المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: النبي الهادي |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
|
قلت: فحدثني عن رحلتك الثالثة.
قال: في رحلتي الثالثة، سرت إلى
طوس .. تلك البلدة العريقة من بلاد فارس ..
البلاد التي تشرفت بقوله r :( لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به
رجل من أبناء فارس حتى يتناوله)[1]
خطر على بالي، وأنا أتجول في بعض
شوارعها العتيقة هذا الحديث .. وخطر على بالي بعدها الجموع الكثيرة من العلماء
والأولياء والربانيين من الفرس الذين ورثوا رسول الله r أكمل وراثة، وأحسن وراثة ..
ولست أدري كيف خطر على بالي فجأة
الإمام أبو حامد الغزالي .. وخطر على بالي ـ بالتحديد ـ المدرسة والخانقاه اللذين
أسسهما بعد عودته من الخلوة ليكونا رمزا لإحياء علوم الدين[2] ..
ما خطر ذلك الخاطر على خاطري حتى رحت
أسأل بعض المارة عن آثار المدرسة الغزالية، فابتسم، وقال: ولماذا تبحث عن آثارها؟
قلت: أنا سائح .. وأهتم بالآثار ..
ولذلك أحببت أن أراها .. فهل بقي لها وجود بعد تلك القرون الطوال؟
ابتسم، وقال: ما أسس على التقوى لا
يهدم .. وما رفع بنيانه على ذكر الله حفظ بالله .. وما حفظ بالله لا يصيبه البلى.
قلت: أتقصد أن آثار المدرسة لا تزال
موجودة؟
قال: بل المدرسة نفسها لا تزال
موجودة .. وأنا الذي تراني أمامك طالب من طلبتها.
قلت: فمن أستاذها؟
قال: الغزالي[3] ..
قلت: ما بك يا رجل .. الغزالي طوت
جسده السنون .. ؟
قال: ولكن علمه وما تركه لم تطوه
السنون .. هو لا يزال حيا نابضا بالحياة.
قلت: فأنت تتملذ على كتبه؟
قال: أنا أتتلمذ على رجل من أحفاده
.. لكأنه الغزالي نفسه عاد للحياة من جديد.
قلت: فأسرع بي إليه .. فما أشد شوقي
لأن أجلس بين يدي الغزالي، وأتعلم منه.
سار بي الرجل إلى مدرسة جمعت بين
القديم والحديث .. وبين الأصالة والمعاصرة.. لست أدري هل كانت عتيقة، فرممت، فصارت
حديثة بترميمها، أم أنها أنها حديثة طليت ببعض مظاهر القديم .. فصارت تجمع بين
القديم والحديث؟
دخلت إليه، فاستقبلنا رجل عليه سيما
الورثة، قال لي صاحبي: هذا هو الغزالي ..
لم أدر إلا وأنا أسرع إليه، وأقبل
يديه، فابتسم، وقال: هل جئت لتتعلم الحوار[4]؟
قلت: أنا جئت لأتلقى، لا لأجادل ..
فمن جلس أمام الغزالي لم يصلحه إلا الصمت.
قال: بل لن يصلحه إلا الحوار .. فالحوار
هو الكشاف الذي تكشف به الجواهر عن معدنها، ولا يمكن التعامل مع الجواهر قبل
التعرف على معدنها.
قلت: إذن أفتضح؟
قال: لا يصلح إلا من افتضح .. ألا
ترى أن المريض لا يتعرف الطبيب على دوائه إلا بعد أن يفضح داءه؟
قلت: صحيح ذلك ..
قال: فلذلك نحن نكشف عن الجواهر
بالقيل والقال، والجواب والسؤال، لا بالمراء والجدل.
قلت: إن هذا ما ذكره لي معلم الهداية
.. فهل فمك هو الفم الثالث؟
قال: إن كان الفم الثالث هو فم
المحاور، ففمي هو ذلك الفم.
قلت: فهل تأذن لي أن أصحبك لأتعلم
منك هذا الفم؟
قال: آذن لك في أن تتعلم في هذه المدرسة
.. فهذه المدرسة مدرسة الحوار .. أسستها بعد جدي لأعلم الدعاة إلى الله السائرين
على قدم النبي r كيف يحاورون، وفيم يحاورون، ولم يحاورون.
قلت: فما شروط التسجيل فيها .. فأنا
لست من هذه البلاد؟
قال: الصدق والطهارة والهمة العالية.
قلت: فما الشهادة التي تسلم لطلبة
هذه المدرسة؟
قال: وراثة النبوة في فنون الحوار.
قلت: ما أعظمها من شهادة .. وأنا ـ
من الآن ـ أتشرف بأن أنضم إلى هذه المدرسة .. فما أقسامها؟
قال: أربعة .. لا يمكن للأقسام إلا
أن تكون أربعة .. ألم تر أن جدي أبا حامد أسس إحياءه على أربع؟
قلت: أجل .. فما الأربع التي أسست
عليها مدرستك؟
قال: الطهارة، والخبرة، والأدب،
والسعة.
قلت: فما الطهارة؟
قال: لا يمكن للمحاور أن ينجح في
حواره، وقلبه ممتلئ بالخبائث، ولا يمكن له أن ينجح في حواره وهمته متوجهة إلى
نفسه، لا إلى الحق الذي يدعو إليه.
قلت: إن هذا يستدعي مدرسة تربوية ..
لا مدرسة علمية ..
قال: لا خير في علم لا يربي صاحبه ..
قلت: فما الخبرة؟
قلت: لا يمكن للمحاور أن يحاور إلا
فيما له خبرة فيه.
قلت: الخبرة أعمق من العلم.
قال: ولهذا سمينا هذا القسم قسم
الخبرة، لا قسم العلم.
قلت: فما الأدب؟
قال: لا يمكن للحوار أن ينجح إلا في
ظلال الأدب .. فالأدب هو فراش الحوار ودثاره .. ومن لم يتأدب مع من يحاوره لن
يزيده حواره معه إلا بعدا.
قلت: فما السعة؟
قال: المحاور السائر على قدم النبي r
هو الذي يحاور الكل وفي الكل .. ولا يتكبر على أحد من الناس كما لا يتكبر الطبيب على
أي مرض، ولا على أي مريض.
كان أول قسم دخلته بعد التحاقي
يالمدرسة الغزالية للحوار .. هو قسم (الطهارة) .. كان ممتلئا بالطلاب .. سأحكي لك
باختصار عن بعض ما جرى في اليوم الأول من دراستي فيه .. فلم تكن لدراستنا في سائر
الأيام في ذلك القسم من قصد إلا تعميق ما درسناه في ذلك الدرس.
بدأ الدرس بسؤال لأحد الطلبة قال
فيه: يا إمام .. لم اعتبرت الطهارة شرطا من شروط الحوار، وأصلا من أصوله؟
قال الغزالي: قياسا لها على الصلاة
.. أليست الصلاة هي حوار بين العبد وربه؟
قال الطالب: أجل .. وقد ورد في
الحديث القدسي قوله r :( قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين،
ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
(الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال :﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
(الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال :﴿ مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ ﴾ (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي فإذا قال :﴿ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي،
ولعبدي ما سأل، فإذا قال:﴿ اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)[5]
قال الغزالي: ألا ترى أنه يشترط لصحة
الصلاة تحقق الطهارة؟
قال الطالب: أجل .. وقد ورد في
الحديث قوله r :( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)[6]
قال الغزالي: فهكذا الحوار بين العبد
والعبد لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا تقدمته الطهارة.
قال الطالب: لم أسمع بهذا .. هل
يشترط على المتحاورين أن يقصدوا دورات المياه قبل ابتداء حوارهم؟
قال الغزالي: ألم تقرأ ما قاله جدي
أبو حامد في أول وظائف طالب العلم؟
قال الطالب: بلى .. لقد ذكر أول
وظيفة من وظائف طالب العلم، فقال:( تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم
الأوصاف)
وعلل ذلك بقوله :( إذ العلم عبادة
القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة
الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة
الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف)
ثم استدل لذلك بقوله تعالى :﴿
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ (التوبة: من الآية28) ففي هذه الآية
(تنبيه للعقول على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس، فالمشرك قد
يكون نظيف الثوب مغسول البدن، ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث، والنجاسة
عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه، وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع
خبثها في الحال مهلكات في المآل)
واستدل بقوله r :( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)[7] وعلق عليه بقوله :( والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل
استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب
وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه
الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)
(الشورى:51)، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة
الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرؤون عن الصفات المذمومات، فلا يلحظون
إلا طيباً ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيباً طاهراً)
نهض طالب من الطلبة غاضبا، وقال: هل
الغزالي هو الذي ذكر هذا؟
قال الغزالي: أجل .. فهو في الإحياء[8] ..
قال الطالب: فكيف ينكر على الباطنية
إذن .. وهو يسلك سبيلهم.
قال الطالب الأول: اصبر .. فلا ينبغي
لك أن تحكم على الرجل قبل أن تسمع جميع قوله.
قال الثاني: ولكن قوله واضح في ذلك
.. وهو لا يحتاج منك أي تبرير.
قال الأول: لقد قال الغزالي بعد قوله
ذلك استدراكا على من يسيء فهم قوله:( ولست أقول: المراد بلفظ البيت هو القلب،
وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة، ولكني أقول: هو تنبيه عليه، وفرق بين تعبير
الظواهر إلى البواطن، وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر، ففارق
الباطنية بهذه الدقيقة، فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى
الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره، فلا يقتصر عليه، كما يرى العاقل مصيبة لغيره
فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبيه لكونه أيضاً عرضة للمصائب، وكون
الدنيا بصدد الانقلاب، فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة
محمودة، فاعبر أنت أيضاً من البيت الذي هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بيت من
بناء الله تعالى، ومن الكلب الذي ذم لصفته ـ لا لصورته ـ وهو ما فيه من سبعية
ونجاسة إلى الروح الكلبية وهي السبعية، واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى
الدنيا والتكلب عليها والحرص على التمزيق لأعراض الناس كلب في المعنى وقلب في
الصورة، فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور، والصور في هذا العالم غالبة على
المعاني والمعاني باطنة فيها، وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني، فلذلك
يحشر كل شخص على صورته المعنوية، فيحشر الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً، والشره
إلى أموالهم ذئباً عادياً، والمتكبر عليهم في صورة نمر، وطالب الرياسة في صورة
أسد، وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار)[9]
قال الغزالي: إذا وعيتم هذا، فاعلموا
أن أول شرط من شروط الحوار هو تصفية النفس بمياه التوبة والإنابة والتسليم لله ..
فلا يمكن أن تحاور من تحاوره إلا وأنت صاحب قلب نقي صاف سليم من كل درن.
قال أحد الطلبة: إن ذلك يقلل أهل
الحوار.
قال الغزالي: ولكن الحوار لن يؤتي
ثماره إلا بذلك .. فلا يمكن للكدورات أن تثمر إلا
الكدورات.
قال الطالب: لم ذلك؟
قال الغزالي: لقد ذكر جدي أبو حامد
في (الإحياء) وفي جميع كتبه أن أكبر الآفات التي تفسد المناظرات وأخطرها هي الآفات النفسية، فهي السبب الأكبر في
فشل الحوار وعدم إتيانه ثماره ، بل إن ثماره تصبح عكسية ، تزيد الطين بلة.
وقد قام بتحليل نفسي رائع لنفسيات
المتحاورين التي لم تتأدب بآداب الشرع ، فذكر الآفات النفسية الكثيرة التي تسببها
المناظرات العلمية ـ والتي هي نوع من أنواع الحوار ـ ، ويعتبرها منبع جميع الأخلاق
المذمومة ، بل يقيسها على كبائر الفواحش الظاهرة ، باعتبارها لا تختلف عنها ، وقد
قال في فصل عقده بعنوان (بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق) :(
اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف
والتشدّق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع
الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدوّ الله إبليس)[10]
ويتفرع عن هذه الخصال خصال أخرى
كثيرة ، قال الغزالي :( ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من
الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل: الأنفة، والغضب، والبغضاء، والطمع، وحب
طلب المال، والجاه للتمكن من الغلبة، والمباهاة، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء
والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم، والتجمل بالخيول والمراكب والثياب
المحظورة، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء، والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام،
وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب، واستيلاء الغفلة عليه لا يدري المصلي منهم
في صلاته ما صلى، وما الذي يقرأ، ومن الذي يناجيه؟ ولا يحس بالخشوع من قلبه مع
استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة: من
تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى. والمناظرون
يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم ديناً وأكثرهم
عقلاً عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها)[11]
والغزالي يقيس هذه المنكرات الباطنة
على الكبائر من الفواحش الظاهرة، فيقول :( ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر
والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى
الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة)
ويستدل على ذلك بعلة جامعة ينص عليها
بقوله:( كما أن الذي خير بـين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه
ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في
المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه
جميع الأخلاق المذمومة)
بل يذكر أن هذه الفواحش الباطنة مما
يقع فيه المتماسكون أما غيرهم ، فيقع منهم (من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم
واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح)
قال أحد الطلبة: لقد صدق الغزالي
فيما ذكره من ذلك .. ونحن نرى في وسائل الإعلام الكثير مما يؤكد قوله هذا .. فهل
بحث عن أسبابه؟
قال الغزالي: أجل .. فلا يمكن وصف
الدواء قبل تشخيص الداء.
قال الطالب: فما الذي ذكره من أسباب
ذلك الدنس الذي تمتلئ به نفوس المتحاورين، والذي يحيل حوارهم وقودا لا يزيد نيران
العلاقات إلا اشتعالا.
قال الغزالي: لقد رأيت أن فروع تلك
الخبائث التي تملأ نفوس المتحاورين تنطلق من أربعة أمراض كبرى .. الحسد، والكبر،
والرياء، والبغي .. وكلها ذكرها جدي أبو حامد، بحمد الله.
قال الطالب: فما منبع الحسد، وما علاقته
بالحوار .. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد الحسد
باعتباره الآفة الكبرى التي تنخر العلاقات .. كما يشير إلى ذلك قوله r
:( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)[12] .. فكل الحسنات التي تنبت من العلاقات الطيبة بين المتحاورين
تأكلها نار الحسد.
قال الطالب: فما العلة النفسية لذلك؟
قال الغزالي: أنت تعلم أن المحاور
تارة يغلب وتارة يُغلب، وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره .. وهو لذلك إن حمد
كلامه امتلأ إعجابا بنفسه .. وإن حمد كلام غيره امتلأ حسدا وحقدا .. فهو لذلك
يتمنى زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه، ولهذا قال ابن عباس ـ رضي
الله عنه ـ :( خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض
فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة)
قال الطالب: فما منبع الكبر، وما علاقته
بالحوار .. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد ما
ينشئه اعتقاد المحاور لغلبته وتفضله على مخالفه، فقال :( ولا ينفك المناظر عن
التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى إنهم ليتقاتلون على مجلس من
المجالس يتنافسون فيه في الارتفاع والانخفاض والقرب من وسادة الصدر والبعد منها
والتقدّم في الدخول عند مضايق الطرق، وربما يتعلل الغبـي والمكار الخداع منهم بأنه
يبغي صيانة عز العلم، وأن المؤمن منهيٌّ عن الإذلال لنفسه، فيعبر عن التواضع الذي
أثنى الله عليه وسائر أنبـيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين
تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به)
ولهذا ورد التحذير في النصوص من
الكبر، وأمر بالتواضع، وربط كل ذلك بالاهتداء إلى الحق.. ففي الحديث أن رجلا أتى
النبي r ، فقال : يانبي الله إنه ليعجبني الجمال حتى أود أن علاقة سوطي
وقبالة نعلي حسن، فهل ترهب علي الكبر ؟ فقال نبي الله r : (كيف تجد قلبك؟) قال : أجده عارفا للحق مطمئنا إليه، قال :
(فليس ذاك بالكبر، ولكن الكبر أن تبطر الحق، وتغمص الناس فلا ترى أحدا أفضل منك
وتغمص الحق فتجاوزه إلى غيره)[13]
انظروا .. ألا ترون (أن أبغض شيء إلى
المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق، ومهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده
وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة
طبـيعية، فلا يسمع كلاماً إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك
على قلبه)؟
قال
الطلبة جميعا بلسان واحد: بلى ..
قال الغزالي: فلذلك تبدأ مدرستنا
بتربية المتحاورين على التواضع، وعلى تقبل الحق من أي كان .. فلا يمكن أن ندنس سنة
الحوار التي سنها لنا نبينا r بما تمتلئ به نفوسنا من أمراض.
قال الطالب: فما منبع الرياء، وما علاقته
بالحوار .. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: الرياء هو أن تنشغل
النفس برؤية نفسها عن رؤية الحق أو الدفاع عنه أو الدعوة إليه .. ومحال أن يتجلى
الحق والنفس في مرآة واحدة.
قال الطالب: فكيف تطهر النفس من
الرياء؟
قال الغزالي: بتحقيق التوحيد
والإخلاص، فلا يقصد المحاور إلا نصرة الحق .. لا يهمه في ذلك إن ظهر على لسانه أو
ظهر على لسان غيره.
لقد كان الشافعي وارث رسول الله r
يصيح بهذا، ويخبره عن نفسه به .. كان يقول :( ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطىء)
.. وكان يقول :( ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية
من الله تعالى، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على
لسانه) .. وكان يقول :( ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت
محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته)
قال الطالب: فما منبع البغي، وما علاقته
بالحوار .. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: من امتلأت نفسه بالحسد
والكبر والإعجاب بالنفس والتباهي بها لن ينظر إلى غيره إلا بعين البغي والظلم والعدوان
.. فلذلك تجده في حواره كسبع ضار ليس له من هم إلا افتراس فريسته.
لقد ذكر الغزالي بعض ما كان في عصره
من مظاهر البغي، فقال :( المناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع عورات خصومه
حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده، فيطلب من يخبر بواطن أحواله ويستخرج بالسؤال
مقابحه حتى يعدها ذخيرة لنفسه في إفضاحه وتخجيله إذا مست إليه حاجة، حتى إنه
ليستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو
غيره، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرّض به إن كان متماسكاً، ويستحسن ذلك منه،
ويعد من لطائف التسبب، ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحاً بالسفاهة
والاستهزاء، كما حكي عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم)
لقد ذكر القرآن الكريم كيف يقف البغي
والظلم حجابا دون الحق، فقال :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33)
لقد أخبر الله في هذه الآية الكريمة
أن الظلم هو السبب في جحود الظالمين لآيات الله، لا كون الآيات في نفسها تستحق أن
تكذب.
قال أحد الطلبة: أهذه هي الآفات التي
يتم التكوين فيها في هذا القسم؟
قال الغزالي: أجل .. نحن في هذا
القسم نحاول أن نعلم الطلبة كيف يتخلصون من هذه الآفات الخطيرة، وكيف تمتلئ نفوسهم
بالصفاء .. ليتمكنوا بعدها من إجراء حوار ناجح يؤتي الثمار التي يطلبونها.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في
القسم الأول أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثاني، وهو قسم (الخبرة) ..
لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)
(الحج:8)، وبجانبها قوله تعالى:﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران:66)
وقد رأينا في مدخل ذلك القسم أربعة
فروع ..
بدأنا بالفرع الأول، وكان اسمه
(الوجهة)، وقد علق على بابه قوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا ﴾ (البقرة: من الآية148) .. قابلنا الغزالي في ذلك الفرع، وهو
يقول: مبارك لكم تخرجكم من القسم الأول، فقلما يتخرج منه المتخرجون إلا بعد عناء
وتعب.
