المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي الهادي |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
|
قلت: فحدثني عن رحلتك العاشرة.
قال: خرجت من دمشق متوجها إلى
المدينة المنورة .. تلك المدينة العظيمة التي شرفت بأن تكون المنارة التي امتد نورها
إلى المشرق والمغرب، فمنها انطلق الفاتحون والدعاة إلى الله يحررون عباد الله،
ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور
الأديان إلى عدل الإسلام.
لا أكتمك أني بمجرد أن تنسمت أريج
المدينة العطر حتى راح قلبي الذي امتلأ بحب حبيبه يشدو بما قال الشاعر الصالح:
أتيتُك
راجلاً وَوَدِدْتُ أني |
مَلَكْتُ
سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ |
وما لي
لا أسِيرُ على المآقي |
إلى
قبرٍ رسولُ الله فيهِ |
وبما قال الآخر:
قف عند قبر التهامي والثم الجدثا |
وانشق عبير الهدى ممن به مكثا |
واجثُ احتراماً بداع الوجد مدّكراً |
فجر النبوة وامدح خير من بُعثا |
محمدٌ سيد الأكوان قاطبة |
إذ مجده كابراً عن كابر ورثا |
ما أنجب الدهر ذا خلق وذا خلقٍ |
في الفضل يشبهه مذ جاءنا حدثا |
وبما قال حسان قبلهما:
فبوركتَ يا قبرَ الرسولِ وبوركت |
بلادٌ ثوى فيها الرشيد المسدّد |
وبوركَ لحدٌ منكَ ضُمّنَ طيباً |
عليه بناءٌ من صفيحٍ منَضّدُ |
تهيلُ عليه التربَ أيدٍ وأعينٌ |
عليه وقد غارت بذلك أسعُدُ |
لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة |
عشية علّوه الثرى لا يوَسّدُ |
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم |
وقد وهنت منهم ظهورٌ وأعضدُ |
يُبكّون من تبكي السماوات يومَه |
ومن قدْ بكته الأرض فالناس أكمدُ |
وهل عدَلت يوماً رزيّة هالكٍ |
رزيّة يومٍ مات فيه محمدُ |
وبما قالت الزهراء البتول سيدة نساء
العالمين قبلهم جميعا:
ماذا على من شَمَّ تُرْبَة أحمدٍ |
أن لا يَشُمَّ مدى الزمان غَوَالَيَا |
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها |
صُبَّت على الأيام عُدْنَ لَيَالِيَا |
أمام قبر رسول الله r
.. وفي ذلك المحل الذي تذوب فيه القلوب، وتنهمر العيون، وتتصل
الأرض بالسماء، وينمحي الزمان والمكان .. أحسست بروحي ترفرف في الملأ الأعلى في
عوالم الجمال التي لا كدورة فيها ولا شوائب .. وهناك .. وفي ظلال تلك السعادة التي
ليس فوقها سعادة .. تذكرت أولئك الملايير من البشر الذين رضوا بأن يعيشوا في
الظلمات تاركين هذه الأشعة العظيمة الجميلة الدافئة المنيرة التي أرسلها الله
لتكون رحمة للعالمين.
تذكرتهم، فامتلأت هما وحزنا .. لا
عليهم وحدهم .. بل علي وعلى جميع المسلمين الذين راحوا يكتمون ما أمر الله بنشره،
ويشوهون ما أمر الله بتزيينه، فملأوا أعين العالم بالغشاوة التي تحول بينهم وبين
منبع الحقائق، ومصدر النور، ومشعل الهداية، ومربع الرحمة.
في ذلك المحل تذكرت الآيات التي
تخبرنا بأن هذا الدين ليس خاصا بنا، وتبشرنا بأن رسول الله r هو رحمة للعالمين، ولا يحق لنا أن نحتكره
لأنفسنا، فـ (المحتكر ملعون)[1]، و(لا يحتكر إلا خاطئ)[2] ..
تذكرت قوله تعالى :﴿ هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33)، وقوله تعالى :﴿
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:28)
وتذكرت تبشير الله لنبيه r
بدخول الناس في دين الله أفواجا :﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) (النصر:2)
وتذكرت تلك الأحاديث التي بشر فيها
رسول الله r البشرية بأنه سيأتي اليوم الذي ترمي فيه أغلال الشياطين لتتحرر من
عبوديتها، ومن عبودية الأهواء والشهوات التي تنصرف بها عن حقيقتها.
تذكرت قوله r :( ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت
مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله
به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)[3]
وصحت في نفسي من حيث لا أشعر: متى
يأتي ذلك اليوم؟ .. متى ترتفع الظلمات عن هذه البشرية التائهة؟ .. متى تتنزل أنوار
الهداية؟ .. متى يدخل الناس في دين الله
أفواجا؟
بينما أنا كذلك أخاطب نفسي .. شعرت
بيد تربت على كتفي وتقول لي: تعال.. فقد آن لك أن تلقى من يسلك القفار، ويقطع
البحار، لينشر الأنوار.
قلت: تقصد الفم العاشر .. ذلك الذي
أبحث عنه.
قال: إن كان الفم العاشر هو فم
(الشاهد) .. فهو ما سأدلك عليه؟
قلت: عرفت الحكيم والواعظ والمحاور
والمعلم والقدوة والمربي والخطيب والمفتي والمحتسب .. فما الشاهد؟
قال: ألم تقرأ قوله تعالى عن وظائف
رسول الله r :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (الأحزاب:45)، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا
إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً) (المزمل:15)؟
قلت: بلى .. وقرأت مثلها قوله تعالى
عن وظائف الأمة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )(البقرة: من
الآية143)، وقوله تعالى :﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( (الحج:78)
قرأت هذا .. فما يعني؟
قال: هذا يعني أن الشهادة وظيفة من
أعظم وظائف رسول الله r، ووظيفة من أعظم وظائف الأمة[4].
قلت: أعرف الشهادة التي هي الموت في
سبيل الله .. وأعرف الشهادة التي ترتبط بالقضاء .. وأعرف الشهادة التي تعني الحضور
.. فما الشهادة التي ذكرت في هذا المحل؟
قال: هي جميع ذلك .. وهي غير ذلك ..
قلت: لم أفهم.
قال: لقد كان الصالحون يذكرون أربع
مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله ..
وثانيها: سير
الإنسان من الله في الله، بحثا عن معرفة الله .. وثالثها: سير الإنسان مع الله إلى خلق الله ..
ورابعها: سير الإنسان
مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق الله .
قلت: فأي سير منها يحقق الشهادة التي
هي وظيفة الأمة؟
قال: هي المرحلة الأخيرة من سير السالكين
.. وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان.
قلت: ولكن هذه وظيفة الحاكم لا وظيفة
الداعية .. فالحاكم هو الذي يسير الجيوش التي تفتح أقطار الأرض، وتجعلها بأيدي
المسلمين.
قال: لا .. ليست هذه هي الشهادة ..
الشهادة أخطر من هذا .. والحاكم الصالح لا يبحث عن الاستيلاء على الأراضي، وإنما
يبحث عن الاستيلاء على العقول والقلوب.
قلت: ولكن الخلفاء الراشدين سيروا
الجيوش التي فتحوا بها الأرض، ونشروا بها الإسلام.
قال: لم يكن سيرهم للاستيلاء على
الأرض، وإنما كان سيرهم لتخليص المستضعفين الذين حيل بينهم وبين تبصر الحق أو سلوك
سبيله .. وكيف ينشرون الإسلام بالسيف، وقد قال تعالى:) لا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (
(البقرة: من الآية256).
قلت: أجل .. فقد نصت النصوص القطعية
على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره،
ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
قال: أجل .. فالهداية مصلحة شخصية،
والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا
الإلزام بذلك، قال تعالى :﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل(ٍ(يونس:108)وقال
تعالى :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ
فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ((الزمر:41)
والقرآن الكريم يخبرنا أن دور المؤمن
هو الدعوة لا السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى :﴿ فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(
(عبس:21)
وهو يخبرنا أن الإيمان والكفر حرية
شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى :﴿ وَقُلْ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ
يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا((الكهف:29)
قلت: أعرف هذا .. ولكني لا أزال
أتساءل عن سر الشهادة التي هي وظيفة هذه الأمة نحو سائر الأمم.
قال: الشهادة تتحقق بأن تكون الأمة
نموذجا صالحا تهتدي بهديها الأمم، بل تحن لسلوك سبيلها.
قلت: فكيف تتحقق هذه الشهادة في
منتهى كمالها؟
قال: تعال معي لأدلك على من يعلمك
علوم ذلك.
قلت: أتريد أن تبعدني من هذا المحل
الطيب الذي لا حياة للقلب إلا به؟
قال: اجعل هذا المحل في قلبك، وسر
حيث شئت، أنسيت ما قال لك معلم الهداية؟
قلت: لقد قال لي :( سر في الأرض ..
فلن ينال الهداية ولا علوم الهداية إلا من سار في الأرض، وخبر البشر، وتعلم لغة
الطير، وسلك مسالك النحل، وسكن قرى النمل)
قال: فسر .. فبالله إن تسر تر
العجائب.
***
سرت مع الرجل في بعض الأحياء العتيقة
من المدينة المنورة إلى أن دخلنا دارا لم تكن تبعد كثيرا عن مسجد رسول الله r
.. ولكنها في ظاهرها كانت دارا غريبة .. فلم تكن تشبه أي دار من تلك الدور المحيطة
بها .. لقد كانت وكأنها من عالم آخر.
قلت: أهي دار عتيقة من تلك الدور
التي لا نزال نرى مثلها في الآثار؟
قال: لا .. بل هي دار عصرية حديثة ..
بل هي أكثر تطورا من جميع ما رأيته من دور .. ومع ذلك، فهي تحتفظ بجميع حلل
الأصالة ..
قلت: دعني من الدار .. وحدثني عما
رأيت داخلها.
قال: لقد رأيت سبعة رجال عليهم سيما
الورثة .. جلس كل واحد منهم في ناحية من النواحي، وأمامه الكثير من الأجهزة
المتطوره .. وهو يتعامل معها بانفعال عجيب حتى أنهم لم يلتفتوا إلي، بل لم يرني
أحد منهم.
لقد خطر على بالي، وأنا أراهم أولئك
العلماء والباحثين الذين يجلسون أمام مكاتبهم وأجهزتهم، وهم يرقبون باهتمام وحرص
أي صاروخ يطلق، أو أي مركبة تريد أن تنفذ من أقطار الأرض.
قلت لصاحبي: أهذه وكالة فضاء؟
قال: لا .. هذه وكالة هداية .. وهي
مختصة بالشهادة.
قلت: ومن هؤلاء؟
قال: هؤلاء مهندسو شهادة .. كل عقل
منهم لا يفكر إلا فيها .. وكل فم فيهم لا ينطق إلا بها.
قلت: فهم انتحاريون إذن؟
قال: لا .. بل حياتيون .. إن أفكارهم
لا تحل بموضع إلا ملأته بأنوار الهداية والإيمان والحياة .. إنهم لا ينشرون الدمار
بل ينشرون الحياة.
قلت: لكأني أعرف وجوههم .. وكأني لا
أعرفها.
قال: نعم هم الظاهرون الباطنون ..
قلت: فعرفني بهم.
أشار إلى أحدهم، وقال: هذا القمي[5] .. وهو رجل لا همة له إلا
توحيد المسلمين، وتحقيق التآلف بينهم، فقد رأى أن فرقتهم هي السبب في انشغال بعضهم
ببعض، وترك ما طلب منهم من دعوة الأمم إلى الله .. وقد رأى أنه لا يمكن أن يدخل
الناس في دين الله أفواجا، وهم يرون المسلمين يتصارعون تصارع الديكة، فراح يبحث عن
علل الفرقة، وعن أدوية الوحدة والتقارب والتعايش.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك الكواكبي[6] .. وهو رجل ذاق مرارة الاستبداد، فراح ينفر منه، ويدعو إلى
العدالة التي جاء بها الإسلام .. فلا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم
يرون حكام المسلمين أباطرة وقياصرة وأكاسرة ونماردة.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك محمد
إقبال[7] ..
قلت: أعرفه .. الشاعر المعروف .. ما
الذي جاء به إلى هنا .. لقد كنت أحسبه ميتا.
قال: مثله لا يموت .. لقد جاء إلى
هنا ليهندس للشهادة .. لقد رأى ما عليه المسلمون من ذلة ومهانة وعجز .. فراح يبحث
عن أسباب ذلك، ويدعو إلى علاجه .. لقد علم أنه لا يمكن أن يدخل الناس في دين الله
أفواجا، وهم يرون المسلمين بذلك الذل وتلك المهانة.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك أبو
الأعلى المودودي[8] .. وهو رجل ذاب في الشريعة، فصار مرآة لأحكامها، ومشعلا من مشاعل
الدعوة إليها .. لقد رأى أن سبب انصراف الناس عن الدخول في دين الله أفواجا ما
عليه الحكومات من انحراف عن شريعة الله .. فلذلك نذر حياته على الدعوة لتصحيح هذا
الانحراف، وتقويم هذا الاعوجاج.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك شكيب
أرسلان[9] .. لقد رأى ما عليه المسلمون من تخلف عن ركب الحضارة .. فراح يبحث
عن أسباب ذلك، ويدعو إلى علاجه .. فقد علم أنه لا يمكن أن يدخل الناس في دين الله
أفواجا، وهم يرون المسلمين بذلك التخلف.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك الشعراوي[10] .. لقد رأى أن ما عليه المسلمون من بعد عن كتاب ربهم، وعن بحار
العلوم التي يبشر بها هو السبب في ذلك الجهل والتخلف الذي قعد بهم عن وظيفة
الشهادة التي كلفوا بها .. فراح يبحث عن السبل التي يبلغ بها كلام ربه، ورسالة ربه
ليدخل الناس من خلال أنوارها في دين الله أفواجا.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك ديدات[11] .. لقد رأى أن ما عليه المسلمون من جهل بما يعتقده البشر من عقائد
وأفكار هو السبب في قعودهم عن الدعوة إلى الله، ومواجهة الغافلين بالحجة والبرهان،
ولجوئهم بدل ذلك إلى السيف والسنان .. فراح يعلمهم أسرار المسايفة بالحجة
والبرهان، بدل المسايفة بالسيف والسنان.
بينما نحن كذلك، إذا بالقمي يقوم من
مجلسه، وهو في غاية السعادة والسرور، ويصيح في الجمع: لقد وجدت الحل .. لن يرفضه
أحد .. سيقبله الكل .. وستنحل العقدة.
استبشرت الجماعة جميعا لاستبشاره،
وراحت تكبر، ثم تحاوره فيما جاء به .. سأنقل لك بعض ما ينفعك من الحوار الذي دار
بين القمي وبين مهندسي الشهادة.
قال المودودي: نحن نعلم صدقك في بحثك
يا سيدنا الفاضل، يا حبيب آل بيت رسول الله r ، ونعلم أن الله لن يضيع جهد باحث .. فاذكر لنا ما وجدت، وبشرنا
عسانا نستفيد مما وصلت إليه في إزالة العواقب التي تحول بيننا وبين ما نريده.
قال القمي: لقد وجدت أن الصخرة
الكؤود التي تقف بيننا وبين الشهادة التي أمرنا بها هي تفرقنا واختلافنا وانشغال
بعضنا ببعض .. لقد صرنا كأولئك الأطفال الأغبياء الذين انشغلوا عن واجباتهم
بالصراع بينهم .. فراح عدوهم يستغل ذلك الصراع لينشر كل فتنة، ويقتل كل إصلاح.
قال الشعراوي: صدقت في هذا .. لقد
أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من عواقب الفرقة، فقال :﴿ لا
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر:14)
انظروا حكمة القرآن الكريم .. لقد
اعتبر كل ما حصل لهؤلاء من رعب وضعف وذلة وعدم عقل هو ما كان بينهم من خلاف ..
ولهذا نرى النصوص القرآنية الكثيرة
تأمرنا بالتآلف، وتحذرنا من عواقب الاختلاف قال تعالى :﴿ وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)
وقال تعالى :﴿ إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ
إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159)
وقال :﴿ مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)
(الروم:32)
وقال :﴿ إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92)
وقال :﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)
قال شكيب[12]: صدقت .. لقد جاء محمد r بهذا الدين رسولا إلى الناس جميعاً، وكان من أبرز مبادئه التسوية
بين جميع الشعوب، وعدم الاعتراف بالفروق التي ألف الناس أن يعترفوا بها، ويتعاملوا
على أساسها، وكانت بعثته r في وقت بلغت فيه العصبيات أوجها، فكانت كل أمة
تعتز بنفسها، وتعتد بما عندها، وتعتبر جنسها هو خير الأجناس، وكان العرب أنفسهم
منقسمين قبائل وأفخاذاً وبطوناً، وكل قبيلة تعتقد أنها خير القبائل، وتحتفظ
بأنسابها، ولا تختلط بغيرها، حتى كان منهم قبائل لا تُصهر إلى غيرها، ولا يصهر
غيرها إليها، وسمّوا أنفسهم (بالجَمَرات) تشبيها بالنار التي تتقى، ولا يجرؤ أحد
على مسها.
فلما جاء رسول الله r
هدم ذلك كله، ونادى فيهم بقول ربه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، ثم كان تصرفه r في سياسة المؤمنين مبنياً على هذا المبدأ السامي: مبدأ إهدار
العصبيات، وهدم عوامل التفرق والتقاطع حتى ألف الله به بين جميع القلوب، وبنى من
هذه اللبنات المفككة صرحاً قوياً متماسكا استندت اليه دعوة الحق، واحتمى به
الإسلام وهو ناشئ غض، حتى جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
لقد امتن الله بذلك على رسوله r
وعلى المؤمنين، فقال :﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(63)﴾(لأنفال)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ (آل عمران) ..
قاطعه الشعراوي، والسرور باد على
وجهه، وهو يقول ـ وبيده مصحفه الصغير يقرأ منه ـ : انظروا .. إن هذه الآية التي
تبين نعمة الله على المؤمنين بالتآليف والتآخي عقبت بهذه الآية التي تأمر بأداء ما
تتطلبه الشهادة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. اسمعوا .. قال تعالى :﴿
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
(آل عمران: 104)
ثم عقبت هذه الآية بقوله تعالى :﴿
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (آل عمران:105)
وبذلك حصرت آية الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بما يدل على وجوب الألفة وحرمة الفرقة .. وكأنها تقول لنا :( إن
من لم يستطع أن يملأ عالمه بالسلام والألفة لا يستطيع أن يملأ عوالم غيره بها ..
وإن من لم يستطع أن يرتب بيته، فهو أعجر من أن يرتب بيوت غيره)
قال ذلك، ثم التفت بأدب إلى شكيب،
وقال: اعذرني .. فأنت تعلم طبعي .. واصل حديثك ..
ابتسم شكيب، وقال: بورك فيك وفي هذه
اللطيفة التي ذكرتها ..
لقد ذكرت لكم أن النصوص المقدسة كلها
تحض على الألفة وتعتبرها من نعم الله العظمى على عباده .. وهكذا ظل الأمر في حياة
رسول الله r ..
فلما اختار الله رسوله r
الى جواره سار أصحابه في طريقه، غير أن الزمان عاجلهم ببعض المشكلات فاختلفوا
فيها، وكان خلافهم في دائرة الحق والمصلحة كما يعتقد كل منهم .. ثم انقضت الحقبة
الأولى من عمر الدولة الإسلامية، بعد أن تركت في جسم الأمة جراحا عميقة كان من سوء
الحظ أنها لم تجد أساة معالجين، بل وجدت من لا يزال ينكؤها ويحييها ويحتفظ بها
خضراء ـ كما يعبر أدباء الغرب ـ وفعلت السياسة فعلها، وعادت العصبيات إلى سابق
عهدها، فتعددت الأحزاب والفرق والطوائف، وكثرت الخلافات المسائل الجدلية، وترامى
المسلمون بالتهم، وساءت بينهم الظنون، ومشى كل فريق في طريق، فضلّت بهم السبل عن
الطريق السوي، وذاق بعضهم بأس بعض، وتمكن منهم أعداؤهم، فدسوا لهم في السياسة،
ودسوا لهم في التاريخ، ودسوا لهم في العلم والرواية، ودسوا لهم في النظريات
الفلسفية، والقضايا الغيبية، وفتحوا لهم آفاق الشك والريب فيما لديهم، وشغلوهم
بالجدل والخصام حتى أنهكوا قواهم، وأوهنوا عقولهم، وحطّموا أعصابهم، وأفقدوهم
الثقة بأنفسهم، والتعويل على مواهبهم، ثم اقتطعوا أوطانهم قطعة بعد قطعة،
واقتسموها فيما بينهم غنائم باردة، في صورة الاستعمار أحياناً، والحماية أحياناً،
والوصاية أحياناً، ومناطق النفوذ أحياناً، فتح الأسواق أحياناً، وهكذا من كل ما
برَّر به الغاصبون غصبهم، وجعلوه ستاراً على مطامعهم وشهواتهم.
تلك حال المسلمين اليوم، وإن داءهم
لقديم منذ تدابروا وتقاطعوا وصاروا شيعاً، يصدق عليهم قوله تعالى :﴿
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ) (المؤمنون:53)
ولا صلاح لهم، ولا شفاء من دائهم،
إلا بأن يعودوا كما بدأهم الله أمة واحدة لا فرق بين شعوبهم، ولا تناحر بين
طوائفهم، ولا جهالة تصور الشيعي للسني، أو السني للشيعي، عدوا يظن به الظنون
ويخافه على دينه وعقيدتة، ويتحفظ فيما يقرأ له من كتاب، أو ينقل عنه من رأي.
قال المودودي: صدقت .. فالتنازع
والتقاطع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، مبدد للأموال والثروات، ذلك
أنه إذا دب الخلاف، واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت
الأجساد، فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، كما قال r
:( دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا
أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)[13]، وقال r :( والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، ولا تسلموا حتى
تحابوا، وافشو السلام تحابوا، وإياكم والبغضة ؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم:
تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)[14]
فإذا وقع التدابر أظلمت الوجوه، وساء
ظن المسلم بأخيه (والظن أكذب الحديث)، وتفوهت الأفواه بفاحش القول وألوان البهت،
وربما امتدت الجوارح بالضرب والقتل وقد قال r :( المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على
المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا وأشار إلى القلب بحسب امرئ من الشر أن
يحقر أخاه المسلم)[15]، وقال :( المؤمن من آمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده والمهاجر من هجر السوء، والذى نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يامن جاره
بوايقه)[16]
فإذا وقع ما نهى رسول الله r
عنه فسد العباد وساءت البلاد، وفشلت الأمة، وذهب ريحها، كما قال تعالى :﴿
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ (الأنفال:46)
ونتيجة لهذه المفاسد العظيمة
والعواقب الوخيمة كان الصلح بين المتخصامين من أجل القربات وأعظم الطاعات، حث
عليه الشارع ورغب فيه، وجعله خير ما يتناجى به المتناجون، قال تعالى :﴿ لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ (النساء:114)
قال الشعراوي: صدقت .. فما ورد في
النصوص من الصلح لا ينطبق بكماله إلا في هذا النوع من الصلح بين المسلمين .. فما
ورد في النصوص من التحذير من النميمة والغيبة والحقد والحسد لا يشمل ما يرتبط منها
بالأفراد فقط، فهو يسير حقير بجنب ما يرتبط منها بالأمة جميعا.
لقد تأملت ما ورد في النصوص من
التحذير من النميمة وبيان خطورتها، فعلمت أن ذلك ليس مرتبطا بالنميمة بين الأفراد
فقط، بل أخطر النميمة هي التي تصدع وحدة الأمة، وتفرق صفها، وتنشر العداوة بينها.
لقد ورد في الحديث قوله r
:( لا يدخل الجنة نمام)[17] .. وقال r :( النميمة والشتيمة والحمية في النار)[18]، وفي لفظ :( النميمة والحقد في النار لا يجتمعان في قلب مسلم)
انظروا .. كيف جمع r
بين الحقد والنميمة .. وهؤلاء الذين ينشرون الفرقة بين المؤمنين لا يصدرون إلا عن
حقد يسمونه دينا، وغضب للنفس يسترونه باسم الغضب لله؟
وجمع r بين النميمة والحسد، فقال :( ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة
ولا أنا منه)، ثم تلا رسول الله r قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً
وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ (الأحزاب:58)[19]
ولهذا، فإن رسول الله r
اعتبر هؤلاء المجرمين شر عباد الله، فقال :( خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر
الله، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء
العنت)[20]، وفي رواية :( المفسدون بين الأحبة)[21]، وفي رواية :( الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون
للبرآء العيب يحشرهم الله في وجوه الكلاب)[22]
وفي حديث آخر قال r
:( ألا أنبئكم بشراركم؟) قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله ، قال : (شراركم الذي
ينزل وحده ، ويجلد عبده ، ويمنع رفده ، أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟) قالوا: بلى إن
شئت يا رسول الله ، قال : من يبغض الناس ويبغضونه.
قال:( أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟) قالوا:
بلى إن شئت يا رسول الله ، قال :( الذين لا يقيلون عثرة ، ولا يقبلون معذرة ، ولا
يغفرون ذنبا)
قال :( أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟)
قالوا: بلى يا رسول الله ، قال :( من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)[23]
صاح شكيب: بورك فيك ـ يا شيخنا ـ
والله لكأن رسول الله r يتحدث عن أولئك الذين ندبوا أنفسهم للتفريق بين المؤمنين .. فهم
لا هم لهم إلا تتبع العورات .. إن وجدوا حسنة كتموها، وإن وجدوا سيئة سارعوا إلى
نشرها من غير تثبت ولا تحقيق.
قال المودودي: لقد بلغ الحقد ببعضهم
أن راح ينسب لإخواننا من الشيعة القول بأن القرآن الكريم محرف، غير مدرك خطورة ما
يقوله مع أن كل علمائهم وأوليائهم وعوامهم لا يقرؤون من القرآن إلا ما نقرؤه جميعا[24]، ولا يعرفون من الدين إلا ما نعرفه.
قال الشعراوي: ولهذا، فإن النبي r
اعتبر إصلاح ذات بين المسلمين من أعظم أعمال الخير .. هذا إذا كان بين أفراد، فكيف
إن كان بين طوائف المسلمين ومذاهبهم وفرقهم ..
لقد ورد في الحديث قوله r
:( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى ، قال : (إصلاح
ذات البين ، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)[25]، وفي رواية :( هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)
قال القمي: بورك فيكم جميعا .. وقد
وجدت من خلال بحثي في علاج هذا أن سببه هو ذلك الفهم المحدود للدين، الممتلئ
بالتعصب الذي يرى الأشياء بمنظار واحد يلغي ما عداه مع أن ما عداه قد يكون عين ما
ينكر عليه.
قال إقبال: صدقت .. لقد ذكرتني بقصة
ذكرها العارف الكبير مولانا جلال الدين البلخي الرومي في كتابه (المثنوى) قال: كان
أربعة من الفقراء جالسين في الطريق، وكل منهم من بلد، أحدهم رومي، والثاني فارسي،
والثالث عربي، والرابع تركي، ومرّ عليهم محسن، فأعطاهم قطعة من النقد غير قابلة
للتجزئة، ومن هنا بدا الخلاف بينهم، يريد كل منهم أن يجعل الآخرين على اتباع رأيه
في التصرف في هذا النحو، أما الرومي فقال نشترى بها (رستافيل)، والفارسي قال: أنا
لا أرى من (الانگور) بديلا، وقال العربي: لا والله لا نشتري به إلاّ (عنبا)، وقال
التركي متشددا في لهجة صارمة: أن الشيء الوحيد الذي أرضى به هو: (اوزوم)، أما ما
سواه فاني لا أوافق عليه أبدا، وجرَّ الكلام بين الأربعة إلى الخصام، وكاد يستفحل
الأمر لولا أن مرَّ عليهم رجل يعرف لغاتهم جميعاً، وتدخل للحكم بينهم.
فبعد أن سمع كلامهم جميعا، وشاهد ما
أبداه كل منهم من تشدد في موقفه أخذ منهم النقد، واشترى به شيئا، وما أن عرضه
عليهم حتّى رأى كل منهم فيه طلبته، قال الرومي هذا هو (رستافيل) الذي طلبته، وقال
الفارسي: هذا هو (الانگور) وقال العربي: الحمد لله الذي أتاني بما طلبت، وقال
التركي: هذا هو (اوزوم) الذي طلبته، وقد ظهر أن كلا منهم كان يطلب العنب من غير أن
يعرف كل واحد منهم أنه هو بعينه ما يطلبه أصحابه.
قال الكواكبي: ومما ورد في الحديث
مما يشير إلى ذلك ما حدث به ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رجلاً قرأ آية،
وسمعت النبي r يقرأ خلافها، فجئت به النبي r فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛
فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)[26]
وفي الحديث الآخر عن ابن عمر ـ رضي
الله عنه ـ أن النبي r قال لأصحابه يوم بني قريظة: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني
قريظة)، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم
العصر، وقال قوم: لم يُرِدْ منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب r
واحداً من الطائفتين[27].
قال المودودي[28]: إن إيصال مثل هذه المفاهيم لعامة المسلمين وخاصتهم يحتاج إلى
تعريفهم بحكمة الله في خلقه .. فقد اقتضت حكمة اللّه في خلقه أن جعل الناس مختلفين
في ألوانهم وألسنتهم ومداركهم وتصوراتهم، ولكن اللّه جل شأنه لم يرد أن يكون هذا
الاختلاف بين الناس مدعاة الى النزاع والشقاق، بل جعله دافعاً الى التآلف
والوئام، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
فهذه الآية الكريمة تلفت نظر الناس
جميعاً الى حقيقة ثابتة لاجدال فيها، وهي وحدة الأصل الإنساني، ثم تبين أن اللّه
أراد ان يجعل من ذرية آدم شعوباً وجماعات مختلفة :﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
(هود)
ولكن هذا الاختلاف ـ الذي هو حقيقة
واقعة لا شك فيها ـ ينبغي أن يكون محرّكاً للناس نحو التعارف والتآلف كما تشير
الآية الكريمة ﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾ ، وهذا التعارف من شأنه أن يكون
مبنيا على الاحترام المتبادل والفهم المتبادل ومؤدياً الى التعاون المشترك فيما
فيه خير الجميع.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للناس
على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأديانهم وحضاراتهم، فمن باب أولى ينبغي أن يكون
ذلك شأن الأمة الإسلامية التي ينبغي عليها أن تضع ذلك في اعتبارها وفي مقدمة
أولوياتها. فقد أراد اللّه لها أن تكون أمة واحدة، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)
(الانبياء:92)
فالأمة الإسلامية تضم تحت جناحيها
مختلف الشعوب التي تدين بالاسلام على الرغم من تنائي الديار واختلاف الألسنة
والألوان، فهذه أمة لها أهداف واحدة، تعبد ربا واحدا، ولها قرآن واحد لم يختلف
عليه أحد من أبنائها، ولها قبلة واحدة يتجه المسلمون جميعا اليها في صلواتهم،
وتهفو اليها أرواحهم في حجهم الى بيت اللّه الحرام، وفضلا عن ذلك فالجميع متفقون
في أصول الايمان وأركان الاسلام، وفي كل ما علم من الدين بالضرورة.
