الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: النبي الهادي

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

رابعا ـ المعلم

1 ـ الآداب

العبودية

التجرد:

العمل:

المجاهدة

الرحلة:

التحصيل:

التأمل:

الحفظ:

السمت

مع نفسه:

مع علمه:

مع درسه:

مع معلمه:

4 ـ الإفادة

النية:

التبسيط:

التشويق:

العناية:‏

الرفق:

التأليف:

الإنصاف:

الحكمة:

التزكية:

2 ـ المعارف

الحقائق:

السياسات:

الصناعات:

 

رابعا ـ المعلم

قلت: فحدثني عن رحلتك الرابعة.

قال: كانت الحاضرة الرابعة من حواضر الإسلام التي قدر لي أن ألتقي فيها بوارث الهدي النبوي في مجال التعليم مدينة (شنقيط) ..

وقد بدأت قصة التقائي بورثة هذا الهدي العظيم في صحراء قريبة منها ..

كنت أسير في تلك الصحراء التي امتلأت حرا وجفافا، وأتعجب كيف استطاع النبي r أن يخرج من مثل هذه الصحراء أساتذة لا تزال جامعات العالم ومدارسه تنهل من علومهم، وتستفيد من حكمتهم، وتطمح لأن يكون لها من اتقاد الذهن، وحدة الذكاء، وصفاء الذاكرة ما كان لهم.

وبالرغم من أن هذه الخواطر كانت تملؤني بالأشواق الجميلة إلا أني مع ذلك كنت أشعر بألم عظيم .. لقد قلت لنفسي: كيف قصرت الأمة في حق هدي نبيها حتى جفت تلك الآبار التي حفرها لنا، فصرنا لا نجد ما نروي به العالم المتعطش إلى أكمل هدي، وأعظم هدي، وأنبل هدي؟

لقد صارت مدارسنا لا تخرج أمثال ابن عباس ومعاذ وزيد بن ثابت ممن تربوا في مدرسة رسول الله r .. وتعلموا فيها .. بل صارت تخرج المشاغبين والمشردين ومشتتي الذهن، وممن يستعملون علومهم لاقتناص الدنيا ..

صارت تخرج أمثال بلعم بن باعوراء .. وأمثال أولئك الذين شبههم الله بالحمير التي تحمل أسفارا.

بينما أنا كذلك تتنازعني خواطر مسرة، وخواطر حزن، إذا بي أسمع صوتا عذبا يترنم بلامية الشنفرى[1] الممتلئة بالغريب، ومما سمعته منها قوله:

أقيموا بني أمي ، صدورَ مَطِيكم
 

فإني ، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ !‏
  

فقد حمت الحاجاتُ ، والليلُ مقمرٌ
 

وشُدت ، لِطياتٍ ، مطايا وأرحُلُ؛
  

وفي الأرض مَنْأىً للكريم ، عن الأذى
 

وفيها ، لمن خاف القِلى ، مُتعزَّلُ
  

لَعَمْرُكَ ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ
 

سَرَى راغباً أو راهباً ، وهو يعقلُ
  

ولي ، دونكم ، أهلونَ : سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
 

وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ
  

هم الأهلُ . لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ
 

لديهم ، ولا الجاني بما جَرَّ ، يُخْذَلُ
  

وكلٌّ أبيٌّ ، باسلٌ . غير أنني
 

إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ
  

وإن مدتْ الأيدي إلى الزاد لم أكن
 

بأعجلهم ، إذ أجْشَعُ القومِ أعجل
  

وماذاك إلا بَسْطَةٌ عن تفضلٍ
 

عَلَيهِم ، وكان الأفضلَ المتفضِّلُ
  

وإني كفاني فَقْدُ من ليس جازياً
 

بِحُسنى ، ولا في قربه مُتَعَلَّلُ
  

ثلاثةُ أصحابٍ : فؤادٌ مشيعٌ ،
 

وأبيضُ إصليتٌ ، وصفراءُ عيطلُ
  

اقتربت من صاحب الصوت، فوجدته راعيا قد استلقى على رمال تلك الصحراء.. وهو يترنم بتلك الأببات بلذة لا تعدلها لذة، وكأنه يتوهم نفسه في محفل كبير، وقد طرح جلابيب الرعاة، ليرتدي طيالسة الأدباء والبلغاء والعلماء ..

حييته، فلم يشعر بتحيتي، فحركته بيدي، وقلت: مرحبا بصديقنا الشنفرى .. هل رضي الشنفرى من حياته بعد عودته بأن يصير راعيا؟

ابتسم، وقال: وهل يمكن أن يتكبر على الرعي أحد بعد رعي رسول الله r ؟

ثم أردف يقول: لو أن الشنفرى سمع ما حدث به أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r : (ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم)، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله ؟ قال: (وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط[2])[3]

وسمع ما حدث به جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ من قوله: كنا مع رسول الله r نجني الكباث، فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم، قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله ؟ قال: (نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها)[4]

وسمع ما حدث به أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول الله r :( بعث موسى وهو راعي غنم وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم لأهلي بأجياد)[5]

لو أن سمع كل هؤلاء الشهود لترك رماحه وسيوفه وجلس مع غنماته كما أجلس أنا الآن معها .. وقد كفى العالم من شره، وكفاه العالم شره.

قلت: كيف رضيت لنفسك ـ مع ما منحته من قدرة على التعلم ـ على الجلوس بين الغنم .. ألم يكن الأجدى بك أن تجلس بين يدي تلاميذك، يقبل هذا يدك، ويسعى ذاك لخدمتك، وفوق ذلك تنال من الأجور ما لا تناله من هذه المهنة؟

قال: ومن لهذه الغنم المسكينة يرويها ويطعمها .. ومن للبشر الذين ينتظرون صوفها ولبنها ولحمها .. ؟

قلت: لكل حرفته التي تصلح له .. وأنا لا أرى هذه الحرفة تصلح لك.

قال: إن كل من تراه في هذه الصحارى مثلي يحفظون ما أحفظ .. ويعلمون ما أعلم .. فهل نترك حرفنا ووظائفنا لنجلس جميعا معلمين وأساتذة؟

قلت: فهل تعلمتم إذن لتصيروا رعاة؟

قال: العلم شيء .. والحرفة شيء آخر .. نحن نتعلم لوجه الله، وابتغاء مرضاة الله، ثم نكل إلى الله أحوالنا .. فإن شاء أن يجعلنا في زمر الأساتذة حمدنا الله على ذلك مع اعتقادنا بعظم المسؤولية المنوطة بنا .. وإن شاء أن يجعلنا رعاة غنم حمدنا الله، واعتقدنا فضل ما نحن فيه .. فلسنا أشرف من رسول الله r ولا أشرف من الأنبياء.

قلت: متى توقفت عن طلب العلم؟

ابتسم، وقال: ومتى توقفت أنت عن أداء الصلاة؟

قلت: كيف تقول هذا؟ .. لقد كنت أحسبك ذا علم وذا عقل .. هل يجوز للمسلم أن يتوقف عن أداء الصلاة؟ .. إن الصلاة مفروضة في جميع الأحوال، ولو أن تؤديها بالإيماء.

قال: ومثلها العلم .. كلاهما فريضة من فرائض الله .. وكلاهما مما لا يجوز التوقف عن طلبه .. ألم تسمع قوله تعالى مخبرا عن دعاء النبي r  :﴿ وَقُل رَبِّ زِدْني عِلْماً ﴾ (طه: 114)، وقوله تعالى وهو يبين رفعة أهل العلم :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر: 9)، وقوله تعالى :﴿ يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ (المجادلة: 11 )، وقوله تعالى وهو يحصر الخشية في أهل العلم :﴿ إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ (فاطر: 28)؟

وفوق ذلك .. فقد أخبر رسول الله r بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، فقال:( أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)[6]، وصرح r بذلك فقال:( فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع )[7]

وقال r في حديث آخر:( قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه)[8]

وقال r:( ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه) قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وهو راوي الحديث: لأن أجلس ساعة فأفقه أحب إلي من أن أحيي ليلة القدر[9].

وقايس r بين بعض النوافل وبين طلب العلم، فقال لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ وقد رأى حرصه على النوافل :( يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة)[10]

وأخبر r أن تعليم العلم لا يختلف عن الصدقات، فقال:( أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم)[11]

ويروى أنه ذكر لرسول الله r رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال r:( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم )، ثم قال رسول الله :( إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)[12]

وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم، بل دليل على اجتباء الله له، قال r:( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)[13]، وقال r:( يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28))[14]

قلت: أراك تحفظ الكثير مما ورد في فضل العلم؟

قال: إن هذه الأحاديث وغيرها هي المحرك الذي حرك هممنا وحرك همم الأجيال الكثيرة من ورثة رسول الله r لطلب العلم .. فكيف لا أحفظها؟

قلت: من رواها لك .. أأخذتها من الثقاة العدول .. أم تراك أخذتها من المدلسين والضعفاء؟

نظر إلي بغضب، وقال: أتتهمني في ديني؟ .. كيف أرضى أن آخذ علم ديني وأقوال نبيي من المدلسين والضعفاء .. إن كل ما أرويه لدي أسانيده العالية إلى رسول الله r .. ولولا خشية الإطالة عليك لذكرتها لك سندا سندا .. وعرفتك برجالها رجلا رجلا ..

قلت: أنت محدث إذن .. فكيف ترضى بالرعي؟

قال: أراك تعود إلى ما بتتنا فيه .. أنا عبد لله .. وعبد الله لا يختار إلا ما اختار الله له .. ثم إن كل من تلاقيه من الرعاة والتجار والبنائين والخياطين يعلم ما أعلم، أو يعلم أكثر مما أعلم .. فهل يتركون حرفهم جميعا؟

قال ذلك، ثم انتبه إلى بعض نعجاته، وقد ابتعدت عن صواحبها، فأسرع إليها، وهو يحدو بقول الحافظ العراقي في ألفية السيرة:

مَرُّوا على خَيمَةِ أمِ مَعبَدِ
 

وهْيَ علَى طريقِهِمْ بمَرْصَدِ
  

وعندَها شَاةٌ أضرَّ الجَهْدُ
 

بِها وما بِها قوًى تَشتَدُّ
  

فَمَسَحَ النبيُّ منها الضَرْعَا
 

فَحَلبَتْ ما قدْ كفَاهُمْ وُسعَا
  

وَحَلَبَتْ بعدُ إناءً ءاخرَا
 

تركَ ذاكَ عندَها وَسَافَرَا
  

جزى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه
 

رفيقين حَلاّ خيمتَي أم معبد
  

هما نزلاها بالهدى فاهتدت به
 

فقد فاز من أمسى رفيق محمد‏
  

فما حملت من ناقة فوق رَحْلِها
 

أبرّ وأوفى ذمة من محمد
  

عادت الشاة إلى حيث صواحبها، فاقتربت منه، وقلت: أرى الشاة قد أطاعتك، أترى فهمت ما كنت تقرؤه عليها؟

قال: وما يمنعها أن تفهم .. إن لله في خلقه من الأسرار ما لا تطيق عقولنا أن تحيط به.

قلت: لقد كنت تقرأ من ألفية العراقي في السيرة .. فما تحفظ منها؟

ابتسم، وقال: أحفظها ـ بحمد الله ـ جميعا ..

صحت متعجبا: أتحفظ ألف بيت كاملة؟

ابتسم، وقال: وما ألف بيت .. إنها أيسر علينا بحمد الله من شربة ماء ..

قال ذلك، ثم نظر إلي، وقال: إن الذي تراه أمامك يحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر والنظم .. وأذكر أن أمي كانت تسكتني في صباي بألفية ابن مالك؟

قلت: أأمك تحفظها؟

قال: وكيف لا تحفظها؟ .. وما لها لا تحفظها؟ .. ألم تحفظ لنا الألفية النحو الذي نطق به رسول الله r ؟

قلت: بلى ..

قال: فلذلك ترى الجميع يحفظها هنا.

قلت: أراكم انشغلتم بعلوم الآلات عن علوم المقاصد؟

قال: وما علوم المقاصد؟

قلت: حفظ القرآن الكريم مثلا .. أليس الأجدر بكم بذل الجهد في حفظه بدل حفظ الأشعار التي لا تصلح إلا للأسمار.

قال: نحن لا نتحدث عن حفظ القرآن ..

قلت: لم؟ .. لقد يسره الله للذكر، فكيف عسر عليكم؟

قال: أرأيت لو أن من أهل بلدك من راح يعدد في محفوظاته سورة الفاتحة، ويفخر بها .. ما ترى موقف الناس منه؟

قلت: سيضحكون من بلاهته.

قال: فهكذا الأمر عندنا .. لو راح أحدنا يذكر حفظه للقرآن لأضحك الناس عليه.

قلت: أبلغ بهم احتقار القرآن الكريم إلى هذه الدرجة؟

قال: لا .. هذا من تعظيم القرآن لا من احتقاره .. هم يعتقدون أن حفظه فريضة لا نافلة، ولا يحق لأحد أن يزهو بأدائه الفريضة.

قلت: ما سر هذه الذاكرة العجيبة التي أوتيتموها من دون الناس؟

قال: نحن بحمد الله أخلصنا لله، وسلمنا أمورنا له .. ثم جلسنا بين أيدي ورثة رسول الله r نتأدب على أيديهم، وننهل من علومهم، وكأنا بين يدي رسول الله r  فرزقنا الله من الفتوح على أيديهم ما لم نكن نحلم به.

قلت: فدلني عليهم .. فأنا لا همة لي في حياتي إلا البحث عن ورثة رسول الله r .

قال: هم كثيرون، فأيهم تطلب؟

قلت: لقد ذكر لي معلم الهداية فما لعل هذه الحاضرة هي بلده .. ولعل ورثتها هم حملة مشعله.

قال: إن كان قد ذكر لك الفم الذي طهر لسانه بماء الحقائق، وزين بمواثيق الرقائق، وعتق من سجون العلائق، فصار بين الناس كالبدر المتلألئ، تنشق له حجب الظلمات، وتندك له صروح الطغاة .. فهذه البلاد هي بلاده، وهذه الأرض هي أرضه، وهذه الحاضرة هي حاضرته.

قلت: بلى .. لقد ذكر لي هذا .. إنك تحفظ ما قاله حرفا حرفا .. فهل التقيت بمعلم الهداية؟

قال: دعك من الفضول، فما وصل للأصول من تعلق بالفضول.

قلت: فأين أجد حامل هذا المشعل من مشاعل الهداية النبوية؟

قال: اذهب إلى مركز هذه المدينة .. وزر أي محضرة من محاضرها .. وستجد كل واحد منهم فمه هو ذلك الفم .. ووظيفته هي تلك الوظيفة.

***

سرت إلى حيث أرشدني الراعي، وأنا ممتلئ عجبا وإعجابا .. لقد أزاح ذلك الراعي ما تراكم على نفسي من الهموم والأحزان .. بل جعلني أشعر بأن البئر التي تركها رسول الله r .. بل الآبار التي تركها .. لا تزال ممتلئة بالمياه العذبة التي يمكن أن تسقي كل من يفد إليها ليرتوي من ينابيعها.

لا يمكنني أن أحدثك عن كل من لاقيته من الأساتذة والطلبة .. ولكني سأكتفي برجلين من الورثة .. أما أحدهما، فعرفت من صحبتي له قيمة الأدب وارتباط العلم بالأدب والأخلاق والروحانية.

وأما الثاني، فعرفت من صحبتي له أنواع المعارف وقيمتها وعلاقتها بالهدي النبوي.

 

1 ـ الآداب

أما أول الرجلين، فقد كان اسمه محمد الأمين[15] .. وكان رجلا ممتلئا بالحكمة والأدب والالتزام التام بالهدي النبوي ..

لقد كان أول رجل لاقيته عندما دخلت حاضرة (شنقيط) .. فقد دخلت أول محضرة من محاضر العلم فيها .. وقد كتب على بابها قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)

في مدخلها التقيته، وقد كان عليه سيما المتوسمين، ونور ورثة النبيين .. سلمت عليه، وقد أصابني من هيبته ما منعنى من الاقتراب منه أو الحديث معه مع ما كان يظهر عليه من التواضع والبساطة.

لكنه دعاني، وقال: مرحبا بك في بلدك، وأمام أهلك .. ومبارك لك تخرجك من مدرسة الحوار الغزالية، فقل من يتخرج من تلك المدرسة هذه الأيام.

قلت: كيف عرفت ذلك؟ .. أنا لم أر أحدا لأخبره.

قال: ألم ينبهك الراعي إلى أن لا تسأل مثل هذه الأسئلة؟

قلت: أجل .. وأعتذر إليك .. لاشك أنك صاحبي الرابع الذي أرشدني إليه معلم الهداية.

قال: أنا أحدهم .. فكل من تراه في هذه المدينة ورثة من ورثة الهدي النبوي في التعليم .. ولذلك ترى بركاته علينا معشر الشناقطة.

قلت: بمن أبدأ منكم .. فإني الآن في متاهة ..

قال: بي تبدأ .. وبي يبدأ كل طلبة العلم في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام.

قلت: لم؟

قال: أنا الذي أكسو الطلبة حلة أهل العلم .. ولا يمكن للطالب الذي لم يكتس بهذه الحلة أن يقبله أي معلم في هذه المدينة.

قلت: أعمامة هي تلك الحلة، أم قميص؟ .. وهل تشبه حلة الأزهر، أم تشبه حلة القرويين؟ .. أم تراها تشبه تلك الحلة التي أهداها الصالحي لمحمد الوارث[16]؟

قال: هذه الحلة هي حلة سيد المرسلين .. فلا يمكننا أن نلقن طالبا أي علم من العلوم ما لم يتحل بتلك الحلة المباركة.

قلت: فأين وجدتموها؟

قال: في هديه r .. وفي هدي ورثته من بعده .. فنحن ننهل منهما، ونربي عليهما، ونبدأ بهما.

قلت: فما أثواب هذه الحلة؟

قال: أربع .. ولا تكتمل الحلة إلا بها.

قلت: فما هي؟

قال: العبودية .. والمجاهدة .. والسمت .. والإفادة[17].

قلت: أهذه سنة سننتموها في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام، أم هي هدي تلقاه سلفكم عن خلفكم؟

قال: بل هي هدي تلقاه سلفنا عن خلفنا .. لقد كانت الأمة جميعا، وإلى فترة قريبة لا تعرف في العلم إلا هذا الهدي[18] إلى أن غزتها شلة المراهقين، فحولت مدارسها إلى مدارس المشاغبين.

قلت: ولكني أرى أن مدراس المشاغبين أكثر تطورا من هذه المحاضر التي أراها في هذه المدينة؟

قال: نعم هي أكثر منها تطورا في العمران .. ولكنها أعظم انحدارا في الإنسان.

قلت: فلم لم تجعلوها متفوقة في العمران؟

قال: لقد قعدت بنا الفاقة دون ذلك .. ثم إنا رأينا أن أكثر ما في ذلك العمران ترف، ولا يمكن للطالب أن يجمع بين الحقائق والترف.

قلت: فهل تسمح لي أن أستفيد منك ما ذكرته من حلة طلاب العلم النبوية؟

قال: ذلك واجب علي وعليك .. على أن تلتحق بطلبة هذه المحضرة .. لتنهل من آدابها ما يؤهلك لسائر المحاضر.

العبودية

كان أول فرع من فروع الآداب بدأنا به دراستنا في محضرة الآداب هو فرع (العبودية)، وقد سألت الشنقيطي عن سر البدء بالعبودية، فقال: لقوله تعالى :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1) .. فلا يمكن أن يتعلم من يتعلم إلا بتعليم الله .. ولا يحق لمن تعلم بتعليم الله أن يغفل عن الله، أويحاد الله، أو ينشغل بعلمه عن الله.

قلت: فما أركان العبودية التي سنتعلم آدباها في هذا القسم؟

قال: اثنان: التجرد، والعمل .. فلا تتحقق العبودية إلا لمن تجرد بعلمه لله، ثم عمل بما يقتضيه علمه لوجه الله.

قلت: فهل ستعلمني علوم ذلك؟

قال: اجلس مع زملائك من طلبة العلم، وستتعلم معهم أسرار هذين الركنين.

التجرد:

جلست مع زملائي في حلقة العلم، وقد بدا لي أنهم كلهم طلبة جدد، فلم يكن أحد منهم يعرف الآخر .. لم نلبث إلا قليلا، حتى جاء الشنقيطي، وسلم علينا بأدب وتواضع، ثم راح يردد قوله r :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)[19]

ثم قال: إن هذا الحديث الذي دأب أهل العلم على استفتاح مجالسهم ومصنفاتهم به[20] هو الأساس الذي ينبغي أن تبدأ حياتكم به .. فلا يمكن للعالم ولطالب العلم أن يتحقق بعبودية العلماء حتى يعيشه ويتذوقه وتسير عليه حياته جميعا.

لقد ورد عن نبينا r الأحاديث الكثيرة المنبئة عن خطر قصد غير الله بطلب العلم، ففي الحديث الصحيح يصور رسول الله r مشهدا من مشاهد الآخرة، فيقول :( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبك ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء ، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال : قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن . قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)[21]

وفي حديث آخر قال r :( ثلاثة مهلكون عند الحساب : جواد وشجاع وعالم)[22]

وقال r :( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)[23]

وفي الحديث القدسي يقول r :( قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ، إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى ، فيقول الله لملائكته : اقبلوا هذا وألقوا هذا ، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا ، فيقول : نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي)[24]

وفي رواية أخرى:( إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اقبلوا هذا وردوا هذا ، فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل ، فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي)

وفي رواية أخرى مرسلة :( إن الملائكة يرفعون عمل العبد من عباد الله يستكثرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم : إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إن عبدي هذا لم يخلص لي في عمله فاجعلوه في سجين ، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على نفسه ، إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين)[25]

وفي حديث آخر قال r :( إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة)[26]

وفي حديث آخر قال r :( تعوذوا بالله من جب الحزن واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة يدخله القراء المراءون بأعمالهم ، وإن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)[27]

قال بعض الطلبة: فكيف نتقي هذا الخطر العظيم الذي يهدد أهل العلم؟

قال: لا يتحقق ذلك إلا بأن تتجردوا لله، فلا تقصدوا بعلمكم أي غرض دنيوي، من تحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو ‏تميز عن الأقران .. وغير ذلك مما تشتهيه النفوس ..

قلت: ألا ترى ـ يا شيخنا الجليل ـ أن ذلك قد يقف بعجلة العلم؟

قال: ولم؟

قلت: نحن نرى في واقعنا أن طللبة العلم لا يستحثهم إلا الجاه، والشهادات العالية، والمناصب الرفيعة، والأموال التي تدر عليهم من كل محل .. وفوق ذلك كله نيلهم الجوائز العالمية الكبرى التي يسيل لها لعاب الحريصين.

قال: لا حرج أن يسلم الطالب المجد، والعالم الفحل كل تلك الجوائز .. ولكن الخطر الكبير في أن يقصدها.

قلت: ما الفرق بينهما؟

قال: لقد فرق رسول الله r بينهما عندما قيل له: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن)[28]

قلت: فما سر هذا التفريق؟

قال: عندما تقصد شيئا، وتجعله هدفا بين عينيك، فإنك لن تتحرك إلا من خلاله، وذاك يحجزك عن خير كثير  .. وقد يضعك بين يدي شر كثير.

قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.

قال: لقد كنت في المدرسة الغزالية .. ولعلك سمعت الغزالي، وهو يقول :( كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟)[29]

قلت: بلى .. سمعت هذا.

قال: أرأيت لو أن هؤلاء الطلبة الذين انشغلوا بما كفوا .. وضعوا بين أعينهم طاعة الله، فراحوا يبحثون في فروض الأعيان والكفاية ما يحققها .. هل ترى مثل هؤلاء يتركون لأهل الذمة الانشغال بهذه العلوم دونهم؟

قلت: لا .. لا أحسبهم يفعلون ذلك ..

قال: وحينذاك ستكفى الأمة هذه الناحية كما تكفى غيرها من النواحي، ولا يتحقق ذلك إلا ببركة الإخلاص والتجرد.

قلت: صحيح ما ذكرت .. ولو أنهم فعلوا ذلك لكنا الآن أحسن حالا .. ولكن الوضع الآن مختلف.

قال: لا .. الوضع واحد .. الإنسان واحد في جميع الأزمان.

قلت: كيف ذلك .. ونحن نرى أن أكثر ما وصلنا إليه من تطور لم نصل إليه إلا ببركات حب الجاه والمال والشهرة؟

قال: ولكن شؤم حب المال والجاه والشهرة جعل هذا التطور الذي تفخر به البشرية تطورا ممحوق البركة .. ولو أنها رعته بالإخلاص والتجرد لكان شأنها الآن مختلفا تماما.

قلت: كيف ذلك؟

قال: نحن ننظر إلى ما أوتينا، ولم ننظر إلى ما لم نؤت .. فانشغلنا بما أوتينا، وتصورنا أنه النهاية .. ولو فكرنا فيما لم نؤت مع قدرتنا على أن يكون لنا لاعتبرنا أنفسنا متخلفين لا متقدمين، وفقراء لا أغنياء، وجهلة لا متعلمين.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك .. ألا ترى أن الشركات والأفراد .. وكل مراكز البحث تحتكر الكثير من بحوثها .. بل تشح به حتى يبقى غيرها تابعا لها .. وحتى تنسب براءات الاكتشاف والاختراع إليها لا إلى غيرها.

قلت: أجل .. أرى ذلك.

قال: ألا ترى أن ذلك يقف في وجه البحث العلمي؟

قلت: بلى ..

قال: وكيف يكون الحال لو أن هذه الجهات تحلت بالإخلاص، فراحت تنشر بصدق كل ما توصلت إليه من علم، لا يهمها هل نسب إليها أم لم ينسب؟

قلت: حينها يختلف الوضع تماما .. حينها ستتحول الأرض جميعا إلى مركز أبحاث موحد .. وحينها سيكون الإنتاج العلمي مضاعفا.

قال: ذلك بعض بركات الإخلاص ..

قلت: وما جميع بركاته؟

قال: الإخلاص يحول بين العلماء وطلبه العلم وبين الأهواء .. فلذلك سيخدم العلم الحاجات التي تتطلبها الحكمة، لا الحاجات التي يتطلبها الهوى.

قلت: وحينها ماذا سيحصل؟

قال: حينها لن تكون هناك قنابل نووية، ولا تلوت بيئة، ولا انحراف إنترنت، ولا قنوات ماجنة، ولا صحف فضائح ..

قلت: تقصد أن يمتلئ العالم بالسلام.

قال: أجل .. حينها يعم السلام الذي جاء به الإسلام العالم .. فلن تشعر البشرية بلذة السلام إلا في رحاب الإسلام.

قلت: كل ما ذكرته جميل .. ولكن .. ألم تقرأ ما ذكر الغزالي من أن الجاه محبوب بالطبع؟

قال: بلى .. قرأت ذلك.

قلت: أتريد منا أن نقهر طبعنا، أم تريد من البشرية أن تتمرد على الفطرة التي فطرت عليها.

قال: لقد ذكر لنا نبينا r ما نملأ به هذه الفطرة .. وبما هو أكمل وأعظم من كل جاه ومنصب.

قلت: فحدثني حديث ذلك.

قال: من ذلك ما أخبر r عنه وهو يعدد فضل طالب العلم، فقال:( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السم?وات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)[30]

وقال r:( ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة)[31]

ويخبر r عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فعن صفوان بن عسال المرادي ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت النبي وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)[32]

بل إنه r يرفع درجة أهل العلم إلى درجة الأنبياء، فيقول:( من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة)[33]

أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال r :( من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر)[34]

وروي عن أبي ذر، وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قالا :( لباب يتعلمه الرجل أحب إني من ألف ركعة تطوعا )، وقالا: قال رسول الله : (إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد)[35]

ومن أجور العلم أنه يكفر الذنوب، مر رجلان على رسول الله r ، وهو يذكر فقال: (اجلسا فإنكما على خير)، فلما قام رسول الله، وتفرق عنه أصحابه قاما فقالا: يا رسول الله إنك قلت لنا: اجلسا فإنكما على خير، ألنا خاصة أم للناس عامة، قال: (ما من عبد يطلب العلم إلا كان كفارة ما تقدم)[36]

ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال r :( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)[37]

وفي حديث آخر مفصل، قال رسول الله r:( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )[38]

وفوق هذا .. فقد ورد في حديث اختلف العلماء في رفعه ووقفه ـ وقد كان شيخنا الوارث يرى أن كلا الأمرين متقاربين، فكل ما ورد فيه مما ورد التنصيص عليه، وقول الصحابة أثر من آثار النبوة وهدي من هديها ـ وهذا الحديث هو ما حدث به معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال :( تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء)[39]

العمل:

بقينا فترة مع الشنقيطي نتعلم أسرار التجرد لطلب العلم حتى شعرنا بأنفسنا ترق، وبعقولنا تتقدس، وبأرواحنا تطمح إلى ما طمحت إليه أرواح الهمم العالية ..

بعد أن رأى الشنقيطي منا ذلك، قال في حلقة من الحلقات، بعد أن أجرى لنا بعض الاختبارات: مبارك لكم فهمكم لسر الإخلاص والتجر .. فهلموا إلى العمل .. فلا ينفع الإخلاص من دون عمل.

لقد ورد في النصوص الكثيرة عن رسول الله r اعتبار العمل ركنا من أركان العلم النافع .. فلا يكمل العلم إلا بالعمل، كما لا يصلح العمل إلا بالعلم.

ولهذا كان r يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وهو العلم الذي لا يستفيد منه صاحبه عملا صالحا يقربه إلى ربه، قال r :( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها)[40]

وأخبر r عن بعض مشاهد المعاناة التي يجدها من لم يعمل بعلمه، فقال :( يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه)[41]

وقال r :( الزبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال: لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم)[42]

وقال r :( إن أناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار، فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم ؟ فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)[43]

وقال r :( كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به)[44]

وقال r :( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه)[45]

وأخبر r أن من الأسئلة الخطيرة التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، وعلى أساسها يقرر مصيره، سؤاله عن علمه فيما عمل فيه، قال r :( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه)[46]

وقال r :( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم)[47]

وقال r :( ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها ما أراد بها)[48]، قال جعفر: كان مالك بن دينار إذا حدث بهذا الحديث بكى حتى ينقطع، ثم يقول : تحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله ـ عز وجل ـ سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به.

ولهذا اعتبر r من لم يعمل بعلمه شر الناس، فقد سئل r : يا رسول الله أي الناس شر؟ فقال r :( اللهم اغفر ، سل عن الخير ولا تسل عن الشر ، شرار الناس شرار العلماء)[49]

وفي الحديث عن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله r إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام، قال: فإذا هم قوم كأنهم الإبل الوحشية طامحة أبصارهم ليس لهم هم إلا شاة أو بعير، فانصرفت إلى رسول الله r فقال: يا عمار ما عملت؟ فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السهوة، فقال : (يا عمار ألا أخبرك بأعجب منهم؟ قوم علموا بما جهل أولئك، ثم سهوا كسهوهم)[50]

وشبه رسول الله r من يعلم الناس الخير، وينسى نفسه بالسراج الذي يضيء لغيره، وهو يحرق نفسه، قال r :( مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه .. )[51]

بل إنه r ـ وفق ذلك كله ـ سماه منافقا، فقال:( إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقا عليم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون)[52]

وفي حديث آخر نفى r الإيمان على من لم يجمع بين العلم والعمل، فقال :( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)[53]

قلت: ما سر هذا  التشدد الذي ورد في النصوص المقدسة على المزج بين العلم والعمل؟

قال: لقد كنت في المدرسة الغزالية، ولعلك سمعت الغزالي، وهو يقول عند ذكره لأصناف الغرور والمغترين .. لقد قال :( ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار؛ المشغولين بالفسق والفجور القاصرين هممهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائباً عن الدجال يتكالب على الدنيا، ويتبع الهوى عن التقوى، ويستجرئ الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى، ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ويتخذونه أيضاً آلة ووسيلة في الشر وإتباع الهوى، ويتسلسل ذلك، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده، ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله وفي مطعمه وملبسه ومسكنه، فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلاً وألفي سنة، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، ثم العجب من جهله حيث يقول: (إنما الأعمال بالنيات)[54]، وقد قصدت بذلك نشر علم الدين؛ فإن استعماله هو الفساد، فالمعصية منه لا مني، وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير، وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه، والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه، وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفاً من قاطع طريق وأعد له خيلاً وأسباباً يستعين بها على مقصوده؛ ويقول إنما أردت الذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة؛ وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى، فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات، فإن صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي)[55]

قلت: بلى .. سمعته يذكر ذلك .. وسمعته يذكر ـ مع ذلك ـ تشدد الورثة في هذا الباب .. فقد ذكر أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب.

