ منع هذا النوع من المصارف.

قال: عمر ـ رضي الله عنه ـ أورع من أن ينسخ حكما شرعيا.

قلت: ولكن النص في ذلك صحيح[140].

قال: أرأيت لو أن معهدا من المعاهد يمنح لطلبته منحة مالية .. ثم تخرج بعض الطلبة، فقطعت عنه المنحة، فهل يحق له أن يطالب بها؟

قلت: لا يحق له أن يطالب بها، فهي منحة خاصة بالطلبة دون غيرهم.

قال: فهكذا فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ .. لقد كان رسول الله r يعطي بعض الناس يؤلف قلوبهم، فلما رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ أن هؤلاء قد قدموا في الإسلام، ولم يعودوا بحاجة إلى تأليف القلوب قطع هذه المنحة عنهم.

قلت: ففي السنة ما يدل على هذه الوسيلة من هذه الوسائل إذن؟

قال: أجل .. فما كان النبي r يهتدي إلا بهدي القرآن الكريم ..

قلت: فحدثني بما ورد في ذلك ليطمئن قلبي.

قال: لقد روى علماء السيرة أن رسول الله r ـ بعد غزوة حنين ـ بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فأعطى أبا سفيان بن حرب 40 أوقية من الفضة و100 من الإبل وكذا ابناه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل، ثم سأله مئة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة 100 من الإبل، وكذا أسيد بن جارية الثقفي والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وقيس بن عدي، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف.

وأعطى العباس بن مرداس 40 من الإبل فقال في ذلك شعراً فأعطاه 100 من الإبل، وأعطى مخرمة بن نوفل 50 بعير، وكذا العلاء بن حارثة وسعيد بن يربوع وعثمان بن وهب وهشام بن عمرو العامري، فبلغ ما أعطى ممن ذكروا 14850 من الإبل.

قلت: إن البعض قد يرى في تفضيل أمثال هؤلاء الذين كانوا حربا على الإسلام إسرافا لا مبرر له؟

قال: لقد كان رسول الله r أعظم الناس حكمة .. لقد رأى أن أمثال هؤلاء لا يجذبهم شيء كما يجذبهم الإحسان، فلذلك راح يطوق أعناقهم به.

قلت: فهل أثر هذا العطاء فيهم؟

قال: لقد حدث صفوان بن أمية عن نفسه بعد أن أعطاه رسول الله r عطاءه، فقال:( والله لقد أعطاني رسول الله r ‏ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)[141]

وحدث أنس ـ رضي الله عنه ـ عن أثر ذلك العطاء، فقال:( إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، ‏فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) [142]

قلت: ولكن .. ألم يهز ذلك أولئك المؤمنين البسطاء الذين قضوا حياتهم كلها جهادا وتضحية مع رسول الله r؟

قال: لقد وجد بعضهم من ذلك، لكنه ما إن بين لهم رسول الله r سر ذلك التفضيل حتى راحوا يسلمون لرسول الله r تصرفه ..

قلت: وما قال لهم؟

قال: سأحدثك بالحديث من أوله .. لقد حدث جمع من الصحابة[143] ـ رضي الله عنهم ـ أن رسول الله r أصاب غنائم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم ـ وفي رواية: طفق يعطي رجلا المائة من الابل، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير ـ  فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثر فيهم القالة حتى قال قائلهم: يغفر الله تعالى لرسول الله r إن هذا لهو العجب يعطي قريشا، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، وددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله r استعتبناه.

فمشى سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم، قال: (فيم؟)، قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ، فقال رسول الله r :( فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله r :( فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فخرج سعد يصرخ فيهم حتى جمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق أحد من الانصار إلا اجتمع له، أتاه فقال يا رسول الله: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن جمعهم، فخرج رسول الله r فقال:(هل منكم أحد من غيركم؟) قالوا: لا يا رسول الله إلا ابن أختنا، قال: (ابن أخت القوم منهم)، فقام رسول الله r خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله تعالى وعالة فاغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم، ومتفرقين فالفكم الله؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، الله ورسوله أمن وأفضل.

ثم قال رسول الله r :(ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟)، قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وماذا نجيبك؟ المن لله تعالى ولرسوله r، فقال رسول الله r :( والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك، ومكذبا فصدقناك)، فقالوا: المن لله تعالى ورسوله، فقال: (وما حديث بلغني عنكم؟)، فسكنوا، فقال: (ما حديث بلغني عنكم؟) فقال فقهاء الانصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله تعالى لرسوله r يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله r :( إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتالفهم، أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله تعالى لكم من الاسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله r إلى رحالكم تحوزونه إلى بيوتكم، فو الله لمن تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فو الذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعب الانصار .. أنتم الشعار والناس دثار .. الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا أنها الهجرة لكنت امرأ من الانصار، اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار)، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظا وقسما.

قلت: لقد نجح رسول الله r في التعامل مع الحدث.

قال: بالصدق نجح في التعامل معه .. لقد كان رسول الله r يعلم ما تمتلئ به قلوبهم من محبة الله ومحبة رسوله، فلذلك خاطبهم بهما[144].

قلت: أبالمال وحده يمكن الإحسان؟

قال: لا .. الإحسان أعم من أن يقتصر على المال، ألم تسمع قوله تعالى :﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة:263)؟

قلت: بلى ..

قال: فقد أشار الله في هذه الآية إلى أن القول المعروف والمغفرة قد يكونان خيرا من الصدقة.

قلت: فهل أثر عن رسول الله r في ذلك شيء.