قال أحد رفاقي: لقد وفقني الله في
أوائل حياتي، فصحبت رجلا من أهل الله اسمه (محمد الوارث) .. فإن يكن هناك من سبب
لنجاحي في ذلك القسم، فلا أراه يعود إلا إليه.
صحت: أنا كذلك .. وفقني الله لصحبته
فترة من الزمن ..
صاح جميع أصحابي بذلك ..
قال الغزالي: كلنا صحب ذلك الرجل ..
وبركات ذلك الرجل لا نزال ننهل منها بحمد الله.
قلت: فما الذي سنتعلمه في هذا القسم؟
قال: تفسير ما قرأته في مدخل باب هذا
القسم.
قلت: أتقصد قوله تعالى :﴿
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ (البقرة: من الآية148)
قال: أجل .. فهذه الآية هي عنوان
دراستكم في هذا الفرع.
قال بعض رفاقي: أتقصد أنا سنبحث عن
أنواع الوجهات التي تتوجه إليها الأديان في شعائرها؟
قال: سنبحث في هذا الفرع عن أنواع
الوجهات التي تتوجه لها العقول والقلوب والأرواح والأسرار في شعائرها وفي حياتها.
قلت: إن ذلك سيستفرع منا جهدا كبيرا.
قال: هو جهد لابد منه .. فلا يمكن لمن
يريد أن يحاور جهة من الجهات ليهديها إلى الله إلا أن يتعرف على ما تعتقده تلك
الجهة، وما تستدل به على اعتقادها .. ليخاطبها بالعلم لا بالجهل، وبالحقائق لا
بالأباطيل ..
عندما لاح لجدي أبي حامد أن ينتقد
الفلسفة اليونانية، وما كانت تحمله من أنواع الضلال، لم يكتف بأن يكتب قصيدة أو
خطبة يملؤها سبابا وشتائم .. وإنما راح لكتب الفلسفة يقرؤها بتمعن وتمحيص وتدقيق
..
لقد ذكر سر ذلك، فقال :( ثم إني
ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام - بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً: أنه لا يقف على
فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك
العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره
وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً، ولم أر أحداً من علماء
الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ـ حيث
اشتغلوا بالرد عليهم ـ إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن
الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل
فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية.
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك
العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات
فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة
لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد، فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في
هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على
التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى
اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه)[14]
وهكذا .. فلا ينبغي لمن يريد محاورة
أي جهة من الجهات إلا أن يكون له القدرة على فهمها واستيعاب ما تطرحه من أفكار.
قال أحد رفاقي: فإن لم يكن له القدرة
على ذلك؟
قال: من لم تكن له القدرة .. فليلزم
الصمت .. فلا يمكن للجاهل أن يكون معلما ..
قال الطالب: إن ذلك يقلل الدعاة إلى
الله.
قال: للدعوة إلى الله أساليب كثيرة
.. والحوار العلمي أسلوب من أساليبها .. ولا يمكن أن يمارس هذا الأسلوب جاهل ..
لأنه لا يزيد طين الحوار إلا بلة.
قلت: إن من قومي من يدعو المسيحيين
إلى مناظرات علمية .. وهو لا يعرف حتى فصول الكتاب المقدس.
قال: ذلك مغرور .. فانهره .. وأخبره
بقوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (الحج:8)
قلت: إن هذه الآية تتحدث عن الكفار
.. لا عن المسلمين.
قال: الآية تتحدث عن المجادل بغير
علم .. ويستوي في ذلك المسلم وغير المسلم.
قلت: فهل في النصوص المقدسة ما يدل
على مراعاة هذا في الحوار؟
قال: أجل .. وما كان لنا أن نتخطى
النصوص المقدسة، أو نتجاهلها ..
قلت: أين ذلك؟
قال: ألست تقرأ في القرآن الكريم
قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ
وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
(البقرة:113)، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(المائدة: من الآية18)، وقوله تعالى :﴿
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )(المائدة: من الآية64)، وقوله
تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ
النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)؟
قلت: بلى .. وفي القرآن الكريم
الكثير من هذا.
قال: إن القرآن الكريم في هذه الآيات
الكريمة يذكر لنا وجهات اليهود والنصارى ومعتقداتهم ليخاطبهم على أساسها .. وهو ـ
بذلك ـ يدعونا أن نتعرف على الوجهات المختلفة قبل التعامل معها.
قلت: ولكن الحوار قد لا يكون في تلك
الوجهات بذاتها .. أي أن حوارنا مع النصارى مثلا لا يرتبط بما يقولونه عن المسيح u
.
قال: ولو .. إن الأفكار والمعتقدات
سلسلة واحدة .. ولا يمكنك أن تتعامل مع حلقة من حلقات السلسلة، وأنت تجهل السلسلة
جميعا.
قلت: ولكن الوجهات كثيرة جدا ..
قال: كل من أراد أن يحاور جهة ..
فعليه أن يتعرف على القبلة التي تتوجه إليها ..
قلت: أتقصد أنا لن ندرس في هذا الفرع
كل الوجهات؟
قال: لو فعلنا ذلك .. فلن تخرجوا من
هنا .. لقد عرفت كيف استمر جدي أبو حامد أكثر من سنتين في دراسة الفلسفة اليونانية
وحدها.
قلت: فماذا سندرس في هذا الفرع إذن؟
قال: سنتعرف على الوجهات العامة
للملل والنحل .. ونتعرف على المصادر التي يمكن أن تكون مرجعا لنا إذا أردنا العلم
التفصيلي عنها.
قلت: لم نكتف بهذا؟
قال: لأن العلم بالملل والنحل وحصرها
وتصنيفها من العلوم التي استفدناها من نبينا r .. ألم تسمع حديثه في افتراق الملل والنحل؟
قلت: بلى .. فقد ورد في الحديث قوله r
:( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة،
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)[15]
قال: ألا ترى كيف حصر رسول الله r
أصناف الفرق المتفرعة عن اليهودية، وعن النصرانية، وذكر ما سيصل إليه المسلمون من
تفرق.
قلت: بلى .. ولكن من قومي من يتخذ من
هذا الحديث مطية للتفريق بين المسلمين، وزرع الأحقاد بينهم.
قال: أولئك جهلة أو غافلون .. وهم لا
يفهمون من النصوص المقدسة إلا ما توحي لهم به نفوسهم المدنسة بالحقد والتعصب
والكبرياء.
قلت: فما تفهم أنت؟
قال: إن رسول الله r
أعظم الناصحين .. وهو يدلنا على التعرف على مقولات الفرق والملل والنحل .. لا لنصب
عليها نيران أحقادنا، وإنما لنصيبها ببلسم شفائنا .. ألا ترى كيف يصنف الأطباء
المرض الواحد إلى أنواع مختلفة .. تحت كل نوع منها أنواع أخرى .. وهكذا؟
قلت: بلى .. وقد مارست الطب زمنا،
وعرفت من علوم ذلك ما وفقني الله لمعرفته.
قال: فاعبر من طب الأجساد إلى طب
الأرواح .. واعبر من طب الأفراد إلى طب
المجتمعات.
قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بجدك أبي
حامد .. فقد كان رجلا حكيما .. لقد قال بعد أن ذكر ما تعلمه من علوم الفلاسفة :(
اعلم أنهم ـ على كثرة فرقهم، واختلاف مذاهبهم ـ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون)
ثم ذكر مقولات كل طائفة، وما تميزت به
عن غيرها، فذكر أن الدهريين ( هم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر، العالم
القادر، وزعموا: أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه، وبلا صانع، ولم يزل الحيوان
من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة)
وذكر أن الطبيعيين ( هم قوم أكثروا
بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح
أعضاء الحيوانات، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى، وبدائع حكمته، مما اضطروا
معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها، ولا يطالع التشريح،
وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني
لبنية الحيوان، لا سيما بنية الإنسان..! إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر
عندهم ـ لاعتدال المزاج ـ تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به، فظنوا أن القوة
العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم، ثم إذا
انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم، كما زعموا، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود
فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة، والحساب، فلم يبق
عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا إنهماك
الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان هو: الإيمان بالله واليوم الآخر،
وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته)
وذكر أن الإلهيين (ـ وهم المتأخرون
منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي
رتب لهم المنطق، وهذَّب لهم العلوم، وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل، وأنضج لهم
ما كان فجاً من علومهم ـ وهم بجملتهم، ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية،
والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم ﴿ وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ )(الأحزاب: من الآية25) بتقاتلهم، ثم رد
أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى
تبرأ عن جميعهم)[16]
قال: انظر .. إن ما قرأته من هذا
النص يدل على منهج حكيم للمحاور الحكيم .. وهو منهج أشار إليه قوله تعالى :﴿
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113)
قلت: ما تعني؟
قال: إن الآية الكريمة تشير إلى
العداوة المستفحلة بين اليهود والنصارى .. وهي عداوة يمكن للمحاور الحكيم أن
يستثمرها .. فيغني نفسه عن جهد كبير قد لا يكون بحاجة إليه.
قلت: نعم .. لقد ذكر جدك أبو حامد
أنه استثمر العداوة فيما بين الفلاسفة، والصراع الذي كان بينهم.
قال: وهكذا الحكيم يستثمر الصراع بين
الفلسفات المختلفة .. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا
..
قاطعه بعض رفاقي قائلا ـ وهو يبتسم ـ
: هو لجدك أم لك.
ابتسم، وقال: ليس جدي سواي .. ولست
سوى جدي .. لقد امتلأت حبا له، ففنيت فيه .. فلا تراني أتحدث إلا عنه .. فاعذروني
..
أما هذا المثال .. فأنا الذي اكتشفته
بحمد الله .. ولو أن لجدي سبب في اكتشافه ..
لقد أردت مرة أن أحاور بعض أهل
الكتاب في التحريف الذي طال كتبهم، ولم يكن لدي الوقت الكافي للبحث في المخطوطات
والتراجم والنسخ المختلفة .. وقد سمعت حينها أن اسبينوزا .. الفيلسوف اليهودي
المعروف .. كان قد كتب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم
ولأسفار موسى الخمسة .. وقرأت أنه من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي
يُسمَّى (نقد العهد القديم)، أو (النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة) .. فرحت أستثمر
كل ما قاله في ذلك.
قلت: وماذا لو كان اسبينوزا أخطأ في
استنتاجاته؟
قال: أنا لا تهمني الاستنتاجات ..
ولم أكن أطلب الاستنتاجات .. بل كنت أطلب الحقائق، والتوثيقات المرتبطة بها .. أما
النتائج .. فيمكنك أن تستثمرها في أي محل .. ألست ترى من الناس من يأكل التفاح
ناضجا، ومنهم من يأكله مربى، ومنهم من يأكله مطبوخا؟
قلت: المهم أنه أكل تفاحا ..
قال: وهكذا فعلت .. لقد كنت أبحث عن تفاح
الحقائق من جميع أنواع البساتين لأطبخ منه بعد ذلك ما أراه صالحا للمعد المختلفة.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الأول ..
انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثاني من قسم (الخبرة) .. وقد كتب على بابه قوله
تعالى :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
وقد قابلنا في مدخل هذا الفرع
الغزالي مبتسما مهنئا، فسألناه عن سر وضع الآية في مدخل هذا الفرع، فقال: هنا نبحث
في المسائل المهمة التي نحتاج إلى الحوار فيها.
قلت: كنت أتصور أن الحوار يمكن أن
يكون في كل شيء؟
قال: أجل .. ولكنا في هذه المدرسة
خصوصا آلينا على أنفسنا أن نبتعد عن كل لغو .. فلذلك جعلنا هذا القسم مركز أبحاث
في المسائل المهمة التي ينبغي الحوار فيها.
قلت: فما علاقة ذلك بالآية؟
قال: الآية الكريمة هي التي هدتنا
إلى ذلك .. فالله تعالى يخاطب أهل الكتاب داعيا لهم إلى الاجتماع مع نبيه r
حول القضايا العقدية الكبرى .. والتي هي إفراد العبودية لله، وترك الخلافات
الجانبية ..
قلت: أهناك خلافات جانبية؟
قال: هي كثيرة جدا .. وأكثرها مما
يستنفذ الجهود .. وأكثرها مما ينفخ فيه الشيطان.
قلت: فهل وجدتم ما تخمدون به نيران
الشياطين؟
قال: أجل .. وجدنا ـ بحمد الله ـ
الكثير .. ونحن نتدارس ذلك في هذا الفرع.
قال بعض الطلبة: هل يمكن أن تذكر لنا
مثالا على ذلك ..
قال: مثالا من عندي .. أم من عند
جدي؟
قال الطالب: ألم تذكر لنا أنك وجدك
واحد؟
قال: بلى .. أنتم تعلمون أن من الفرق
التي حاورها جدي فرقة التعليمية[17] .. وقد حاول ـ كعادته في التعامل مع مثل هذه القضايا ـ أن يحصر
نقاط الاختلاف المهمة، ويناقشها بعد ذلك.. وقد رأى من خلال استقرائه أن السبب في
انتشار أفكارها هو ما سماه بسوء نصرة الصديق الجاهل ..
اسمعوا إليه، لقد قال في (المنقذ) عن
هذه الفرقة:( أنه لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم، ولولا سوء نصرة الصديق
الجاهل، لما انتهت تلك البدعة ـ مع ضعفها ـ إلى هذه الدرجة، ولكن شدة التعصب دعت
الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات كلامهم، وإلى مجاحدتهم في كل ما
نطقوا به، فجاحدوهم في دعواهم: الحاجة إلى التعليم والمعلم، وفي دعواهم أنه: لا
يصلح كل معلم، بل لا بد من معلم معصوم وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم
والمعلم، وضعف قول المنكرين في مقابلته، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة
مذهبهم وضعف مذهب المخالفين، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه، بل الصواب
الاعتراف بالحاجة إلى المعلم، وأنه لا بد وأن يكون المعلم معصوماً، ولكن معلمنا
المعصوم هو محمد r فإذا قالوا: هو ميت فنقول: ومعلمكم غائب فإذا قالوا: معلمنا قد
علم الدعاة وبثهم في البلاد، وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل
فنقول: ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى :﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3)، وبعد كمال التعليم لا
يضر موت المعلم كما لا يضر غيبته)[18]
وهكذا في تعامله مع الفلسفة،
والفلاسفة، فقد حاول أن يحصر نقاط الاختلاف المهمة في عدد محدود من المسائل ..
ضمنها كتابه (تهافت الفلاسفة)
لقد بدأ فقسم العلوم التي خاض فيها
الفلاسفة إلى ستة أقسام، مبينا حكم كل قسم، وعلاقته بالشريعة، لأنه لا حاجة
للإنكار عليهم في مسائل لا علاقة لها بالشريعة.
قال أحد الطلبة: فما هذه الأقسام
لعلنا نقيس عليها غيرها.
قال الغزالي: أولها العلوم الرياضية،
وهي العلوم التي تتعلق بالحساب والهندسة،وعلم هيئة العالم، وحكمها كما يقرر
الغزالي أنه (لا يتعلق شيء منها بالأمور الدينية،بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى
مجا حدتها بعد فهمها)، بل إنه يجعلها من الفروض الكفائية ما دام يحتاج إليها ،
ولكنه مع ذلك يحذر من بعض النتائج السلبية المنجرة عن النظر فيها ، ولعل أهمها هو
اعتقاد أن جميع الآراء الفلسفية من الدقة والوثوق مثل العلوم الرياضية، (فيكفر
يالتقليد المحض)؛ وليس في هذا التحذير من الغزالي إلا تنبيه للسبيل الانتقائي الذي
اختاره وبنى عليه مواقفه.
وأما ثانيها، فهي العلوم المنطقية:
وتتعلق بالنظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، ولا
يتعلق شيء منها بالدين ـ كما يذكر الغزالي ـ إلا ما حشيت به من أمثلة تتناقض
وتتعارض مع الأصول الدينية، ولأجل ذلك ألف الغزالي كتبه المنطقية،كمعيار العلم
وغيره، وحشاها بدلا من ذلك بالأمثلة الفقهية.
وأما ثالثها، فالعلوم الطبيعية:
وتشمل في مدلولها القديم الطب والكيمياء والفلك وغيرها، ويرى الغزالي عدم تعرضها
للدين، ولذلك لا ينبغي مخالفتهم في شيء منها إلا بما هدى إليه الدليل العلمي،
ولكنه مع ذلك ينبه إلى قضية مهمة، وكأنه يدعو من خلالها إلى أسلمة هذه العلوم، فهي
إلحادية من حيث جعلها الطبيعة فاعلة بذاتها، ولذلك يجب أثناء مطالعة هذه العلوم
(أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ،ولا تعمل بنفسها ،بل هي مستعملة من جهة
فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره ،لا فعل لشيء منها لذاته)
وكذلك ينتقدهم في حكمهم بأن الاقتران
المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران ضروري لازم، وليس في الإمكان
إيجاد السبب دون المسبب، وذلك لما يلزم عنه من إنكار المعجزات أو تأويلها تأويلا
يعطل معناها، كما ينقل الغزالي تأويل بعضهم إحياء الموتى بإزالة موت الجهل بحياة
العلم، وتأويل تلقف العصا سحر السحرة على إبطال الحجة الإلهية شبهات المنكرين على
يد موسى u .
وقد رد الغزالي على الفلاسفة هذه الجوانب
لاعتمادهم فيها على الظن والتخمين دون التحقيق العلمي المبني على الحجة والدليل،
ولذلك تكتسب أدلته النقدية لها قوة علمية تنبئ عن مدى اعتماده المنهج التجريبي في
العلوم الطبيعية.
وأما رابعها، فالعلوم السياسية: ويبحث
فيها الفلاسفة عن الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية، ولا يرى الغزالي لذلك
أي تعلق بالدين، بل يمكن الاستفادة من أبحاثهم فيها باعتبارها مستمدة ـ كما يرى ـ
من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء.
وأما خامسها، فالعلوم الأخلاقية
:وكلامهم فيها ـ كما يلخصه الغزالي ـ يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وأجناسها
وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وهو لا يرى ردها باعتبارها لا تناقض الشرع،
بل يرى أن كلامهم فيها مأخوذ من كلام الصوفية والمتألهين الذين لم يخلو من وجودهم
أي عصر من العصور، ولذلك فإن الاستفادة منهم تلق لمزيد من التجارب والفوائد التي
لم تمنعنا الشريعة من الأخذ بها.
وأما سادسها، فالعلوم الإلهية: وهي
التي انصب عليها نقد الغزالي، لأن أكثر أغاليطهم فيها.. وهو لم ينقدهم كفيلسوف،
ولم يحكم عليهم بالكفر أو البدعة كفقيه إلا بعد النظر في علاقة آرائهم بما جاءت به
الشريعة، لأنها عقل من الخارج، ويستحيل تصادم العقل الخارجي مع العقل الداخلي
،ولذلك جمع من أقوالهم في الإلهيات عشرين مسألة، حكم بالكفر على ثلاثة منها،
وبالبدعة على الباقي، (وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات، وقولهم :إنه عليم بالذات،
وما يجري مجراه، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة، ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل
ذلك)
بعد هذا التقسيم لا يرى الغزالي حرجا
أن يستفيد اللبيب من كل علومهم ما عدا ما عارض الشرع منها ،لأن معرفة الحق مطلب كل
عاقل، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
وهو ينكر على من يرد عليهم بمجرد
كونهم فلاسفة، ويشبه ذلك بالذي يسمع من النصراني قول :( لا إله إلا الله عيسى رسول
الله)، فينكره،ويقول: هذا كلام نصراني ،ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر
باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكار نبوة محمد r .