وذكر أن رجلا قال لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه فقال: (كفى بترك العلم إضاعة له)

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية.

وقال : سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه، فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة ويطفىء مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ وما أجدب القلوب! فوا الله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى.

وقال : أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً، وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها.

وقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ : ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات.

وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ : إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين.

وقال الحسن: تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية والعلماء همتهم الرعاية.

وقال: لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء.

وقال : عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة.

وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندماً؟ قال:أما في عاجل الدنيا، فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما عند الموت فعالم مفوط.

وقال سفيان الثوري : يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

وقال الفضيل ابن عياض: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالماً تلعب به الدنيا.

وقال يحيى بن معاذ: إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا.

وكان يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية واثوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية؟ وقال سعيد بن المسيب : إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص.

وقال مالك بن دينار : قرأت في بعض الكتب السالفة إن الله تعالى يقول إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه.

وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور عملهم.

وقيل لبعض العارفين: أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله؟ قال: لاشك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى.

وقال سهل : العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل طله هباء إلا الإخلاص.

وقال: الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به.

وقال صالح بن كيسان البصري: أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة.

وقال سرى السقطي: اعتزل رجل للتعبد كان حريصاً على طلب علم الظاهر فسألته فقال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي :( إلى كم تضيع العلم ضيعك الله)، فقلت: إني لأحفظه، فقال :( حفظ العلم العمل به)، فتركت الطلب وأقبلت على العمل.

وقال مالك : إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرون عليه شيئاً.

وقال الأوزاعي : شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه.

وقال الفضيل بن عياض : بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان.

وقال حاتم الأصم: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسبب وهلك هو.

وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.

وقال إبراهيم بن أدهم: مررت بحجر بمكة مكتوب عليه (اقلبني تعتبر)، فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم؟

وقال ابن السماك : كم من مذكر بالله ناس لله! وكم من مخوف بالله جريء على الله: وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله! وكم من داع إلى الله فار من الله! وكم من تال كتاب كتاب الله منسلخ عن آيات الله!

وقال إبراهيم بن أدهم : لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.

وقال بعضهم: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، ويخوفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم، يقربون الأغنياء دون الفقراء، يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال؛ يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، أولئك الجبارون أعداء الرحمن.

قال طالب كان يجلس بجانبي: وسمعته يحدثنا من أحاديث الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في هذا مما وردت به الآثار، فذكر أن عيسى u قال: (مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى)

وذكر لنا عنه قوله :( كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على طريق دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟)

وقال: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها، فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد)

وفي أخبار داود u حكاية عن الله تعالى :( إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً، ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً)

وذكر لنا أن رجلاً كان يخدم موسى u، فجعل يقول: حدثني موسى صفي الله، حدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى u فجعل يسأل عنه، ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى u : أتعرف فلاناً؟ قال: نعم، قال: هو هذا الخنزير، فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.

قال الشنقيطي: أتدرون سر كل هذه التشديدات؟

قلنا: ما سرها؟

قال: شيئان: أما أحدهما، فيرتبط بالعالم الذي انشغل بالعلم عن العمل، وأما الثاني، فبالذين يرون العالم، ويسمعون منه.

قلنا: فحدثنا عن الأول.

قال: لقد ضرب الله تعالى لذلك مثلين، فقال في أولهما :﴿  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (لأعراف:175 ـ 176)، فهو مثال على من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمله يلهث أو تتركه يلهث، انسلخ من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.

ولذلك ورد في الآثار تشبيهه بالسراج الذي يضيئ لغيره، بينما هو يحترق.

أما الثاني، فقوله تعالى عن بني إسرائيل :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.

قلت: فكيف تطبق هذين المثلين على ما ورد في النصوص المقدسة من عقوبة الذي لم يعمل بعلمه؟

قال: إن القرآن الكريم يخبرنا عن الحقيقة من منبعها الصافي .. هو لا يستعمل ألوان الطلاء التي نملأ بها حياتنا خداعا وغرورا .. إنه يواجهنا بالحقيقة .. إنه يقول بصراحة لمن تعلم العلوم الكثيرة، واجتهد في أن يقرأ المجلدات الضخمة: تريث قليلا، وانظر إلى نفسك في مرآة الحقائق، واقرأها .. ولا تنشغل بالقراءة عنها، فلعلك تجد فيها من الأدواء ما يعيد لها استقامتها وصحتها وعافيتها.

قلت: ولكن القرآن الكريم يشبه هذا الذي يصيح فيه بهذا بالحمار والكلب؟

قال: أجل .. إنه يقول له: إن لم تفعل ذلك، فلا فرق بينك وبين الحمار والكلب.. فالحمار يحمل العلوم لكنه لا يستوعبها، ولا يعيشها .. والكلب ليس له من هم إلا اللهث، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.

وهكذا طالب العلم الذي يظل يلهث وراء العلوم غافلا عن التحقق بها، أو لاهثا وراء مكاسب العلوم المرتبطة بالطين، غافلا عن مكاسب العلوم المرتبطة بحقيقته.

قلت: ولكن كيف يهان العالم وطالب العلم كل هذه الإهانة؟

قال: هو الذي أهان نفسه ..

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو لقنا آلة جميع المعارف والعلوم .. ووهبنا لها من الذكاء من الاصطناعي ما يجعلها تستطيع أن تقوم بأي عمل .. هل يخرجها ذلك من كونها آلة؟

قلت: لا .. نعم هي آلة ثمينة .. ولكنها تظل آلة .. ولو عرضت نفسها على المرآة، فلن ترى غير آلة.

قال: فهكذا العالم الذي لم يعمل بعلمه .. إنه كسائر الناس .. له شهواتهم وأهواؤهم ومطامحهم، هو في الظاهر اختلف عنهم بعلمه، لكنه في الحقيقة بقي هو هو .. بل ربما يكون قد غذى لطائفه بالكبر والخداع والغش، فزاد في انحرافه على انحراف العوام .. ولذلك إذا ذهب إلى محكمة الله، فإنه لن يرى في مرآتها إلا حقيقته التي سترها بالألفاظ التي أجاد استعمالها والتلاعب بها.

قلنا: وعينا هذا .. وأدركنا خطره .. فحدثنا عن السر الثاني المرتبط بالذين يرون العالم، ويسمعون منه.

قال: هذا مما يزيد طين العالم بلة .. إن العالم في هذا المحل كاللص، بل هو أخطر من ذلك .. هو كالمجرم .. لا .. بل هو كالمحارب .. بل هو أعظم من ذلك بكثير.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد عبر عمر ـ رضي الله عنه ـ عن ذلك، فقال: (إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق)، وقال :( ثلاث بهن ينهدم الزمان إحداهن زلة العالم)

وعبر عن ذلك معاذ ـ رضي الله عنه ـ فقال :( احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته)

قلت: زلة العالم هي خطؤه في علمه .. وخطؤه لا علاقة له بسلوكه .. ففرق بين الخطأ والخطيئة.

قال: الزلة زلتان: زلة الخطأ وزلة الخطيئة، وكلاهما مما لا ينجو منهما من لم يعمل بعلمه ..

لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)

وبين في موضع آخر سبب قسوة قلوبهم، فقال :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾  (المائدة:13)

لقد ذكر الله في هاتين الآيتين أن أول ما يصيب العالم قسوة القلب .. ذلك أن مقصد العلوم تهذيب الطباع وتليين القلوب .. فمن لم يلن قلبه مع أدوية العلوم، فلن يلين أبدا.

قلت: عرفت قسوة القلب .. وهي الخطيئة .. فأين زلة الخطأ؟

قال: لقد ذكرت الآية الثانية ذلك .. لقد ذكرت أن قسوة القلب أورثت فيهم خصلتين مذمومتين: أما إحداهما، فتحريف الكلم من بعد مواضعه .. وأما الثانية، فنسيانهم حظاً مما ذكروا به.

قلت: كيف ذلك؟

قال: العالم الذي لم يعمل بعلمه، سيجعل من علمه شباكا تصيد له ما يطلبه هواه، فلذلك قد يكتم ما أمر بنشره، وقد يحرف ما أمر بحفظه.

قلت: تقصد الفتاوى الضالة؟

قال: وأقصد الخطب الضالة والمواعظ الضالة والاحتساب الضال .. إن الانحراف يدخل على كل مشاعل الهداية إذا انحرف صاحبها.

قلت: أهذه فقط زلة الخطأ؟

قال: هناك زلة أخطر وأعمق .. إن الناس لا يسمعون بقدر ما يرون .. فلذلك تجدهم يتأثرون بسلوك العالم أكثر من تأثرهم بكلماته .. ومثل هذا العالم لن ينتج إلا المنحرفين.

وهناك صنف أخطر وأعظم يحول من العالم المنحرف معولا يهدم به الحقائق.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا ترى كيف تنهار الأحزاب الكبرى نتيجة للفضائح التي يقع فيها رؤساؤها؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: فالعالم ـ في أذهان الناس ـ ممثل للدين وللقيم، فإذا انحرف كان ذلك فرصة لمن يريد ضرب الدين أو تشويهه.

قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا أن رجلا قال لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فقال :( إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)، وقال تعالى :﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾ (الصف)، وقوله تعالى حكاية عن شعيب u :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )(هود: من الآية88)[56]

قال آخر: إن أذن لي سيدي أنشدته من الأشعار ما يؤيد كل ما ذكره من فنون الحكمة.

قال الشنقيطي: أنشدنا، فقد قال رسول الله r :( إن من البيان سحرا ، وإن من الشعر حكما)[57]

قال الطالب: لقد أنشد بعضهم يقول:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً
 

إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها‏
  

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً
 

فالموبقات لعمري أنت جانيها
  

تعيب ديناً وناساً راغبين لها
 

وأنت أكثر منهم رغبة فيها
  

وقال آخر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
 

عار عليك إذا فعلت عظيم
  

وقال آخر:

عجبت لمن يبكي على موت غيره
 

دموعا ولا يبكي على موته دما ‏
  

وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره
 

عظيماوفي عينيه عن عيبه عمى ‏
  

وقال آخر:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما
 

إذ عبت منهم أمورا أنت آتيها ‏
  

كالملبس الثوب من عري وعورته
 

للناس بادية من أن يواريها ‏
  

وأعظم الإثم بعد الشرك تعلمه
 

في كل نفس عماها عن مساويها ‏
  

عرفانها بعيوب الناس تبصرها منهم
 

ولا تبصر العيب الذي فيها ‏
  

وقال آخر:

مواعظ الواعظ لن تقبلا
 

حتى تعيها نفسه أولا ‏
  

يا قوم من أظلم من واعظ
 

خالف ما قد قاله في الملا ‏
  

أظهر بين الناس إحسانه
 

وبارز الرحمن لما خلا ‏
  

وقال آخر:

وبخت غيرك بالعمى فأفدته بصرا
 

وأنت محسن لعماكا ‏
  

وفتيلة المصباح تحرق نفسها
 

وتضيء للأعشى وأنت كذاكا ‏
  

وقال آخر:

يا أيها الرجل المقوم غيره
 

هلا لنفسك كان ذا التقويم ‏
  

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
 

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ‏
  

فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
 

بالقول منك وينفع التعليم ‏
  

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
 

عار عليك إذا فعلت عظيم ‏
  

قال آخر: وعينا ـ يا شيخنا ـ كل ما ذكرته من ضرورة مزج العلم بالعمل، وقد ملأتنا شوقا إلى العمل، كما ملأتنا رهبة من تركه .. فما الذي ييسر علينا العمل الذي يجعلنا نتحقق بالعبودية؟

قال: ستدرسون هنا عشرة علوم .. كلها علوم عمل .. ولن تخرجوا من هذا القسم حتى تتقنوها جميعا.

قلت: فما أولها؟

قال: أن يشغلكم علم العمل عن علم الجدل  .. لقد ضرب الغزالي لذلك مثالا، فقال :( فمثال من يعرض عن علم الأعمال، ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة، وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب، وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه)[58]

وفي هذا روي أن رجلاً جاء رسول الله r فقال: علمني من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ فقال r :( هل عرفت الرب تعالى؟) قال: نعم، قال: (فما صنعت في حقه؟) قال: ما شاء الله، فقال r : (هل عرفت الموت؟) قال نعم، قال: (فما أعددت له؟) قال: ما شاء الله، قال r :( إذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال نعلمك من غرائب العلم)[59]

قال آخر: فما الثاني؟

قال: أن لا تشينوا العلم بشيء من الطمع .. فلا أضيع للعلم من الطمع .. على هذا اتفق أهل الله من ورثة رسول الله r :

قال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة من أبي جعفر سلبته.

وقال أبو مزاحم الخاقاني: قيل لأبي الأحوص حدثنا، فقال: ليت لي نية، فقالوا له: إنك تؤجر، فقال شعراً:

يمنوني الخير الكثير وليتني
 

نجوت كفافاً لا عليّ ولا ليا
  

قال آخر: فما الثالث؟

قال: أن تتعلموا المداومة على مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والمحافظة على خوفه في جميع الحركات والسكنات والأقوال والأفعال .. فإن العلم أمانة، وقد قال تعالى آمرا هذه الأمة :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (لأنفال:27)، وقال مخبرا عن علماء بني إسرائيل ضاربا لنا المثل بهم :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾  (المائدة:44) .. لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله r :

قال الشافعي: ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع، وعليه بدوام السكينة والوقار والخشوع والورع والتواضع والخضوع.

ومما كتب مالك إلى الرشيد: إذا علمت علماً، فلْيُرَ عليك أثره، وسكينته وسمته، ووقاره، وحلمه. لقوله r :( العلماء ورثة الأنبياء)[60]

وقال عمر: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار.

 وعن بعض السلف قال: حق على العالم أن يتواضع لله، في سره ‏وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف عما أشكل عليه.

قال آخر: فما الرابع؟

قال: أن تتعلموا المحافظة على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام ‏للخواص والعوام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعين بالحق عند السلاطين، ‏باذلين أنفسكم لله لا تخافون فيه لومة لائم، ذاكرين قوله تعالى :﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾  (لقمان:17)، ذاكرين ما كان عليه رسول الله r وغيره من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه ‏في الله تعالى حتى كان لهم العقبى.

قال آخر: فما الخامس؟

قال: أن تتعلموا القيام بإظهار السنن، وإخماد البدع، والقيام لله في أمور الدين، وما فيه من ‏مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، لا ترضون من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل تأخذون أنفسكم بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام، وقد ‏يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد من الانتفاع ‏به ..

قال آخر: فما السادس؟

قال: أن تكثروا من الصلاة على ‏النبي r وتعظيمه، فإن محبته وإجلاله وتعظيمه r واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب ‏وسنة.

لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله r :

كان جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ إذا ذكر النبي r عنده: اصفرّ لوَنه، ‏وكان مالك ـ رضي الله عنه ـ إذا ذكر النبي r يتغير لونه وينحني. وكان ابن القاسم إذا ذكر النبي ‏r يجف لسانه في فيه هيبة لرسول الله r .

قال آخر: فما السابع؟

قال: أن تلازموا تلاوة القرآن الكريم، وأن تتعلموا الفكر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده.

لقد كان سلفكم من أهل العلم يختمون القرآن في كل سبعة أيام ، وكانوا يقولون:( من قرأ من القرآن ‏في كل سبعة أيام لم ينسه قط)

قال آخر: فما الثامن؟

قال: أن تتعلموا كيف تستعملون الرخص في محالها وعند الحاجة إليها، ووجود سببها ليقتدي به ‏نجيها، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.

قال آخر: فما التاسع؟

قال: أن تطهروا قلوبكم من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول ‏العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، ‏وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا ‏يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها. وقالوا: يطيب ‏القلب للعلم كما تطيب الأرض للزرع، فإذا طيب العلم ظهرت بركته، ونما كما ينمو زرعها، ويزكو إذا طيبت.

قال آخر: فما العاشر؟

قال: أن تأخذوا أنفسكم بالورع في جميع شؤونكم، وتتحروا الحلال في الطعام والشراب واللباس والمسكن، وفي جميع ما تحتاجون إليه لتستنير قلوبكم، وتصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به.

ولا تقنعوا لأنفسكم بظاهر الحل شرعاً، مهما أمكنكم التورع، ‏ولم تلجئكم حاجة، بل تطلبون الرتبة العالية، وتقتدون بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون ‏بجوازه، وأحق من اقتدى به في ذلك سيدنا رسول الله r حيث لم يأكل التمرة التي وجدها ‏في الطريق خشية أن تكون من الصدقة، مع بعد كونها منها[61]، ولأن أهل العلم يقتدي بهم ويؤخذ عنهم، فإذا لم يستعملوا ‏الورع فمن يستعمله؟

 

المجاهدة

بعد أن مكثنا مدة في الفرع الأول نتعلم علومه، ونتدرب على آدابه، انتقلنا إلى الفرع الثاني، وهو فرع المجاهدة، وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن سر اعتبار المجاهدة ركنا من أركان آداب طلبة العلم وأهله، فقرأ قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69)

ثم قال: هذه الآية تجيبكم على سؤالكم .. لقد وعد الله المجاهدين فيه أن يهديهم لسبيله .. فلذلك لا يمكن لطالب العلم أن يهتدي لسبل الله ما لم يجاهد نفسه في ذات الله.

ألستم ترون أن أول ما فعل جبريل u مع رسول الله r في أول لقاء له به أن غطه ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد[62]؟

قلنا: بلى.

قال: وكان بالإمكان في أول مرة أن يقول له :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق:1)؟

قلنا: بلى.

قال: ألم يكن رسول الله r إذا نزل عليه جبريل u بالوحي يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، ‏فإذا كان على ناقة جثت الناقة، وأصاب عنقها الأرض من شدة ما يناله r ‏عند نزول الوحي؟

قلنا: بلى .. ذلك كذلك .. فما سره؟ وما علاقته بالمجاهدة؟

قال: العلم ثقيل، فلا ينبغي أن يستخف به، ورسالة عظمى، فلا ينبغي إهانتها.

قلنا: وكيف يستخف به؟ وكيف تهان؟

قال: إذا لم يعطه طالبه حقه من الجهد والبحث والنظر والمعاناة كان مستخفا به، وكان مستهينا بالرسالة التي يحملها.

قلت: فما حقه من الجهد؟

قال: لقد جعل الله لكل مسألة من مسائل العلم مفتاحها من المجاهدة، فمن لم تبلغ مجاهدته حق مفتاحها، فإنه لن يظفر من ذلك العلم إلا بالظواهر التي تملؤه بالغفلة، وتملأ نفسه بالغرور.

قلت: ألهذا سمى العلماء الباحث في مسائل العلم مجتهدا؟

قال: أجل .. ولم يطلقوا عليه هذه اللقب العظيم إلا بعد أن عانى الأمرين في البحث عن حقيقة العلم الذي صار مجتهدا فيه.

قلت: ما نوع هذا الجهد؟

قال: يختلف باختلاف المسائل: قد يكون رحلة تحقيق، وقد يكون اجتهاد تحصيل ومراجعة ومطالعة، وقد يكون معاناة تأمل، وقد يكون معاناة حفظ.

الرحلة:

قلت: فحدثنا عن الرحلة .. هل هي شرط في المجاهدة؟

قال: قد تكون شرطا .. فمن لم يظفر بالعلم في أرضه، فعليه أن يرحل إلى غيرها .. إن طالب العلم كتلك الشياه التي رأيتها في الصحراء، إذا لم نجد لها كلأ في محل بحثنا لها عن كلأ في غيره.

قلت: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك .. لقد قال رسول الله r :( اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)[63]، إن رسول الله r في هذا الحديث يأمرنا بالرحلة، ولو إلى الصين .. فكل مكان يمكن أن ننال منه من العلم ما لم نكن نحلم بالتعرف عليه.

وقال في حديث آخر :( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة)[64]

قلت: لقد ذكرتني برحلة موسى u الطويلة من أجل البحث عن بعض مسائل العلم .. لقد مشي على قدميه إلى مجمع البحرين قاصداً الخضر u حتى بلغ منه الجهد، ومع ذلك لم يستقر، ‏ولم يهدأ له بال حتى بلغ مكان العالم الذي ذكره الله له.

قال تعالى يذكر ذلك :﴿  وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)﴾ (الكهف)

قال أحد الطلبة: وقد ذكر الله تعالى رحلة ذي القرنين الطويلة، وهي ممتلئة بالبحث عن العلم وأسبابه[65]، قال تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)﴾ (الكهف)

قال آخر: هذه رحلة موسى u .. فهل رحل محمد r في طلب العلم؟

قال: أجل .. ألم يتلق محمد r في رحلة الإسراء والمعراج من العلوم ما لم يتلق مثله في مكة المكرمة؟

قلنا: بلى .. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال عن الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1)، فاعتبر علة إسرائه هو أن يريه من آيات الله، وكل العلوم آيات الله.

وقال عن المعراج :﴿ النَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ (النجم)، فاعتبر رؤية آيات ربه الكبرى من مقاصد رحلته إلى السموات العلى.

قال: وهكذا وردت الآثار الكثيرة من هدي أهل الله من ورثة رسول الله r .. فقد أجمعوا على أنه لن ينال العلم من اكتفى بالراحة دون الرحلة إلى أهل العلم[66].

قال بعض الطلبة: لقد حدث أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله r قال: (لو أعيتني آية من كتاب الله، فلم أجد أحدا يفتحها علي إلا رجل ببرك الغماد لرحلت إليه)

قال آخر: وقد روي عن عامر بن شراحيل الشعبي .. الإمام الكبير من أئمة التابعين.. أنه خرج إلى مكة المكرمة من أجل ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال :( لعلي ألقى رجلا لقي النبي r أو من أصحاب النبي r )

وعن علي بن المديني قال: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ فقال :( بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب)

قال آخر: وعن أحمد بن حنبل رضي أنه قيل له: أيرحل الرجل في طلب العلو[67]؟ فقال: بلى والله شديدا، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر ـ رضي الله عنه ـ فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه.

قال آخر: وعن الشعبي قال ما علمت أن أحدا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق .. وعن سفيان عن رجل: أن مسروقا رحل في حرف، وأن أبا سعيد رحل في حرف.

قال آخر: وعن مكحول الدمشقي الإمام قال: كنت عبدا بمصر لامرأه من بني هذيل، فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل، فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء، حتى أتيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي، فقلت له: هل سمعت في النفل شيئا؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: (شهدت النبي r نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة)[68]

وعن ابن إسحاق قال: سمعت مكحولا يقول :( طفت الأرض في طلب العلم)

قال آخر: لقد حكى يعقوب بن سفيان عن نفسه حديثا عجيبا، فقال: كنت في رحلتي، فقلت نفقتي، فكنت أدمن الكتابة ليلا، وأقرأ نهارا، فلما كان ذات ليلة كنت جالسا أنسخ في السراج، وكان شتاء، فنزل  الماء في عيني، فلم أبصر شيئا، فبكيت على نفسي لانقطاعي عن بلدي وعلى ما فاتني من العلم، فغلبتني عيناي، فنمت، فرأيت النبي r في النوم، فناداني: يا يعقوب، لم بكيت؟ فقلت: يا رسول الله، ذهب بصري، فتحسرت على ما فاتني، فقال لي r : أدن مني، فدنوت منه، فأمر يده على عيني، كأنه يقرأ عليهما، ثم استيقظت، فأبصرت، فأخذت نسخي، وقعدت أكتب.

قال آخر: وحكى ابن أبي حاتم عن نفسه قال: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ‏ومائتين ثمانية أشهر، وكان في ‏نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ‏ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت ‏إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا علي رفيقي، فجعلت ‏أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني، وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد غدا علي، فقال: مر بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف، لا يمكنني، قال: ما ضعفك، قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا، فقال: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة، وقبضت منه نصف دينار.

قال آخر: لقد ذكر ابن المؤمل الحافظ الإمام الجوال الفضل بن محمد بن المسيب البيهقي الشعراني المتوفي سنة 282 ‏هـ وكان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال :( كنا نقول ما بقي بلد لم يدخله الفضل الشعراني في طلب الحديث إلا الأندلس)

قال آخر: وقال الإمام أبو عبد الله الحاكم يتحدث عن الحافظ البارع الجوال الزاهد القدوة محمد بن المسيب بن إسحاق الأرغياني المتوفي سنة ‏‏315 هـ  :( كان من العباد المجتهدين، سمعت غير واحد من مشايخنا يذكرون ‏عنه أنه قال: ما أعلم منبرا من منابر الإسلام بقي علي لم أدخله لسماع الحديث، وسمعت أبا إسحاق ‏المزكي يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: كنت أمشي في مصر، وفي كمي مائة جزء، في كل ‏جزء ألف حديث، وسمعت أبا علي الحافظ يقول: كان محمد بن المسيب يمشي بمصر، وفي كمه ‏مائة ألف حديث، كان دقيق الخط، وصار هذا كالمشهور من شأنه)

قال آخر: وكان المحدث الحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده الأصبهاني الرحالة من أئمة هذا ‏الشأن وثقاتهم ولد سنة 310 ، وسمع سنة ثماني عشرة وبعدها ورحل سنة ثلاثين إلى ‏نيسابور، فأدرك أبا حامد بن بلال، وكتب عن الأصم نحوا من ألف جزء، ثم رحل إلى بغداد، فلقي ‏ابن البختري والصفار، ولقي بدمشق خيثمة بن سليمان وطبقته، ولقي بمكة أبا سعيد بن الأعرابي، ‏وبمصر أبا الطاهر المديني، وببخارى ومرو وبلخ جماعة .. وطوف الأقاليم، وكتب بيده عدة أحمال، ‏وبقي في الرحلة نحوا من أربعين سنة، ثم عاد إلى وطنه شيخا، فتزوج ورزق الأولاد، ويقال: إنه ‏رجع إلى بلده أصبهان قدمها أربعون حملا من الكتب والاجزاء.

قال آخر: ومنهم الحافظ العالم المكثر الجوال أبو الفضل محمد بن طاهر بن ‏علي المقدسي (المتوفى سنة 507) ما كان على وجه الأرض له نظير، قال متحدثا عن نفسه‏:( كتبت الصحيحين وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة) .. وقال :( بلت الدم في طلب الحديث مرتين، ‏مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي حافيا في الحر، فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب ‏الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري)

قال آخر: ومنهم الحافظ الإمام عبيد الله بن سعيد بن حاتم أبو نصر السجزي المتوفي سنة 444 ‏هـ ، وقد كان من أحفظ أهل زمانه للحديث طوف الآفاق في طلب الحديث، قال عنه الحافظ أبو إسحاق الحبال: كنت يوما عند أبي نصر السجزي، فدق الباب، فقمت ففتحته، فدخلت ‏امرأة، وأخرجت كيسا فيه ألف دينار، فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى، قال: ما المقصود، قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزوج، ولكن لأخدمك، فأمرها بأخذ الكيس، وأن تنصرف، فلما انصرفت قال: (خرجت من سجستان بنيه طلب العلم، ومتى ‏تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئا)

قال آخر: ومنهم الإمام الكبير الجهبذ أبو حاتم محمد بن إدريس بن منذر الحنظلي الرازي إمام المحدثين ‏في الحديث وفي الجرح والتعديل ومعرفة العلل والرجال (ت 277هـ) قال عن نفسه :( أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على ‏قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى زاد على ألف فرسخ، فتركته .. أما ما كنت سرت ‏أنا من الكوفة إلى بغداد، فمالا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من ‏البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت ‏المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى ‏حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن انطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، ‏وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان، فسمعت، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان ‏إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيا .. كل هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة ‏أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة ثلاث عشرة ومائتين في شهر رمضان، ورجعت سنة ‏احدى وعشرين ومائتين)

التحصيل:

قلت: عرفنا الرحلة، وعرفنا جهود أهل الله من ورثة رسول الله r فيها .. فحدثنا عن التحصيل والمراجعة .. وهل هي شرط في المجاهدة؟

قال: أجل .. هي شرط لا مناص منه لطالب العلم .. لقد أشار القرآن الكريم إليها، فقال تعالى مخبرا عن حرص رسول الله r أن لا ينسى حرفا واحدا مما يوحى إليه :﴿ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ (طه : 114)، وقال :﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾ (القيامة)

وبمثل هذا وردت الأسانيد، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل :﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ أي جمعه في صدرك، ثم تقرأه، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ فاستمع له وأنصت، ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه[69].

وفي رواية أخرى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله :﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾

وقال في الآية واصفا رسول الله r :( كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله له :﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا ﴾ أن نجمعه لك ﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾ أن نقرئك فلا تنسى)[70]

قلت: ولكن الله طمأن نبيه r إلى أنه لن ينسى حرفا مما قرأه، فقال مبشرا نبيه r: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)

قال: ولكن الله تعالى لم يبشرنا بما بشر به نبيه r .. فلذلك لا ينبغي أن يفتر طالب العلم لحظة عن علمه .. لقد أشار رسول الله r إلى ذلك، فقال :( إن مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)[71]، وفي حديث آخر قال r :( تعاهدوا القرآن، فوالذى نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها)[72]

قلت: فحدثنا عن هدي الورثة في ذلك.

قال: لقد حدث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن نفسه قال: طلبت العلم فلم أجد أكثر منه في ‏الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنة، فيقال لي: نائم، فأتوسد ردائي ثم اضطجع، حتى يخرج إلي الظهر، فيقول: متى ‏كنت هنا يا ابن عم رسول الله r؟ فأقول: منذ زمن طويل، فيقول: بئس ما صنعت.. هل ‏أعلمتني ؟ فأقول: أردت إن تخرج إلي وقد قضيت حاجتك.

وقال: وجدت أكثر حديث رسول الله r عند هذا الحي من الأنصار، والله إن كنت لآتي الرجل منهم فيقال: هو نائم، فلو شئت أن ‏يوقظ لي، فأدعه حتى يخرج لأستطيب بذلك حديثه[73].

وقال: لما قبض رسول الله r قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول ‏الله r فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك، وفي ‏الناس من أصحاب رسول الله r من فيهم، قال: فتركته وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله ‏r عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد الباب، ‏فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله r ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك، فأقول: ‏بل أنت أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، ‏فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني[74].

وقال محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ـ رضي الله عنهم ـ: كنت أطلب العلم في ‏دور الأنصار حتى أني لأتوسد عتبة أحدهم فيوقظني الإنسان فيقول: إن سيدك قد خرج إلى الصلاة وما يحسبني إلا ‏عبده.

قال بعض الطلبة: لقد سُئل بعض السلف: ما بلغ من اشتغالك بالعلم؟ قال: هو سلوتي إذا اهتممت، ولذتي ‏إذا سلوت.

وأنشد الشافعي لنفسه:

وما أنا بالغيران من دون أهله
 

إذا أنا لم أضح غيوراً على علمي ‏
  

طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجة
 

و صيقل ذهني والمفرج عن همي‏
  

وقال: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم، والصبر على كل عارض دون ‏طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.

وقال الربيع يصف الشافعي: لم أر الشافعي آكلاً بنهار ولا نائماً بليل لاشتغاله بالتصنيف، ومع ذلك فلا يحمل نفسه من ذلك فوق ‏طاقتها كيلا تسأم ويمل، فربما نفرت نفرة لا يمكنه تداركها، بل يكون أمره في ذلك قصداً، وكل إنسان أبصر بنفسه.

قلت: فما الذي يعيننا على الوصول إلى ما وصل إليه أصحاب هذه الهمم العالية؟

قال: لقد ذكر سلفنا من العلماء نقلا عن سلفهم إلى السلف الأول الذي تربى على يدي رسول الله r في ذلك سننا، سأذكر لكم سبعة منها.

قلت: فما أولاها؟

قال: أن يبادر طالب العلم شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل فإن كل ساعة تمضي من ‏عمره لا بدل لها ولا عوض عنها.

قال المنصور بن المهدي المأمون : أيحسن بمثلي أن يتعلم؟ فقال: والله لأن تموت طالبًا للعلم خيرا أن تموت قانعًا بالجهل.

وحكى عن ثعلب: أنه كان لا يفارفه كتاب يدرسه ، فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له ‏مقدار سورة يضع فيها كتاب ويقرأ.

وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته ‏دابة.

وقال بعضهم: متى تبلغ من العلم مبلغًا يرضى، وأنت تؤثر النوم على الدرس والأكل على القراءة .