ولكن طبيعة الامور تبين لنا أن لكل
فرد ذاتيته وشخصيته المستقلة، والناس مختلفون في نواحي ظاهرية وأخرى باطنية.
ومن هنا تختلف وجهات النظر فيما
بينهم، وهذا أمر لا بأس به طالما ظل هذا الاختلاف محصورا في إطار الأمور الفرعية
القابلة للاجتهاد المشروع، ولا يجوز لمثل هذا الاختلاف أن تكون له آثار سلبية
تتسرب إلى قلوب المسلمين فتفسد تآلفها وتزرع فيها التناحر والتخاصم، والا أصبح
الاختلاف شراً.
قال الشعراوي ـ مقاطعا له ـ : وهذا
ما حذر منه النبي r حين قال :( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)[29]
واصل المودودي يقول: ومن هنا ينبغي
على المسلمين أن يجتمعوا على ما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا
فيه.
واذا كان اختلاف وجهات النظر في
الامور الفرعية أمراً جائزاً في إطار مبدأ الاجتهاد الإسلامي المشروع، فليس هناك
مبرر على الاطلاق لان تكون هذه الاختلافات الفرعية عقبة في طريق تحقيق وحدة الأمة
الإسلامية، فقد أمرنا أن نعتصم بحبل اللّه المتين، كما قال تعالى :﴿
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من
الآية103)، ونهينا عن أن نبدد جهودنا وطاقاتنا، لأن هذا لن يخدم الا أعداء
الاسلام ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾
(لأنفال: من الآية46)
وليس هناك مسلم مخلص لدينه يقبل أن
يكون عنصرا يخدم أعداء الدين.
قال القمي: ومن هنا ينبغي على عقلاء
الأمة وعلمائها أن يعملوا على توحيد الصفوف وبذل الجهود المتواصلة في سبيل إزالة
العقبات التي تعترض طريق الأمة نحو التقدم والازدهار.
ومن هذه العقبات تلك الآثار السلبية
للخلافات المذهبية بين السنة والشيعة، أو بين بعض الطوائف داخل إطار كل منهما.
وقد آن الأوان لأن تختفي مظاهر هذا
الخلاف التاريخي، وتزول عوامل النزاع والشقاق بين طوائف الأمة.
ولست أقصد بذلك أن يتغلب مذهب على
مذهب، أو أن ينتصر فريق على فريق.. فالقضية أكبر من ذلك بكثير .. إنّها بالدرجة
الأولى قضية الإسلام كدين، وقضية الأمة الإسلامية التي (تداعت عليها الأمم كما
تداعى الأكلة إلى قصعتها)[30]كما أخبر بذلك
رسول اللّه r، وكما هو واقع أمام أعيننا في عالم اليوم، فحقوق المسلمين في كل
مكان مهدورة، وأعراضهم في مناطق عديدة منتهكة، ودماؤهم تراق ليل نهار ظلما
وعدوانا، وهم عاجزون عن فعل شيء غير الشجب والاستنكار والإدانة.
ومن هنا فإن المسلمين اليوم في أشد
الحاجة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى توحيد صفوفهم، وتنسيق جهودهم، ودفن خلافاتهم
على جميع الأصعدة، لان قضيتهم في عصرنا الحاضر قضية مصيرية، هي أن يكونوا أو لا
يكونوا.
قال الشعراوي[31]: لقد ذكرني كلامك هذا بأيام جميلة عشتها في الأزهر الشريف صحبة
علماء أجلاء كان التفكير في وحدة الأمة عندهم أول الأوليات، وأصل الأصول.. فلذلك
نبذوا كل تعصب، وتحرروا كل قيد، وجعلوا انتماءهم للإسلام هو الانتماء الأعلى الذي
لا ينافحون إلا عنه، ولا ينتصرون إلا له.
في تلك الأيام .. في الأربعينيات من
هذا القرن .. شهدت القاهرة حركة تقريبية رائدة، انطلقت من دار التقريب، وجماعة
التقريب في القاهرة، وضعت هذه الحركة لها خطة عمل مدروسة في حقل الأصول والفروع
لنشر ثقافة التقريب، وحققت عبر مجلتها (رسالة الإسلام) نجاحا في إزالة الحواجز
النفسية، وتصحيح المفاهيم لدى السنة والشيعة..
سأقص عليكم القصة من البداية .. لعلنا
نجد من يحييها من جديد .. ليحيي بإحيائها وحدة الأمة وعزتها وكرامتها:
في تلك الأيام الجميلة قدم العلامة
محمّد تقي القمي، الذي قدم من إيران إلى مصر لأول مرة في عام 1937 م، والتقى فيها
بكبار شيوخها، خصوصا الشيخين محمّد مصطفى المراغي ـ شيخ الأزهر ـ وعبد المجيد
سليم الذي كان مفتيا، ودرس في الأزهر لمدة سنتين، وشجعه اللقاء مع شيوخ الأزهر
على طرح فكرة التقريب، التي خرجت إلى حيز الوجود حين عاد الشيخ القمي إلى مصر لكي
يستقر بها في سنة 1946 م، ويؤسس مع نخبة ممتازة من الشخصيات المصرية (دار
التقريب بين المذاهب)
لقد شكل أول مجلس إدارة لدار التقريب
في عام 1947م، وضم عشرين عضواً من تلك الكوكبة التي التقت على الفكرة وتحمست لها
في مصر، وكان معهم عدد آخر من العلماء يمثلون الشيعة الإمامية والزيدية.
رأس الجمعية في أول تأسيسها أحد كبار
المصلحين في مصر آنذاك، هو (محمّد على علوبة باشا) الذي كان وزيراً في عدة حكومات
(للأوقاف والمعارف) وعينته مصر أول سفير لها في باكستان.
وكان من بين الأعضاء الشيخ عبد
المجيد سليم رئيس هيئة الفتوى بالأزهر، ثم صار شيخا للأزهر فيما بعد، والشيخ أحمد
حسين مفتي وزارة الأوقاف، والشيخ محمود شلتوت الذي كان عضواً بهيئة كبار العلماء،
وصار بدوره شيخا للأزهر، والشيخ محمّد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر ، والشيخ عيسى
ممنون عضو هيئة كبار العلماء ورئيس الجمعيات الشرعية، والشيخ حسن البنا رئيس
الإخوان المسلمين، والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ علي الخفيف، وهما من كبار
أساتذة الفقه والتشريع بالجامعة، والشيخ محمّد المدني الأستاذ بالأزهر وأصبح
وكيلا للأزهر فيما بعد.
وإلى جانب هؤلاء كان من بين الأعضاء
الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، والشيخ محمّد تقي القمي ممثلا للشيعة الإمامية، وعلي
بن إسماعيل المؤيد، والقاضي محمّد بن عبدالله العمري، عن الشيعة الزيدية.
والى جانب نخبة العلماء الممتازة
التي أسست جمعية التقريب وتصدرت أول مجلس إدارة لها، فقد بين النظام الأساسي
للجمعية أنها تتطلع إلى ما هو أبعد من جمع كلمة المسلمين باختلاف طوائفهم
ومذاهبهم إذ لم يكتف المؤسسون بذلك الهدف الجليل، وإنّما طمحوا لأن يصبح الكيان الجديد بمثابة رابطة أو
جامعة للشعوب الإسلاميّة تتجاوز حدود مصر، فقد نصت المادة الخاصة بأغراض الجماعة
على أن من تلك الأغراض السعي إلى إزالة ما يكون من نزاع بين شعبين أو طائفتين من
المسلمين والتوفيق بينهما، وعقد مؤتمرات إسلامية عامة تجمع زعماء الشعوب
الإسلاميّة في الأمور الدينية والاجتماعية، فضلاً عن ذلك فإن الجمعية أرادت أن
تقوم بدور في الدعوة إلى الإسلام عن طريق نشر المبادئ الإسلاميّة باللغات
المختلفة وبيان حاجة المجتمع إليها.
هؤلاء هم الورثة الحريصون على الأمة
وعلى وحدة الأمة .. وهذه هي هممهم .. فما الذي فعلوه؟
لعل أهم شيء يلفت الانتباه في هذا هو
تلك الفتوى الجريئة الدالة على الفهم العميق للإسلام، وعلى التخلي التام عن كل
أغلال التعصب، فتوى الشيخ محمود شلتوت التي أصدرها بعدما صار شيخا للأزهر[32]، والتي أجاز فيها التعبد على مذهب الشيعة الإمامية وغيرها من
المذاهب التي تتأسس على أصول الإسلام القطعية.
لقد قال يتحدث عن إيمانه العميق بضرورة التوحيد
بين هاتين الطائفتين العظيمتين من طوائف المسلمين:( إن دعوة التقريب هي دعوة
التوحيد والوحدة، هي دعوة الاسلام والسلام.. لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم
وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة .. ثم تهيأ لي
بعد ذلك، وقد عهد إليّ بمنصب مشيخة الازهر، أن أصدرت فتواي في جواز التعبد على
المذاهب الاسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين،
ومنها مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، وقرّت بهذه الفتوى عيون المؤمنين
المخلصين الذين لاهدف لهم الا الحق والألفة ومصلحة الأمة، وظلت تتوارد عليّ
الاسئلة والمشاورات والمجادلات في شأنها وأنا مؤمن بصحتها، ثابت على فكرتها،
أؤيدها في الحين بعد الحين فيما أبعث به من رسائل للمستوضحين، أو أردّ به على شبه
المعترضين، وفيما أنشئ من مقال ينشر أو حديث يذاع أو بيان أدعو به الى الوحدة
والتماسك والالتفاف حول أصول الاسلام ونسيان الضغائن والاحقاد، حتى أصبحت ـ
والحمد للّه ـ حقيقة مقررة تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة بعد أن كان
المرجفون في مختلف عهود الضعف الفكري والخلاف الطائفي والنزاع السياسي، يثيرون في
موضوعها الشكوك والأوهام بالباطل. وهاهو ذا الازهر الشريف ينزل على حكم هذا
المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة فقه المذاهب
الاسلامية سنيها وشيعيها دراسة تعتمد على الدليل والبرهان وتخلو من التعصب لفلان
وفلان)[33]
اسمحوا لي .. إن كنت قد قرأت لكم هذا
النص بطوله .. فأنا لم أفرح بفتوى كما فرحت بهذه الفتوى .. لقد ذكرت بهذا الموقف
العظيم لمحمود شلتوت قوله r للحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ :( ن ابني هذا سيد، ولعل الله أن
يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)[34]
سكت الشعراوي قليلا، وكأنه يعود
بذاكرته إلى أيام شبابه، ثم التفت إلى الجمع، وقال: في تلك الأيام الجميلة كانت
جماعة التقريب تصدر مجلة جامعة باسم (رسالة الإسلام)، ظلت تصدر طيلة أربعة عشر
عاماً ..
لقد كانت تلك المجلة هي زادنا الذي
منه ننهل الإسلام النقي الطاهر البعيد عن كل تعصب..
لم تكتف الجمعية بذلك بل اعتمدت
تفسيراً للقرآن الكريم اجتمع عليه علماء السنة والشيعة هو تفسير (مجمع البيان
لعلوم القرآن) للطبرسي، الذي استغرق تهيئته للنشر مدة عشرين عاما، وأشرف على هذه
العملية ثلاثة من أكابر علماء الأزهر هم الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمود شلتوت،
ومحمد المدني.
وفوق ذلك شرعوا في تجميع الأحاديث
النبوية المتفق عليها بين السنة والشيعة، وقطعوا شوطا طيبا في هذا الصدد، رغم أن
هذا الجهد لم ير النور بعد.
قال القمي: بورك فيك يا شيخنا .. إنك
تذكرني بشبابي .. بتلك الأيام الجميلة التي كنا نصيح فيها بكل قلوبنا (لا سنية لا
شيعية .. إسلامية إسلامية) .. في تلك الأيام لم نكن نفخر إلا بالإسلام .. كنا نحزن
لكل مصاب من المسلمين مهما اختلف مذهبه، أو لونه، أو وطنه .. ونفرح لكل نصر أصاب
المسلمين لا يهمنا مذهبه، أو لونه، أو وطنه..
لقد كنا نردد بكل قلوبنا قوله تعالى
:﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(المائدة: من الآية3)، فلم نرض
لأنفسنا غير الإسلام .. الإسلام العظيم الواسع الذي لا يضيق بأحد، ولا يعبس في وجه
أحد.
لقد كانت نتائج عمل تلك الجماعة
الصالحة من ورثة النبوة عظيما ومثمرا ـ رغم العمر القصير الذي أتيح لهم أن يتحركوا
فيه بحرية ـ
لقد كان من نتائج ذلك أن حيت فكرة
التقريب، وجمعت من حولها كبار علماء السنة والشيعة، وكان عملها هذا أهليا محضا،
حركته الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولم تكن لهذا العمل علاقة بأي نظام سياسي أو
مؤسسة رسمية.
وكان من نتائجها أنها نجحت في ضم
الفقه الشيعي إلى المذاهب الإسلاميّة الأخرى التي تخضع للدراسة في منهج الفقه
المقارن بالأزهر الشريف.
وكان من نتائجها أنها قطعت شوطاً
كبيراً بإصدار تفسير للقرآن متفق عليه، وسعت إلى تحقيق الفكرة نفسها عن طريق
تجميع الأحاديث النبوية المتفق عليها أيضاً.
وهذا يعني أن جماعة التقريب أنجزت
خطى بالغة الأهمية على صعيد تحويل التقريب من حلم وفكرة، إلى عمل مشترك جاد تبلور
في مجموعة من الآثار العلمية التي بقيت لأجيال المسلمين إلى يوم الدين.
قال المودودي: لقد ذكرتموني بتلك
الأيام الجميلة التي كنت ـ وأنا صحفي كما تعلمون ـ أتزود من مجلة (رسالة الإسلام)
التي كانت تمثل صلب المشروع، وتعكس كيفية رؤية أصحابه له، ولذلك فإنها تعد بحق
صوت التقريب.
إن قارئ أعداد المجلة يلاحظ أنها ظلت
طيلة الأربعة عشر عاما تتحرك على محاور عدة، في مقدمتها خمسة، هي: استنكار فرقة
المسلمين .. والدفاع عن الحق في الاختلاف.. ورفض توحيد المذاهب .. والأصول المتفق
عليها بين أهل السنة والشيعة، ومن ثم السعي الدءوب للتنبيه إلى مساحة المشترك بين
الطرفين .. ورد الشبهات التي تتردد في أوساط أهل السنة بشأن الشيعة ومذهبهم.
قال الكواكبي: فيما يتعلق باستنكار
فرقة المسلمين وتمزقهم، فإنه لا يكاد نص في المجلة يخلو من تعبير عنه .. لقد كان
البيان الذي أصدره مؤسسو دار التقريب عقب أول اجتماع لهم (في 30 ربيع الثاني عام
1366 هـ) هو أوضح إعلان عن الفكرة، فبعد أن أشار البيان إلى ثراء الفقه الإسلامي،
انتقد ممارسات المقلدين والمتعصبين للمذاهب الّذين كلت هممهم عن حمل ما كان يحمله
سلفهم في العلم والنظر، وهو ما صادف عهود الضعف السياسي وانقسام الأمة الإسلاميّة
إلى دويلات صغيرة لا تربطها رابطة ولا تجمعها جامعة ومن شأن الضعف السياسي إذا
أصيبت به أمة، أن يخيل إلى أبنائها أنهم أقل من سواهم قوة وعلما وتفكيراً، وأنه
تركد معه ريح العلم ويفتر نشاط العلماء.
بهذا وبغيره ـ أضاف البيان ـ تأثر
أكثر المشتغلين بالفقه، فحكموا على أنفسهم وعلى جميع أهل العلم في زمانهم بأنهم
ليسوا أهلاً للنظر والاستنباط، ولا لفهم كتاب الله وسنة رسوله ومن ثم حكموا
بإغلاق باب الاجتهاد، وترتب على ذلك أن وقف الفقه وجمد وأن تعصب كلّ منهم لرأي
إمام، وزعم أنّه الحق وأن ما سواه باطل،
وأسرفوا في ذلك إسرافا بعيدا حتّى كان منهم من لا يصلى وراء إمام يخالفه في
مذهبه، ومن لا يزوج اينته لفلان، أو يتردد في أكل ذبيحة فلان، أو قبول قضاء
فلان،لمجرد أنّه يخالفه في المذهب ثم
حصروا الأئمة الّذين أوجبوا اتباعهم في عدد معين وهكذا ضاق أفق الاتباع والأشياع
مما اتسع له أفق المتبوعين.
قال شكيب: لقد توقفت عند مقالة في
الموضوع نشرها الأديب البارع والعالم الفذ الشيخ محمّد الغزالي تحت عنوان (على
أوائل الطريق)، استهلها بكلام للمستشرق المجري جولد تسيهر ذكر فيه أن الملك (نادر
شاه) (المتوفى سنة
ووضع لذلك مشروعا جيداً كاد يخرج إلى
حيز التنفيذ، لولا أن المنية عاجلته فمات دون أن تتحقق أمنيته وقد أشارات كتابات
الفقيه السني عبد الله بن حسين السويدي، الذي كان معاصرا لتلك الفترة، إلى أن
نادر شاه عقد مجمعا دينيا جمع فيه فقهاء الفريقين وقد اتفق هؤلاء الفقهاء على ضم
التشيع إلى المذاهب السنية، وجعله مذهبا خامسا يقبل به المسلمون كافة، وقد صارت
من السهل بعد قليل ـ بموجب هذا الاتفاق ـ أن يخصص مقام خامس للمذهب الجعفري في
دائرة الحرم المكي بجوار مقامات المذاهب الأربعة السنية وصار لزاما منذ ذلك الوقت
الإقرار بسنية هذا المذهب.
وقد امتدح المستشرق المجري هذه
الخطوة لكنه قال: (إن حلم التوفيق بين الطرفين كان أمنية بعيدة ذلك أن الحقد
المتوارث الذي يحمله كلا الفريقين للآخر والضغائن التي شرطت فقهاء المذهبين شطرت،
جعلتهم بعد موت نادر شاه لايتصوبون سياسة التسامح والوفاق)
لقد علق الشيخ الغزالي على ما كتبه
جولد تسهير قائلا: ( لقد أحسست وخزاً في فؤادي وأنا أقرأ كلمة الإسلام الشيعي
والإسلامي السني، التي ترددت على لسان المستشرق المجري مرارا، وأتساءل: ما الذي
حدث حتّى نكب الإسلام بهذه الفرقة ؟)، وفي رده قال: (الحقيقة أن هناك أناسا لا
يتقون الله في دينهم ولا في أمتهم، أطلقوا غيوما داكنة من الإشاعات والظنون،
كانت العملة الدفينة في تمزيق الشمل، وملء الرءوس بطائفة من التصورات الباطلة
والمشاعر المنحرفة.. وجماهير العامة ـ للأسف الشديد ـ ضحايا لتجاذب متبادل لا
أساس له، ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة، سيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام
وأطلقوا من عبارات)
قال القمي: في هذا المعنى كتب سميي
الشيخ محمّد تقي القمي يقول: (كان الوضع قبل تكوين جماعة التقريب يثير الشجن،
فالشيعي والسني كلّ كان يعتزل الآخر، وكل كان يعيش على أوهام ولدتها في نفسه
الظنون، أو أدخلتها عليه سياسة الحكم والحكام، أو زيفتها له الدعاية المغرضة ..
كان يسود الفريقين جو من الظلام، فلا يرى أحدهما في صورة الآخر إلاّ شبحاً تحوطه
الظلمة، ولا يتكلم عنه إلاّ بما توحي به الظلمة، ولا يقرأ عنه إلاّ ما تسمح به
حلكة الظلام)
وأضاف يقول: ( إن الفرقة بين
المسلمين ظلت غذاء مناسبا للحكم والحكام قرونا عدة، دأب فيها كلّ حاكم على
استغلالها لتثبيت سلطانه، وتحطيم عدوه، ثم جاءت السياسات الأجنبية فوجدت في هذه
الفرقة خير وسيلة لتدخلها، وبث نفوذها ودعم سلطانها وفرض سيادتها .. الحق كلّ
الحق أنّه لا ضرر على المسلمين في أن
يختلفوا، فإن الاختلاف سنة من سنن الإجماع، ولكن الضرر كلّ الضرر في أن يفضي بهم
الخلاف إلى القطيعة والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز،
لا على أنها شيء يؤمر به المؤمنون، ولكن على أنها حقيقة واقعة، رضى الناس بها أم
أبوا)
هكذا كتب الشيخ محمّد تقي القمي في
الأعداد الأولى لمجلة رسالة الإسلام.
وقد وضح مراده بهذا في مقالة أخرى بعنوان
(خلاف نرضاه وخلاف نأباه)، وفيه قال: (هناك فرق بين خلاف وخلاف: هناك خلاف تمليه
طبيعة التفكير وتقتضيه سنن الاجتماع، ونحن نقبله ونرضاه وهناك خلاف يصطنع
اصطناعا، ونحن نرفضه ونأباه .. إننا نقبل الخلاف الفكري ما دام في دائرة معقولة،
ونرحب بالخلاف المذهبي لأنه وليد آراء اجتهادية مرجعها الكتاب والسنة أو ما أعطاه
الكتاب أو السنة قوة الحجية ونرحب بما عند الشيعة وأهل السنة، لأنهما تؤمنان بما
يجب على المسلم أن يؤمن به، وإن اختلفتا في مسائل فقهية، وتميزتا في مسألة الولاة
والخلافة ونرحب كذلك بالمعارف الكلامية، لأنها ميدان من ميادين التفكير للمسلم أن
يجول فيه.
نحن نرحب بهذه الخلافات كلها، بل
نعتز كمسلمين بالكثير منها: لأنها إن دلت على شيء فإنما تدل على الحرية الفكرية،
ولأنها إن أحسن النظر إليها، تسعد الأمة وتكفل رقيها وتبقى على سلامتها.
إن هذه الخلافات في جوهرها تنبئ عن
معنى الوفاق فهي ترتبط بأصل واحد هو الكتاب والسنة.
وليس معنى هذا أن في السنة خلافا،
بمعنى أن البعض يقبل ما صدر عن رسول الله r والبعض لا يقبله، معاذ الله، فالمسلمون يتفقون في وجوب الأخذ
بسنة رسول الله r، ولكنهم قد يختلفون في الفهم أو التفسير أو في أن هذا صدر عن
الرسول الأعظم أو لم يصدر أما من لا يأخذ بما أمر به الرسول فليس بمسلم.
فالآراء الاجتهادية إذن، يجمعها
الكتاب والسنة، وليس بعد هذا من وفاق.
أما الخلاف الذي لا نرحب به ولا
نقبله، بل نرفضه ونقاومه، فهو الخلاف الذي يقوم على الكراهية والبغضاء، وتغذية
الشبه والأوهام، ويوجد البلبلة في صفوف الأمة، ويؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين.
ذلك خلاف لا يتفق والخلق الإسلامي،
ولا يستند إلى المعارف الإسلاميّة، حمل لواءه مؤلفون كتبوا قبل التثبت تارة،
وبداعي الغرض والهوى تارات، فسودوا صحيفة الشيعة في نظر أهل السنة، وسودوا صحيفة
أهل السنة في نظر المتشيعين، بعضهم خلط بين أهل السنة والنواصب، وأكثرهم خلطوا
بين الشيعة والغلاة، بينها وبين الفرق البائدة، وألصقوا بها آراء لا تمت إليها
بصلة، بل الشيعة منها براء)
قال الكواكبي: بخصوص النقطة الثالثة
التي اهتمت جماعة التقريب بإبرازها، والتي ينبغي إحياؤها من جديد .. وهي أن الوحدة
الإسلامية لا تعني محو المذاهب أو إلغاؤها، وإنما تعني نشر المودة والمحبة والتآخي
والاحترام بين أهلها، مع بقاء كل طرف على ما يعتقده مما وصل إليه بالاجتهاد عبر من يثق فيه
من العلماء.
لقد أثارت ـ في البداية ـ جهود
التقريب جدلا كبيرا؛ حيث شاع بين قطاعات ليست قليلة من المسلمين أن مقصدها في
نهاية المطاف هو توحيد المذاهب، باعتبار أن هذه هي الصيغة المثلى لفض الاشتباك
وإنهاء الخلافات، لذلك دأبت مجلة رسالة الإسلام على نفي هذه الفكرة، والإلحاح على
أن هدف التقريب مختلف إلى حد كبير.
في البيان الأول لدار التقريب أثيرت
هذه القضية، حين تلقت الجمعية تساؤلات من بعض الحجازيين عن حقيقة مهمتها، وهل
تتناول إدماج المذاهب الإسلاميّة بعضها في بعض، كما يردد أهل العلم في الحجاز،
واختار البيان أن يرد من خلال اقتباس نصوص من رسالة بعثت بها الجمعية إلى الملك
عبد العزيز آل سعود، حين أرادت أن تقدم نفسها وتشرح أهدافها.
ومما ورد في الرسالة :( إن جماعة
التقريب لا تريد المساس بالفقه الإسلامي، ولا إدماج مذاهبه بعضها في بعض، بل هي
على النقيض من ذلك، ترى في هذا الاختلاف الفقهي مفخرة للمسلمين، لأنه دليل على
خصوبة في التفكير، وسعة في الأفق، واستيفاء وحسن تقدير للمصالح التي ما أنزل الله
شريعته إلاّ لكفالتها وصونها، وكل ما تبذله الجماعة من جهود في سبيل الفقه
الإسلامي إنّما هو في دائرة خدمته وتنميته
وتسليط نوره الوهاج على شؤون الحياة الإسلاميّة كلها، وبحث المشكلات التي جدت
وتجد ولم يتضح للناس حكم الله فيها.
ومما جاء فيها :( ولن تمد الجماعة
يدها إلاّ لأرباب المذاهب الإسلاميّة التي تعتقد العقائد الصحيحة التي يجب
الإيمان بها[35])
ومما جاء فيها :( وهي ترى أن بعض
المنتسبين إلى المذاهب الإسلاميّة يجعلون لبعض المعارف والآراء التي لا صلة لها
بالعقائد الصحيحة أهمية طاغية تدفعهم إلى التخاصم والتقاطع والتنابز بالألقاب
ونسيان ما جمع الله عليه القلوب، وألف به بين المسلمين وترى أن أعداء الإسلام
والطامعين في استعمار بلاده وإذلال أهله يتخذون من هذه الخلافات أبوابا يلجون
منها إلى مقاصدهم الباغية، ويعملون كلّ ما في استطاعتهم على إذكاء نيرانها
ليضربوا بعض المسلمين ببعض ثم يضربوهم جميعا)
ومما جاء فيها :( وتؤمن إيمانا عميقا
بأن من أهم الواجبات الدينية على كلّ ذي علم ورأي في شعوب المسلمين على اختلاف
طوائفهم ومذاهبهم الإسلاميّة، العمل على تبصير المسلمين بدينهم، وقطع أسباب
الخلاف والتفرقة بينهم ببيان ما هو عقيدة يجب الإيمان بها، وما هو معارف لا يضر
الخلاف فيها، وأن من بين هذه المعارف ما يظن أنّه من العقائد وهو ليس منها)
ومما جاء فيها :( فالغرض من تأليف
(جماعة التقريب) هو: أن تكون مركزاً إسلامياً لهذه الفكرة، تتركز فيه جهود جميع
المقتنعين بها في أنحاء العامل، شرقية وغربية، وتتجاوب لديه أصواتهم وأبحاثهم
وأراؤهم في رفق وحسن تقبل، فيتهيأ لها جو من البحث العلمي الخالص على ضوء
القواعد الإسلاميّة الصحيحة، وحينئذ تنجلي أمام المسلمين أسباب الاختلاف فيما
وراء العقائد الدينية والأحكام التشريعية فيعالجونها، ويصلون في المسائل
والنظريات الخلافية نفسها إلى الرأي الصحيح الذي يهدي إليه المنطق والدليل، فإذا
بقي بعد ذلك مالم تجتمع عليه القلوب أو تقطع به البراهين، كان أمره بعد ذلك هينا
لا ينبغي أن يفضي إلى التقاطع والتناكر والتقاذف، وإنّما هو الخلاف في الفقه والفروع يعذر العلماء فيه
بعضهم بعضا ويتبادلون الاحترام والمودة والتعاون كما هو شأن المؤمنين)
قال المودودي: ومما يؤكد ما ورد في
هذه الرسالة ما جسدت به دار التقريب موقفها من المذاهب المختلفة حين طبعت ووزعت
في موسم الحج جدولا مفصلا عن أحكام الحج على المذاهب المتعددة: الحنفي، والمالكي،
الشافعي، والحنبلي، والإمامي، والزيدي، وقد راج هذه الجدول في البلاد المقدسة
رواجا عظيما، ولفت أنظار كثير من المسلمين، إلى أن آراء فقهائهم في فروع عبادتهم
ليست من التباعد والخلاف بحيث توجد الخصومة والفرقة والتباغض فيما بينهم.
قال الشعراوي: من المقالات التي
استوقفتني في ذلك الحين مقالة للعلامة محمّد الحسين آل كاشف الغطاء تحمل عنوان
(بيان إلى المسلمين)، ومما جاء فيها: (من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب
بين المذاهب الإسلاميّة إلاّ إزالة أصل الخلاف بينها، بل أقصى المراد وجل الغرض
هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء والبغضاء.. الغرض تبديل التباعد
والتضارب بالإخاء والتقارب)
ومن المقالات التي استوقفتني في ذلك
الحين مقالة كتبها يراع الشيخ حسنين مخلوف ـ مفتي مصر ـ يقول فيها :( إنني من
المؤمنين بفكرة التقريب، العاملين على أن يدرك المسلمون جميعا مزاياها وما تؤدي
إليه من جمع كلمتهم وتوحيد أهدافهم .. فالإسلام هو دين الوحدة كما هو دين
التوحيد.
وقد حرصت شريعته على أن تقر في الناس
أسس التضامن والتكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى، وعلى أن تنزع من
بينهم أسباب العداءات والضغائن، وما ينزع به الشيطان بينهم ليفشلوا وتذهب ريحهم)
قال إقبال: ومما قرأته في بعض
المقالات في ذلك الزمن الجميل ما قاله بعضهم، وهو يعبر عن جميعهم :( من العجب أن
نعتبر المسلمين مختلفين، مع أن الخلاف بينهم محصور جدا .. ولا علاقة له بقضايا
الدين الأساسية .. فالمسلمون جميعا ـ بمختلف فرقهم ـ يقيمون الصلاة في أوقات خمس
مكتوبة، ليست ستة عند فريق ولا أربعة عند فريق وهم متفقون عليها بأعيانها، ومتفقون
على أعداد ركعاتها، وعلى قبلة المصلى فيها، وقد شرعت فيه الجماعات والجمعات
والصلوات العامة في المناسبات، كصلوات العيد والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك من كلّ
ما يراد به إشعار المسلمين بالوحدة والألفة واتفاق المصالح والاستواء أمام ربوبية
الله جل وعلا.