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثاني
.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثالث من قسم (الخبرة) .. وقد كتب على بابه
قوله تعالى :﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في بداية الدخول
إلى كل فرع، وبعد أن هنأنا بتخرجنا من الفرع السابق، قال: مرحبا بكم في القسم الثالث من أقسام الخبرة ..
إنه القسم الذي ترثون به سنة البراهين من إرث الحوار النبوي.
قال بعض رفاقي: عهدنا بالبراهين تدرس
في العلوم العقلية، لا في العلوم النقلية .. فكيف تعتبر البراهين العقلية إرثا من
إرث النبوة؟
قال: لأنه لم يكتمل تطبيق البراهين
العقلية لأحد من الناس كما اكتمل للنبي r، ولإخوانه من الأنبياء الكرام ..
قلت: نحن نعرف أن أرسطو هو واضع
البراهين العقلية .. فكيف تنسب ذلك للأنبياء؟
قال: ألا تعرف الخليل بن أحمد؟
قلت: وكيف لا أعرفه؟ .. إنه واضع علم
العروض، فهو مكتشف أوزان البحور الشعرية المعروفة وواضع تفعيلاتها.
قال: أمعلقته أجمل، أم معلقة زهير بن
أبي سلمي؟
ضحكت، وقلت: ما بالك؟ .. لا شك أن
بضاعتك مزجاة في الشعر .. كيف تقارن بين رجل باحث لا علاقة له بالشعر بأولئك
الفحول الكبار من الشعراء؟
قال: فعلم من ذكرت من الفحول بالعروض
أكبر أم علم الخليل؟
قلت: بل علم الخليل .. فلم يكن في
الجاهلية من يعرف بحور الشعر.
قال: وهكذا البراهين العقلية .. فرق
كبير بين أن تعرف المقدمات والمقاييس وبين أن تطبقها .. نعم ربما يكون أرسطو أعلم
بمصطلحات المنطق .. لكن التطبيق المثالي للمنطق لم يتحقق بكماله لغير الأنبياء
وورثة الأنبياء.
قلت: ألست تحجر واسعا؟
قال: لا .. لم أحجر واسعا .. إن
الأحكام العقلية تقتضي عقلا سليما لا تؤثر فيه أي شهوة أو شبهة .. فلا يمكن أن
يكون الاستنتاج العقلي سليما، وهو محاط بأكوام الشهوات والشبهات.
قلت: أكوام الشبهات والشهوات !؟
قال: أجل .. ونحن في هذا الفرع من
هذا القسم نبحث في هذه الأكوام لنطهر العقل منها، فلا يمكن للعقل الملطخ بذلك
الدنس أن يصدر منه إلا الدنس.
قلت: اضرب لي أمثلة عنها ..
قال: منها الكبر الذي تمتلئ به تلك
العقول عن سماع غيرها .. لقد ذكر بعض هؤلاء، فقال :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ((البقرة:171)
.. إن في هذه الآية تشبيها بليغا للمؤمن الذي قد يكون محدود الثقافة، ومع ذلك يخاطب
الكفار الذين قد يكون منهم العلماء والباحثون وأهل الفكر فلا يسمعون منه إلا صوته،
ولا يفهمون ما يقول، أو قد يضحكون مما يقول، فهم كالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل
فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفهم ما يقول، لأن موجات الحديث مختلفة، وطريقة
التفكير مختلفة، وبعد النظر متفاوت.
قال بعض رفاقي: صدقت .. فكثيرا ما
نرى عقلا رياضيا جبارا يحل أعقد المعضلات الرياضية، أو عقل اقتصادي يحل أفتك أزمات
مجاعة، أو عقل فيلسوف يقسم الشعرة بذكائه، ولكنه إذا ما حدث عن أبسط القضايا
الإيمانية صعر خده ولوى عنقه، وقال: هذه قضايا هامشية، أو مسائل غير مطروحة، ويرضي
ـ بعد ذلك ـ بأن يموت على إلحاد أو على إيمان لا وجود لأي أثر له في حياته.
قال: لقد شبه الله أمثال هؤلاء
بالأنعام تشبيها صريحا في القرآن وفي مواضع كثيرة، بل يزيد في تفضيل الأنعام
عليهم، قال تعالى :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ((المائدة:22)،
وقال :﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا((الفرقان:44)
قلت: صدق الله العظيم .. إن هؤلاء الذين
يتيهون بمعارفهم وصنائعهم الدنيوية البسيطة يوجد ما يماثلها في الحيوانات التي لم
تدرس في الجامعات، ولم تقرأ الكتب، ولم تتلق أي تدريبات، فإن أي عنكبوت يتحدى أبرع
مهندس، وأي نملة تتحدى وزارة تموين، وأي نحلة تفوز على جميع خبراء التغذية، بل أي
نبات يفقه أسرار الجو كما لا يفقهه خبراء الإرصاد فيلبس لكل مناخ لبوسه.
قال بعض رفاقي: فهل هناك غير الكبر
من حجب العقل؟
قال: كل ما درستموه في القسم الأول
هو حجب من حجب العقل .. فالعقل الذي امتلأ صاحبه بالحسد والحقد لن يفكر إلا فيما
يرضي سموم الحسد والحقد التي تمتلئ بها نفسه.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:109) .. لقد ذكر الله تعالى في
هذه الآية الكريمة أن الحسد هو الذي حال بين هؤلاء وبين التسليم للحق ..
قلت: ولكن مع ذلك .. فإن المقاييس
العقلية يمكنها أن تطهر العقل من ران هذه الأكوام..
قال: ذلك صحيح .. إذا استطاع صاحب
العقل أن يعمل عقله .. ويلغي ما تطلبه نفسه من نوازع الشر.
قلت: أي منطق تعتمدون في هذه المدرسة
.. فإن للمنطق مدارس مختلفة.
قال: هو باختلاف مدارسه يؤول إلى شيء
واحد .. ونحن نعتمد كل ما ورد في ذلك .. لقد كان المنطق السائد في عهد جدي أبي
حامد هو ما وضعه الفلاسفة في كتبهم .. وقد استخدمه جدي ـ بحمد الله ـ خير استخدام
.. لقد قال فيه :( ولكن المنطق ليس مخصوصا بهم [أي بالفلاسفة ]،وإنما هو الأصل
الذي نسميه في فن الكلام (كتاب النظر)، وقد نسميه (كتاب الجدل)، وقد نسميه (مدارك العقول)؛ فإذا سمع المتكايس المستضعف
اسم (المنطق) ظن أنه فن غريب لا يعرفه
المتكلمون ، ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة)
بل إن الغزالي ألف في المنطق مجموعة
كتب، وأدخل المنطق كتمهيدات لبعض العلوم كعلم الأصول، فقد كان يقدم له قبل
الغزالي بمقدمات كلامية كتأسيس فكري لقضايا أصول الفقه وربطها بأصول الدين ،فرأى
الغزالي أن الأولى ربطها بالمنطق لحاجة علم الأصول لقضايا المنطق، قال عن مقدمة
المستصفى : (وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل
هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها،فلا ثقة بعلومه أصلا)
قلت: فأنتم تعتمدون هنا على المنطق
اليوناني ..
قال: بل نعتمد المنطق القرآني .. لقد
كان أهم كتاب ألفه جدي في المنطق، وأشار إليه كثيرا معتبرا إياه الميزان الذي ينفي
الخلاف عن الخلق هو (القسطاس المستقيم) الذي وضعه في الأصل ردا على التعليمية،
يقول عنه في (المنقذ من الضلال) الذي ألفه في المرحلة الأخيرة من حياته:( أقول
:قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة وما وراء ذلك من التفصيل والتنازع فيه
يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم، وهي الموازين التي ذكرها الله تعالى في
كتابه، وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقيم)
قال أحد رفاقي: فما تلك الموازين؟
قال: هي موازين تجمع بين المنطق الذي
يعرفه أهل الفلسفة، وبين النصوص القرآنية .. وهي بذلك تجمع بين النقل والعقل ..
لقد ذكر الغزالي غايته من ذلك، فقال :( لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان، ثم يخالف
فيه أهل التعليم لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه ، ولا يخالف فيه أهل المنطق
، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له، ولا يخالف فيه المتكلم، لأنه
موافق لما يذكره في أدلة النظريات، وبه يعرف الحق في الكلاميات)
قلت: لقد شوقتنا إلى هذه الموازين ..
فما هي؟
قال: هي ثلاثة موازين: ميزان التعادل
.. وميزان التلازم .. وميزان التعاند.
قلت: فما ميزان التعادل؟
قال: له ثلاثة أشكل[19] ..
أما أولهما، فالميزان الأكبر ..
وومثاله قوله تعالى على لسان إبراهيم u
:﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ )(البقرة: من الآية258)، وصياغة هذا الميزان هي: كل من يقدر على
إطلاع الشمس فهو الإله، فهذا أصل؛ وإلهي هو القادر على الإطلاع، وهذا أصل آخر؛
فلزم من مجموعهما بالضرورة أن إلهي هو الإله، ويمكن صياغته رمزيا هكذا : أ هي ب،
وب هي ج ،إذن :أ هي ج.
وأما الثاني، فالميزان الأوسط ..
ومثاله قوله تعالى عن إبراهيم u :﴿ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)(الأنعام: من الآية76)، وصياغة
هذا الميزان هي : أن القمر آفل، والإله ليس بآفل؛ فالقمر ليس بإله .. ويمكن
صياغته رمزيا هكذا :أ هي ب، وج ليست ب ،إذن : أ ليست ج.
قلت: فما الفرق بين هذا الميزان
والميزان الأكبر؟
قال: الفرق بينهما واضح .. فالصفة في
الميزان الأكبر عامة تشمل جزئيات الموصوف كلها، بخلاف ما هي عليه في الميزان
الأوسط حيث تنحصر في شيئين متباينين كل التباين بحيث ينفي عن أحدهما ما يثبت
للآخر.
قلت: فما الشكل الثالث من أشكل ميزان
التعادل؟
قال: الميزان الأصغر .. ومثاله من
القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ
قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ت)(الأنعام: من
الآية91)، ووجه الوزن بهذا الميزان هو أن موسى
u بشر، وقد أنزل عليه الكتاب، إذن بعض البشر أنزل عليهم الكتاب ..
وصياغته الرمزية هي: ب هي أ، وب هي ج، إذن بعض أهي ج.
والفرق بين هذا الميزان وما قبله أته
يستخدم في التخصيص والتمييز بين الصفات الذاتية التي تشترك فيها عموم جزئيات
الجنس والصفات العرضية التي لا يشترك فيها إلا قسم من هذه الجزئيات.
قلت: فما الميزان الثاني؟
قال: ميزان التلازم[20] .. وهو ـ كما عرفه الغزالي ـ أن كل ما هو لازم للشيء تابع له في
كل حال، فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم، ووجود الملزوم يوجب بالضرورة
وجود اللازم، أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهما.
وقد ضرب له مثالا بقوله تعالى :﴿
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )(الانبياء: من الآية22)،
وصياغة هذا الميزان هي أنه لو كان في السموات والأرض إلهان لفسدتا، فهذا أصل،
ومعلوم أنهما لم تفسدا، وهذا أصل آخر؛ فيلزم منهما ضرورة نفي الإلهين، وإثبات
الإله الواحد.
قلت: فما الميزان الثالث؟
قال: ميزان التعاند .. وهو ـ كما
يعرفه الغزالي ـ بأن (كل ما انحصر في قسمين، فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر، ومن
نفي أحدهما ثبوت الآخر بشرط أن تكون القسمة منحصرة، لا منتشرة)[21]
وقد ضرب له مثالا من القرآن الكريم
بقوله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)
(سـبأ:24)، ووجه الاستدلال به هو: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين،
ومعلوم أننا لسنا في ضلال، والنتيجة هي: أنتم ضالون)
قال بعض رفاقي: إن ما ذكرته من
الموازين العقلية هي نفس المقاييس المنطقية ..
قال: لقد ذكرت لكم ذلك .. والغزالي
يقر بذلك ،ولا يرى بأسا به، يقول في (القسطاس المستقيم) بعدما سأله رفيق التعليم
عن تلك الموازين :( أما هذه الأسامي فأنا ابتدعتها، وما عندي أني سبقت إلى
استخراجها من القرآن؛ وأما أصل الموازين فقد سبقت إلى استخراجها، ولها عند
مستخرجيها من المتأخرين أسام سوى ما ذكرتها، وعند بعض الأمم الخالية السابقة على
بعثة محمد وعيسى ـ صلوات الله عليهما ـ أسام أخر كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم
وموسى ـ عليهما السلام ـ)
قلت: فهل سندرس في هذا الفرع هذه
الموازين؟
قال: في هذا الفرع ستتدربون على هذه
الموازين وغيرها.. فلا يمكن للمحاور أن يحاور وعقله لا يعرف كيف يزن، وكيف يتثبت
مما يزن.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثالث
.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الرابع والأخير من قسم (الخبرة) .. وقد كتب على
بابه قوله تعالى :﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(البقرة: من الآية189)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في
بداية الدخول إلى كل فرع، وقد كان أول ما سألته هو عن سر وضع آية الأهلة في مدخل
الفرع، فقال: هذه الآية تشير إلى العلم الذي ستدرسونه في هذا الفرع.
قلت: أي علم؟
قال: علم التسيير.
قلت: عهدي بالتسيير يدرس في الاقتصاد
والسياسة.
قال: ونحن نستثمر التسيير في
الاقتصاد والسياسة لنحفظ به الحوار من أن يتحول إلى جدل.. أو نحفظ به الجدل من أن
يتحول إلى الجدال بالتي هي أسوأ، لأنا أمرنا أن لا نجادل إلا بالتي هي أحسن.
قلت: فما علاقة الآية بذلك؟
قال: لقد ورد في سبب نزولها عن ابن عباس
ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمة ، وهما رجلان من
الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد
حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال
واحد؟ فنزلت[22].
قلت: أعرف سبب نزول الآية .. وأنا لم
أسأل عن ذلك ، وإنما أسأل عن الحكمة من وضع هذه الآية في هذا المحل.
قال: إن الله تعالى في هذا الجواب
يعلمنا كيف نجيب، وكيف نحاور .. لقد سأل هؤلاء عن مسألة ترتبط بعلم الفلك، وهي فوق
ذلك ترتبط بعلوم لا قبل لهم بها في ذلك الحين .. فصرفوا عنها صرفا حسنا إلى ما
ينفعهم.
قلت: إن ذلك يشبه ما ورد في الحديث
من أن أعرابياً قال لرسول الله r : متى الساعة يا رسول الله؟ فقال r :( ما أعددتَ لها؟)، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة، ولا صوم،
ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: (أنت مع من أحببت)[23]
قال: أحسنت
بذكر هذا المثال، فرسول الله r صرف السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه.. دون أن يشعر
السائل .. فلو
قال له رسول الله r :( لا أعلم متى يوم القيامة)، فربما يقع في نفس الأعرابي ما يقع،
لقرب عهده بالجاهلية، أو لجهله .. بالإضافة إلى أن ذلك لا يفيده
أي فائدة جديدة .. ولهذا كان من حكمة رسول الله r
صرفه عن سؤاله الذي لا ينفعه جوابه، إلى جواب ينفعه
في دينه وآخرته، وينفع الأمة من بعده، فقال له r: (وما أعددتَ
لها؟)، فانصرف الأعرابي عن سؤاله .. وانشغل بما ينفعه عما لا ينفعه.
قلت: لقد
أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى مخبرا عن الحوار الذي جرى بين موسى
u وفرعون، كما قال :﴿ فَأْتِيَا
فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ
مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا
وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي
حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)﴾ (الشعراء)
قال: في هذه المحاورة فوائد جليلة،
ونكت بديعة، ونحن نستثمرها هنا خير استثمار ..
فمنها أن موسى u بدأ محاورته بالبيان، وأنه وأخاه رسولا رب العالمين .. وهذا توجيه
للحوار، وتحكم في موضوعه حتى لا يصرفه فرعون إلى أي موضوع آخر ..
ومنها عدم انسياق موسى u
وراء ما يثيره فرعون، مما ليس هو محل المحاروة، فقد اعترض عليهما فرعون بقوله :﴿
أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾
(الشعراء:18) إشغالاً لهما عن نقطة البحث، وهي إثبات الربوبية لله.
ثم ذكّره بقتل الرجل .. :﴿
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾
(الشعراء:19)
فتنبه موسى u إلى ما يريده فرعون من صرف الحوار عن موضوعه الحقيقي، فبادره
بالاعتراف، حتى لا يضيع الوقت في ذلك، فالوقت ثمين، والموقف لا يسمح بضياع شيء
منه، ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ ﴾
(الشعراء:20)
فقطع موسى u بذلك الطريق على فرعون، كي لا يخرج عن الموضوع، وحتى لا يحول
المحاورة إلى قضايا شخصية.
ثم رد على شبهته في مسألة تربيته
باختصار رابطا لها بالموضوع الذي جاء من أجله، والذي هو تحرير بني إسرائيل :﴿
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾
(الشعراء:22)، أي: هل تعادل نعمة تربيتك لي، بالإساءات والأذيات لبني إسرائيل، أوَ
تريد أن تستر ظلمك، وتعبيدك بني إسرائيل، بتربيتك لي، وبعبارة أخرى: أتذكر وتمن
علي بتربيتك لي، وتتناسى ظلمك واستعبادك لبني إسرائيل.
فلما فشل فرعون في إشغال موسى u
والحضور بإثارة الماضي، لجأ إلى الاتهام المباشر، وحاول السخرية من موسى واتهامه
بالجنون، فلم يعبأ موسى u بمثل هذه الاتهامات، لأن فرعون أُسقط في يديه، فلا حاجة بعد ذلك
للرد على الأمور الشخصية، فالقضية أكبر، والوقت أثمن.
لقد استمر موسى u
في بيانه، وفي عرض أدلته .. فلما استهزأ فرعون به قائلاً :﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الشعراء:23) كان جواب
موسى :﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ ﴾ (الشعراء: 24)
ولما قال فرعون للملأ حوله :﴿
أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴾ (الشعراء:25) ، قال موسى u ردا عليه :﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾
(الشعراء: 26)
ولما اتهمه فرعون بتهمة الجنون،
أجابه موسى u في غير مبالاة بما يمس شخصه :﴿ رَبّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (الشعراء:28)
وهكذا لم يلتفت موسى u
لكل ما يرتبط بشخصه، بل بقي مصرا على الموضوع الذي جاء من أجله إلى آخر لحظة.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في
القسم الثاني بفروعه الأربع، أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثالث، وهو
قسم (الأدب) .. لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى :﴿ وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من
الآية46)، وقوله تعالى :﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل:
من الآية125)
وقد رأينا في ذلك القسم الذي يشبه
المسجد حلقات كثيرة، أمامها مصنفات قديمة، سألنا الغزالي الذي كان في استقبالنا عن
هذه الحلقات، فقال: هؤلاء أساتذة جاءوا من أصقاع الأرض يتدارسون ما ورد في السنة
والسيرة المطهرة من آداب الحوار[24] ..
قلت: لم يفعلون ذلك؟
قال: هم يعلمون أن الكمال مرتبط
بسلوك رسول الله r ، فلا يصدر عن الإنسان الكامل إلا الكمال .. فلذلك راحوا يبحثون
في هديه عن آداب الحوار ..
قلت: أهذه الآداب سنن وفضائل .. أم
مباحات وجائزات .. أم واجبات وفرائض؟
قال: السائر على قدم رسول الله r
لا يفرق في هذا بين واجب ومستحب ومباح..