قال: لقد كان رسول الله r يستعمل كل الوسائل ليجذب القلوب إلى التعرف على الله وعبادته ..

قلت: فحدثني عن المغفرة.

قال: المغفرة من الأخلاق التي أمر الله تعالى بها رسوله r، وأخبر أن لها من التأثير ما جعل القلوب تلتف به r .. قال تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

وفي موضع آخر قال تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199)

وقد أخبر الله تعالى عن تأثير العفو والمقابلة بالحسنى في المودة، فقال :﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)

قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: ذلك كثير .. منه ما حدث به جابر بن عبد الله ‏ـ رضي الله عنه ـ أنه غزا مع رسول الله r قبل نجد، فلما قفل رسول الله r قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله r ‏وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله r تحت سمرة، ‏فعلق بها سيفه، قال جابر : فنمنا نومة فإذا رسول الله r يدعونا فجئناه، فإذا ‏عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله r: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، ‏فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت : الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم ‏يعاقبه رسول الله r ..

وقد كانت نتيجة هذا العفو أن رجع الرجل إلى قومه، وقال:(جئتكم من عند خير الناس)[145]

ومنه ما حدث به الرواة من قصة ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأسره .. فقد ورد في بعض الروايات عن ابي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله r بعث خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله r، فقال: (أتدرون من أخذتم ؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا اساره)، فربطوه بسارية من سواري المسجد[146].

وفي رواية أخر أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول الله r قبل ذلك وأراد اغتياله، فدعا رسول الله r ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا وهو مشرك فدخل المدينة حتى تحير فيها فأخذ، ورجع رسول الله r إلى أهله فقال: (اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه)، وأمر بلقحته ان يغدى عليه بها ويراح، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله r فيقول: (ما عندك يا ثمامة ؟) فيقول: (إيها يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد الفداء فسل منه ما شئت)، فتركه رسول الله r حتى إذا كان الغد فقال: (ما عندك يا ثمامة ؟) قال: عندي ما قلت لك، وذكر مثله، فقال رسول الله r: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: (أشهد ألا اله الا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلى، وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) فبشره رسول الله r وأمره أن يعتمر.

قال ابن هشام: فبلغني انه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا، فلما قدمو ه ليضربوا عنقه قال قائل منهم: دعوه فانكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلوه، وقالوا: أصبوت يا ثمامة ؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله r اتبعت خير دين، دين محمد، ووالله لا تصل اليكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله r، ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا منها شيئا إلى مكة حتى أكلت قريش العلهز.

فكتبوا إلى رسول الله r: (إنك تأمر بصلة الرحم وانك قد قطعت أرحامنا)، فكتب رسول الله r إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل، وأنزل الله عز وجل :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون:76)[147]

ومنه الحديث الذي سارت به الركبان من عفوه r عن أهل مكة بعد كل ما صدر منهم في حقه وفي حق أصحابه وفي حق دعوته .. لقد روى جمع من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم[148]قالوا: إن رسول الله r لما خرج من البيت استكف له الناس، وأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة ـ وهم جلوس ـ قام على بابه فقال:( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، يا معشر قريش ماذا تقولون؟ ماذا تظنون؟)، قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، نبي كريم، وأخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال رسول الله r :( فاني أقول كما قال أخي يوسف :﴿ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف: من الآية92)، اذهبو فانتم الطلقاء)، فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الاسلام.

السنان:

قلت: فما السنان، وكيف جعلته في المرتبة الرابعة؟

قال: السنان هو أداة السلطان .. و(الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)[149]

قلت: ما دام بيد السلطان، فكيف وضعته هنا؟

قال: لأعرف أهله، فأدل السلطان عليهم.

قلت: ألا تكون بذلك واشيا؟

قال: بل أكون داعيا .. لقد قال r :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك ‏أضعف الإيمان)[150]

قلت: لم يذكر رسول الله r في هذا الحديث السلطان، فكيف ذكرته؟

قال: كل من تولى شيئا كان له السلطة عليه، ألم تسمع قوله r :( كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته؛ والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)[151]

قلت: بلى .. وهذا الحديث أشهر من نار على علم.

قال: فلذلك لا تغير منكرا بيدك إلا إذا كانت لك سلطة عليه، أو إذن من السلطة.

قلت: فسر لي ذلك.

قال: انظر .. فقد وضعت لهذا خمس حالات .. ووضعت لكل حالة حلها.

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الأولى :( أن يكون للمغيِّر ولاية خاصة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: أقصد ما ذكره r من الولاية الخاصة، كولاية الوالد على ولده، والزوج ‏على زوجته.. فلهؤلاء الحق في تغيير ما يرونه منكرا ممن تولوهم .. لقد أشار r إلى هذا النوع من الولاية بقوله :(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)[152]، فقد أذن r في استعمال هذه الأسلوب في تربية الأولاد، ولكن بعد ثلاث سنين تجرب فيها جميع الوسائل الأخرى.

وهكذا .. إذا رأى الزوج من زوجته منكرا، فإنه يجب عليه أن يغيره بيده ..

قلت: فللأب أن يقيم الحدود على ابنه، وللزوج أن يقيم الحدود على زوجته.

قال: لا .. ذلك للإمام الأعلى ..

قلت: فما التغيير باليد إذن؟

قال: التغيير باليد ذو صور ومراحل عديدة .. منها استخدام اليد في إفساد آلات المنكر، أو إذهاب عين المنكر، كتحطيم أدوات شرب ‏الخمر وإراقتها، وتهديم حاناتها، إذا لم تكن تصلح إلا لذلك، أو غلق الطرق المؤدية إليها، أو ‏قطع المياه وأدوات الإنارة عنها، أو إفساد آلات الغناء الماجن المحرم، وإفساد أماكن بيعه وتوزيعه، إذا لم تكن تلك الأماكن ‏صالحة إلا لذلك ..