وما يسرى على الصلاة يسرى بذات القدر
على الشهادتين، وعلى الزكاة والصيام والحج وهذه الأركان التي لا يختلف عليها
المسلم تشكل أساسا متينا للتوحيد والوحدة بين أبناء الأمة)
قال الكواكبي: ومن المقالات التي لا
أزال أذكرها ما كتبه الشيخ محمّد عبد اللطيف دراز تحت عنوان (الإسلام والأزهر
والتقريب)، فقد كتب في هذا المقال داعياً إلى ضرورة (العمل على جمع كلمة المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها، وتصفية الخلافات بينهم بعرضها على كتاب الله وسنة
رسوله)، ثم أضاف أنّه : سوف يظهر أنهم في الحقيقة متحدون غير مختلفين فالأصول واحدة
والوسائل واحدة وما الخلاف إلاّ في التطبيق، ولعمري إذا جاز اختلاف المسلمين في
الفقه والفروع، فكان منهم الحنفي والمالكي والحنبلي والشافعي والزيدي والإمامي،
وأزال الله في هذا العصر ما كان بينهم من عداوة وبغضاء، فلم لا يجوز بينهم اختلاف
هادئ عف، فيما هو وراء الأصول المتفق عليها من ألوان المعارف الفكرية التي ليست
من العقائد)
قال الشعراوي: لقد ذهبت فكرة البحث
عن المشترك إلى ما هو أبعد من ذلك، ففي اقتراح نشرته المجلة للشيخ عبد العزيز
عيسى، أحد علماء الأزهر، ودعا فيه إلى إنشاء معهد خاص في إطار الأزهر لدراسة
المذاهب والأفكار الدينية في كافة الأقطار الإسلاميّة، بحيث (يمكننا في سهولة
ويسر أن نعرف أوجه الوفاق والخلاف على صورة محدودة، وأن نصلح ما أفسده الدهر،
ونحقق ما زوره التاريخ، وننشر في ربوع كلّ دولة ما عند الأخرى، فيتبادل المسلمون
الثقافة الصحيحة ويعرف بعضهم بعضا على حق، وتزول من بينهم الجفوة والقطيعة،
ويأخذوا سبيلهم إلى الوحدة والألفة التي لا يصلح أمرهم إلاّ عليها)
قال القمي: من الحسنات التي قامت بها
تلك المجلة الرائدة ما كتبته في تصحيح صورة الشيعة الإمامية في الذهن الإسلامي
العام، فقد نشرت المجلة مقالات عدة لفتت الأنظار إلى ضرورة التفرقة بين مدارس
الاعتدال والغلو في الساحة الشيعية.
وأذكر من ذلك مقالة للعلامة الدكتور
محمّد جواد مغنية تحت عنوان (الغلاة في نظر الشيعة الإمامية) .. فهو نموذج طيب
لذلك .. ذكر فيها أن علماء الإمامية متفقون على عدم اعتبارهم من الشيعة، بل عدم
اعتبارهم من المسلمين أصلا ..
وقد سلط الشيخ محمّد الحسين آل كاشف
الغطاء الضوء على بعض خلافات السنة والشيعة، فذكر أن أعظم تلك الخلافات وأهمها هو
قضية (الإمامة)، حيث ذكر أن الطائفتين وقعتا منها على طرفي نقيض .. فالشيعة ترى
أن الإمامة أصل من أصول الدين، وهي رديفة التوحيد والنبوة وأنها منوطة بالنص من
الله ورسوله، وليس للأمة فيها من الرأي والاختيار شيء، كما لا اختيار لهم في
النبوة بخلاف أهل السنة، فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين، ومختلفون بين
قائل بوجوب نصب الإمام على الرعية بالإجماع ونحوه، وبين قائل بأنها قضية سياسية
ليست من الدين في شيء لا من أصوله ولا من
فروعه.
وقد أضاف الشيخ كاشف الغطاء متسائلا:
(مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية، هل تجد الشيعة تقول أن من لا
يقول بالإمامة غير مسلم (كلا ومعاذ الله) أو تجد السنة تقول أن القائل بالإمامة
خارج عن الإسلام ـ لا وكلا ـ إذن فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجماعة
الإسلاميّة وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله ووجوب أخوته، وحفظ حرمته وعدم
جواز غيبته، إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه.
ثم ذهب إلى أبعد في المصارحة، فقال:
إن أحد أسباب المشاحنة بين السنة والشيعة، ما يتردد من أن الشيعة ترى جواز المساس
بكرامة الخلفاء أو الطعن، وفند تلك المقولة بحج عدة منها: ( أولاً: ليس هذا من
رأي جميع الشيعة وإنّما هو رأى فردي من
بعضهم، وربما لا يوافق عليه الأكثر، كيف وفي أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك،
فلا يصح معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم.
ثانياً: أن هذا على فرضه لا يكون
موجبا للكفر والخروج عن الإسلام، بل أقصى ما هناك أن يكون معصية، وما أكثر العصاة
في الطائفتين، ومعصية المسلم لا تستوجب قطع رابطة الأخوة الإسلاميّة معه قطعا.
ثالثاً: قد لا يدخل هذا في المعصية
أيضاً، ولا يوجب فسقا إذا كان ناشئا عن اجتهاد واعتقاد، وإن كان خطأ، فإن من
المتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين، وقد
صحح علماء السنة الحروب التي وقعت بين الصحابة في الصدر الأول كحرب الجمل وصفين
وغيرهما، بأن طلحة والزبير ومعاوية اجتهدوا وهم وإن أخطئوا في اجتهادهم، ولكن لا
يقدح ذلك في عدالتهم وعظيم مكانتهم، وإذا كان الاجتهاد يبرر ولا يستنكر قتل آلاف
النفوس من المسلمين وإراقة دمائهم، فبالأولى أن يبرر ولا يستنكر معه ـ أي مع
الاجتهاد ـ تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة)
قال الشعراوي: لقد اعتبر الشيخ محمّد
المدني تدريس فقه الشيعة في كلية الشريعة بجامعة الأزهر بمثابة (رجة البعث) ـ
وكانت هذه الخطوة قد أثارت لغطا في أوساط العلماء ـ فقام الشيخ المدني بتفنيد ما
تردد وقال: (إن بعض الناس تساءلوا: كيف تدخلون فقه الشيعة في الأزهر، مع أن هذا
المذهب هو مذهب الّذين يعتقدون أن جبريل إنّما
بعث بالرسالة إلى علي فأخطأه ونزل بها على محمّد وأن عليا قد حل فيه جزء
من الإله)
وقال في الرد على السؤال ما يلي:(
إن كلمة (الشيعة) تطلق على عشرات المذاهب التي تنسب إلى الإسلام حقا أو باطلا،
وبعض هذه المذاهب ضال منحرف عن الأصول الإسلاميّة، وبعضها مستمسك بما يجب الإيمان
به، مثله في ذلك كمثل مذاهب السنة، وإن خالفهم في بعض الفروع الفقهية أو النظريات
والمسائل التي هي من قبيل المعارف الكلامية.
والفريق الأول من المتسمين باسم
الشيعة وهم الضالون المنحرفون، لا يعدون من أهل الإسلام وإن ادعوه ؛ لأن العبرة
في ثبوت الإسلام إنّما هي بالإيمان بأصول
العقائد الإسلاميّة، وعدم إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهؤلاء ليسوا
كذلك وقد انقرضوا ولم يعدلهم أثر في العالم الإسلامي، ولو فرضنا أن لهم بقية في
كهف من الكهوف أو طرف من الأطراف فليسوا منا ولسنا منهم، وهم كفار خارجون على ملة
الإسلام ملعونون من أهل السنة ومن الشيعة.
أما الشيعة الّذين تقرر إدخال فقههم
فهم:
1 ـ الشيعة بالإمامية الاثنا عشرية،
وقد لقبوا بالإمامية؛ لأنهم يقولون بأن إمامة علي ثابتة بالنص، ولقبوا باثنا
عشرية لأنهم يسوقون الإمامة إلى اثنى عشر إماما، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم
محمّد بن الحسن العسكري الملقب بالحجة، وهم يسكنون إيران والعراق وسوريا ولبنان
والباكستان والهند، وغيرهم من البلاد العربية والإسلامية ويؤمنون بأصول الإسلام
كلها ولا يستطيع أحد من أهل القبلة أن يحكم بكفرهم، وكل ما بينهم وبين السنة من
اختلاف، إنّما هو فيما وراء الأصول التي
يجب الإيمان بها لتحقق مفهوم الإسلام، وينسب فقههم إلى أئمتهم من أهل البيت
النبوي واشتهر باسم الفقه الجعفري نسبة إلى أحد هؤلاء الأئمة، وهو جعفر الصادق بن
محمّد الملقب بالباقر.
وهؤلاء الشيعة الإمامية يلعنون أهل
المذاهب المنسوبة إلى الشيعة من الغلاة في شأن علي، ويتبرءون منهم، ويحكمون
بكفرهم ونجاستهم.
ولهم كتبهم في العقائد والفقه
والأصول وأسرار الشريعة والأخلاق والتصوف، وعلوم اللغة العربية وغيرها، وقد نبغ
منهم كثير من الفقهاء، وأهل الحديث والرواية، والأدباء، والأصوليين، والمتكلمين،
وغيرهم، ولهم أثر واضح في العلوم الإسلاميّة في مختلف العصور.
2 ـ الشيعة الزيدية، وهم يسكنون
اليمن غالبا، ومذهبهم منسوب إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين، وهو أقرب مذاهب
الشيعة إلى مذاهب السنة، ولا ينازع أحد في شأنهم مع كونهم أيضاً ملقبين بلقب
الشيعة)
ثم أضاف: (إذن، فلا يستقيم القول بأن
الشيعة كلها تقول برسالة علي ألوهيته، أو تغالي في شأنه، فإن هذا القول على
إطلاقه خطأ، ويجب التفريق بين الشيعة المهتدين، والشيعة الضالين أو المنحرفين،
كما يجب الحذر عند سماع أي نقل عن الشيعة، والتحري عن القائل منهم بذلك حتّى لا
يحمل قول ضال على فرقة مهتدية لم تقله)
قال القمي: بورك فيكم جميعا .. والله
لقد أثلجتم صدري بهذه الكلمات العذبة التي انطلقت من أفواه أولئك الورثة العظام
الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يخلطوه بأي عصبية أو هوى.
قال الشعراوي: فما ترى من حل لتعود
تلك الأيام الجميلة، ويعود معها الصفاء إلى القلوب .. ويعود معها المسلمون شهداء
لا ينشغلون بالشحناء والبغضاء فيما بينهم، بل يلتفتوا إلى تلك البشرية الظمآنة،
فيسقوها من هدي الله ما كلفوا بأن يسقوها إياه.
قال القمي: ليس من حل لذلك إلا إحياء
سنة النبي r .. النبي الهادي الذي استطاع أن يؤلف بين القلوب، ليحول منها طاقة
عجز العالم جميعا عن مواجهتها.
قال الشعراوي: أجل .. فلا يمكن أن
تجتمع القلوب على غير سنة رسول الله r .. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) (النساء:59)
قال المودودي: ولكن المتطرفين يزعمون
أن السنة بأيديهم وأنهم يحتكرونها احتكارا؟
قال إقبال: سنة رسول الله r
أعظم من أن يحتكرها أحد من الناس .. أبلغوا هؤلاء أن أعظم السنن هي سنة الإصلاح
والتوحيد والتآلف .. لقد استطاع رسول الله r بحكمته أن يجمع بين المتناقضين ليحول منهم لحمة واحدة لها هم
واحد، ولها قبلة واحدة.
قال القمي: لدي مشروع يخدم كل ما
ذكرنا .. فأرجو أن تبحثوا فيه .. لقد أرسلته إلى جهاز كل واحد منكم، فتأملوه،
ولنجتمع بعدها لنرى مدى صلاحيته للتنفيذ.
***
التفت كل واحد منهم إلى جهازه، وراح
يبحث عن المشروع الذي ذكره القمي، والذي لم أتشرف بالتعرف عليه ذلك الحين .. ولكني
عرفته في المستقبل.
قلت: فما هو .. أنبئني عنه؟
قال: لقد استكتمني من ذكره لي .. وقد
نهينا أن نفشي ما أمرنا بكتمانه .. وإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك في المستقبل من
ينبئك عنه، لتصير جنديا من الجنود الذين نذروا أنفسهم أن يستنوا بسنة الحسن بن علي
ـ رضي الله عنهما ـ الذي جعله الله سيدا يجمع الله به بين طوائف المسلمين.
لم يلبثوا إلا قليلا حتى صاح
الكواكبي قائلا: بورك فيك يا قمي .. نعم المشروع الذي وضعته .. لقد وجدت في مشروعك
الحلقة المفقودة التي كنت أبحث عنها .. والتي لا يكون المسلمون شهداء إلا
بتحقيقها.
قال إقبال: نحن نعلم اهتمامك يا عبد
الرحمن بالعدالة والاستبداد .. فهل لذلك علاقة بهذا؟
قال الكواكبي: أجل .. بل له علاقة
عظمى .. أنتم تعلمون أن الناس لا يدخلون في دين الله أفواجا، وهم يرون ديكتاتوريات
المسلمين ومستبديهم .. فالفطرة البشرية تبغض الاستبداد، وتبغض المستبدين، وتبغض
دين المستبدين .. فلذلك هم يبغضون الإسلام، لا لكونه دين رب العالمين، ولكن لأن
الذي يمثله هم المستبدون الجائرون الذين ورثوا الحكم من غير أن يكونوا أهلا له.
ولذلك .. فأعداء الإسلام الذين يقفون
كحصن منيع يحمي المستبدين لا يقصدون من ذلك أن يؤذوا الرعية من المسلمين فقط ..
وإنما قصدهم أن يكون ذلك الاستبداد جدارا يقي رعاياهم من الدخول في دين الله
أفواجا.
قال القمي: لقد ذكرتني بموقف لعلي ـ
رضي الله عنه ـ يدل على ما للعدل من تأثير في دخول الناس في دين الله أفواجا ..
لقد حدث الإخباريون أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ افتقد
درعه ـ يوما من الأيام ـ فوجدها عند رجل نصراني ، فاختصمه إلى شريح القاضي ، فقال
عليّ مدعيا : الدّرع درعي ، ولم أبع ولم أهب ، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال :
ما الدّرع إلاّ درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ، فالتفت القاضي إلى أمير
المؤمنين عليّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن النصراني صاحب اليد على الدّرع ،
وله بذلك حقٌ ظاهر عليها ، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير
المؤمنين: أصاب شريح ، مالي بيّنة ، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني ، وأخذ النصراني الدّرع
وانصرف بضع خطوات ، ثم عاد فقال: أما إني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير
المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله ، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين ، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين ،
فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : أما وقد أسلمت فهي لك.
انظروا كيف استطاع علي ـ رضي الله
عنه ـ وارث رسول الله r أن يتصرف التصرف المثالي الذي جعل هذا الرجل لا يجد إلا أن يسلم
.. لقد اضطره بموقفه هذا إلى الإسلام اضطرارا.
قال المودودي: وذكرني قوله هذا بحدث
رواه ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: افتتح رسول الله r خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء ـ يعني الذهب والفضة ـ
فقال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف،
فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم عبد الله بن رواحة ،
فحرز عليهم النخل ـ وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص ـ فقال: في ذِه كذا وكذا،
قالوا أكثرت علينا يا ابن رواحة ، فقال: فأنا أَلي ـ أي أتولى ـ حزر النخل وأعطيكم
نصف الذي قلت، قالوا: هذا الحق وبه تقوم السماء والأرض قد رضينا أن نأخذه بالذي
قلت[36].
وفي رواية عن سليمان بن يسار ـ رضي
الله عنه ـ أن رسول الله r كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر،
قال: فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك ـ يعني رشوة ـ وخفف عنا
وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: (يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض
خلق الله إليّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم عليّ من الرشوة
فإنها سحت، وإنا لا نأكلها)، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض[37].
انظروا .. كيف استطاع ابن رواحة
بموقفه الأمين العادل من استلال هذه الشهادة العظيمة من أولئك اليهود القساة الذين
قلما يشهدون بحق؟
قال الشعراوي: ولهذا أمرنا الله
تعالى في القرآن الكريم بأن نقوم بالعدالة المطلقة العامة التي لا تستثني أحدا ولا
جهة ولا موضوعا .. قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)
انظروا .. كيف تلح علينا هذه الآية
الكريمة في الأمر بالعدل .. مهما كان الذين نعدل معهم .. فلا ينبغي أن يميل بنا
الهوى إلى أي جهة من الجهات.
وفي الآية الأخرى يقول الله تعالى :﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
إن هذه الآية الكريمة تنهانا أن
نلاحظ أنفسنا وأهواءنا ونحن نتخذ أي موقف .. فالمؤمن هو الذي سلم أمره لله، وعقله
لله، وقلبه لله، فهو يتعامل مع عباد الله كما أمر الله.. والله هو الحكم العدل
الذي لا تضيع عنده الحقوق ..
قال شكيب: لقد ذكرتني بقوله تعالى :﴿
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى:15)
إن هذه الآية الكريمة ـ كما يذكر
المفسرون[38] ـ اشتملت على عشر كلمات مستقلات، كل كلمة منها منفصلة عن التي
قبلها، لها حكم برأسه[39] .. وقد تأملت هذه الكلمات، فوجدت جميعا تتحدث عن العدل في صورته
المطلقة الكاملة الجميلة، وهي الصورة التي تجعل الناس لا محالة يدخلون في دين الله
أفواجا.
أما الكلمة الأولى، فقوله تعالى :﴿
فَلِذَلِكَ فَادْعُ ﴾ أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع
المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم[40]، فادعُ الناس إليه .. وفي هذا منتهى العدل، فالنبي r
أمر بأن يحكم الناس بأصول الشرائع التي اتفقت عليها الملل، وهي لا تتفق إلا على ما
يتفق مع العدل والفطرة.
أما الكلمة الثانية، فقوله تعالى :﴿
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ أي: استقم أنت يا محمد ومن اتبعك على عبادة
الله، كما أمركم الله عز وجل .. وفي هذا منتهى العدل .. فالعادل هو الذي يبدأ
بنفسه .. وهو الذي يطبق ما يقتضيه العدل على نفسه قبل أن يطبقه على غيره.
أما الكلمة الثالثة، فقوله تعالى :﴿
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ لأن العادل هو الذي جعل السلطة للقانون لا
للهوى .. كما قال تعالى لداود u :﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)، فقد أخبر الله في هذه الآية
الكريمة أن الهوى لا نتيجة له إلا الإضلال عن سبيل الله.
أما الكلمة الرابعة، فقوله تعالى :﴿
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ﴾ أي: صدقت بجميع الكتب
المنزلة على الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم .. وفي هذا منتهى العدل في التعامل مع
مقدسات الملل والنحل.
أما الكلمة الخامسة، فقوله تعالى :﴿
وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ أي: أني لن أحكمكم إلا بما يقتضيه العدل
..
أما الكلمة السادسة، فقوله تعالى :﴿
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ .. وهي آية عظيمة في مدلولها المرتبط
بالعدل .. فالآية تذكر المؤمنين أن رب العباد ـ كافرهم ومؤمنهم واحد ـ ولذلك لا
ينبغي التعامل معهم إلا وفق ما أمر به الله .. والله لم يأمر إلا بالعدل.
أما الكلمة السابعة، فقوله تعالى :﴿
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي لكل منا عمله الذي يحاسب
عليه، ويسأل عنه .. وكل ذلك عند الله .. وفي هذا منتهى العدل .. فالعادل هو الذي
يسلم الأمر لأهله، ولا يتدخل إلا فيما تطلبه العدالة من مواقف.
أو أن هذه الآية مثل قوله تعالى :﴿
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41) .. أي أن حالي
كحالكم، فأنتم لا ترضون عن عن عملي كما أني لا أرضى عن عملكم .. ولذلك لا ينبغي أن
يجور أحد منا على الآخر.
أما الكلمة الثامنة، فقوله تعالى :﴿
لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾ أي لا خصومة بيننا وبينكم بسبب مواقف
بعضنا من بعض .. فالبراءة من العمل لا تعني الإلزام الذي يتنافى مع العدل.
أما الكلمة التاسعة، فقوله تعالى :﴿
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ﴾ أي: يوم القيامة، وفي هذا توجيه للمؤمنين
بتسليم الأمر لعدالة الله .. وكأنها تقول للمؤمنين المستعجلين: روديكم .. ذروا
هؤلاء الذين تبرأتم من أعمالهم لله .. فالله هو الحكم العدل الذي يحكم بينكم.
أما الكلمة العاشرة، فقوله تعالى :﴿
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ أي: المرجع والمآب يوم الحساب .. في هذا تذكير
بالعدالة المطلقة التي تتجلى في ذلك اليوم العظيم الذي تنصب فيه الموازين فلا تضيع
مثقال ذرة .. قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)
(النساء:40)، وقال تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الانبياء:47)
قال ديدات: لقد ذكرتني هذه الآية
بقوله تعالى :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ
خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
(106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا
يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا
أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ
يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا
فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) ﴾ (النساء)
انظروا .. هذه الآيات جميعا .. لم
تنزل في شأن تبرئة مسلم .. ولا في الدفاع عن مسلم .. بل نزلت لتبرئة يهودي ..
يهودي كان مع قومه في كل حين يكيد المكايد للمسلمين .. ومع ذلك نزلت تبرئته في
القرآن الكريم ..
لقد اتفق المفسرون أن هذه الآية نزلت
في طعمة بن أبيرق الذي سرق سلاحا، فشكاه صاحب السلاح إلى رسول الله r
فألقى السارق السلاح المسروق في بيت رجل بريء، ليبرئ نفسه ويحمل البريء إثمه،
وعندما وجد السلاح في بيت الرجل البريء ثبتت ـ في الظاهر ـ براءة السارق، فأنزل
الله هذه الآيات تبين وجه الحق بغض النظر عمن كان معه الحق[41].
قارنوا هذا الموقف بما يقع في عصرنا
من جور وظلم .. فما أكثر ما يرتكب ناس مثل هذه الخطيئة! ويبرئون أنفسهم مما
ارتكبوه ويلطخون به البريئين.
انظروا في وسائل الإعلام لتروا العجب
العجاب من الاتهامات الكاذبة من فرد لآخر، ومن جماعة أو حزب لجماعة أو حزب آخر،
ومن دولة لدولة أخرى، وكثيرا ما يكون المتَّهِم غارقا في العيوب والنقائص التي
اتهم بها غيره.
قال الكواكبي: للأسف نجد من المسلمين
من يقع في مثل هذا .. وهو مما ينفر من الإسلام.. لقد رأيت صاحب حلة كحلة العلماء
يتكلم عن المسيحية كلام جاهل .. فهو لا يفرق بين أسفار الكتاب المقدس، ولا أنبيائه
.. ومع ذلك يدعي أنه يريد أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه .. وكيف يحكم من لا يعرف
القضية، ولا المختلفين فيها.
قال إقبال: إن ما ذكرته يستدعي
الدعوة إلى ما يسمى بالعدل في المواقف .. فالموقف مسؤولية كبرى .. يدخلها العدل
كما يدخلها الجور .. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ وَلا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)، وقال تعالى :﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
(الحجرات:6)
قال المودودي: إن العدل في الموقف
يستدعي أن يقف المسلمون مع جميع القضايا العادلة في العالم سواء كانت ترتبط
بالمسلمين أو غير المسلمين .. إن ذلك يجعل أصحاب تلك القضايا ينظرون إلى الإسلام
باحترام ورغبة، وهو ما يكون مقدمة لدخولهم في دين الله أفواجا.
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿
وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75)
إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن
الإسلام رسالة تحريرية تهدف إلى نصرة المستضعفين وإخراجهم من أسر المستكبرين.
قال إقبال: لقد طبق المسلمون في
تاريخهم الحضاري المشرق هذه القيمة من القيم الرفيعة في أجلى صورها .. وكان ذلك هو
سبب دخول الناس في دين الله أفواجا ..
هذا ليس كلامي .. ولا حكمي .. بل هو
حكم كل من درس التاريخ الإسلام بإنصاف وموضوعية ..
لقد أرسل البطريرك النسطورى الثالث
إلى البطريرك (سمعان) زميله فى المجمع بعد ظهور الإسلام رسالة يقول فيها :( إن
العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا معنا، ومع ذلك نراهم لا
يعرضون النصرانية بسوء، فهم يساعدوننا ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا، وإنهم
ليجلون الرهبان والقسيسين، ويعاونون بالمال الكنائس والأديرة)
ويقول المؤرخ العالمى (هـ. ج. ويلز)
فى كتابه (معالم تاريخ الإنسانية):( لقد تم فى 125 عاماً أن نشر الإسلام لواءه من
نهر السند إلى المحيط الأطلسى وإسبانيا، ومن حدود الصين إلى مصر العليا، ولقد ساد
الإسلام لأنه كان خير نظام اجتماعى وسياسى استطاعت الأيام تقديمه، وهو قد انتشر
لأنه كان يجد فى كل مكان شعوباً بليدة سياسياً: تسلب وتظلم وتخوف، ولا تعلم ولا
تنظم، كذلك وجدت حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين أى شعب. فكان الإسلام
أوسع وأحدث وأنظف فكرة سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم،
وكان يهب بنى الإنسان نظاماً أفضل من أى نظام آخر)
ويقول (أرنولد توينبي) ـ وهو المؤرخ
البريطاني الشهير ـ:( لقد كرس محمد حياته لتحقيق رسالته في كفالة هذين المظهرين في
البيئة الاجتماعية العربية، وهما: الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام
في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية
والسلطة التنفيذية معاً، فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على
كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من
حدود شبه الجزيرة واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلى شواطئ
الأوراس)
ويقول الدكتور م . ج. دوراني :( وأخيراً أخذت
أدرس حياة النبي محمد، فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي
أقام مملكة الله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن،
ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغيَّر طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم،
وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة
واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيماً واحداً يستحق الذكر منذ قرون،
أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفاً من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء
المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية، وتعلم الناس
أمور الدين الجديد)
ويقول (مونتجومري وات) عميد قسم
الدراسات العربية في جامعة أدنبره سابقاً :( يعتبر القرآن قلاقل العصر نتيجة أسباب
دينية بالرغم من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأنه لا يمكن تقويمها
إلا باستخدام الوسائل الدينية مثل كل شيء، وإنه لمن الجرأة الشك في حكمة القرآن
نظراً لنجاح محمد في تبليغ الرسالة)
ويقول العالم (مايكل هارت) الأمريكي الشهير :(
إن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين
الديني والدنيوي ... إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني
والدنيوي معاً يخوله أن يُعْتَبَر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية )
ويقول (إدوارد بروي)، وهو باحث فرنسي
معاصر وأستاذ بهذه الجامعة :( عندما قبض النبي العربي عام 632م كان قد انتهى من
دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان
عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية
متماسكة لم تعرف مثلها من قبل)
ويقول (السير لنتجنستادير) :( إن
تاريخ الحكم الإسلامي يدحض ظنون بعض الغربيين من أن الإسلام لا يصلح لإقامة دولة
تساس فيها الأمور على قواعد المصلحة الاجتماعية وحسن العشرة بين المسلمين وغير
المسلمين، وأن مفكري الإسلام في جميع العصور بحثوا قواعد الحكم والعرف من الوجهة
الفلسفية، وأخرجوا لأممهم مذاهب في السياسة والولاية تسمو إلى الطبقة العليا)
ويقول ( برناردشو) بأسلوبه الساخر :(
إنَّ محمداً أصلح العالم وهو جالس يشرب قهوة في المدينة )
وفي الأخير تنبأ (صامويل هنتغتون) ـ
المفكر الأمريكي ـ في إحدى محاضراته بما ينتظر الإسلام من انتصارات، فقال:( لا آدم
سميث ولا توماس جيفرسون سيفيان بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للإنسان،
ولا المسيح سيفي بها على المدى الطويل، محمد سينتصر)
قال الكواكبي: بوركت يا إقبال في
تبشيرنا .. ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا أحيينا قيم العدالة التي جاءنا بها رسول
الله r، فلا يمكن أن ينتصر الإسلام، ونحن منحرفون عنها.
قال الشعراوي: من السهل علينا أن
نعيد لهذه القيم الحياة .. فكل ما تركه لنا رسول الله r في هذا من بشارات مشاعل هداية يسير بها الدعاة الصادقون ليبشروا
بهذه الفضيلة، وينشروها .. فما ضاعت قيمة وجدت مبشرا وناشرا.
قال شكيب: حدثنا يا شيخنا عن نبينا
.. فلا تحلو المجالس إلا بحديثه.
قال الشعراوي: من البشارات العظيمة
التي ربطها رسول الله r بالعدل قوله :( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام
عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في
الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف
الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله
خاليا ففاضت عيناه)[42]
انظروا البشارة العظيمة التي يحملها هذا
الحديث .. إنه يبشر الإمام العادل بالظل الإلهي في اليوم الذي يحترق فيه الإمام
الجائر بنار جوره.
وانظروا كيف قرن رسول الله r
الإمام العادل بأولئك الطيبين الكرام المنشغلين بالله .. فلا يقرن بالكرام إلا
كريم.
وفي حديث آخر يحمل بشارة أخرى قال r
:( إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما
ولوا)[43]
انظروا البشارة العظيمة التي يحملها
هذا الحديث .. إنها منابر النور .. تلك المنابر التي تهفو لها القلوب، وتحن لذكرها
النفوس .. إنها منابر لا كالمنابر .. لقد اعتبر r في هذا الحديث العدل هو المرقاة التي يرقى بها العبد إلى تلك
المنابر النورانية.
وانظروا كيف عمم رسول الله r
العدل وأطلقه .. فالعدل لا يكمل إلا بذلك، ولا يصح إلا بذلك.
وفي حديث آخر قال r
:( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم
الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم!) قال: قلنا يا رسول الله، أفلا
ننابذهم؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)[44]
إن هذا الحديث يشير إلى ثورة أهل
السلام .. فأهل السلام لا يستعملون ما يعرفه الناس من سلاح يسفك الدماء، وينشر
الفتنة، وإنما يستعملون أسلحة أعظم وأخطر، ولكنها مع ذلك لا تسيل دما ولا تثير
فتنة.
إنها أسلحة الحب والبغض، وأسلحة
الدعاء واللعنات .. وهي أسلحة لا بد أن تؤتي أكلها في يوم من الأيام.