وكان بعضهم إذا دخل الحمام يجعل من خارجه قارئاً يقرأ عليه.‏

وذكر عن النضر بن شميل قوله :( لن تجد لذة العلم حتى تجوع وتنسي أنك جائع)

وكان الخليل بن أحمد يقول : (أثقل ساعات عليَّ ساعة آكل فيها)

قلت: فما الثاني؟

قال: أن يقطع طالب العلم ما يقدر على قطعه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل ‏الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب الورثة التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن ‏تقليلاً للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال‏:( العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك)‏

قلت: فما الثالث؟

قال: أن يقنع من القوت بما تيسر، وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما ستر مثله، وإن كان خلقاً .. فبالصبر على ضيق العيش، ‏ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال، فتفجر فيه ينابيع الحكم.

قال الشافعي : لا يطلب أحد ‏هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح.

وقال: لا يدرك ‏العلم إلا بالصبر على الذل، ومن آثر طلب العلم على الاحتراف فإن الله يعوضه ويأتيه بالرزق من حيث لا يحتسب.

قلت: فما الرابع؟

قال: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة لها، ‏وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وحفظ الليل ‏أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود الأماكن للحفظ كل مكان بعيد عن الملهيات، ‏كالنبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً.

قلت: فما الخامس؟

قال: أكل القدر اليسير من الحلال، لأن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة، ‏وقصور الذهن، وفتور الحواس، وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية، والتعرض لخطر الأسقام البدنية، كما ‏قيل:

فإن الداء أكثر ما تراه
 

يكون من الطعام أو الشراب ‏
  

ومن رام الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه، مع كثرة الأكل والشرب والنوم، فقد رام مستحيلاً في العادة.

والأولى أن ‏يكون أكثر ما يؤخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي r قال :( ما ملأ ابن آدم وعاء ‏شراً من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)[75]، فإن زاد فهو إسراف، وقد قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (لأعراف:31)

قلت: فما السادس؟

قال: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث ‏الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل.

ضحك بعض أصحابي، وقال: لقد ذكرتني برجل قال لخالد بن صفوان : مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار وتدارسون الآثار وتناشدون ‏الأشعار وقع عليَّ النوم؟ فقال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.

وذكر عن سليمان الداري قال: إذا رأيت الرجل ينام عند الحديث، فأعلم أنه لا يشتهيه، فإن كان يشتهيه ‏طار نعاسه.

قال: ومع ذلك ينبغي لطالب العلم أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله، ولا يضيع عليه زمانه، فقد كان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه ‏في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض.

وينبغي أن يتجنب ما يعاب من الهزل ‏والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.‏

قلت: فما السابع؟

قال: أن يترك كثرة المخالطة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، ولا سيما لغير الجنس، وخصوصاً لمن كثر لعبه ‏وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، ‏وذهاب الدين إن كانت لغير أهله.

والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن ‏النبي r :( اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك)[76]، فإن شرع أو تعرض لصحبة من ‏يضيع عمره معه، فليتلطف في قطع عشرته في أوائل الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن ‏الجاري على ألسنة الفقهاء :( الدفع أسهل من الرفع)

فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحاً، ديناً، تقياً، ورعا، كثير ‏الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره، وقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ :

لا تصحب أخا الجهل
 

و إيَّاك وإيَّاه ‏
  

فكم من جاهل أردى
 

حليماً حين آخاه ‏
  

يقاس المرء بالمرء
 

إذا ما هو ماشاه ‏
  

وقال آخر:

إن أخاك الصدق من كان معك
 

و من يضر نفسه لينفعك ‏
  

و من إذا ريب زمان صدعك
 

شتت شمل نفسه ليجمعك ‏
  

التأمل:

قلت: عرفنا ضرورة بذل الجهد للتحصيل .. فحدثنا عن التأمل .. وما مرادك منه؟ وهل هو شرط في المجاهدة؟

قال: أجل .. فلا ينبغي لطالب العلم أن يشغل جسده، ويترك عقله كسولا لا يبحث ولا يتأمل ولا يفكر.

قلت: فهل لهذا من دليل؟

قال: كل الأدلة مع هذا .. إن القرآن الكريم لا يحض على شيء كما يحض على استعمال العقل والتأمل، لقد قال تعالى مبينا الغرض من نزول القرآن الكريم:﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29)

فلآلئ الحقائق وجواهرها لا يمكن أن ينالها من قعد به عقله عن التفكير والتأمل، التفكر الذي لا ينشغل بالظواهر عن البواطن، أو ينشغل بالطلاء على الحقيقة.

ألم تسمع إلى الغزالي، وهو يقول في (جواهر القرآن) :( إني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها، فتستغني بنيل جواهرها، أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها، أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها، أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها، فظفروا بالكبريت الأحمر، وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر، وساحوا في سواحلها، فالتقطوا العنبر الأشهب والعود الرطب الأنضر، وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر)[77]

قلت: بلى .. وقد سمعته ينقل عن محمد بن كعب القرظي قوله :( من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه)

ونقل عن بعض العلماء قوله:( هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات)

ونقل عن مالك بن دينار أنه كان يقول: (ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض)

قال بعض الطلبة: بل نقل على علي ـ رضي الله عنه ـ قوله :( لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب)، مع أن تفسيرها الظاهر لا يصل إلى هذا المقدار، بل هو دونه بكثير.

وقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ :( لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً)

ونقل عن بعض العلماء قوله: (لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر)، وعن آخر قوله :( القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم. ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع)

قال: لا تحسبن هؤلاء الورثة مبتدعين في هذا، فإن القرآن كلام الله، وكلام الله لا يمكن لأحد أن يحصي أغراضه..

ولكن تحصيل كل هذا يحتاج إلى التأمل والتدبر والمعاناة .. فلا يمكن لعقول كسول أن يخرج بالقرآن عن كسوة الألفاظ التي جاء بها .. ولهذا، فإن المعلم الكامل هو الذي يربي تلاميذه على استعمال عقولهم، لا الذي يحضهم على التقليد.

ولهذا يعقب الله تعالى على القضايا التي لا يمكن للعقل أن يعرفها بادئ الرأي بكونها من اختصاص أولي الألباب، وكأنه يقول لنا: (اشحذوا عقولكم بالفكر النير لتصير ألبابا، فلا يمكنكم أن تفهموا حقائق القرآن إلا بذلك)

اسمع إلى الله تعالى وهو يقول:﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)، وقال :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)، وقال :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)، وقال:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179)، وقال:﴿ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:100)، وقال:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111)،  وقال:﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد:19)،  وقال:﴿ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ابراهيم:52)

ولهذا، فإن الأستاذ الماهر المستن بسنة رسول الله r هو الذي لا يكتفي بأن يعطي تلاميذه المعلومة جاهزة من دون أن يمنحهم فرصة للتأمل والاجتهاد للوصول إليها، بل يدع لعقولهم فرصا كثيرة للنظر والبحث والتأمل.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحديث لرسول الله r رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: دخل النبي r المسجد، فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي r، فرد النبي r عليه السلام قال : ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي r فسلم عليه، فقال رسول الله r :( وعليك السلام) ثم قال:( ارجع فصل فإنك لم تصل) حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا علمني، فقال r:( إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)[78]

فقد علم r هذا الرجل الذي أساء في صلاته، ولم يحسن فيها بأسلوب عملي يجعل المتعلم يكتشف الخطأ الذي وقع فيه بنفسه، قال القاضي عياض : (فإن قيل: لم سكت النبي r عن تعليمه أولاً حتى افتقر إلى المراجعة كرة بعد أخرى ، قلنا: لأن الرجل لما لم يستكشف الحال مغتراً بما عنده سكت عن تعليمه زجراً له وإرشاداً إلى أنه ينبغي له أن يستكشف ما استبهم عليه ، فلما طلب كشف الحال بينه بحسن المقال)

وقال ابن دقيق العيد : (لا شك في زيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجود المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم الخوف)[79]

قال آخر: وأروي في ذلك حديثا عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا عند رسول الله r فأتى بجماد، فقال: أن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر الوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: (هي النخلة)، قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا[80].

الحفظ:

قلت: عرفنا التأمل .. فحدثنا عن الحفظ، ولم كان شرطا في المجاهدة؟

قال: إن طالب العلم المتفرغ له هو الذي يستعمل جميع ما وهبه الله من طاقات في خدمة العلم الذي يطلبه .. وبما أن الذاكرة من طاقات الإنسان، فإن طالب العلم يستثمرها أعظم استثمار.

فالعالم يحتاج إلى إحضار المعارف المختلفة في كل حين ليستنتج منها معارف جديدة، أو ليخدم بها من يريد أن يخدمه، وما لم تكن هذه المعارف حاضرة في ذهنه، فإنه لا يمكن أن يفيد بها أحدا، بل لا يمكن أن يستفيد هو نفسه منها.

قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك؟

قال: أجل .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت:49)؟

قلت: بلى ..

قال: إن هذه الآية تحمل دعوة عظيمة للحفظ، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحفظ .. ولهذا ربطت الآية بين الحفظ في الصدور، وبين أهل العلم، وكأنها تقول لطالب العلم: إن أردت أن تصير من أهله، فاشحذ ذاكرتك، ووسع صدرك ليصبح مخزنا للعلوم.

قلت: هذا في القرآن .. فهل ورد في السنة ما يدل عليه؟

قال: السنة تمتلئ بذلك .. فالرسول r ـ تشجيعا على الحفظ ـ يقدم حافظ القرآن على غيره في الإمامة وغيرها:

ففي الحديث عن أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r :( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلما[81]، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)[82]

وعن نافع بن عبد الحارث أنه لقي عمر ـ رضي الله عنه ـ بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا قال: فاستخلفت عليهم مولى!؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل ، وإنه عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم r قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين)[83]

وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهما اكثر أخذا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد[84].

وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول r قال: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط)[85]

وقد كان لحفظة القرآن الكريم في عهد السلف الأول مكانة أي مكانة، فقد كانوا المقدمين في الإفتاء والشورى وأخذ الرأي، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال :( كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا)[86]

وفي موقعة اليمامة الشهيرة، كان المسلمون إذا حدثت لهم هزة أو انتكاسة استنجدوا بأهل القرآن، وكانوا ينادون عليهم يقولون: (يا أهل القرآن)، فيقومون، ويقوم من ورائهم المسلمون، حتى استشهد في اليمامة خمسمائة حافظ للقرآن، ثم قام المسلمون بعد ذلك ينادون على حفاظ سورة البقرة: (يا أهل البقرة)، فقاموا حتى مات منهم خلق كثير.

قلت: هذا في حفظ القرآن الكريم .. فهل ورد في النصوص ما يدل على حفظ غيره؟

قال: كل ما ذكر في حفظ القرآن يدل على حفظ غيره، فلا يمكن أن يصير العالم عالما، وهو ناس لما تعلمه.

عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله r مقاما ما ترك شيئا، يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)[87]

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : (حفظت من رسول الله r وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)[88]

وعن بنت لحارثة بن النعمان ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ما حفظت ق إلا من في رسول الله r يخطب بها كل جمعة قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله r واحدا)[89]

وعن أبي إسحاق قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله r لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا r لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة قال الله عز وجل :﴿ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ (الطلاق: من الآية1)

قلت: كل ما ذكرته لا يمكن لأحد أن يجادل فيه .. لكني أرى البعض يتهمون من يحفظ .. ويعتبرونه مجرد وعاء .. وأن الكامل من يفهم، لا من يحفظ.

قال: والأكمل من يجمع بينهما، فيحفظ، ويفهم .. بل إنه لا يعين على الفهم شيء كما يعين عليه الحفظ .. فالحافظ الذي يردد بلسانه ما يحفظه لا محالة سيردده في عقله وقلبه، فيفهمه ويستوعبه، فيجمع بين الحسنيين.

بالإضافة إلى أن الذي لا يحفظ لا يطيق أن يفيد بعلمه كل حين، فهو معلق بكراريسه وكتبه إن حضرت أجاب، وإلا لم يطق جوابا.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحادثة حصلت للغزالي كانت سببا في لجوئه إلى الحفظ، قال يحكي عن نفسه: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إلى مقدمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد على تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه، فسلم إلى المخلاة.

قال الغزالي: فقلت: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع على الطريق لم أتجرد من علمي[90].

قال آخر: وقال عبد الرزاق :( كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً)

قال آخر: وقال الأصمعي: (كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم)

قال آخر: وقال يموت بن الزرع العبدي: (ليس العلم ما حواه القمطر، إنما العلم ما حواه الصدر)

قال آخر: وقال الخليل بن أحمد : الاحتفاظ بما في صدرك أولي من درس ما في كتابك واجعل كتابك رأس مالك ‏، وما في صدرك للنفقة .

قال آخر: وقال أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل: قال لي أبي، وهو يحضني على النظر في عملي: استب رجلان ‏فقال أحدهما للأخر: يا رففي، فاتذل ذلك الرجل، وظن أنه قد قابله بشيء عظيم، ثم عمل في صلاح ما ‏بينهما فاصطلحا، فلما كان في بعض الأيام تمازحا فقال له : استببنا يوم ما كذا وكذا فقلت لي : يا ‏رففي ما الرففي؟ قال : رأيتك تكتب العلم وتضعه على الرف.

قال آخر: وقد أنشد أبو الفتح هبة الله بن عبد الواحد البغدادي لبشار قوله:

علمي معي أينما يممت يتبعني
 

بطني وعاء له لا بطن صندوق ‏
  

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
 

أو كنت في السوق كان العلم في السوق ‏
  

قال آخر: وأنشد بعض البصريين:

رب إنسان ملأ أسفاطه
 

كتب العلم وهو بعد يخط ‏
  

فإذا فتشته عن علمه قال
 

علمي يا خليلي في السفط ‏
  

بكراريس جياد أحرزت
 

وبخط أي خط أي خط ‏
  

فإذا قلت له هات أرنا
 

حك لحييه جميعًا وامتخط ‏
  

قال آخر: وقال ابن بشير الأزدي : ـ

أشهد بالجهل في مجلسي
 

وعلمي في البيت مستودع ‏
  

إذا لم تكن حافظًا واعيًا
 

فجمعك للكتب لا تنفع
  

قلت: ولكن العلوم كثيرة .. بل هي أكثر من أن تنحصر .. فكيف يمكن حفظ كل ذلك؟

قال: إن الله تعالى بحكمته ورحمته زود الإنسان بطاقات عظيمة لا يمكن تصورها أو حدها .. نحن فقط بكسلنا وضعفنا وقصورنا نتوهم أن الله أعطانا القليل، فلذلك نستسلم للعجز، ونتعلل بالطاقة المحدودة.

لقد قال الزهري يذكر هذا: إن الرجل ليطلب العلم وقلبه شِعْبٌ من الشِّعَاب، ثم لا يلبث أن يصير واديًا ، لا ‏يوضع فيه شيء إلا التهمه .

وعن الحارث ابن أبي أسامة قال: كان العلماء يقولون:(كل وعاء أفرغت فيه شيئا فإنه يضيق إلا ‏القلب ، فإنه كلما أفرغ فيه أتسع)

قلت: سلمت لك في هذا .. وفي تاريخنا ما يدل عليه .. فما أكثر حفاظ الإسلام.

قال بعض الطلبة: لقد كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث ..

قال آخر: وكان ابن جرير الطبري يحفظ حمل ثمانين بعيرا من الكتب ..

قال آخر: وحفظ ابن الأنباري في كل جمعة ألف كراس، وحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر استشهادا للنحو ..

قال آخر: وكان الإمام الشافعي يحفظ من مرة أو نظرة ..

قال آخر: وحفظ ابن سينا القرآن الكريم في ليلة واحدة ..

قال آخر: وحفظ أبو زرعة ألف ألف حديث[91] .

قلت: إنها لذاكرة عجيبة هي تلك الذاكرة التي تحمل كل هذا .. فما سرها؟

قال: الهمة والصدق والصفاء .. ألا ترى كيف يحفظ قومك الأفلام، فيوردونها مشهدا مشهدا ولقطة لقطة؟

قلت: بلى .. أرى ذلك.

قال: فكم مجلدا هي تلك اللقطات المحفوظة؟

قلت: هي مجلدات كثيرة لا يمكن حصرها.

قال: فأفلام أهل العلم هي تلك الكتب .. لقد ترفعت همتهم عن السفاسف، ففتح الله عليهم من العلوم ومن حفظ العلوم ما ملأ غيرهم بالعجب.

قلت: رغبتنا في الحفظ .. فما الذي يعين عليه؟

قال: أوله الصفاء .. فلا يمكن أن تكتب في أوراق مكتوبة .. قال تعالى :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151) .. انظر كيف قدم الله تعالى التزكية على العلم .. فلا يمكن لمن تلطخ بالأوزار أن يستوعب الأسرار.

وقال تعالى :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية282) .. انظر كيف قرن الله التقوى بالعلم .. فلا يتعلم حقيقة العلم إلا من اتقى الله حق التقوى.

قلت: هذا الأول .. فما الثاني؟

قال: تكرير ما تريد حفظه على قلبك .. فلا يثبت الحفظ مثل التكرار .. فعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس.

وقال علقمة: أطيلوا ذكر الحديث لئلا يدرس.

وقال الليث بن سعد: وضع طست بين يدي ابن شهاب، فتذكر حديثًا، فلم تزل يده في الطست حتى طلع ‏الفجر حتى صححه.

وقال سفيان الثوري : اجعلوا الحديث حديث أنفسكم ، وفكر قلوبكم تحفظوه.

وقيل للأصمعي : كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال : درست وتركوا.

وقال جعفر المراغي : دخلت مقبرة بتُستَر، فسمعت صائحًا يصيح : والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة‏، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .. ساعة طويلة ، ‏فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير، وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش .

قلت: هذا الثاني .. فما الثالث؟

قال: المذاكرة .. مذاكرة ما تحفظ مع غيرك .. ليضبط لك ما لم تضبطه، ويفتح عليك ما ‏نسيته ، ويضيف لك جديدا إن كان عنده .. حدث سعيد بن جبير أن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كان يقول : يا سعيد أخرج بنا إلي النخل، ويقول: يا سعيد، حدث، قلت: أحدَّث وأنت شاهد ؟ قال : إن أخطأت فتحت عليك.

وعن إبراهيم النخعي قال : إنه ليطول عليَّ الليل حتى ألقي أصحابي فأذاكرهم.

وعن عبد الله بن المعتز قال : من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم.

وعن إبراهيم الأصبهاني قال : كل من حفظ حديثاً فلم يذاكر به تفلت منه .

قلت: هذا الثالث .. فما الرابع؟

قال: تعليم الناس ما تحفظ .. فليس شيء أكثر ترسيخا للعلم في الذهن من إنفاقه .. فعن إبراهيم النخعي قال : من سره أن يحفظ الحديث فليحدث به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه، فإنه إذا ‏فعل ذلك كان كالكتاب في صدره.

وحدث إسحاق بن راهويه قال: سألت وكيعاً عن الرجل يطلب العلم ، وفي نيته أن يذاكر به ويتحدث به ‏أو نحو ذلك، أتراه يأثم في ذلك؟ قال : يا ابن أخي، حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال : طلبنا هذا ‏العلم ومالنا فيه نية، ثم جاءت النية والعمل بعد.

وعن ابن شهاب أنه كان يسمع العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جارية له، وهى نائمة، فيوقظها، فيقول: ‏اسمعي حدثني فلان كذا وفلان كذا، فتقول: مالي وما لهذا الحديث ؟! فيقول : قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن استذكره.

وعن زياد بن سعد قال : ذهبنا مع الزهري إلى الشِّعب، قال : فكان الزهري يجمع الأعاريب فيحدثهم ‏يريد الحفظ.

قلت: وعينا كل هذا فما السنة التي ورثتموها في كيفية ذلك؟

قال: لقد ورثنا عن سلفنا من العلماء .. وهم ورثوه عن أسلافهم إلى السلف الأول من ورثة رسول الله r في ذلك منهجا متكاملا:

يبدأ الطالب فيه بتصحيح ما يقرؤه قبل حفظه تصحيحاً متقناً، إما على الشيخ وإما على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك ‏حفظاً محكماً، ثم يكرر عليه بعد حفظه تكراراً جيداً، ثم يتعاهده بعد ذلك، ولا يحفظ شيئاً قبل تصحيحه، لأنه يقع في ‏التحريف والتصحيف.

وفي منهجنا أن العلم لا يؤخذ من الكتب، فإنه من أضر المفاسد، بل ينبغي أن يحضر معه الدواة والقلم للتصحيح في مجلس التصحيح، وأما التصحيح حال الدرس، فكان بعضهم يمنع منه لما فيه من الاشتغال عن ‏تقرير الشيخ، وإنما يجعل عليه علامة ليصلحه بعد فراغه وبضبط ما يصححه لغةً وإعراباً.

وإذا رد الشيخ ‏عليه لفظة، وظن أن رده خلاف الصواب أو علمه، كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ، أو يأتي بلفظ الصواب على ‏سبيل الاستفهام، فربما وقع ذلك سهواً أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا، بل يتلطف في تنبيه الشيخ له، فإن لم ‏ينتبه قال: فهل يجوز فيها كذا؟ فإن رجع الشيخ إلى الصواب فلا كلام، وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر يتلطف ‏لاحتمال إن يكون الصواب مع الشيخ، وذلك أنه إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه، ولا يعسر ‏تداركه.

فإن كان السائل غريباً، أو بعيد الدار، تعين تنبيه الشيخ على ذلك في ‏الحال بإشارة أو تصريح، فإن ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف أو غيره، وإذا وقف على مكان ‏كتب قبالته بلغ العرض والتصحيح.

ثم على الطالب أن يبدأ بالحفظ ويبكر به ..

ثم عليه أن يبحث عن شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الاشكالات والفوائد المهمات.

ثم عليه أن ينتقل إلى بحث المبسوطات ‏مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات ‏والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل فائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها، بل يبادر ‏إلى تعليقها وحفظها.

ثم عليه أن يكون صاحب همة في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا يقنع من إرث ‏الأنبياء بيسيرة، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها ‏في الزمن الحاضر، حصل في الزمن الثاني غيرها ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، ‏وقلة شواغله، قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة.

السمت

بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثاني من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الثالث، وهو فرع (السمت)

وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى السمت، وضرورته لطالب العلم، فقال: السمت الحسن هو التزام  هيئة الصالحين في أحوالهم جميعا من كلام وفعال ومعاملات وهيئات وحركات وسكنات وغيرها .. فلا يمكن لطالب العلم إلا أن يميز عن غيره ليستفيدوا منه.

قلت: أليس قد أمرنا أن نكون كالناس؟ .. فكيف تعتبر التميز شعارا للصالحين؟

قال: التميز نوعان: نوع هو محض كبر وسمعة ورياء .. وهذا قد حذر منه الصالحون .. روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نظر إلى رجل، وهو يطأطى رقبته فقال: يا صاحب الرقبة إرفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب.

وأتى أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ على رجل في المسجد، وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو، فقال له أبو أمامة: أنت أنت .. لو كان هذا في بيتك.

وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل، فإنه أشرف من إظهاره بالنهار، لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين.

وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به.

قلت: هذا السمت الأول .. وهو السمت المذموم، وهو الذي كنت أعنيه، فما الثاني؟

قال: هو في ظاهره كالسمت الأول .. ولكن صاحبه ابتدأ بسمت الباطن، فحسنه وجمله وزينه .. فلما اعتدل باطنه بالطاعات زين الله ظاهره بما يملأ الله القلوب هيبة منه وتوقيرا له.

ولهذا اعتبر r هذا النوع من السمت من النبوة، فقال :( الهَدْي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)[92]

وهذا يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة ، وكفى بذلك شرفاً.

قلت: أفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذا؟

قال: يستحيل على الكتاب الذي فيه بيان كل شيء ألا يكون فيه مثل هذا.

قلت: فأين هو فيه؟

قال: فيه جميعا .. فكل آية في القرآن الكريم تحمل أدبا يزين به الباطن، ليبرز أثره بعد ذلك إلى الظاهر .. ألم تسمع قوله r :(أدبني ربي فأحسن تأديبي)[93]، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله r :( كان خلقه القرآن)[94]؟

قلت: بلى .. فاذكر لي نموذجا ييسر لي فهم ذلك.

قال: اقرأ ما ورد في صفات (عباد الرحمن) في القرآن الكريم.

أخذت أقرأ :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ﴾ (الفرقان:63)

قال: حسبك .. ألا ترى أن الآية بدأت وصف عباد الرحمن بكونهم يمشون؟

قلت: بلى .. ولكنها لو اكتفت بمشيهم فقط لما كان لعباد الرحمن في هذا أي ميزة.

قال: فبم وصفت مشيتهم؟

قلت: بالهون .. إنها ذكرت أنهم ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾

قال: فهذا هو السمت الحسن الصالح .. والذي هو جزء من النبوة .. والذي نحرص على تعليمه هنا في هذه المحضرة.

قلت: أهو مرتبط بالمشي فقط؟

قال: بكل سلوك من سلوكيات الحياة .. فلكل سلوك هونه الخاص به.

قلت: فما سر بدئكم به قبل التعليم؟

قال: لأنه لا يمكن أن يتعلم من لم يكن له سمت أهل العلم .. فالمدارس المستنة بسنة رسول الله r تخرج المتأدبين لا المشاغبين.

قلت: أللسمت الحسن تأثيره في التحصيل؟

قال: لو لم يكن له تأثيره في التحصيل لم نبدأ به .. لقد صحبت الوارث .. ولعله أخبرك عن مجالس رسول الله r .. فحدثنا عما رواه لك من أحاديث في هذا.

قلت: أجل .. لقد حدثنا عن أسامة بن شريك ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا عند رسول الله r ما يتكلم منا متكلم، كأن على رؤوسنا الطير[95].

وفي رواية: أتيت رسول الله r ، وأصحابه حوله، وعليهم السكينة، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، وذكر الحديث[96].

وحدثنا عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجنا مع رسول الله r في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله r، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير[97].

وحدثنا عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله r لم ترتفع رؤوسنا إليه إعظاما له[98].

قال: هل كان يمكن لرسول الله r أن يعلم أصحابه، ويستفيد أصحابه من أحاديثه وتعليمه في مجلس ترتفع فيه الأصوات، ولا يرعى بعضهم حرمة بعض؟

قلت: لا .. لا يمكن ذلك.

قال: ولهذا كان رسول الله r يبدأ بالأدب قبل التعليم .. وهو سنة رسول الله r وسنة سلف الأمة الصالح .. بل إن القرآن الكريم حض عليه وأمر به، فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:4)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)﴾ (الحجرات)

قال بعض الطلبة: إن ما روي في سبب نزول الآيات يدل على ما ذكرت .. فمما روي في ذلك عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي r حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2)، قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمعُ رسول الله r بعد هذه الآية حتى يستفهمه[99].

قال آخر: وروي عن أبى بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: لما نزلت هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾، قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار[100].

قال آخر: وحدث أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي r افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي r ، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي r فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة)[101]

قال آخر: وحدث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2)، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله r حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله r، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله r، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي r ، وأجهر له بالقول حبط عملي، أنا من أهل النار. فأتوا النبي r فأخبروه بما قال، فقال: (لا، بل هو من أهل الجنة)، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تُعوّدون أقرانكم. فقاتلهم حتى قُتل[102].

قال آخر: وحدث بعضهم عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله r قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا[103].

قال: أرأيتم كيف كانت حساسية صحابة رسول الله r تجاه هذا .. إن الأدب هو أساس الدين .. ولا يمكن لطالب العلم أن يتعلم، وهو يفتقد أساس الدين.

قال بعض الطلبة: فما الذي سنتعلمه في هذا الفرع؟

قال: أربعة أنواع من السمت لابد لطالب العلم الذي يريد أن يستن بسنة رسول الله r منها، ليبارك له في علمه، وليحصل في أقل مدة ما لا يحصل غيره في أكثر منها.

قلنا: فما هي؟

قال: سمت مرتبط بنفسه، وسمت مرتبط بعلمه، وسمت مرتبط بدرسه، وسمت مرتبط بمعلمه.

مع نفسه:

كان أول ما بدأنا به دراستنا في فرع (السمت) السمت المرتبط بنا، وبسلوكنا تجاه أنفسنا، وكان أول درس جمعنا بشيخنا الشنقيطي قرأ لنا فيه قوله r :( طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)[104]

ثم قال: إن رسول الله r في هذا الحديث يدعونا إلى أن نقدم التخلص من الخنزيرية قبل التعلم .. ألا ترون كيف أمرنا بطلب العلم، ثم نهى أن يوضع العلم عند غير أهله، وشبه من يفعل ذلك بمن يقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب؟

قلنا: ذلك صحيح .. فما المخرج من الخنزيرية؟

قال: لقد حفظ سلفنا عن سلفهم إلى رسول الله r في ذلك أربعة سنن، وستتعلمون أصولها وأركانها في هذا الفرع.

قلنا: فما أولها؟

قال: أن يتخلق طالب العلم بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل ‏من القناعة لا يعد من الدنيا.

قال الشافعي: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، فمن أحق من العلماء بزيادة العقل وكماله.

وقال ‏يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبراً يفنى والآخرة خزفاً يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، ‏فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة تبر باق.

قلت: فما سر احتياج الطالب للزهد[105]؟

قال: لأن الطالب الذي امتلأ قلبه بالشهوات والأهواء والرغبات لن يبقى فيه محل للاستفادة من العلم .. وكيف يستفيد وآلة العلم هي مرآة القلب .. ومرآة القلب منصرفة إلى الرغبات.

قلنا: فما الثاني؟

قال: أن يتجنب كل خوارم المروءة من دنيء المكاسب ورذيلها، ‏ويتجنب مواضع التهم وإن بعدت، ولا يقيل شيئاً يتضمن نقص مروءة، وما يستنكر ظاهراً، وإن كان جائزاً باطناً، فإنه ‏يعرض نفسه بذلك للتهمة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، فإن اتفق وقوع شيء من ذلك منه ‏لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده، كيلا يأثم من رآه بسببه، أو ينفر عِنه، فلا ينتفع بعلمه ولا ‏يستفيد بذلك الجاهل به، ففي الحديث عن عن أم المؤمنين صفية بنت حييٍ ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان النبي r معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي r أسرعا، فقال r :( على رسلكما، إنها صفية بنت حييٍ)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله ؟ فقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً)[106]

قلنا: فما الثالث؟

قال: أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الردية، كالغل، والحسد، والبغي، ‏والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والرياء والعجب، والسمعة، والبخل، والجبن والبطر والطمع، والفخر، ‏والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة فيها، والمداهنَة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب ‏النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية، والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة، والنميمة، والبهتان، ‏والكذب، والفحش في القول، واحتقار الناس ولو كانوا دونه، وغيرها من الصفات الخبيثة، والأخلاق ‏الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله.

قلنا: فما المخرج من هذه الرذائل، وهي لا يكاد تنجو منها نفس؟

قال: لكل علاجه الذي به يعالج .. ألم يقل رسول الله r :( إن الله تعالى حيث خلق الداء خلق الدواء فتدواوا)[107]

قلت: إن رسول الله r يذكر في هذا الحديث دواء الأجساد.

قال: بل هو يذكر كل الأدوية .. فلا فرق بين مرض الروح ومرض الجسد.

قلت: فهل تضرب لنا أمثلة على ذلك؟

قال: من أدوية الحسد مثلا: الفكر في ‏أنه اعتراض على الله تعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة، مع أنه محض ضرر على الحاسد يجلب له الغم، ‏وتعب القلب، وتعذيبه بما لا ضرر فيه، على المحسود.

ومن أدوية العجب، تذكر أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته ‏وغير ذلك من النعم، فضل من الله عليه، وأمانة عنده ليرعاها حق رعايتها، وأن العجب بها كفران لنعمتها فيعرضها ‏للزوال، لأن معطيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين.

ومن أدوية ‏الرياء الفكر في أن الخلق كلهم لا يقدرون على نفعه وضرره، فلم يحبط عمله ويضر دينه ويشغل نفسه بمراعاة من لا ‏يملك له في الحقيقة نفعاً ولا ضراً مع أن الله تعالى يطلعهم على نيته، وقبح سريرته، كما قال r :( من سمع سمع الله به ، ومن رايا رايا الله به ، ومن شاق شق الله عليه يوم القيامة)[108]

ومن أدوية احتقار الناس، تدبر قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11)، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)

وربما ‏كان المحتقر أطهر عند الله قلباً وأزكى عملاً، وأخلص نية كما قيل: (إن الله تعالى أخفى ثلاثة في ثلاثة، وليه في عباده، ‏ورضاه في طاعته، وغضبه في معصيته)، مع أن احتقار عباد الله مجرد خسران يورث الذل لفاعله.