قلت: فقد انحصر الأمر في إفساد آلة المنكر .. والضرب.

قال: أما إفساد آلة المنكر، فلا يفسدها إلا إذا كانت لمحض المنكر .. وأما الضرب، فله حدود وضوابط لابد من التزامها، وإلا كان التغيير نفسه منكرا[153].

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثانية :( أن يكون للمغيِّر ولاية عامة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: الولاية العامة هي ولاية الحاكم على رعيته .. وبما أن هذا الحاكم مفوض من الرعية بإقامة العدل، وتوفير الأمن، فقد أعطاه الشرع حق استعمال الشدة في محلها، ولأهلها.

قلت: فلم لم يضع طرقا أكثر رحمة، وأميل إلى الرفق؟

قال: أرأيت لو أن مريضا من الأمراض أصابه ورم عجز كل علاج عن شفائه، فلم ير الطبيب حلا لذلك إلا استئصال الورم بعملية جراحية .. أكان في ذلك رحيما أم قاسيا؟

قلت: ما دام لم يجد أي علاج .. فما وصفه عين الرحمة؟

قال: وبهذا جاء الشرع الممتلئ بالحكمة .. لقد وضع منهجا متكاملا في التربية والإصلاح في كل المجالات .. ثم جعل بعد ذلك للحاكم من السلطة ما يفرض به قوانين العدالة والرحمة.

قلت: إن البعض يشنع في مثل هذا[154].

قال: دعهم يشنعون، فإنهم بذلك ينصرون المستكبرين المجرمين .. فلا يدافع عن المجرم إلا مجرم، أو من يحلم بأن يصير مجرما.

اسمع هذه الآية الشديدة التي تتحدث عن الجزاء المرتبط بهؤلاء:﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)

واسمع الآية الأخرى التي تأمر بإقامة حد الزنا، وعدم الالتفات لما تمليه العواطف في ذلك:﴿  الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور:2)

ألا ترى أن في تعليق الحاكم لافتة بأمثال هذا في كل المحال، سيردع كل محارب، وسيقمع نفس كل مجرم؟

قلت: بلى .. ذلك صحيح.

قال: فلهذا قال الصالحون (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثالثة :( ألا يكون للمغيِّر أي ولاية على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: هذا هو الأعم الغالب .. فأكثر أفراد الرعية لا سلطان لبعضهم على غيره.

قلت: فكيف يتم الإنكار باليد هنا؟

قال: ليس لذلك إلا سبيل واحد.

قلت: ما هو؟

قال: إذا كان الحاكم عادلا، وناصحا، ومهتما بشأن رعيته، أو فوض من يقوم بذلك، فإن على المؤمن أن يسعى إلى هؤلاء طالبا منهم أن يقوموا بتغيير المنكر بما أوتوا من وسائل الحزم.

قلت: فإن لم يكن.

قال: لم يبق حينها إلا الجهاد باللسان .. فلا يحق لمسلم أن ينشر الفتنة بتغيير المنكر بيده .. إنه بذلك يغير منكرا واحدا، ويحيي مناكر كثيرة.

قلت: الجهاد باللسان مع الحاكم المقصر، أم مع المحكوم؟

قال: مع كليهما .. فكلاهما في منكر .. أما الحاكم فبسكوته، وأما المحكوم فبفعله.

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الرابعة :( أن يكون لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: كأن يكون ذو ‏المنكر والد المغيِّر أو زوجها ..

قلت: فما عسى هؤلاء المستضعفين أن يفعلوا؟

قال: يفرق هنا بين نوع المنكر ‏ودرجته .. فإن لم يترتب عن تغيير المنكر باليد أي إيذاء أو ضرر، فلهما ذلك .. أما إذا ترتب عنه ضرر، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها[155].

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الخامسة :( أن يكون ذو المنكر ذا ولاية عامة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: هذه الحالة أخطر حالات إنكار المنكر، وأدقها، وأصعبها .. فهي ترتبط بالإنكار على الحاكم[156].

قلت: فما مصدر الصعوبة فيها؟

قال: الحاكم في نظر الشريعة يمثل أمرين: العدل، والأمن .. والحاكم الكامل هو الذي جمع بين الأمرين .. فلذلك إن لم يترتب عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إخلال بكلا الجانبين، وجب الإنكار.. أما إذا ترتب عنه الإخلال بهما، أو بأحدهما، وجب استعمال وسائل أخرى بديلة.

قلت: عرفت العدل .. فما الأمن؟

قال: أن تنتشر الفوضى التي هي مرتع الفتن ومنبعها ..

قلت: فهل نسالم مثل هذا الإمام؟

قال: السلام الذي يزين بالنصيحة، لقد أمرنا رسول الله r بذلك ..

قلت: أجل .. فقد حدث تميم بن أوسٍ الداري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r قال: الدين النصيحة، قلنا: لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم[157].

قال: وقد صرح r بالنهي عن قتال الأئمة الظالمين، ما داموا لم يتدخلوا في شؤون الدينية الأساسية، فقال:( إنه يُستعمل عليكم أُمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن ‏من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم ؟ قال لا، ما صلُّوا[158].

***

ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الأولى من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب ..

لقد كنت أتخيل نفسي في الهند .. ومع هذا الرجل الحكيم .. ومع ذلك النبي الحكيم الذي امتلأ العالم جميعا بلطائف حكمته، وأنوار هدايته .. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.