فالحاكم الجائر الذي لا يجد اليد
التي تصفق لجوره أو تبتسم لجوره أو تحييه لجوره أو تدعو له مع جوره .. فإنه لا
محالة، وفي ظل هذه المقاطعة النفسية، يجد نفسه مرغما على أن يسير وفق ما تقتضيه
العدالة.
ولهذا نبه r إلى استعمال هذه الأسلحة بدل الأسلحة التي تسفك الدماء، وتثير
الفتن، ومع ذلك لا تفعل شيئا.
وفي حديث آخر قال رسول الله r
:( أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم،
وعفيف متعفف ذو عيال)[45]
انظروا كيف جعل رسول الله r
الحاكم العادل أول من ذكرهم من أهل الجنة .. وانظروا كيف قرنه بالرجل الرحيم
والرجل العفيف .. وكأنه r يقول لنا: إن العدالة تنبني على هذين الأساسين: الرحمة والعفاف ..
فلا يقف في وجه العدالة، ولا ينحرف بها إلا القسوة والطمع.
وفي حديث آخر قال r
:( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها
الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء)، ويقول الرب:( وعزتي وجلالي لأنصرنك،
ولو بعد حين)[46]
انظروا ما يحمله هذه الحديث من معان
عظيمة .. لقد ضمن رسول الله r للإمام العادل استجابة الدعاء .. والدعاء لا يستجاب إلا من قريب.
وانظروا كيف قرنه r
بالصائم .. فالعدل لا يتحقق إلا لمن انتصر
على نفسه، وعرف كيف يهذبها.
وانظروا ذلك التحذير الخطير الذي
يحمله ربطه r الإمام العادل بدعوة المظلوم .. وكأنه ينبئ عن علاج يعالج به مرض
الجور، وهو التحذير من دعوة المظلوم.
قال الكواكبي: حدثتنا عن الإمام
العادل، فحدثنا عن الإمام الجائر .. ذلك الذي يشوه الإسلام، ويقف حجابا بين البشر
والدخول في دين الله أفواجا.
قال الشعراوي: لقد ورد في الحديث
قوله r :( إن أشد الناس عذابا
يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي وإمام جائر)[47]
انظروا كيف قرن رسول الله r
الإمام الجائر بقاتل النبي وبمن قتله النبي .. فالأنبياء ـ عليهم السلام ـ كلهم في
منتهى الرحمة، ولا يقتلهم ولا يقتلون إلا من بلغت به القسوة حدها.
وانظروا كيف أخبر r
عن شدة العذاب التي يعانيها الإمام الجائر، وكأن كل العذاب الذي صليت به رعيته يصب
عليه دفعة واحدة جزاء وفاقا.
وفي حديث آخر قال r
:( أربعة يبغضهم الله : البياع الحلاف ، والفقير المختال ، والشيخ الزاني ،
والإمام الجائر)[48]، وفي رواية :( وملك كذاب ، وعائل مستكبر)[49]
انظروا العقوبة العظيمة التي نالت
الإمام الجائر ومن معه .. وانظروا كيف قرن الإمام الجائر بأصحاب الهمم الدنية من
المنحطين المترفعين المخذولين.
وفي حديث آخر، قال r
:( إني أخاف على أمتي من أعمال ثلاثة) ، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال : (زلة
عالم ، وحكم جائر ، وهوى متبع)[50]
انظروا كيف قرن رسول الله r
بين هؤلاء الثلاثة .. فالحكم الجائر لا يتأسس إلا على الزلات التي يقع فيها العالم
الذي لم يتثبت في علمه، والهوى الذي يجعل الحاكم لا يختار من كلام العلماء إلا
الزلات.
وفي حديث آخر، قال r
:( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي
شيئا فرفق بهم فارفق به)[51]
وفي حديث آخر، قال r
:( ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد
رائحة الجنة)[52]
وفي حديث آخر، قال r
:( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى
عليه الجنة)[53]، وفي رواية :( فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة)، وفي أخرى :(
ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)
انظروا هذه الأحاديث، وما تحمله من ترهيب
من الجور الذي يتأسس من غش الوالي لم كلف برعايتهم.
وفي حديث آخر رواه ابن عمر ـ رضي
الله عنه ـ قال : كنا عند رسول الله r
فقال : كيف أنتم إذا وقع فيكم خمس وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهم : ما ظهرت
الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم
تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم
يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور
السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله تعالى إلا سلط الله عليهم عدوهم فاستنفذوا
بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه r إلا جعل الله بأسهم بينهم)[54]
قال المودودي ـ مقاطعا ـ انظروا ..
إن كل لفظ من هذا الحديث يدل على أمر له علاقة بالعدل الذي أمر به الحكام ..
فسبب انتشار الفواحش، وما يعقبها من
عقوبات هو توقف السلطان دون تطبيق نظام العفاف الذي جاء به الإسلام .. فلا يمكن أن
يتحقق العفاف من دون ذلك النظام.
وسبب منع الزكاة له علاقة بالسلطان،
فالسلطان هو الذي يستعمل كل الوسائل ليأخذ حق الفقراء من أيدي الأغنياء، رضوا أو
لم يرضوا.
وسبب البخس في المكيال والميزان له
علاقة بالسلطان، فالسلطان العادل هو الذي يهتم بشؤون الرعية، فيوظف من المحتسبين
من يمنعون كل أسلوب من أساليب الغش.
وسبب هجر كتاب الله وتعطيل أحكام
الله له علاقة بالسلطان، فالسلطان العادل هو الذي يبحث عن قوانين العدالة التي
يحكم بها .. ولن يجد في جميع قوانين الدنيا ما هو أعدل من أحكام ربه، ذلك أن الله
هو خالق الخلق، وهو الأعلم بمصالحهم.
قال الشعراواي: وفي حديث آخر عن بكير
بن وهب قال: قال لي أنس أحدثك حديثا ما
أحدثه كل أحد[55] .. إن رسول الله r قام على باب البيت ونحن فيه ، فقال : الأئمة من قريش[56] إن لي عليكم حقا وإن لهم عليكم حقا مثل ذلك ما إن استرحموا رحموا
، وإن عاهدوا وفوا ، وإن حكموا عدلوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين)[57]، وفي رواية :( إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا ، وإذا
حكموا عدلوا ، وإذا قسموا أقسطوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)
انظروا .. العقوبات الخطيرة التي
توعد بها رسول الله r الجائر في أحكامه القاسي على رعيته.
في حديث آخر، قال r
:( لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق ، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع)[58]
صاح شكيب: ما شاء الله .. لو أن هذا
الحديث كان في أمم اليهود والنصارى لجعلوه شعارهم، ولراحوا يفخرون به علينا ..
قال إقبال: انظروا الإشارة العظيمة
التي يحملها قوله r :( لا يقدس ) إن التقديس هو التطهير والرفع والترقي .. وكل ذلك
يجذب الناس لا محالة إلى دين الله أفواجا.
قال الشعراوي: وفي حديث آخر قال r
:( عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام
ليلها، وصيام نهارها)، وفي المقابل قال :( جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز
وجل من معاصي ستين سنة)[59]، وفي رواية :( يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام
في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا)[60]
انظروا هذه الأجور العظيمة التي بشر
بها رسول الله الحاكم العادل .. لقد اعتبره ـ بقيامه بما يتطلبه العدل من مواقف ـ
عابدا خاشعا يؤدي ما أمر به من شعائر العبادة.
وفي حديث آخر، قال r
:( أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى
الله تعالى وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر)[61]
انظروا هذه البشاره التي يحملها هذا
الحديث .. إن أقرب الناس إلى رسول الله r هو الإمام العادل .. ذلك أن الأجناس يوم القيامة تضم إلى أجناسها،
ورسول الله r هو سيد العادلين ولن يليق لصحبته إلا العادلون.
وفي حديث آخر، قال r
:( أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وشر عباد الله عند الله
منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق)[62]
انظروا كرامة الإمام العادل عند الله
..
قال إقبال ـ مقاطعا ـ: وانظر كيف قرن
رسول الله r بين العدل والرفق، كما قرن بين الجور والخرق .. فالأخرق الأحمق لا
يزيد طين رعيته إلا بلة، ولن يصدر منه إلا ما يؤذيه ويؤذي رعيته ..
لقد عنون ابن خلدون فصلا من فصول
مقدمته بقوله: (الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران) قال فيه
:( اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما
يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في
اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون
انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع
أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع
أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران
ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين.
فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت
الأحوال، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصارة، واختل باختلاله حال الدولة
والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة)
ثم ذكر حكاية عن بعض حكام الفرس إن
سمحتم حكيتها لكم كما نقلها ابن خلدون عن المسعودي.
قال ديدات: الحكمة ضالة المؤمن ..
أين وجدها، فهو أحق بها .. فحدثنا.
قال إقبال: لقد حكى المسعودي في
أخبار الفرس عن الموبذان ـ صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام، وما عرض به
للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة، بضرب المثال
في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها، فقال له: إن
بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام
بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل
مراما.
فتنبه الملك من غفلته، وخلا
بالموبذان سأله عن مراده، فقال له: أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة،
والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز
للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة،
ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبة الرب وجعل
له قيماً، وهو الملك، وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها
وعمارها، وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل
البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج
لقربهم من الملك، ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن
ضياعهم وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت
الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك
لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.
فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر
في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة، وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم
السالفة، وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت
الأموال عند جباة الخراج، وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل
الملأ على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه.
انظروا .. إن هذه الحكاية تؤكد كل ما
أخبر به r من العواقب الوخيمة الناتجة عن الجور.
قال الكواكبي: عد بنا ـ يا شعراوي ـ
إلى أحاديث المصطفى r ننهل منها قيم العدالة الإنسانية، فلا تعرف العدالة إلا من فم سيد
العادلين.
قال الشعرواي: ومن الأحاديث التي
تمتلئ بالرهبة من الظلم والجور قوله r :( يؤتى بالقاضي يوم القيامة، فيوقف للحساب على
شفير جهنم، فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا)[63]
وقال r :( لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا وقفه الله تعالى على جسر
جهنم، فيزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج، فلا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه،
فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم يبلغ قعره سبعين خريفا)[64]
وقال r :( إن في جهنم واديا وفي الوادي بئر يقال له هبهب حقا على الله أن
يسكنه كل جبار عنيد)[65]
وقال r :( من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبه الله تعالى
على وجهه في النار)[66]
وقال r :( ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلا يعدل فيهم إلا
كبه الله في النار)[67]
وقال r :( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا
العدل)[68]
وقال r :( ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه فكه عدله أو غله
جوره)[69]
وقال r :( عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار : أمير مسلط ، وذو ثروة من مال
لا يؤدي حق الله فيه ، وفقير فخور)[70]
قال القمي: وعينا هذه الأحاديث، وما
يحدثه نشرها والتبشير بها من آثار كبيرة في ترسيخ قيم العدل التي نادى بها الإسلام
.. فحدثنا عن المظلومية .. حدثنا عن الذين يقفون مع المستكبرين في وجه المستضعفين
.. حدثنا عن علماء السلاطين الذين يفتون لهم بعلم وبغير علم.. حدثنا عن الذين
يصورون الإسلام دينا يقف مع المستبدين، أودينا يعطي جرعات من المخدرات للمستضعفين
ليتمكن من رقابهم المستكبرون.
قال الشعراوي: لو حدثتك بكل ما ورد
في ذلك سننشغل عما نحن فيه .. فأنتم تعلمون أن الوظيفة الكبرى للإسلام هي
التحرير .. ومن التحرير الذي جاء به
الإسلام تحرير المستضعفين من جور المستكبرين والمستبدين ..
سكت قليلا، ثم قال: اسمعوا هذه
الأحاديث وألقوها في وجوه من يعبدون المستبدين من دون الله ويزينون لهم ما يفعلون،
ويشوهون الإسلام بذلك التزيين .. قال r :( ما من مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص
فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ، وما من امرئ مسلم ينصر امرأ
مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب
فيه نصرته)[71]
وقال r :( أمر بعبد من عباد الله تعالى يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل
يسأل الله ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق
قال : علام جلدتموني ؟ قالوا: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم
تنصره)[72]
وقال r :( قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله
وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره ولم يفعل)[73]
وقال r :( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا
كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره ؟ قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك
نصره)[74]
قال الكواكبي: فحدثنا عن شمول معنى
العدل في الإسلام.
قال الشعراوي: لقد اعتبر علماء
الأخلاق المسلمين العدل من الأركان الأربعة الكبرى التي تتأسس عليها الأخلاق ..
وقد أشار القرآن الكريم في الآية التي تحوي أصول الأخلاق إلى هذا، بل اعتبر العدل
أول الأصول، فقال :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ (النحل: 90)
ولهذا، فإن العدل في الإسلام ـ على
حسب ما تدل النصوص المقدسة ـ يبدأ من العدل مع النفس، ويمتد إلى كل علاقات الإنسان
..
فقد أمر من له عدة زوجات أن يعدل
بينهن في كل شيء غير مبال بما يهواه قلبه منهن، قال تعالى :﴿ وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)
(النساء:3)، وفي الحديث قال r من كانت عنده امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة، وشقه
ساقط)[75]
قال الكواكبي: إن هذا يدعو المسلمين
إلى تبني جميع ما تطلبه النساء من حقوق .. فمن العار أن نجد من يتولى مثل هذا نساء
ورجال لا علاقة لهم بالإسلام، ثم يجدون من فقهاء المسلمين المتزمتين من يمدهم بما
يحاربون به الدين، ويمنعون أكثر النساء من الدخول في دين الله أفواجا.
قال القمي: فأرسلوا إلى سحنون ..
وجميع المفتين من ورثة النبي r أن لا يفتوا إلا بما تقتضيه العدالة فـ ( الشريعة مبناها وأساسها
على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح
كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن
المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها
بالتأويل)[76]
قال الشعراوي: ومن العدل الذي ورد
الحض عليه في النصوص العدل بين الأولاد، وقد روي في هذا عن النعمان بن بشير ـ رضي
الله عنه ـ أنه قال: نحلني أبي نَحْلا، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهد
رسول الله r ، فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: (أكل ولدك نحلت مثله؟) قال: لا.
قال: (اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم)، وقال :( إني لا أشهد على جَوْر) قال: فرجع
أبي، فرد تلك الصدقة[77].
قال الكواكبي: إن هذا يدعو المسلمين
إلى تبني جميع ما يطلبه الأطفال وغيرهم من المستضعفين من حقوق .. فمن العار أن نجد
من يتولى مثل هذا من لا علاقة لهم بالإسلام، ثم يجدون من فقهاء المسلمين المتزمتين
من يمدهم بما يحاربون به الدين، ويمنعون هؤلاء الطبقات من الدخول في دين الله
أفواجا.
قال القمي: فاكتبوا إلى سحنون وجميع
مفتي الأمصار الإسلامية، بأن لا يفتوا إلا بما تقتضيه العدالة التي جاء بها القرآن
الكريم وبشر بها رسول الله r ..
قال الشعراوي: وقد ورد في النصوص
الأمر بالعدالة بين الأقارب .. ولهذا ـ كان من حكمة الله ـ أن تولى قسمة المواريث
بنفسه حتى لا يقع فيها أي جور أو ظلم.
***
بقيت هذه الثلة الطيبة من الورثة
تستعرض أحكام الشرع وعلاقتها بالعدل، ثم تقرر القرارات المختلفة بناء على ذلك ..
وأنا أتعجب كل حين يذكر فيه سحنون أو غيره ممن كنت لاقيتهم.
ولم أعلم سر ذلك إلى أن أعلمني صاحبي
إلى أن لجميع من مررت بهم من الهداة لهم علاقة بهذه الغرفة .. فهذه الغرفة هي غرفة
العمليات التي تصدر منها جميع القرارات والأحكام المورورثة عن النبي الهادي.
بعد أن انتهى مهندسو الشهادة من
الحديث عن العدل، وكيفية تحقيقه في الواقع الإسلامي، ليدخل الناس في دين الله
أفواجا، نهض محمد إقبال، وقال: سأبث لكم الآن مشروع الشهادة الذي وصلت إليه بعد
جهد جهيد، وبحث مستفيض، ومعاناة طويلة.
لقد رأيت أن سر إعراض الناس عن
الإسلام هو ما عليه المسلمون من ضعف .. فالبشر تبع للقوي .. لا يدينون بغير دينه،
ولا يحتمون بغير حماه.
نعم .. العقلاء من الناس، وأصحاب
الهمم العالية منهم لا تؤثر فيهم قوة ولا ضعف.. ولكن عموم الناس لا يؤثر فيهم إلا
القوي العزيز.
ألا ترون كيف لم يتبع رسول الله r
في بدء الرسالة إلا السابقون الأولون من أصحاب الهمم العالية .. ولكنه بعد ما فتح
الله على المسلمين مفاتيح القوة والتمكين دخل الناس في دين الله أفواجا؟
لقد ذكر القرآن ذلك، فقال :﴿
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوَّابًا (3)﴾ (النصر)
ولذلك كانت القوة ركنا من أركان الشهادة
.. فلا يمكن للأمة الضعيفة التي لا تستطيع أن تنقذ نفسها أن تقوم بإنقاذ غيرها.
قال القمي: ذلك مما لا شك فيه .. فلا
يمكن للمستضعف أن ينصر مستضعفا، أو يقف في وجه مستكبر .. لابد من القوة .. القوة
بجميع معانيها، وبجميع وجوهها.
قال الشعراوي: بورك فيك يا قمي .. إن
القوة بجميع وجوهها لم تكتمل في دين كما اكتملت في الإسلام، ولم تكتمل في هدي نبي
كما اكتملت في هدي نبينا r ..
إن الإسلام بجميع شرائعه منظومة
متكاملة للقوة .. القوة بجميع مجالاتها، وبجميع وجوهها: قوة الفرد، وقوة المجتمع،
وقوة الأمة.
قال المودودي: فلنتحدث عن هذه القوى
الثلاث، وكيف نعيد إحياءها في الأمة، لنعيد لها وصف الشهادة الذي وصفها الله به.
قال إقبال: أنتم تعلمون أن الإسلام
يؤسس دولته على الأفراد .. بل على نفوس الأفراد .. فكل فرد في الإسلام كيان قائم
بذاته، له حرمته، وله سلطته، فلا يحتاج إلى أي جماعة أو حزب حتي يثبت وجوده .. بل
هو بذاته حزب يمكنه أن يواجه من يشاء، وينصح من يشاء، ويعارض من يشاء.
لقد قال رسول الله r
يذكر ذلك :( المسلمون تتكافا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم اقصاهم وهم
يد على من سواهم يرد مشدهم على مضعفهم ومسرعهم على قاعدهم)[78]
وقال في الحديث الآخر الذي يحمل
الأمة جميعا بجميع أفرادها مسؤولية النصح والتقويم :( إن الدين النصيحة ، إن الدين
النصيحة ، إن الدين النصيحة) قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال: (لله، ولكتابه ،
ولرسوله ، ولائمة المسلمين وعامتهم)[79]
قال القمي: وهذا يحوج إلى المسلم
القوي، فلا يمكن أن يؤدي النصيحة بتمامها وكمالها إلا من اكتملت له جميع أسباب
القوة .. فهو قوي بنفسه، قوي ببدنه، قوي بهمته، قوي بعزيمته ..
قال الشعراوي: لقد جمع النبي r
كل ذلك، فقال في دعائه لربه:( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من
العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)
انظروا .. ألا ترون في هذا الدعاء
كيف أن النبي r قد استعاذ بالله من كل
مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن, وضعف الإنتاج بالعجز والكسل, وضعف
الجيب والمال بالجبن والبخل, وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟
قال شكيب: بل إن النبي r صرح بذلك بقوله :( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن
الضعيف وفي كل خيرٌ. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيءٌ فلا
تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل
الشيطان)[80]
انظروا .. إن هذا الحديث يدلنا على
جميع أركان القوة التي يتأسس عليها بنيان المؤمن:
لقد بدأ رسول الله r
ببيان خيرية المؤمن القوي، وهي خيرية مطلقة من كل قيد، تجعل كل مؤمن يبحث عن كل
أسباب القوة لتتجلى فيه الخيرية بكمالها وشمولها.
ثم أمر r بالحرص على ما ينفع، وذلك لأن القوة قد تستغل فيما لا ينفع، فتكون
على وبالا على ما ينفعها .. فلا يكفي أن تكون لدينا قوة، بل يجب أن نعرف أي نضعها،
وكيف نستثمرها، وإلى من نوجهها.
لقد رأيت بعض الشباب في فترة من
الزمن يتدربون على جميع أنواع القوى، فقرت عيني بذلك، وقلت في نفسي: هؤلاء هم ورثة
محمد r ، وبهؤلاء سوف يقوم دينه، وسوف يدخل الناس في دين الله أفواجا ..
لكني ما لبثت حتى رأيتهم يحملون بقواهم على إخوانهم من المسلمين، فعرفت أن القوة
التي لا توجه التوجيه النافع لن تزيد صاحبها إلا ضعفا.
ثم أمر r بالاستعانة بالله .. ذلك أن الله هو القوي .. ومن استعان به أمده
بالقوة التي تنهد لها الجبال.
وذلك يدل على وجوب الاهتمام بالقوة
الروحية للجيل القوي الذي نريد تأسيسه، فقوة الإيمان هي القوة الوحيدة التي لا
يمكن لأحد في الدنيا قهرها.
ثم نهانا النبي r
أن نتألم لما مضى .. وهذا يدل على أن القوي هو الذي يفكر في كيفية صناعة مستقبله
لا الذي يكون طريحا لماضيه .. لقد قال الله تعالى يذكر هذه المعيقات الخطيرة التي
تقف في وجه القوة :﴿ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
(الحديد:23)
قال المودودي: لقد مثل النبي r
بسلوكه وفي حياته جميع القوى التي تملأ الفرد المسلم بالإيجابية .. فلذلك لن يصعب
علينا بث مثل هذه الأفكار للجيل القوي الذي نريد تأسيسه .. فمن السهل أن نذكر لهم
أن القوة بجميع معانيها هي سنة النبي r .. لنجدهم جميعا بجميع ما أوتوا من الطاقات يسرعون إليها
ويهرولون.
قال الشعراوي: نعم .. لقد جمع الله
أنواع القوة في رسول الله r، فلذلك كان السابق في كل شيء:
ففي الصلاة وعبادة الله، كان r
هو النموذج الأكمل للعابد الذي لا يفتر ولا يمل، فعن الحجاج بن عمرو المازني ـ رضي
الله عنه ـ قال: (أيحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلي حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما
التهجد المرء يصلي بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، وتلك كانت صلاة رسول الله r)[81]
وعن عوف بن مالك ـ رضي الله عنه ـ
قال: قمت مع رسول الله r فلما ركع قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت
والملكوت والكبرياء والعظمة)[82]
وعنه قال: قمت مع رسول الله - r
- ذات ليلة فقام فصلى فقرأ سورة (البقرة) لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر
بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت
والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام
فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة)[83]
وعن رجل من بني غفار صحب رسول الله r
قال: خرجنا مع رسول الله r إلى مكة، فلما وصلنا نزلنا منزلا، فقلت: لأرقين صلاة رسول الله r
حتى أرى فعله، واضطجع رسول الله r هويا من الليل، واضطجعت قريبا منه ثم سمعته بعدها تنفس تنفس
النائم ثم استيقظ، ثم نظر إلى أفق السماء ثم قرأ هذه الآيات :﴿ إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) الآيات التي في آل عمران ختمها[84] ثم أهوى رسول الله r إلى فراشه، فاستل منه سواكا، فاستن به، ثم قام، فاستكب ماء من
قربة في قدح له، ثم توضأ فأسبغ وضوءه، ثم قام فصلى أربع ركعات، لا أدري ركوعهن أطول
أم قيامهن أم سجودهن، حتى قلت: قد صلى قدر ما نام، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ فقرأ
بالآيات التي كان قرأ بها، ثم استن فتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم غلب علينا النعاس
حتى السحر[85].
وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة،
أن رجلا قال: لأرمقن صلاة رسول الله r قال: فصلى العشاء، ثم اضطجع غير كثير قام ففرغ من حاجته، ثم أتى
مؤخرة الرحل، فأخذ منها السواك فاستن وتوضأ، فوالذي نفسي بيده ما ركع حتى ما أدري
ما مضى من الليل أكثر أم ما بقي وحتى أدركني النوم، أمثال الجبال[86].
وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: قام
النبي r ليلة وهو يصلي في المسجد، فقمت أصلي وراءه يخيل إلي أنه لا يعلم،
فاستفتح بسورة البقرة، فقلت: إذا جاء مائة آية ركع، فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا
جاء مائتي آية ركع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع فختمها فلم يركع فلما
ختم، قال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح آل عمران فقلت: إذا ختمها ركع فختمها ولم
يركع وقال: (اللهم لك الحمد)، ثم استفتح النساء، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فلم
يركع وقال: (اللهم لك الحمد) ثلاثا ثم استفتح بسورة المائدة، فقلت: إذا ختمها ركع،
فختمها فركع فسمعته يقول: (سبحان ربي العظيم)، ويرجع شفتيه فأعلم أنه يقول غير ذلك،
فلا أفهم غيره، ثم استفتح بسورة الأنعام، فتركته وذهبت[87].
وعنه قال: أتيت رسول الله r
ذات ليلة لأصلي بصلاته، فاستفتح الصلاة فقرأ قراءة ليست بالرفيعة ولا الخفيفة،
قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا، قال: ثم ركع نحوا من سورة قال ثم رفع رأسه فقال:
(سمع الله لمن حمده ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم قام نحوا من سورة،
وسجد نحوا من ذلك حتى فرغ من الطول وعليه سواد من الليل[88].
وعنه قال: لقد لقيت رسول الله r
بعد العتمة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أتعبد بعبادتك فذهب وذهبت معه إلى
البئر، فأخذت ثوبه فسترت عليه، ووليته ظهري، ثم أخذ ثوبي فستر علي حتى اغتسلت، ثم
أتى المسجد فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ الفاتحة، ثم استفتح سورة
البقرة، ولا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا آية تخويف إلا استعاذ، ولا مثل إلا
فكر حتى ختمها ثم كبر، فرفع، فسمعته يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ويرد فيه
شفتيه حتى أظن أنه يقول: (وبحمده)، فمكث في ركوعه قريبا من قيامه، ثم رفع رأسه ثم
كبر فسجد فسمعته يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ويرد شفتيه، فأظن أنه يقول:
(وبحمده)، فمكث في سجوده قريبا من قيامه، ثم نهض حين فرغ من سجدته فقرأ فاتحة الكتاب،
ثم استفتح (آل عمران) لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا مثل إلا فكر، حتى ختمها، ثم
فعل في الركوع والسجود كفعل الأول، ثم سمعت النداء بالفجر، قال حذيفة فما تعبدت
عبادة كانت علي أشد منها[89].
إن هذه النصوص التي ذكرتها لكم
بطولها[90]لم أذكر لها
لأبين أن النبي r كان العابد الذي بز العباد بعبادته .. ولكني ذكرتها لنتبين أن
النبي r كان صاحب قوة روحية عالية، لأنه لا يمكن أن تتأسس جميع القوى من
دون تلك القوة الروحية العالية.
قال المودودي: وهكذا كان رسول الله r
في جميع أنواع القوة الأخرى، ففي قوة السيطرة على دوافع الحرص التي تمتلئ بها نفس
الإنسان كان النبي r يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان يقول :( لو عندي مثل أحد ذهبا
ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين) [91]
وقد كان أصحابه والمقربون إليه
يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها، فعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان إذا نعت
رسول الله r قال: كان أجود الناس كفا [92] .. وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r
أجود الناس [93].
وكان من الصفات التي عرفه من خلالها
الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله
تعالى به، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ﴾
(الضحى:10)
وكان من الصفات التي عرف بها .. عرفه
بها جميع الناس .. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: ما سئل
رسول الله r على الإسلام
شيئا إلا أعطاه[94].
وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله
رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا
ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر[95].
قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى
رسول الله r وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من
الدنيا وما بينها [96].
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول
الله r إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله
سكت، وكان لا يقول لشئ لا [97].
قال ديدات: لقد ذكرتموني بحديث لأنس
ـ رضي الله عنه ـ قال فيه: كان رسول الله r أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات
ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي r قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: (لم ترعوا لم ترعوا) وهو على
فرس لأبي طلحة عرى، ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: (لقد وجدته بحرا) أو (إنه
لبحر)[98]
وكان رسول الله r
يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله، ففي غزوة حنين ثبت رسول الله r
حين انهزم الكثير ممن معه، فعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا قال له:
يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله r يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله r لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم
انهزموا، فأقبل الناس فلقد رأيت رسول الله r وأبا سفيان بن الحارث آخذ في لجام بغلته البيضاء، وهو يقول: (أنا
النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)[99]
لقد قرأت لابن كثير .. المفسر
والمؤرخ المعروف .. وهو يعلق على هذا الحديث :( هذا في غاية ما يكون من الشجاعة
التامة، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى، وقد انكشف عنه جيشه، هو مع ذلك
على بغلة وليست سريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضًا
يركضها إلى وجوههم وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه، صلوات الله وسلامه عليه
دائمًا إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلا عليه، وعلمًا منه بأنه
سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان)[100]
قال القمي: ما أحسن ما ذكرته من حديث
أنس ـ رضي الله عنه ـ الذي قال فيه: (كان رسول الله r أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس) .. فلا يمكن أن يستعيد
الإسلام مجده حتى يستن المسلمون بهذه السنة العظيمة: أن يكونوا أحسن الناس، وأجود
الناس، وأشجع الناس.
قال إقبال: عرفنا قوة الفرد .. فما
قوة المجتمع؟ .. وكيف نحققها؟
قال المودودي: إذا اعتبرنا الأفراد
هم لبنات المجتمع .. فلا شك أن المجتمع هو ذلك البناء الذي يتكون من لبنات الأفراد
.. ولا يكفي في البناء أن تكون لبناته قوية، بل يجب أن يكون التماسك بينها قويا،
وإلا أدى ذلك إلى خرابها، وسقوطها بأوهى الأسباب.