وفي خبر للحارث بن معاوية: أنه سأل عمر عن القصص، وأن عمر قال له: أخشى عليك أن تقص فترتفع في نفسك، ثم ‏تقص فترتفع في نفسك، حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك[109].

قلنا: فما الرابع؟

قال: أن يعمر باطنه بالأخلاق المرضية، كدوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والتوكل، ‏والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على ‏خلق الله والحياء من الله ومن الناس، ومحبة الله تعالى، هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات.

وكل ذلك لا يتحقق إلا بمتابعة الرسول ‏r كما قال تعالى :﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)

مع علمه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع النفس مدة، انتقلنا إلى الفرع الثاني للسمت، وهو السمت مع العلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع من السمت بقراءة عشر آيات من القرآن الكريم:

أما الأولى، فقوله تعالى :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ (البقرة: من الآية120)

وأما الثانية، فقوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247)

وأما الثالثة، فقوله تعالى :﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)

وأما الرابعة، فقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ﴾ (الرعد:37)

وأما الخامسة، فقوله تعالى :﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً) (الاسراء:107)

وأما السادسة، فقوله تعالى :﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم:43)

وأما السابعة، فقوله تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج:54)

وأما الثامنة، فقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص:80)

وأما التاسعة، فقوله تعالى :﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سـبأ:6)

وأما العاشرة، فقوله تعالى :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7)

وقد سألناه عن سر قراءة هذه الآيات، فقال: لابد لمن يريد أن يدرس هذا النوع من السمت أن يقرأ هذه الآيات، ويكررها على نفسه، ويتدبرها، ويمعن في تدبيرها.

قلنا: لم؟

قال: لأنها الأساس الذي يبنى عليه السمت مع العلم.

قلنا: فما الذي يفهمه طالب العلم من الآية الأولى[110]؟

قال: الآية الأولى تبين أن للعلم من المكانة ما يجعل صاحبه مترفعا عن اتباع غيره، فالعلم يُتبع ولا يتبع .. والعالم يُطلب ولا يطلب.

ولهذا نصحنا جميع مشايخنا، وهم كذلك نصحوا خلفا عن سلف، أن نصون العلم كما صانه علماء السلف، ونقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف، فلا ندنسه بالأطماع، ولا نذله بذهابنا ومشينا إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أكيدة، ولا إلى من يتعلمه منا منهم، وإن عظم ‏شأنه وكبر قدره وسلطانه.

وقد روى لنا شيوخنا عن الزهري قوله: هوان بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم.

ورووا أن مالك بن أنس قال للمهدي، وقد استدعاه لولديه يعلمهما: (‏العلم أولى أن يوقر ويؤتى)، وفي رواية: (العلم يزار ولا يزور ويؤتى ولا يأتي)، وفي رواية: (أدركت أهل العلم يؤتون ولا ‏يأتون)

ويروى عنه أنه قال: دخلت على هارون الرشيد فقال يا أبا عبد الله: ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع ‏صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت أعزك الله إن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عز، وإن أذللتموه ذلَّ، والعلم ‏يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا من سمع الناس.‏

ويروى أن الرشيد سأله: هل لك دار؟ فقال: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال: اشتر بها داراً، فأخذها ولم ينفقها، فلما ‏أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك: ينبغي لك أن تخرج معنا، فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل ‏عثمان الناس على القرآن، فقال له: أما حمل الناس على الموَطأ فليس إلى ذلك سبيل، لأن أصحاب رسول الله r افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال r: (اختلاف أمتي رحمة)[111]، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال r : (المدينة خير لهم لو ‏كانوا يعلمون)[112]، وقال r :( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد)[113]، وهذه دنانيركم ‏كما هي أن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها ـ يعني أنك إنما حملتني على مفارقة المدينة بما اصطنعت لدي فلا أوثر الدنيا ‏على الأخرى ـ)

قال بعض الطلبة: وعن مقاتل بن صالح الحميدي قال: دخلت على حماد بن سلمة فبينما ‏أنا عنده إذ دق رسول محمد بن سليمان فدخل فسلم وناوله كتابه فقال: أقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من ‏محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، أما بعد فصبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها، فقال لي: اقلب الكتاب واكتب: ‏أما بعد، وأنت صبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعِته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإن وقعت مسألة، ‏فأتنا، فاسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجالك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، ‏والسلام.

فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب، فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ قالت: هذا محمد بن سليمان، قال: ‏قولي له يدخل وحده، فدخل، فسلم، ثم جلس بين يديه، ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعباً، فقال حماد ‏سمعت ثابتاً البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله r يقول: (إن العالم ‏إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء)[114]، فقال: ما تقول يرحمك الله؟ ‏وذكر مسألته وجوابها، ثم قال: وحاجة إليك قال: ما لم تكن رزية في دين، قال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها ‏على ما أنت عليه، قال: أرددها على من ظلمته بها، قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني ‏زوى الله عنك أوزارك، قال: فغير هذا، قال: هات ما لم يكن رزية في دين، قال: تأخذها فتقسمها، قال: فلعلي إن ‏عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم، إزوها عني، زوى الله عنك أوزارك[115].

قلت: فما تقول في زيارة بعض علماء السلف الأمراء والوزراء؟

قال: ذلك يختلف باختلاف النيات .. فإن حسنت النية حسنت الزيارة.

قلت: فكيف تحسن النية؟

قال: إن خرج إليه ليصطاد من دنياه كان من علماء السلاطين .. واصطيد من دينه ما اصطاد من دنياهم .. أما إن خرج لله وفي الله، فإن الله يحفظه بخروجه .. ولعله يفيد بخروجه، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السلف من المشي إلى ‏الملوك وولاة الأمر، كالشافعي وغيره.

أما المشي لغيرهم، فلا حرج فيه لأنه لا طمع فيه، وقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الأولى، فما الذي يستفيد من الثانية[116]؟

قال: ألا ترون كيف أثنى الله تعالى على ما آتى لوطا من سعة العلم .. وكيف ـ في المقابل ـ احتقره بنو إسرائيل لأنه لم يؤت سعة من المال؟

قلنا: بلى .. ذلك واضح في الآية.

قال: فمن احتقر العلم، وعظم المال، أو جعل العلم وسيلة للمال، فقد سلك سلوك بني إسرائيل في هذا.

قلت: ولكن المال لابد منه، وقد قال الله تعالى تعالى :﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )(النساء: من الآية5)، فقد أخبر الله تعالى أن بالمال تقوم حياة الناس.

قال: فرق بين أن تستعمل المال، وبين أن تعظم المال .. من استعمل المال جعله خادما له، وانتفع بخدمته .. ومن عظم المال استعبده ماله، فصار خادما لماله .. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)﴾ (الهمزة) .. وقد أخبر الله تعالى عن مصير من هذا حاله، فقال :﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)﴾ (الهمزة)

قلت: هذا جزاؤه في الآخرة.

قال: وهناك جزاء في الدنيا لمن انشغل بماله عن علمه .. وهو جزاء يكاد يشبه ما ذكره الله تعالى من جزاء الآخرة ..

قلنا: فما هو؟

قال: إن هذا الذي استعبده ماله ستحطم إنسانيته بماله، وسيسجن في سجون ماله، وسيحرق بلهب ماله ..

لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله r .. ولهذا تراهم يحضون على تعظيم العلم واحترامه وعدم الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل عندما قدموا المال على العلم.

قال بعض الطلبة: أروي في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لتلميذه النجيب كميل، فقد قال له: (يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق)

قال آخر: وأروي عن أبي الأسود قوله: (ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك)

قال آخر: وأروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قوله: خير سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

قال آخر: وأروي عن ابن المبارك أنه سئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين.

وقد علق الغزالي على هذا بقوله :( ولم يجعل غير العالم من الناس، لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه، بل لم يخلق إلا للعلم)

قال آخر: وأروي عن بعض العلماء قوله: (ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فاته من أدرك العلم)

قال آخر: وأروي عن الزبير بن أبي بكر قوله: كتب إلي أبي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً، وإن استغنيت كان لك جمالاً.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثانية، فما الذي يستفيد من الثالثة[117]؟

قال: ألا ترون كيف عطف الله تعالى أهل العلم على نفسه، وعلى ملائكته؟

قلنا: بلى .. ذلك واضح.

قال: أفترون من شرف بالجلوس في ذلك المجلس الرفيع، وأحل في تلك المكانة الشريفة يرضى بالسفاسف، أو يرى أن هناك مجلسا أفضل من مجلسه، أو محلا أعلى من محله؟

قلنا: لا ..

قال: فطالب العلم المستن بسنة رسول الله r عليه أن يشهد هذا .. فلا يرى أحدا أفضل منه مجلسا، ولا مكانة ..

قلت: ولا الوزراء .. والأمراء .. والمدراء ..

قال: وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الله .. إنهم كهباءة .. أو كقلامة.. أو كلا شيء ..

وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الملائكة الذين هم رسل الله والمدبرات أمرا والمصطفين الأخيار.

قلت: فهذه الآية تعالج الجاه إذن؟

قال: أجل .. فجاه أهل العلم هو العلم.

قال بعض الطلبة: أروي في ذلك عن سالم بن أبي الجعد قوله: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني، فقلت: بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له.

قال الشنقيطي: بهؤلاء العلماء ارتفعت منارة العلم والدين .. لا الذين يحتبون على أبواب الملوك والأمراء يستجدونهم ويكتبون المعلقات الطوال في مدحهم.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثالثة، فما الذي يستفيد من الرابعة[118]؟

قال: ألا ترون كيف نفى الله ولايته ووقايته على من اتبع ما يتطلبه الهوى، وغفل عما يتطلبه العلم؟

قلنا: أجل .. ذلك واضح.

قال: فالعلم الذي ترفع على المال وترفع على السلطان لا ينبغي أن يذل أمام الهوى، فقد ذم الله تعالى طالب العلم الذي يقع أسير هواه، فقال :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾ (الأعراف)

قال بعض الطلبة: بل إن الله تعالى اعتبر الهوى صنما من الأصنام التي تعبد من دون الله، فقال :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43)﴾ (الفرقان)

قال آخر: وقد ذكر رسول الله r ذلك، فقال :( ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع)[119]

قال الشنقيطي: وذلك لأن صاحب الهوى لن ينتقل من الخطأ إلى الصواب، أو من الصلاح إلى الفساد .. بل هو أسير هواه إن تراجع عن خطأ، فلن يقع إلا في غيره، وإن تاب عن معصيةن فلن يقع إلا في غيرها.

قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قوله: (كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعبد الآخر)[120]

قال آخر: وعن أبي رجاء العطاردي قال: (كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز، ويعبدون الحجر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه رموا به وعبدوا الآخر، فإذا فقدوا الآخر أمروا منادياً فنادى: أيها الناس إن إلهكم قد ضل فالتمسوه)[121]

قال: وهكذا عباد الهوى من العلماء: يتوب من صنم الشيوعية ليقع في صنم الليبرالية.. ويتوب من عبودية الحاكم ليقع في عبودية الوزير .. ويتوب من عبودية المال ليقع في عبودية الجاه .. وهكذا يظل يتردد بين عبودية وعبودية.

قلت: فمتى يتحرر؟

قال: إذا طلق الهوى، وكفر به .. وجعل الحقيقة هدفه .. حينذاك فقط سيتحرر.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الرابعة، فما الذي يستفيد من الخامسة[122]؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم من الذين تحرروا من إسار الهوى؟

قلنا: أجل .. لقد وصفهم بالسجود.

قال: فأي علم لا يدلك على السجود، فهو جهل .. وأي علم لم يملأك بالعبودية فالجهل خير منه.

قلت: ولكن العلم أوسع من أن يختصر في هذا .. فالعلوم كثيرة؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾ (الروم)؟

قلت: بلى .. فما فيها من العلم؟

قال: ألا ترى كيف نفى الله تعالى العلم عن أكثر الناس .. أي وصفهم بالجهل .. ولكنه استدرك على من يتصور أن ما لديهم من رسوم علما .. فذكر أنه مجرد ظواهر لا تحمل اسم العلم الحقيقي؟

قلت: كيف لا تحمل اسم العلم الحقيقي؟

قال: لأن العلم الذي لا يثبت، ولا يسير مع صاحبه هو إلى الجهل أقرب منه إلى العلم.

قلت: لم أفهم .. فالعلم يظل علما .. ولن يصير جهلا أبدا.

قال: الصبي في صباه له علوم كثيرة .. فهو يظن أن السماء تنتهي حيث انتهى بصره .. وأن لعبته أفضل من تيجان الملوك ..

قلت: وهل هذا يسمى علما؟

قال: بالنسبة له هو علم ..

قلت: نحن لا نسميها علوما.

قال: فهكذا الأمر بالنسبة للحقائق الأزلية .. فأكثر المعارف التي يزهو بها العلماء لا تختلف كثيرا عن تلك المعارف التي يزهو بها الصبيان.

قلت: فهمت هذا .. فقربه لي .. فإني من قوم عبدوا علومهم، وصار يصعب عليهم فهم مثل هذا؟

قال: أرأيت لو أن البشرية استطاعت في يوم من الأيام أن تنفذ من أقطار السماء .. كيف يصبح ـ حينها ـ صعودها إلى القمر؟

قلت: يصبح مجرد لعبة .. فالبشرية لو وصلت إلى هذا، فإن القمر حينها يصبح جزيرة لا كوكبا .. بل لعل الصبيان ـ حينها ـ يمتطون دراجاتهم للصعود إليه.

قال: فما ورد في النصوص المقدسة من الحقائق عن الكون يجعل من كل ما نراه شيئا هينا لا يكاد يذكر ..

قلت: فكيف يدل العلم على السجود؟

قال: من وعى هذا سجد لله لا محالة .. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الخامسة، فما الذي يستفيد من السادسة[123]؟

قال: أليس الابن تابعا لأبيه؟

قلنا: بلى .. وقد حدث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا أتى النبي r، فقال: يا رسول الله، إن لي مالا وعيالا، وأنه يريد أن يأخذ من مالي إلى ماله، فقال رسول الله r :( أنت ومالك لأبيك)[124]

قال: وفي العلم .. هل يجوز للعالم أن يترك ما هداه إليه علمه في مسألة لأن أباه يقول بها؟

قال بعض الطلبة: لو فعل ذلك لصدق عليه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)

قال آخر: لو فعل ذلك لصدق عليه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة:104)

قال آخر: لو فعل ذلك لصدق عليه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:28)

قال آخر: لو فعل ذلك لكان مثل الذين حكى الله تعالى قولهم، فقال:﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الانبياء:53)، وقال :﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء:74)

قال: فكما تحرر العالم من سلطان المال والجاه والهوى .. ينبغي أن يتحرر من سلاطين الآباء والأجداد والجذور .. فليس للعالم من سلطان غير سلطان علمه.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السادسة، فما الذي يستفيد من السابعة[125]؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم بالإخبات؟

قلنا: أجل .. ونحن نعلم أن الإخبات هو الخضوع.

قال: متى وصفهم بذلك؟

قلنا: بعد علمهم بأنه الحق.

قال: فالعالم الذي وصف بأنه تخلص من إسار الهوى والسلطان والمال والجذور وصف بالخضوع للحق.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: وما كان جزاء من أخبت للحق؟

قلنا: لقد ذكر الله ذلك، فقال :﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

قال: فهذا وعد من الله تعالى لمن لم يخضع إلا لما يطلبه الحق بأن يهديه إلى الصراط المستقيم.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: وهذا يعني أن من تكبر على الحق، أو كتم الحق بعد أن علمه، أو لم يسلك السبيل الصحيح التي تهديه إلى الحق، فلن يهتدى سواء السبيل.

قلنا: ذلك كذلك.

قال: فهذه الآية ترسم لنا المنهج الموضوعي في العلم .. وهو المنهج المتحرر من كل قيد سوى قيد البحث عن الحقيقة .. وطالب العلم الذي لم يمتلئ بهذا، لن يزيده علمه إلا نفورا من الحق وإعراضا عنه.

قلت: ولكن المعلمين عندنا يربون تلاميذهم على التقليد؟

قال: من ربى تلاميذه على التقليد، فقد أحدث، ومن أحدث فقد ابتدع، ولا يبتدع إلا ضال.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السابعة، فما الذي يستفيده من الثامنة[126]؟

قال: ألا ترون كيف تحرر أهل العلم من إسار مجتمعاتهم، فراحوا يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر لا يبالون في ذلك لومة لائم.

قلنا: أجل .. فقد حكى الله تعالى عن موقف مجتمع هؤلاء لما عاينوا زينة قارون، فقال :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79)

قال: وذكر في نفس الوقت موقف أهل العلم المترفع الناصح.

قلنا: أجل ..

قال: فالعالم هو الذي لا يستسلم للتقاليد والأعراف، فلا يخضع لسلطانها، ولا تستعبده بأهوائها، بل تكون له السلطة عليها .. فالعالم مؤثر لا متأثر، وفاعل لا مفعول، ومغير لا متغير.

قال بعض الطلبة: صدقت .. وقد ذكر رسول الله r بعض علماء بني إسرائيل، فقال :( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم ﴿ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)(المائدة: من الآية78)، وكان رسول الله r متكئًا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا)[127]

قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله r :( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78)، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا أو تقصرنه على الحق قصرًا)[128]

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثامنة، فما الذي يستفيد من التاسعة[129]؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله النهاية التي يبلغها أهل العلم .. أو النتيجة التي يصلون إليها؟

قلنا: أجل .. لقد ذكر الله أن النتيجة النهائية التي يصل إليها أهل العلم هي أن يعلموا أن ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾

قال: فالعالم هو الذي لا يغفل عن هذا النوع من العلم .. لأنه لن يصل إلى لباب العلم به.

قلنا: فأين نجد هذا العلم؟

قال: العلوم صنفان: علوم حقائق .. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد r هو الحق الذي لا مرية فيه.

وعلوم سياسات .. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد r هو الصراط المستقيم الذي يتوافق مع الفطرة، ولا يصلح الإنسان إلا به.

قلت: فما فائدة هذا لطالب العلم؟

قال: أن لا يقتنع طالب العلم بأي نهاية حتى يصل إلى هذه النهاية .. وهذه النهاية لا حد لها .. فلذلك يظل طول عمره باحثا سالكا سائرا.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من التاسعة، فما الذي يستفيد من العاشرة[130]؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم الراسخين فيه بالتسليم المطلق لله؟

قلنا: بلى.

قال: فطالب العلم لن يرسخ في العلم حتى يسلم هو وعلمه لله.

قلنا: عرفنا إسلام العبد لله .. فكيف يسلم علمه؟

قال: إذا عرف العلم قدره، فلم يتجاوز حدود ما أمر بعلمه، كان مسلما .. ألا ترون كيف سلم الراسخون لله في الحين الذي راح فيه المشاغبون يبحثون عن المتشابه ليجادلوا في دين الله.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: فلن يصل طالب العلم للرسوخ في العلم حتى يكون هذا حاله ..

مع درسه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع العلم مدة، انتقلنا إلى الفرع الثالث للسمت، وهو السمت مع الدرس، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله r :( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)[131]

وحدثنا أن رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما مجلسكم ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده لما هدانا للإسلام، ومن علينا به، فقال : (أتاني جبريل u فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة)[132]

وحدثنا أن رسول الله r قال: إن لله تعالى ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل[133]، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم ـ : ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون لو رأوك أشد لك عبادةً، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟! قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبةً. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يتعوذون من النار؛ قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟! قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافةً. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)[134]

وحدثنا أن رسول الله r بينما هو جالسٌ في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفرٍ، فأقبل اثنان إلى رسول الله r، وذهب واحدٌ، فوقفا على رسول الله r، فأما أحدهما، فرأى فرجةً في الحلقة، فجلس فيها وأما الآخر، فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله r، قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم، فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر، فأعرض، فأعرض الله عنه)[135]

قلنا: ما سر إيرادك لهذه الأحاديث، وما علاقتها بسمت أهل العلم مع دروسهم؟

قال: هذه الأحاديث هي المنبع الذي منه يستقي طالب العلم ومعلمه ما ينشر فيهما سمت أهل العلم مع دروسهم.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد أخبر رسول الله r أن مجلس العلم مجلس يأوي فيه طلبة العلم إلى الله، فيكونون بجلوسهم فيه ضيوفا على الله .. وأخبر أنه مجلس تحضره الملائكة .. وأخبر أنه مجلس يرفع تقريره إلى الله .. وأخبر أنه مجلس تستجاب فيه الدعوات، وتلبى فيه الطلبات.. ومثل هذا المجلس الذي شرف هذا التشريف ينبغي أن لا تقل هيبته عن هيبة الصلاة.

قلنا: نحن نعرف أركان الصلاة وفضائلها وموانعها ونواقضها .. فهل أثر عن سلفكم من أهل العلم ما يرتبط بمجلس العلم من أحكام؟

قال: أجل .. لقد اتفق جميع أهل الله من ورثة رسول الله r على أن لمجلس العلم من الحرمة ما لا يقل عن حرمة الصلاة .. فلذلك سنوا فيه من الآداب ما يحفظ حرمته، ويعطيه حقه من التعظيم.

قلنا: فحدثنا عن ذلك.

قال: سأحدثكم عن عشر تجمع أصول ذلك .. أما فروعه فستتدربون عليها في هذا المجلس حتى لا تطردوا من حلق العلم.

قلت: وهل يمكن لمعلم أن يطرد من يتعلم على يديه؟

قال: لقد كان ذلك سنة السلف الصالح .. كانوا لا يرون أحدا يعكر مجلس العلم بالجدال وسوء الأدب إلا طردوه.

قلت: ألا ترى أنهم يقسون عليه بذلك؟

قال: رب قسوة تحمل من الرحمة ما لا تحمله أي رحمة، ألم تسمع الشاعر الحكيم، وهو يقول:

وقسا ليزدجروا ومن يك راحما
 

فليقس أحيانا على من يرحم
  

قلنا: بلى .. فحدثنا عن الأول.

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم من أهل العلم أن من آداب الطالب والأستاذ إذا عزم على الجلوس مجلس التدريس أن يتطهر من الحدث، وينظف، ويتطيب، ويلبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل ‏زمانه، قاصداً بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة.

لقد كان مالك ـ رحمه الله ـ إذا جاءه الناس لطلب الحديث، اغتسل، ‏وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، ووضع رداءه على رأسه، ثم يجلس على منصبته، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ؛ وقال: ‏أحب أن أعظم حديث رسول الله r .

قال بعض الطلبة: لقد قرأت في جامع الخطيب من شعر على ـ رضي الله عنه ـ الممتلئ بالحكمة قوله:

أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها
 

زين الرجال بها تعز وتكرم ‏
  

دع التواضع في الثياب تحرياً
 

فالله يعلم ما تجن وتكتم ‏
  

فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة
 

عند الإله وأنت عبد مجرم ‏
  

و بهاء ثوبك لا يضرك بعد أن
 

تخشى الإله وتتقي ما يحرم ‏
  

قلنا: فحدثنا عن الثاني.

قال: أنتم تعرفون صلاة الاستخارة؟

قلنا: وما علاقتها بهذا؟

قال: لقد كان من سلفنا من يقدم على مجلسه هذه الصلاة.

قلنا: لم؟

قال: حتى يكون تحركه للعلم والتعليم بتحريك الله لا بتحريكه .. ثم إن في العلم مجاهيل، فهو يحتاج من الله أن يوفقه لسلوك متاهاتها .. ثم إن في العلم فروعا كثيرة، فهو يحتاج لأن يخير الله له خيرها، وأوفقها بالنسبة له.

قلنا: فما نقول؟

قال: لقد ورد في السنة ما نقول .. وحسبنا بها.

قلنا: ولكن السنة تركت لنا ذكر الحاجة، فما نقول فيما يرتبط بهذا؟

 قال: كان بعض أهل الله من أهل العلم يقول :( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا ‏أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم أن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه وانطق به في حقي وفي حق ‏غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري وينطق به في حقي وحق أهلي وولدي وما ملكت يميني، من ساعتي، هذه إلى مثلها ‏من الغد، خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك ‏فيه وأنطق به في حقي وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري في حقي وفي حق أهلي وولدي، وما ملكت يميني من ‏ساعتي هذه إلى مثلها من الغد، شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني وأصرفني عنه واقدر لي الخير حيث ‏كان ثم رضني به)

قلنا: فحدثنا عن الثالث.

قال: أن ينوي بطلب العلم أو نشره تبليغ أحكام الله تعالى التي ائتمن ‏عليها، وأمر ببيانها والازدياد من العلم، وإظهار الصواب، والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام ‏على إخوانه من المسلمين والدعاء للسلف الصالحين.

يحكى عن بعضهم أنه كان يكتب حتى تكل يده، فيضع القلم ثم ينشد من باب الإشارة:

لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً
 

على غير ليلى فهو دمع مضيع ‏
  

قلت: حقيق بطالب العلم ومعلمه أن يفرح، فكيف يبكي هذا؟ .. ألم يبلغه فضل أهل العلم؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)﴾ (المؤمنون)؟

قلت: بلى .. وقد ورد في تفسيرها عن عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قلت: يا رسول الله، قول الله :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: (لا، ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه)[136]

قال: فأهل العلم هم أولى بالخشية من غيرهم .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28)

قلت: بلى ..

قال: فأعظم الخشية هو أن يخاف المؤمن أن لا يقبل منه .. لقد قال بعضهم يعبر عن ذلك:( الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)

قلنا: فحدثنا عن الرابع.

قال: من آداب طالب العلم أن لا يتحرك في طريقه إلى مجلس العلم إلا بصحبة ذكر.. فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين، إن لم ‏يكن وقت كراهة، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبلاً ‏القبلة لقوله r :( أكرم المجالس ما استقبل القبلة)[137]

ويكون جلوسه بسكينة، ووقار، وتواضع، وخشوع، متربعاً، أو غير ذلك مما لا يكره من ‏الجلسات، ولا يجلس مقعياً، ولا مستفزاً، ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير ‏عذر، ولا متكئاً على يديه إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف، والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث ‏والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك، لأنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة.

قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على كل هذا؟

قال: أجل .. ألم تسمع حديث جبريل u الذي جاء يعلمنا فيه ديننا؟

قلت: بلى .. بل أحفظه.

قال: فحدثنا به.

قلت: لقد حدث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله r ، ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي r ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله r : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه ! قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت. الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم[138].

قال: إن هذا الحديث أصل من أصول أدب طالب العلم في درسه .. انظر كيف جلس، وكيف سأل، وكيف سمع، وكيف أجاب .. إن جبريل u لم يعلمنا فقط أصول ديننا، بل علمنا مع ذلك السمت الذي نطلب به علوم ديننا .. فلا يمكن أن نتعلم الدين في مدارس المشاغبين.

قلنا: فحدثنا عن الخامس.

قال: أن يقطع طالب العلم كل ما يحول بينه وبين التفرغ للعلم والتنصت له والتأمل فيه .. فلا يدرس وقت جوعه، أو عطشه، أو همه، أو غضبه، ‏أو نعاسه، أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم، أو حره المزعج، فربما سمع ما لم يتحقق من سماعه، أو فهم ما لا يصح أن يفهمه .. وإن كان أستاذا ربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، لأنه لا يتمكن ‏من استيفاء النظر.

قلت: أهذا قياس على ما ورد في الحديث من نهيه r عن صلاة الحاقن، فعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r نهى أن يصلي الرجل وهو حاقن[139] .. وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r :( لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حاقن)[140] ..  وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي r:( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)[141]

ونهيه r عن صلاة الحازق[142]، وهو صاحب الخف الضيق، وقوله :( لا رأي لحازق)[143]

قال: ليس ذلك قياسا .. بل العلم لا يختلف عن الصلاة .. فكما أن هذه الشواغل تصرف عن الصلاة، وتؤثر في خشوعها، فهي كذلك تصرف عن العلم، وتؤثر على معايشة الطالب ما يتعلمه .. وذلك يحول بينه وبين الاستفادة منه.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بكلام جميل قاله ابن الجوزي، إن أذنت ـ يا شيخنا ـ حدثتكم به.

أشار إليه آذنا، فأخذ الطالب يقرأ من ذاكرته .. وكأنه ابن الجوزي حضر معنا ..:( رأيت نفسي كلما صفا فكرها أو اتعظت بدارج أو زارت قبور الصالحين تترك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى، فقلت لها يوما وقد كلمتني في ذلك: حدثني ما مقصودك؟ وما نهاية مطلوبك؟ أتراك تريدين مني أن أسكن قفرا لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه؟ أو أن آكل الجشب الذي أتعوده فيقع نضوى طلحا في يومين؟  أو أن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا؟ أو أن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي بقاء القدرة على الطلب.

با الله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم.

اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل، وليس مرادي بالرفق الإكثارمن الشهوات، وإنما أعنى أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوى الذهن.

ألا ترى إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله r :( لا يقضي القاضي بين اثنين، وهو غضبان)[144].. وقاس العلماء على ذلك الجوع، وما يجري مجراه من كونه حاقنا أو حاقبا.

وهل الطبع إلا ككلب يشغله الآكل؟ فإذا رمى له ما يتشاغل به طاب له الكل، فأما الإنفراد والعزلة، فعن الشر، لا عن الخير.

ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله r وعن أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ

 هيهات لقد عرفت أن أقواما ما دام بهم التقلل واليبس إلى تغير فكرهم، وقوى الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف وإذا به من سوء الهضم، وفيهم من ترقي به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة، .

فالله الله في العلم، واالله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه، فإذا حفظا حفظا وظائف الزمان ودفعا ما يؤذي وجلبا ما يصلح وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة)[145]

قلنا: فحدثنا عن السادس.

قال: أن يعطي لمجلس العلم حقه من الأدب .. لقد قال الله تعالى يشير إلى مجامع ذلك :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11) .. انظروا كيف ربط الله تعالى بين المجالس والعلم .. وانظروا كيف أمر الله تعالى الجالسين بالطاعة المطلقة لمن يريد أن ينظم مجلسهم، فإذا أمرهم بالفسح فسحوا، وإذا أمرهم بالنشوز نشزوا؟

قال بعض الطلبة: لقد روي في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل بن حيان قوله: أنزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله r يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله r ، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فرد النبي r، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي r ما يحملهم على القيام، فلم يُفْسَح لهم، فشق ذلك على النبي r ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار، من غير أهل بدر: (قم يا فلان، وأنت يا فلان)، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي r الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فبلغنا أن رسول الله r قال: (رحم الله رجلا فَسَح لأخيه)، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة[146].

قال الشنقيطي: انظروا كيف تولى رسول الله r تنظيم المجلس .. ولولا أنه من الآداب اللازمة في مجلس العلم ما فعله.

قلنا: فما هي آداب المجالس التي يجب على طالب العلم أن يراعيها؟

قال: أولها .. أن يجلس حيث انتهى به المجلس، فلا يتخير محلا دون غيره إلا لغرض، ولا ينبغي أن يزاحم من هو أولى منه على مجلسه .. لقد روي في الحديث: أن رسول الله r كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي؛ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك.

وورد في الحديث تعميم هذا، فعن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r كان يقول: (لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[147]

ولهذا أمر r أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.

قلت: ألا يحمل هذا التقديم نوعا من الجور كما ذكر المنافقون؟

قال: يستحيل على رسول الله r أن يقع في الجور .. بل هذا عين العدل .. أليس العدل هو أن تضع كل شيء في موضعه الذي وضعه الله فيه؟

قلنا: بلى ..

قال: فالمجالس كذلك .. إن مجالس العلم قد تحتاج حوارا ومراجعات، ولا يصلح لهذا غير أولي الأحلام والنهى ..

إن مجالس العلم كصفوف الصلاة تماما، وقد روي عن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله :( كان رسول الله r يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافًا[148].

أتدرون لم قدم أولي الأحلام والنهى بهذه المرتبة دون غيرهم؟

قلنا: الحكمة في ذلك يسيرة .. فالإمام قد يحتاج إلى من يفتح عليه، وقد يحتاج إلى من يستخلفه .. ولا يصلح لذلك إلا أولو الأحلام والنهى.

قال: فهكذا مجلس العلم .. قد ينسى المعلم، فيذكر، وقد يخطئ فيصوف، وقد يراجع فيحقق ..

قلنا: عرفنا هذا، فهل هناك أدب غيره.