سألت صاحبي عن الكاندهلوي وكيف تركه، فقال: لقد ظللت فترة مهمة من عمري في صحبته، إلى أن توفاه الله، وهو في طريق الله .. وقد كان موته ـ كحياته ـ لا يختلفان.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد كنت أسير معه في بادية من البوادي .. وكان فيها بعض الحاقدين عليه، وعلى الدين الذي يدعو إليه، وعلى السلام الذي تمتلئ به نفسه .. فلذلك استغل فرصة من فرص غفلتنا، فراح يطعنه بما امتلأت به نفسه من حقد.

قلت: فكيف عرفتم الجاني؟

قال: لقد أقر بجنايته ..

قلت: عجبا .. كيف يقر بجنايته .. وهو لم يلحظه أحد؟

قال: عندما قدمنا، فوجدنا صاحبنا مضرجا في دمائه، والبسمة تملأ شفتيه، والأسارير الصافية تملأ وجهه، وجدنا بجانبه قاتله يبكي عليه كما يبكي على أعز الناس.

قلت: إن هذا لعجيب .. أمجنون من قتله؟

قال: بل عاقل .. ولكن حقده غلب على عقله، فقتله.

قلت: فكيف غلب عقله على حقده، فندم؟

قال: لقد كان الكاندهلوي هو سبب توبته وندمه .. لقد ظل الكاندهلوي داعية إلى الله إلى آخر قطرة من عمره.

قلت: إن ما تقوله عجيب .. كيف وقد قتل؟

قال: لقد حكى لنا قاتله من أمره ما قفت له شعورنا، وعلمنا منه أنه كان لصاحبنا من الصدق والإخلاص ما لم نكن نتصوره.

قلت: فما حكى؟

قال: بعد أن طعنه، ونفذت الطعنة القاتلة فيه، نظر إليه والبسمة تملأ شفتيه، وقال له: يا أخي .. ما أنا سوى بشر بسيط .. وجسدي الذي طعنته بشفرتك لا يختلف كثيرا عن التراب الذي تسير عليه .. فلا تنشغل بي عن السير إلى ربك .. سر إلى الله، فإنك إن سرت ترى العجائب.

ثم قال له: إن كان لي حق في قتلك لي .. فقد أسقطته .. وأرجو أن نلتقي عند ربنا أخوين لندخل جميعا جنة الرضوان .. تلك الجنة التي لا غل فيها ولا حقد ولا صراع ..

قال ذلك، ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: أعوذ بك يا رب أن يشقى هذا المسكين بسببي .. فافتح له من أبواب رحمتك وفضلك وهدايتك ما تريد الشياطين أن تغلقه في وجهه.

قلت: إن هذا مشهد مؤثر .. فما فعل القاتل؟

قال: لقد أخبرنا بما نزل على قلبه من أشعة النور التي حولته فردا من أهل الله، وقد صحبنا زمانا، ورأينا من علامات صدق توبته ما جعلنا نؤمن بعظم المنهج الذي اختاره الحكيم في الدعوة إلى ربه .. منهج الحكمة الذي استفاده من النبي الحكيم.

ما وصل الكاندهلوي من حديثه إلى هذا الموضع حتى شعرت بأشعة عظيمة تتنزل علي اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد r .

 

 

 



([1]) هو بديوبند في دلهي بالهند، وهو المركز الرئيسي لجماعة الدعوة والتبليغ، ومنه يديرون شئون الدعوة في العالم .

ونحب أن ننبه هنا إلى أنا حاولنا في هذه الرسالة أن نجمع أكثر ما قدرنا عليه من شخصيات وجماعات مسلمة تمارس مهمة الدعوة إلى الله، باعتبار أن هذه الجماعات جميعا، مهما اختلفت مناهجها تسير على قدم النبي الهادي r ، وقد دعانا إلى هذا ما ينعق به المتطرفون من تبديع كل من يعمل للإسلام، أو الحكم بضلاله.

وننبه ـ كذلك ـ إلى أن ما نذكره من شخصيات وأماكن وأحداث وغيرها، لا علاقة لها بالواقع إلا علاقة الرمزية التي تقتضيها الأعمال الفنية .. وما كان من ذلك منطبقا مع الواقع أشرنا إليه في الهامش.

([2]) أشير به إلى الداعية العظيم السائر على قدم النبي r  محمد زكريا الكاندهلوي (ت 1348هـ- 1930م). وهو من مشاهير علماء الهند، ومن كبار جماعة الدعوة والتبليغ، تتلمذ على أبيه وعلى الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، ‏والشيخ أحمد الهارنفوري .. تصدى للتدريس والتأليف في مظاهر العلوم، وتخرج عليه خلق كثير .. ‏له نحو ثمانية وثمانين مؤلفًا منها: (أوجز المسالك إلى موطأ مالك) على طريقة شراح الحديث ‏المتقدمين؛ (الأبواب والتراجم على صحيح البخاري)؛ (لامع الدراري على الجامع الصحيح ‏للبخاري)؛ (الكوكب الدري على جامع الترمذي) .. بالإضافة إلى غيرها من الكتب.

([3])من مراجعنا المهمة في هذا الباب كتاب (منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر) الحائز على جائزة نايف بن عبدالعزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة، تأليف:عدنان بن محمد آل عرعور.

([4]) ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار) من سلسلة (عيون الحقائق).

([5]) يذكر الكثير أن أصل عائلة سيد قطب من الهند.

([6]) في ظلال القرآن: 6/3692- 3693.