فمحمد r هو رمز الكمال، وهو الذي أدبه ربه،
فأحسن تأديبه .. وما على من يريد الكمال إلا أن يسير على هديه من غير أن يتيه في
الجدل أو يغرق في أوحال التكلف والفضول.
قلت: فكيف
نتعلم في هذه الحلقات الكثيرة؟
قال: طوفوا
عليها كما يطوف النحل على الأزهار .. ففي كل زهرة من الرحيق ما ليس في غيرها.
كانت أول حلقة
بدأت بها جلس فيها قوم من البدو .. يبدو أنهم قدموا من جزيرة العرب.. فقد كانوا
يرتدون ما يرتديه أهل تلك المناطق من ثياب ..
قرأ قارئهم من
الكتاب الضخم الذي كان بين يديه ما حدث به ابن عباس ـ رضي
الله عنه ـ قال: لما نزلت :﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
(الشعراء:214) صعد النبي r على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى
اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب
وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم
مصدقيّ ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا
صدقا، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم،
ألهذا جمعتنا؟!.. فنزلت :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد:1)[25]
بعد أن أنهى المحدث حديثه التفت إلى
المحيطين به، وقال: ما الذي يمكن استثماره من هذا الحديث من الهدي النبوي في
الحوار؟
قال أحدهم: الجهر بالحوار .. أحيانا
لا بد من الجهر بالحوار لينتفع به الجميع، ولهذا ترون النبي r لم يبدأ حديثه حتى اجتمعت الجموع حوله.
قال آخر: اختيار المكان والزمان
المناسبين .. فالنبي r اختار مكانا عاليا متوسطا يعرفه كل الناس، وهو جبل الصفا.
قال آخر: حسن الاستهلال .. ففي
الحديث إشارة مهمة إلى أهميته في بدء الحوار .. وذلك لشد انتباه السامعين.
قال آخر: في قوله r
:( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟) إلزام
للمحاور .. حيث مهّد r لخطابه معهم بجعلهم يُقرّون له بالصدق والأمانة، مما يلزمهم
التصديق بما يقول خاصة في قوله على الله تعالى ، فما كان ليترك الكذب على الناس ثم
يكذب على الله تعالى.
قال آخر: في الحديث نرى ـ أيضا ـ ما
كان عليه r من الصبر على رد الطرف المخالف، ولو أساء الأدب .. فالنبي r
لم يرد على أبي لهب إساءته، إنما تولى الله تعالى الرد، وذلك ليكون عبرة لمن
يعتبر.
فالمطلوب منا هو التحمل والصبر، ولا
نغضب لأنفسنا، لعل الطرف الآخر يرعوي أو يشعر بسوء تصرفه فيندم ويكون سبا في تراجعه
عن مذهبه السيىء، كما قال تعالى :﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)
انتقلت إلى حلقة أخرى .. سمعت القارئ
فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق من أن عتبة بن ربيعة ـ وكان سيدا ـ قال يوما ـ وهو
جالـس في نادي قريـش ورسول الله r جالس في المسجد وحده ـ : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه
وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنّا؟ ـ وذلك حين أسلم
حمزة ورأوا أصحاب رسول الله r يزيدون ويكثرون ـ فقالوا: يا أبا الوليد قُم إليه فكلمه، فقام
إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله r فقال له: (يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة
والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم
وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها
بعضها)
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد
بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت
َ تريد به شرفا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن
نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه...
حتى إذا فرغ عتبة، ورسـول الله r
يستمع منه، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد؟
قال: نعم، قال : فاسمع مني ؟ قال: أفعل، فقرأ رسول الله r :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ (4) ﴾ (فصلت)، ثم مضى رسول الله r فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف
ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله r إلى السجدة منها فسجد ثم قال: ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت،
فأنت وذاك)
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم
لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم
قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله
قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها
بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه
نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم،
وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال :
هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم .
وفي روايات أخرى : أن عتبة استمع حتى
إذا بلغ الرسول r قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ (فصلت:13) قال : حسبك،
حسبك، ووضع يده على فم رسول الله r ، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى
القوم فقال ما قال .
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال:
ما ترون في هذا الحديث من آداب الحوار
وسننه؟
قال أحدهم: الإنصات .. بل الإنصات
الكامل حتى يفرغ الطرف الآخر دون مقاطعة، بل إتاحة المجال له إن أمكن لإضافة ما
يريده إن كان غفل عن شيء أو نسيه، كما قال r:( أقد فرغت يا أبا الوليد )، وهذا غاية في الإنصاف ونهاية في
الذوق الرفيع .. فالنبي r استمع لوجهة نظر الخصم بصدر رحب، مع أنها وجهة نظر مرفوضة، وذلك
لضمان استماع الطرف الآخر لوجهة نظره.
قال آخر: عدم إظهار الاشمئزاز من
الطرف الآخر مهما بلغت به الخصومة .. فالنبي r لم يعنف عتبة، ولم يسخر منه .. وحاشاه من كل ذلك.
قال آخر: بل فوق ذلك نرى النبي r
أعطى الطرف الآخر حقه من الاحترام اللائق به في المخاطبة، والكلام معه بأدب وتقدير
، ويظهر ذلك من مخاطبة الرسول r لعتبة بكنيته :﴿ أفرغت يا أبا الوليد)
قال آخر: مما يتجلى في الحديث من
هديه r في الحوار أهمية الاستعانة بالقرآن الكريم وما
فيه من مواعظ، خاصة إذا كان الطرف الآخر ممن يفهم ذلك ويُحسن تدبره، وقد اختار
النبي الكريم r آيات من أول سورة فصلت تناولت موقف المشركين من الإسلام وتعرضت
لعقيدة التوحيد وقدرة الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم
الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .
وقد كان لهذه الآيات وقع شديد على
نفس عتبة بن الوليد حيث أثرت فيه تأثيرا شديدا، حتى جاء قومه وقال :﴿ سمعت
قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر
قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله
ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم)
انتقلت إلى حلقة أخرى .. سمعت القارئ
فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: اجتمع
عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، أخو بني عبد
الدار، وأبو البَختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود ...
قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظَهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد
فكلموه وخاصموه حتى تُعذِروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشارف قومك قد اجتمعوا لك
ليكلموك، فأتهم فجاءهم رسول الله r ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا
يحب رُشدهم ويَعزّ عليه عنَتَهُم ، حتى جلس إليهم، فقالوا له : يا محمد إنا بعثنا
إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على
قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة،
فما بقي أمر قبيح قد جِئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا له ـ فإن كنت إنما جئت
بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما
تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن
كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يُسمون التابع من الجن رِئيا
ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نُبرئك منه، أو نُعذر فيك.
فقال لهم رسول الله r
: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك
عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا
ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في
الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ـ أو كما قال رسول الله r ـ
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه
عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشا منا، فسلْ لنا ربك الذي بعثك بما بعثك
به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، ليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا
فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن لنا منهم
قُصي بن كلاب، فإنه كان شيخَ صِدْق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك
وصنعت ما سألنا صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله r
: ما بهذا بُعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به
إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخـرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله
تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم .
قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخُذ
لنفسك، سلْ ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك
جِنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يُغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق
كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا
كما تزعم .
فقال لهم رسول الله r
: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله
بعثني بشيرا ونذيرا ـ أو كما قال ـ فإن تقبلوا ما جئت به فهو حظكم في الدنيا
والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم .
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما
زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال رسول الله r:
ذلك إلى الله ، إن يفعله بكم فعل.
قالوا : يا محمد، أفما علم ربك أنا
سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما
تُراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد
بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نتركك وما
بلغت منا حتى نُهلكك أو تُهلكنا؟
فلما قالوا ذلك لرسول الله r
قام عنهم.
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال:
هذا هو نص هذه الرواية .. فالتمسوا منها بدائع الأدب، وغرائب الحكمة .. فلا أدب
أرفع من أدب رسول الله r ، ولا حكمة أحكم من حكمته.
قال أحدهم: من الملاحظات المهمة
المرتبطة بهذا الحديث أن قريشا هي التي طلبت إجراء الحوار، فبادر رسول الله r
إلى إجابتها على الرغم مما كانوا عليه من العناد والمكابرة .. وهذا يدل على أن
الواجب يحتم على الدعاة وأهل العلم اقتناص كل فرصة فيها حوار، لعلها تكون مفتاحا
لهداية الآخرين ، ولأن ذلك فرصة ثمينة لعرض ما عندنا من الحق والخير واستماع وجهة
نظر الآخر لمعرفة طريقة تفكيرهم وما هي بواعثهم وأهدافهم.
قال آخر: ومن الملاحظات المهمة ـ
كذلك ـ أن الرسول الكريم r قد استمع لمطالبهم حتى انتهوا من ذلك دون أن يقاطعهم ، وهذا يذكرنا بأهم أدب من آداب الحوار، وهو حسن
الاصغاء للآخر حتى ينتهي ، لأن المقاطعة توغر الصدور وتشتت الأفكار، وتُعكّر
الحوار.
قال آخر: ومنها أن الرسول r
لم يتعرض لهم في هذا الحوار بتسخيف أو تعنيف أو شتم، مع أنهم تفننوا في تقبيح ما
جاء به والتشنيع عليه في ذلك ، حتى أنهم لم يستبعدوا كونه مريضا أو أنه يتلقى
تعليمه من شخص آخر، ونحو ذلك مما يسيء له .. وذلك لأن الحرص على هداية الناس
وإقناعهم بالحق يحتاج جواً من المودة والتسامح وإبداء التغاضي دون أي تشنج.
قال آخر: ومنها أن الرسـول r
بادر بإيضاح موقفه عندما قال لهم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب
أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا ..)، وهذا
الجواب الصريح ضروري ليقطع عليهم وساوسهم وأمنياتهم بتخذيله ومحاولة ثنيه عن هدفه،
فالجواب الحازم فيما يتعلق بالمبادىء والثوابت أمر في غاية الأهمية، وذلك لإدراك
الرسول r أن الطرف الآخر عندما يشتد عليه الضغط ويخشى من عواقب ظهور أصحاب
الحق يلجا إلى العروض المغرية من منصب أو جاه أو مال.
قال آخر: ومنها أهمية إظهار الصبر
قولا وعملا، لأن الصبر دليل على الإيمان العميق بالفكرة ، وبرهان على الصدق في
المضي بها إلى آخر المطاف مهما كانت النتائج، ولهذا كان في جوابه r
:( فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني
وبينكم ..)، وإظهار الصبر أحد عوامل اقتناع الطرف الآخر بصدق المحاور وأنه صاحب
هدف نبيل يضحي من أجله .
قال آخر: ومنها عدم انسياق المحاور
وراء رغبات وتعجيزات الطرف الآخر، لأن الدعوات إنما تقوم على العقيدة التي قامت البراهين
على صدقها، ثم إن طلبات التعجيز لا تنتهي لأن الهدف منها إضاعة الوقت أو جر
الداعية إلى سلسلة من الطلبات غير الواقعية.
قال القارئ: لقد ذكر المؤرخون ما
أنزله الله تعالى على نبيه r جوابا على ما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض
وبعث من مضى من آبائهم من الموتى .. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً
مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ) (الرعد:31)، أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
ومنها قوله تعالى :﴿ وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (الفرقان:20)، أي جعلت بعضكم
لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يُخالفوا لفعلت.
ومنها قوله تعالى :﴿
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا
(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ
خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ
لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)﴾ (الإسراء)
وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا
عليه من أموالهم :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سـبأ:47)
انتقلت إلى حلقة أخرى، فسمعت القارئ
يقرأ فيها ما حدث به ابن إسحق عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من أن أشراف قريش مشوا
إلى أبي طالب عندما علموا بأنه على فراش الموت ، فقالوا له: يا أبا طالب ، إنك منا
حيث قد علمت ، وقد حضرك ما ترى ، وتخوفنا عليك ، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن
أخيك ، فادعه فخذ له منا ، وخذ لنا منه ، ليكف عنا، ونكف عنه ، وليدعنا وديننا
وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا
ابن أخي .. هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك.
فقال رسول الله r
: نعم ، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر
كلمات.
قال : تقولون لا إله إلا الله،
وتخلعون ما تعبدون من دونه .
فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا : أتريد يا
محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا ، إن أمرك لعجب!
ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا
الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا عل دين آبائكم حتى يحكم الله
بينكم وبينه ، قال : ثم تفرقوا .
فقال أبو طالب لرسول الله r
: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا.
التفت القارئ إلى الجمع، وقال: ما
ترون في هذا الحديث؟
قال أحدهم: لقد حدد رسول الله r
طلبه بدقة، فلا يحق لمن دخل في حوار أن يكون جاهلا بمطالبه، ولا مطالب خصمه.
قال آخر: انظروا كيف لم يتأثر رسول
الله r بذلك الاستهزاء الذي أبدوه عندما صفقوا.
تركتهم يستنبطون من الحديث وجوه
الآداب والحكمة، وانتقلت إلى حلقة أخرى كان قارئها يروي ما حدث به ابن إسحق عن
حوار رسول الله r مع نفر من الخزرج، قال: لما لقيهم رسول الله r
قال لهم: من أنتم ؟
قالوا: نفر من الخزرج
قال: أمن موالي اليهود؟
قالوا: نعم.
قال :أفلا تجلسون أكلمكم ؟
قالوا : بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل،
وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام،
أن يهودا كانوا معهم في بلادهم... فلما كلم رسول الله r أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون
والله إنه للنبي الذي توعدَكم به يهود، فلا تسبقَنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم
إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام[26].
التفت القارئ إلى الجالسين، وقال: ما
تقولون في هذا الحوار؟
قال أحدهم: أرى أن رسول الله r
استفاد في هذا الحوار من المناخ النفسي والظروف المحيطة بالطرف الآخر، فالطرف
الآخر هنا ـ وهم الخزرج من أهل المدينة ـ يجاورهم اليهود وهم أهل كتاب، فلم يكن غريبا
على أذهانهم الحديث عن الله تعالى وكتبه ورسله فيما يسمعونه دائما من اليهود،
وكانوا مهيئين نفسيا لسماع حديث الإسلام، فقد كانوا يحسون دائما بالحسرة أمام
اليهود، فهم أميون ليس عندهم رصيد يواجهون به اليهود الذين يشعرون بتفوقهم العلمي
وأفضليتهم على غيرهم، لأنهم أهل كتاب، ثم إن الحديث عن النبي المرسل كان يملأ جو
يثرب، بل يهددهم اليهود به، فما إن تناهى إلى سمع الخزرج حديث الرسول r حتى قالوا : (والله إنه للنبي الذي توعدَكم يهود فلا يسبقُنكم
إليه)
قال آخر: وأرى كذلك ذلك الثبات
والهدوء الذي كان عليه رسول الله r وهو يخاطبهم .. إن ذلك السمت وحده كاف للتأثير
في القلوب والعقول.
تركتهم، وانصرفت إلى حلقة أخرى سمعت
قارئها يقرأ حواره r مع عمير بن وهب الجُمحي .. فقد حدث أن عمير بن وهب ـ وهو مشرك،
قبل إسلامه ـ قدم المدينة يقصد قتل النبي r وقد كان ابنه وهب بن عمير أسيرا بأيدي المسلمين على إثر غزوة بدر.
وعندما جاء يستأذن رسول الله r
دخل عمر على رسول الله r وقال: يا نبي الله هذا عدو الله عُمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه،
قال : فأدخله عليّ.
فأقبل عمر حتى أخذ بحِمالة سيفه في عنقه
فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله r
فاجلسوا عنده واحذروا من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله r
، فلما رآه رسول الله وعمرُ آخذٌ بحِمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر ، أدنُ
يا عُمير ؛ فدنا ثم قال :أنعِموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم .
فقال رسول الله r
: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عُمير، بالسلام تحية أهل الجنة.
فقال: أما والله يا محمد إن كنتُ بها
لحديث عهد.
قال : فما جاء بك يا عُمير؟
قال : جئت لهذا الأسير الذي في
أيديكم فأحسنوا فيه.
قال : فما بال السيف في عنقك؟
قال : قبّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئا !
قال : اصدقني ، ما الذي جئت له؟
قال : ما جئت إلا لذلك .
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في
الحِجر فذكرتما أصحاب القَليب من قريش، ثم قلتَ:لولا دَيْن عليّ وعيال عندي لخرجت
حتى أقتل محمدا ، فتحمّل صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له ، والله حائل بينك
وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد
كنّا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي،
وهذا أمرلم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك بـه إلا الله، فالحمد
لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق.
ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله r
:( فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره)، ففعلوا.
فلما قدم عُمير مكة أقام بها يدعو
إلى الإسلام ، ويُؤذي من خالفه أذى شديدا ،فأسلم علي يديه ناس كثير[27].
التفت القارئ إلى السامعين، وقال: ما
تقولون في هذا الحديث، فـ (رب مبلغ أوعى من سامع)[28]
قال أحدهم: انظروا كيف انقلب ذلك
المشرك في خلال لحظات إلى مؤمن يدعو للإسلام بعد أن تأثر بما سمعه في حواره مع
الرسول r، وبعد أن أيقن أن من جاء لقتله لا يريد به إلا الخير، وبعد أن علم
أنه نبي، وهذا يدل على أن كثيرا من أهل الضلال إنما ينقصهم أن تقوم الحجة عليهم،
وأنهم على استعداد للإيمان لكن بعد أن يسمعوا ويروا ما هو جدير بأن يأخذ بأيديهم
نحو الحق.
قال آخر: إن مقابلة الآخر ـ ولو كان
مضمرا للشر ـ باللطف، ثم الحوار العقلاني يفعل الشيء الكثير، وهو ما نتعلمه من
سيرة سيد المعلمين وقدوة التربويين رسول الله r .
تركتهم، وانصرفت إلى حلقة أخرى كان
قارئها يقرأ ما جرى يوم الحديبية من مفاوضات وحوار .. قال: لما اطمأن رسول الله r
بالحديبية: جاءه بديل بن ورقاء ـ واسلم بعد ذلك ـ في رجال من
خزاعة، منهم: عمرو بن سالم، وخراش بن أمية وخارجة بن كرز، ويزيد بن أمية وكانوا
عيبة نصح لرسول الله r بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عنه بتهامة شيئا.
فلما قدموا على رسول الله r
سلموا، فقال بديل بن ورقاء: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قد
استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، قد نزلوا عند مياه الحديبية، معهم العوذ
المطافيل والنساء والصبيان، يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد
خضراؤهم، فقال رسول الله r :( انا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا
عنه قاتلناه، إن قريشا قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم فإن شاءوا ماددتهم مدة يأمنون
فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، ـ والناس أكثر منهم ـ فإن اصابوني فذلك الذي
أرادوا وإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يقاتلوا
وقد جمو، وان هم أبو فوالله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله
تعالى أمره)
فوعى بديل مقالة رسول الله r،
وقال: سأبلغهم ما تقول، وعاد وركبه الى قريش، فقال ناس منهم: هذا بديل وأصحابه،
وإنما يريدون أن يستخبروكم فلا تسألوهم عن حرف واحد، فلما رأى بديل أنهم لا
يستخبرونه قال: إنا جئنا من عند محمد، أتحبون أن نخبركم عنه ؟ فقال عكرمة بن ابي
جهل، والحكم بن العاص ـ وأسلما بعد ذلك ـ: ما لنا حاجة بأن تخبرونا عنه، ولكن
أخبروه عنا انه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدا حتى لا يبقى منا رجل، فأشار عليهم
عروة بن مسعود الثقفي ـ وأسلم بعد ذلك ـ بأن يسمعوا كلام بديل فان اعجبهم قبلوه
والا تركوه، فقال صفوان ابن امية والحارث بن هشام ـ وأسلما بعد ذلك ـاخبرونا بالذي
رأيتم وسمعتم، فقال بديل لهم: انكم تعجلون على محمد r إنه لم يات لقتال إنما جاء معتمرا وأخبرهم بمقالة النبي r
فقال عروة: يا معشر قريش اتتهمونني ؟ قالوا: لا.