قال: من آداب المجالس التي لا تستقيم مجالس العلم إلا بها أن يحترم الجالس الجلساء، فلا يقيم أحدا من مجلسه ليجلس فيه دون.

قلت: أحفظ في ذلك قوله r :( لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا)[149]

قال آخر: وأحفظ في ذلك قوله r :( لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ولكن ليقل: افسحوا)[150]

قال آخر: وأحفظ في ذلك قوله r :( لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)[151]

قلنا: وعينا هذا، ووعينا كل ما ورد في السنة من مثله[152] .. فهل أثر عن سلفكم من العلماء تخصيص مجالس العلم بمزيد من الآداب؟

قال: لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله r على أن طالب العلم إذا حضر مجلس الشيخ، سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعهم، وخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك ‏يسلم إذا انصرف، وإذا سلم، فلا يتخطى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ، من لم يكن منزلته كذلك، بل يجلس حيث ‏انتهى به المجلس، كما ورد في الحديث، فإن صرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كانت منزلته، أو كان يعلم إيثار ‏الشيخ والجماعة لذلك فلا بأس، ولا يقيم أحداً من مجلسه، أو يزاحمه قصداً فإن آثره بمجلسه لم يقبله إلا إن يكون في ‏ذلك مصلحة يعرفها القوم، وينتفعون بها من بحثه مع الشيخ لقربه منه أو لكونه كبير السن، أو كثير الفضيلة والصلاح، ‏ولا ينبغي لأحد إن يؤثر بقربه من الشيخ إلا لمن هو أولى بذلك، لسن أو علم أو صلاح، بل ‏يحرص على القرب من الشيخ إذا لم يرتفع في المجلس على من هو أفضل منه، وإذا كان الشيخ في صدر مكان فأفضل ‏الجماعة أحق بما على يمينه ويساره، وإن كان على طرف صفه أو نحوها، فالمبجلون مع الحائط ومع طرفها قباله، وينبغي ‏للرفقاء في درس واحد، أو دروس، أن يجتمعوا إلى جهة واحدة ليكون نظر الشيخ إليهم جميعاً عند الشرح، ولا يخص ‏بعضهم في ذلك دون بعض.

ومن الآداب التي ذكروها في هذه المجالس أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه، وهم رفقاؤه فيوقر أصحابه ويحترم كبراءه ‏وأقرانه، ولا يجلس وسط الحلقة، ولا قدام أحد، إلا لضرورة، كما في مجلس التحديث. ولا يفرق بين رفيقين، ولا بين ‏متصاحبين، إلا برضاهما معا، فقد جاء النهي عن الجلوس بين الرجلين إلا بإذنهما، فإذا وسعوا جلس وجمع نفسه، ولا ‏يجلس فوق من هو أولى منه.

قال أبو محمد اليزيدي: أتيت الخليل بن أحمد في حاجة فقال لي: ههنا يا أبا محمد، فقلت: أضيق عليك، فقال إن الدنيا ‏بحذافيرها تضيق عن متباغضين، وإن شبراً في شبر لا يضيق على متحابين.‏

وينبغي للحاضرين إذا جاء القادم أن يرحبوا به، ويوسعوا له، ويتفسحوا لأجله، ويكرموه بما يكرم به مثله، فإذا تفسح له ‏في المجلس وكان حرجاً ضم نفسه ولا يتوسع، ولا يعطي أحداً منهم جنبه ولا ظهره، ويتحفظ من ذلك ويتعهده عند ‏بحث الشيخ له ولا يجنح على جاره، أو يجعل مرفقه قائماً في جنبه، أو يخرج عن بنية الحلقة بتقدم أو تأخر. ولا يتكلم في ‏أثناء درس غيره أو درسه بما لا يتعلق به، أو بما يقطع عليه بحثه، وإذا شرع بعضهم في درس، فلا يتكلم بكلام يتعلق ‏بدرس فرغ، ولا بغيره مما لا تفوت فائدته، إلا بإذن الشيخ وصاحب الدرس. ولا يتكلم بشيء حتى ينظر فيه فائدة ‏وموضعاً، ويحذر المماراة في البحث والمغالبة فيه، فإن ثارت نفسه ألجمها بلجام الصمت والصبر، فإن ذلك أقطع لانتشار الغضب وأبعد عن منافرة القلوب، وإن أساء بعض ‏الطلبة أدباً على غيره لم ينهره غير الشيخ، إلا بإشارته أو سراً بينهما على سبيل النصيحة، وإن أساء أحد أدبه على ‏الشيخ، تعين على الجماعة انتهاره ورده، والانتصار للشيخ بقدر الإمكان وفاء بحقه، ولا يشارك أحد من الجماعة أحداً ‏في حديثه ولا سيما الشيخ، فإن علم إيثار الشيخ ذلك أو المتكلم فلا بأس به.

قلنا: هذه آداب طالب العلم في مجلسه .. فما آداب المعلم؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في ذلك أن يجلس بارزاً لجميع الحاضرين موقراً فاضلهم بالعلم والسن، والصلاح والشرف، ويتلطف بالباقين، ويكرمهم بحسن السلام، وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قسطاً بحسب ‏الحاجة، ويخص من يكلمه أو يسأله، أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه وإقبال عليه، وإن كان صغيراً ‏وضعيفاً، فإن ترك ذلك من أفعال المتجبرين المتكبرين.

قلنا: فحدثنا عن السابع.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (البقرة:104)

قال بعض الطلبة: لقد نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أن يتشبهوا بالكفار في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورون بالرعونة، كما قال تعالى مخبرا عنهم :﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ﴾ (النساء: 46)

وهكذا ورد في الأحاديث أنهم كانوا إذا سَلَّموا يقولون: السامُ عليكم، والسام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ (وعليكم)، وأخبرنا أنه إنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.

قلنا: عرفنا هذا .. فما وجه الإشارة فيه إلى آداب طالب العلم مع درسه؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم تطبقا لهذا أن أن يصان مجلس العلم عن اللغط، فإن الغلط تحته، وعن رفع الأصوات واختلاف وجهات البحث.

قال الربيع: كان الشافعي ‏إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد.

ويتلطف في دفع ذلك في ‏مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس، ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهة المماراة، لا سيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود ‏الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب، وطلب الفائدة، وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء لأنها سبب ‏العداوة والبغضاء، بل يجب أن يكون الاجتماع ومقصودة خالصاً لله تعالى ليثمر الفائدة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ‏ويتذكر قوله تعالى :﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (لأنفال:8)، فإنه يفهم أن إرادة إبطال الحق أو تحقيق الباطل صفة ‏إجرام فليحذر منه.

قلنا: فإن حصل التعدي في هذا .. فماذا على المعلم؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصافا بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، ‏أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ‏ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وكل ذلك بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه.

قلنا: فحدثنا عن الثامن.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(البقرة: من الآية223)

قال بعض الطلبة: كيف تستشهد بهذا في هذا المحل؟ .. إن هذا ورد في محل أنت تعرفه[153].

قال: فما قال ابن عباس في التقديم؟

قال الطالب: لقد ذكر أنه قول بسم الله .. وفي حديث آخر جمع التسمية مع الاستعاذة من الشيطان[154].

قال: فإن كنا قد أمرنا في ذلك المحل الذي قد تنتشر فيه الغفلة أن نقدم لأنفسنا بذكر، فكيف لا نفعل ذلك في مجلس العلم الذي هو محارب من محاريب التعبد لله.

قلنا: فما أثر عن سلفكم من العلماء في هذا؟

قال: لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله r على أن على أهل العلم أن يقدموا على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتاب الله تعالى تبركاً وتيمناً، فإن كان في ‏مدرسة شرط فيها ذلك اتبع الشرط، ويدعو عقيب القراءة لنفسه، وللحاضرين، وسائر المسلمين، ثم يستعيذ بالله من ‏الشيطان الرجيم، ويسمى الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي r، ويترضى عن أئمة ‏المسلمين ومشايخه، ويدعو لنفسه وللحاضرين ووالديهم أجمعين، وهو واقف مكانه إن كان في مدرسة أو نحوها جزاء ‏لحسن فعله وتحصيلاً لقصده.

قلت: ألا ترى أن في هذا تضييعا لوقت كثير؟

قال: الوقت يضيع باللغو .. لا بذكر الله .. والمدرسة عندنا هي المدرسة التي تعمق بالإيمان بالله، وتملأ القلب بحبه، وتملأ النفس بالتهذيب والأدب .. ولم نجد داواء يجمع لنا كل ذلك ككتاب الله وذكر الله، وقد قال رسول الله r :( ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا، ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي r إلا كان مجلسهم تره عليهم يوم القيامة)[155]

 قال بعض الطلبة: وفي حديث آخر، قال r :( ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى ولم يصلوا على نبيهم الا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)[156]

قال آخر: وفي حديث آخر، قال r :( ما اجتمع قوم، ثم تفرقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النبي r إلا قاموا عن أنتن جيفة)[157]

قال آخر: وفي حديث آخر، قال r :( ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة)[158]

قلت: عرفنا بما يبدأ الدرس، فبم ينتهي؟

قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله r على أن يقول المدرس عند ختم كل درس: (والله أعلم)، أو غيرها من الصيغ التي تدل على البراءة من الذات، واللجوء إلى الله .. أو يقول كلاما يشعر بختم الدرس كقوله: (وهذا آخره) أو (ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى) ونحو ذلك، ليكون قوله ‏(والله أعلم) خالصاً لذكر الله تعالى ولقصد معناه.

وقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن الأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآداباً له ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها أنه إن كان في ‏نفس أحدهم بقايا سؤال سأله، ومنها عدم ركوبه بينهم إن كان يركب وغير ذلك.

واستحبوا له إذا قام أن يدعو بقوله:(سبحانك اللهّ، اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)

قال بعض الطلبة: لقد نص الحديث على هذا، فقد قال r :( من جلس في مجلسٍ، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)[159]

قال آخر: وفي الحديث عن أبي برزة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يقول بأخرةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ؟ قال: (ذلك كفارةٌ لما يكون في المجلس)[160]

قال آخر: وفي الحديث عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلما كان رسول الله r يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الدعوات: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون عينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)[161]

قلنا: فحدثنا عن التاسع.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ (لقمان: من الآية19)

قلنا: تقصد خفض الصوت.

قال: بحيث يسمعه السامعون .. فلا يتجاوز به مسامعهم، ولا يقصر به عنها.

قلنا: فما أثر عن سلفكم في هذا؟

قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله r على أن على المعلم في درسه أن لا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة.

ورووا في ذلك عن النبي r قوله :( إن الله يحب الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع)[162]

وذكروا أن الأولى أن لا يجاوز ‏صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمع.

وذكروا أنه لا ينبغي له أن ‏يسرد الكلام سرداً، بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه .. وقد رووا في ذلك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :( لم يكن رسول الله r يسرد الحديث[163] كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام فصل[164]، يحفظه من يجلس إليه، لو عده العاد لأحصاه)[165]

وقالت :( كان كلام رسول الله r فصلا، يفهمه كل من يسمعه)[166]

وقالت :(  كان رسول الله r إذا تكلم تكلم نزرا[167]، وأنتم تنثرون الكلام نثرا)[168]

وكان من سنته r أن يكرر الكلام ـ إذا اقتضى المقام ذلك ـ حتى يعقل عنه .. فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال:( كان رسول الله r يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه)

وقال:( كان رسول الله r إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا)[169]

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال:( كان رسول الله r إذا تحدث بالحديث، أو سئل عنه كرره ثلاثا ليفهم عنه)[170]

وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال:( كان رسول الله r إذا تكلم تكلم ثلاثا)[171]

قلنا: فحدثنا عن العاشر.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

قلنا: هذه الآية جامعة من جوامع العلم، فما حظ المعلم منها؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في ذلك آدابا:

منها أن يتودد المعلم لكل غريب أو جديد حضر عنده، وينبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة .. ونصحوا بأن لا يكثر الالتفات والنظر إليه استغراباً له، ‏فإن ذلك يخجله.

وذكروا أنه إذا أقيل بعض الفضلاء، وقد شرع المعلم في مسألة أمسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة ‏أعادها له أو أعاد مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ‏ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

ومنها أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيراً، ولا يترفع عن سماعه فيحرم ‏الفائدة، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور، ووقع على المعنى عبر عن مراده، وبين ‏وجه إيراده ورد على من رد عليه، ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره، ويقصد بكل ذلك النصح والإرشاد وطلب ‏النجاة، وما يعود نفعه على الكل، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما ‏يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد ‏قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول ‏لما لا يعلم: الله أعلم)، وعن بعضهم: (لا أدري نصف العلم)، وعن ابن عباس: (إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله)

قلت: ألا ترى أن في قوله هذا حطا من قدره .. بحيث يتهمه طلبته بالجهل، وهو ما يرفع ثقتهم فيه، ويمنعهم من الاستفادة منه؟

قال: ذلك عند أهل الدينا .. أما عند أهل الدين .. فالأمر مختلف تماما .. إن هذا القول عند أهل الدين والورع يدل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، ‏وحسن تثبته.

وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف ‏من سقوطه من عيون الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر ‏خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه.

مع معلمه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع الدرس مدة، انتقلنا إلى الفرع الرابع للسمت، وهو السمت مع المعلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله r : ( ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)[172]

فسألناه عن حق العالم، فقال: أول حق للعالم أن يعز ويكرم ويرفع قدره .. فرفع قدر العالم رفع لقدر العلم .. ومن أذل عالما، فقد أذل العلم، ومن أذل العلم، فقد أذل ما أمر الله بأن يعز.

قلت: فما علاقة ذلك بالعلم، وما تأثيره فيه؟

قال: لقد قال الشاعر الحكيم يبين سر ذلك:

إن المعلم والطبيب كلاهما
 

لا ينصحان إذا هما لم يكرما ‏
  

فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه
 

واصبر لجهلك إن جفوت معلما
  

قال بعض الطلبة: لقد أنشد صالح بن عبد القدوس يقول:

وإن عناء أن تعلم جاهلا
 

فيحسب أهلا أنه منك أعلم ‏
  

متى يبلغ البنيان يوما تمامه
 

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ‏
  

متى ينتهي عن سيئ من أتى به
 

إذا لم يكن منه عليه تندم ‏
  

قال آخر: وقال الشاعر الآخر يذكر ترجيح حق المعلم على حق الوالد:

يا فاخرا للسفاه بالسلف
 

وتاركا للعلاء والشرف ‏
  

آباء أجسادنا هم سبب
 

لأن جعلنا عرائض التلف ‏
  

من علم الناس كان خير أب
 

ذاك أبو الروح لا أبو النطف ‏
  

قلت: ألا يعني إعزاز العالم إذلالا للمتعلم؟

قال: هي ذلة عزة لا ذلة هوان .. لقد عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ : ذللت طالبا فعززت مطلوبا .. وقال آخر: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا  .. وقال آخر: إذا قعدت ، وأنت صغير حيث تحب قعدت ، وأنت كبير حيث لا تحب.

قلت: عرفنا الإجمال، فهات التفصيل ..

قال: حقوق المعلم سبعة .. وهي بالسبعين أشبه منها بالسبعة.

قلنا: فما أولها؟

قال: أن لا يتكبر طالب العلم عن أخذ العلم عن أي عالم .. كان غنيا أو فقيرا .. معروفا بين الناس أو خاملا .. فرب علم تجده عند خامل، ولا تجد عند معروف.

قال بعض الطلبة: لقد قال رسول الله r يذكر ذلك:( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)[173]

قال آخر: وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: ( خذ الحكمة أنى كانت ، فهي تكون في صدر المنافق ، فتلجلج من صدره حتى تخرج ، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن)، وقال: (الحكمة ضالة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق )

قال آخر: لقد قال الشاعر يذكر ذلك:

لا تحقرن عالما وإن خلقت أثوابه في عيون رامقه
 

وانظر إليه بعين ذي أدب مهذب ‏الرأي في طرائقه
  

فالمسك بينا تراه ممتهنا بفهر عطاره وساحقه
 

حتى تراه في عارضي ملك وموضع ‏التاج من مفارقه ‏
  

قال آخر: وقد قال الشاعر الآخر، وأحسن:

العالم العاقل ابن نفسه
 

أغناه جنس علمه عن جنسه ‏
  

كن ابن من شئت وكن مؤدبا
 

فإنما المرء بفضل كيسه ‏
  

وليس من تكرمه لغيره
 

مثل الذي تكرمه لنفسه ‏
  

قال آخر: وقد روي أن علياً بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ كان يذهب إلى زيد بن أسلم، فيجلس إليه يعني للأخذ عنه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه ؟ فقال: (العلم ‏يتبع حيث كان وممن كان)، أي أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.

قال آخر: وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : (‏الشريف كل الشريف من شرفه علمه، والسؤدد حق السؤدد لمن اتقى ربه، والكريم من أكرم عن ذل النار وجهه)

قلنا: فما الثاني؟

قال: أن يقدر الجهد الذي يبذله معلمه، فيعترف له به، ويشكره عليه، فقد قال رسول الله r :( من لم يشكر الناس لم يشكر الله)[174]، وفي رواية :( لا يشكر الله من لا يشكر الناس)[175]

بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك ، حيث عبر بأفعل التفضيل ليدل على أن من الكمال شكر وسائط الجود الإلهي ، لينفي ما قد يتوهم من أن ذلك مناف للتوحيد ، قال r :(إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس)[176]

قال بعض الطلبة: لقد دعا رسول الله r إلى مقابلة الإحسان بالشكر والثناء والاعتراف بالفضل لأهل الفضل ، فقال r :( من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر)[177]

قال آخر: وقال r :( من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)[178]

قال آخر: وقال r :( من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر)[179]

قال آخر: بل اعتبر r المثني على الخير والشاكر له في درجة العامل به ، فعندما أعجب المهاجرون بأخلاق الأنصار وتضحياتهم في سبيل الله ، قالوا لرسول الله r :(   يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير، ولا مواساة في القليل منهم، ولقد كفونا المؤونة)، فقال r :( أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم؟)  قالوا : بلى، قال :( فذاك بذاك)[180]

قال آخر، وقد كان أكبر الجماعة سنا: صدق رسول الله r .. لقد مارست في فترة طويلة من عمري التدريس في مدارس الصراع[181] .. وكنت أرى الطلبة كيف يستهنون بمعلميهم، وكيف يحتقرونهم ..

وقد كان لي بعض الأصدقاء من المعلمين، اسمه  إبراهيم طوقان، وكان شاعرا، وقد جمعه مجلس ذات يوم مع أحمد شوقي، فأخذ شوقي يترنم بقصيدته المعروفة، والتي يقول مطلعها:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا
 

كاد المعلم أن يكون رسولا
  

وقد لاقت القصيدة ترحيبا كبيرا من السامعين إلا من صديقي، الذي قام مغضبا، وراح يقول مرتجلا:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي
 

(قم للمعلم وفِّه التبجيلا)‏
  

اقعدْ فديتُك هل يكون مُبَجَّلًا
 

من كان للنشء الصغار خليلا
  

ويكاد يقلقني الأمير بقوله
 

(كاد المعلم أن يكون رسولا)‏
  

لو جرب التعليمَ شوقي ساعةً
 

لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا
  

حسبُ المعلمِ غمةً وكآبةً
 

مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا
  

مائةٌ على مائةٍ إذا هي صُلِّحتْ
 

وجد العمى نحو العيون سبيلا
  

ولَو آن في التصليح نفعًا يرتجى
 

وأبيك لم أكُ بالعيون بخيلا‏
  

لكن أصلِّح غلطةً نحويةً
 

مثلًا وأتخذ الكتاب دليلا
  

مستشهدًا بالغر من آياته
 

أو بالحديث مُفَصلًا تفصيلا
  

وأغوص في الشعر القديم وأنتقي
 

ما ليس ملتبسًا ولا مبذولا
  

وأكاد أبعث سيبويه من البلى
 

وذويه من أهل القرون الأولى
  

فأرى حمارا بعد ذلك كله
 

رفع المضاف إليه والمفعولا
  

لا تعجبوا إن صِحْتُ يومًا صيحةً
 

ووقعت ما بين البنوك قتيلا
  

يا من يريد الانتحار وجدته
 

إن المعلم لا يعيش طويلا
  

قال آخر: صدقت .. لقد جربت مثلك التدريس في مدارس الصراع، وقد رأيت أن أكبر ما يبذله المعلم من جهد جهد ضائع، وما ذاك إلا لما ينقصهم من إكسير الأدب الذي دعا إليه رسول الله r .. وقد كان لي مثلك صديق أديب اسمه عبد الله بن سليم الرُّشَيد، وقد كتب في ذلك شعرا يقول فيه:

أروح وأغدو بالدفاتر مثقلًا
 

ويا بؤس من يمسي قرينَ الدفاترِ
  

أريق عليها أعيني كلَّ ليلةٍ
 

بهمة وقَّادٍ وعزمة صابر
  

وكم وقفةٍ بين التلاميذ قُمتُها
 

بلهجة حَضَّاضٍ على الحرب هادر
  

أمزِّق ساعاتي لترقيع وقتهم
 

وأهدر عمري بين جد وذاكر
  

وأحسب أني بالتلاميذ مُبدِلٌ
 

شيوخًا كبحر باللآلئ زاخرِ
  

فألقاهمُ من بعد شرِّ عصابةٍ
 

وإذ بصياحي كان صفقةَ خاسرِ
  

‏(زواملُ للأشعار لا علم عندهم
 

بجيِّدها إلا كعلم الأباعر)‏
  

قال آخر: واأسفاه على ذلك الزمان الذي كان فيه الأمراء يتسابقون على أحذية العلماء.

قلنا: كيف ذلك ومتى؟

قال: لقد روي أن المعلّم النحوي الشيخ الفراء كان يقوم بتعليم ولدَيْ الخليفة العباسي المأمون علوم العربية، وذات يوم أراد أن يقوم من درسه، فتسابق الأميران إلى حذائه ليقدِّماه إليه، وتنازعا على ذلك لحظة، ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما من الحذاء واحدة, ولما علم الخليفة الوالد (المأمون) بالقصة تأثر منها وأعجب بها.

قال آخر: لقد كان للمسلمين أسوة حسنة فيمن رباهم رسول الله r على هذا التبجيل لأهل العلم .. لقد حدث الشعبي ‏قال: أخذ ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ بركاب زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فقال له: أتمسك بي، وأنت ابن عم رسول الله r، قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء[182].

قال آخر: وروي عن الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ قال: رئي ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ آخذاً ‏بركاب أبي بن كعب، فقيل له: أنت ابن عم رسول الله r وتأخذ بركاب رجل من الأنصار؟ ‏فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف.

قلنا: فما الثالث؟

قال: أن تأخذ من العالم علمه، وما بدا لك من الحكمة منه، وتدع ما سوى ذلك.

قلنا: أذلك واجب أم حق؟

قال: هو واجب وحق .. أما كونه واجبا، فلأن الله تعالى حدد شرط الاتباع بالطاعة لله ورسوله، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات:1)

وأما كونه حقا .. فلأنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكلف معلمه عنتا.

قلنا: وما العنت الذي يكلفه في هذا؟

قال: إن من يفعل هذا يطلب ـ من حيث لا يشعر ـ عصمة معلمه، وذلك مما لا يكون إلا فيمن عصمهم الله، ونصت النصوص على عصمتهم، أما من عداهم، فهم عرضة للخطأ، ولا ينبغي لمن هو عرضة للخطأ أن نكلفه بالعصمة.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرني حديثكم هذا برجل سمعته يناظر في مجلس حافل، وقد استدل عليه مخالفه بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال :( إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه)، فأمسك عنه المستدل تعجبا ؛ ولأن شيخه كان محتشما.

قال الشنقيطي: لا تحسبن هذا محدودا فيمن رأيت .. فما أكثر من يلبس لباس العلم ظاهرا، بينما هو ـ في حقيقته ـ مقلد بشع التقليد، لا يتعصب إلا لمن ولاهم أمره، فهو يقبل على قوم إقبالا تاما، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا، ويدبر عن قوم من المسلمين غيرهم، أو عن أقوام، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا.

قال بعض الطلبة: لقد تصرفت مع هؤلاء تصرفا لست أدري مدى صوابه.

قال الشنقيطي: فما فعلت؟

قال: لقد رأيته يبغض الغزالي بغضا تاما، ويقبل على فلان الفلاني إقبالا تاما .. فكنت أبدل الأسماء في نقولي، فأضع مقولات الغزالي باسم من أحبه، فكانت تعجبه، وكان يثني عليها أتم الثناء .. وكنت أضع مقولات من أحبه باسم الغزالي، فكان ينكر عليها إنكارا شديدا، ويستعمل النصوص المقدسة في الإنكار عليه.

قال الشنقيطي: لقد ذكرتني بحادثة وقعت في عهد رسول الله r .. فقد حدث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي r، فأتى النبي r فقال: إني سألك عن خلال لا يعملهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ وما هذا السواد الذي في القمر؟ قال r :( أخبرني بهن جبريل آنفا)، قال: جبريل؟ قال: (نعم)، قال: عدو اليهود من الملائكة، ثم قرأ: :﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97)، قال: (أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق (تسوقهم) إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، وأما السواد الذي في القمر: فإنهما كانا شمسين، قال الله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ )(الاسراء: من الآية12)، فالسواد الذي رأيت هو المحو)[183]، فقال: (أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله)، ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه.

ثم خرج إلى رسول الله r فقال: (يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك)

فأدخله رسول الله بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه فقال: يا معشر يهود، يا ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا)، فقالوا: ما نعلمه، فقال: (أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟)، قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: (أرأيتم إن أسلم)، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فقال: (يا ابن سلام اخرج إليهم)

فخرج عبد الله فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.

قالوا: كذبت أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوه.

قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها[184].

قلت: ألأجل هذا ورد نهي العلماء عن اتباعهم اتباعا مطلقا؟

قال: أجل .. لقد خاف العلماء الورعون أن يكونوا حجبا عن أشعة الحقيقة، فلذلك يحذرون من يتعلم على أيديهم من التبعية المطلقة لهم.

قال بعض الطلبة: لقد كان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول: ( ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويُترَك إلا صاحب هذا القبر)

قال آخر: وكان الشافعي يقول لتلاميذه :( إذا رأيتم قولي يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط)، وكان يقول :( إذا صح الحديث فهو مذهبي)

قال آخر: وكان أحمد يقول: لا تقلدني ولا تقلدن أبا حنيفة ولا مالكًا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.

قال آخر: وكان أبو حنيفة يقول : إذا خالف الحديث قولي فاضرب بقولي عرض الحائط.

قال آخر: وكان مالك يقول: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر ، يقصد النبي r .

قال الشنقيطي: لقد كان قوله تعالى عن أهل الكتاب:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) هو الذي جعلهم يذكرون هذا ..

قال بعض الطلبة: لقد ورد في تفسيرها عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قوله: أتيت النبي r، وهو يقرأ في سورة براءة :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)، فقال: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)[185]

قلنا: فما الرابع؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً)(الفرقان: من الآية59)

قلنا: فما في هذه الآية من حقوق العالم؟

قال: من حق العالم أن يسأل .. فلا أضيع للعلم من ترك السؤال والبحث والنظر، وقد روي أن سفيان الثوري ـ رضي الله عنه ـ قدم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم.

وقال عطاء: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء.

قال بعض الطلبة: لقد سمعت المبرد ينشد عن أبي سليمان الغنوي قوله:

فسل الفقيه تكن فقيها مثله
 

لا خير في علم بغير تدبر ‏
  

وإذا تعسرت الأمور فأرجها
 

وعليك بالأمر الذي لم يعسر
  

قلت: فما تقول في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (المائدة:101)

ومثلها ما ورد في أن النبي r (كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)[186]

قال: السؤال نوعان: سؤال عن علم يحتاج إليه، فذلك فضل، وهو ما ورد في النصوص الأمر به.

وسؤال هو أقرب إلى الجدل منه إلى العلم، وقد ضرب له القرآن الكريم ببني إسرائيل في قصة البقرة، فقد راحوا يضيقون على أنفسهم حتى ضيق الله عليهم، وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم.

ولهذا كان النبي r يحذر من مثل هذا النوع من الأسئلة، ففي الحديث عن النبي r:( إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته)[187]، ولما سُئِل رسول الله r عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله r وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة[188].

ولهذا ورد في الحديث قوله r :( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)[189]، وقد قال لهم r هذا بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله r ثلاثًا، ثم قال r : (لا، ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم)

وهكذا قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : نُهينا أن نسأل رسول الله r عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع[190].

وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كان ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله r عن شيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب[191].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد r ، ما سألوه إلا عن ثنْتَي عشرة مسألة، كلها في القرآن :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾(البقرة:219) ، و﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ (البقرة: 217)، و﴿  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ (البقرة: 220) يعني: هذا وأشباهه[192].

قلت: أراك تكر على ما دعوتنا إليه لتنهانا عنه؟

قال: لا .. لقد ميزت بين الأمرين .. فهناك فرق كبير بين أن تسأل لتعمل أو لتتعلم، وبين سؤالك الذي هو أقرب إلى الاقتراح منه إلى السؤال..

لقد قال الله تعالى يذكر الثاني :﴿  يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ (النساء: 153)

وقد ضرب له المثل بسؤال للحواريين، فقال تعالى :﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:112)

ولهذا نهيت هذه الأمة أن يقع منها ما وقع لأهل الكتاب قبلها، فقال تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة:108)

وقد حدث أبو العالية في سبب نزول الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي r :( اللهم لا نبغيها ـ ثلاثًا ـ ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال :﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (النساء: 110)، وقال: (الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن) وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ﴾

قلنا: فما الخامس؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ )(الأحزاب: من الآية53)

قلنا: فما وجه الإشارة فيه؟

قال: أنتم تعلمون أن العلماء ورثة الأنبياء .. ولذلك، فإن هذا النوع من الأدب ليس خاصا برسول الله r .. بل هو مرتبط بورثته من العلماء.

قلنا: فهل أثر عن سلفكم من العلماء في تطبيق هذا أي سنة من سنن الهدى؟

قال: لقد اتفقوا جميعا أن طالب العلم لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا بالاستئذان، سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره، ولا ‏يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به، فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو ‏الحلقة، وليكن طرق الباب خفيفاً بآداب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً، قليلاً، فإن كان الموضع بعيداً ‏عن الباب أو الحلقة، فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يقدم أفضلهم وأسنهم بالدخول ‏والسلام عليه، ثم يسلم عليه الأفضل فالأفضل.

ونصوا على أنه ينبغي أن يدخل على الشيخ كامل الهيئة، متطهر البدن والثياب، ‏نظيفهما، بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر، وقطع رائحة كريهة، لا سيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ‏ذكر واجتماع في عبادة0

ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام، وعنده من يتحدث معه فيسكتوا من الحديث، أو ‏دخل والشيخ وحده يصلي، أو يذكر، أو يكتب أو يطالع، فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث، ‏فيسلم ويخرج سريعاً، إلا أن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا أن يأمره بذلك.

وينبغي أن يدخل على ‏الشيخ أو يجلس عنده وقلبه فارغ من الشواغل له، وذهنه صاف لا في حال نعاس أو غضب أو جوع شديد أو عطش أو ‏نحو ذلك، لينشرح صدره لما يقال، ويعي ما يسمع.‏

وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالساً، انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه، فإن كل درس يفوت لا عوض له، ولا ‏يطلب من الشيخ قراءة في وقت يشق عليه فيه، أو لم تجر عادته بالإقراء فيه، ولا يخترع عليه وقتاً خاصاً به دون غيره، ‏وإن كان رئيساً أو كبيراً، لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم، فإن بدأه الشيخ بوقت معين أو خاص ‏لعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة أو لمصلحة رآها الشيخ فلا بأس بذلك.

ونصوا على أن على طالب العلم أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ، أو متربعاً بتواضع وخضوع ‏وسكون، وخشوع، ويصغي إلى الشيخ ناظراً إليه، ويقبل بكليته عليه، متعقلاً لقوله، بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام ‏مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينفض كمه ولا يحسر عن ذراعيه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، ولا يضع يده ‏على لحيته أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، أو يستخرج بها منه شيئاً، ولا يفتح فاه ولا يقرع سنه، ولا يضرب الأرض ‏براحته، أو يخط عليها بأصابعه، ولا يشبك يديه أو يعبث بإزاره. ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط، أو مخدة أو يجعل ‏يده عليها أو نحو ذلك، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه وما ‏فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب ولا لعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم، تبسم ‏من غير صوت، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه، بل يأخذها ‏من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوب، ويتعاهد تغطية أقدامه وسكون يديه عند بحثه، أو مذاكرته، وإذا عطس خفض ‏صوته جهده، وستر وجهه بمنديل أو نحوه، أو إذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.