([7]) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى .. وانظر: سير أعلام النبلاء: 2 / 59.

([8])رواه مسلم.

([9])رواه مسلم.

([10]) وقصة ذلك أن النبي r بعث خالدا إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى الإسلام، ولم يأمره بقتالهم، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل، ويأسرهم، ودفع الأسرى إلى أصحابه وأمرهم بقتلهم، وامتنع البعض من قتلهم، لما تبين لهم أنهم أسلموا، ولما رجعوا وذكروا ذلك للنبي r قال: (اللهم إني أبرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد) قالها مرتين...

وقد ذكرنا في رسالة (النبي المعصوم) أن هذا الحادث هو أكبر خطأ وقع في تاريخ السرايا جميعا، وقد تبرأ رسول الله r من ذلك الخطأ الناتج عن عدم تعمق في معرفة الإسلام.

وليصحح رسول الله r الخطأ الكبير الذي وقع فيه خالد بعث عليا ـ رضي الله عنه ـ فودى لهم قتلاهم وزادهم فيها تطييبًا لنفوسهم وبراءة من دمائهم.

وبهذا التصرف النبوي الحكيم واسى النبي r بني جذيمة، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن.

وقد تأول الكثير من العلماء ما فعله خالد، واعتذروا له بذلك ..

ومن ذلك قول الخطابي: (يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع على سبيل الأنفة، ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولا) (فتح الباري لابن حجر 8/57)

وقال ابن تيمية في معرض حديثه عن هذه الحادثة: (فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يقبل ذلك منهم، وقال: إن هذا ليس بإسلام، فقتلهم، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة: كسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولما بلغ ذلك النبي r رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان.. ومع هذا فالنبي r لم يعزل خالدا عن الإمارة، بل مازال يؤمره ويقدمه، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أمر بالرجوع عن ذلك، وأقر على ولايته، ولم يكن خالد معاندا للنبي (بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية) (منهاج السنة 4/486)

وقال ابن حجر في شرح الحديث: (وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها، لأن قولهم صبأنا أي: خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام) (فتح الباري 8/57)

ومع هذا، ومع احترامنا لخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ إلا أن ذلك لا يمنعنا من التشدد في إنكار هذا  السلوك أسوة بالتشدد الذي قابله به رسول الله r .. أما الانتصار للصحابة وعدالة الصحابة أو عصمة الصحابة كما يفهم البعض على حساب المبادئ فخطأ جسيم، لأنه يمس الدين وصميم الدين .. وحرمة الدين أعظم من حرمة الصحبة.

([11])رواه أحمد، واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى.

([12]) رواه أحمد والطبراني في الكبير والحاكم وقال: صحيح إن كان ثابت بن عبيد سمعه من زيد بن ثابت ولم يخرجاه.

([13]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

([14]) رواه البخاري وغيره.

([15]) رواه مسلم.

([16]) رواه البخاري ومسلم.

([17]) رواه البخاري ومسلم.

([18]) ومما يدل على مكانته في قريش قولهم : إن صبأ أبو الوليد لتصبون قريش كلها (ابن هشام، السيرة النبوية 1 / 229)

([19]) رواه ابن إسحق.

([20]) رواه البخاري.

([21]) فتح الباري: 7 /695.

([22]) سيرة ابن هشام: 2 / 59.

([23]) رواه البخاري ومسلم.

([24]) رواه البيهقي في الدلائل.

([25]) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

([26])رواه البخاري ومسلم. وقد قال سالمٌ معقبا على هذا: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.

([27]) رواه البخاري ومسلم.

([28]) رواه البخاري ومسلم.

([29]) رواه البيهقي في السنن الكبرى وغيره وقد روي أنه لما أتى عمر ـ رضي الله عنه ـ بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة ابن مالك فألبسه إياهما، وكان سراقه رجلا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال :( الله أكبر الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بني مدلج)، ورفع بها عمر ـ رضي الله عنه ـ صوته.

وقد اعترض بعضهم على هذا، بحجة أن الحديث يفيد جواز لبس الذهب للرجال، ومن الإجابات على هذا: أن هذه الحادثة كانت في طريق هجرة النبي r إلى المدينة ودلت على معجزة من معجزاته r ألا وهي إخباره لسراقة بما سيقع والإسلام يومئذ فيما هو عليه من الضعف، فأخبر r عن سقوط مملكة فارس وغنيمة المسلمين لحلي كسرى، ولما وقع ذلك في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وجيء بسواري كسرى ألبسهما سراقة بن مالك تحقيقا لمعجزته r ثم ردهما إلى الغنيمة فهي إخبار عما سيقع وليست تشريعا لحكم ... ثم إن ذلك كان في بداية الإسلام، وقد كان الذهب مباحا كما في الحديث الصحيح من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r اصطنع خاتما من ذهب وكان يلبسه ويجعل فصه في باطن كفه فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال:( إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل)، فرمى به وقال :( والله لا ألبسه أبدا) فنبذ الناس خواتيمهم (رواه البخاري ومسلم)، فنسخ حكم إباحة لبسه للرجال وحرم عليهم إلا عند الضرورة والعلاج.

([30]) رواه البخاري ومسلم.

([31]) رواه البخاري ومسلم.

([32]) رواه البخاري ومسلم.

([33]) انظر قصة حادثة الإفك عند البخاري .

([34]) رواه أحمد واللفظ له، والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين.

([35]) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي في السنن.

([36]) ذكره في السنن الكبرى للبيهقي.

([37]) رواه الترمذي وأحمد.