قال: ألستم بالوالد ! قالوا: بلى.
قال: ألست بالولد ؟ قالوا: بلى، وكان
عروة لسبيعة بنت عبد شمس القرشية.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل
عكاظ لنصركم فلما تبلحوا على نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا: قد فعلت،
ما أنت عندنا بمتهم.
قال: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، لا
ادخر عنكم نصحا، فإن بديلا قد جاءكم خطة رشد لا يردها أحد أبدا إلا أحد شر منها.
فاقبلوا منه، وابعثوني حتى آتيكم
بمصداقها من عنده، وانظر الى من معه، وأكون لكم عينا اتيكم بخبره، فبعثته قريش إلى
رسول الله r فجاء رسول الله r فقال: يا محمد، تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي على اعداد مياه
الحديبية، معهم العوذ المطافيل قد استنفروا لك الاحابيش ومن اطاعهم، قد لبسوا جلود
النمور، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وأنما أنت ومن
قاتلهم بين احد امرين ان تجتاح قومك ولم يسمع برجل اجتاح قومه وأهله قبلك.
أو بين أن يخذلك من ترى معك، واني
والله لا ارى معك وجوها واني لا ارى الا اوباشا، من الناس، لا أعرف وجوههم ولا
انسابهم، وخليقا أن يفروا ويدعوك[29].
وجعل عروة يرمق أصحاب النبي r
بعينه، ويتعجب من تعظيمهم له.
فلما فرغ عروة من كلام رسول الله r
ورد عليه رسول الله r مثل ما قال لبديل بن ورقاء وكما عرض عليهم من المدة، فأتى عروة
قريشا، فقال: يا قوم انى وفدت إلى الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي وإني والله ما رأيت
ملكا قط أطوع فيما بين ظهرانيه من محمد في اصحابه، والله ان رأيت ملكا قط يعظمه
اصحابه ما يعظم اصحاب محمد محمدا، وليس بملك إذا أمرهم بامر ابتدروا امره، وإذا
توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ايهم يظفر منه بشئ، ولا يسقط شئ من شعره الا اخذوه،
وإذا تكلم خفضوا اصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، ولا يتكلم رجل
منهم حتى يستاذن، فان هو اذن له تكلم، وان لم ياذن له سكت، وقد عرض عليكم خطة رشد
فاقبلوها، قد حرزت القوم، واعلموا انكم ان اردتم منهم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت
قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعتم صاحبهم، والله لقد رايت معه نساء ما كن
ليسلمنه ابدا على حال، فروا رايكم فاتوه يا قوم، واقبلوا ما عرض عليكم، فاني لكم
ناصح، مع اني اخاف ان لا تنصروا على رجل اتى زائرا لهذا البيت معظما له، معه الهدى
ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تتكلم بهذا يا ابا يعفور، أو غيرك تكلم بهذا ؟ ولكن
نرده عامنا هذا، ويرجع الى قابل، فقال: ما اراكم تصيبكم قارعة، فانصرف هو ومن تبعه
الى الطائف.
ثم قرأ القارئ بقية الحوار الذي
أجراه رسول الله r مع سائر المفاوضين[30]، ثم قال: ما ترون في هذا الحوار، وهذه المفاوضات؟
قال أحدهم: نرى جنوح رسول الله r
إلى السلم الذي هو أصل أصول هذا الدين .. ولم ينتصر رسول الله r
في هذا الحوار، كما لم ينتصر في حياته جميعا إلا بذلك السلام الذي كان يحمله.
ذلك أن الله تعالى خلق الناس لمقصد
عبادته وتوحيده، قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، والدعوة إلى ذلك تحتاج جوّا من الأمن والسلم حتى
يتهيأ الناس للحوار ولسماع كلمة الحق فيؤمنوا بها عن رضى واقتناع، وظرف الحرب
والعداوة يثير الأحقاد والتربص والعناد والاستكبار، ومن هنا آثر النبي الكريم r
تسهيل أمر صلح الحديبية مع أن شروطه كانت في الظاهر في صالح قريش التي تمثل جانب
الباطل والعدو الذي يصد عن دين الله تعالى.
قال آخر: لقد ذكر ابن حجر هذا الصلح،
ثم قال: ( ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين
يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا، كانت الهدنة مفتاحا
لذلك، ولما كانت قصة الحديبية مقدمة لذلك سميت فتحا... وكان في الصورة الظاهرة
ضيما للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عِزَّا لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع
بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على
الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان
يُخفي إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزة)
قال آخر: صدق الله العظيم .. لقد كان
صلح الحديبية هو الفتح المبين، إذ لا فتح أعظم من فتح القلوب وتمهيد الأمر لدخول
الناس في دين الله تعالى ، وقد رأينا كيف جنح النبي الكريم r للمسالمة والموادعة من أجل حقن الدماء ، وهو يعلم أن أمر الله
ماض، وأن النصر قريب، وأنه مهما أمكن أن يكون الحوار بديلا للسلاح فهو الأمر
الحكيم والتصرف القويم، وهو في ذلك يتمشى مع مقصد الشريعة الأعظم وهو هداية الناس
والرحمة بهم وحقن دمائهم.
قال آخر: ألا ترون كيف تنازل النبي
الكريم r عن بعض الأمور التي رآها بعض المسلمين مُجحفة، لكن نظر النبي r
كان بعيدا يستشرف المستقبل، ويأمل بنصر الله وخضوع قريش في نهاية الأمر لدين الله،
فوعد الله بالتمكين لا بد منه، لكن العجلة غير مطلوبة، قال الله تعالى :﴿
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل
عمران:179)
قال آخر: ألا ترون بلاغة رسول الله r
في حواره؟ .. لقد كان حواره r في منتهى البلاغة دون تكلف أو عياء، يلف ذلك كله جودة في الإلقاء
وحسن في العرض وسلاسة في العبارة .. لقد كان من صفة الرسول r ـ كما تذكر عائشة ـ رضي الله عنها ـ :( لم يكن يسرد الحديث كسردكم
ولكن كان يقول كلاماً لو شاء العاد أن يحصيه لأحصاه)[31]
تأملوا حديث الحديبية حين هدد بالعوذ
المطافيل فقال له النبي r :( إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، فإن شاؤوا ماددناهم مدة ويدعوا ما
بيني وبين الناس، فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، وإلا كانوا
قد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي هذه،
ولينفذن الله أمره)، إنها بلاغة واستيفاء في المعنى وقصد في اللفظ.
تأملوا قوله :( حتى نفرد سالفتي
هذه)، أي عنقي وكيف تصور معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه، لأن الثقة منه بالله،
والقلة لا يخاف منها لأن الكثرة فيها من الله.
تركتهم، وانتقلت إلى حلقة أخرى كان
القارئ يقرأ فيها حوار الرسول r مع أبي سفيان في قصة فتح مكة، ومما جاء فيها قال العباس: قلت:
ويحك يا أبا سفيان ! هذا رسول الله r في الناس، واصباح قريش، والله!
قال: فما الحيلة ؟
قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن
عنقك فاركب في عجزها آتي بك رسـول الله r فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كلما
مررت بنيران من نيران المسلمين، قالوا: من هذا ؟ فإذا رأوا ناقة رسول الله r
وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله r على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال:
من هذا ؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله!
الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسـول الله r
، فقال رسول الله r: اذهب به يا عباس إلى رَحلك، فإذا أصبحت فأتني به، قال: فذهبت به
إلى رحلي، فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله r ، فلما رآه رسول الله r قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا
الله؟
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك
وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إلهٌ غيره لقد أغنى عني شيئا بعد.
قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأنِ
لك أن تعلم أني رسول الله ؟
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك
وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.
فقال له العباس: ويحك ! أسلم واشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تُضرب عنقك.
قال: فشهد شهادة الحق، فأسلم.
قال العباس: قلت يا رسول الله، إن
أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا.
قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن[32].
التفت القارئ إلى المتحلقين به،
وقال: ما تقولون في هذا الحوار؟
قال أحدهم: انظروا كيف أن النبي
الكريم r لم يأمر بقتله أو اعتقاله أو نحو ذلك مما كان من الممكن أن يتصرف
فيه قائد آخر غير النبي r تحفزه الأحقاد والضغائن القديمة، إنما الذي يحفز هذا النبي الكريم
r هداية الناس ودخولها في دين الله مغلبا جانب الصفح والعفو عمن
عاداه وحاربه في كل المواطن، فالانتقام ليس من شيمة الدعاة لأنهم أكبر من ذلك.
قال آخر: لقد وقع تصرف الرسول الكريم
r في نفس أبي سفيان موقعا بالغا فكسب قلبه ومودته، وجعله يرجع إلى مكة
داعية إلى السلم والموادعة، ولا شك أن لدعوة مثل أبي سفيان للسلم والموادعة أثر كبير في نفوس أهل مكة لما
يعلمونه من منزلته.
تركتهم، وانصرفت إلى حلقة أخرى كان
قارئها يقرأ حوار الرسول r مع وفد ثقيف، فذكر أن وفد ثقيف قدم بعد مقدم النبي r
من تبوك في رمضان من سنة تسع، وكان من خبرهم: أنهم أبطأوا عن الإسلام، ثم أجمعوا
أمرهم أن يُرسلوا وفدا إلى النبي r، وأنزل رسول الله r وفد ثقيف في المسجد، وبني لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا
الناس إذا صلوا ، ومكث الوفد أياما عديدة يختلفون إلى رسول الله r
ويختلف إليهم ، وهو يدعوهم إلى الإسلام.
ومما روي من مجالسه معهم أنه r
كان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم يحدثهم حتى يراوح بين قدميه، وقد سألوا
رسـول الله r أن يدع لهم الطاغية وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسـول
الله r ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا
شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما
يُظهرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويَكرهون أن يُروّعوا
قومهم بهدمها حتى يدخلوا في الإسلام، فأبى رسول الله r عليهم إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها،
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يُعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم
بأيديهم، فقال رسول الله r : أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين
لا صلاة فيه، فقالوا : يا محمد سنؤتيكها[33].
وجاء في خبر إسلامهم أيضا: أن كنانة
بن عبد ياليل ـ وكان من وجهائهم ـ قال لرسول الله r : أفرأيت الزنا ، فإنا قوم نغترب ولا بدّ لنا منه.
فقال r : هو عليكم حرام، فإن الله تعالى يقول :﴿ وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء:32)
قالوا: أفرأيت الربا، فإنه أموالنا
كلها.
قال: لكم رؤوس أموالكم، إن الله
تعالى يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278)
قالوا : افرأيت الخمر ، فإنه عصير أرضنا
، لا بدّ لنا منها.
فقال r: إن الله حرّمها، وقرأ آية تحريم الخمر.
قال المغيرة بن شعبة: فدخلت ثقيف في
الإسلام، فلا أعلم قوما من العرب بني أب ولا قبيلة كانوا أصح أسلاما ،ولا أبعد أن
يوجد فيهم غش لله ولكتابه منهم.
التفت القارئ إلى الحاضرين، وقال: ما
تقولون في هذا؟
قال أحدهم: في قصة إسلام ثقيف وما
حصل من حوار النبي r لهم، وعدم التفكير بالتعرض لهم بإساءة أو انتقام، فوائد وعبر
كثيرة، فكلنا يتذكر ما حصل للنبي الكريم r عندما هاجر إلى الطائف، وما تعرض له من الأذى البالغ ، حتى قيل له
: ادع على ثقيف . فقال :( اللهم اهد ثقيفا، وأتِ بهم مؤمنين)[34]
وها هي ثقيف تأتي مُذعنة راغبة في
الإسلام، تحاور بلسانها بعد أن حاورت بسنانها سنين عديدة، فلله الفضل والمنة.
قال آخر: يُستفاد من خبر إسلام ثقيف
وغيره: جواز عقد المحاورات والمناظرات العلمية في المساجد بين المسلمين وغيرهم،
إذا رُجي إسلامهم، فقد حاور النبي r وفد ثقيف في المسجد، وكذا حاور وفد نصارى نجران، وكان المشرك يدخل
عليه المسجد ويسأله ويحاوره، مثلما حصل مع ضمام وافد سعد بن بكر وغيره.
قال آخر: ونستفيد من خبر وفد ثقيف،
أهمية حسن المعاملة والإكرام، وما لذلك من تأثير في نفوس المخاطبين.
قال آخر: ونستفيد ـ كذلك ـ أن
المحاور والداعية إلى الإسلام مهما استعمل المداراة واللين، فإنه ينبغي أن لا يكون
ذلك على حساب أصول الإسلام وثوابته، من إيمان أو فرائض أو محرمات بينة ، فقد
لاحظنا أن ثقيفا طلبوا ترك الصلاة أو ارتكاب الزنى أو شرب الخمر ونحو ذلك، وكيف أن
النبي r كان حازما في هذا الجانب، لكن دون تعنيف أو سخرية ونحو ذلك مما
يمكن أن يصدر من المحاور عندما يسمع من الطرف الآخر كلاما يتعارض مع قواعد
الشريعة، فالذي ينبغي هو الإسراع ببيان الحكم صريحا مع تغليفه بالرفق واللطف.
تركتهم، وانصرفت إلى حلقة أخرى سمعت
قارئها يقرأ حواره r مع عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ فروى عن ابن إسحق قوله: وأما عدي
بن حاتم، فكان يقول فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله r
حين سمع به مني ، أما أنا فكنت امرأً شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي
بالمرباع .. فلما سمعت برسول الله r كرهته.
ثم ساق ابن إسحق قصة هروب حاتم إلى الشام، ثم
قصة المنّ على أخته، وكيف أنها أشـارت عليه أن يلحق بالنبي r ليبايعه على الإسلام.
قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله r
المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن
حاتم، فقام رسول الله r، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة
ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تُكلمه في حاجتها، قال : فقلت في نفسي:
والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى بي رسول الله r
حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدَم محشوة ليفا، فقذفها إليّ، وقال: اجلس
على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول
الله r بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.
ثم قال : إيهِ يا عدي بن حاتم ، ألم
تك رَكوسيّا؟ قال : قلت : بلى.
قال : أو لم تكن تسير في قومك
بالمرباع؟
قال: قلت: بلى.
قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك.
قال: قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يُجهل .
ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من
دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله
ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه
ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية
على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه أنك ترى
أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيْمُ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض
بابل قد فُتحت عليهم.
قال: فأسلم حاتم.
التفت القارئ إلى المستمعين، وقال:
ما تقولون فيما سمعتم؟
قال أحدهم: لقد استطاع رسول الله r
بتلك المعاملة الطيبة التي سبقت الحوار أن يلين قلب عدي بن حاتم الذي كان شديد
البغض لرسول الله r .. وهذا يدل على أن المحاور الناجح هو الذي يتسلل إلى القلب قبل
أن يتسلل إلى العقل.
قال آخر: إن موقفه r
هذا يذكر بموقفه مع ثُمامةَ بن أُثَال ـ سيدِ أهل اليمامة ـ الذي امتلأ بغضاً
للنبي r لكنه لما رآه وحاوره وشاهد سمو خلقه انقلب حاله وحسن مآله[35].
***
ظللت فترة من الزمن أتردد على تلك
الحلقات أستمع فيها إلى هدي النبي r في الحوار، وآدابه فيه، وقد ملأني بالغرابة ما أراه من قوم يدعون
أنهم يحتكرون السنة، وهم أبعد الناس عن تلك الآداب الراقية التي لم يكن يبديها
رسول الله r مع من معه من المسلمين فقط، بل كان يبديها مع ألد أعداء الإسلام،
وأشنع خصومه حتى لم يجدوا إلا أن يسلموا له، ويسلموا على يديه.
بعد أن مضت تلك
المدة التي تشرفت فيها بدراسة ما ورد في السنة المطهرة والسيرة العطرة من مجالس
الحوار التي عقدها رسول الله r مع أصناف الناس، انتقلت مع بعض رفاقي إلى
القسم الرابع من أقسام الحوار، وقد وجدنا على بابه مكتوبا قصة حوار الله تعالى مع
إبليس، وقد تعجبنا من وضع تلك القصة في ذلك المحل، ولذلك ما إن لاقانا الغزالي في
مدخل ذلك القسم ـ كعادتنا به ـ حتى رحنا نسأله عن سر وضع تلك القصة في ذلك المحل،
فقال: أتعرفون إبليس؟
ابتسمنا،
وقلنا: ومن لا يعرفه؟ .. ذلك الذي راح يتحدى ربه، لا يمكن أن يجهله أحد.
قال: ألا ترون
كيف حاوره الله تعالى[36]، فبدأ بسؤاله عن سر تصرفه، ثم لما
طلب منه النظرة أمهله؟
قلنا: أجل ..
ذلك واضح.
قال: أرأيتم لو
أن إبليس بدل أن يقول :﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾
(لأعراف: من الآية12)، قال: (يا رب .. لقد عظم علي أن أسجد لغيرك، فاغفر لي إن كنت
قد أخطأت)[37]
قلنا: لو قال
ذلك ما كان إبليس إبليسا.
قال: أتقصدون
أنه لو قال ذلك لم يطرد من رحمة الله.
قلت: أجل ..
وفي السنة ما يدل على ذلك .. ففي الحديث قال رسول الله r :( إن عبدا من عباد الله آتاه الله مالا
وولدا ، فذهب من عمره عمر وبقي عمر ، فقال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا : خير أب ،
قال : إني والله ما أنا بتارك عند أحد مالا كان مني إليه إلا أخذته أو تفعلون بي
ما أقول لكم ، فأخذ منهم ميثاقا، قال : أما الأول، فانظروا إذا أنا مت، فأحرقوني
بالنار ، ثم اسحقوني ، ثم انظروا يوما ذا ريح، فأذروني لعلي أضل الله ، فدعي
واجتمع ، فقيل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية عذابك، قال: استقل ذاهبا فتيب عليه[38].
فإن هذا الرجل تصور أنه قادر على
إضلال الله، ولكنه في حواره مع الله تأدب، وأبدى حجته في تواضع وعبودية، فغفر له.
قال أحد رفاقي: بل في القرآن الكريم
ما يدل على ذلك .. فإن القرآن كما ذكر ما وقع فيه إبلس، ذكر ما وقع فيه آدم u
.. ولكن الفرق بينهما أن إبليس تعنت واستكبر، وآدم u تواضع، وقال مخاطبا ربه ـ ومعه زوجه ـ :﴿ رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ)(لأعراف: من الآية23)
قال الغزالي: فقد عرفتم سر ما كتب في
الباب من قصة إبليس وحواره مع ربه.
قلنا: لا .. لم نفهم .. نحن نعرف
القصة من قبل.
قال: ألا ترون أن الله تعالى .. مع
تعاليه وعظمته .. يحاور إبليس، وهو الذي عصاه، بل يعطيه فوق ذلك ما يطلبه من
الإنظار؟
قلنا: ذلك صحيح.