قال الشعراوي: لقد ذكرتني بقوله
تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)
لقد جادلني مرة في هذه الآية بعضهم،
فقال: (إن العلم الحديث قد أثبت أن بيت العنكبوت منسوج من أقوى الخيوط، التي
تستطيع مقاومة الرياح العاتية، ويمسك في نسجه فرائس العنكبوت، من الحشرات، التي هي
أكبر من العنكبوت دون أن يتخرَّق، وخيوطه دقيقة جدًا، يبلغ سمك الخيط الواحد منها
في المتوسط واحدًا من المليون من البوصة المربعة, أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من
سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان، ويتمدد إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع،
وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة، ومن الألمنيوم بتسع وعشرين
مرة،ولا يفوقه قوة سوى الكوارتز المصهور، وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل
للبوصة المربعة، فإذا قُدِّر وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت،
فيُمْكِنه حَمل طائرة ركاب كبيرة بكل سهولة، ولذلك أطلق عليه العلماء اسم:(
الفولاذ الحيوي )، أو( الفولاذ البيولوجي )، أو( البيوصلب ). وهذه الحقيقة يستطيع
الإنسان أن يكتشفها بنفسه؛ حيث يمكنه بسهولة إزاحة بيت العنكبوت بسبب وزنه
الخفيف، ولكن يصعب عليه قطعه، أو تغيير شكله الهندسي الدقيق)[101]
قال ذلك، ثم قال بسخرية :( فكيف ذكر
القرآن أن بيت العنكبوت أوهى البيوت؟)
لم أجد ما أجيبه حينها، لكن الله قيض
أن التفت إلى النافذة، فرأيت آلة رافعة تحمل حائطا كبيرا تريد أن تضعه في محله من
البناء الجاهز، فقلت له: (ما رأيك في ذلك البناء .. أهو أقوى أم خيوط العنكبوت؟)،
قال: (بل هو أقوى)، فقلت: (أرأيت لو أن مثل هذه الجدر وضعت هكذا من دون أن تكون
هناك روابط قوي تمسك بينها؟)، فقال: (إنها ستسقط لا محالة، وستدمر الأمرض
بسقوطها)، فقلت: (فهذا هو جوابك .. فالآية لم تقل (إن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت
)، وإنما قالت :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾،
فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيط العنكبوت؛ وإنما هو في البيت، الذي
نسج من ذلك الخيط.
فالعجيب أن من هذه الخيوط( القوية
) تصنع بيوت العنكبوت( الضعيفة ) الواهية والواهنة، وإلى هذا يشير قوله
تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
فهي تذكر أن من يتوكل على غير
الله, طالبًا المناصرة والمؤازرة, فإنه بذلك يختار، ويتخذ منهجًا واهيًا، وليس
قويًّا؛ كما قد يتصور, فالعنكبوت مثلاً تنسج بيتها بنفسها, وتعتمد بالطبع
على خيوطها القوية، وتتصور أنها بذلك قد صنعت بيتًا قويًّا؛ ولكنه في الحقيقة
واهن وضعيف في الهواء، فكذلك هو الحال مع من يولي أمره لغير الله, ويتصور أن
هؤلاء الأولياء بمجموعهم قد ينفعونه. فهذا المنهج واهن.
والعبرة والعظة والإعجاز في هذا
التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء, فبيت العنكبوت بخيوطه
القوية, يسهل إطاحته؛ ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى,
وبمنهج آخر, فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا, وشديدًا في متانته، ويصلح لصد
الرصاص)
قالت الجماعة: فهل سلم لك؟
قال الشعراوي: أجل .. لم يجد إلا أن
يسلم لي .. بل زادني لذلك مثالا هو أليق الأمثلة بما نحن فيه .. لقد ذكر لي أن الجرافيت
والألماس, كلاهما من الكربون, وعلى الرغم من ذلك فلهما خواص فيزيائية وشكلية
متضادة تمامًا، فالأول, أسود ولين ومعتم وضعيف، ويسهل كسره. .. أما الثاني فهو
شفاف ونقي، ومن أصلد وأقوى المعادن .. والأول يتحول للثاني تحت ظروف قاسية من
الضغط والحرارة، وإذا تغيرت الظروف حوله.
قال المودودي: وهكذا المجتمع .. فلا
يكفي أن نؤسس الفرد القوي .. بل يجب أن نبحث في السبل التي نربط بها قوى الأفراد
لنشكل منها قوة المجتمع الذي لا يقهر.
قال القمي: في الإسلام منظومة كاملة
لذلك .. فكل ما ورد في النصوص المقدسة من الحث على التماسك والتآلف من التوجيهات
والتشريعات يخدم هذا.
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)
انظروا .. كيف أمر الله تعالى
بالإصلاح بين الإخوة، وكأنه يقول لنا: لا يمكن أن يتماسك بناؤكم الاجتماعي، وأنتم
مفرقون مشتتون لا تجتمع لبناتكم.
قال الشعراوي: لقد صرح رسول الله r
بمثل هذا التشبيه، فقال :﴿ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين
أصابعه)[102]
وفي حديث آخر شبه رسول الله r
العلاقات بين المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، فقال :( مثل المؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى)[103]
وفي حديث آخر ذكر رسول الله r
مثلا تقريبيا لما قد يحدثه سكوت المجتمع عن أخطاء أفراده، فقال :( مثل القائم على
حدود الله ـ أي القائم على حفظ النظام العام للمجتمع وأفراده ـ والواقع فيه كمثل
قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها
إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا
ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا
جميعا)[104]
قال ديدات: لقد وردت النصوص الكثيرة
التي تؤسس للروابط الاجتماعية بين المسلمين، والتي أشار إليها قوله تعالى :﴿
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63)
ففي الحديث الشريف يقول رسول الله r
:( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في
حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً فرج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن
ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)[105]
وفي حديث آخر، قال r
:( المسلم أخو المسلم: لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرامٌ:
عرضه وماله ودمه، التقوى ههنا، بحسب امريءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)[106]
وفي حديث آخر، قال r
:( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ،
وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله.
التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مراتٍ - بحسب امريءٍ من الشر أن يحقر أخاه
المسلم. كل المسلم على المسلم حرامٌ دمه وماله وعرضه)[107]
وفي حديث آخر، قال r
:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[108]
وفي حديث آخر، قال r
:( حق المسلم على المسلم خمسٌ: رد السلام، وعياد المريض، واتباع الجنائز وإجابة
الدعوة، وتشميت العاطس)[109]
وفي حديث آخر عن البراء بن عازبٍ ـ رضي
الله عنه ـ قال: أمرنا رسول الله r بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة،
وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام.
ونهانا عن خواتيم أو تختمٍ بالذهب، وعن شربٍ بالفضة، وعن المياثر[110] الحمر، وعن القسي[111]، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج[112].
قال إقبال: لقد جمع رسول الله r
كل ذلك وغيره في قوله الجامع :( المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)[113]
قال شكيب: وفي سلوك رسول الله r
نجده حريصا على تعميق الأخوة بين المؤمنين، ولذلك كان أول ما فعله r
في المدينة المنورة هو قضاؤه على ذلك النزاع الطويل الذي كان ينهش جسد الأوس
والخزرج، ثم إخاؤه بين المهاجرين والأنصار .. وكان r لا يترك سببا من أسباب الشقاق إلا سارع لسده قبل أن يتفاقم، وكان r
يستعمل لذلك كل الأساليب، بل كان يدعو إلى استعمال جميع الأساليب لرد المسلمين إلى
تآلفهم ووحدتهم، ففي الحديث عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ رضي الله عنها ـ
أن النبي r قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرا أو ينمي خيرا)،
قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين
الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)[114]
قال إقبال: عرفنا قوة الفرد وقوة
المجتمع، فما قوة الأمة؟ .. وكيف نحققها؟
قال القمي: لا يمكن أن تتحقق الشهادة
بكمالها إلا بهذا النوع من القوة .. ولا أرى أن هذا النوع من القوة يتحقق للأمة
إلا إذا تحققت بالأوصاف التي وصفها بها ربها.
فقد وصفت الأمة في القرآن الكريم
بأربعة أوصاف:
فقد وصفها الله تعالى بالوسطية في
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )(البقرة: من الآية143)
ووصفها بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والإيمان بالله في قوله :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110))إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92)
ووصفها بالوحدة في قوله :﴿
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)
(المؤمنون:52)
قال المودودي: إن هذه الأوصاف
الأربعة تحوي منظومة كاملة من القيم تضع الأمة في أعلى معارج القوة.
فالأمة القوية هي التي تنطلق من
الإيمان بالله بأرفع درجات الإيمان .. ثم تسير في حياتها على ما تقتضيه الفطرة
النقية التي عبر عنها القرآن الكريم بالوسطية .. فإذا ما تم لها ذلك كان لها أن
تنشغل بدعوة الناس إلى الله آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر .. ولن يتم لها كل ذلك
إلا بالوحدة، فالوحدة هي التي تجعل جهودها منصرفة إلى الرسالة التي أنيطت بها، لا
إلى النزاعات الداخلية التي تفتك بها.
قال الكواكبي: فكيف نحقق هذه القيم
الرفيعة في أمتنا التي فتكت بها الغفلة عن الله، وقتلها الغلو في دين الله، فصار
بأسها بينها شديدا، ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)(الحشر:
من الآية14)؟
قال إقبال: ذلك يسير على من يسره
الله .. فما دامت لدينا هذه المصادر المقدسة، فلن يصعب علينا بحمد الله شيء.
قال شكيب: فهل لديك خطة لذلك؟
قال إقبال: أجل .. وهي خطة طويلة
الأمد .. اقتربوا مني لأبثها لكم.
اقتربوا منه، فأخذ يناجيهم بكلمات
كثيرة، لم أسمع منها إلا أسماء من مررت بهم من الورثة الذين كان يردد اسمهم كل
حين.
سألت صاحبي عن سبب ذكره لتلك
الأسماء، فقال: لأن أصحاب تلك الأسماء هم المكلفون بتنفيذ ما يريده من خطط.
قلت: ألهذه الغرفة علاقة بهم إذن؟
قال: ألم أقل لك: إن هذه الغرفة هي
المنارة التي تهتدي بها جميع منارات الهداية؟
بعد أن لبث مهندسو الشهادة مليا
يدرسون خطة إقبال، قام المودودي، وقال: إن ما ذكرته ـ يا إقبال ـ ييسر ما سأذكره
لكم من خطط ترتبط بإعادة الأمانة إلى الأمة .. فلا يمكن للناس أن يدخلوا في دين
الله أفواجا إلا إذا رأونا أمة أمينة، تتوفر على كل ما تستدعيه الأمانة من قيم.
قال الشعراوي: صدقت .. فالقوة وحدها
لا تكفي، لقد قال الله تعالى يجمع بينهما:﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
(القصص:26)، وقال :﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)
(النمل:39)
قال الكواكبي: صدق الله العظيم ..
فالقوي الذي لا أمانة له لن يستعمل القوة إلا فيما استعملها فيه المتمردون الذين
أذاقوا البشر ويلات نفوسهم الحاقدة الخائنة.
قال القمي: ولهذا كان من أهم أوصاف
رسول الله r التي جعلته محل ثقة في مجتمعه هي أمانته، فقد كان يدعى بين قومه
قبل أن يوحى إليه (الصادق الأمين)
قال الشعراوي: لقد وصف القرآن الكريم
جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بالأمانة، وهو دال على ضرورتها لمن يريد أن
يدخل الناس في دين الله أفواجا:
لقد قال الله تعالى عن نوح u :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
(108)(الشعراء)
وقال عن هود u :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا
لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)﴾ (الأعراف)، وقال:﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ
الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)﴾
(الشعراء)
وقال عن صالح u :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
(143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)﴾ (الشعراء)
وقال عن لوط u :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ
قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)﴾ (الشعراء)
وقال عن شعيب u :﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)﴾
(الشعراء)
انظروا .. ألا ترون كيف اتحد جميع هؤلاء
الأنبياء في وصف أنفسهم بالأمانة، ثم رتبوا عليها دعوة أقوامهم إلى تقوى الله
وطاعته؟
قال إقبال: نعم .. وفي ذلك إشارة
بليغة إلى أنه لا يمكن أن يتقبل الناس أي فكرة إلا إذا رأو علامات الأمانة متمثلة
فيمن يدعو إليها.
قال القمي: لقد ذكرتموني بيوسف u
، فيوسف u كان قد أعد الله له وظيفة خطيرة ترتبط بها مصالح العباد، لينقذهم
من المجاعة التي تتربص بهم.
وبما أنه كان في السجن، وخشي أن يكون
الملك قد سرت إليه شبهة من خبر النسوة، فراح يطلب التحقيق فيها حتى لا تكون تلك
الشبهة سببا بعد ذلك لرفع الحرمة عنه.
ولما علم الملك خبر النسوة، قال :﴿
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)(يوسف: من الآية54)
قال المودودي: إن هذه الآية تحمل
توجيها عظيما لهذه الأمة .. فلن تستخلصها الأمم لنفسها، ولن تكون لها مكانة عندها
إلا إذا تحققت بالأمانة في أرقى درجاتها.
قال الشعراوي: لقد أخبر r
عن رفع الأمانة عن الأمة إبان انحطاطها، وهو يدل على أنه لا يمكن للأمة أن تستعيد
مجدها إلا باستعادة الأمانة التي ارتفعت عنها[115]:
لقد ورد في الحديث عن حذيفة ـ رضي
الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله r حديثين، قد رأينا أحدهما وأنا انتظر الاخر، حدثنا أن الامانة نزلت
في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا
عن رفع الامانة، قال: (ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل
أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر،
دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا، وليس فيه شئ فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد
أحدهم يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما
أجلده، ما أكرمه ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان[116])[117]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r
: (أول ما تفقدون من دينكم الامانة)[118]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r
: (أول ما يرفع من الناس الامانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق
له عند الله)[119]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r
: (أول ما يرفع من هذه الامة الحياء والأمانة)[120]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r
: (خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون
ولا يستشهدون ، يخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن)[121]
وفي حديث آخر، قال رسول الله r:(
إذا اتخذ الفئ دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع
الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد
القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات
والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء
وزلزلة، وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه، فتتابع)[122]
قال المودودي: مما يدل على أن هذه
النبوءات قد تحققت في عصرنا تحققا تاما هو ما نراه من اختصار عامة الناس ـ بل
خاصتهم ـ الأمانة في الودائع مع أنها الدين جميعا، فالله قد ائتمننا على هذا الدين
.. على تشريعاته تشريعا تشريعا .. وعلى توجيهاته توجيها توجيها ..
قال الشعراوي: صدقت .. فقد اعتبر
الله تعالى الدين بجميع تكاليفه دينا، فقال :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُوماً جَهُولاً ﴾(الأحزاب:72)، فقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في
تفسيرها:( الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدوها
أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين
الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم، فقبلها بما فيها)
قال القمي: لقد ورد في النصوص
المقدسة ما يشير إلى شمول الأمانة جميع التكاليف الشرعية، ابتداء من الحكم وانتهاء
بأبسط التكاليف، ففي الحديث، قال r :( إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)، قيل: يا رسول الله وما
إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)[123]
وقال r لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ في شأن الإمارة :( إنها أمانة, وإنها
يوم القيامة خزي وندامة, إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها)[124]
وقال r: ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)[125]
وقال r: ( الخازن المسلم الأمين الذي يُنفذ ما أُمِر به كاملاً موفراً
طيباً به نفسُه فيدفعه إلى الذي أُمر له به أحد المتصدقين)[126]
وقال r ـ يصف مرور الناس على الصراط ـ:( وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان
جَنَبتي الصراط يميناً وشمالاً)[127] ، وقال r :( ثلاث متعلقات بالعرش : الرحم تقول اللهم إني بك فلا أقطع ،
والأمانة تقول: اللهم إني بك فلا أخان ، والنعمة تقول : اللهم إني بك فلا أكفر)[128]
ومما ورد في سبب نزول قوله تعالى :﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (لأنفال:27) أنها نزلت في أبي لبابة حين
بعثه رسول الله r إلى بني قريظة، لما حصرهم r، وكانوا يميلون إلى أبي لبابة لكون أهله وولده فيهم، فقالوا له :
هل ترى أن ننزل على حكم محمد؟ فأشار بيده إلى حلقه ـ أي إنه الذبح فلا تفعلوا ـ
فكانت تلك منه خيانة لله ولرسوله.
قال: فما زالت قدماي من مكانهما حتى
علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم ذهب إلى المسجد وربط نفسه ، وحلف أن لا يحلها أحد
إلا رسول الله r ، ثم لا زال كذلك حتى أنزل الله توبته، فحله رسول الله r
بيده الشريفة.
ولهذا كله ورد في الحديث عن علي ـ
رضي الله عنه ـ قال : كنا جلوسا مع رسول الله r، فطلع علينا رجل من أهل العالية ، فقال: يا رسول الله أخبرني بأشد
شيء في هذا الدين وألينه؟ فقال : ألينه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله ، وأشده ـ يا أخا العالية ـ الأمانة ، إنه لا دين لمن لا أمانة له ، ولا
صلاة ولا زكاة)[129]
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:
(القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة
وإن قتل في سبيل الله، فيقال له: أد أمانتك ، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟
فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له الأمانة كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها
فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت
عن منكبه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين ، ثم قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة،
والوزن أمانة، والكيل أمانة ، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع)، قال زاذان: فأتيت
زيد بن عامر فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال : كذا وكذا، قال : صدق، أما
سمعت الله تعالى يقول :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )(النساء: من الآية58)
قال شكيب: ولهذا اعتبر r
من علامات المنافق خيانة الأمانة، فقال:( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا
وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم )[130]، وقال r :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان
فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر ،
وإذا خاصم فجر)[131]
بل كان r يخبر أنه لا إيمان لمن لا أمانة له، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ
قال: ما خطبنا رسول الله r إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)[132]
وكان r يستعيذ من الخيانة، ويقول :( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس
الضجيع ، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة )[133]
قال إقبال: علمنا كل هذا .. فكيف
تستعيد الأمة هذا الوصف الذي لن تتتحقق بالشهادة من دونه؟
قال المودودي: لقد نذرت حياتي كلها للإجابة
عن هذا السؤال .. وقد رأيت أن أول ما نفعله في هذا، وأحكم ما نفعله، هو أن نشعر
الأمة بمسؤوليتها عن دينها، وعن أحكام ربها، نرغبها في ذلك ونرهبها، كما كان يفعل
رسول الله r بأسلوب أهل السلام، لا بأساليب أهل الصراع، إلى أن يظهر في الأمة
الحاكم الأمين، والوزير الأمين.. والتاجر الأمين .. فإذا ظهرت هذه النماذج الطيبة،
ومثلت الأمانة بأرقى مستوياتها، كان في ذلك تمام الدعوة للأمانة .. فالعامة لا
يقتنعون بشيء كما يقتنعون بشيء يرونه بأعينهم.
قال شكيب: نعم ما ذكرت .. فلن يملأ
الأرض صلاحا إلا أريج الصالحين، ولن يملأ الأرض أمانة إلا الأمناء.
قال المودودي: إن ذلك يشبه ما يتعامل
به علماء الحياة مع الأصناف التي يخشون انقراضها، فهم يستعملون كل الوسائل ليكثروا
ذلك النوع الذي خشوا من انقراضه.
قال ديدات: فهلم إذن .. ندرس مراتب
ذلك .. لنرسل للورثة في سائر البقاع بها.
***
اجتمع الجمع، وراحوا يتحدثون .. ولم
أسمع منهم إلا ما ذكرت لك من تكريرهم كل حين من عرفت من الورثة.
لم يلبثوا إلا قليلا حتى صاح إقبال
قائلا: إن ما ذكرتموه نبهني إلى الطريقة المثلى التي نحيي فيها ما أمرنا الله
تعالى به في قوله :﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا )(هود: من الآية61) .. فعمارة الأرض وظيفة من وظائف الإنسان، ولن تتحقق أمة
بالشهادة، وهي تفرط في هذه الوظيفة.
قال ديدات: صدقت .. وقد سمعت معلم
السلام في حوار له مع تلميذه (تلميذ السلام)[134]، وقد سأله عن الرفاه، فقال: كيف يكون وظيفة من وظائف الشهادة؟
فأجابه معلم السلام :( كيف يستطيع مدرب النمور والأسود أن يتسلط على قوى السبعية
في النمر والأسد ليوجهها إلى اللعب واللهو .. فيجعل من ذلك الذي يخافه الناس على
نفوسهم وسيلة رزقه التي يحافظ بها على حياته؟)، فقال تلميذ السلام :( ما أسهل ذلك
ـ يا معلم ـ لقد عرف شهوات النمر والأسد، فراح يتلاعب به من خلالها)، فقال معلم
السلام :( فكذلك من يحيط بكم من الأقوام، استعبدتهم الدنيا، ولن تجروهم إلى الله
إلا بسلاسل الدنيا[135])
قال إقبال: لقد دلني على هذه الناحية
من نواحي الشهادة قوله تعالى مخبرا عن سليمان u :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(
(صّ:35) .. لقد طال فكري في هذه الآية، وكنت أقول في نفسي: (لقد عهدنا الأنبياء ـ عليهم
الصلاة والسلام ـ زاهدين في متاع الدنيا راغبين في الله مكتفين بالله، فكيف طلب
سليمان u هذا الطلب الغريب؟)
لكن الله هداني إلى سر ذلك .. فعلمت
ـ أولا ـ أن سليمان u طلب ذلك الملك، وبتلك الصورة التي لا ينازعه فيها أحد، ليكون حجة
على من شغله ملكه عن الله، وكأن سليمان u يقول لربه :( يارب هب لي من الملك ما تشاء .. بل هب لي ملكا لا
ينبغي لأحد من بعدي أن يحصل عليه .. فإن هذا الملك مهما كان عظيما .. وذلك الفضل
مهما كان وفيرا لن يحجباني عنك ولن يبعدا قلبي عن الرغبة فيك .. فإني لا أرى
الأشياء مهما كثرت إلا منك .. ولا أرى نفسي إلا بك .. فكيف أحجب بهداياك الواصلة
إلي .. أم كيف أنشغل بفضلك عنك)
ثم ترقيت ـ بحمد الله ـ في فهم
الآية، فتبينت علاقتها بالشهادة، وعرفت أن سليمان u ـ حسبما ورد في القرآن الكريم ـ كان في واقع لا يرى من حجة أعظم
من حجة العمران .. فلذلك قال تعالى عن ملكة سبأ على لسان الهدهد :﴿ إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ) (النمل:23)
وذكر تعالى أنها أرادت أن تميز
سليمان u أملك هو أم لا بإرسال هدية إليه، كما قال تعالى:﴿ وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)
(النمل:35)
وهذا الواقع الغارق في الدنيا، وفي
متاعها، يستدعي أن يخاطب بما يتناسب معه، كما خاطب موسى u السحرة بما يتناسب مع مداركهم، فلذلك طلب سليمان u
ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
ومما يدل على هذا ما ذكره الله تعالى
من إظهار سليمان u لملكة سبأ بعض مظاهر الملك التي أعطاها الله له، فلم يكن غرضه من
ذلك الفخر عليها، وإنما كان غرضه تعريفها بالله، لأنها انشغلت بالعرش العظيم[136] الذي كان
لها عن الله، فلذلك كان أول ما لاقاها به سليمان u هو عرشها الذي حجبها عن الله، وعن التسليم له، قال تعالى :﴿
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ((النمل:42)
فلما قالت ذلك، وفي غمرة انبهارها
بما رأت أخبرها سليمان u بأنه مع هذا الملك كان مسلما لله، فلم يحجب به عن الله، فقال
تعالى على لسانه[137]
:﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)
فلما رأى سليمان u
حاجتها إلى المزيد من الأدلة، أحضرها إلى الصرح الممرد من القوارير، وقد كان من
الجمال بحيث لا يساوي عرشها الذي شغلها عن الله شيئا بجانبه، وحينذاك لم تملك إلا
أن تسلم لله، قال تعالى :﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا
رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ
مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(
(النمل:44)
ثم ترقيت .. وانتقلت من القصة إلى
واقعنا .. فعلمت أننا في واقع منبهر تمام الانبهار بالدنيا، فلا يمكن أن يدخل
الناس في دين الله أفواجا، وهم يروننا في ذيل القافلة، لا عمل لنا إلا استهلاك ما
يصدر لنا.
قال الشعراوي:
ولكن الأمم سبقتنا في هذا المجال إلى محال
لا يمكن أن يلحقوا فيها، فكيف ترى أن نسبقهم في هذا؟
قال إقبال: ذاك
ما ظللت طول عمري أبحث عنه .. لقد كنت أقول دائما لنفسي: نعم .. هم سبقونا .. ولكن
مع ذلك يمكن أن نسبقهم ..
كنت أقول ذلك ـ
في البدء ـ لأملأ نفسي بالأمل .. لكن الأمل بعد ذلك اتسع، بل صار بين عيني حقيقة لا
يصعب علينا بالعمل الجاد، وبالإرادة الجادة أن نحققها.
قال الشعراوي:
كيف ذلك .. بشرنا .. فطالما اهتممنا لما اهتممت له.
قال إقبال: لقد
كان الحجاب الأعظم الذي جعلنا نستشعر تأخرنا عن الأمم، وعدم إمكانية لحوقنا بهم هو
تصورنا أننا لا بد أن نبدأ من حيث بدأوا .. أي أننا إذا أردنا أن نخترع نوعا راقيا
من السيارات لابد ـ أولا ـ أن نمر بكل المراحل التي مر بها من صنعوا السيارات.
قال الشعراوي:
ذلك صحيح .. كلنا يعتقد هذا.
قال إقبال:
لكني عرفت بعد ذلك خطأ هذا المنهج .. فنحن لن نبدأ من حيث بدأوا .. بل نبدأ من حيث
انتهوا .. فنهاياتهم هي بدايتنا.
قال شكيب:
ولكنهم قد يصيحون فينا قائلين: أنتم تقتاتون من علومنا واختراعاتنا واكتشافاتنا؟
قال إقبال:
ونحن نصيح فيهم: وأنتم لم تكن لكم هذه العلوم، ولا تلك الاختراعات، ولا تلك
الاكتشافات إلا بما نهلتموه من علومنا.
قال الكواكبي:
فسيصيحون فينا: وأنتم ـ أيضا ـ لم تتطور حضارتكم إلا بعد اقتباسها من سائر
الحضارات ومزجها بينها.
قال إقبال:
حينها نقول لهم: العلوم لا وطن لها .. العلوم حق البشر جميعا .. فلكل إنسان الحق
في الاستفادة من كل علم .. والحق في الاستفادة من كل اختراع ما دام يشتريه بمال
الحلال.
قال شكيب: صحيح
ما ذكرت .. ولكن المنظومة التعليمية التي تدرس في مدارسنا تجعل بيننا وبين ما
تذكره آلاف الأميال ..
قال إقبال:
فلنسع لتغيير منظومتنا التربوية .. ولنستن بسنة رسول الله r في ذلك .. فقد جاء رسول الله r في بيئة بدوية لم يكن لها اهتمام إلا بما تفرضه حياة البداوة من
انشغال بالشعر، والأنساب، وغيرها من المعارف البسيطة التي لا يمكن أن تؤسس لعمران.
قال الكواكبي:
فماذا فعل رسول الله r ليخرجها من منظومة البداوة لمنظومة الحضارة .. لتخرج بعد ذلك
للناس بأعظم حضارة عرفتها البشرية.
قال إقبال:
اقرأوا القرآن لتروا المعاني التي ربى عليها رسول الله r النفوس لتصبح أهلا لحمل الحضارة.
لقد بحثت في
ذلك .. ورأيت في ذلك منهجا متكاملا يمكننا استثماره ليعود للأمة مجدها، ويدخل
الناس في دين الله أفواجا.
لقد كان أول ما
فعله القرآن الكريم هو إخراج أولئك البدو من تلك القوقعة التي سجنوا فيها أنفسهم،
فدعاهم إلى النظر إلى الأشياء .. فلا يمكن أن يتطور من يغمض عينيه عن أسرار
الوجود:
لقد قال لهم ـ
وهم منشغلون بوصف الصحراء والإبل ـ ينبههم إلى ما أودع في كونه من كمال وجمال:﴿
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ
شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ
النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:99)
ودعاهم إلى
النظر إلى السماء :﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)
ودعاهم إلى
النظر إلى الطعام :﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا
وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾ (عبس)
ودعاهم إلى
النظر إلى أسرار خلقهم :﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
وأخبر عن
أوليائه العارفين العاقلين أنهم يمزجون بين الذكر والفكر والنظر، فقال :﴿
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) (البقرة:164)، وقال :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
(آل عمران:190)، وقال :﴿ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثـية:5)
ثم أمرهم
بالسير لينهلوا من العلوم والمعارف ما لا يجدونه في بيئتهم المحدودة .. قال تعالى:﴿
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137)، وقال:﴿ أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وقال :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)
ثم أمرهم
باستعمال كل مدراكهم لتحليل ما عرفوه ليستنبطوا منه أسرار العلوم وحقائقها، فقال :﴿
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )(سـبأ: من الآية46)، وقال عن تحليل معاني القرآن الحاوية
لجميع حقائق الوجود :﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82)، وقال :﴿
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)
وبما أن
الأعراف والتقاليد البالية جعلتهم يستكبرون عن كل إنتاج مثمر، فكانوا لذلك يسندون
الصنائع لعبيدهم احتقارا لها، جاءت النصوص المقدسة تنوه بشأن الصناعات:
لقد ذكر الله
تعالى صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها، فقال :﴿
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ
انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً(
(الكهف:96)، وقال :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(
(سـبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب، فقال :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(
(الحديد:25)
وذكر الصناعات
النسيجية وأنواعها وأغرضاها، فقال :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ(
(النحل:80)
وذكر ما يرتبط
بالعمران من أعمال، فقال :﴿ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(
(لأعراف: من الآية74)
وذكر الصناعات
المرتبطة بالنقل، فقال :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(
(النحل:8)، وقال :﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(
(هود:37)، وقال :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(
(المؤمنون:22)، وقال :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ
مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(
(الروم:46)، وقال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ( (لقمان:31)
وذكر الصناعات
البحرية، فقال :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ( (النحل:14)، وقال :﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ
رَحِيماً( (الاسراء:66)
بل إن القرآن
الكريم دعا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من
أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال :﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( (لأنفال: من الآية60)
وقد جاءت
التعاليم النبوية الكثيرة تعمق هذه المفاهيم القرآنية، وترسخها، وتربي الأجيال
عليها، فقد كان r حريصا على أن يمارس أصحابه أي حرفة حتى لا يقعوا فريسة لأي نوع من
أنواع العبودية:
جاء رجل من
الأنصار إلى النبي r فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه
وقعب نشرب فيه الماء، فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله r
بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله r
:( من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما
إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك
واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله r
عودا بيده، ثم قال :( اذهب فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما)، ففعل وجاء
فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله r
:( هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل
إلا لثلاث: لذي فقر مدقع[138]،
ولذي غرم[139] مفظع[140]، ولذي دم
موجع[141] )[142]
بل اعتبر النبي
r العمل والكسب نوعا من الجهاد في سبيل الله،
فقال:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا
كالملحد في كتاب الله)[143]
ورأى بعض
الصحابة شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول
الله r عليهم بقوله:( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده
صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله،
وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء
ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )[144]
وأخبر r
أن كل منتفع بالعمل يصب في أجر صاحب العمل، فقال في إحياء الأرض:( ما
من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به
جرا)[145]، وقال:( من
أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة )[146]
وقال في غرس الغرس :( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا
فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )[147]، وقال:( ما
من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)[148]، وقال:( ما
من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع
فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه[149] أحد إلا
كان له صدقة )[150]
وهكذا صار
العمل عبودية خالصة لله .. بل جهاد في سبيل الله .. وهو جهاد مستمر أمرنا r
أن نداوم عليه إلى آخر لحظة من أعمارنا، ففي الحديث قالr :( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة[151]، فإن
استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)[152]
قال الكواكبي:
قد وعينا جميع ما ذكرته، فكيف نعيد هذه التعاليم إلى الحياة.