([38]) وهذا منضبط بضوابط كثيرة ليس هنا محل ذكرها.

([39]) رواه أحمد والطبراني في الكبير والحاكم.

([40]) ذكره مسلم في المقدمة (1/170) فقال: وقد ذكر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: أمرنا رسول الله r أن ننزل الناس منازلهم، ورواه أبو داود.

([41]) رواه البخاري.

([42]) رواه البخاري.

([43]) رواه أحمد والحاكم والطبراني في الكبير.

([44]) هذه النصيحة النبوية العظيمة لا ترتبط فقط بميل الرجل في العادة إلى البكر أو الصغيرة، وإنما ترتبط بالقضاء على العنوسة، وما تسببه من أضرار اجتماعية .. زيادة على أن الثيب عادة يكون لها من الأولاد ما يشغلها عن الاهتمام بالزواج.

([45]) رواه البخاري ومسلم.

([46]) رواه البخاري ومسلم.

([47]) رواه البخاري وغيره.

([48]) رواه البخاري وغيره.

([49])حلف المطيبين: وهو حلف عقد في أيام الجاهلية، وسمّي بهذا لأن المتحالفين طيّبوا الكعبة، وطيّبوا بعضهم، السيرة لابن هشام (1/150)

([50])الفضول: هو حلف عقد في الجاهلية، وقيل: سمّي بذلك لأن معظم المتحالفين كانت أسماؤهم (الفضل) السيرة لابن هشام (1/153)

([51]) رواه أحمد والبيهقي في السنن الكبرى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..

([52])رواه مسلم.

([53]) رواه البخاري ومسلم.

([54]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

([55]) رواه البخاري ومسلم.

([56]) رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه.

([57]) رواه البخاري ومسلم.

([58]) رواه البخاري ومسلم.

([59]) الفضيخ: شراب يتخد من البسر (التمر قبل أن يصبح رطباً ويسمى بلحاً) وحده من غير أن تمسه النار. انظر لسان العرب( 3/45)

([60]) رواه البخاري ومسلم.

([61]) المرط: هو كساء للمرأة يصنع من صوف أو غيره، النهاية (3/319)

([62]) رواه البخاري.

([63]) رواه البخاري.

([64]) رواه البيهقي وابن عساكر والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

([65])رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، ووافقه الذهبي.

([66]) رواه أبو داوود والطبراني في الكبير.

([67]) رواه البخاري ومسلم.

([68])رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح .

([69]) رواه النسائي، والطبراني في الكبير.

([70]) رواه مسلم.

([71])  رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

(1)    سير أعلام النبلاء 2/305 .

([73])  رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.

([74])  رواه أبو الشيخ في الثواب وابن عساكر والرافعي - عن أنس وليس في سنده متهم.

([75])  رواه ابن السني وابن حبان عن ابن مسعود.

([76])  رواه ابن النجار.

([77])  شجرة المعارف والأحوال، ص 1 .

([78])  مفتاح دار السعادة : 2/ 90 باختصار، وانظر : طريق الهجرتين، ص 43.

([79])  الفوائد، ص 150 .

([80])  الفوائد، ص 85.

([81])  الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.

([82])  البخاري :4/22.

([83])  رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد.

([84])  رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب ابن السني في عمل يوم وليلة.

([85])   البخاري.

([86])  الفوائد.

([87]) عوالم الغيب ـ في أصلها ـ هي العوالم التي خفيت على المؤمن، أو التي لا تستطيع وسائل الإدراك العادية التعرف عليها، أوالتي جاءت النصوص المعصومة بالدلالة عليها، وهي بذلك تشمل كل قضايا الإيمان، كما قال تعالى في وصف المؤمنين:) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ( (البقرة:3) ، وأخبر أن المؤمنين الصادقين لا يحول بينهم وبين الخوف من الله أو التعامل الإيماني معه كونه غيبا عن حواسهم، كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (المائدة:94)

ولكن عالم الغيب أو السمعيات ـ كمصطلح ـ قصر على ما لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل المجرد، وما كان في نفس الوقت في حيز الإمكان، فتخرج أبواب الألوهية والنبوات لانسجام العقل مع النصوص في الدلالة عليها.

([88])  في ظلال القرآن:1/39.

([89])  في ظلال القرآن:1/40.

([90])والأمثلة على دخول الخرافة هذه العوالم الغيبية كثيرة، منها ـ مثلا ـ الخرافات التي نسجت حول الملائكة الموكلين بالعرش ـ عليهم السلام ـ والتي تلبست بلباس الحديث الشريف، فذكرت أنهم (ثمانية أملاك على صورة الأوعال )، وأن (لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس )، و(أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش )، وأنه أنشد بين يدي النبي r قول أمية بن أبي الصلت:

رجل وثور تحت رجل يمينه         والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تطلع كل آخر ليلة              حمراء يصبح لونها يتورد

ليست بطالعة لهم في رسلها                    إلا معذبة وإلا تجلد

فقال النبي r :( صدق )

وقد رويت هذه الأساطير ـ للأسف ـ في كتب التفسير المعتمدة، وهي مما يحرص العامة على مثله، وهي خرافات لا حظ لها من العلم، ولا حظ لراويها وملفقها من الذوق، وقد رد عليها ـ بحمد الله ـ الشيخ محمد زاهد الكوثري، برسالة سماها « فصل المقال في بحث الأوعال ) أو (فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال )، فذكر المصادر التي أخرجت هذه النصوص وتتبع أقوالهم تمحيصا وتحليلا وانتهى إلى أنّها أقاصيص دخيلة لا أصل لها.