قال: فهل هناك من هو شر من إبليس؟
قلنا: لا نعلم أحدا شرا منه .. فكل
شر يحصل في الأرض له نصيب منه.
قال: فهل هناك من هو أعظم من الله؟
قلنا: ما تقول؟ .. لو قلنا: نعم
لكفرنا.
قال: فاعلموا إذن بأن الله تعالى في
قدسه حاور شر خلقه، وأعدى أعدائه، فمن تكبر على أي شخص يريد أن يحاوره ـ مهما كان
ـ فقد وضع نفسه في مرتبة أعظم من مرتبة الله، أو وضع من طلب محاورته في محل أخطر
من المحل الذي جعل الله فيه إبليس.
رأينا فروعا كثيرة في ذلك القسم،
فقلنا: ما هذه الفروع؟
قال: هذه الفروع تستن بقوله r
:( أنزلوا الناس منازلهم)[39]
قلنا: إن هذا
الحديث ينزل كل منزل، فما منزله هنا؟
قال: المحاور الذي
كلف بأن يخاطب الكل يعرف الأساليب التي يتعامل بها مع كل صنف، فلكل أسلوبه الخاص،
ولكل منافذه الخاصة.
قلنا: فهل ننزل
بهذه الفروع لنتعلم من أهلها؟
قال: أجل ..
فلا يمكن لمن يريد أن يستن بسنة رسول الله r في الحوار أن يجهل هذا.
كان أول فرع
بدأنا به في هذا القسم هو قسم (حوار العشيرة)، وقد كتب على بابه قوله تعالى:﴿
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214)
كانت كل دروسنا في هذا الفرع هو
تحليل ما ورد في القرآن الكريم من حوار إبراهيم u مع أبيه الوارد في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ
لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يَا
أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن
يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ
أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ
كَانَ بِي حَفِيّاًوَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو
رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾ (مريم:41 ـ 48)
وحوار الأب مع ابنه الوارد في قوله
تعالى حاكيا عن نوح u :﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا
بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ
إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾
(هود:42 ـ 43)
وقد رأينا أن هذين النموذجين من
نماذج الحوار مع الأقربين قد جمعا خلاصة ما يمكن أن يجري عليه الحوار داخل الأسرة
أو العشيرة الواحدة.
فهو حوار ينطلق من المودة والرحمة ..
فإبراهيم u يحادث أباه بكل رقة ولطف، مع أن أباه لا يبادله تلك المودة وذلك
اللطف إلا بالشدة والعنف.
وهو حوار منهجي علمي يتلو الحجة تلو
الحجة، والدليل تلو الدليل، حتى لا يبقى للطرف الآخر إلا التسليم.
وهو حوار ينتهي بالخاتمة الطيبة، كما
يستهل بالاستهلال الطيب، فإبراهيم u يقول لأبيه بعد أن بدر منه ما بدر، وهدده بما هدده :﴿ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً)(مريم: من الآية47)
وفي نفس الوقت يخبره عن ثباته على
مبدئه ودينه، قال تعالى على لسانه :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً)
(مريم:48)
وقد رأينا في سنة رسول الله r
تطبيقات كثيرة على هذا النوع من الحوار، منها ما سبق ذكره من دعوته r
لعشيرته وتلطفه في حواره معهم، بل روي أنه r صنع لهم طعاما، ليوفر ذلك الطعام من الجو النفسي ما يتيح لهم حسن
الاستماع، وحسن التلقي.
بعد أن درسنا الكيفيات المختلفة التي
يتم من خلالها التوصل إلى قلوب العشيرة وعقولها انتقلنا إلى فرع آخر، اسمه (حوار
الملأ)، وقد عرفنا في هذا الفرع سر ذكر القرآن الكريم حوار الأنبياء ـ عليهم السلام
ـ مع الملأ من أقوامهم .. ذلك أن أولئك الملأ ـ بسبب ما أوتوا من قوة السلطان ـ هم
أكبر من يقف في وجه الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كما قال تعالى عن ملأ رسول
الله r :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:26)
وقد رأينا أن ما ذكره القرآن الكريم
من ذلك الحوار دروس تربوية عميقة للمؤمنين في كل الأزمان ليقتدوا بهدي الأنبياء في
حوار الملأ من أقوامهم.
وقد شد انتباهنا في دراستنا المفصلة
المحللة لتلك النصوص الحوارية حوار شعيب u مع الملأ من قومه .. فقد
كان بعض السلف يسمي شعيباً u خطيب الأنبياء ، لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى
الإيمان برسالته، ويروى في ذلك أن رسول الله r كان إذا ذكر شعيبا قال :( ذاك خطيب الأنبياء)[40]
سأذكر لك بعض ما استفدنا من حواره u
مع الملأ من قومه، وفيه بيان لمنهج رسول الله r
وسائر الأنبياء في حوارهم مع الملأ من أقوامهم[41].
أما موضوع
حواره،
فقد بدأه شعيب u بالتوحيد، وهي الدعوة التي جاء بها جميع الأنبياء والرسل ـ عليهم
السلام ـ لأن المخالف إذا آمن بالله وحده ، واستسلم له، فإنه لا بد بعدها أن يمتثل
لكل ما أمر الله به ، ونهى عنه، قال تعالى :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (العنكبوت:36) أي : أخشوا الآخرة التي
فيها الجزاء على الأعمال، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، أي : لا تكفروا فإنه أصل كل
فساد.
وهذا ما بدأ به رسول الله r
دعوته، فقد بدأ بدعوتهم إلى قول (لا إله إلا الله)، مرغباً إيّاهم بأنهم إذا
قالوها ملكوا بها العرب والعجم، ولم يأمرهم بصلاة ولا صيام في بداية دعوته.
ذلك أن وحدانية الله هي القاعدة التي
تنبثق منها كل مناهج الحياة، كما تنبثق منها قواعد السلوك والخلق والتعامل، ولا
تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه العقيدة.
ثم انتقل بهم أعظم مخالفة كان يفعلها
قومه بعد الشرك، وهي التطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، قال تعالى
حاكيا قوله :﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(لأعراف: من الآية85)، وقال
تعالى :﴿ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ
بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)(هود: من الآية84)،
أي: لا ترتكبوا ما أنتم عليه، وتستمروا
فيه، فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم، وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ، ومن جمع
له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة.
فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من
التطفيف، وحذّرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم وعنفهم
أشد تعنيف، ثم قال لهم آمراً :﴿ ويَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا
فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ (هود:85 – 86)، أي : رزق
الله خير لكم من أخذ أموال الناس.
ثم نهاهم عن جريمة الصد عن سبيل الله
وظلم الناس، أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم إن فعلوا خلاف ذلك فقال تعالى :﴿
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ (الأعراف:86)، نهاهم عن قطع
الطريق الحسية الدنيوية بأخذ أموال الناس من مكوس وغيرها، وإخافة السبل، كما ذكر
المفسرون أنهم (كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس، يأخذون
العشور من أموال المارة، وكانوا أول من سن ذلك)، ونهاهم عن قطع الطريق المعنوية
الدينية.
وفي هذا دلالة على أن المحاور لا
ينبغي أن يكتفي فقط بمسائل الدين، بل عليه أن يتحدث عن شؤون الحياة، ومشاكل الناس،
ليؤلف بذلك القلوب، بالإضافة إلى كون ذلك من دين الله، ومن مقتضيات عبادة الله.
أما أسلوب
حواره،
فقد استعمل شعيب u من الألفاظ ما فيه مودة ورحمة ولين وعطف وحنان، ولم يتكبر أو
يتعالى على قومه، لأن الألفاظ القاسية والفاحشة ، تؤدي إلى نفور الناس من الداعية،
كما وجه الله رسوله r إلى ذلك بقوله :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل
عمران:159)، والفظ : الغليظ الجافي ، وغلظ القلب : قسوته، والمعنى : (لو كنت فظا
غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبة لك واحتشاما منك بسبب ما كان من
توليهم)
لقد خاطب شعيب u قومه بلفظ (يا قومِ)، وبلفظ الأخوة كما سجل القرآن الكريم، لم يقل
(يا كفار) ، (يا مجرمين)، قال تعالى :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (الأعراف:85)، أي : دلالة
وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وأنه أرسلني إليكم، وهو ما أجرى الله
على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها
إجمالاً.
بالإضافة إلى هذا، فقد وظف شعيب u
جميع الأساليب التي يتسلل بها إلى القلوب، فقد خاطبهم مرغبا ومرهبا، وذكرهم بنعم
الله الكثيرة عليهم ، قال تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا
فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾
(الأعراف:86)، لقد ذكرهم بنعمة كثرة النسل بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا
ما أرشدهم إليه ودلهم عليه.
ورغبهم في الربح الحلال المبارك فيه
وإن قل، وأن الحرام لا يجدي وإن كثر، كما قال تعالى:﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود:86)
ورغبهم في الإخلاص لله وحده والبعد
عن الرياء، قال تعالى :﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (هود:86)، أي
افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه .
ثم استعمل أسلوب الترهيب، فقال :﴿
وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ
قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ
بِبَعِيدٍ﴾ (هود:89)، أي : لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على
الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما
أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
ثم مزج الترهيب بالترغيب، فقال :﴿
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)
(هود:90)، أي : اقلعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، ترهيب من عدم
التوبة ، وترغيب فيها، فإنه من تاب إلى الله تاب الله عليه ، فإنه رحيم بعباده
ودود يحبهم ويحبونه[42].
ثم إن شعيبا u نوع حواره مع قومه بحسب ما يقتضيه المقام، فقد كان من قوم شعيب u
الملأ، ومنهم دون ذلك، والحوار والمواجهة مع علية القوم وأشرافهم تختلف عن الحوار
مع الآخرين؛ فالمواجهة مع الملأ تتطلب مزيداً من ضبط النفس والحكمة معاً، والثبات
على قول الحق، والتمسك بلغة الحوار الجيد، كما حدث بين شعيب u والملأ من قومه إذ واجهوه بلغة القوة والتهديد والاستهزاء،
وواجههم باللطف واللين، قال تعالى :﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ (لأعراف: من
الآية88)
انظر كيف يرتفع حوار الملأ إلى درجة
التحدي، وكأنهم يقولون له :( إما أن تكون معنا، فنرحب بك، أو ضدنا فنخرجك ونحاصرك
ونضيق عليك)، فيرد عليهم شعيب u بالرد المناسب الدال على ثباته مهما حاولوا زعزعته:﴿ قاَلَ
أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ
عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ
لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (لأعراف:88-89)
انظر كيف يمتزج الثبات مع الهدوء ..
فهو ثابت، ولكنه بهدوء لا انفعال فيه، وبقوة لا غضب معها ..
وفوق هذا، فقد واجه شعيب u
استهزاء قومه به، باتهامه بأنه مسحور وكاذب، فلم ينفعل، ولم يغضب ، بل تحلى بسعة
الصدر .. وهذا ما سنه لنا النبي r ، فالداعية المسلم المحاور هو الذي يضبط أعصابه، ويسيطر على نفسه؛
فيواجه خصمه بوجه طلق، وابتسامة عريضة، وسعة صدر، قال تعالى :﴿ قَالُوا يَا
شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ
نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)
(هود:87)
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء
والسخرية والتهكم :( أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا، فلا
نعبد إلا إلهك ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون ، وأسلافنا الأولون؟ أو أن لا نتعامل
إلاّ على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها؟)
وانتقل الاستهزاء إلى تحد من لون جديد، قال تعالى حاكيا عنهم :﴿
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِين َ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً
مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا
تَعْمَلُونَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(الشعراء:185 – 188)
لقد طلبوا أن يسقط عليهم كسفا من
السماء إن كان صادقاً فيما يدعو إليه، بل راحوا يسألونه عن عذاب الله ، أين هو؟
وكيف هو؟ ولماذا تأخر؟ سخروا منه ، وانتظر شعيب أمر الله، وتحقق وعد الله الذي لا
يتخلف.
ومع كل هذه الأصناف من الاستهزاء
والسخرية كان شعيب u يجيبهم بالأدلة والبراهين والحجج الدامغة بعيدا عن كل انفعال
يجعله يسلك سلوكهم، قال تعالى :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا
الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88)
انظر كيف تلطف معهم في العبارة
ودعاهم إلى الحق بأبين إشارة، وقال لهم: (أرأيتم إن كنت على أمر بيِّن من الله
تعالى، وأنه أرسلني إليكم، ورزقنى النبوة والرسالة، وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلة
لي فيكم؟)، وهكذا يبين المحاور أنه يمتلك الحجة والدليل، وأن رأيه ليس مبنياً على
الهوى والمزاج.
ولكن شعيبا u ـ مع كل هذا اللطف واللين ـ استعمل الشدة في خطابه لما اقتضى
المقام ذلك، وبعد أن لم يجد معهم أي لين أو لطف، قال تعالى مخبار عن خطابه لقومه
بعد أن يئس منهم :﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ
وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (هود:93)، فهذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد
بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم، فسوف يعلمون ـ في الأخير ـ من يخزيه
الله في هذه الحياة الدنيا، ويحل عليه الهلاك والبوار، ومن تكون له عاقبة الدار.
وهذا كقوله تعالى :﴿ وَإِنْ
كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ (الأعراف:87 – 89)، فقد ظنوا بزعمهم أنهم
يستطيعون أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب u للمحاجة عن قومه، وقال :﴿ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾
أي : هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليكم إن عادوا اضطراراً
مكرهين، وذلك لأنَّ الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب ، لا يرتد أحد عنه، ولهذا قال :﴿ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى
اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ
مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾
(الأعراف:89)
وفي الأخير .. وبعد أن يئس شعيب u
من قومه يأسا تاما استفتح على قومه، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه، فقال
:﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(لأعراف: من الآية89)
وقد ذكر الله تعالى أن شعيبا u
استمر في حوارهم بعد هلاكهم، قال تعالى :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا
قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى
عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) (لأعراف:93)[43]
بعد أن درسنا بالتفصيل ما يرتبط
بحوار الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مع الملأ من أقوامهم، والذي أفاض القرآن الكريم
في ذكره، انتقلنا إلى فرع آخر، اسمه (حوار العامة)، وقد عرفنا في هذا الفرع ضرورة
اطلاع الداعية على ما يجري من شبهات بين عامة من يريد أن يدعوهم، ليناقشهم من
خلالها.
ومن أهم ما درسناه في هذا الفرع
التحليل التفصيلي للآيات التي أجاب فيها القرآن الكريم عن الشبهات التي كانت تنتشر
بين المشركين وغيرهم .. وفي ذلك الجواب استفدنا الكثير من الطرق والمناهج الربانية
للحوار الإيجابي.
سأذكر لك بعض ما درسنا من ذلك، لترى
أن القرآن الكريم كفانا كل ما يهمنا في هذا الجانب، وأنا لو تدبرناه لاستخرجنا منه
من كنوز الحكمة ما يغنينا عن غيره[44].
لقد ذكر القرآن الكريم القضايا التي
أكثر فيها الملأ من المشركين الجدال[45]، وأكثرها يدور حول اعتراضهم على رسول الله r، وأنه بشر مثلهم، وأنه ليس من ذوي الثراء والغنى، ولا من أهل
المنصب والزعامة فيهم، وطلبهم أن يكون ملَكاً من الملائكة، أو أن يأتيهم بملَك ..
ومنها ادعاء المشركين أن الملائكة بنات الله .. ومنها اعتراضهم على نزول القرآن
مفرقاً، وطلبهم أن ينزل جملة واحدة .. ومنها إنكارهم التوحيد واتخاذهم الأصنام
والأوثان أنداداً لله، وعبادتهم إياها بدعوى التقرب إلى الله .. ومنها إنكارهم
البعث والنشور، ورفضهم فكرة اليوم الآخر.. وغير ذلك من الأطروحات التي ذكرها
القرآن الكريم، وأجاب عنها.
أما جدالهم
في نزول الرسالة على رسول الله r ، فقد تساءل المشركون ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ متعجبين: كيف
تنزل هذه الرسالة على بشر يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق؟ .. ولمَ لم ينزل هذا القرآن
على أحد أغنياء مكة أو الطائف، أو أصحاب الجاه والزعامة فيهما؟ .. ولِمَ لا يرسل
الله تعالى ملكاً من الملائكة، ليكون بشيراً ونذيراً للناس؟
وقد أورد القرآن الكريم هذه الشبهات،
فقال تعالى :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ (الأنبياء)، وقال :﴿ وَقَالُوا
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)﴾ (الفرقان) ..
وغير ذلك من الآيات
وكان من رد القرآن الكريم عليهم بيان
أنهم لم يبتدعوا هذا القول، بل رددوا أقوال الأمم السابقة التي واجهت رسلها بهذه
الشبهة، وجعلت منها سلاحاً تشهره في وجوههم، في محاولة لإقناع عامة الناس أن من
كان بشراً لا يصلح أن يكون رسولاً، قال تعالى :﴿ واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا
أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا
أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا
رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (19)﴾ (يس)
وقال تعالى :﴿ ثُمَّ
أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ
رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ
إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ
وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهَاتَ
لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا
كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)﴾ (المؤمنون)
فهذه الشبهة تتابعت عليها أمم كثيرة
في مواجهة رسل الله تعالى، وهؤلاء المشركون يرددونها دون أن يعقلوا أو يتفكروا.
وقد استفدنا من هذا أن نبحث في
تواريخ الشبهات، وفي القائلين بها، وفي دراسة مصادرهم، ليكون ردنا منطلقا من تلك
المنطلقات النفسية والعلمية التي أوحت لهم بتلك الشبهات.
ومما رد به القرآن الكريم على هذه الشبهات
القديمة الجديدة تأكيده على أن الرسل ـ عليهم السلام ـ جميعاً كانوا من البشر، لم
يشذ عن هذه القاعدة أحد، فإذا كنتم يا معشر قريش تفخرون بانتمائكم إلى إبراهيم u
فقد كان رجلاً من البشر، وإذا كنتم تصدقون بنبوة نوح وموسى وعيسى وغيرهم من
الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فلتعلموا أنهم كانوا بشراً مثل سائر البشر، قال
تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ
لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ
لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ (الفرقان:20)،
وقال تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ (يوسف: 109)
وقد استفدنا من هذا أن نبحث في مدى
انسجام المخالف مع ما يقوله .. هل هو يسير معه وفق ما يتطلبه المنهج العلمي، أم
أنه يكيل بالمكاييل المختلفة[46].
ومما رد به القرآن الكريم على تلك
الشبهات بيانه أنه لو كان أهل الأرض ملائكةً لأنزل الله إليهم رسلاً من الملائكة،
وبما أنهم بشر فلا بد أن يكون الرسل إليهم من البشر، حتى يتم التخاطب والتفاهم
بينهم وبين البشر، قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا
(94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) ﴾
(الإسراء)
واستفدنا من هذا أهمية تعليل الأحكام
بمقاصدها .. فلا شيء أبلغ ولا أحكم ولا أعظم تأثيرا في الإقناع من ربط الأشياء
بمقاصدها.
ومما رد به القرآن الكريم على تلك
الشبهات تأكيده على الفرق الجوهري بين الأنبياء وسائر البشر، فالنبي بشر لكنه يوحى
إليه من ربه، ويؤيد بالبرهان الظاهر والحجة البينة، ليعلم الناس أنه رسول الله
حقاً، قال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
(الكهف:110)، وقال تعالى :﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)﴾ (فصلت)، ولأن النبي
يوحى إليه، ويتلقى الرسالة عن طريق ملَك من الملائكة، فلا بد أن يكون مهيأً تهيئة
خاصة للاتصال بملك الوحي والتلقي عنه، وهذا ما ليس لسائر البشر.