قال إقبال: بما
أعاد به r الحياة لهذه المعاني .. هلموا .. فقد وضعت خطية عملية لذلك.
اجتمعوا حوله
.. وراحوا يتناجون فيما بينهم، ولم أسمع من حديثهم إلا ما سبق أن ذكرته لك من
الأسماء التي كنت قد عرفتها ومررت على أهلها.
لم يلبثوا في اجتماعهم إلا قليلا، ثم
انفضوا، كل إلى مجلسه الذي كان فيه، ولم يمكثوا إلا قليلا، حتى صاح الشعراوي
قائلا: نعم ما ذكرتم .. فلا بد من كل ما ذكرتم.. ولكن ذلك لا يكفي ..
قد نظهر بين الناس أمة موحدة تمتلئ
بالعدل والأمانة، وتملئ أرضها بالعمران والحضارة .. ولكنا مع ذلك لن نكون أمة
رسالة ولا أمة شهادة حتى نبلغ ما أمرنا بتبليغه.. فلن يعرف الناس رب العالمين، ولا
دين رب العالمين، ولا نبي رب العالمين حتى نبلغهم ذلك.
قال إقبال: ذلك صحيح .. وهو سنة رسول
الله r .. فقد كان أول ما فعله رسول الله r بعد أن أسس أول مدينة للإسلام، وحماها من كيد أعدائها أن أرسل الكتب مع أصحابه إلى ملوك الآفاق وغيرهم يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وإلى
الدخول في الإِسلام.
قال الشعراوي:
إن شئتم حدثتكم من ذلك ما تقر به أعينكم.
قال ديدات:
حدثنا .. فلا يمكن أن نذكر خطة من غير أن نستن فيها بسنة النبي r الهادي r .
قال
الشعراوي: لقد حدث أنس ـ رضي الله عنه ـ
أن رسول الله r كتب قبل موته إلى كسرى، وقيصر،
وإِلى النَّجاشي، وإِلى كلِّ جبَّار عنيد يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وليس بالنجاشي
الذي صلَّى عليه[153].
ومما ورد في
كتابه r إلى النجاشي ملك الحبشة ما
حدث به ابن إسحاق قال: بعث رسول الله r عمرو بن أمية الضَّمْري ـ رضي الله عنه ـ إلى النجاشي
في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ وكتب معه كتاباً:( بسم الله
الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إِلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك،
فإني أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله
وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيِّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من
روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له،
والوالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإنِّي رسول الله. وقد
بعثت إِليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرَّهم ودَعِ
التجبُّر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ؛ وقد بلَّغتُ ونَصحتُ فاقبلوا نصيحتي.
والسلام على من اتبع الهدى)
وقد روي أن
النجاشي رد على رسول الله r بكتاب يقول فيه :( بسم الله الرحمن الرحيم، إِلى محمد
رسول الله من النجاشي الأصحَم بن أبجر: سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله
وبركاته، لا إِله إِلا هو الذي هداني إِلى الإِسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله
فيما ذكرت من أمر عيسى، فوربِّ السماء والأرض إِنَّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت.
وقد عرفنا ما بَعثت به إِلينا؛ وقَرَبنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله
صدقاً ومصدِّقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين،
وقد بعثت إِليك ــــ يا نبي الله ــــ بأريحاً بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك
إِلا نفسي، وإِن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق)
ومما ورد في
كتابه r إلى قيصر ملك الروم ما حدث به دِحْيَة
الكلبي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: بعثني رسول الله r كتاب إلى قيصر، فقدمت عليه، فأعطيته الكتاب وعنده ابن
أخ له أحمر أزرق سبط الرأس، فلما قرأ الكتاب كان فيه:( من محمد رسول الله إِلى
هرقل صاحب الروم)
قال: فنخر ابن
أخيه نخرة، وقال: لا يُقرأ هذا اليوم. فقال له قيصر: لِمَ؟ قال: إنّه بدأ بنفسه
وكتب (صاحب الروم)، ولم يكتب (ملك الروم)، فقال قيصر: لتقرأنَّه، فلما قرأ الكتاب
وخرجوا من عنده أدخلني عليه وأرسل إلى الأسقُف ـ وهو صاحب أمرهم ـ فأخبروه وأخبره
وأقرأه الكتاب، فقال له الأسقف: هو الذي كنا ننتظر وبشَّرنا به عيسى عليه السلام،
قال له قيصر: كيف تأمرني؟ قال له الأسقف: أمَّا أنا فمصدّقه ومتبعه، فقال له
قيصر: أمّا أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي.
ثم خرجنا من
عنده، فأرسل قيصر إِلى أبي سفيان، وهو يومئذٍ عنده قال: حدثني عن هذا الذي خرج
بأرضكم ما هو؟ قال: شاب، قال: فكيف حَسَبُه فيكم؟ قال: هو في حسب منا لا يفضل
عليه أحد، قال: هذه آية النبوة. قال: كيف صدقه؟ قال: ما كذب قط. قال: هذه آية
النبوة. قال: أرأيت من خرح من أصحابكم إليه هل يرجع إليكم؟ قال: قد قاتله قوم
فهزمهم وهزموه. قال: هذه آية النبوة. قال ثم دعاني فقال: أبلغ صاحبك أني أعلم أنه
نبي ولكن لا أترك ملكي.
قال: وأما
الأسقُف فإنَّه كانوا يجتمعون إِليه في كل أحد، يخرج إليهم ويحدِّثهم ويذكِّرهم،
فلما كان يوم الأحد لم يخرج إليهم وقعد إلى يوم الأحد الآخر، فكنت أدخل إليه
فيكلمني ويسألني. فلما جاء الأحد الآخر انتظروه ليخرح إليه، فلم يخرج إِليهم
واعتلَّ عليهم بالمرض وفعل ذلك مراراً. وبعثوا إليه لتخرجنَّ إلينا أو لندخلنَّ
عليك فنقتلك، فإنا قد أنكرناك منذ قدم هذا العربي. فقال الأسقف: خذ هذا الكتاب
واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنِّي أشهد أن لا إله إِلا الله وأن
محمداً رسول الله، وأني قد آمنت به، وصدَّقته، واتبعته، وأنهم قد أنكروا عليّ
ذلك، فبلِّغه ما ترى. ثم خرج إليهم فقتلوه[154].
وحدث ابن
إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال لدحية ـ رضي الله عنه ـ: ويحك إنِّي ـ والله
ـ لأعلم أن صاحبك نبيٌّ مرسل، وأنه للذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا، ولكني أخاف
الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعته؛ فاذهب إِلى ضغاطر الأسقُف فاذكر له أمر
صاحبكم فهو أعظم في الروم مني وأجوز قولاً، فجاءه دِحْية فأخبره، فقال له: صاحبك
ـ والله ـ نبي مرسل، نعرفه بصفته واسمه، ثم دخل فألقى ثيابه وليس ثياباً بيضاء،
وخرج على الروح فشهد شهادة الحق فوثبوا عليه فقتلوه[155].
وعن سعيد بنت
أبي راشد قال: رأيت التنوخي ـ رسول هرقل إلى رسول الله r ـ بحمص وكان جاراً لي شيخاً كبيراً قد بلغ الفناء ـ أو
قَرُب ـ فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله r ورسالة رسول الله r إلى هرقل؟ قال: بلى، وقدم رسول الله r تبوك وبعث دِحْية الكِلبي إلى هرقل،
فلمّا أن جاء كتاب رسول الله r دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم غلَق عليه وعليهم الدار،
فقال: نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل إليّ يدعوني إلى ثلاث خصال: يدعوني أن
أتبعه على دينه، أو أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا[156]، أو نلقي إليه الحرب، والله لقد
عرفتم فيما تقرؤون من الكتب لتؤخذنَّ ما تحت قدميّ، فهلمَّ نتبعه على دينه أو
نعطيه مالنا على أرضنا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا:
تدعونا إلى أن نذر النصرانية أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز؟ فلمَّا ظنَّ
أنَّهم إن خرجوا أفسدوا عليه رفاقهم وملكه، قال: إنما قلت ذلك لكم لأعلم صلابتكم
على أمركم.
ثم دعا رجلاً
من عرب تُجيب كان على نصارى العرب قال: أُدُع لي رجلاً حافظاً للحديث عربي اللسان
أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاءني فدفع إليّ هرقل كتاباً باني فقال: إذهب
بكتابي إلى هذا الرجل، فما صَغِيتَ من حديثه فاحفظ منه ثلاث خصال: انظر هل يذكر
صحيفته التي كتب إليّ بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي هل يذكر الليل؟ وانظر في ظهره هل
به من شيء يريبك؟ فانطلقتُ بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين أصحابه على
الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هوذا. فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه. فناولته
كتابي فوضعه في حِجْره ثم قال: ممَّن أنت؟ قلت: أنا أحد تنوخ. فقال: هل لك في
الحنيفية ملّة أبيكم إبراهيم؟ قلت: إني رسول قوم وعلى دين قوم، لا أرجع عنه حتى
أرجع إليهم. قال :﴿ إِنَّكَ لا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) يا أخا تنوخ إني كتبت بكتابي إلى النجاشي[157] فخرقها والله مُخرِّقهُ ومُخَرِّقُ
ملكه. وكتب إلى صاحبكم بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأساً ما دام في
العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها، وأخذت سهماً من جعبتي فكتبتها
في جلد سيفي، ثم إنَّه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت: من صاحب كتابكم الذي
يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية، فإذا في كتاب صاحبي: يدعوني إلى جنة عرضها السماوات
والأرض أُعدّت للمتقين. فأين النار؟ فقال رسول الله r :(سبحان الله فأين الليل إِذا جاء النهار؟)، فأخذت
سهماً من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما فرغ من قراءة كتابي قال: (إنَّ لك حقاً
وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوَّزناك بها، إنا سَفْر مُرْمِلون) قال:
فناداه رجل من طائفة الناس أن أجوزه، ففتح رَحْله، فإذا هو يأتي بحلَّة؟ قيل:
عثمان. ثم قال رسول الله r :(من ينزل هذا الرجل؟)، فقال فتى من الأنصار: أنا،
فقام الأنصاري وقمت معه، فلما خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله r، فقال: يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوي حتى
كنت قائماً في مجلسي الذي كنت فيه بين يديه، فحلَّ حبوته عن ظهره فقال: (ها هنا
.. أمضِ لما أُمرت به)، فجُلْتُ في ظهره، فإذ أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل
الحجمة.
وعن ابن عباس ـ
رضي الله عنه ـ أن أبا سفيان أخبره: أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ـ وكانوا
تجّاراً بالشام ـ في المدة التي كان رسول الله r مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتَوه وهم بإيلياء.
فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيُّكم أقرب
نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال: أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً،
قال: أدنُوه مني وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه قل لهم: إني
سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذِّبوه، فوالله لولا أن يؤثروا عني كذباً
لكذبتُ عنه.
ثم كان أول ما
سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول
منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من مَلِكٍ؟ قلت: لا. قال:
فأشراف الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سَخْطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم
يُمكنِّي كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما
يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصِّلَة.
فقال الترجمان:
قل له سألتك عن نسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل فتبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا
القول قبله لقلتُ رجل يتأسَّى بقول قيل قبله وسألتم: هل كان من آبائه من مَلِك،
فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه نمَلِك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم
تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، قد أعرف أنه لم يكن ليذَر الكذب
على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنَّ
ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنَّهم
يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتمّ. وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن
يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشتُه القلوبَ. وسألتك: هل
يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بمَ يأمركم، فذكرت أنه يأمركم
أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة
والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين. وقد كنت أعلم
أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت
عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب
رسول الله r الذي بعث به مع دِحْية إلى عظيم
بصرى. فدفعه إلى هرقل فإذا فيه:( بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله
ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبَع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك
بدعاية الإِسلام، أسلم تسلم يؤتكَ الله أجرك مرتين. فإن تولَّيت فإنّ عليك إِثم
الأريسيِّين و﴿ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ (آل عمران: 64)
قال أبو سفيان:
فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصَّخَب، وارتفعت الأصوات
وأُخرجنا، فقلت لأصحابي ـ حين خرجنا ـ: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة، إنه يخاف
مَلِكُ بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإِسلام.
قال: وكان ابن
الناطور صاحبَ إيلياء وهرقَل أُسْقُفَ على نصارى الشام يحدِّث أنّ هرقل حين قدم
إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن
الناطور: وكان هرقل حزّاء ينظر في النجوم. فقال لهم حين سألوه: إني رأيت حين نظرت
في النجوم مَلِكَ الخِتان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم؟ قالوا: ليس يختتن إلا
اليهود ولا يهمنَّك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم أُتِيَ هرقل برجل أرسل به ملك غسّان فخبَّرهم عن خبر رسول
الله r فلما استخبره هرقل قال: إذهبا
فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدَّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال:
هم يختتنون. فقال هرقل: هذا مَلِك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب إلى صاحب له برومية ـ
وكان نظيره في العلم ـ وسار هرقل إلى حمص فلم يَرِم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه
يوافق رأي هرقل على خروج النبي r وهو نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دَسْكرة له بحمص،
ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح
والرشد، وأن يثبَّت لكم ملككم، فتتابعوا لهذا النبي؟ فحاصوا حَيْصة حُمُرِ الوحش
إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت. فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإِيمان قال:
ردُّوهم عليَّ. وقال: إنِّي إنَّما قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدَّتكم على دينكم؛
فقد رأيت، فسجدوا له ورَضُوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل[158].
ومما ورد في
كتابه r إلى كسرى ملك فارس ما حدث به ابن
عباس ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله r بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم
البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، قال: فحسبت أنَّ
ابن المسيِّب قال: فدعا عليهم رسول الله r أن يُمزقوا كلَّ مُمزَّق[159].
وحدث عبد
الرحمن بن عبد القاري ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله r قام ذات يوم على المنبر خطيباً، فحمد
الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد: فإنِّي أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك
الأعاجم، فلا تختلفوا عليَّ كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم. فقال
المهاجرون: يا رسول الله، إِنّا لا نختلف عليك في شيء أبداً، فمُرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وَهْب إلى كسرى. فأمر كسرى بإيوانه أن يُزيَّن، ثم أذن لعظماء فارس،
ثم أذن لشجاع بن وَهْب. فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله r أن يُقبض منه. فقال شجاع بن وهب:
لا، حتى أدفعه أنا إليك كما أمر رسول الله r فقال كسرى: ادّنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتباً
له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه:( من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم
فارس)
قال: فأغضبه
حين بدأ رسول الله r بنفسه، وصاح، وغضب، ومزَّق الكتاب
قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وَهْب فأُخرج. فلمّا رأى ذلك قعد على راحلته
ثم سار ثم قال: والله، ما أبالي على أي الطريقين أكون إِذْ أدّيت كتاب رسول الله r قال: ولما ذهب عن كسرى سَوْرَة غضبه
بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتُمس فلم يوجد، فطُلب إِلى الحيرة فَسَبَق. فلما قدم
شجاع على النبي r أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه
لكتاب رسول الله r فقال رسول الله r :(مزّق كسرى ملكه)[160]
وعن أبي
سَلَمة بن عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا قُدِّم كتاب رسول الله r إلى كسرى وقرأه ومزَّقه كتب إلى
باذان ـ وهو عامله باليمن ـ أن أبعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلَين جَلْدين
من عندك فلْيأتياني به، فبعث باذان قهرمانه ـ وهو أبانوه، وكان كاتباً حاسباً
بكتاب فارس ـ وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له (جد جميرة)، وكتب معهما إلى رسول
الله r يأمره أن يتوجَّه معهما إلى كسرى،
وقال لقهرانه: انظر إلى الرجل، وما هو وكلِّمه وائتني بخبره، فخرجا حتى قدما
الطائف، فوجدا رجالاً من قريش تجّاراً فسألاهم عنه، فقالوا: هو بيثرب واستبشروا،
فقالوا: قد نَصب له كسرى. كُفيتم الرجل، فخرجا حتى قدما المدينة، فكلّمه أبانوه،
فقال: إنَّ كسرى كتب إلى باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني لتنطلق معي.
فقال: (إرجعا حتى تأتياني غداً)، فلما غدَوا عليه أخبرهما رسول الله r بأن الله قتل كسرى وسلّط عليه ابنه
(شيرَوَيْه) في ليلة كذا من شهر كذا. فقالا: أتدري ما تقول؟ أنكتب بهذا إلى
باذان؟ قال: (نعم، وقولا له: (إن أسلمتَ أعطيتُك ما تحت يديك)، ثم أعطى (جد
جميرة) مِنْطَقة كانت أُهديت له فيها ذهب وفضة. فقدما على باذان فأخبراه. فقال:
ما هذا بكلام ملك، ولننظرن ما قال. فلم يلبث أن قدم عليه كتاب (شيرَوَيْه): أما
بعد: (فإنِّي قتلت كسرى غضباً لفارس لما كان يستحلُّ من قتل أشرافها؛ فخُذْ لي
الطاعة ممن قِبَلك ولا تُهَجِّنِ الرجل الذي كتب لك كسرى بسببه بشيء)، فلما قرأه
قال: إن هذا الرجل لنبي مرسل، فأسلم وأسلمت الأبناء من آل فارس من كان منهم
باليمن جميعاً[161].
وعن زيد بن أبي
حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة ـ رضي الله عنه ـ إلى كسرى بن هرمز ملك فارس
وكتب معه :(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام
على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأن محمداً عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله، فإنِّي أنا رسول الله إلى الناس كافة
لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فإن تُسْلِم تَسلَم، وإن أبيت فإن
إثم المجوس عليك)
قال: فلما قرأه
شقَّه وقال: يكتب إليّ بهذا وهو عبدي. قال: ثم كتب كسرى إلى باذام ـ فذكر ما
تقدَّم[162].
وعن أبي بَكْرة
ـ رضي الله عنه ـ قال: لما بُعث رسول الله r بعث كسرى إلى عامله على أرض اليمن ومن يليه من العرب ـ
وكان يقال له بادام ـ: إِنه بلغني أنه خرج رجل قِبلك يزعم أنه نبي فقل له:
فلْيكفَّ عن ذلك، أو لأبعثنَّ إليه من يقتله أو يقتل قومه. قال: فجاء رسول بادام
إلى النبي r فقال له هذا. فقال رسول الله r :( لو كان شيء فعلته من قبلي كففت،
ولكن الله عزّ وجلّ بعثني)، فأقام الرسول عنده، فقال له رسول الله r :( إن ربي قتل كسرى، ولا كسرى بعد
اليوم؛ وقتل قيصر، ولا قيصر بعد اليوم)، قال فكتب قوله في الساعة التي حدَّثه
واليوم الذي حدَّثه والشهر الذي حدَّثه فيه. ثم رجع إلى بادام فإذا كسرى قد مات،
وإذا قيصر قد قتل[163].
وعن دِحْية
الكلبي ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r بكتاب إلى قيصر ـ فذكر الحديث كما تقدّم في كتابه r إلى قيصر ـ ؛ وفي آخره: ثم خرج
دِحْية إلى النبي r وعنده رُسُلُ عمالِ كسرى على صنعاء،
بعثهم إليه وكتب إلى صاحب صنعاء يتوعّده يقول: لتكفينِّي رجلا خرج من أرضك يدعوني
إلى دينه، أو أؤدي الجزية، أو لأقتلنَّك، أو لأفعلنَّ بك. فبعث صاحب صنعاء إلى
رسول الله r خمسة وعشرين رجلاً فوجدهم دحية عند
رسول الله r فلما قرأ صاحبهم تركهم خمس عشرة
ليلة، فلما مضت خمس عشرة ليلة تعرَّضوا له. فلما رآهم دعاهم فقال: (إذهبوا إلى
صاحبكم فقولوا له: إِنَّ ربِّي قتل ربه الليلة)، فانطلقوا فأخبروه بالذي صنع.
فقال: إحصُوا هذه الليلة. قال: أخبروني كيف رأيتموه؟ قالوا: ما رأينا ملكاً أهنأ
منه يمشي فيهم لا يخاف شيئاً، مبتذلاً لا يُحرس، لا يرفعون أصوَاتهم عنده. قال
دحية: ثم جاء الخبر أن كسرى قُتل تلك الليلة[164].
ومما ورد في
كتابه r إلى المقوقس ملك الإِسكندرية ما حدث به عبد الله بن عبد القارىء ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله r بعث حاطب بن أبي بَلْتَعة إلى
المُقَوْقِس صاحب الإِسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله r إليه. فقَبَّل الكتاب، وأكرم حاطباً وأحسن نُزُله،
وسَرَّحه إلى النبي r وأهدى له مع حاطب كِسوة وبغلة
بِسَرْجها وجاريتين: إحداهما أُمّ إبراهيم، وأما الأخرى، فوهبها رسول الله r لمحمد بن قيس العبدي[165].
وعن حاطب بن
أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r إلى المقوقس ملك الإِسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول
الله r فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم
بعث إليّ وقد جمع بطارِقَته وقال: إنِّي سائلك عن كلام فأحبُّ أن تفهم عني، قال
قلت: هلُمَّ؛ قال: أخبرني عن صاحبك أهو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله، قال: فما له
حيث كان هكذا لم يدعُ على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال قلت: عيسى بن
مريم أليس تشهد أنه رسول الله[166]؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه
قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكه الله حيث رفعه الله إلى
السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك
إلى محمد، وأرسل معك ببَذْرَقة يبذرقونك إلى مأمنك.
قال: فأِدى إلى
رسول الله r ثلاث جوارٍ منهن أُم إبراهيم ابن
رسول الله r واحدةً وهبها رسول الله r لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه
بطُرَف من طُرَفهم[167].
ومما ورد في
كتابه r إلى أهل نجران ما حدث به سَلَمة
بن عبد يسوع عن أبيه عن جده ـ قال يونس: وكان نصراياً فأسلم ـ: إنَّ رسول الله r كتب إلى أهل نجرن قبل أن ينزل عليه:
(طاسَ سليمان)[168] :(باسم إِله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب.
من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران: سَلْم أنتم، فإنِّي أحمد
إليكم إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من
عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن
أبيتم فقد آذنتكم بحرب. والسلام)
فلما أتى
الأسقُفَ الكتابُ وقرأه فَظِعَ به وذعر به ذعراً شديداً، وبعث إِلى رجل من أهل
نجران يقال له شُرحَبيل بن وَدَاعة ـ وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدعى إِذا
نزلت مُعْضلة قبله، لا الأيهم ولا السيد، ولا العاقب ـ فدفع الأسقفُّ كتابه إلى
شرحبيل فقرأه. فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمتَ ما وعد
الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النّبوة، فما يُؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل،
ليس لي في أمر النبوة رأي، ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرتُ عليك فيه برأي
واجتهدت لك، فقال له الأسقف: تنحَّ فاجلس، فتنحَّى شرحبيل فجلس ناحية. فبعث
الأسقفُّ إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من
حِمْير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل، فقال الأسقفُّ:
تنحَّ فاجلس، فتنحَّى عبد الله فجلس ناحية. فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران
يقال له جبَّار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله
عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقفُّ فتنحَّى فجلس
ناحية.
فلما اجتمع
الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ورُفعت النيران
والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإِذا كان فزعهم
ليلاً ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس
ورُفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع،
وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل. فقرأ عليهم كتاب رسول الله r وسألهم عن الرأي فيه. فاجتمع رأي
أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمْداني وعبد الله بن شرحبيل
الأصبحي وجَبَّار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله r، فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب
السفر عنهم ولبسوا حُلُلاً لهم يجرونها من حِبَرة وخواتيم الذهب. ثم انطلقوا حتى
أتَوا رسول الله r فسلَّموا عليه فلم يردَّ عليهم،
وتصدَّوا لكلامه نهاراً طويلاً فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب.
فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ـ وكانا معرفة لهم ـ فوجدوهما
في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا: يا عثمان، ويا عبد الرحمن، إن
نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلَّمنا عليه فلم يردَّ
سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا؟ فما الرأي منكما؟ أترون
أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب ـ وهو في القوم ـ : ما ترى يا أبا الحسن في
هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم هذه
ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إِليه. ففعلوا فسلَّموا عليه فردَّ سلامهم، ثم قال:
(والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإنَّ إِبليس لمعهم)، ثم سألهم وسألوه
إلى آخر الخبر
.. وفيه: فدفع الوفدُ كتابَ رسول الله r إلى الأسقُفِّ، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما
يسيران إذ كَبَت ببشر ناقتُه، فَتَعَّسَ بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله r فقال له الأسقُف عند ذلك: قد ـ
والله ـ تعَّسْتَ نبياً مرسلاً. فقال له بِشْر: لا جَرَم ـ والله ـ لا أحلُّ عنها
عقداً حتى آتي رسول الله r فصرف وجه ناقته نحو المدينة وثَنى الأسقف ناقته عليه
فقال له: أفهم عني إنَّما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنَّا أخذنا حقه
أو رضينا بصوته أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم
داراً. فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبداً، فضرب بشر ناقته ـ
وهو مولِّي الأسقف ظهره ـ وارتجز يقول:
إليكَ تغدو
قَلِقاً وضينها معترضاً في بطنها
جنينُها
مخالفاً دين
النصارى دينُها
حتى أتى رسول
الله r فأسلم، ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك.
قال: ودخل الوفد نجران. فأتى الراهبَ ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته. فقل
له: إِنَّ نبياً بُعث بتهامة ـ فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله r وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبَوا،
وأنَّ بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم ـ فقال الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من
هذه الصومعة. قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله r منها هذا البُرْد الذي يلبسه
الخلفاء، وقَعْبُ، وعصا. فأقام مدّة عند رسول الله r يسمع الوحي، ثم رجع إلى قومه ولم يُقدِّر له الإِسلام
ووعد أنه سيعود فل يُقدَّر له حتى توفي رسول الله r وأن الأسقُف أبا الحارث أتى رسول الله r ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه،
فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقفِّ هذا الكتاب ولأساقفة نجران
بعده (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران،
وكهنتهم، ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل كثير: جوار الله ورسوله، لا
يُغَيِر أسقفُّ من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغيّر حق
من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك. جوار الله ورسوله أبداً ما
أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين)[169]
ومما ورد في
كتابه r إلى بكر بن وائل ما حدث به
مَرْثَد بن ظبيان ـ رضي الله عنه ـ قال: جاءنا كتاب من رسول الله r فما وجدنا له قارئاً يقرأ علينا حتى
قرأه رجل من ضَبِيعة:( من رسول الله r إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا)[170]
ومما ورد في
كتابه r إلى بني جذامة ما حدث به
عُمير بن مقبل الجُذامي عن أبيه قال: وفد رِفاعة بن زيد الجُذامي على رسول الله r فكتب له كتاباً، وفيه:( من محمد رسول
الله لرفاعة بن زيد: إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم، يدعوهم إِلى الله وإلى
رسوله: فمن آمن ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين)
فلما قدم على
قومه أجابوه، فذكر الحديث[171].
قال ديدات: بورك فيك يا شيخنا .. لقد
أعدت أذهاننا إلى تلك الأيام الجميلة .. أيام رسول الله r .. ما أشد شوقنا إليه.
قال الكواكبي: إن شوقنا إليه يدعونا
إلى أن نبذل كل جهد لتبليغ ما أمرنا بتبليغه، لا نألو في ذلك جهدا.
قال القمي: لقد رأينا رسول الله r
يستعمل وسيلة الكتابة ليبلغ ما أمر بتبليغه، فرسول الله r لم يترك أحدا في زمنه له سلطة إلا كتب إليه، أو أرسل إليه من
يبلغه.
قال الشعراوي: لقد كانت الكتابة هي
الوسيلة المتاحة .. أما في عصرنا .. فما أكثر الوسائل التي لو أحسنا استعمالها
لدخل الناس في دين الله أفواجا.
قال شكيب: فاذكر لنا من الوسائل ما
ترى على الدعاة إلى الله استعماله لتبليغ رسالة الله للعالمين.
قال الشعراوي: أول ما أراه من وسائل:
التمثيل
..
صاح الجمع متعجبين: التمثيل !؟
قال القمي: أتقول هذا .. وأنت الشيخ
الوقور؟
قال الشعراوي: وما لي لا أقوله، وأنا
أرى بشر عصرنا لا يستغرقون في شيء، كما يستغرقون في مشاهدة الأفلام والتمثيليات
والمسرحيات؟
قال شكيب: ولكن ذلك قد يؤلب علينا
بعض المتزمتين .. لاشك أنك تعرفهم، وتعرف موقفهم من هذا ومثله .. هم لا يرضون إلا
بالوسائل التي نصت عليها السنة.
قال الشعراوي: فقد نصت السنة على
هذا؟
قالوا متعجبين: أين ذلك؟
قال الشعراوي: ألم تقرأوا حديث
الأبرص والأقرع والأعمي؟
قالوا: بلى ..
قال الشعراوي: فقد مثّل المَلَك دور
الفقير حين سأل الأعمى، والأبرص، والأقرع كما هو معروف في الحديث[172].
ليس ذلك فقط .. بل إن النبي r
قام بتمثيل كيفية الصلاة، ولم يرد الصلاة ـ وقتئذ ـ لذاتها، وإنما أراد تعليم
الناس، فعن سهل ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت رسول الله r صلى عليه ( أي على درجات المنبر)، وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو
عليها، ثم نزل القهقري، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس،
فقال: (أيها الناس؛ إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلّموا صلاتي)[173]
ومثل سبطا رسول الله r
، وسيدا شباب أهل الجنة، فقد روي أنهما رأيا ـ وهما طفلان ـ رجلا لا يحسن الوضوء،
فاتفقا على طريقة لطيفة لكي لا يجرحا كبرياءه، فقالا له: يا عم، يزعم هذا أنه يحسن
الوضوء، وأني لا أحسن؛ فنرجوك أن تنظر إلينا، وأن تحكم بيننا؟، فتوضآ أمامه أحسن
ما يكون الوضوء، وفهم الرجل وقال: يا بني أنا عمكم الجاهل لا أنتما.