([91]) وَحَرَ الصدر: أي تطهير القلب من الدنس، وما يلحقه من الأدران المعنوية من حقد وحسد، وما شابهه.

([92]) رواه أحمد والنسائي في السنن وفي الكبرى.

([93]) رواه مسلم.

([94]) رواه البخاري ومسلم.

([95]) رواه أحمد.

([96]) رواه البخاري.

([97])فتح الباري 2 / 188.

([98]) رواه مسلم.

([99]) رواه البخاري ومسلم.

([100]) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه.

([101]) رواه مسلم.

([102]) البذي: هو الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام.

([103]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([104]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([105])رواه الطبراني في مكارم الأخلاق من حديث جابر بسند ضعيف.

([106]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([107]) رواه أبو داود.

([108]) رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه.

([109]) رواه ابن إسحق وغيره.

([110]) رواه البخاري.

([111]) رواه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي.

([112]) رواه ابن جرير.

([113]) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في دلائل النبوة.

([114]) رواه أحمد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم، واسناده صحيح، ورجاله ثقات، والرجل المبهم صحابي، وجهالة الصحابي لا تضر.

([115]) ذكر الفخر الرازي وجه الانحصار في هذه الأساليب، فذكر أن أهل العلم ثلاث طوائف:

1. الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة.

2. الذين تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام ، وهذان القسمان هما الطرفان . فالأول : هو طرف الكمال ، والثاني : طرف النقصان.

3. الواسطة ، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين ، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين ، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية ، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة.

ثم تحدث عن مراتب هذه الأساليب، فذكر أن  أدناها المجادلة ، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون ، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة ، وفيهم الكثرة والغلبة ، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة. (انظر: التفسير الكبير)

وقريب من هذا ما ذكره الغزالي في (القسطاس المستقيم) حين سأله رفيق التعليم عن أصناف الخلق وكيفية علاجهم ،فذكر أنهم ثلاثة :( عوام ، وهم أهل السلامة ، وخواص هم أهل البصيرة وخواص الذكاء ، ويتولد بينهم طائفة هم (أهل الجدل والشغب)

قال الغزالي :( فأدعو هؤلاء [العوام] بالموعظة،وأهل البصيرة بالحكمة ،وأدعو أهل الشغب بالمجادلة)

([116])  خلافا للعلم، فقد ذكر في مواضع الثناء والذم جميعا، كما سبق ذكره.

([117])  قال القرطبي تعليقا على هذه الآية:( إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك :) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً( (الاسراء: من الآية85)، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم(القرطبي: 3/330)

([118])كما قال الشافعي :( الحكمة سنة رسول الله r) وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي :( والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول r )، قال ابن القيم :(  وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر)( مدارج السالكين: 2/472)

([119]) انظر فصل (المصلح) من هذه الرسالة.

([120])قاموس البحر: هو وسطه ولجته (النهاية في غريب ‏الحديث والأثر: 5 / 81 )

([121])رواه مسلم.

([122]) رواه الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي.

([123]) عكم: أي تلبَّث.

([124]) رواه ابن إسحاق.

([125])رواه الطبراني.

([126]) رواه المدائني.

([127]) رواه أحمد، وهكذا أخرجه ابن سعد ‏عن عمرو بن عبسة مطوّلاً، وأخرجه أيضاً أحمد عن أبي أُمامة عن عمرو بن عبسة، فذكر ‏الحديث وفيه: قلت: بماذا أرسلك؟ فقال: (بأن تُوصل الأرحام، وتُحقَن الدماء، وتُؤمَن السبل، ‏وتُكسر الأوثان، ويُعبد الله وحده لا يشرك به شيء)، قلت: نِعْمَ ما أرسلك به وأُشهدُك أني قد آمنت ‏بك وصدَّقتك، أفأمكث معك أم ما ترى؟ فقال: (قد ترى كراهة الناس لما جئتُ به فامكث في ‏أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجي فائتني)، وأخرجه مسلم والطبراني وأبو نُعيم من طريق أبي أُمامة بطوله، وأبو نُعيم في دلائل النبوة.

([128]) رواه البَيْهقي.

([129])رواه أبو يَعْلى قال الهيثمي وفيه: راوٍ ‏لم يسمَّ، وبقية رجاله وُثِّقوا.

(1) التفسير الكبير:20/288.

([131]) سنتحدث عن الموعظة في فصل (الواعظ) من هذه الرسالة.

([132]) انظر فصل (المحاور) من هذه الرسالة.

(3) رواه أحمد بإسناد جيد.

 

([134]) الوسيلة هي : الأداة ‏المستخدمة في إيصال المعاني ونقل الأفكار من الداعي إلى المدعو ..

([135]) استفدت الكثير من المادة العلمية هنا من كتاب (التدرج في دعوة النبي r) لإبراهيم بن عبد الله المطلق، الطبعة : الأولى، الناشر : وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - مركز ‏البحوث ‏والدراسات الإسلامية ، تاريخ النشر : 1417هـ ‏

([136])رواه مسلم.

([137]) رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري وابن حبان والحاكم موقوفا على ابن عباس.

([138]) انظر فصل (القدوة) من هذه الرسالة.