قال بعض الطلبة: أروي في هذا عن علي ـ رضي الله عنه ـ قوله :( من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه، ولا ‏تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطلبن عثرته، ‏وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ‏ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها ‏شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم انثلمت في الِإسلام ثلمة لا ‏يسدها شيء إلى يو م القيامة)[193]

قال آخر: وأروي عن بعضهم قوله: (من تعظيم الشيخ، أن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا ‏إذا جزم عليه جزماً يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب)‏

قلنا: فما السادس؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (الاسراء:47)، وقوله تعالى مقابل ذلك:﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18)، وقوله :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الاحقاف:29)

قلت: هذه آداب الاستماع.

قال: أجل .. وما ذكرته هذه الآيات حاصر لها ..

قلت: لاشك أن السماع شرط أساسي للتعلم، فلا يمكن أن يتعلم من لم يسمع.

قال: ولهذا حرص سلفنا من العلماء والصالحين من ورثة النبي r على تعليم طلبتهم حسن الاستماع، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحسن الاستماع.

قلنا: فما ذكروا من ذلك؟

قال: مما ذكروا في ذلك أن الطالب إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعراً وهو يحفظ ذلك، ‏أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط.

وقد ذكروا عن عطاء قوله في هذا: (إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، ‏فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً)، وعنه قال: (إن الشاب ليتحدث، فأسمع له كأن لم أسمعه، ولقد سمعته قبل إن يولد)

‏فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما ‏فيه من الكذب، بل يقول :( أحب إن أستفيده من الشيخ، أو أن أسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح)، ولا يكرر السؤال لما ‏يعلمه ولا يشغل ذهنه بفكر أو حديث، ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب، بل يكون مصغياً لكلامه حاضر ‏الذهن لما سمعه من أول مرة، فإن لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه مع الإصغاء والإقبال عليه، فله إن يسأل ‏الشيخ الإعادة والتفهيم بعد بيان عذره.

ومن هذا الباب نصوا على أن على طالب العلم أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به ‏أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى ‏يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.

وقد ورد في حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي r قوله :( ‏كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا)‏[194]

قلنا: فما السابع؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (المجادلة:8)

قلت: هذه الآية تؤكد النهي عن التناجي .. وهو نهي وردت فيه النصوص الكثيرة، وقد ذكر r علة النهي عنه، فقال :( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه)[195]، وفي رواية :( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)[196]

قال آخر: وفي الآية نهي عن التحية بما لم يعملنا ديننا أن نحيي به.

قال آخر: وفي الآية نهي أن نتحدث في نفوسنا بما يخالف حديث ألسنتنا.

قال الشنقيطي: إن هذه الآية تتحدث عن جميع الآداب التي ترتبط بالكلام .. وهي في مجلس العلم أوجب منها في غيره، فلا يمكن لمن لم يضبط لسانه بضوابط الآداب أن يستفيد من معلمه شيئا.

قلنا: فما أثر عن سلفكم في هذا غير ما ذكرت الآية؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم أن على الطالب أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان، ولا يقول له (لم، ولا نسلم)، ولا من يقول هذا، ولا أين موضعه؟ وشبه ‏ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك في مجلس آخر على سبيل الاستفادة، وإذا ذكرت شيئاً لا تقل (هكذا ‏قلت)، أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان. وهكذا لا تقول: قال فلان خلاف هذا، أو روى فلان خلافه، أو هذا ‏غير صحيح أو نحو ذلك.

وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل، ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهواً، فلا يغير وجهه ‏أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر عليه، لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيباً لغفلة، أو سهو، أو ‏قصور نظر في تلك الحال، فليس بمعصوم.

وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه ولا يليق خطابه به، ‏مثل ما بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان ونحو ذلك.

وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره، مما لا يليق ‏خطاب الشيخ به، وإن كان حاكياً مثل قال فلان لفلان، أنت قليل البر وما عندك خير وشبه ذلك، بل يقول: إذا أراد ‏الحكاية ما جرت العادة بالكناية به، مثل، قال فلان لفلان: إلا بعد قليل البر وما عند البعيد خير وشبه ذلك.

ويتحفظ ‏من مفاجأة الشيِخ بصورة رد عليه، فإنه يقع ممن لا يحسن الأدب من الناس كثيراً مثل، إن يقول له الشيخ: مرادك في ‏سؤالك كذا، أو خطر لك كذا، فيقول: لا، وما هذا مرادي أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك. بل طريقه أن يعيد كلامه ‏ولا يقول الذي قلته، والذي قصدته ليضمنه الرد عليه، وكذلك ينبغي أن يقول في موضع، لم ولا نعلم، فإن قيل لنا كذا ‏أو فإن منعنا ذلك، أو فإن سئلنا عن كذا أو فإن أورد كذا وشبه ذلك ليكون سائلاً له بحسن أدب ولطف عبارة.

4 ـ الإفادة

بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثالث من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الرابع، وهو فرع (الإفادة)[197]

وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى الإفادة، فقال: إن طالب العلم كما لا يختلف عن النبتة التي تسقى، ويعتنى بها .. فهو لا يختلف ـ كذلك ـ عن النبتة في انتظار ثمارها ونتاجها وفوائدها.

قلنا: إن النباتات تختلف في ثمارها .. فما ثمار طالب العلم المستن بسنة رسول الله r ؟

قال: لقد ذكر رسول الله r أصناف الثمار، فقال :( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفةٌ منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)[198]

ففي هذا الحديث ذكر رسول الله r ثمرتين صالحتين، وثمرة فاسدة.

أما الثمرة الأولى، وهي أصلح الثمار وأكملها، فهي ثمرة انتفعت بالعلم انتفاعا عظيما، حيث أنبتت من غيثه الكلأ والعشب الكثير الذي انتفع به الإنسان وغير الإنسان.

وأما الثمرة الثانية، فأمسكت من الماء ما انتفع به الناس بعد ذلك في سقيهم وزرعهم.

وأما الثمرة الثالثة، فلم تنتفع بشيء .. فلم تنبت كلأ، ولم تسق عطشانا.

قلت: فهل طلبة العلم يتوزعون على هذه الأصناف الثلاثة؟

قال: أجل .. فمن طلبة العلم من يداوم على طلبه ويحرص عليه، ويكون له من الذكاء وجودة الذهن ما يعينه عليه .. فذلك هو المحقق الذي ينتفع به الكل.

ومنهم من يحفظ للأمة دينها، ويحفظ ما جاء به نبيها من هدي، فيبلغه كما حفظه، فيستفيد من حفظه العموم والمحققون ..

ومنهم الذي لا يطيق هذا ولا ذاك .. والأولى به أن ينصرف إلى ما قدر عليه من تجارة أو غيرها من المكاسب.

قلنا: فحدثنا عن الثمرتين الأوليين.

قال: لقد عبر العلماء عن علوم الأولى بأنها علوم دراية وتحقيق .. وعبروا عن علوم الثانية بأنها علوم رواية وحفظ .. وقد جمع بينهما r في قوله :( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)[199]

قلنا: فحدثنا عن واجبات كلا الصنفين ليحقق من الإفادة ما أمر الله به.

قال: هما ثنتان، من تحقق بهما، فقد تحققت له الإفادة بأكمل معانيها.

قلنا: فما هما؟

قال: النصح والتعليم .. فالعالم لا يكتفي بأحدهما عن الآخر .. لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

قلنا: فبأيهما يبدأ؟

قال: هما قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر .. فالنصيحة لا تكون إلا بعلم .. والعلم لا يكون إلا بنصيحة وعن نصيحة.

قلنا: فكيف نجمع بين العلم والنصح، فيكون علمنا نصحا، ونصحنا علما؟

قال: هي تسعة .. من استكملها، فقد استكمل الجمع بينهما، ومن ضيعها، أو ضيع آحادها، فإن له منهما بحسب ما له منها.

النية:

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: هو ما أشار إليه r في حديث النيات .. فقد علمتم أن ذلك الحديث يدخل كل باب من الأبواب.

قلنا: فكيف يدخل هذا الباب؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا جملة نيات، والكامل هو من استجمعها جميعا .. فأجره على قدر نيته.

ومما ذكروه أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور ‏الحق، وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعدهم ‏وبركه دعائهم له، وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله r وبينهم، ‏وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه، فإن تعليمه العلم من أهم أمور الدين، وأعلى درجات المؤمنين.

ومما يعينه على ذلك ويرغبه فيه ذكره لما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات، وأنهم ورثة ‏الأنبياء، وعلى منابر من نور، ونحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والأخبار، والآثار، والأشعار.

قلت: فما علاقة النية بالنصح؟

قال: لا نصح بدون نية .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )(النساء: من الآية35)؟

قلت: بلى .. وأروي في ذلك عن سالم بن عبد اللّه أنه كتب إلى عمر بن عبد العزير يقول: (اعلم يا عمر أن ّ للّه تعالى عون للعبد بقدر النية، فمن تمّت نيته تم عون اللّه تعالى إياه، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه من عون اللّه تعالى بقدر ذلك، وقد قال اللّه تعالى في تصديق ذلك :﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )(النساء: من الآية35)، فجعل سبب التوفيق إرادة الإصلاح؛ فذلك هو أول التوفيق من الموفق المصلح للعامل الصالح.

قال: فقد أجابك سالم بدل عني .. وإن شئت المزيد، فقد كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي موسى الأشعري يقول: (إنه من خلصت نيته كفاه اللّه تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن للناس بما يعلم اللّه تعالى منه غير ذلك شانه اللّه تعالى)

وقال آخر: رأيت الخير إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم ينصب ربّ عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبر تصغره النية.

وكتب بعض الأدباء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.

وقال داود الطائي: من أكبر همه التقوى لو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة، فكذلك الجاهل باللّه تعالى وأيامه همه الدنيا والهوى، ولو تعلقت جوارحه بكل أعمال الصالحات لكان مرجوعًا إلى إرادة الدنيا وموافقة الهوى، لأن سرّها كان همه النفس لعاجل عرض الدنيا.

وقال محمد بن الحسين: ينبغي للرجل أن تكون نيته بين يدي عمله.

وقال أيوب السجستاني وغيره: تخلص النيّات على العمّال أشدّ عليهم من جميع الأعمال.

وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العلم.

وقال بعض العلماء: طلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.

وقال زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك تصبح ولا تهيّم للّه تعالى بمعصية وتمسي ولا تهيّم للّه تعالى بمعصية.

وقال بعض السلف في معناه: إنّ نعمة اللّه تعالى أكثر من أن تحصوها وإنّ ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توّابين وأمسوا توّابين يغفر لكم ما بين ذلك.

ويروى عن بعض المريدين، أنه كان يطوف على العلماء يقول: من يدلّني على عمل لا أزال فيه عاملاً للّه تعالى فإني أحبّ أن لاتجيء عليّ ساعة من ليلٍ أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال اللّه تعالى، فقيل له: قد وجدت صاحبك اعمل الخير ما استطعت، فإذا أقترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهامّ بعمل الخير كعامله.

قلت: لقد روي في السنة ما يدل على تصديق ذلك .. فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله r فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك: فمن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدةً)[200]

التبسيط:

قلنا: عرفنا الأولى .. فما الثانية؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يقرب لك المعلومة، ويبسطها، فتفهمها من غير عناء.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك، فقد سلك رسول الله r في التعليم أساليب تربوية كثيرة تبسط المعلومات وتقربها: فكان تارة يضرب لهم الأمثلة ، وتارة يستخدم الإشارة الحسية ، كأن يحكي فعل شخص ما ، وتارة يلغز لهم لينشطهم ، وتارة يقص عليهم من أحوال الأمم الماضية، ليكون في ذلك عبرة لهم ، وتارة يعلمهم عمليا ، بأن يفعل هو ما يريد فيتابعونه عليه، وتارة يسألهم عن الشيء ، ولم يسألوا عنه ثم يجيبهم ، وتارة يجيبهم على سؤالهم بأكثر مما أرادوا لأجل فائدة عظيمة لهم ، وغير ذلك كثير ..

قال بعض الطلبة: مما يروى في ذلك أن النبي r كان يستعمل يديه للإشارة إذا احتاج إلي ذلك .. ومما ورد في ذلك قوله r :( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)، وأشار بالسبابة والوسطى، ‏وفرَّج بينهما شيئاً[201].. ومن ذلك قوله r :( الفتنة من هاهنا)، وأشار إلى المشرق[202].

قال آخر: ومما يروى في ذلك ما ورد في سياق حجه r ، فقد روي أنه r أمر أصحابه، أن لمن لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه ‏بعد طوافه بين الصف والمروة ويجعلها عمرة، وقال: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم ‏أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة)، فقام ‏سراقة بن مالك بن جشم، فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله r أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: ( دخلت العمرة في الحج[203]) مرتين (لا .. بل لا ‏بل لأبد الأبد)[204]، فالنبي r شبك بين أصابعه ـ في هذا الحديث ـ ليبين ويؤكد ‏على أن هذا الحكم مستمر للأبد، ولا يخفى ما في هذه الحركة من معان قوية، تزيد الكلام تأكيداً ‏، وقوة إلى قوة .

قال آخر: ومما يروى في ذلك أن رسول الله r ذكر يوم الجمعة، فقال:‏‏( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه)، وأشار بيده ‏يقللها[205].

فإشارته r ـ في هذا الحديث ـ أفادت معنى ‏جديدً زائداً على كلامه r ، وهو أن هذه الساعة أمرها يسير في مقابل نيل أمر ‏عظيم ، وهذا من فضل الله على عباده.

قال آخر: ومما يروى في ذلك ما حدث به ‏جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ عن خطبة النبي r بالناس في ‏نمرة يوم عرفة ، حيث بين لهم في هذه الخطبة أموراً كثيرة وعظيمة، ثم بعد أن بلغهم قال لهم : ( وأنتم تسألون عني . فما أنتم قائلون ؟ ) قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال ‏‏: بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء، وينكتها[206] إلى الناس (اللهم اشهد،  اللهم اشهد) ‏ثلاث مرات[207].. ففي رفع الرسول r لأصبعه إلى السماء، ثم الإشارة بها إليهم جذب لأنظار الناس لهذا الأمر الهام والخطير وهو مقام الشهادة على التبليغ.

قال آخر: ومما يروى في ذلك قوله r :( يقبض العلم ، ‏ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج) قيل : يا رسول الله وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده، فحرفها ‏كأنه يريد القتل[208].

قال آخر: وكان r يستعمل ـ أحيانا ـ الرسوم التوضيحية، ومما يروى في ذلك أنه خطَّ مرة خطًّا مربعاً، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجاً منه، وخطَّ ‏خططا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله ‏محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه ‏هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)[209]

قال آخر: ومما يروى في ذلك عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: خط رسول الله r خطاً ‏بيده، ثم قال:( هذا سبيل الله مستقيماً)،  وخط عن يمينه وشماله ثم قال:( هذه السبل ليس منها ‏سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )(الأنعام: من الآية153)[210]

قال آخر: وكان r  ـ أحيانا ـ يربط المعنى المعقول بالصورة المحسوسة، فينظر مرة إلى القمر ليلة البدر ثم ‏يقول:(إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على ‏صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (قّ:39)[211]، وقال لعلي ـ رضي الله عنه ـ :( قل: اللهم اهدني، وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، ‏وبالسداد سداد السهم)[212]

قال آخر: وكان r يضرب المثل ليبسط بها المعلومة، ويقربها، ومما يروى في ذلك قوله r:( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ‏كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا ‏استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن ‏يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)[213]

ومثله قوله r :( لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه ‏راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتدَّ عليه ‏الحرُّ والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته ‏عنده)[214]

قال آخر: وكان r  ـ أحيانا ـ يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ‏فدعوا الله بصالح أعمالهم[215]، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين ‏نفسا[216] .. وغيرها.

قال آخر: وكان r ـ في أحيان كثيرة ـ يصور المعلومة في واقع محسوس، ليصفو فهمها، ويشتد رسوخها، ومما روي في ذلك ما حدث به أبو حازم , قال : سألوا سهل بن سعد , من أى شىء المنبر؟ فقال: ما بقى بالناس أعلم مني , هو من أثل الغابة ، عمله فلان مولى فلانة , لرسول الله r ، وقام عليه رسول الله r , حين عمل ووضع ، فاستقبل القبلة , كبر , وقام الناس خلفه ، فقرأ , وركع , وركع الناس خلفه ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقرى ، فسجد على الأرض ، ثم عاد إلى المنبر ، ثم قرأ ثم ركع ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض ، فهذا شأنه.

وفي رواية : أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدى ، وقد امتروا فى المنبر , مم عوده , فسألوه عن ذلك , فقال : والله إنى لأعرف مما هو ، ولقد رأيته أول يوم وضع ، وأول يوم جلس عليه رسول الله r . أرسل رسول الله r إلى فلانة , امرأة من الأنصار ـ قد سماها سهل ـ :( مرى غلامك النجار , أن يعمل لى أعوادا , أجلس عليهن , إذا كلمت الناس), فأمرته فعملها من طرفاء الغابة , ثم جاء بها ، فأرسلت إلى رسول الله r , فأمر بها فوضعت ها هنا ، ثم رأيت رسول الله r صلى عليها ، وكبر , وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى , فسجد فى أصل المنبر , ثم عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس , فقال : أيها الناس , إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتى[217].

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي r رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه ‏حتى رؤي في وجهه ، فقام فحكه بيده فقال : (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه ـ أو ‏إن ربه بينه وبين القبلة ـ فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)، ثم أخذ ‏طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال:( أو يفعل هكذا)[218]

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في الحديث عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه توضأ، ثم قال: ‏قال رسول الله r :( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث ‏فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)[219]

التشويق:

قلنا: عرفنا الثانية .. فما الثالثة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الصف:10)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يشوقك إلى المعلومة، ويحببها لك، فتقبل عليها بكل كيانك، ولن تتحقق بالعلم، ولن تحقق فيه إلا إذا أقبلت عليه بكل كيانك.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: كل السنة تدل على هذا .. فالنبي r كان يشوقهم إلى كل خير، ويحببهم فيه، فيقبلون عليه بقلوبهم وعقولهم ونفوسهم وجميع كيانهم.

وإن شئتم التقريب .. فقد روي في ذكل عن أبي سعيد المعلي ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله r فلم أجبه، فقلت : يا ‏رسول الله إني كنت أصلي، فقال : ألم يقل الله :﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )(لأنفال: من الآية24)‏؟ ثم قال لي : (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)، ثم أخذ بيدي ‏، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال :﴿ ‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الفاتحة)، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)[220] .. ففي هذا الحديث ‏يظهر شوق هذا الصحابي إلى معرفة أعظم سورة في القرآن، فهو لم يصبر، ولم ‏يمهل الرسول r حتى يخرج، بل بادره بقوله: (ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟‏‏) .. ولم يكن هذا الصحابي ليكون له هذا الشوق لو لم يتعامل معه رسول الله r بذلك الأسلوب المشوق.

قال بعض الطلبة: ومما يروى في هذا عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله r :( احشدوا ( أي اجتمعوا ) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن)، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله ‏r فقرأ :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الاخلاص:1)، ثم دخل فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبر ‏جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله r فقال:( إني قلت لكم‏‏: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن)[221]

‏ففي هذه القصة نرى تلهف ‏الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لسماع ثلث القرآن من في رسول الله r ، ومنها أن قوله (احشدوا) ‏ثم دخوله وخروجه مرة أخرى يلزم منه رسوخ هذه القصة بأحداثها عند الصحابة وحفظهم لها، ومنها ما فيها من دلالة واضحة على فضل قراءة سورة الإخلاص.

قال آخر: ومما يروى في ذلك عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا جلوساً مع رسول الله r، فقال: ( ‏يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق ‏نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد، قال رسول الله r مثل ذلك فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان ‏اليوم الثالث قال رسول الله r مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله ‏الأولى، فلما قام رسول الله r تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني ‏لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال:( ‏نعم ) قال أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً ‏غير أنه إذا تعار[222] وتقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير ‏أني لم أسمعه يقول إلا خيراً ، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم ‏يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله r يقول لك ثلاث ‏مرات (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلعت أنت في الثلاث المرات، فأردت أن آوي ‏إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قاله رسول الله r ، قال : هو ما رأيت ، ‏فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ‏ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق[223].

انظروا كيف شوق رسول الله r من كان في مجلسه إلى البحث عن سر كون ذلك الرجل من أهل الجنة .. وهو ما حدا بعبد الله بن عمرو بن العاص إلى أن يقوم بتلك التمثلية للاحتيال لمعرفة هذا السر.

قال آخر: وهكذا ورد في الأحاديث الكثيرة .. فالنبي r في أحيان كثيرة كان يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: (أتدرون ما الغيبة؟)[224] .. ( أتدرون ما المفلس؟)[225]  .. (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟)[226]

فهذه الأسئلة، وغيرها كانت تستحث على التفكير والبحث والتأمل .. وهو ما يجعل الدرس مشوقا بعيدا عن كل أسباب الملل.

قال آخر: ومما يدخل في هذا الباب ما كان يفعله r من تغيير نبرات صوته في خطبه، فقد كان r إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول:(صبحكم ومساكم)[227]

قال آخر: وكان ـ أحياناً ـ يغيِّر جلسته، كما في حديث أكبر الكبائر: (وجلس، وكان متكئاً فقال:(ألا وقول الزور)[228]

العناية:‏

قلنا: عرفنا الثالثة .. فما الرابعة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يحل من تلاميذه محل الوالد من ولده، فهو يعطف عليهم، ويرحمهم، ويستعمل كل الوسائل التي تؤلف قلوبهم، لينصرفوا إلى العلم انصراف محب لا مبغض، وانصراف راغب فيه لا راغب عنه.

قال بعضهم: صدقت .. فكم من علوم لم يحل بيننا وبينها إلا سوء خلق معلميها، وكم من علوم لم يحببنا فيها إلا ما طبع الله عليه أساتذتها من خلق ونبل.

قال الشنقيطي: ولهذا، فإن العالم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يستعمل كل الوسائل ليقرب قلوب تلاميذه إليه، وإلى العلم الذي يحمله.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: كل السنة تدل على هذا .. وإن شئتم التقريب، فقد ورد في الحديث أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ سأل رسول الله r يوماً :من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال r :( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث .. ‏أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)[229]

انظروا التأثير الذي يحدثه هذا الثناء في نفس أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .. إنه ـ بلا شك ـ لن يزيده إلا حرصا وعناية.

قال آخر: ومثله ما ورد في الحديث أن رسول الله r سأل أبيَ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ فقال:( يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، فقال أبي :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )(البقرة: من الآية255)، فقال له r :( ليهنك العلم أبا المنذر)[230]

قال آخر: وقريب من هذا ما ورد في الحديث أنه r كان يحدث، فجاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله r يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى ‏حديثه قال r :(أين أراه السائل عن الساعة؟)، قال: ها أنا يا رسول الله، قال:( فإذا ضيعت الأمانة فانتظر ‏الساعة)، قال:كيف إضاعتها؟ قال:( إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)[231]

فرغم أنه r لم يقطع حديثه إلا أنه لم ينس هذا السائل ولم يهمله، وهو أمر ‏يكشف عن تلك النفس العالية، والخلق السامي من المعلم الأول r .

قال آخر: وهكذا حين خطب رسول الله r في حجة الوداع قال أبو شاه: اكتبوا لي، فقال r :( اكتبوا لأبي شاه)[232]

قال آخر: ومما يدخل في هذا الباب ما ورد في أحاديث المناقب من ثنائه r على بعض أصحابه لسلوكات معينة، كقوله r :( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء ‏عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي، ولكل أمة ‏أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)[233]

وفي هذا الحديث ـ زيادة على ما فيه من التأليف ـ علمه r بالقدرات المختلفة لتلاميذه، ومعاملتهم معهم على أساسها.

قال آخر: صدقت .. فمعرفة المدرس لتلامذته تنعكس على تدريسه وعطائه، فالذي يعرف تلامذته معرفة دقيقة هو ‏القادر أن يعلمهم ما يحتاجون إليه ويتناسب معهم، وهو القادر على توجيههم للتخصص المناسب، ‏وعلى الإجابة الدقيقة عن تساؤلاتهم، وهو القادر أيضاً على العدالة والدقة في تقويمهم وإعطائهم ‏الدرجات التي يستحقونها.

قال آخر: ومما يدخل في هذا الباب مراعاته r للفروق الفردية، فعن أبي رفاعة ـ رضي الله عنه ـ قال:انتهيت إلى النبي r وهو يخطب قال: فقلت: ‏يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله r وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ‏r وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها[234].

قال آخر: صدقت .. فالاعتناء بالفروق الفردية أمر لم تبتكره التربية المعاصرة، بل أشار إليه ورثة النبي r وأدركوه ‏وأوصوا المعلم به، قال النووي:( وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى ‏أذهانهم، حريصاً على هدايتهم، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه، فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا ‏يقصر به عما يحتمله بلامشقة، ويخاطب كل واحدٍ على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي ‏بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً، ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار، ويذكر ‏الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره ‏له)[235]

قال آخر: وكانوا ـ لهذا ـ ربما خصوا بعض الطلاب بالتعليم والتحديث دون غيرهم، قال أبو عاصم:ربما رأيت ‏سفيان يجذب الرجل من وسط الحلقة، فيحدثه بعشرين حديثاً، والناس قعود، قالوا: لعله كان ضعيفاً. ‏قال:لا[236].

قال آخر: وقريب من هذا ما كان يفعله r من توجيه كل واحد للتخصص المناسب .. فعن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن قومه قالوا للنبي r : هاهنا غلامٌ من بني ‏النجار حفظ بضع عشرة سورة، فاستقرأني فقرأت سورة ق، فقال:( إني أكتب إلى قوم فأخاف أن ‏يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية)، فتعلمها ـ رضي الله عنه ـ في سبعة عشر يوماً، وفي رواية ‏‏: خمسة عشر[237].

لقد رأى رسول الله r ما ينعم به زيد من قدرة على الحفظ، فأرسله لتعلم لغة من اللغات، باعتبار اللغات تعتمد بالدرجة الأولى على قدرات الذاكرة.

الرفق:

قلنا: عرفنا الرابعة .. فما الخامسة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله r :( إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله)[238]، وقوله r :( إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)[239]، وقوله r :(  إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه)[240]

 قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يرفق بتلاميذه أثناء تعليمه، فلا ينهرهم، ولا يكهرهم، ولا يؤذهم، ولا يغضب عليهم، بل يلين لهم، ويعفو عما يبدر منهم إلى أن تهذب نفوسهم وتصفو طباعهم.

قلنا: عرفنا فضل الرفق .. فهل في السنة ما يدل عليه في هذا الباب؟

قال: أجل .. ومن ذلك  ما حدث به معاوية بن الحكم قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله r إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله r، فبأبي هو وأمي ، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني[241]، ولا ضربني ولا شتمني ، قال : (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح ، والتكبير، وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله r[242].

قال آخر: ومما يروى في ذلك ما حدث به أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله r ، إذ جاء ‏أعرابي ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله r : مه مه[243]، فقال ‏رسول الله r :( لا تزرموه[244]، دعوه)، فتركوه حتى بال ، ثم أن رسول الله ‏r دعاه ، فقال له : (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، إنما ‏هي لذكر الله والصلاة ، وقراءة القرآن)، وأمر ‏رجلاً من القوم ، فجاء بدلو من ماء فصبه عليه[245].

وفي رواية زيادة على هذا،  قال الأعرابي بعد أن فقه : فقام النبي r إلي بأبي هو وأمي فلم ‏يسب ولم يؤنب ولم يضرب[246].

ففي هذا الحديث يظهر رفق النبي r بالأعرابي وحسن تعليمه له ، وذلك لأن ‏الأعرابي كان يجهل ذلك الحكم، ولهذا السبب لم يعنفه النبي r ولم ‏يوبخه ، بل دعاه وعلمه برفق الأمر الذي يجهله.

قال آخر: ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من عدم تصريحه r بالأسماء أثناء التوبيخ .. ومن ذلك ما حدث به أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ من أن نفراً من أصحاب النبي r سألوا ‏أزواج النبي r عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء . وقال ‏بعضهم لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أنام على فراش، فلما سمع رسول الله r خبرهم، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال : (مابال ‏أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام .وأصوم وأفطر وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس ‏مني)[247]

لقد قال النووي معلقا على هذا :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا: هو موافق للمعروف من خطبه r في مثل هذا أنه إذا كره شيئاً فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله، وهذا من عظيم خلقه ‏r فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك ولا ‏يحصل توبيخ صاحبه على الملأ)[248]

قال آخر: ومما يروى في هذا ما حدث به أبو حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال : استعمل النبي r رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما ‏قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي r على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ‏ثم قال : (ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول : هذا لك وهذا لي ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر ‏أيهدى إليه أم لا؟)[249] ، فلم يفصح الرسول ‏r عن اسمه مع أن كثيراً من الصحابة يعلمون هذا الذي عناه الرسول r، ولكن لما كان القصد هو التحذير من الفعل المذموم ‏وبيان ضرره وسوء عاقبته حتى لا يقع في الآخرون ، شهر بالفعل دون الفاعل ، إذ ليس هناك ‏مصلحة ترجى من ذكر اسم الفاعل.

التأليف:

‏قلنا: عرفنا الخامسة .. فما السادسة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله r :( المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)[250]، وقوله r :( إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)[251]

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن المعلم المستن بسنة رسول الله r هو الذي يملأ مجلسه بالطمأنينة والراحة والسعادة، فلا يشعر تلاميذه بأي ثقل أو ضيق أو ملل.

قلنا: فكيف يكون ذلك؟

قال: بأن يكون لهم صاحبا قبل أن يكون لهم أستاذا، وأن يكون معهم رعية قبل أن يكون عليهم أميرا.

قلنا: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك .. فقد كان رسول الله r كأحدهم، فلم يكن يتميز عليهم بشء .. قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ يصفه:( والله ما كان رسول الله r تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله r لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)[252]

ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: (كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ)[253]

وذات مرة لقيه رجل تصور أنه مثل كل القادة والزعماء .. وقد حدثنا حديثه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فذكر أن رسول الله r كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة )[254]

وفي حديث آخر عن عبد الله بن بسر، قال: أهديت إلى رسول الله r شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة ؟ فقال:( إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا)[255] 

وقد أشفق الصحابة على رسول الله r مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث:  قال العباس ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله r :( لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)[256] 

وكان r يسلم على كل من لقيه صغيرا كان أو كبيرا، يعرفه أو لا يعرفه، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه مر على صبيان، فسلم عليهم وقال: كان النبي r لى الله عليه وسلم يفعله[257].

وعن هند بن أبي هالة ـ رضي الله تعالى عنه وعن أمه ـ قال: كان رسول الله  r  يبدأ من لقيه بالسلام[258].

قلت: فمخالطة المعلم لتلاميذه هي ما تريده بالتأليف.

قال: أجل .. فالمعلم الذي يخالط تلاميذه، ويتخذهم أصحابا يفيدهم أكثر بكثير من ذلك الذي يستعلي عليهم.

قال بعض الطلبة: ولكن بعض المعلمين يرى أن في ذلك سقوطا لحرمة الأستاذ .. فلذلك يفرض من السنن ما يملأ مجلس العلم هيبة من أستاذه.

قال: لا يمكن أن ينجح المعلم إلا إذا فرض هيبته على تلاميذه .. ولكن هذه الهيبة لا تعني الكبر .. ولا تعني كل ما يفرضه الكبر من سنن ..

لقد قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله r ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لما يعلمون من كراهيته لذلك)[259]، بل إن رسول الله r قال:( من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)[260]

قلت: فهل سن رسول الله r سننا غير هذا لتحقيق الألفة؟

قال: كثيرة هي تلك السنن التي تؤلف القلوب:

منها بذل السلام .. كما قال رسول الله r :( إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة ، أو ‏جدار ، أو حجر ثم لقيه ، فليسلم عليه)[261]، وقال r :( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ‏أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم)[262] .. انظروا كيف اعتبر رسول الله r بذل السلام سببا للمحبة وواسطة لها.

بل إن النبي r حث على تكرير السلام كلما احتيج إلى ذلك، فقال :( إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس ‏فليجلس ، ثم إذا قام فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة)[263]

ومنها بذل المكافآت المختلفة للمتعلم، ليبعثه ذلك على المزيد من النشاط ..