ومثل بعض صحابته r
لما اقتضى المقام ذلك، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا جلوسا
عند النبي r فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار،
فلما كان الغد قال مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، ثم في اليوم الثالث، فتبعه عبد الله
بن عمرو بن العاص، فقال : إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت
أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال : نعم ـ قال أنس: كان عبد الله يحدث أنه بات معه
تلك الثلاث ـ فلم أره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار من الليل ـ تقلب على
فراشه ـ فذكر الله تعالى، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله : غير أني لم
أسمعه يقول إلا خيرا، فكدت أحتقر عمله قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب
، ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله r يقول: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات،
فأردت أن آوي إليك لأنظر عملك لأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك
ما قال؟ قال : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشا،
ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه قال عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التي
لا نطيق[174].
قال القمي: نعم ما ذكرت .. وسأبشر
أهل بلدي[175] بهذا .. فإن فيهم من عباقرة الإخراج والتثميل ما يملؤكم بالعجب ..
قال الشعراوي: ومثل ذلك أهل بلدي ..
ولم يدعني إلى ذكر هذه الوسيلة والاستهلال بها إلا لأنه يأتيني بين الحين والحين
من الممثلين الصادقين ما جعلني أشعر بأهمية هذه الوسيلة وضرورتها.
قال ديدات: ولكنها لا بد أن تكون في
مستوى التحدي .. فنحن الآن في عالم لا يهتم لشيء كما يهتم بالمتقن من الأعمال.
قال الشعراوي: أجل .. لا ينبغي أن
يعرض الجميل إلا في اللباس الذي يليق به.
قال ديدات: عرفنا هذا .. وعرفنا
أهميته .. ونحن نرى الدول الكبرى تسوق أفكارها ومشاريعها عبر هذه الوسيلة ..
فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: الكتابة
الأدبية
من شعر وقصة ومقالة .. وغيرها .. فإن لهذه الكتابات جمهورا غفيرا .. ومن العجب أن
نرى هذا النوع من الوسائل لا يهجم عليه إلا من لا علاقه له بالدين، ولا علاقة
للدين به.
قال شكيب: صدقت .. لقد تركنا هذه
الثغرة الخطيرة، فشوه الدين بسببها، وانحرف الناس، لأنهم لا يجدون من الروايات إلا
ما يغذي غرائزهم، ويملأ نفوسهم بالشهوات.
قال الشعراوي: لقد ظللت دهرا من عمري
أحلم بأن أبشر بالإسلام عن طريق رواية أكتبها .. لا يقرؤها قارئ إلا ويخرج ممتلئا
بحب الإسلام، ونبي الإسلام .. ولكن الله لم ييسر ذلك لي إلى هذا الحين .. وعسى
الله أن يأتي ـ بفضله ـ من الورثة من يفتح الله عليه في هذا.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: الأناشيد
والأغاني والرسوم وكل الفنون الجميلة .. تلك التي
استأثر بها أتباع الهوى لينحرفوا بالنفوس عن رب العالمين.
قال شكيب: ولكن الفقهاء .. أنت تعرف
موقفهم؟
قال الشعراوي: ليس كل الفقهاء يقول
ما يقول المتزمتون المنفرون .. يوشك أن ينفر الناس من أولئك الفقهاء، ومن فتاوى
الضلال التي ينشرونها ليمنعوا الناس من الدخول في دين الله أفواجا.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: هذه التي يسمونها الشبكة
العنكبوتية،
تلك التي تصلنا بكل دار، بل بكل شخص .. إنها فتح من الله .. وإن الله تعالى برحمته
سلم إلينا مفاتيح العالم لنفتحها بهذه الوسيلة.
قال شكيب: لقد كنت أعجب من ذكر رسول
الله r لفتح رومية .. وأقول: بأي سلاح تفتح رومية .. ونحن لا نأمن على
أنفسنا منها .. إلى أن رأيت هذه الشبكة، وهي تدخل بنا إلى كل بيت من رومية وغيرها
.. فعرفت أن هذا السيف هو أصقل سيف، وأن
المسافة بيننا وبينها ليست بعيدة.
قال القمي: ولكن الفرقة والخلاف الذي
دب في الأمة انحرف بهذه الوسيلة عن غاياتها، فصارت في أيدي أهل الصراع من المسلمين
سيوفا مسلولة على إخوانهم من المسلمين ..
قال الشعراوي: لن تؤتي هذه الوسيلة
ثمارها إلا إذا أحسنا استعمالها، وعرفنا كيف ندخل إلى العالم من خلالها.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: القنوات
الفضائية الإذاعية والتلفريونية والصحف والمجلات وجميع وسائل الإعلام .. فإن هذه
الوسائل تدخل كل البيت، وتسمع كل أذن، وتري كل بصر .. ولو أحسنا استعمالها لدخل
الناس في دين الله أفواجا.
قال القمي: لقد وعينا كل ما ذكرت ..
واستدللنا به على غيره .. فهل لديك خطة عملية لتحقيق كل هذا.
قال الشعراوي: أجل .. لقد ظللت طول
عمري أبحث عن ذلك.
اجتمعوا عليه، فراح يشرح لهم خطته ..
ولم أسمع من حديثهم إلا ما ذكرته لك من الأسماء التي سبق لي أن مررت على أهلها.
بعد أن مكثوا مليا يتحدثون، ويسرون
بحديثهم، قام ديدات، وقال: إن ما ذكره شيخنا الشعراوي ييسر علي أن أذكر لكم خطتي.
قالوا: أنت تحمل خطة التحدي.
قال: أجل .. التحدي بالحجة والبرهان
.. لا بالسيف والسنان.
قال القمي: فهل لك من النصوص المقدسة
ما يكون لك حجة فيما تقوله، فلا يحل لامرئ أن يقدم على أمره حتى يستأذن أهله؟
قال ديدات: أجل .. لدي بحمد الله
الكثير .. وأولهم موسى u .. لقد كان التحدي هو
السلاح الذي استعمله لدعوة قومه، ولم يؤمن السحرة إلا بعد أن ثبت لهم أن حجة موسى u
أقوى من حججهم جميعا.
لقد قال الله تعالى يذكر مشهد ذلك :﴿
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى
وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ
خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ
اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي
فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا
أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ
مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا
يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ
لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)﴾ (طه)
ألا ترون هذا المشهد؟ .. إن دلالاته
العظيمة هي التي حملتني على أن أحمل سلاح التحدي لأسير به في العالم .. أخاطب كل
من له حجة، وأقول له: إن كانت لديك حجة، فألقها كما ألقى السحرة عصيهم، فأنا موقن
تماما بأن ما معي من الهدي لا يعدله إلا عصا موسى.
قال الشعراوي: ما تقصد بذلك؟
قال ديدات: لقد وفقني الله، فصرفت
أكثر عمري أدرس الملل والنحل، والفلسفات والأفكار .. ولم أكتف بذلك، بل عشت في
السند والهند، والشرق والغرب .. ولم أترك بلدة إلا دخلتها، كما لم أترك فلسفة إلا
قرأتها .. وقد تبين لي من خلال كل ذلك أن كل ما تملكه تلك الشعوب هو مجرد تخييلات
لا تختلف كثيرا عن تخييلات السحر.
وتبين لي أننا لو حملنا ما معنا من
الحقائق المطلقة، وسرنا في العالم نتحدى بها، فإنا سنجد كثيرا من السحرة الذين
يسجدون لها، ويذعنون.
قال القمي: إن ذلك يستدعي معارف
كثيرة.
قال ديدات: لا بد من تلك المعارف ..
فلا يمكن لمن يريد أن يخوض البحار إلا أن يكون خبيرا بالسباحة.
قال القمي: ليست المعارف فقط .. فما
أكثر من لديه المعارف .. ولكنا نحتاج إلى الصحون التي توضع فيها تلك المعارف ..
فقد رأينا من الجهلة من يضع أجمل المعارف وأطيب اللطائف في صحون نجسة منتنة، فينفر
الناس من الدين بسببها.
قال ديدات: وهذا ما تبحث فيه خطتي ..
فقد وضعت في ذلك ـ بحمد الله ـ خطة شاملة، تؤسس لجيل يحمل عصا الإسلام ليخاطب بها
العالم، ولن يملك العالم إلا أن يسلم لهذه العصا.
قال شكيب: فكيف اهتديت إليها؟
قال ديدات: كنت أقرأ أحاديث الوفود
التي جاءت رسول الله r تريد أن تتثبت مما عنده، لتعرضه على ما عندها، وقد استوقفني منها
حديث هذا الوفد الذي سأقصه عليكم، لتمتلئوا بما فيه من العبرة .. عن عن البراء بن
عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله r فقال: يا محمد اخرج إلينا، فلم يجبه، فقال الأقرع: يا محمد إن
حمدي لزين وإن ذمي لشين، فقال رسول الله r : (ذاك الله عز وجل)، فقالوا: إنا أتيناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا
وخطيبنا، فقال r: (قد أذنت لخطيبكم فليقل).
فقام عطارد بن حاجب فقال: (الحمد لله
الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها
المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟
ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا
لأكثرنا الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا
لأن تأا توا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا)، ثم جلس.
فقال رسول الله r
لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن ا لخزرج: (قم فأجب الرجل في خطبته)، فقام
ثابت فقال: (الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه،
ولم يك شئ قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه
رسولا أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنز ل عليه كتابه وائتمنه على
خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس الى الإيمان به، فآمن برسول الله
المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها، وخير الناس
فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب الله حين دعاه رسول الله نحن، فنحن أنصار
الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله
منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول
قولي هذا وأ ستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم)
فقام الزبرقان بن بدر فقال لرجل
منهم: يا فلان قم فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقام فقال:
نحن
الكرام فلا حي يعادلنا |
منا
الملوك وفينا تنصب البيع |
وكم
قسرنا من الاحياء كلهم |
عند
النهاب وفضل العز يتبع |
ونحن
نطعم عند القحط مطعمنا |
من
الشواء إذا لم يؤنس القزع |
ونطعم
الناس عند المحل كلهم |
من
السديف إذا لم يؤنس القزع |
بما
ترى الناس تأتينا سراتهم |
من كل
أرض هويا ثم نصطنع |
فننحر
الكوم عبطا في أروقتنا |
للنازلين
إذا ما أنزلوا شبعوا |
فلا
ترانا الى حي نفاخرهم |
إلا
استفادوا فكانوا الرأس يقتطع |
فمن
يفاخرنا في ذاك نعرفه |
فيرجع
القوم والاخبار تستمع |
إنا
أبينا ولا يأبى لنا أحد |
إنا
كذلك عند الفخر نرتفع |
وكان حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ
غائبا، فبعث إليه رسول الله r ، قال حسان: جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني
تميم، فخرجت إلى رسول الله r، وأنا أقول:
منعنا
رسول الله إذ حل وسطنا |
على
أنف راض من معد وراغم |
منعناه
لما حل بين بيوتنا |
بأسيافنا
من كل باغ وظالم |
ببيت
حريد عزه وثراؤه |
بجابية
الجولان وسط الأعاجم |
هل
المجد إلا السؤدد العود والندى |
وجاه
الملوك واحتمال العظائم |
فلما فرغ الزبرقان، قال رسول الله r
لحسان بن ثابت: (قم يا حسان، فأجب الرجل)، فقام حسان فقال:
إن
الذوائب من فهر وإخوتهم |
قد
بينوا سنة للناس تتبع |
يرضى
بهم كل من كانت سريرته |
تقوى
الإله وكل الخير يصطنع |
قوم
إذا حاربوا ضروا عدوهم |
أو
حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا |
سجية
تلك منهم غير محدثة |
إن
الخلائق فاعلم شرها البدع |
إن كان
في الناس سباقون بعدهم |
فكل
سبق لأدنى سبقهم تبع |
لا
يرقع الناس ما أوهت أكفهم |
عند
الدفاع ولا يوهون ما رقعوا |
إن
سابقوا الناس يوما فاز سبقهم |
أو
وازنوا أهل مجد بالندى متعوا |
أعفة
ذكرت في الوحي عفتهم |
لا
يطمعون ولا يرديهم طمع |
لا
يبخلون على جار بفضلهم |
ولا
يمسهم من مطمع طبع |
إذا
نصبنا لحي لم ندب لهم |
كما
يدب الى الوحشية الذرع |
نسمو
إذا الحرب نالتنا مخالبها |
إذا
الزعانف من أظفارها خشعوا |
لا
يفخرون إذا نالوا عدوهم |
وان
أصيبوا فلا خور ولا هلع |
كأنهم
في الوغى والموت مكتنع |
أسد
بحلية في أرساغها فدع |
خذ
منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا |
ولا
يكن همك الأمر الذي منعوا |
فإن في
حربهم فاترك عداوتهم |
شرا
يخاض عليه السم السلع |
أكرم
بقوم رسول الله شيعتهم |
إذا
تفاوتت الأهواء والشيع |
أهدي
لهم مدحتي قلب يوازره |
فيما
أحب لسان حائك صنع |
فإنهم
أفضل الأحياء كلهم |
إن جد
بالناس جد القول أو سمعوا |
فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع
بن حابس: ( وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من
شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا)
فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول
الله r فأحسن جوائزهم[176].
قال المودودي: إن هذا حديث عظيم .. وهو
يحمل دلالات عظيمة للذين يريدون أن يعرفوا الإسلام للعالم.
قال شكيب: أجل .. فلا يمكن أن نصل
إلى جماهيرنا في العالم وشعراؤهم خير من شعرائنا، وخطباؤهم خير من خطبائنا،
وممثلوهم خير من ممثلينا، ومخرجوهم خير من مخرجينا، وقدراتهم الإبداعية أعظم من
قدراتنا الإبداعية.
قال المودودي: نعم .. ولن نستطيع أن
نصل لجماهيرنا في العامل، ونحن لا نحمل أي مشروع حضاري متكامل يشمل الاقتصاد
والسياسة والاجتماع .. وكل النواحي.
لابد ـ لكي ننجح في مخاطبة العالم ـ
أن نقدم لهم الملموس .. فلن تفهم جماهيرنا في العالم إلا لغة الواقع المضمخة بعطر
الإيمان.
قال القمي: لابد أن نشكل النموذج
الإنساني المتكامل الذي يقف متحديا كل النماذج ..
قال الكواكبي: لكي ننجح في ذلك لابد
أن نقهر الاستبداد .. الاستبداد بكل أشكاله: الديني والسياسي والاقتصادي .. أرى
أننا قد ورثنا كثيرا من أعراف الاستبداد، ولا يمكن أن نتحرك خطوة واحدة، ونحن نرزح
تحت نيرها.
قال إقبال: لابد أن نثق في أنفسنا،
وفي قدراتنا .. ولابد أن نعيد هذه الثقة في شعوبنا المسلمة .. ليعود كل فرد مسلم
رجلا كربعي بن عامر .. ذلك الذي استطاع أن يحطم أسطورة البذخ التي أراد أن يغريه
بها رستم.
قالوا: فحدثنا حديث ذلك.
قال إقبال: لقد حدث الرواة أن من الرسل الذين أرسلهم سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ في مفاوضاته مع
رستم رجلا من المسلمين اسمه (ربعي بن
عامر)، فدخل على المحل الذي كان فيه رستم، وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق
المذهَّبة، والزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة والزينة العظيمة،
وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
ودخل ربعي
بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط،
ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتِكم، وإِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإن
تركتموني هكذا وإِلا رجعت.
فقال رستم:
إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّق عامتها[177]، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله
ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى
سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم
إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى
موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر
لمن بقي. فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه
وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبُّ إليكم؟ يوماً أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل
رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سنَّ لنا رسول الله r أن نؤخِّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في
أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيِّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن
المسلمون كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم
برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله
أن تميل إِلى شيء من هذا، وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال:
ويلَكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب
يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.
قال ديدات:
بمثل هذا الرجل القوي يمكن أن نتحدى العالم .. فلا يمكن أن يخاطب العالم من يمتلئ
صغارا وذلة وانحطاطا.
قالوا: هيا ..
اذكر لنا ما لديك من الخطط في هذا، ولنسارع إلى الإرسال بها إلى كل دعاة الأرض.
اجتمعوا
كاجتماعهم في المرات السابقة .. ولم أسمع منهم إلا ما سمعته منهم فيها.
***
قلت: لقد
حدثتني عما دار في تلك الغرفة .. فحدثني عن الغرفة نفسها.
قال: ذلك سر لا
يمكن بثه لأحد من الناس .. فلا يعرف تلك الغرفة، ولا محلها إلا من دخلها.
قلت: فمن
مديرها؟
قال: الكل
يذكرون أن مديرها رسول الله r ..
قلت: فهل اقتصر
لقاؤك بأولئك السبع؟
قال: لا .. لقد
رأيت الكثيرين غيرهم .. لقد كان يدخل تلك الغرفة كل من اكتملت له وراثة النبي r في هذا الباب العظيم من أبواب
الهداية.
قلت: فكيف
يميزون عن غيره؟
قال: بالحرقة
التي تملأ قلوبهم، والحلم الذي يملأ صدورهم، والأشواق التي تترنح لها أجسادهم ..
قلت: فكيف خرجت
منها بعد أن شرفت بالدخول إليها؟
قال: أنا لم
أخرج منها.
قلت: ولكني
أراك معي.
قال: لقد أرسلت
في مهمة إلى هذه الغابات الموحشة .. فأنا أؤديها، ولا أبالي أن أموت في سبيلها.
قلت: من أرسلك؟
قال: من أرسله.
قلت: أنتم
تزعمون أن الذي أرسله هو الله.
قال: وكل داعية
إلى الله يسير على قدم رسول الله r يشعر أنه موكل من الله بنفس المهام التي قام بها رسول
الله r .
قلت: لكأني بك
تدعي النبوة .. بل تدعي الرسالة.
قال: معاذ الله
أن أتخطى رقاب الصديقين .. أنا لا أقول إلا ما قال الله تعالى .. لقد قال الله
تعالى يذكر رسل المسيح الذين أرسلهم لهداية الناس
:﴿
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ
(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا
إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ
آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي
آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ (27) (يس)
قلت: لقد ذكر المفسرون أن هؤلاء كانوا
رسل المسيح.
قال: ومع ذلك اعتبرهم الله رسلا ..
فالمؤمن هو الذي يحمل رسالة نبيه ليسير بها في الناس، ويكون رسول رسول الله r إلى الناس .. فلا تكتمل الوراثة إلا بذلك.
***
ما وصل محمد
الهادي من حديثه إلى هذا الموضع حتى لاح لنا العمران .. وقد دهشت إذ سمعت الترانيم
العذبة تستقبلنا كما استقبلت رسول الله r .. وكأن الزمن عاد إلى تلك الأيام الجميلة التي دخل
فيها رسول الله r المدينة التي ناصرته وسارت على قدمه.
مكثت في تلك
المدينة من المدن المحاذية للأدغال فترة طويلة من الزمان، وقد عجبت من التغير
العظيم الذي حصل لها ..
لقد كنت كغيري
من المبشرين والسواح نتهيب الدخول إليها .. فقد كانت الأنباء تسير إلينا بأن أهلها
من أكلة لحوم البشر .. فلذلك لم يكن أحد يجرؤ على الدخول إليها .. لكن ما رأيته
فيها جعلني أحتار في أمري، وفي دقة المعلومات التي كنا نحملها عنها.
وقد دعاني ذلك
إلى أن أسأل محمدا الهادي عنها، فقال: لقد كانت هذه المدينة كذلك .. ولم تكذبكم
الأخبار التي وصلتكم عنها.
قلت: ولكني
أراها كأنعم بلاد الله، بل هي أكثر بلاد الله سلاما وإيمانا.
قال: ألم تكن
الجزيرة التي جاءها رسول الله r جزيرة قاحلة يأكل بعضها بعضا؟
قلت: بلى .. ولكن
الذي نجح في تحويلها هو محمد.
قال: لقد ترك
لنا محمد r من مواريث الهداية ما يحول به كل
جزيرة من جزائر الأرض إلى تلك الجزيرة، وكل فرد من أفرادها إلا تلك النماذج
العالية التي رباها.
قلت: ولكن
هؤلاء كانوا أكلة لحوم البشر.
قال: إن هداية
الله لا تضيق بأحد من الناس .. فلذلك ليس علينا إلا أن ندعو إلى الله، ثم نترك
الأمر بعدها لله .. وقد يجعل الله فيمن تحتقره من الهداية ما لا تحلم به ..
قلت: فأي جيش
من الناس استطاع أن يحول هؤلاء؟
قال: في غرفة
العمليات بمدينة رسول الله r جاءنا رجل، وأخبرنا عن هذه المدينة، وعن ضلالها، وعن
السلوك الذي تسلكه في حياتها، وقد ملأني ذلك ألما وحزنا .. فاستشرت أهل الخبرة من
أهل تلك الغرفة المباركة، فأعطوني من ترياق الهداية النبوية ما سرت به إلى هذه
المدينة .. وقد يسر الله لي أمرها، فلم أمكث فيها إلا قليلا حتى تحولت إلى ما
رأيت.
بعد أن وصل
البابا من حديثه إلى هذا الموضع، التفت إلي، وقال: هذا بعض حديثي مع هذا الوارث من
ورثة النبي r .. لقد ملأني حديثه بأشعة كثيرة من
شمس محمد r جعلتني أشعر بقربه العظيم مني، بل
قرب كل شيء منه.
قلت: إن حديث
هذا الرجل عظيم .. ما كنت أتصور أن هناك من يحمل همة كهمته، وقلبا كقلبه.
قال: كل من
اهتدى بهدي النبي r وامتلأ به كان له ما لهذا الرجل ..
ليس الأمر صعبا ..
قلت: هو يسير
.. ولكن الأشواك الموضوعة في هذا الطريق صعبة وشديدة.
قال: فشذبها
بمقص الهداية.
قلت: أنت
تحرضني على الثورة .. ألست تلميذا لمعلم السلام؟
قال: ثورة أهل
السلام ثورة على النفس .. فلذلك لا ينبت منها إلا السلام .. لقد قال لي صاحبي
(محمد الهادي) هذا بعد أن قدم لي سيارتي.
قلت: هل استطاع
أن يرجع لك سيارتك؟
قال: أجل ..
بعد فترة من الزمان غاب عن ناظري فيها، جاءني بالسيارة يقودها بعض الناس، وقال لي:
هذه سيارتك قد عادت إليك .. انظر .. لقد فزت بنفسك، كما فزت بسيارتك .. فلا تغفل
أن تفوز بربك.
لقد قلت له
حينها، وعيناي تمتلئان بالدموع: خذها .. لا أريدها .. تقبلها هدية مني .. سر بها
في بلاد الله لتخلص أكلة لحوم البشر.
قال: لو سرت
بها إليهم لأكلوني .. كل من سار بسيارته في هذه الأرض أكل ..
قلت: لم أفهم
ما ترمز إليه.
قال: لقد خلقنا
الله بشرا، ولا يمكن أن نصل للبشر إلا ونحن بشر.
قلت: فهل هناك
من يتحول عن بشريته؟
قال: كل
المصارعين يتحولون عن بشريتهم بمجرد أن تمتلئ أيديهم وأرجلهم بهذه الآلات التي
تفننوا في صناعتها، كما تفننوا في الصراع بها.
قلت: ولكنك
ذكرت أن غرفة العمليات تحتوي على أحدث الأجهزة.
قال: تلك أجهزة
السلام لا أجهزة الصراع ..
قلت: أليست
السيارة من أجهزة السلام؟
قال: ولكنها في
نظر أهل هذه البلاد من أجهزة الصراع .. فلذلك لا يدخل إليهم رجل بها إلا أكلوه.
قلت: فلم صارت
في عيونهم هكذا؟
قال: لأنهم
رأوا في يد من يمتطيها بندقية يقتل بها الحياة، ومنشارا يقطع به الأشجار، وعجلات
قوية يجرح بها التربة، ويحطم بها قرى النمل.
قلت: فكيف نقلع
عنهم هذه الصورة المشوهة؟
قال: بالثورة.
قلت: أتدعوني
للثورة .. وأنت تتحدث بأحاديث أهل السلام.
قال: بثورة أهل
السلام .. وهي ثورة على التشويه الخطير الذي تعرض له الإنسان وقيم الإنسان .. وهي
ثورة تبدأ بالنفس، وبكل القيم المشوهة التي زينت في النفس.
نظر إلي
البابا، وقال: هكذا حدثني صاحبي عن الثورة .. وعن الطريق إلى السلام.
قلت: للأسف لا
يرمى الإسلام في عهدنا بشيء كما يرمى بالإرهاب.
قال: لقد كان
الإرهاب هو الحجاب الأعظم الذي حال بيني وبين أشعة كثيرة من شمس محمد r .
قلت: فكيف
تخلصت منه؟
قال: تلك رحلة
طويلة.
قلت: فحدثني
حديثها.
قال: ليس الآن
.. غدا إن شاء الله سيكون حديثنا عن الدين الذي جعله الله (سلاما للعالمين)
قلت: أ( سلام
للعالمين)[178] هو عنوان رحلتنا القادمة؟
قال: أجل ..
بعد أن أزحت كل الشكوك التي كانت تحول بيني وبين محمد r رحت أبحث عن الشريعة التي جاء بها .. وقد كان أول ما
شدني هو سلامها وعدالتها ورحمتها، ولذلك قدر الله لي أن أرحل ثلاث رحلات طويلة
علمت في أولاها أن الإسلام (سلام للعالمين)، وعلمت في الثانية أنه ( عدالة
للعالمين)، وعلمت في الثالثة أنه (رحمة للعالمين)
قلت: فهذه
عناوين الرحلات الثلاث الآتية؟
قال: أجل ..
فلا يمكن أن يعرف محمدا r من لم يعرف هذه الأشعة العظيمة التي
جاء بها.
([5]) نشير به إلى الإمام العظيم تقي الدين القمي، وهو مؤسس دار
التقريب بالقاهرة، وأبرز من سعى في التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد تحدثنا عنه
بالتفصيل في رسالة (حصون الوحدة) من سلسلة (حصون المستضعفين)
([6]) نشير به إلى عبد الرحمن الكواكبي (1271-1320هـ، 1855- 1902م)،
وهو رحالة من الكتاب الأدباء، ومن رجال الإصلاح، وُلد وتعلم في حلب، وأنشأ فيها
جريدة الشهباء فأغلقتها الحكومة، وجريدة الاعتدال، فعُطِّلت.
شغل
الكواكبي العديد من الوظائف، فكان رئيسًا لقلم المحضرين في ولاية حلب، وعضوًا
فخريًّا في لجنة امتحان المحامين، ورئيسًا للجنة الأشغال العامة، كما عمل
بالقضاء وقام بأعمال عمرانية وتجارية أكسبته خبرة بالناس وتجربة كبيرة بالحياة،
وكان في كل أعماله يصطدم بنظام الدولة واستبداد الحكام وفساد الإدارة، وكان
سلاحه النزاهة والاستقامة والعدل.
وكان
للكواكبي مكانة مرموقة في بلده يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، ويلجأ إليه أرباب
المشاكل لحلها، بل كان رجال الحكم يستشيرونه أحيانًا فيبدي رأيه في جرأة وشجاعة،
لا يقرُّ ظالمًا على ظلمه، ولا يسالم جائرًا، لذلك حاربه ولاة حلب ورجال الدولة
في الأستانة، فَزوِّرت عليه التهم فقُدِّم للمحاكمة وهو بريء مما نُسب إليه،
الأمر الذي جعله يهاجر سرًّا إلى مصر سنة 1316هـ/1899م لينشر فيها فصولاً من
كتابه (طبائع الاستبداد) في جريدة (المؤيد)
قام
الكواكبي بزيارة العديد من الدول الإسلامية فطاف بسواحل إفريقيا الشمالية، وسواحل
آسيا الغربية ودخل الجزيرة العربية، واتصل برؤساء قبائلها،كما نزل الهند، واستقر
به المقام في مصر، وكان ينوي أن يتم رحلته إلى بلاد المغرب، ولكن المنية عاجلته
سنة 1320هـ/1902م.
له
من الكتب أم القرى؛ طبائع الاستبداد، وكان لهما عند صدورهما ردود فعل قوية، وكان
كبيرًا في عقله وهمته وعلمه ومن كبار رجال النهضة الحديثة.
تناول
في كتابه أم القرى أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي بتوسع وتفصيل، وأرجعها إلى 18
سببًا دينيًا، و12 سببًا سياسيًا، و15 سببًا أخلاقيًا وتربويًا، وقد بحث الكواكبي
في هذه الأسباب على شكل حوار بين عدد من الشخصيات التي تخيَّلها، وتناولها
بالتفصيل وبإيراد الحُجج والبراهين، فكانت تحليلاً علميًا لواقع المجتمع العربي
الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
([7]) أشير به إلى محمد إقبال (1288-1355هـ، 1873 -1938م)، وهو عالم
وفيلسوف وشاعر، كان يحث على الوحدة السياسية والروحية بين جميع الشعوب الإسلامية،
وقد حاول أن يعيد صياغة الأفكار الأساسية للعقيدة الإسلامية باللغة الأكاديمية
للعالم الحديث.
وُلد
في مدينة سيالكوت في البنجاب. ودرس في الكلية الحكومية في لاهور، وتعلم الآداب
العربية والفارسية.
بين
عامي 1901 و1905م تعلم إقبال الإنجليزية والفلسفة الإسلامية في الكلية الحكومية
بلاهور، وفي عام 1905م ألف كتابه الأول عن الاقتصاد، وخلال السنوات الثلاث التالية
درس في المملكة المتحدة في جامعتي كمبردج ولندن، وكذلك في ميونيخ بألمانيا. وقد
تخرَّج محاميًا وحاز درجة دكتوراه الفلسفة.
وبعد
عودته إلى لاهور، اتخذ المحاماة مهنة له، إلا أن الشعر ظل هاجسه الحقيقي. وكتب
قصائد تنشد على الملأ مقتفيًا طريقة الشعراء التقليديين.
حصل
إقبال على شهرته الحقيقية بعد عام 1915م من خلال نشره قصيدة طويلة بالفارسية تحت
عنوان (أسرار النفس)، وأعقبتها قصيدة مكمِّلة بعنوان (أسرار انعدام النفس)، ولكنها
لم تُنشر إلا سنة 1953م بعد وفاته .. وكانت قصائده هذه تدعو المسلمين إلى التضحية
بالنفس في سبيل الأُخُوَّة والعدْل والخير الشامل للآخرين.