([139]) يثير المبشرون وغيرهم في كتبهم ومواقعهم التبشيرية بين الحين و الآخر شبهة مفادها أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة عبارة عن رشوة تستقبحها الضمائر النزيهة و أنه من غير المعقول أن يدعو المسلمون غير المسلمين إلى دينهم عن طريق دفع الرشاوى ، حتى وصلت جرأة أحدهم لأن يسأل في وقاحة:( أليست هذه رشوة؟ يعطي ثروة مهولة لقوم ، لكي يدخلوا الاسلام ، أليس هذا شراء للضمائر والذمم؟)، و يصيح آخر في هستيرية:(أليس هذا من أسوأ أنواع الرشوة؟ أليس هذا شراء لضمائر الناس؟ أيعجز محمد عن إثبات دينه بالمعجزات الربانية و الخوارق فيلجأ إلى أرخص الوسائل وأسهلها و هي شراء الولاءات؟ فبماذا تختلف هذه الأفعال عن قولنا أن الغرب يشتري حكّام العرب؟ فهي تدفع لهم حتى يخدموا مصالحها)

وسنتحدث عن جواب هذه الشبهة هنا.

([140]) وهو أنّ الأقرع بن حابسٍ وعيينة بن حصنٍ جاءا يطلبان من أبي بكرٍ أرضًا ، فكتب لهما بذلك، فمرّا على عمر ، فرأى الكتاب فمزّقه ، وقال : هذا شيء كان رسول اللّه r يعطيكموه ليتألّفكم ، والآن قد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن ثبتّم على الإسلام ، وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف، فرجعا إلى أبي بكرٍ ، فقالا ، ما ندري : الخليفة أنت أم عمر؟ فقال : هو إن شاء ، ووافقه، ولم ينكر أحد من الصّحابة ذلك.

([141]) رواه مسلم.

([142]) رواه مسلم.

([143]) رواه ابن إسحاق، وأحمد عن أبي سعيد الخدري، وأحمد، والبخاري ومسلم من طريق أنس بن مالك، وهما عن عبد الله بن يزيد بن عاصم .. بروايات مختلفة، وقد حاولنا  الجمع بينها.

([144]) ذكر محمد بن عمر أن رسول الله r أراد حين إذا دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الارض، فقالوا: (لا حاجة لنا بالدنيا بعدك)، فقال رسول الله r :( إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)

([145]) رواه البخاري.

([146]) رواه البخاري ومسلم.

([147]) رواه البيهقي عن ابن اسحاق.

([148]) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب والبخاري في صحيحه عن مجاهد، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة، والبيهقي عن عبد الله بن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة.

([149]) روي عن عثمان موقوفا ونحوه عن عمر موقوفا.

([150]) رواه مسلم.

([151]) رواه البخاري ومسلم.

([152])رواه أبو داود والحاكم.

([153]) ذكرنا الضوابط الشرعية لاستعمال هذه الوسيلة في كتاب (الأساليب الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([154]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.

([155])ذهب الإمام الغزالي إلى أن للولد مع والده الواقع في المنكر ، أن يغيره ‏بالمنع ، بالقهر ، بطريق المباشرة ، (بأن يكسر مثلاً عوده ، ويريق خمره ، ويحل الخيوط من ‏ثيابه المنسوجة من الحرير ، ويرد إلى الملاك ، ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو ‏سرقه ، أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيَّناً ، ويبطل الصور ‏المنقوشة على حيطانه ، والمنقورة في خشب بيته ، ويكسر أوان الذهب والفضة ، فإنَّ فعله في ‏هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب ، بخلاف الضرب والسب ، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط ‏بسببه إلا أنَّ فعل الولد حق وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام ، والأظهر في القياس أنه ‏يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك)(انظر: الإحياء: 2/318)

([156]) فرق الفقهاء ـ هنا ـ بين حالين:

1. إن كان منكره منكراً خاصاً لا يتعلق بحق الرعية ، فإن كان يفعله سراً فلمن يراه أن يغيره ، بما ‏يستطيع ، إذا لم يترتب على تغييره منكر أشد منه ، وأشنع ، وليس له الاعتداء على السلطان بدفع ‏، أو إيثاق ، أو حبس ، أو ضرب ، وليس له إفشاء هذا السر في الناس ، حتى يبقى للسلطان في ‏قلوب العامة هيبة ، ما دام مسلماً .

2. إن كان منكره مما يجهر به ، فعلى علماء الأمة تعريفه وتعليمه ، ليكف ما دام مسلماً يقيم ‏الصلاة ، ثم منعه منه ، وعلى العامة مناصرة العلماء ، دون إحداث فتنة أشنع من منكره ، الذي ‏يجاهر به ، ما دام هذا المنكر ليس كفراً بواحاً .. وإن كان منكر السلطان متعلقاً بحق رعيته ، كفرض مكوس وضرائب ظالمة تنفق فيما لا تنفع ‏المسلمين والرعية ، أو كإشاعة الفسق ، أو مناصرة الطغاة من رعيته ، واحتجابه عن المظلومين ‏من رعيته ، فعلى العلماء القيام أولاً بتعريفه الحق ونصحه ، فإن لم يفعل ، ومكث على ذلك ، ‏سعى العلماء إلى منعه من ذلك ، باتحادهم ، والتصدي له ، وحشد العامة حولهم، حتى يرتدع ‏خوفاً على سلطانه ، وليس لهم الخروج عليه بالسيف ، ما دام يعلن إسلامه ويقيم الصلاة ، فإنه ‏وإن كان ظالماً فاسقاً ، فإنه مسلم ، وفي الخروج عليه بالسيف فتنة أشد وأنكى من منكره ، لأن ‏في الخروج عليه بالسيف تهديماً لهيبة الأمة ، في عيون وقلوب أعدائها من الكافرين ، وعلى ‏العلماء السعي إلى عزله ، بطريق غير طريق السيف.

([157])رواه مسلم.

([158]) رواه مسلم.