قاطعته قائلا: ألا يقدح ذلك في الإخلاص؟

قال: الإخلاص أرفع وأقدس من أن يقدح فيه مثل هذا .. ألم تسمع قوله r في مثل هذا:( تلك عاجل بشرى المؤمن)[264]

قلت: إن من قومنا من يقدمون مكافآت مادية للمتفوقين؟

قال: لقد فعل ذلك رسول الله r .. فعن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله r يصف عبد الله وعبيد الله ‏وكثيراً من بني العباس ثم يقول : (من سبق إلي فله كذا وكذا)، قال : فيستبقون إليه، فيقعون على ‏ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم[265].

ولكن رسول الله r ـ فوق هذا ـ كان يهديهم من المكافآت ما لا يمكن أن يقدر بثمن.

قلنا: وما هو؟

قال: الدعوة الصالحة .. ألم يقل رسول الله r :( أما إن العبد إذا قال لأخيه المسلم: جزاك الله خيرا فقد بالغ في الدعاء)[266]

قال بعض الطلبة: أروي في ذلك عن عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ذكر أن النبي r دخل الخلاء، قال: فوضعت له ‏وضوءاً . قال : من وضع هذا ؟ فأخبر ، فقال : (اللهم فقهه في الدين)[267]

قال آخر: وأروي في ذلك عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أسيد بن حضير الأشهلي النقيب ، إلى رسول الله r ، وقد كان قسم طعاما ، فذكر له أهل بيت من بني ظفر من الأنصار ، فيهم حاجة ، فقال لي رسول الله r : أسيد ، تركتنا حتى إذا ذهب ما في أيدينا ، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا ، فاذكر لي أهل ذلك البيت ، قال : فجاءه بعد ذلك طعام من خيبر ، شعير وتمر ، قال : فقسم رسول الله r في الناس ، وقسم في الأنصار فأجزل ، وقسم في أهل ذلك البيت فأجزل ، فقال له أسيد بن حضير مستشكرا : جزاك الله أي نبي الله أطيب الجزاء ، أو قال خيرا ، فقال رسول الله r : وأنتم معشر الأنصار ، فجزاكم الله أطيب الجزاء ، أو قال خيرا ، فإنكم ـ ما علمت ـ أعفة صبر ، وسترون بعدي أثرة في الأمر ، والقسم ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[268].

قال الشنقيطي: ويدخل في هذا الباب الثناء الحسن على الطالب المجد، ففي الحديث عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله r : (يا أبا المنذر! أتدري أي آية ‏من كتاب الله معك أعظم؟)، قال: قلت : الله ورسوله أعلم . قال: (يا أبا المنذر! أتدري آية من كتاب ‏الله معك أعظم؟ قال قلت :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾(البقرة: من الآية255)، قال : فضرب في صدري وقال : (‏والله! ليهنك العلم أبا المنذر)[269]

قال بعض الطلبة: لقد قال النووي تعليقا على هذا :( فيه منقبة عظيمة لأبي ، ودليل على كثرة علمه ، ‏وفيه تبجيل العالم فضلاء أصحابه وتكنيتهم ، وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة ولم ‏يخف عليه إعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى)[270]

قال آخر: وقد ورد في الحديث الآخر ما يؤكد هذا .. فعنأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قدمت على رسول الله r وهو ‏بالبطحاء، فقال: أحججت؟ قلت: نعم، قال: بما أهللت؟ قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي r ، قال : أحسنت .. الحديث[271].

الإنصاف:

قلنا: عرفنا السادسة .. فما السابعة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله r :( أنتم أعلم بأمور دنياكم)[272]

قلت: إن لهذا الحديث أبوابا كثيرة من أبواب العلم[273] .. فمن أيها ندخل إليه؟

قال: فحدثنا بالحديث حتى نعرف مدخله.

قلت: لقد حدث أبو رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ قال : قدم النبي r المدينة، وهم يؤبرون النخل، ‏يقولون يلقحون النخل، فقال:( ما تصنعون؟) قالوا: كنا نصنعه، قال:( لعلكم لو لم تفعلوا ‏كان خيراً لكم)، فتركوه، فنفضت[274] أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال:( إنما أنا بشر إذا ‏أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتك بشيء من رأي فإنما أنا بشر)، وفي بعض ‏الروايات قال:( أنتم أعلم بأمور دنياكم)

قال: ألا ترى أن النبي r أخبر عن نفسه أنه لم يذكر ذلك لهم من باب العلم النهائي الذي أوحي إليه .. وإنما ذكره من باب الاجتهاد البشري .. والاجتهاد البشري عرضة للخطأ والصواب.

قلت: بلى .. والحديث واضح الدلالة على ذلك.

قال: فهذا هو الإنصاف الذي علمه رسول الله r لمعلمي أمته، وسنه لهم .. فالمعلم المنصف هو الذي يميز في تعليمه بين القطعي والظني، وبين رأيه وبين الحقيقة، فيدع لغيره أن يناقشه أو ينقده أو يصحح له.

قلت: إن مثل هذا يحتاج شجاعة عظمى.

قال: أجل .. فلا يستن بسنة رسول الله r إلا الشجعان الذين قهروا نفوسهم، فانصاعت للحق، ولم تنصع لسواه.

قال بعض الطلبة: ولهذا استن الورثة الكبار بهذه السنة العظيمة من سنن رسول الله r .. وأروي في ذلك عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله r، ثم قال: أيها ‏الناس ما أكثركم في صدق النساء، وقد كان رسول الله r وأصحابه والصدقات ‏فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم ‏تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، قال: ثم نزل، ‏فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على ‏أربعمائة درهم، قال : نعم، فقالت: أما سمعت الله يقول :﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(النساء: من الآية20) فقال عمر: ‏اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر .. ثم رجع فركب المنبر، فقال : أيها الناس إني كنت ‏نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب[275].

قال آخر: وأروي في ذلك عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل علياً بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن مسألة فقال فيها ، فقال ‏الرجل : ليس كذلك يا أمير المؤمنين ، ولكن كذا كذا ، فقال علي: (أصبت ‏وأخطأت ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(يوسف: من الآية76)

قال الشنقيطي: ومما يدخل هذا الباب ألا يسارع المعلم بتخطئة الطالب كلياً إن كان ‏في إجابته شيء من الصحة، بل عليه أن يشيد بالصحيح ويوضح الخطأ ويبينه، وينبغي على المعلم ‏أن يختار ألفاظ التخطئة فلا تكون ألفاظاً قاسية أو عبارات ساخرة فتصيب الطالب بإحباط وتمنعه من ‏الإقدام على الإجابة على أسئلة المعلم خوفاً من لسان المعلم السليط وعباراته القاسية، بل تكون ‏العبارة مخطئة للجواب، ولكن في قالب تشجيعي.

قال بعض الطلبة: أروي في هذا عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً أتى رسول الله r فقال : إني أرى ‏الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون ‏منها فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ ‏به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو ‏بكر: يا رسول الله، بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اعبرها. قال: أما ‏الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن ‏والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم ‏يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم ‏يوصل له فيعلو به، فأخبرْني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبتُ أم أخطأت؟ فقال النبي r:(أصبت بعضاً، وأخطأت ‏بعضاً[276])، فقال : أقسمت عليك يا رسول الله بأبي أنت لتحدثني، ما الذي أخطأت، فقال النبي r :( لا تقسم)[277]

انظروا كيف علق النبي r على تعبير أبي ‏بكر للرؤيا، فأخبره بأن بعضها صحيح وبعضها خطأ، وهذا عين الإنصاف أن تذكر ما في الإجابة ‏من صحة أو خطأ.

قال آخر: وأروي في هذا عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : أقرأني رسول الله r سورة فبينما أنا في المسجد إذ ‏سمعت رجلاً يقرأها بخلاف قراءتي ، فقلت: من أقرأك هذه السورة ؟ فقال: رسول الله r ، فقلت : لا تفارقني حتى آتي رسول الله r، فأتيناه، فقلت: يا رسول الله، إن ‏هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني ، قال : اقرأ يا أبي ، فقرأت ، فقال : أحسنت ، ‏فقال للآخر : اقرأ فقرأ بخلاف قراءتي ، فقال له : أحسنت ، ثم قال : يا أبي إنه أنزل على سبعة ‏أحرف ، كلها شاف ، كاف ، قال : فما اختلج في صدري شيء من القرآن بعد[278].

قال الشنقيطي: ومما يدخل هذا الباب قول المعلم (لا أدري) لما لا يدري .. لقد ذكر الله تعالى ذلك عن أكرم خلقه، فقال :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:109)

ولما سأل الله ملائكته بقوله :﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية31) أجابوا :﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(البقرة: من الآية32)

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بالشعبي، فقد سئل عن مسألة من العلم، فذكر أنه لا يحسن الإجابة عنها، فقال له أصحابه : ‏قد استحيينا لك مما رأينا منك، فقال: (لكن الملائكة المقربين لم تستح حين قالت  :﴿ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾

قال آخر: لقد ورث الشعبي وجميع الورثة هذا من سنة رسول الله r .. فقد كان من سنته قول (لا أدري) لما لا يدري، ومما أوري في ذلك قوله r :( لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من ‏يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري : أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن ‏استثنى الله)[279]

قال آخر: وأروي في ذلك عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى النبي r فقال : يا رسول الله أي البقاع ‏خير؟ قال: لا أدري . فقال: أي البقاع شر ؟ قال : لا أدري . قال سل ربك، فأتاه جبريل r فقال : يا جبريل أي البقاع خير؟ قال : لا أدري ، قال : أي البقاع شر؟ قال : لا ‏أدري . فقال : سل ربك فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد r ، وقال ‏‏: ما أسأله عن شيء ، فقال الله ـ عز وجل ـ لجبريل: سألك محمد أي البقاع خير؟ فقلت: لا أدري، ‏وسألك أي البقاع شر ؟ فقلت : لا أدري .. فأخبره أن خير البقاع المساجد ، وشر البقاع الأسواق[280].

قال آخر: ومما يروى عن الورثة في هذا قول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ :( أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا قلت ‏في كتاب الله بغير علم)

قال آخر: وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :( إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله ‏أعلم، قال الله تبارك وتعالى لنبيه r :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86)

قال آخر: وهذا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فيما يرويه عنه الشعبي: إنه خرج عليهم ‏وهو يقول: ما أبردها على الكبد؟! فقيل له : وما ذلك؟ قال : أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم.

قال آخر:  ‏وهذا ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فيما يرويه عنه نافع : أنه سئل عما لا يعلم فقال :( ‏لا علم لي به)

قال آخر: لقد ذكر الشاعر هذه السنة، فقال ناصحا:

فإن جهلت ما سئلت عنه
 

ولم يكن عندك علم منه ‏
  

فلا تقل فيه بغير فهم
 

إن الخطأ مزر بأهل العلم ‏
  

وقل إذا أعياك ذاك الأمر
 

ما لي بما تسأل عنه خبر ‏
  

فذاك شطر العلم عند العلما
 

كذاك مازالت تقول الحكما ‏
  

الحكمة:

قلنا: عرفنا السابعة .. فما الثامنة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)

قلنا: إن هذه الآية منبع من منابع العلم .. فمن أين ندخل إليها في هذا الباب؟

قال: إن الحكمة في أصلها الأول، وغايتها القصوى، هي الفهم عن الله، كما قال تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ (الانبياء: من الآية79)، قد جعل الله تعالى الفهم قرينا للعلم، وأخبر بأنه فهم سليمان u، وأن حكمه كان نتيجة للفهم لا لمجرد العلم.

وقد ضرب مثالا لذلك، فقال :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ (الانبياء:78)،

قلت: لقد ذكر المفسرون في تفسيرها[281] أن غنم رجل دخلت حرث آخر، فعاثت فيه فسادا، فذهبا إلى داود u، فحكم أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فلما خرج الخصمان على سليمان u وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث، فقال :( لعل الحكم غير هذا، انصرفا معي)، فأتى أباه فقال:( يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع )، قال: وما هو؟ قال :( ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه )، فقال داود u:( قد أصبت .. القضاء كما قضيت)، وقضى بما قضى به سليمان u .

قال: إن هذا يدل على أن في كل مسألة علمين: علم مرتبط بالحكم الحرفي للمسألة، وهو ما ينص عليه عادة ظاهر الشريعة أو ظاهر القانون، وهو ما حكم به هنا داود u، حيث عوض صاحب الأرض قيمة ضرره، فكانت قيمتها هي غنم الآخر.

وعلم مرتبط بالحكم المقاصدي للمسألة، وهو الحكم الذي يراعي مصلحة الجانبين، فلا يتضرر أحدهما لينفع الآخر، وهو ما حاول سليمان u أن يصل إليه عبر ذلك الحكم.

قلنا: وعينا هذا، فما علاقته بآداب العلماء في تعليمهم؟

قال: إن العالم الوارث المستن بسنة رسول الله r هو الذي لا يكتفي بتلقين تلاميذه المعارف والعلوم .. بل يضيف إليها تعليمهم منهج الاستنباط، ليربي علماء مجتهدين يلجأ إليهم في الملمات، لا مجرد مقلدين يقفون حائرين عند كل نازلة، ومكتوفي الأيدي عند كل ملمة.

قال بعض الطلبة: صدقت .. وقد ظهرت آثار هذه التربية على صحابته ـ رضي الله عنهم ـ بعد وفاته في مواقفهم من ‏حادثة الردة، وجمع القرآن، وشرب الخمر، واتخاذ السجون، والخراج، وغير ذلك من المسائل التي اجتهد فيها ‏الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، ولم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوازل التي واجهتهم.

بل لقد واجه أصحاب النبي r دولة ممتدة الأطراف، متنامية النواحي، وتعاملوا ‏مع أصناف أخرى من الشعوب، وأنماط جديدة من المعيشة والسلوك، واستطاعوا أن يستوعبوا ذلك كله، وكل ذلك لم يكن ليحصل لولا التربية العلمية التي ربَّاهم عليها رسول الله r .

قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن السنن العملية المرتبطة بهذا.

قال: كل ما ستدرسونه في أصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول الأخلاق، وأصول المنطق، فيض من فيوضات تعليمه r الحكمة لأمته.

قلنا: فاضرب لنا أمثلة تقرب لنا ذلك.

قال: من ذلك أن رسول الله r كان يعود أصحابه على معرفة العلة ومناط الحكم.. وهو أهم العلوم المرتبطة بالاستنباط .. فهو r لما سئل عن شراء التمر بالرطب، قال:( أينقص الرطب إذا يبس؟)، قالوا:نعم، فنهى r عن ‏ذلك[282].

انظروا .. لقد كان رسول الله r يعلم أن الرطب ينقص إذا يبس، لكنه أراد تعليمهم مناط الحكم وعلته.

قال بعض الطلبة: ومثل ذلك أن النبي r حين نهاهم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال لهم : (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال ‏أخيه؟)[283]

قال آخر: ومثل ذلك حين قال r :( وفي بضع أحدكم صدقة)، قالوا له: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ ‏قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)[284]

قال الشنقيطي: وكان r يعودهم على منهج السؤال وأدبه، لأن أدب السؤال هو الذي يحدد الجواب، ففي الحديث يقول رسول الله r :( إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرِّم من أجل مسألته)[285]، وقال r :(إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)[286]

وكان r ـ في إجابته ـ لا يقتصر على موضع السؤال، بل كان يجيب بقاعدة عامة يمكن الاستفادة منها في الأحوال المختلفة، فقد سئل: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فلم ‏يقتصر r في إجابته على قوله نعم، وإلا كان الحكم قاصراً على الحالة موضع ‏السؤال وحدها، إنما أعطاه حكم ماء البحر، وزاده فائدةً أخرى يحتاج إليها حين قال:(هو الطهور ماؤه ‏الحل ميتته)[287]، أي أن ماء البحر له سائر أحكام الماء الطهور، وليس فقط يجوز الوضوء ‏به في هذه الحالة.

وسئل r : ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا ‏السراويلات ولا البرنس، ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس ..)[288]، فلم يعدد له r ما يجوز للمحرم لبسه؛ إنما أعطاه قاعدة عامة فيما لا يحل للمحرم لبسه؛ ‏ليعلم أن ما سواه غير محظور.

وكان r يربي أصحابه على منهج التلقي .. فعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال: وعظنا رسول الله r موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ)[289]

فهو r في هذا الحديث يرسم لهم المحجة التي تعينهم على سلوك السبيل الصحيح.

وهكذا حين يرى r خللاً في هذا المنهج، أو اعوجاجاً فيه، فإنه يأخذ بيد صاحبه، فحين رأى مع عمر صحيفة من التوراة غضب، ونهاه عن ذلك، وقال:( أمتهوكون ‏فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم ‏بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى r كان حياً ‏ما وسعه إلا أن يتبعني)[290]

قال بعض الطلبة: ومثل هذا ما كان r يعودهم به من المناقشة والمراجعة، وخير من يمثل هذا عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقد كانت لا ‏تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، ففي الحديث أن النبي r قال:( من حوسب ‏عذب)، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله تعالى:﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق:8)؟ قالت : فقال: (إنما ‏ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك)[291]

قال آخر: ومثل هذا استخدامه r أسلوب الاستفهام أثناء التعليم .. فهذا الأسلوب يجذب انتباه الطالب، ويحثه على استحضار الذهن .. ففي الحديث قال رسول الله r :( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قلنا: بلى يا رسول الله . ‏قال:(الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين..)[292] .. وقوله :( ألا أخبركم بشرار هذه الأمة؟ الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون، أفلا أنبئكم بخيارهم ؟ أحاسنهم أخلاقا)[293] .. وقوله :( ألا أخبركم بخير البرية؟ رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى، ألا أخبركم بالذي يليه؟ رجل في بلة من غم يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ألا أخبركم بشر البرية، الذي يسأل بالله تعالى، ولا يعطي به)[294] .. وقوله :( ألا أخبركم بخياركم؟) قالوا: بلى، قال: (فخياركم الذين، إذا رؤوا ذكر الله تعالى، ألا أخبركم بشراركم؟)، قالوا: بلى، قال :( فشراركم المفسدون بين الأحبة المشاءون بالنميمة الباغون البراء العنت)[295]

قال آخر: وفي خطبة النبي r بمنى في حجة الوداع قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ‏ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال : أليس يوم النحر؟ قلنا : بلى، قال : فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ‏ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى : قال : (فإن دماءكم وأموالكم ‏وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ..)[296]

لقد قال ‏القرطبي معلقا على هذا الحديث: (سؤاله r عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار ‏فهومهم ، وليقبلوا عليه بكليتهم ، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ، ولذلك قال بعد هذا : فإن ‏دماءكم .. ، مبالغة في تحريم هذه الأشياء)

قال آخر: ومثل هذا ما ورد في الحديث عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال ‏رسول الله r :( هل تضارون[297] في القمر ليلة البدر؟) قالوا : لا يا رسول الله ، ‏قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال فإنكم ترونه كذلك ‏يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه .. الحديث[298].

قال الشنقيطي: ألا ترون في جميع هذه الأمثلة أن الرسول r لم يعين شخصاً بعينه للإجابة على ‏الأسئلة المطروحة ، بل كانت عباراته بصيغة الجمع غالباً.

قلنا: فما في هذا من العلم؟

قال: هذا يدل على أن على المعلم أن ‏يطرح السؤال أولاً لكي يشترك الطلاب جميعهم في إيجاد جواب للسؤال المطروح ، ثم إنه من ‏المستحسن للمعلم أن يترك وقتاً مناسباً قبل الشروع في سماع إجابة الطالب ، وذلك لأن قدرات ‏الطلاب العقلية تختلف وتتباين من فرد لآخر ، فبعضهم سريع استحضاره وبعضهم دون ذلك‏.

التزكية:

قلنا: عرفنا الثامنة .. فما التاسعة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)

قلنا: إن هذه الآية تتحدث عن وظائف الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: وهي تتحدث عن وظائف ورثتهم من بعدهم.

قلنا: فما هي الثامنة منها؟

قال: هي التزكية .. فالعالم هو الذي لا يكتفي بتثقيف عقلك .. بل يضيف إلى ذلك، أو يقدم لذلك تثقيف نفسك وروحك وعقلك.

قلت: تقصد الجمع بين التعليم والتربية؟

قال: أجل .. فالعلم جواهر كريمة، ولا ينبغي للجواهر الكريمة أن توضع على القمامات.

قلنا: فاذكر لنا أمثلة من السنة تدل على ذلك.

قال: كل السنة تدل على ذلك .. وإن شئتم مثالا مقربا .. فإليكم ما حدث به ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تلميذ رسول الله r .. فقد حدث أن رسول الله r قال له واعظا:( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )[299]، وفي رواية :( احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا )

2 ـ المعارف

ذاك هو الرجل الأول .. وتلك بعض أحاديثي معه .. أما الرجل الثاني، فقد كان اسمه هو الآخر (محمد الأمين)[300] .. وكان الناس يفرقون بين الأول والثاني بتلقيب الثاني بـ (المرابط)، لانشغاله التام بجميع أنواع المعارف والعلوم، فلا تكاد تذكر أمامه علما، إلا وجدت عنده منه حظا وفهما وخبرة.

ولم يحصل لي التشرف بصحبته إلا بعد أن مكثت مدة في محضرة الآداب، أتلقى من آدابها بعض ما ذكرته لك .. مما ملأني يقينا بأن ما تركه محمد r من هدي في هذا الباب لا يمكن أن يلحقه فيه أحد من أهل الدينا أو من أهل الدين .. وعلمت علم اليقين أن البشرية لو تمسكت بهديه في هذا الباب وحده لتحول العلم شمسا من شموس الهداية، ونورا من أنوار السلام.

في بداية صحبتي له دخلت محضرته .. وكانت محضرة مختلفة تماما عن محضرة الآداب التي كنت فيها .. فلم تكن محضرة عامرة بالطلبة، وإنما كانت محضرة عامرة بالكتب والمخطوطات .. بل فوق ذلك رأيت فيها مرقبا فلكيا متطورا .. ومجموعة كبيرة من المجاهر المتطورة .. بل فوق ذلك رأيت في بعض أقسامها مخابر لا تختلف عن المخابر الحديثة.

بعد أن امتلأت دهشة بكل هذا .. اقتربت من المرابط .. ولم أكن حينها أعرفه .. وقلت: ما هذا؟ .. أهذه محضرة للعلم؟

قال: أجل .. ولكن دخولها مشروط بالمرور على محضرة أخي وسميي محمد الأمين.

قلت: لقد تخرجت على يده .. فمن أنت؟

قال: أنا الوارث الثاني الذي تتعلم على يديه أن محمدا r لم يكن يعلم الآداب فقط، بل كان يعطينا أصول العلوم، وأسسها، ومناهجها، وأصنافها ..

وعلى يديه ستعلم أن كل ما تراه في العالم من أنواع المعارف والعلوم معارف شرعية لا يتمثل بسنة النبي r في كمالها إلا من بحث فيها، ولم تحل بينه وبينها  الحوائل.

قلت: إن هناك من يختصر العلوم فيما ورد في النصوص المقدسة أو ما ورد في تفسيرها.

قال: صدق من قال هذا ..

قلت: فكيف يستقيم ما ذكرت مع ما ذكر؟

قال: لا يستقيم ما ذكر إلا بما ذكرت.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى :﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾ (عبس)

قلت: بلى .. فما قال فيها ابن عباس ومجاهد؟

قال: إن هذه الآية لن نسأل فيها ابن عباس ولا مجاهدا .. بل نسأل فيها علماء التغذية، وعلماء الأرض .. وغيرهم من العلماء الذي نظروا ودققوا، فرأوا ما لم نر، وسمعوا ما لم نسمع.

قلت: أتقصد أن علوم التغذية وعلوم الأرض علوم شرعية بهذا الاستدلال؟

قال: أجل .. ألم يأمرنا الله بالنظر .. أليس قوله :﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)(الأنعام: من الآية99)، وقوله :﴿ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(يونس: من الآية101) تشبه قوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)؟

قلت: بلى .. فكلاهما فعل أمر.

قال: فكيف نفرق بين أحدهما فنعتبره واجبا، ونغرق كتب الفقه بمباحثه وعلومه، ثم نقصر في الواجب الثاني، ولا نهتم به، بل ولا نعتبره، بل يسقط بعضنا في أوحال البدعة، فيتهم تلك العلوم التي دعا القرآن الكريم، ودعا نبينا r إلى تعلمها، فيعتبرها علوما بعيدة عن الدين أو حاجبة عنه؟

قلت: ولكن التخصص مع ذلك يدعو إلى أن تكون هناك علوم دين وعلوم دنيا؟

قال: ليس هناك مقابلة بين الدين والدنيا عندنا.. فالدين عندنا هو سياسة الدنيا .. ولا دنيا عندنا إن لم تسس بسياسة الدين.

قلت: فما تسمي هذه العلوم الكثيرة التي يعتبرها البعض مزاحمة لعلوم الدين؟

قال: هي ثلاثة لا تخرج عنها: حقائق، وسياسات، وصنائع.

الحقائق:

قلت: فما الحقائق؟

قال: الحقائق هي العلوم التي لا تكر عليها جيوش الشبهة والشك، ولا تهزمها جيوش الأيام والليالي.

قلت: تقصد قطعيتها وأبديتها؟

قال: أجل .. فلا علم لما لم يثبت في وجه الأيام، أو لم يثبت في وجه الشبهات.

قلت: فما العلوم التي تدخل في هذا الباب؟

قال: كل العلوم التي لا يستفاد منها إلا معرفة حقائقها.

قلت: مثل ماذا؟

قال: الفلك مثلا .. فكل ما ورد في علم الفلك هو من علوم الحقائق .. وهو تطبيق لقوله تعالى :﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)

قلت: فما علاقة هذا النوع من العلوم بالدين؟

قال: لا يمكن أن يتحقق المؤمن بمعارف الدين إلا بعد أن يتحقق في هذه العلوم ويرسخ قدمه فيها.

قلت: قرب لي ذلك بمثال .. فإن عقلي تستعصى عليه الحقائق المجردة.

قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أراد أن يبين لشخص ما أنه ملك، فماذا يفعل؟

قلت: لا شك أنه سيأمر بمن يطوف به في أنحاء البلاد ليرى مدى اتساع مملكة الملك، ومدى خضوعها لملكها.

قال: فنزه عقلك عن شبه التشبيه .. واربط هذا المثل بحقائق الأزل والأبد .. فإنه لن تعرف أن الله ملك إلا بالطواف في مملكته .. فكلما رسخت معرفتك بعظم مملكة الله كلما رسخ في نفسك عظم كون الله ملكا.

قلت: صدقت في هذا .. فإني أرى لبعضهم معرفة هزيلة بالكون .. وأرى معها هزالا في معرفة هؤلاء بالله ..

قال: ولهذا قال الله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)

انظر .. كيف ذكر الله تعالى خشية العلماء بعد ذكره لأصناف المكونات .. فلا يعظم الله حق تعظيمه من لا يعرف المكونات ويبحث فيها ويمتلئ عجبا بما فيها.

قلت: صحيح ذلك .. وليس ذلك خاصا بهذا .. فلا يمكن أن نعرف شاعرا ما لم ندرس أشعاره، ولا رساما دون أن ندقق في لوحاته، ولا ممثلا دون أن نرى ما أبدعه في تمثيلياته .. وهكذا فكل شيء يعرف من خلال آثاره.

قال: ولهذا طولبنا بالتعرف على الآثار لنصل إلى المؤثر .. ألم تسمع قوله تعالى :﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:50)؟

قلت: بلى ..

قال: فالله تعالى اعتبر نظرنا في الكون نظرا في أفعال الله الدالة على صفاته .. فنقرأ من خلال الكون صفات المكون، ونتعرف على المكون من خلال مكوناته.

قال: وهكذا .. فالله تعالى يأمرنا بقراء الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى:﴿  فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(الروم: من الآية50)

ويأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:57)

ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج:63)

ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال:) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل:70)

ويرينا قوة الله القاهرة، وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها:

فالسموات التي ننبهر لضخامتها لا تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة الله، قال تعالى:﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)

والقرآن الكريم يرشدنا من خلال هذه الآية إلى أن سبب الجهل بقدر الله هو عدم قراءة الكون باسم الله، فهؤلاء نظروا إلى عظم السموات والأرض غافلين عن خالقهما.

وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم[301] الحديث عن خلق الله لتستتدل بها على الله، قال تعالى:﴿  اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)

فالآية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات والأرض إلى الحي القيوم، لأنه لا يكون هذا الإبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إلا بحياة المبدع وقيوميته، فالتوازن والتكامل والبقاء في المخلوقات دليل قيام خالقها بها.

ومن هذه الأبواب التي يفتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على الله من خلال كتاب الكون ما ورد فيه من استدلالات على البعث، فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على الله أكثر من دلالتها على البعث.

وهي تدل على الله قبل البعث، لأن الأساس الذي أوقع الدهريين والمنكرين للبعث هو اعتقادهم بالاستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة، كما قال تعالى ضاربا المثل ببعضهم :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّـس:78)

والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة، ويرفع هذا الالتباس ـ لا يتكلف كلاما عقليا جافا كالكلام الذي يتعمده الفلاسفة، بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى الأرض الخاشعة كيف تتحول بالماء الرباني إلى جنة من جنان الحياة، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت:39)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الزخرف:11)، وقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9)

أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة الأولى، قال تعالى:﴿  قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)

ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ :﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(الاسراء: من الآية49)، بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته :﴿ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾(الاسراء: 50-51)، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون :) مَن يُعِيدُنَا ﴾، فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى:﴿  قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾

قلت: فأنتم إذن ـ في هذه المحضرة ـ تدرسون العلوم الحديثة؟

قال: غرور البشر هو الذي سماها كذلك .. أما نحن فلا نسميها علوما حديثة، بل نسميها علوم الحقائق .. فكل علم منها يدلنا على حقائق الأزل والأبد.

قلت: عهدنا بأن من يدرس هذه العلوم يمتلئ قسوة .. ألا تخافون من القسوة؟

ابتسم، وقال: من درس هذه المعارف على طريقة أهل الله، فإنه لن يزداد إلا خشوعا وإيمانا وسعادة ..

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.

لقد كان من أساتذة هذه المحضرة رجل من أولياء الله، وكان يقال له (بديع الزمان) .. وكان يقول لتلاميذه ـ وقد كنت من تلاميذه ـ وهو يذكر الفرق بين آثار النظرة العرفانية وآثار الناظرة الغافلة للكون :( ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أراني أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم - كما ظنّ في بادئ الأمر - بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين)[302]

وكا يشبه لنا عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه العارف والغافل، بالنظر إلى المرآة، فهي من حيث أنها زجاجة، نرى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا، بينما إن كان القصد من النظر الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها، فالصورة تتوضح أمامنا بينما يبقى زجاج المرآة أمراً ثانوياً.

وقد وضع اصطلاحين لذلك، ليوضح من خلالها النظرة القرآنية العرفانية للكون، استفادهما من اصطلاحات النحويين هما ( المعنى الاسمي للكون، والمعنى الحرفي له، فالاسم ما دل على معنى في نفسه، أما الحرف فهو الذي: دلّ على معنى في غيره.

والنظرة القرآنية الإيمانية إلى الموجودات تجعلها جميعا حروفاً، تعبّر عن معنى في غيرها، وهذا المعنى هو تجليات الاسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.

وكما أن الكون من حيث صورته المادية يحتوي على عناصر محددة تتكون منها جميع أشكال الموجودات، ويسمون الجدول الذي يحوي هذه العناصر بالجدول الدوري، فبمثل ذلك يتحدث العارفون عما يمكن تسميته بالجدول الأسمائي للكون.

وهذا الجدول يستخلص صفات الله من خلال أشكال المكونات وأنواع واختلاف تدبيرها، وقد شرح النورسي بعض ما يرتبط بهذا الجدول بقوله :( إن في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - الى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة ) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾)(الاسراء: من الآية44) إذ أن حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى الاسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من الاسماء أو إلى كثير من الاسماء. وأن الاتقان الموجود في الأشياء يستند إلى اسم من الأسماء) [303]

ويضرب بعض الأمثلة على ذلك بالعلوم المادية التي تنقلب بهذه النظرة إلى علوم روحية، فعلم الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم الله (الحكيم)، وعلم الطب يستند إلى اسم الله (الشافي)، وعلم الهندسة يستند إلى اسم الله (المقدّر)، وهكذا كل العلوم تستند الى الأسماء الحسنى تبدأ منها، وتنتهي إليها.