كان
إقبال يحلم بإنشاء دولة إسلامية لمسلمي الهند، وسخر منه الناس حينئذ، ولكن تحققت
فكرته بقيام دولة باكستان الإسلامية، زار (إقبال) كثيرًا من الدول الإسلامية،
فزار مصر، وأفغانستان كما زار قرطبة، وصلى في مسجد قرطبة الشهير، وظل طيلة حياته
المجيدة يدافع عن الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية والمؤتمرات الإسلامية
والكتب والأشعار التي أبدعها، ويحاول قدر طاقته إيقاظ المسلمين من غفلتهم،
ومساعدة الأمة الإسلامية على النهوض، وكان إقبال دائمًا يعطف على الفقراء
والمساكين، يجلس معهم، ويهتم بأمرهم، ويخالطهم في الطعام والشراب.
كما
كان يدعو المسلمين إلى المشاركة في حركة الحضارة والتقدم، وينبذ الفكر الذي يكتفي
من الدين بالعلاقة بين العبد وربه في صورة العبادات.
لم
يترك إقبال فرصة إلا نصح فيها إخوانه من المسلمين، فيخاطب المسلم ويقول له: (اقرأ
مرة أخرى في سيرتك الأولى، اقرأ دروس الصدق والعدل والشجاعة، لأنك أنت المنشود؛
لتسود العالم مرة ثانية، أنت تملك العالم بالأخوة وتحكمه بالمحبة، ما الذي محا
استبداد (قيصر) وشدة (كسرى)؟! أكانت هناك قوة في العالم تحارب الجبابرة سوى قوة
(علي) كرم الله وجهه، وفقر (أبي ذر) وصدق (سليمان) رضي الله عنهم؟!)
أبدع
إقبال العديد من الدواوين الشعرية الرائعة منها:
(صلصلة
الجرس) ونشر عام 1924م، ويحتوي على حوالي ستين قصيدة وقطعة نظمها في بداية شبابه
حتى سفره إلى أوربا، بالإضافة إلى ثلاثين قصيدة نظمها في أوربا، وأهم قصائد هذا
الديوان قصيدته الشهيرة: (طلوع الإسلام).
(رسالة
المشرق) : وهي رد على ديوان الشاعر الألماني (جوته).
(زبور
العجم): وهو ديوان من أروع ما كتب إقبال، وأهم قصائده: (حديقة السر الجديدة) وهي
قصيدة في الحب الإلهي.
(ما
ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق) وهي منظومات تدعو المسلمين إلى الاتحاد لمقاومة
الاستعمار الأجنبي.
(هدية
الحجاز) وهو ديوان أغلبه يدور حول موضوعات هامة مثل: الحديث عن الله وعن الرسول r وعن الأمة وعن العلم الإنساني، وعن رفاق الطريق إلى الله، وأهم
قصائد الديوان قصيدة تدور حول إبليس ومعاونيه.
من
أهم مؤلفاته: (تطور الفكر الفلسفي في إيران) و(تجديد التفكير الديني في الإسلام)
([8]) نشير به إلى أبي الأعلى المودودي (1321 - 1399هـ، 1903 - 1979م)،
وهو مفكّر وداعية إسلامي معروف بالهند، وهو أمير الجماعة الإسلامية بها في منتصف
القرن العشرين.
قضى
طفولته الأولى في مسقط رأسه في مدينة (أورنك آباد الدكن)، بمقاطعة حيدر آباد،
وكان أبوه معلمه الأول، وقد حرص على تعليمه اللغة العربية والفارسية بالإضافة إلى
الفقه والحديث، وأقبل المودودي على التعليم بجد واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي،
وهو ما يعادل الليسانس.
اشتغل
بالصحافة في سن مبكرة .. وكان من نتيجة عمله بالصحافة أن سعى إلى تعلم اللغة
الإنجليزية حتى أتقنها، وصار بإمكانه الاطلاع على كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع
ومقارنة الأديان باللغة الإنجليزية دون أية صعوبة في فهمها واستيعابها.
وما
لبثت الحكومة أن أغلقت الجريدة التي كان يعمل بها، فعاد إلى دلهي واشترك مع مدير جمعية
علماء الهند في إصدار جريدة مسلم، وصار مديرًا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات حتى
أغلقت، فانتقل إلى بهو بال، ثم عاد مرة أخرى إلى دلهي، حيث تولى الإشراف على
إصدار جريدة تصدرها جمعية علماء الهند تحمل اسم الجمعية، وظل يتحمل وحده عبء
إصدارها حتى سنة (1347 هـ = 1928م).
وفي
ذلك العام أتم كتابه (الجهاد في الإسلام) الذي حقق شهرة عالمية، وقد كتبه ردًا
على مزاعم غاندي التي يدعي فيها أن الإسلام انتشر بحد السيف.
وفي
عام (1351 هـ = 1932م) أصدر ترجمان القرآن من حيدر آباد الركن، وكان شعارها:
(احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا وحلقوا فوق العالم)
وكان
تأثير المودودي عبر ترجمان القرآن من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار التيار
الإسلامي في الهند، وزيادة قوته، وقد تبلور ذلك في حزب الرابطة الإسلامية، وتأكد
ذلك في دعوته أثناء المؤتمر الذي عقد في لنكو سنة (1356هـ = 1937م) إلى
الاستقلال الذاتي للولايات ذات الأغلبية الإسلامية.
ونتيجة
لشهرة المودودي واتساع دائرة تأثيره الفكري في العالم الإسلامي، دعاه المفكر
والفيلسوف محمد إقبال في سنة (1356 هـ = 1937م) إلى لاهور ليمارس نشاطه الإسلامي
البارز بها، فلبى المودودي دعوة إقبال.
وعندما
توفي إقبال في العام التالي (1357 هـ = 1938م) تاركًا فراغًا كبيرًا في مجال
الفكر والدعوة اتجهت الأنظار إلى المودودي ليملأ هذا الفراغ الذي ظهر بعد رحيل
إقبال.
بدأ
المودودي حركته الإسلامية التي تهدف إلى تعميق الإسلام لدى طبقة المفكرين المسلمين
والدعوة إلى الإسلام، حتى أسس الجماعة الإسلامية في لاهور، وتم انتخابه أميرًا
لها في ( 1360 هـ = 1941م).
وبعد
ذلك بعامين في (1362 هـ = 1943م) نقلت الجماعة الإسلامية مركزها الرئيسي من لاهور
إلى دار السلام ـ إحدى قرى بتها نكوت ـ وكان المودودي طوال هذه الفترة لا يكف عن
الكتابة والتأليف، فأصدر عدة كتب من أهمها: (المصطلحات الأربعة الأساسية في
القرآن)، و(الإسلام والجاهلية)، و(دين الحق)، و(الأسس الأخلاقية الإسلامية)،
وغيرها.
ومع
إعلان قيام دولة باكستان في 1366 هـ انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور؛ حيث أسس
مقر الجماعة الإسلامية بها، وبعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي
أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون
الإسلامي.
وظل
المودودي يلح على مطالبة الحكومة بهذا المطلب، فألقى خطابًا آخر في اجتماع عام
بكراتشي في (ربيع الآخر 1367 هـ = مارس 1948م) تحت عنوان (المطالبة الإسلامية
بالنظام الإسلامي)
بدأت
الجماعة الإسلامية الضغط على الحكومة ومجلس سن القوانين للموافقة على المطالب
التي قدمها المودودي بجعل القانون الأساسي لباكستان هو الشريعة الإسلامية، وأن
تقوم الحكومة الباكستانية بتحديد سلطتها طبقا لحدود الشريعة.
وحينما
عجزت الحكومة عن الرد على تلك المطالب قامت في (1367 هـ 1948م) باعتقال المودودي
وعدد من قادة الجماعة الإسلامية، ولكن ذلك لم يصرف المودودي وبقية أعضاء الحركة
من الاستمرار في المطالبة بتطبيق النظام الإسلامي، وأظهر الشعب تعاونه الكامل مع
الجماعة في مطالبها حتى اضطرت الحكومة إلى الموافقة على قرار الأهداف الذي يحدد
الوجهة الإسلامية الصحيحة لباكستان في 1368 هـ .
وبعد
ذلك بنحو عام اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراح المودودي وزملائه.
وبدأت
الجماعة الإسلامية دراسة قرار الأهداف الموضوعة في حيز التنفيذ، وفي الوقت نفسه
كانت الحكومة تسعى إلى وضع مقترحاتها الدستورية، وأعطت لنفسها سلطات واسعة
للسيطرة على الرعية؛ فقام المودودي بإلقاء خطاب في اجتماع عام بلاهور قام فيه
بتوجيه النقد إلى تلك المقترحات التي تمهد الطريق للديكتاتورية؛ فثار الرأي العام
وهو ما اضطر الحكومة إلى التراجع، وتحدت علماء الجماعة الإسلامية، في أن يجتمعوا
على ترتيب مسودة دستور إسلامي، وقبل العلماء التحدي؛ فاجتمع (31) عالمًا يمثلون
الفرق المختلفة بمدينة كراتشي، واشترك المودودي معهم في صياغة النقاط الدستورية
التي اتفقوا عليها، ولكن الحكومة قابلت المقترحات الدستورية التي تقدمت بها
الجبهة الإسلامية بالصمت، وإزاء ذلك قامت الحركة الإسلامية بعقد عدة اجتماعات
شعبية، فقامت الحكومة بإعلان الأحكام العسكرية في لاهور في 1372 هـ وفي 1372 هـ
تم اعتقال المودودي للمرة الثانية.
وقد
حكم عليه بالإعدام، وهو ما أدى إلى حدوث ثورة من الغضب الشديد في معظم أنحاء
العالم الإسلامي، وتوالت البرقيات من كل مكان تشجب هذا الحكم، حتى اضطرت الحكومة
إلى تخفيف حكم الإعدام والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولكن ردود الفعل الرافضة
لهذا الحكم أدت إلى إصدار حكم بالعفو عن المودودي في (1374 هـ = 1955م)
ومع
بداية عام (1375 هـ = 1956) رضخت الحكومة لمطالب الشعب بإصدار دستور إسلامي
للبلاد، ولكن ما لبثت أن أعلنت عن دستور جديد .. ثم أصدرت قرارًا بحظر نشاط
الجماعة، وتم اعتقال المودودي و (63) من زملائه، ولكن القضاء أصدر حكمًا ببطلان
الحظر والاعتقال، وأطلق سراح المودودي وزملائه في (1384 هـ 1964م)
في
1392 هـ بعد نحو ثلاثين عامًا من الكفاح الطويل طلب المودودي إعفاءه من منصبه
كأمير للجماعة الإسلامية لأسباب صحية، وانصرف إلى البحث والكتابة؛ فأكمل تفهيم
القرآن، وشرع في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي
عام 1399 هـ فاز المودودي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام؛ فكان أول من
حصل على تلك الجائزة تقديرًا لجهوده المخلصة في مجال خدمة الإسلام والمسلمين.
بلغ
عدد مؤلفات المودودي (70) مصنفًا ما بين كتاب ورسالة، وقد حظيت بشهرة عريضة في
جميع أنحاء العالم ولقيت قبولا واسعًا في قلوب المسلمين في شتى البقاع؛ فترجم
الكثير منها إلى العديد من اللغات، حتى بلغ عدد اللغات التي ترجمت مصنفات
المودودي إليها ست عشرة لغة، منها: الإنجليزية، والعربية، والألمانية، والفرنسية،
والهندية، والبنغالية، والتركية، والسندية…، ونالت استحسان ورضى المسلمين على شتى
مستوياتهم واتجاهاتهم.
(انظر
في ترجمته: أبو الأعلى المودودي: حياته وفكره العقدي: حمد بن صادق الجمال .. أبو
الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية: د.محمد عمارة .. النهضة الإسلامية في سير
أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (الجزء الثالث)
([9]) نشير به إلى الأمير شكيب أرسلان (1286 - 1366هـ ، 1869 - 1946م)،
وهو شاعر وكاتب ومفكرٌ وعالمٌ موسوعي،
وُلد في الشويفات بلبنان، وتعلم في مدرستي الحكمة والسلطانية ببيروت،
وأتقن، إلى جانب لغته العربية ثلاث لغات أجنبية، وهي: التركية، والفرنسية،
والألمانية. وأخذ العلم عن عدة شيوخ، منهم: عبدالله البستاني صاحب المعجم اللغوي
البستان، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني. وقرأ لأعلام الكتاب في النثر العربي
ممن صفَُّّْوا بيانه حتى لُقِّب أمير البيان، وحامل لواء الصناعتين.
رأى
شكيب أرسلان أن العدو الأول للإسلام والمسلمين هو الجهل، وأن ارتفاع نسبة الأمية
هي السبب في تأخر المسلمين، وعليهم أن يحاربوه بكل ما يملكون، وكتب في ذلك كتابًا
من أعظم الكتب تأثيرا، وهو (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) بأسلوب سهل
ممتع؛ لكي يوقظ الأمة الإسلامية من سبات الجهل والتأخر.
بالإضافة
إليه كتب كتبًا عديدة عن الإسلام والمسلمين تصل إلى خمسين كتابًا لا يزال بعضها
غير مطبوع، من أهمها كتاب (حاضر العالم الإسلامي) و(تاريخ غزوات العرب) و(الحلل
السندسية في الحلة الأندلسية) و(عروة الاتحاد بين أهل الجهاد)..
بالإضافة
إلى مئات البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات، وله مذكرات مخطوطة باللغة
الفرنسية، تصل إلى 20,000 صفحة، وترك ما لا يقل عن 30,000 رسالة، ما زالت مخطوطة.
سافر
شكيب إلى أماكن عديدة، فرحل إلى (الأستانة) حيث التقى بالمصلح الكبير (جمال
الدين الأفغاني) وتأثر بأفكاره، ثم سافر إلى فرنسا سنة 1310هـ/ 1892م، ثم إلى
ليبيا حيث انضم إلى المجاهدين المسلمين الذين كانوا يحاربون الإيطاليين، وكتب من
هناك إلى مختلف الجهات الإسلامية يحث المسلمين على نجدة إخوانهم أبناء ليبيا، وحث
أبناءها على البذل والفداء، وتعاون مع الشيخ محمد رشيد رضا وكتب أربعين افتتاحية
في جريدة (المؤيد) حول هذه القضية، وسافر إلى المدينة المنورة سنة 1914م لينشئ
مدرسة فيها، كما أنه قاد فرقة من المتطوعين ليحارب إنجلترا وحلفاءها في الحرب
العالمية الأولى، وأسس جمعية (هيئة الشعائر الإسلامية) في ألمانيا سنة 1924م،
وأصدر جريدة (الأمة العربية) باللغة الفرنسية في(جنيف) ليدافع على صفحاتها عن
قضايا أمته.
وظل
شكيب أرسلان يكتب عن أحوال المسلمين وقضاياهم ومشاكلهم حتى توفي عام 1366هـ/
1946م.
([10]) نشير به إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي (1329 - 1419هـ، 1911 -
1998م)، العالم الفقيه المفسِّر الداعية، أحد دعائم الفكر الإسلامي الحديث بمصر،
وركيزة من ركائز الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولد
الشعراوي بقرية (دقادوس)، مركز ميت غمر ، بمحافظة الدقهلية ، بمصر، حفظ القرآن
الكريم وهو في سن الحادية عشرة، والتحق بمعهد الزقازيق الديني الابتدائي، ثم
الإعدادي ، فالثانوي، حصل على شهادة العالمية من كلية اللغة العربية بالقاهرة سنة
1941م، عين مدرساً بالمعهد الديني بطنطا ، ثم انتقل إلى الزقازيق ثم إلى
الاسكندرية ، واستمر تدريسه مدة ثلاث سنوات فقط ، سافر بعدها إلى السعودية ضمن
البعثة الأزهرية ليعمل أستاذاً للشريعة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة إلى سنة
1950م ، بعدها تولى منصب مدير مكتب شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون .
سافر
الشيخ مرة أخرى إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر ، وبقي بها مدرساً لمدة سبع
سنوات، قبل أن يعود إلى مصر ويتولى منصب مدير أوقاف محافظة الغربية ، ثم بعد ذلك
وكيلاً للأزهر الشريف .
في
سنة 1976م اختير وزيراً للأوقاف في وزارة ممدوح سالم ، ولكن وقع خلاف بينه وبين
السادات (رئيس الجمهورية)، فترك الوزارة ، وسافر إلى السعودية ولم يعد إلا بعد
مقتل السادات سنة 1981م .
وقد
كان ـ بالإضافة إلى كل هذا ـ عضوا في مجلس الشورى ومجمع اللغة العربية ورابطة
العالم الإسلامي والهيئة التأسيسية لها، وكثير من الهيئات والمنظمات والجامعات
العربية والإسلامية.
وقد
كان للشيخ الشعراوي أسلوب فريد في التفسير يجمع بين أصالة التفاسير القديمة
ومعاصرة الواقع العلمي المبتكر، له باع طويل في التوفيق بين الدين والعلم، وربط
حقائق الإسلام بأحدث النظريات العلمية المعاصرة، واستطاع أن يؤصل منهجًا قويمًا في
هذا الباب تتجلى من خلاله روائع الأحكام القرآنية وتتضح به أوجه الإعجاز كاملة في
النص، مما جعل تفسيره للقرآن الكريم مقنعًا منطقيًا واقعيًا طليقًا خاطب به العالم
والمثقف والأميّ والمتخصص، هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به الشيخ الشعراوي من ثقافة
شمولية في معظم علوم العصر وفطنة كبيرة وذكاء متوقد، الأمر الذي جعله متمكنًا في
عرض النص القرآني على جميع وجوهه مستخلصًا أهم ما فيه من كنوز ثمينة وحقائق غنية.
ليس
للشيخ الشعراوي مؤلفات بعينها، غير أن أصحاب الأقلام ودور النشر الكبرى وهيئات
علمية كثيرة أخذت أحاديثه المذاعة تليفزيونيًا وإذاعيًا، وتسجيلاته المختلفة
وطبعتها في صورة مجلدات وكتب كبيرة بالإضافة إلى مئات المقالات في الصحافة العربية
والإسلامية.
حصل
الشيخ الشعراوي على جوائز عديدة وأوسمة ونياشين دولية، كما حصل على جائزة الدولة
التقديرية بمصر عام 1988م.
([11]) نشير به إلى أحمد حسين ديدات (1337هـ- 1918م )، وهو داعية إسلامي كبير من جنوب
إفريقيا (أصله من مدينة سيرات بالهند, وقد هاجر والده إلى دولة جنوب أفريقيا بعد
وقت قصير من ولادته)، درس المراحل السابقة للجامعة، ثم التحق بكلية مولاي سلطان
التقنية، واجتاز برنامجًا في الرسم الهندسيّ التقنيّ، وآخر في رياضيات تشغيل
اللاسلكي وصيانته.
ظلَّ
يعمل في مجال الدعوة الإسلامية حوالي خمسة وثلاثين عامًا. اشترك في العديد من
المؤتمرات الإسلامية الإقليمية والدولية، وألقى محاضرات كثيرة في العديد من الدول
الإسلامية وغير الإسلامية مثل: المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات
العربية وبريطانيا والولايات المتحدة، وعقد مناظرات عديدة مع خصوم الإسلام
والمناوئين له.
بالإضافة
إلى ذلك، قام بإنشاء معهد السلام الإسلامي لتدريب الطلاب على القيام بالدعوة
الإسلامية، وأصدر العديد من الكتيبات والمنشورات التي تردّ على خصوم الإسلام،
وتدحض مزاعمهم، ومن أشهرها كتاب (الاختيار The Choice) وهو كتاب متعدد الأجزاء، و(هل الإنجيل كلمة الله؟)، و(القرآن
معجزة المعجزات)، و(المسيح في الإسلام)، و(العرب وإسرائيل صراع أم وفاق)،
و(مسألة صلب المسيح)، وكتب أخرى طبع الملايين منها لتوزع بالمجان بخلاف
المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم..
وكان يقول:( لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب
معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية)
وقد
مُنح الشيخ ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986 نظرا
لمجهوداته الضخمة وأعطي درجة أستاذ.
في
عام 1996 أصيب ديدات بالشلل التام ومن حينها ظل طريح الفراش، ولكنه لم يتوقف لحظة
عن الدعوة فكان يعبر عما يريد عن طريق عينين لا تتوقفان عن الحركة والإشارة
والتعبير، وعبرهما يتحاور الشيخ ويتواصل مع زائريه ومرافقيه بل ومحاوريه بواسطة
لغة خاصة تشبه النظام الحاسوبي, فكان يحرك جفونه سريعا وفقا لجدول أبجدي يختار
منه الحروف، ويكون بها الكلمات، ومن ثَم يكون الجمل ويترجم مراد الشيخ ولده يوسف
الذي كان يرافقه في مرضه. والعجيب أنه كان يصل إلى الشيخ في مرضه هذا كل يوم
قرابة الخمسمائة رسالة فلم يتوقف عن الدعوة حتى وافته المنية مجاهدا داعيا وصابرا
محتسبا.
([12]) انظر: مقالا بعنوان (المسلمون أمة واحدة)، محمد علي علوبه باشا (رئيس جماعة التقريب) مجلة
رسالة الإسلام، العدد الأول، بتصرف.
([24]) رددنا على هذه الفرية بالنصوص الكثيرة من أئمة الشيعة في رسالة
(الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
ونحب أن ننبه هنا إلى أن من الشيعة من يرمي السنة بنفس
الفرية، أي أن من السنة من يقول بتحريف القرآن، يقول الشيخ المدني ـ
ردا على من يرمون الشيعة الإمامية بالقول بتحريف القرآن ـ :( أما أن الإمامية
يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله، وإنّما هي
روايات رويت في كتبهم كما روي مثلها في كتبنا، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيفوها
وبينوا بطلانها، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنّه ليس في السنة من يعتقده.
ويستطيع
من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب (الإتقان) للسيوطي السني ليرى فيه أمثال هذه الروايات
التي نضرب عنها صفحا.
وقد
ألف أحد المصريين في سنة 1948 كتابا أسمه (الفرقان) حشاه بكثير من أمثال هذه
الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة، ناقلا لها عن الكتب المصادر عند أهل السنة،
وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بين بالدليل والبحث العلمي
أوجه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرت الكتاب، فرفع صاحبه
دعوى يطلب فيها تعويضاً، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.
أفيقال:
إن أهل السنة ينكرون قداسة القرآن، أو يعتقدون نقص القرآن للرواية رواها فلان، أو
لكتاب ألفه فلان؟
فكذلك
الشيعة الإمامية، إنّما هي روايات في بعض كتبهم، كالروايات التي في بعض كتبنا، وفي
ذلك يقول الإمام العلامة السعيد أبو الفضل ابن الحسن الطبرسي، من كبار علماء
الإمامية في القرن السادس الهجري، في كتابه (مجمع البيان لعلوم القرآن)، وهو بصدد
الكلام عن الروايات الضعيفة التي تزعم أن نقصا ما دخل القرآن ـ يقول هذا الإمام ما
نصه:( روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة، أن في القرآن تغييرا ونقصانا،
والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه، واستوفى
الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: إن العلم
بصحة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب
المشهورة، وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله
وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه ؛ لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ
العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته
الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلفوا فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف
يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا، مع العناية الصادقة، والضبط الشديد؟)
وقال
أيضاً ـ قدس الله روحه ـ: (إن العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحة نقله، كالعلم
بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإن
أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتّى لو أن
مدخلا أدخل في كتاب سيبويه باباً من النحو ليس من الكتاب، لعرف وميز وعلم
أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك
القول في كتاب المزني، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط
كتاب سيبويه ودواوين الشعراء)
(وذكر
أيضاً أن القرآن كان على عهد رسول الله r مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان
يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عين جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان
يعرض على النبي r ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأبي بن
كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي r عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتبا غير مبتور ولا مبثوث، وذكر
أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد مجموعاً، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى
قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم
المقطوع على صحته)
فهذا
كلام صريح واضح في الدلالة على أن الإمامية كغيرهم في اعتقاد أن القرآن لم يضع منه
حرف واحد، وأن من قال بذلك، فإنما يستند إلى روايات ظنها صحيحة وهي باطلة، يستوي
في ذلك أهل السنة بغيرهم من الطوائف.
وإنما
ذكرنا هذا هنا، وفي مواضع مختلفة من (رسائل السلام)، لأن أكبر فرية يرمي بها
المتطرفون إخواننا من الشيعة الإمامية هو رميهم بالقول بتحريف القرآن.
وقد
أفضنا في هذه المسألة بتفاصيلها ـ وما يناسبها من المسائل ـ في رسالة (حصن الوحدة)
من مجموعة (حصون المستضعفين)
([32]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة الدالة على مصداقية هذه الفتوى في رسالة
(حصن الوحدة) من مجموعة (حصون المستضعفين) من (رسائل السلام)
([33]) راجع (مشيخة الازهر منذ إنشائها حتى الآن) للاستاذ علي عبد
العظيم:2/187 وما بعدها. القاهرة 1979.
([35]) وأركان العقائد التي تجمع المسلمين، هي التي ورد في النصوص المقدسة
بيانها منحصرة في قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ )(البقرة: من
الآية177)، وقوله تعالى :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )(البقرة: من الآية285)
وفي
قوله r في حديث جبريل :( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم
الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)(رواه مسلم)
أما
ما عداها مما دخل في العقائد، فهو في أحسن أحواله من فروع العقائد لا أصولها، ولا
يرتبط بها ضلال ولا كفر، ولا سنة ولا بدعة ..
([40]) فقد قال الله تعالى في الآيات السابقة لهذه الآية :﴿
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)﴾ (الشورى)
([41]) وقيل: إن هناك من وضع عنده درعاً على سبيل الوديعة ولم يكن هناك
شاهد ، فلما طلبها منه جحدها . وقيل: إن المودع لما طلب الوديعة زعم أن اليهودي
سرق الدرع.
([47]) رواه الطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا منهم فمختلف فيه، وفي
الصحيح بعضه عن ابن مسعود، ورواه البزار بإسناد جيد إلا أنه قال :( وإمام ضلالة)
([68]) رواه وأحمد بسند جيد ورجاله رجال الصحيح، وفي رواية صحيحة له
أيضا :( ما من أمير عشرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولا لا يفكه من ذلك الغل إلا
العدل)، وفي أخرى صحيحة أيضا :( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا
حتى يفكه العدل أو يوثقه الجور)، وفي رواية للطبراني :( وإن كان مسيئا زيد غلا إلى
غله)
([75]) رواه الترمذي وتكلم فيه والحاكم، وقال صحيح على شرطهما، ورواه أبو داود، ولفظه :( من كانت له امرأتان فمال إلى إحدهما
جاء يوم القيامة وشقه مائل)، والنسائي ولفظه :( من كانت له امرأتان يميل لإحداهما
على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)، ورواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه بنحو رواية
النسائي هذه إلا أنهما قالا :( جاء يوم
القيامة وأحد شقيه ساقط)
([84]) وفي رواية حتى انتهى إلى قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لا
تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(آل عمران: من الآية194)
([97]) رواه الخرائطي، والطبراني، و المراد من عدم قوله :( لا) ما يفهم
منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك،
وقد قالها r، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي r :﴿ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)
(التوبة:92)، وهو نظير ما في حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ لما سأله
الأشعريون الحملان فقال r: (ما عندي ما أحملكم)
([109]) رواه البخاري ومسلم، وفي روية لمسلمٍ: حق المسلم ستٌ: إذا لقيته
فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته،
وإذا مرض فعده، وإذا مات فأتبعه.
([110]) المياثر: جمع ميثرةٍ، وهي شيءٌ يتخذ من حريرٍ ويحشى قطناً أو
غيره، ويجعل في السرج وكور البعير يجلس عليه الراكب.
([115]) نبهنا في مواضع كثيرة إلى أن أحاديث الفتن وأشراط الساعة ونحوها
لا تحمل فقط صفة النبوءة الغيبية، وإنما تحمل أيضا ـ وأهم من ذلك ـ طابع التشريع،
لمن حصلت لهم تلك الفتن. (انظر: رسالة (معجزات حسية)، فصل (نبوءات) من هذه
السلسلة)
([116]) مما قيل في معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا،
فإذا زال أول جزء منها، زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون
الذي قبله، فإذا زال شئ آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول الا بعد مدة،
وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد
استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بحجر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها، ثم يزول
الجمر ويبقى التنقط وأخذه الحصاة ودحرجته اياها أراد بها زيادة البيان وإيضاح المذكور.
(1) وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال على لسان
الهدهد :)إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ (
(النمل:23)
(1
) هذا هو الصحيح، وهو ما قاله مجاهد وسعيد
بن جبير، وقد اختاره ابن جرير وابن كثير، لا من قول ملكة سبأ، بدليل أنها إنما
أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما قال تعالى :﴿ قِيلَ لَهَا
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ
سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(
(النمل:44)
([141]) هو الذي يتحمل عن قريبه
أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول. ولو لم يفعل قتل
قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله.
([143]) رواه الحاكم عن اليسع بن
المغيرة، واليسع بن المغيرة المخزومي المكي قال أبو حاتم: ليس بالقوي وذكره ابن
حبان في الثقات.
([151]) الفسيل: صغار النخل وهي
الودي والجمع فسلان مثل رغيف ورغفان الواحدة فسيلة وهي التي تقطع من الأم أو تقلع
من الأرض فتغرس. المصباح 2/647.
([156]) يعني الجزية، وهي أعمق من أن ترتبط بالمال وحده انظر: رسالة (ثمار
من شجرة النبوة) و(سلام للعالمين)
([158]) رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه
بألفاظ يطول استقصاؤها؛ ورواه بقية الجماعة إِلا ابن ماجه من طرق عن الزهري عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، ورواه ابن إِسحاق عن الزُّهري
بطوله، ومثله أبو نعيم في دلائل النبوة بنحوه مطولاً، والبيهقي بهذا الإِسناد
بنحوه.
([161]) رواه أبو سعيد النَّيْسابوري في كتاب شَرَف
المصطفى وهكذا حكاه أبو نعيم الأصبهاني في الدلائل عن ابن إِسحاق بلا إسناد، لكن
سماه (خرخسرة) ووافق على تسمية رفيقه (أبانوه)
([163]) رواه الطبراني، وقال الهيثمي : ورجاله رجال
الصحيح غير كثير بن زياد وهو ثقة؛ وعند أحمد طرَقٌ منه، وكذلك البزار.
([166]) وهذا لأن من المسيحيين من يعتقد بنبوة المسيح .. وقد كان يقول
بذلك فرق كثيرة، انظر رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.
([171]) رواه الطبراني، قال الهيثمي : رواه
الطبراني متصلاً هكذا، ومنقطعاً مختصراً عن ابن إسحاق، وفي المتصل جماعة لم
أعرفهم، وإسنادهما إلى ابن إِسحاق جيد.
([174]) رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي ورواته احتجا
بهم أيضا إلا شيخه سويد بن نصر وهو ثقة وأبو يعلى والبزار بنحوه.
([176]) رواه أحمد، وابن جرير بسند جيد، وأبو القاسم البغوي، والطبراني
بسند صحيح، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن المنذر.