السياسات:

قلت: حدثتني عن علوم الحقائق .. فحدثني عن علوم السياسات.

قال: علوم السياسات هي التي تفقهك في كيفية سياسة الدين، وكيفية سياسة الدنيا .. أو هي التي تعلمك كيف تسوس جسدك ونفسك وعقلك وقلبك وروحك وسرك وكل لطائفك.. ثم كيف تسوس بعد ذلك بيتك ومجتمعك ووطنك وأمتك والعالم أجمع ..

قلت: إن أكثر العلوم يدخل في هذا الباب.

قال: نعم .. فنحن هنا ندرس علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والعلوم الطبية .. وكل العلوم التي تهتم بالسياسات المختلفة.

قلت: ما ارتبط منها بالدين، وما ارتبط بالدنيا.

قال: ألم أذكر لك أنه ليس هناك دين ولا دنيا إلا في أذهان الغافلين .. فجل رب الدنيا أن يسلم دنياه للشياطين .. وجل  أهل الله أن يروا في الدارين غير الله.

قلت: ألا تخافون بالانحجاب بالدراسات الاجتماعية والنفسية عن الله؟

قال: لا حجاب إلا حجاب الوهم .. وقد تخلصنا منه بحمد الله بتحقيق الإيمان .. ولذلك لا تزيدنا هذه العلوم إلا تحقيقا وعروجا.

لقد قال لنا شيخنا بديع الزمان إبان دراستنا عليه :( العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء ) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية.. )

ويذكر علة مهمة لذلك غابت عن العلوم الحديثة، فأغرقتها في الجزئية، وأبعدتها عن جمال الوحدة والتناسق والكمال، فقال :( إن نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها، أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها، فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى أهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية)

الصناعات:

قلت: فما علوم الصناعات؟

قال: هي كل العلوم التي نستطيع بها تسخير ما سخره الله لنا من أشياء .. فقد جعل الله تعالى للتسخير مفاتيح لا يمكن أن يسخر شيء من دونها.

قلت: فما هذه المفاتيح؟

قال: لقد ذكرها الله تعالى، وذكر ضرورتها للإنسان، فقال :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31)

قلت: أعلوم الأسماء هي علوم الصنائع؟

قال: من علوم الأسماء ما هو علوم صنائع .. فلا يمكن للإنسان أن ينزل إلى الأرض من دون أن تكون لديه مفاتيح التعامل مع برها وبحرها، وريحها ورياحها.

قلت: أفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا النوع من العلوم؟

قال: في القرآن الكريم جميع حقائق الأشياء .. فكيف يغيب عنه هذا؟

قلت: فأين هو؟

قال: في كل القرآن .. كل الآية لو نظرت إليها بهذا المنظار، فتستفيد منها من الحقائق ما لم تكن تحلم به.

قلت: فاذكر لي ما ورد به التصريح .. فلا طاقة لي بالتلميح والإشارة.

قال: لقد قال تعالى عن ذي القرنين :﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً( (الكهف:84)

قلت: إن من قومي من يحتقرون هذه العلوم، ويعتبرون الخوض فيها انحرافا عن الكتاب والسنة.

ابتسم، وقال: سلاما .. سلاما ..

قلت: ما تعني؟

قال: لقد قال الله تعالى واصفا عباده المؤمنين المحققين :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63)

قلت: أترميني بالجهل؟

قال: أرمي من قلت بقوله بالجهل .. والعالم أن رفع من أن يجيب جاهلا.

قلت: العالم لا يتكبر .. فكيف لا يجيب الجاهل؟

قال: الجهل نوعان: جهل سببه عدم العلم .. وهذا هو ميدان العالم .. فالعالم محارب للجهل .. وجهل سببه الكبر .. ولا دواء لهذا إلا أن يتخلص من كبره.

قلت: فما جهل هؤلاء؟

قال: هو جهل كبر .. لا جهل علم .. لقد كان أهل الجاهلية يحتقرون هذا النوع من العلوم، فلذلك لم يكن يمارسها عندهم إلا العبيد، فلما جاء القرآن الكريم أخبر أن هذه الصناعات كان يمارسها الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليعلي من شأنها، ويرفع ذلك الاحتقار الذي ورثه هؤلاء عن أولئك.

قلت: صدقت .. فقد ذكر القرآن الكريم صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها، فقال تعالى :﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً( (الكهف:96)، وقالت عالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( (سـبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب، فقالتعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحديد:25)

قال: ومثل ذلك ذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها، فقال تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ( (النحل:80)

وذكر ما يرتبط بالعمران من أعمال، فقال تعالى :﴿ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ( (لأعراف: من الآية74)

وذكر الصناعات المرتبطة بالنقل، فقال تعالى :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ( (النحل:8)، وقال تعالى :﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ( (هود:37)، وقال تعالى :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ( (المؤمنون:22)، وقال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (الروم:46)، وقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( (لقمان:31)

وذكر الصناعات البحرية، فقال تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (النحل:14)، وقال تعالى :﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً( (الاسراء:66)

بل إن القرآن الكريم دعانا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال تعالى :﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( (لأنفال: من الآية60)

***

التفت صاحبي إلى، وقال: هذه بعض حكايتي مع ورثة النبي المعلم.

قلت: إن هؤلاء ورثة عظماء.

قال: ولم يكونوا عظماء لولا استنانهم بسنة نبيهم r .. لقد كان رسول الله r هو معلم ومؤدبهم وحادي أرواحهم، ومثقف عقولهم.

قلت: صدقت في ذلك .. فلا أراهم يفعلون شيئا إلا اهتداء بهديه، وسيرا على قدمه.

قال: ولذلك بورك لهم في علمهم .. فصار علمهم كأقواتهم .. يتناولون منه كما يتناولون منها.

***

ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الرابعة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب .. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.

لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) الشَّنْفَرَى ( توفي نحو 70 ق هـ ـ522م)، هو عمرو بن مالك الأزدي، شاعر جاهلي من الشعراء الصعاليك المقدمين، عاش ونشأ في بطن من بني فهم الذين أسروه وهو طفل، فلما شب عرف قصة أسره، فحلف أن يقتل منهم مائة رجل.

وقد اشتهر بأنه من أسرع عدَّائي الصعاليك وأكثرهم جرأة وأشدهم دهاءً، وقد عاش تارة مع رفيقيه ـ وابن أخته ـ تأبط شرًا وعمرو بن برامة وغيرهما من شعراء الصعاليك، وتارةً أخرى في البراري والجبال، يغزو على قدميه مرة، وعلى فرسه مرة أخرى، ويهاجم الأحياء ويسلبها، مات مقتولاً على يد أحد أفراد القبيلة التي انتقم منها. وتقول الروايات إنه قتل تسعة وتسعين من رجالها قبل أن يتمكنوا منه.

وما ذكرناه من شعره هنا هو جزء من قصيدته المطولة المعروفة باسم لامية العرب، وقد نقلت كتب الأدب قصائد ومقطوعات أخرى منسوبة إليه، ولكن لامية العرب تظل هي المتفوقة، ليس من أجل طولها فقط، ولكن من حيث بروز الخصائص الفنية واللغوية والنفسية التي أشهرت الشنفرى وأثارت اهتمام الدارسين به قديمًا وحديثًا.

([2]) اختلف العلماء في (قراريط) على قولين:

القول الأول: أنها اسم موضع .. قال الإمام أبو إسحاق الحربي: قراريط: اسم موضع بمكة، ولم يرد القراريط من الفضة، وصوبه ابن الجوزي تبعا لابن ناصر وخطأ سويدا في تفسيره.

واستدل بعضهم لذلك بأن العرب لم تكن تعرف القراريط الذي هو من النقد، ولذلك جاء في الصحيح: (ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط)

القول الثاني: أنها الأجر الذي كان يتقاضاه على رعيه .. أي القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم، ويدل لهذا ما ورد في رواية ابن ماجه، عن سويد بن سعيد، والإسماعيلي عن حسان بن محمد كلاهما عن عمرو بن يحيى: كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط قال سويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط.

وقد رجح ابن حجر هذا القول لأن أهل مكة لا يعرفون بها مكانا يقال له قراريط.

وزعم بعضهم أن في قوله r في الرواية الأخرى: (وبعثت وأنا راعي غنم بأجياد) رد لتأويل سويد لأنه ما كان يرعى بالأجرة لأهله، فتعين أنه أراد المكان فعبر تارة بأجياد وتارة بقراريط.

وليس الرد بجيد إذ لا مانع من الجمع بأن يرعى لأهله بغير أجرة ولغيرهم بأجرة.

والمراد بقوله: (أهلي) أهل مكة فيتحد الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة وفي الآخر بين المكان فلا تنافي في ذلك.. (انظر: فتح الباري وغيره )

([3]) رواه ابن سعد والبخاري وابن ماجه.

([4]) رواه البخاري ومسلم.

([5]) رواه أبو داود الطيالسي والبغوي وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن بشر بن حرب البصري مرسلا، ورواه أحمد وعبد بن حميد عن أبي سعيد.

([6] )  رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة وفي إسناده محمد بن أبي ليلى.

([7] )  رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

([8] )  رواه الطبراني في الأوسط وفي إسناده إسحاق بن أسيد وفيه توثيق لين، ورفع هذا الحديث غريب، قال البيهقي: ورويناه صحيحاً من قول مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير ثم ذكره.

([9] )  رواه الدارقطني والبيهقي.

([10] )  رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

([11] )  رواه ابن ماجه بإسناد حسن من طريق الحسن عن أبي هريرة.

([12] )  رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه البزار من حديث عائشة مختصراً قال: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ».

([13] )  رواه البخاري ومسلم وابن ماجه.

([14] )  رواه الطبراني في الكبير، وفي إسناده راوٍ لم يسمّ.

([15]) نشير به إلى العلامة الجليل محمد الأمين الشنقيطي (1325 - 1393هـ، 1907 - 1973م)، وهو عالم ومحقق ومفسر، ولد في بلاد شنقيط (موريتانيا الآن)، طلب العلم في سن مبكرة، فحفظ القرآن ودرس الفقه المالكي، ثم رحل إلى الحج، وآثر البقاء في البقاع المقدسة وما يحيط بها، حيث درس على شيوخها وتتلمذ على كثير من علمائها، تولى التدريس في المعاهد العلمية والكليات الشرعية في الرياض والمدينة، وكان ضمن هيئة كبار العلماء وعضوًا في رابطة العالم الإسلامي، ترك عدة كتب أبرزها تفسيره المشهور (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) الذي وصل فيه إلى سورة المجادلة، وأتمه فيما بعد تلميذه الشيخ عطية سالم، ومنها (نثر الورود على مراقي السعود)، و(مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر)، و(آداب البحث والمناظرة)، انظر: الأعلام 6 / 45.

([16]) ذكرناها في الرسالة السابقة.

([17]) استفدنا الكثير من الآداب التي نذكرها من كتاب (آداب العلماء والمتعلمين)، الحسين ابن المنصور اليمني، وغيرها من المراجع الكثيرة في هذا الباب.

([18]) ويدل لهذا كثرة ما ألف في هذا الباب من متون وشروح ومؤلفات، ومن بينها (الجامع) و(الفقيه والمتفقه) كلاهما للخطيب البغدادي،  و(تعليم ‏المتعلم طريق التعليم) للزرنوجي، و(آداب الطلب) للشوكايى، و(أخلاق العلماء) للآجري، و(آداب ‏المتعلمين) لسحنون، و(الرسالة المفصلة لأحكام المتعلمين) للقابسي، و(تذكرة السامع والمتكلم) ‏لابن جماعة، و(الحث على طلب العلم) للعسكري، و(فضل علم السلف على الخلف) لابن رجب، ‏و(جامع بيان العلم) لابن عبد البر، و(العلم فضله وطلبه) للأمين الحاج، و(فضل العلم) لمحمد ‏أرسلان، و(مفتاح دار السعادة) لابن القيم، و(آداب العلماء والمتعلمين) للحسين بن منصور و(قانون ‏التأويل) لابن العربي، و(مناهج العلماء) ‏لفاروق السامرائي .. وغيرها كثير.

بالإضافة إلى الكتب الكثيرة المعاصرة في هذا الجانب.

([19]) رواه البخاري ومسلم.

([20]) قال النووي بعد روايته لهذا الحديث في كتابه (الأذكار) :( هذا حديث صحيح متفق على صحته ، مجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وكان السلف وتابعوهم من الخلف ـ رحمهم الله ـ يستحبون استفتاح المصنفات بهذا الحديث ، تنبيها للمطالع على حسن النية ، واهتمامه بذلك والاعتناء به)

ثم ذكر من أقوالهم في ذلك قول عبد الرحمن بن مهدي ـ رحمه الله ـ :( من أراد أن يصنف كتابا، فليبدأ بهذا الحديث)، وقال الإمام أبو سليمان الخطابي ـ رحمه الله ـ:( كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث (الأعمال بالنية) أمام كل شئ ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها) (انظر: الأذكار: 6)

([21]) رواه مسلم عن أبي هريرة ، ورواه الترمذي بمعناه و قال في آخره :( ثم ضرب رسول الله r على ركبتي ، فقال : يا أبا هريرة : أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)

([22]) رواه الحاكم.

([23]) رواه وأحمد والترمذي وابن ماجه.

([24]) رواه مسلم وابن ماجه.

([25]) رواها ابن المبارك.

([26]) رواه ابن ماجه.

([27]) رواه البخاري في التاريخ ، والترمذي وابن ماجه.

([28]) رواه مسلم.

([29]) إحياء علوم الدين:1/21 .

([30] )  رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي، وقال الترمذي: لا يعرف إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس إسناده عندي بمتصل، وإنما يروى عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبيّ وهذا أصح. الترغيب والترهيب: 1/59.

([31] )  رواه أبو نعيم، وإسناده حسن لو صح سماع الحسن من أبي هريرة.

([32] )  رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وروى ابن ماجه نحوه باختصار.

([33] )  رواه الطبراني في الأوسط.

([34] )  رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات وفيهم كلام.

([35] )  رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات وفيهم كلام.

([36] )  رواه البزار والطبراني في الأوسط، إلا أنه قال: «خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ».

([37] )  رواه مسلم وغيره.

([38] ) رواه ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه مثله إلا أنه قال: أَوْ نَهَراً كَرَاهُ، وقال: يعني حفره ولم يذكر المصحف.

([39] ) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم من رواية موسى بن محمد بن عطاء القرشي، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن الحسن عنه وقال: هو حديث حسن ولكن ليس له إسناد قوي، وقد رويناه من طرق شتى موقوفاً، قال المنذري : ورفعه غريب جدًّا، والله أعلم.

([40]) رواه مسلم وغيره.

([41]) رواه البخاري ومسلم.

([42]) رواه الطبراني وأبو نعيم وقال: غريب، قال الحافظ المنذري : ولهذا الحديث مع غرابته شاهد صحيح، وهو ما في الحديث السابق في مبحث الرياء :( أول من يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن ليقال له قارئ)وفي آخره :( أولئك الثلاثة نفر أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)

([43]) رواه الطبراني في الكبير.

([44]) رواه ابن حبان وفي سنده من تكلم فيه.

([45]) رواه الطبراني والبيهقي.

([46]) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

([47]) رواه الترمذي بسند حسن في المتابعات.

([48]) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرسلا بإسناد جيد عن الحسن.

([49]) رواه البزار، وهو غريب.

([50]) رواه البزار والطبراني.

([51]) رواه الطبراني بسند حسن.

([52]) رواه الطبراني بسند فيه الأعور ، وثقه ابن حبان وغيره.

([53]) رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي.

([54]) رواه البخاري ومسلم.

([55]) إحياء علوم الدين: 4/369.

([56]) وهذا ليس على الإطلاق، فالأرجح من أقوال الفقهاء عدم اشتراط عدالة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وإن كان ذلك هو الأكمل والأفضل .

وذلك أنه لو لم يعظ الناس إلا معصوم أو محفوظ لتعطل الأمر والنهي مع كونه دعامة الدين، وقد قيل في هذا:

إذا لم يعظ الناس من هو مذنب
 

فمن يعظ العاصين بعد محمد
  

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قوله:( مروا الناس بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تتناهوا عنه كله)

وقيل للحسن البصري : إن فلانا لا يعظ، ويقول أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن : وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر .

([57]) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.

([58]) الإحياء: 1/65.

([59]) رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة لهما، وابن عبد البر من حديث عبد الله بن المسور مرسلا وهو ضعيف جدا.

([60]) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.

([61]) رواه البخاري ومسلم، وانظر فصل (الورع) من رسالة (النبي الإنسان)

([62]) رواه البخاري وغيره.

([63]) رواه ابن عدي البيهقي وابن عبد البر في العلم.

([64]) رواه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

([65]) ذكرنا أدلة هذا، وما يمكن أن يستنبط منه أهل العلم في رسالة (مفاتيح المدائن)

([66]) ما سنذكره من أخبار منقول بتصرف من كتاب (الرحلة في طلب الحديث) لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، بتحقيق: نور الدين عتر.

([67]) أي علو الإسناد، وهو قلة رجال السند، وهو من أهم أسباب الرحلة في طلب الحديث.

([68]) رواه أبو داود وابن ماجة.

([69]) رواه البخاري ومسلم.

([70]) رواه ابن جرير.

([71]) رواه البخاري ومسلم.

([72]) رواه البخاري ومسلم.

([73]) رواه الدارمي في مسنده.

([74]) رواه الخطيب في الجامع.

([75]) رواه ‏الترمذي.

([76]) رواه البزار والطبراني في الأوسط.

([77]) جواهر القرآن:21.

([78]) رواه البخاري ومسلم.

([79]) انظر: فتح الباري . ( 12 / 328)

([80]) رواه البخاري.

([81]) قال الأشج في روايته: مكان سلما (سنا)

([82]) رواه مسلم.

([83]) رواه مسلم.

([84]) رواه البخاري.

([85]) رواه أبو داود.

([86]) رواه البخاري.

([87]) رواه مسلم.

([88]) رواه البخاري.

([89]) رواه البخاري.

([90]) وقد روى هذه الحكاية عن الغزالي أيضا الوزير نظام الملك كما هو مذكور في ترجمة نظام الملك من ذيل ابن السمعاني، انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 6/85.

([91]) ذكر ذلك في (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)، نقلا عن (ثمار منتهى العقول في منتهى النقول) للحافظ جلال الدين السيوطي.

([92]) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس.

([93]) رواه أبو سعد بن السمعاني في أدب الإملاء من حديث ابن مسعود، والعسكري في الأمثال، وابن الجوزي في الأحاديث الواهية من حديث علي، وقال: لا يصح، وصححه أبو الفضل بن ناصر.

([94]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([95]) رواه ابن حبان والحاكم، والذهبي، وأقره، ورواه الطبراني بسند صحيح.

([96]) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.

([97]) رواه الطيالسي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع.

([98]) رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه الذهبي، وأقره.

([99]) رواه البخاري.

([100]) رواه البزار في مسنده وقال: لا نعلمه يروى متصلا إلا عن أبي بكر، وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ومخارق مشهور، ومن عداه أجلاء.

([101]) رواه البخاري.

([102]) رواه أحمد.

([103]) رواه البخاري.

([104]) رواه ابن ماجه وغيره.

([105]) ذكرنا بتفصيل مفهوم الزهد وآثاره السلوكية في رسالة (كنوز الفقراء)

([106]) رواه البخاري ومسلم.

([107]) رواه أحمد، وللحديث روايات أخرى كثيرة لغير أحمد.

([108]) رواه أحمد والبخاري وابن ماجة.

([109]) رواه أحمد، والحارث ابن معاوية وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح.

([110]) .

([111]) رواه البيهقي عن الضحاك عن ابن عباس، رفعه في حديث طويل (واختلاف أصحابي لكم رحمة)، ورواه الطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطعا، وقال العراقي: مرسل ضعيف.

وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس وكثر السؤال عنه وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي، وقال: اعترض على الحديث رجلان أحدهما ماجن والآخر ملحد، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم رد الخطابي عليهما، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده. (انظر: تذكرة الموضوعات:1/90.

([112]) رواه مالك وغيره.

([113]) رواه أحمد ومسلم.

([114]) قال العراقي في تخريج الإحياء: معضل، وروى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث واثلة بن الأسقع :( من خاف الله خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله خوفه الله من كل شيء)، وللعقيلي في الضعفاء نحوه من حديث أبي هريرة وكلاهما منكر.

([115]) رواه الخطيب البغدادي في الجامع.

([116]) قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247)

([117]) وهي قوله تعالى :﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)

([118]) وهي قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ﴾ (الرعد:37)

([119]) رواه الطبراني.

([120]) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

([121]) رواه ابن مردويه.

([122]) وهي قوله تعالى :﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم:43)

([123]) وهي قوله تعالى :﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً) (الاسراء:107)

([124]) رواه ابن ماجه باختصار، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني حبوش بن رزق الله ولم يضعفه أحد.

([125]) وهي قوله تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج:54)

([126]) وهي قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص:80)

([127]) رواه أحمد.

([128]) رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بَذيمة، به وقال الترمذي: (حسن غريب)، ثم رواه هو وابن ماجه، عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِىّ، عن سفيان، عن علي بن بَذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا.

([129]) وهي قوله تعالى :﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سـبأ:6)

([130]) وهي قوله تعالى :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7)

([131]) رواه مسلم وأبو داود.

([132]) رواه الترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

([133]) الذكر ينصرف في هذا النص وغيره إلى ذكر الله من تسبيح وتحميد وتكبير وغيرها، كما ذكرنا في الرسالة السابقة، كما ينصرف إلى مجالس العلم، فكل ذلك يصدق عليه مصطلح الذكر.

([134]) رواه البخاري ومسلم.

([135]) رواه البخاري ومسلم.

([136]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان.

([137]) رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر مرفوعاً والطبراني في ‏الكبير عن ابن عباس نحوه مرفوعاً .

([138]) رواه مسلم.

([139]) رواه ابن ماجه والدار قطني.

([140]) رواه وأبو داود وللترمذي وحسنه نحوه من حديث ثوبان.

([141]) رواه مسلم.

([142]) عزاه رزين إلى الترمذي.

([143])  ذكره أصحاب الغريب.

([144]) في الحديث عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ :( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) رواه مسلم والترمذي والنسائي.

وفي الحديث عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي r قال :( من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فلا يقضين وهو غضبان) رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عباد بن كثير الثقفي وهو متروك.

وعن عطية بن سعد قال: قال رسول الله r :( إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان) رواه أحمد والطبراني في الكبير.

([145]) صيد الخاطر.

([146]) رواه ابن أبي حاتم.

([147]) رواه مسلم.

([148]) رواه رواه مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي.

([149]) رواه البخاري ومسلم.

([150]) رواه الشافعي على شرط السنن ولم يخرجوه.

([151]) رواه أحمد.

([152]) انظر الكثير من هذه الآداب المرتبطة بهذا في الرسالة السابقة (النبي الإنسان)

([153]) وهو قوله تعالى :﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:223)

([154]) وهو الحديث الذي رواه البخاري، عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r :( لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جَنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا)

([155]) رواه أحمد وابن حبان.

([156]) رواه الترمذي وابن ماجة.

([157]) رواه الطيالسي والبيهقي.

([158]) رواه أحمد.

([159]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([160]) رواه أبو داود، ورواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك من رواية عائشة، وقال: صحيح الإسناد.

([161]) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

([162]) رواه الخطيب في الجامع.

([163])يسرد الحديث: يسوق سياقا جيدا.

([164])بكلام فصل: بين ظاهر محكم، لا يعاب قائله، وحقيقته الفاصل بين الحق والباطل، والخطأ والصواب.

([165]) رواه البخاري ومسلم.

([166]) رواه أبو داود.

([167])النزر: القليل.

([168]) رواه الخلعي.

([169]) رواه أحمد والبخاري.

([170]) رواه أبو سعد النيسابوري في شرف النبي r.

([171]) رواه أبو بكر الشافعي.

([172]) رواه أحمد والترمذي.

([173]) رواه الترمذي وابن ماجه والإسناد ضعيف.

(1) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.

(2) أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح ، قال الحافظ المنذري: روى هذا الحديث برفع الله وبرفع الناس، وروى أيضا بنصبهما وبرفع الله وبنصب الناس وعكسه، أربع روايات.

(3) أحمد ورواته ثقات والطبراني.

(1) الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه.

(2) الطبراني وابن أبي الدنيا

(3) ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد لا بأس به.

(4) أبو داود والنسائي واللفظ له.

([181]) هذا مصطلح استعملناه كثيرا في رسائل السلام خاصة في مجموعاتها الأولى، ونريد به كل ما لم يبن على أسس السلام الذي جاء به الإسلام.

([182]) رواه الخطيب في الجامع.

([183]) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([184]) رواه البيهقي.

([185]) رواه  ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه.

([186]) رواه البخاري ومسلم.

([187]) رواه البخاري ومسلم.

([188]) رواه البخاري ومسلم.

([189]) رواه مسلم.

([190]) رواه مسلم.

([191]) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده.

([192]) رواه البزار.

([193]) رواه الخطيب في الجامع.

([194])رواه البيهقي.

([195]) رواه البخاري ومسلم.

([196]) رواه مسلم.

([197]) من المراجع المهمة التي رجعنا إليها في هذا المبحث: (المدرس ومهارات التوجيه، محمد بن عبدالله الدويش، الطبعة الثانية) و(المعلم الأول r، فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب)

([198]) رواه البخاري ومسلم.

([199]) رواه أحمد وابن ماجة.

([200]) رواه البخاري ومسلم.

([201]) رواه البخاري.

([202]) رواه البخاري ومسلم.

([203]) قال النووي: اختلف العلماء في معناه على أقوال أصحها به قال جمهورهم ‏معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة ، والمقصود به بيان إبطال ما كانت ‏الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج  ( مسلم بشرح النووي )

([204]) رواه مسلم.

([205]) رواه البخاري ومسلم.

([206]) أي يشير بها إلى الناس ‏كالذي يضرب بها الأرض.

([207]) رواه مسلم.

([208]) رواه البخاري .

([209]) رواه البخاري.

([210]) رواه الحاكم، وقال: صحيح ولم يخرجاه.

([211]) رواه البخاري ومسلم.

([212]) رواه مسلم.

([213]) رواه البخاري.

([214]) رواه البخاري ومسلم.

([215]) رواه البخاري ومسلم.

([216]) رواه البخاري ومسلم.

([217]) رواه البخاري ومسلم.

([218]) رواه البخاري ومسلم.

([219]) رواه البخاري.

([220]) رواه البخاري وغيره.

([221]) رواه مسلم وعند مسلم ‏أيضاً عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال:( أيعجز أحدكم أن ‏يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟) قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال:(قل هو الله أحد تعدل ثلث ‏القرآن)

([222]) تعار: هب من النوم مع كلام.

([223]) رواه أحمد ، والنسائي في اليوم والليلة.

([224]) رواه مسلم.

([225]) رواه مسلم.

([226]) رواه البخاري ومسلم.

([227]) رواه مسلم.

([228]) رواه البخاري ومسلم.

([229]) رواه البخاري .

([230]) رواه مسلم.

([231]) رواه البخاري.

([232]) رواه البخاري ومسلم.

([233]) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .

([234]) رواه مسلم.

([235]) المجموع شرح المهذب (1/31)

([236]) الرامهرمزي في المحدث الفاصل.

([237]) رواه البخاري.

([238]) رواه البخاري ومسلم.

([239]) رواه مسلم.

([240]) رواه مسلم.

([241]) ما كهرني : أي ما انتهرني ، والكهر الانتهار قاله أبو عبيد . وفي النهاية يقال كهره إذا زجره ‏واستقبله بوجه عبوس ( عون المعبود 3 / 926).

([242]) رواه مسلم وأبو داود.

([243]) مه مه : أي اكفف ، والتكرير للتأكيد وزيادة التهديد.

([244]) لا تزرموه : أي لا تقطعوا عليه بوله فيضره ، أو تنتشر النجاسة في المسجد بعد أن تكون بمحل ‏واحد.

([245]) رواه مسلم.

([246]) وهي عند أحمد وابن ماجه.

([247]) رواه البخاري ومسلم.

([248]) شرح النووي على مسلم.

([249]) رواه البخاري ومسلم.

([250]) رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد ، والحاكم من حديث أبي هريرة وصححه.

([251]) رواه الطبراني في مكارم الأخلاق من حديث جابر بسند ضعيف.

([252]) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.

([253]) رواه ابن سعد.

([254]) رواه ابن ماجه.

([255]) رواه ابن ماجه.

([256]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

([257]) رواه البخاري ومسلم.

([258]) رواه الترمذي  وصححه  والبيهقي.

([259]) رواه الترمذي في كتاب الأدب وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

([260]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

([261]) رواه أبو داود.

([262]) رواه مسلم وأبو داود في الأدب وابن ماجه.

([263]) رواه الترمذي وأبو داود، وقال عنه الترمذي: حديث حسن.

([264]) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.

([265]) رواه أحمد.

([266]) رواه ابن عساكر.

([267]) رواه البخاري ومسلم.

([268]) رواه النسائي في الكبرى.

([269]) رواه مالك ومسلم وأبو داود.

([270]) شرح النووي على مسلم.

([271]) رواه البخاري ومسلم.

([272]) رواه مسلم.

([273]) ذكرنا ما يرتبط بهذا الحديث من أبواب العلم في رسالة (مفاتيح المدائن) بالإضافة إلى رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة، وغيرها.

([274]) فنفضت: أسقطت ثمرها.

([275]) رواه أبو يعلى.

([276]) قال النووي:( اختلف العلماء في معناه ، فقال ابن قتيبة وآخرون : معناه أصبت في بيان تفسيرها ، وصادفت حقيقة تأويلها ، وأخطأت في مبادرتك بتفسيرها من غير أن آمرك به، وقال آخرون : هذا الذي قاله ابن قتيبة وموافقوه فاسد ؛ لأنه r قد أذن له في ذلك ، وقال : اعبرها وإنما أخطأ في تركه تفسير بعضها ، فإن الرائي قال: رأيت ظلة تنطف السمن والعسل ، ففسره الصديق ـ رضي الله عنه ـ بالقرآن حلاوته ولينه ، وهذا إنما هو تفسير العسل ، وترك تفسير السمن وتفسيره السنة ، فكان حقه أن يقول : القرآن والسنة ، وإلى هذا أشار الطحاوي، وقال آخرون : الخطأ وقع في خلع عثمان ، لأنه ذكر في المنام أنه أخذ بالسبب فانقطع به ، وذلك يدل على انخلاعه بنفسه ، وفسره الصديق بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ، ثم يوصل له فيعلو به ، وعثمان قد خلع قهرا ، وقتل ، وولي غيره . فالصواب في تفسيره أن يحمل وصله على ولاية غيره من قومه ، وقال آخرون : الخطأ في سؤاله ليعبرها)(انظر: شرح النووي على مسلم)

([277]) رواه البخاري ومسلم.

([278]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([279]) رواه البخاري ومسلم.

([280]) رواه أحمد وأبو يعلى ‏والبزار والحاكم وصححه.

([281])  قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما.

([282]) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه.

([283]) رواه البخاري ومسلم.

([284]) رواه مسلم.

([285]) رواه البخاري ومسلم.

([286]) رواه البخاري ومسلم.

([287]) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه.

([288]) رواه البخاري ومسلم.

([289]) رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([290]) رواه أحمد والدارمي.

([291]) رواه البخاري ومسلم.

([292]) رواه البخاري ومسلم.

([293]) رواه البيهقي.

([294]) رواه أحمد.

([295]) رواه أحمد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة.

([296]) رواه البخاري ومسلم.

([297]) لا تضارون : أي لا يحتاج أن ينظم بعضكم بعضاً ، ولا تتزاحمون ولا يلحقكم ظلم في عدم ‏رؤيتكم ربكم.

([298]) رواه البخاري ومسلم.

([299])   رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([300]) نشير به إلى العلامة الجليل محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني الإبراهيمي المعروف بالمرابط؛ لشدة مرابطته لتعلُّم العلم وتعليمه، من علماء الشناقطة الأفذاذ، له رسائل فقهية عديدة، ومن تآليفه: النصيحة في الفقه، مراقي السعود إلى مراقي السعود، المنهج إلى المنهج في قواعد مذهب الإمام مالك، وغيرها ت 1325 هـ أو 1326 هـ. انظر ترجمته في مقدمة كتابه: مراقي السعود بتحقيق د. محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي.

([301]) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله r:(يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) قال: قلت :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ (البقرة: من الآية255)، فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) رواه مسلم.

([302]) اللمعة السادسة والعشرون (رسالة الشيوخ)

([303]) الكلمة الثانية والثلاثون.