وقد استفدنا من هذا أن ندعو المخالف
إلى النظر بعين التحقيق فيما يطرحه من شبهات، فقد يكفي مجرد نظره وتحقيقه في رد
الشبهة عنه.
أما القضية الثانية التي جادل فيها
المشركون، فقد اعتبروا نزول القرآن على رسول الله r أمراً مستغرباً، لأنه ـ كما يقولون ـ ليس من ذوي الزعامة والنفوذ،
ولا من أهل المال والثراء، فليس جديراً بهذا الشرف، ولا خليقاً بأن يختصه الله
بالرسالة من بينهم[47]، قال تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا
الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ (الزخرف:31)
وقد رد القرآن الكريم عليهم رداً
حاسماً مبيناً أن هذا من فضل الله تعالى ورحمته، وليس لأحد أن يقسم رحمة الله أو
يختص بها أحداً، قال تعالى :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ (الزخرف:32)
كما رد عليهم في موضع آخر بقوله :﴿
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا
يَمْكُرُونَ ﴾ (الأنعام:124)، فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وليس لأحد
أن يعترض، أو ينكر فضل الله ورحمته.
أما القضية الثالثة التي ألجأهم
إليهم الحوار المنهجي إلجاء، فقد طلب المشركون أن يكون الرسول ملَكاً من الملائكة،
حتى يصدقوا أنه مرسل من عند الله، ويؤمنوا به ويتبعوه.
وقد رد القرآن الكريم على هذه الشبهة
في عدد من السور، كما في قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا
يُنْظَرُونَ (8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)﴾(الأنعام)
فهذه الآية حصرت الاحتمالات المرتبطة
بموقفهم من إرسال الملك إليهم في حالتين:
أما الأولى، فأن يرسله الله على
هيئته الملائكية التي خُلق عليها، ولأن الملائكة مخلوقات نورانية عظيمة، فإن البشر
لا يتحملون رؤيتهم، ولا يستطيعون أن يثبتوا لها، وهذا يعني أنهم سيهلكون إذا رأوا
ملكاً من الملائكة على هيئته التي خلق عليها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى عظم خلق
الملائكة، وأن رسول الله r مع ما أوتي من طاقات لم يرهم، بل لم ير جبريل، في صورته الحقيقية
إلا مرتين، قال تعالى :﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى
(10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)﴾ (النجم)
وأشار القرآن الكريم ـ كذلك ـ إلى أن
رؤية البشر للملائكة في صورتهم التي خلقوا عليها، لا تكون إلا عند الموت أو يوم
القيامة، وعند ذلك لا يكون للمشركين بشارة ولا خير، بل سيسعى كل منهم إلى التعوذ
بما لا ينفعه، رغبة في دفع العذاب عن نفسه. قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) (الفرقان:22)
وأما الحالة الثانية، فأن يرسل الله ملكاً
من الملائكة على هيئة البشر، وحينها لابد أن يقول الناس :( هذا بشر مثلنا)، ولن
يصدقوا أنه من الملائكة، وعندئذ يبقى الإشكال قائماً.
هذه كبرى القضايا التي حاور فيها
القرآن الكريم المشركين مفندا شبههة واحدة واحدة، متدرجا بهم على حسب عقولهم.
أما القضية الثانية، فهي تلك الضلالات
الباطلة،
والتصورات الفاسدة، التي ابتدعوها من عند أنفسهم، أو قلدوا فيها آباءهم وأجدادهم،
دون علم، وتتابعوا على ذلك حتى جعلوه ديناً مقدساً، واعتقدوه حقاً وصواباً.
ومن ذلك زعمُهم أن الله تعالى اتخذ
زوجة من بنات سروات الجن، فأنجبت له الملائكة، وزعمُهم أن الملائكة بنات.
وقد أخبر القرآن الكريم عن هذه
الأباطيل، وردّ عليها بالحجة الدامغة والبرهان الساطع، قال تعالى :﴿
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ
لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى
الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)﴾
(الصافات)
لقد استفدنا من هذا أن نرتب حججنا
ونعددها، بحسب ما يقتضيه المقام[48]، فالله تعالى في هذه الآيات طلب منهم سلطانا مبينا على قولهم (إن
الملائكة بنات الله) .. وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا
بالإِتيان بكتاب من عند الله على ذلك إن كانوا صادقين فيما زعموا، أي فإن لم تأتوا
بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين.
والأمر في قوله: ( فَأتُوا ) أمر
تعجيز.. ومجادلتهم بهذه الجمل المتفننة رُتبت على قانون المناظرة؛ فابتدأهم بما
يشبه الاستفسار عن دعويين: دعوى أن الملائكة بنات الله، ودعوى أن الملائكة إناث
بقوله :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ
(149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾
(الصافات:150)، ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوماً من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة
المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث.
وإنما أريد من استفسارهم صورة
الاستفسار مضايقةً لهم، ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على
دعواهم، فذلك الانتقال ابتداء مِن قوله :﴿ وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ وهو
اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى، ثم قوله :﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ
(156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(157) ﴾ (الصافات)،
فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره، وهو هنا
متعين لأن يكون خبراً مقطوعاً بصدقه، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ من عند الله تعالى،
لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك، فدليل المشاهدة منتفٍ بالضرورة،
ودليل العقل والنظر منتفٍ أيضاً، إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث،
ولا على أنهم ذكور.
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض
هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق
منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة: أشير إلى دليل الحس بقوله:﴿ وَهُمْ
شَاهِدُونَ ﴾، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله :﴿ أَمْ لَكُمْ
سُلْطَانٌ مُبِينٌ ﴾ (الصافات: 156)، ثم فرع عليه قوله :﴿ فَأْتُوا
بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (الصافات: 157)، وهو دليل السمع،
فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه، وانحصر
دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت، إذ لا يعلم ما في غيب الله غيرُه.
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا
بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله، وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء
رسول من عند الله، واستحالة أن يكلم الله أحداً من خلقه، فانحصر الدليل المفروض من
جانب السمع أن يكون إخباراً من الله في أن ينزَّل عليهم كتاب من السماء لأنهم
كانوا يجوّزون ذلك لقولهم :﴿ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ ﴾ (الاسراء: من الآية93)، ولن يستطيعوا أن
يأتوا بكتاب.
فذكر لفظ :﴿ بِكِتَابِكُمْ ﴾
إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: فأتوا به، أي السلطان المبين،
فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتاباً من عند الله، وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة
ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإِيصال، والتقدير: بكتاب
إليكم، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه، بل بواسطة حرف
الجر وهو ( إلى)
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه
المجادلة الجارية على القوانين العقلية، ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم
على ما زعموه، فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه
مستدلاً باستنتاج من إفحامهم، وذلك هو قوله :﴿ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)﴾
(الصافات)
ومن الردود القرآنية في هذا المقام
ما نص عليه قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ
وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ
لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)﴾ (الزخرف)
لقد تضمنت هذه الآيات وجوها من الرد
عليهم استفدنا منها أي فائدة:
فالآيات الكريمة تشير إلى أن هؤلاء
بعد أن اعترفوا بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض جعلُوا له ـ
سبحانَهُ ـ بألسنتِهم واعتقادِهم من عبادِه ولداً، وإنَّما عبَّر عنهُ بالجُزءِ
لمزيدِ استحالتهِ في حقِّ الواحدِ الحقِّ من جميعِ الجهاتِ.
وبما أن الولد يشمل الذكور والإناث،
فقد نسبوا إلى الله تعالى البنات دون البنين، مع أنهم يترفعون عن نسبة البنات إلى
أنفسهم، ويكرهون أن يبشروا بولادتهن، فكيف ينسبون إلى الله سبحانه ما يكرهون؟
والمَعْنى: هَبُوا أنكم اجترأتُم على إضافةِ اتخاذِ جنسِ الولدِ إليه سُبحانَهُ مع
ظهورِ استحالتِه وامتناعِه، أما كانَ لكم شيءٌ من العقلِ ونُبذٌ من الحياءِ حتى
اجترأتُم على التفوُّهِ بالعظيمةِ الخارقةِ للعقولِ من ادعاءِ أنَّه تعالى آثركُم على
نفسِه بخيرِ الصنفينِ وأعلاهُما وهم الذكور، وتركَ له الإناث؟ وهم يعلمون أن
الإناث يُنَشَّأن ويربين في الحلية والزينة، ومن كان كذلك فهو عاجزٌ عنْ أنْ
يتولَّى أمره بنفسهِ، كما أنه في الخصام والجدالِ الذي لا يكادُ يخلُو عنه
الإنسانُ في العادةِ ( غَيْرُ مُبِينٍ )، ولا قادرٍ على تقريرِ دعواهُ وإقامةِ
حُجَّتِه.
وقد تضمن كفرِهم المذكورِ كفراً
آخرَ، حيث جعلوا الملائكة إناثاً، فرد القرآن عليهم مطالباً إياهم بالدليل فقال :﴿
أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾، أي أَحَضَرُوا خلقَ الله تعالى إيَّاهم
فشاهدُوهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتِهم؟ فإنَّ ذلكَ مما يُعلم بالمشاهدةِ، وهو
تجهيلٌ لهُم وتهكُّمٌ بهم.
ولم يكتف المشركون بهذا، بل عبدوا
الملائكة من دون الله، ظناً منهم أن ذلك كان بمشيئة الله ورضاه :﴿
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ أيْ لو شاءَ عدمَ
عبادتِنا للملائكةِ مشيئَةَ ارتضاءٍ ما عبدناهُم أرادُوا بذلكَ بيانَ أنَّ ما
فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَهُ تعالى.
ومَبْنى كلامِهم الباطلِ على
مقدمتينِ: إحداهُما أنَّ عبادتَهُم لهم بمشيئتهِ تعالى، والثانيةُ أنَّ ذلكَ
مستلزمٌ لكونِها مرضيةً عندَهُ تعالَى، ولقد أخطأُوا في الثانيةِ حيث جهلُوا أن
المشيئةَ عبارةٌ عن ترجيحِ بعضِ الممكناتِ على بعضٍ كائناً ما كانَ من غيرِ
اعتبارِ الرَّضا أو السَّخطِ في شيءٍ من الطرفينِ، ولذلكَ جُهِّلُوا بقولِه تعالى
:﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ ﴾ أي بما أرادُوا بقولِهم ذلكَ من كونِ ما
فعلُوه بمشيئةِ الارتضاءِ لا بمطلقِ المشيئةِ فإنَّ ذلكَ محققٌ ينطقُ بهِ ما لا
يُحصَى من الآياتِ الكريمةِ :﴿ مِنْ عِلْمٍ ﴾ يستندُ إلى سندٍ مَا :﴿
إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ يتمحَّلُونَ تمحُّلاً باطلاً.
وقد جُوِّزَ أنْ يشارَ بذلكَ إلى
أصلِ الدعوى، كأنَّه لما أظهرَ وجوه فسادِها وحكى شُبهَهم المزيفةَ نَفَى أن يكونَ
لهم بها علمٌ مِن طريقِ العقلِ، ثم أضربَ عنه إلى إبطالِ أن يكونَ لهم سندٌ من
جهةِ النقلِ فقيلَ :﴿ أَمْ ءاتيناهم كتاباً مّن قَبْلِهِ ﴾ من قبلِ
القُرآنِ أو من قبلِ ادعائِهم، ينطقُ بصحةِ ما يدَّعُونَهُ :﴿ فَهُم بِهِ ﴾
بذلكَ الكتابِ :﴿ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ وعليهِ معوّلونَ :﴿ بَلْ
قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم
مُّهْتَدُونَ ﴾ أي لم يأتُوا بحجةٍ عقليةٍ أو نقليةٍ، بل اعترفُوا بأن لا
سندَ لهم سوى تقليدِ آبائِهم الجهلةِ مثلِهمْ[49].
أما القضية الثالثة، فهي اعتراض
المشركين على نزول القرآن مفرقاً، وطلبهم أن ينزل جملة واحدة، وقد أورد
القرآن الكريم اعتراضهم هذا ورد عليهم مبيناً بعض الحكم من نزول القرآن مفرقاً،
فقال تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾(الفرقان:32)
لقد استفدنا من هذا أن نبدأ بذكر قول
المخالف قبل الرد عليه، كما قال تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ أي هلاَّ أُنزل
كلُّه (جُمْلَةً واحدة ) كالكتب الثَّلاثةِ السابقة.
وبُطلان هذه الكلمةِ ظاهرٌ،ٍ فإنَّ
الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهِدَ صحَّتِها ودليلَ كونَها من عندِ الله تعالى
إعجازُها، وأمَّا القرآنُ الكريمُ فمن بينات[50] كونِه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ
المتحقِّقُ في كلِّ سورة من سوره، ولا ريبَ في أنَّ ما يدور عليه فَلَكُ الإعجاز
هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ، ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما
يُطابقها حتماً.
على أنَّ فيه فوائدَ أخرى قد أُشير
إلى بعضٍ منها بقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾،
فإنَّه استئناف واردٌ من جهته تعالى لردِّ مقالتهم الباطلة وبيانِ الحكمة في
التَّنزيلِ التَّدريجيِّ.
ومنها ما ورد في قوله تعالى :﴿
ورتلناه[51] ترتيلاً ﴾ أي لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك
فإنَّ فيه تيسيراً لحفظِ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على
تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحِكَمِ والمصالحِ المبنيَّةِ المُناسبة على أنَّها
منوطةٌ بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلاً بالنَّسخِ من أحوال
المكلَّفينَ، وكذلك عامة ما ورد في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ
بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها
كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما
يؤول إليه حالُهم في الآخرِة[52].
ويظهر من هذه الشبهات التي كان
المشركون يثيرونها، أنهم يريدون التعلق بأي حجة مهما تكن واهية، والتشبث بأي قول
مهما يكن ساقطاً مردوداً، ليواجهوا الحق بعنادهم وإصرارهم على ما هم فيه من الكفر
والضلال، وإلا فما الفرق عندهم بين أن ينزل القرآن مفرقاً، أو جملة واحدة؟ لو
كانوا يؤمنون!
أما القضية الرابعة، وهي من أخطر
القضايا التي عالجها القرآن الكريم، وأفاض في ذكر الحجج الدامغة التي ترد عليها،
فهي اتخاذ المشركين الأنداد لله، وعبادتهم إياها بدعوى التقرب إلى الله:
ومما ورد في ذلك قوله تعالى :﴿
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى
الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)﴾ (النجم)
فقد ذكرت هذه الآيات الكريمة
اعتقادات المشركين في هذا الباب، وخلوها من أي حجة، بل اعتمادها على مجرد الهوى.
وقد دلهم القرآن الكريم ـ بدل هذا
الاعتقاد الخالي من أي حجة ـ إلى اعتقاد أعظم حجة، وأقوم برهانا، وهو توحيد الله
تعالى، قال تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ
أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)﴾ (الزمر)
ومن الحجج التي استعملها القرآن
الكريم إخبارهم أن هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله لا تضر ولا تنفع، ولا تملك
لأحد شيئاً، قال تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ
شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾
(الفرقان:3)
ومنها كون هذه الآلهة مخلوقات، لم
تخلق شيئاً، وليس لها في هذا الكون شرك، قال تعالى :﴿ قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ (سـبأ:22)، وقال تعالى :﴿ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ
أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (22)﴾ (النحل)
ومنها اعتراف عابديها بأنها لا تغني
عنهم شيئاً، وهذا الاعتراف يظهر بوضوح عندما يمسهم الضر، قال تعالى :﴿
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً ﴾
(الاسراء:67)
ومنها اعترافهم بأنهم يعبدونها
لتقربهم إلى الله زلفى، وهذا الاعتراف يتضمن إقرارهم بوجود الخالق سبحانه، وبأن
هذه الآلهة ليست إلا واسطة يتقربون من خلالها إلى الله سبحانه، قال تعالى :﴿
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر:3)
ومنها بيان أن هذه الآلهة سوف تتخلى
عنهم، ولن تنصرهم من دون الله، قال تعالى :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ
نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)﴾ (غافر)
كما حلل القرآن الكريم دوافعهم
النفسية والاجتماعية التي حملتهم على عبادتها من دون الله، وهي كلها دوافع لا نصيب
لها من العلم.
فمنها تقليدهم لآبائهم واتباعهم على
ضلالهم، قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)﴾ (الزخرف)
ومنها اتباع الهوى، بغير حجة ولا
سلطان، قال تعالى :﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدَى ﴾ (النجم:23)
ومنها احتجاجهم بمشيئة الله، وأنهم
ما عبدوا هذه المعبودات إلا بمشيئة الله سبحانه، قال تعالى :﴿ وَقَالُوا
لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ (الزخرف:20)
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن
المشركين لم يكتفوا بعبادة الأصنام والأوثان من دون الله، بل إن منهم من عَبد
الملائكة، ومن عَبد الجن، ومنهم من زعم أن لله صاحبةً وولداً، وأن هؤلاء المشركين
قد خلطوا في عبادتهم، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، قال تعالى :﴿ وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (20)﴾ (الزخرف)، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)﴾ (سبأ)
كما عرض القرآن الكريم كثيراً من
أخبار الأمم السابقة التي أشركت بالله تعالى، واتخذت آلهة من دون الله، كقوم نوح
وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم فرعون وأصحاب مدين، وبيَّن كيف كانت عاقبتهم بعد
أن أنذرهم أنبياؤهم وبلغوهم الدعوة وأقاموا عليهم الحجة.
قال تعالى ذاكرا قوم نوح u
:﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ
مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)﴾ (نوح)
وقال ذاكرا قوم إبراهيم u
:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ
وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)﴾
(الشعراء)
وقال ذاكرا قوم موسى u:﴿
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ
آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا
هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)﴾
(الأعراف)
والقرآن الكريم حين يقصُّ علينا
أخبار تلك الأمم، ويبين كفرهم وتكذيبهم وعبادتهم للأصنام والأوثان، يُعرّض بمشركي
مكة وتقليدهم للآباء، واتباعهم سنن الأمم السابقة، ويؤكد على مدى استحواذ الشيطان
على أكثر الناس، وصرفه إياهم عن جادة الإيمان.
أما القضية الخامسة، وهي من أخطر
القضايا التي عالجها القرآن الكريم، وأفاض في ذكر الحجج الدامغة التي ترد عليها،
فهي إنكار المشركين البعث والنشور، ورفضهم ما جاء به الإسلام عن اليوم
الآخر.
لقد كان عامة المشركين ينكرون عقيدة
البعث والنشور، ويرون أن الحياة الدنيا هي نهاية المطاف، فإذا مات الإنسان صار
تراباً، ولا إمكان لبعثه وإعادته إلى الحياة من جديد.
وقد ذكر القرآن الكريم مذهبهم هذا في
مواضع عديدة، وبين بطلان حججهم، وفساد قولهم، وأكد على عقيدة البعث والنشور بجملة
وافرة من الأدلة والحجج الدامغة:
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا
أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى
أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)﴾ (الإسراء)، أي فالذي
فطركم، وابتدأ خلقكم من العدم قادرٌ على أن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى .. أما وقت
ذلك ومتى يكون؟ فعسى أن يكون قريباً، ذلك أن هذه الحياة الدنيا مهما تمتد مدتها
ويتطاول زمانها، لن تكون شيئاً إذا قورنت بالآخرة التي لا نهاية لها.
ومنه قوله تعالى :﴿ وَكَانُوا
يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
(47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ
(49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)﴾ (الواقعة)، أي
إن الجمع لن يقتصر عليكم وحدكم، بل سيشمل من بعدكم ومن قبلكم، ويتناول أبناءكم
وأحفادكم، كما يتناول آباءكم وأجدادكم، ولن يغيب عنه أحد.
ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا
أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾ (السجدة:10)، ثم يأتي الجواب تلقيناً
للرسول r ، وبياناً لحقيقة جديدة لم يكونوا يؤمنون بها، حقيقة وجود ملك
موكل بقبض أرواح الناس، ثم تأكيد حقيقة البعث، والرجوع إلى الله سبحانه :﴿
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ (السجدة:11)
ومنه قوله تعالى :﴿
يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا
هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)﴾
(النازعات)، ففي هذه الآيات الكريمة نجد الإنكار يبلغ بالمشركين غايته، فيتساءلون:
هل سيُردون مرة أخرى إلى الأرض، ويرجعون ثانية إلى الحياة؟ أبعد أن يكونوا عظاماً
نخرة بالية يمكن أن يُبعثوا؟ إنها لكرة خاسرة، وإنهم لخاسرون إذا بُعثوا، ولأنهم
يحرصون على الربح دائماً، فلو كان لديهم أدنى احتمال في وقوع الآخرة لآمنوا بها حتى
لا يخسروا، ولكنهم متيقنون أنه لا آخرة ولا بعث.
ويأتي الجواب القرآني على هذا الصلَف
والعناد :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)﴾ (النازعات)
أي أن الأمر أهون بكثير مما يتصور
هؤلاء الجاهلون! إنما هي زجرة واحدة، نفخة واحدة في الصور، فإذا هم ينهضون من
قبورهم، وقد عادوا إلى الحياة، ودبت الأرواح في أجسادهم، وعندئذ يواجهون الحقيقة
التي كانوا يجحدونها.
ومنه قوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ (79)﴾(يس)، أي أن هذا المشرك الجاحد يتساءل قائلاً :﴿ مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟﴾ ، فيأتي الجواب القرآني لهذا المشرك
الذي نسي أنه خُلق من عدم، وكان بعد أن لم يكن :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾، وهو جواب
مفحم ملزم، لأن المشركين لا يستطيعون أن يجادلوا في حقيقة وجودهم بعد العدم.
وهكذا نجد القرآن الكريم يرد على
المشركين مبيناً بطلان ما تشبثوا به من حجج واهية، وضلال ما ذهبوا إليه من اعتقاد،
ويبين ـ مع ذلك ـ العقيدة الصحيحة التي يجب أن يؤمن الناس بها إن كانوا يحترمون
أنفسهم وعقولهم.
بعد أن درسنا بالتفصيل ما يرتبط
بمناهج الحوار مع العامة، وكيفية إجابتهم على ما ينتشر بينهم من شبهات، انتقلنا
إلى الفرع الرابع من فروع قسم السعة، وهو الفرع المسمى (الأحبار)، وقد كتب على باب
هذا الفرع قوله تعالى :﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ
وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ (العنكبوت:46)
وقد كان هذا الفرع من أهم الفروع
الدراسية في هذه المدرسة، وقد استفدنا منه مناهج كثيرة في التعامل مع أحبار
الأديان المختلفة ..
لا يمكنني أن أذكر لك كل ذلك، ولكني
سأذكر لك حادثة وقعت بين بعض زوار هذه المدرسة والغزالي .. سأحكيها لك بحروفها ..
فقد كانت هذه الحادثة من أهم ما رغبنا في الدراسة في هذا الفرع.
بمجرد أن دخلنا إلى هذا الفرع، رأينا
رجلا جسيما صاحب لحية طويلة، يمسك بالغزالي بشدة، ويقول: اتق الله يا رجل .. ما
الذي تريد أن تفعل بالمسلمين؟ .. ألم ترتدع وقد حرق سلفنا كتب جدك؟
ابتسم الغزالي، ولم يرد عليه ..
أردنا أن نتدخل، فنهرنا .. ثم قال للرجل الذي لا يزال يمسك بتلابيبه: رويدك ـ يا
أخي ـ فلا يمكنني أن أنتصح لما لم أنصح به .. انصحني ـ أولا ـ ثم عنفني كما تشاء.
أطلق الرجل الغزالي، ثم قال : لك
الحق في هذا .. لقد استفزني الغضب لله، ولرسول الله، فرحت ـ من غير شعور ـ أفعل ما
أفعل.
قال الغزالي: تعال نجلس .. ولتذكر
حجتك بتفاصيلها .. وليكن هؤلاء شهودا على ما نقول .. ألسنا في مدرسة حوار؟
جلس الغزالي مع الرجل، وجلسنا في محل
قريب منهما نسمع ما يقولان:
قال الرجل: لقد مررت على جمع هنا
يقول كلاما تنهد له الجبال.
قال الغزالي: وما يقولون؟
قال الرجل: كله كفر وضلال .. فكيف
أردده عليك؟
قال الغزالي: ألك حجة على إنكار ذلك؟
قال الرجل: بل لدي حجج كثيرة .. منها
ما يرتبط بمصادرنا المقدسة، ومنها ما يرتبط بواقعنا[53].
قال الغزالي: يسرنا أن نسمعها منك،
فحدثنا .. وابدأ بالدين .. فالدين مقدم على الواقع .. فلا اجتهاد مع نص.
قال الرجل: أول ذلك، وأبلغه قوله
تعالى :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ (آل عمران:64)،
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ
اتَّبَعَنِي ﴾ (آل عمران:20)، وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ
فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الحج: 68)، فهذه الآيات
الكريمة وأمثالها تغلق الباب أمام الحوار في العقائد، حيث أنها تحث النبي r في حال المجادلة على تفويض الأمر إلى الله،
وعدم الخوض في الحوار الكلامي مع الآخرين.
هذا زيادة على أن قضايا العقيدة
الإيمانية، يتعذر إخضاعها للمحاجة والجدل، ومن ثم ينبغي أن يترك شأنها لرب القلوب
والضمائر.
قال الغزالي: فما تقول في قوله تعالى
:﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
(العنكبوت: من الآية46)
قال الرجل: هذه الآية تتعلق بالأمور
الدنيوية المتصلة بالمعاملات الدائرة في إطار التعايش في علاقة المسلمين بغيرهم،
فالخلاف حول العقائد يتعذر تجاوزه أو حتى الوصول فيه الى حل وسط، بل إن الحوار في
مثل هذه الأمور العقدية قد يبعد ولا يقرب، ويورث المرارة ولا يبددها.
قال الغزالي: هذه حجتك الدينية، فما
حجتك الواقعية؟
قال الرجل: لدي سبعة حجج واقعية لن
تملك إلا التسليم لها.
قال الغزالي: فما أولاها؟
قال الرجل: لقد رأيت أن الحوار ما هو
إلا وسيلة أراد القائمون عليه من خلالها اختراق عقول صفوة المفكرين المسلمين
بهدف تحييدهم واخراجهم من دائرة الحوار الحقيقي، وذلك بإضفاء صفات السماحة
والعصرية والتحضر والمرونة والتنوير وغير ذلك من المصطلحات التي تطلق على بعض
المشاركين في هذه المؤتمرات، والذين يختارون بعناية لكسب صداقتهم وتمييع حماسهم
للدعوة الإسلامية، ومقاومة التبشير في بلادهم، واستخدامهم أدوات ضغط لتحقيق
مكاسب للكنيسة، مثل التوسع في بناء الكنائس، وكسر الموانع الشرعية لزواج المسلمة
بالكتابي، وإلغاء حكم الردة.
من الأمثلة القريبة على ذلك ندوة الحوار
الاسلامي المسيحي التي عقدت في طرابلس ليبيا عام 1976م، باشراف ودعوة الفاتيكان
ووزارة الخارجية الليبية، إذ كان من النتائج التي أسفرت عنها الندوة افتتاح
الكنيسة الكاثوليكية في مدينة بنغازي في الشهر الثاني عشر من عام 1977م.
ومن الأمثلة القريبة اللقاء الإسلامي
المسيحي التحضيري الذي عقد في جنيف بسويسرا عام 1968 بدعوة واشراف مجلس الكنائس
العالمي، وكان من ضمن الموضوعات التي بحثت فيه قضية الردة وأحكامها في الشريعة
الإسلامية، وهدف المؤتمر إلى الحث على إلغاء قانون الردة في الإسلام، وبعد نقاش
مستفيض للمسألة أصدر المؤتمر من ضمن توصياته توصية بالغائها.
قال الغزالي: هذه الأولى .. فما الثانية؟
قال الرجل: الثانية أخطر من الأولى
.. فإن هدف مؤتمرات الحوار مع الأحبار تذويب الاسلام عن طريق الإخاء الديني
والحوار بين الأديان في ظل الدعوة الابراهيمية، ومثل هذه الدعوات دعوات خطيرة
وخبيثة تستهدف عقيدة التوحيد عند المسلمين تحت شعار الوحدة بين الأديان، وما تفرع
عن ذلك من محاولة طبع القرآن والتوراة والانجيل في غلاف واحد، وبناء مسجد وكنيسة
وبيعة في محيط واحد.
ولخطورة هذه الدعوة أصدرت اللجنة
الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالسعودية فتوى جاء فيها: (لا يجوز لمسلم يؤمن
بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ورسولاً الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة
والتشجيع عليها وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في
مؤتمراتها وندواتها)
قال الغزالي: هذه الثانية.. فما الثالثة؟
قال الرجل: اختراق اليهود الصهاينة
لمؤتمرات الحوار .. فأصابع إسرائيل
المنبثة في دوائر الفاتيكان ليست بعيدة عن فكرة الحوار، وأنَّ شعار
السلام الذي يشار اليه عادة كهدف للحوار يوظف في ذلك الاتجاه بشكل جاد، لكي
ينتهي سلاماً مع إسرائيل وتصالحاً مع مشروعها الاستيطاني.
ولعل أثر هذه الحركات والجماعات
الصهيونية يظهر في مواقف المتحاورين المسيحيين من القضايا المتعلقة بإسرائيل، ففي
المؤتمر الذي عقد بطرابلس رفض الجانب المسيحي المشارك في الندوة التصديق على
الفقرتين (20 و21) من قررات وتوصيات البيان المشترك، وكانت الفقرتان تتعلقان
بالقضية الفلسطينية والصهيونية العالمية، وحوَّل الجانب المسيحي هاتين الفقرتين
الى الفاتيكان للتصديق عليهما، ولكن الفاتيكان رفض التصديق عليهما أيضا.
كما يذكر أنَّ أحد كبار المسؤلين في
الفاتيكان عقد اجتماعاً في الأزهر مع لجنة الحوار، وطولب المجتمعون بأن يصدروا
بياناً يدين الممارسات الإسرائيلية في القدس والأراضي المحتلة، فأصر الجانب
الفاتيكاني على الرفض القاطع، وبعد إلحاح صدر البيان يدين إسرائيل والفلسطينيين
معاً، ولم يذكر كلمة واحدة عن مآسي فلسطين.
قال الغزالي: هذه الثالثة.. فما الرابعة؟
قال الرجل: أنت ترى عدم اعتراف
المسيحية بالإسلام كدين سماوي، وعدم اعترافهم بنبوة الرسول r، بل هم يعتبرون الإسلام ثقافة وحضارة تماما كما يضعون البوذية
والهندوسية والكونفوشيوسية، بنفس المنزلة، في الوقت الذي يعترف فيه الاسلام
بالمسيحية، ويشيد بكلمة الله المسيح، ويكرم من سماهم قسيسين ورهبانا.
وقد فسر يعض المسيحيين سبب إعراضهم
عن الاعتراف بمشروعية النبي والإسلام أنه
بقود في النهاية إلى إلغائهم، بينما عدم اعترافهم يشكك في مصداقيتهم في
الاعتراف بالإسلام كدين ،وبحقيقة الوحي الإلهي للرسل والأنبياء.
قال الغزالي: هذه الرابعة.. فما الخامسة؟
قال الرجل: ضعف استراتبجية المتحاور
المسلم، فبينما المحاور المسيحي ينطلق في حواره من استراتيجية متكاملة، ويمارس
الحوار برؤى وآليات متسقة تخدم أهدافه وغاياته بكل جدارة وموضوعية، نجد أن الطرف
الإسلامي المحاور يتعامل مع الحوار بعفوية، الأمر الذي يستلزم ترتيب البيت من
الداخل أولا، ووضع استراتتيجية وخطط مرحلية تحكمها منطلقات وثوابت على أساس من
قيم الدين والهوية الإسلامية والمصلحة الحضارية.
قال الغزالي: هذه الخامسة.. فما السادسة؟
قال الرجل: لقد رأيت أنه في الوقت
الذي يدعو فيه منظمو الحوارات من الغربيين إلى التعايش بين الأديان، نجد أن
الكنيسة تنطلق في مجالات التبشير بين المسلمين وتبذل الجهود ومختلف الوسائل
المشروعة وغير المشروعة لردتهم عن دينهم.
انظر .. فرغم تغير موقف الفاتيكان
وإعلانه الاعتراف بالمسلمين كأصحاب ديانة، ودعوته إلى التعايش معهم، فقد صدرت
العديد من التصريحات من رجال الكنيسة، وعلى رأسهم البابا، تدل على أن الكنيسة
الكاثوليكية لم تغير موقفها من استهداف المسلمين كمجال للتنصير[54]، بل تؤكد على أن الحوار في رأيهم وسيلة من وسائل التبشير، ومن
تلك التصريحات:( إن الحوار بين الديانات يشكل جزءاً من رسالة الكنيسة التبشيرية،
فهو باعتباره طريقة ووسيلة لمعرفة
وإغناء متبادلين، لا يتعارض مع
الرسالة إلى الأمم ، إنه بالعكس يرتبط بها، بنوع خاص وهو تعبير عنها)
ثم يستطرد التصريح إلى التأكيد على
أنَّ الخلاص يأتي من المسيح، وأنَّ الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل،بل إن
الكنيسة لا تعتبر أن هناك ثمة أي تعارض بين البشارة بالمسيح والحوار بين
الديانات.
فالكنيسة ترى أنه لا تعارض بين
الحوار والتبشير،وأن باستطاعة الحوار أن يمضي نحو غايته دون أن يعطل مسيرة
التبشير، بل إن الكنيسة تؤكد أن الحوار يخدم أغراض التبشير، لما يترتب عليه
من المعرفة الجيدة بالديانات والحضارات
الأخرى.
ويعبر البابا صراحة عن الهدف
التنصيري من وراء دعوات الحوار، قائلاً: (إنَّ الكنيسة تستعمل الحوار لكي تحسن
حمل الناس عن الارتداد والتوبة عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديدا في ضوء سر
الفداء والخلاص، إن الحوار الصحيح يرمي إذن بادىء ذي بدء الى تجديد كل الناس
بالارتداد الباطني والتوبة مع احترام كل الضمائر)
ويعلن البابا عن خطة مرحلية يتم فيها حسب زعمه
تنصير العالم بنهاية القرن العشرين، وأطلق
على تلك الخطة الاستراتيجية عبارة: Inculturation
بمعنى اختلاط الثقافات أو التهجين hyberdization
بين الثقافات،وتهدف الى استغلال التقارب بين الأديان من أجل نشر المسيحية والدعوة
الى اعتناقها.
وفي (العظة الرسولية، وتبليغ التعليم
الديني) يؤكد البابا عام 1979 على أهمية تغيير العالم، وخاصة في بلدان ما بعد
الشيوعية خشية من استمرارها في الإلحاد، أو من تحولها إلى الإسلام، ومن هنا بات
ضرورة ـ كما يقول ـ ضرب الإسلام، لأنه يمثل الملجأ الوحيد أمام الذين يكفرون
بمسيحيتهم عند اكتشافهم كل ما جرى في عقيدتهم من تحريف، ولا يمكنهم العيش في
الإلحاد.
ونتيجة لهذه التصريحات نجد أنه لا
غرابة أن يشكك كثير من علماء المسلمين في مؤتمرات الحوار، ويعتبرونه أسلوباً من
أساليب التنصير، لقد سمعت بعضهم يقول :( إنَّ الحوار بين الأديان أسلوب جديد من
أساليب التنصير والتبشير والغزو الفكري حيث أنَّ الحوار ظاهره الرحمة وباطنه
العذاب.. ففي الوقت الذي كان فيه الفاتيكان يدعو للحوار نرى الفاتيكان يتحرك وعلى
مدى امتداد ساحة العالم ليهاجم الإسلام في معاقله، وليدمر قواعد الإيمان في
بلاده، وليشكك المسلمين في النبي الخاتم)
وسمعت آخر يقول:( لا نستطيع أن نمضي
في الحوار، بينما تتعرض العديد من
المجتمعات الإسلامية التي تعاني الفقر والحاجة للإختراق من قبل المنظمات
التبشيرية، واذا لم تكن القيادات الإسلامية قادرة على تقديم العون لهم، فعليها على
الأقل أن تمتنع عن دعم الطرف الذي يحاول اختراقهم وإخراجهم من ملتهم، حتى ولو كان
الدعم أدبياً ومعنوياً، والأمر المؤكد أنَّ إجراء الحوار هو في جانب منه يعد من
قبيل ذلك الدعم)
قال الغزالي: هذه السادسة.. فما السابعة؟
قال الرجل: لعلك تعلم أن النصف
الثاني من القرن العشرين شهد سيلا من الحوارات بين المسلمين والمسيحيين، وخلال هذه
الفترة التي تقرب من الخمسين عاماً، عقدت مئات المؤتمرات في أنحاء عدة من العالم
امتدت من استراليا وماليزيا مرورا بالعالم العربي وأوروبا إلى أمريكا وكندا، وقد
اتخذت تلك الحوارات أشكالا متعددة وأنواعا
مختلفة، وقد نظم تلك الحورات ودعمها جهاتٌ عديدة.
ومن خلال استقرائي لتلك المؤتمرات
وجدت أنها لا يمكن أن تخدم الإسلام بحال من الأحوال، بل إنها لا تزيد المسلمين إلا
شكا في دينهم وبعدا عن قيمه ومبادئه.
سأذكر لك بعض النماذج عن ذلك:
لقد حضرت (المؤتمر الإسلامي المسيحي الأول)،
الذي عقد بضاحية بحمدون قرب بيروت في (22-27/4/1954م)، وهو من أشهر المؤتمرات في
هذا المجال، وقد قامت بالإعداد له جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية .. وقد
رأيت أنه أرادا أو أريد به تحقيق هدفين أساسيين:
أما أولهما، فامتصاص نقمة العرب على
بريطانيا وفرنسا بسبب تخليهما عن الوعود التي التزمتا بها للعرب بإقامة الدولة
العربية الواحدة، وتواطئهما على إنفاذ وعد بلفور بإقامة وطن لليهود في فلسطين.
والثاني: محاولة ربط الإسلام
والمسلمين بحركة عداء الغرب الراسمالي
للشيوعية التي قامت في الاتحاد السوفياتي والصين، وبدأت تنتشر في أوروبا الشرقية
ومناطق عديدة أخرى في آسيا وأفريقيا.
ومن المؤتمرات التي حضرتها: مؤتمرين
عقدهما المجلس العالمي للأديان، وهو من المنظمات التي ابتدرت الحوار بين المسيحية
والإسلام.
أما أولهما، فعقد بلندن عام 1936م،
وأما الثاني، فعقد بجامعة السوربون في باريس عام 1937م.
وقد كان الدافع للمؤتمر الأول السعي
إلى نبذ التقاتل بين أتباع الأديان، واتجاه الجميع لمواجهة التحديات التي تواجههم
من إباحية جامحة ومادية مستحكمة.
بينما هدف المؤتمر الثاني إلى دراسة
أوضاع العالم الذي كان على أبواب الحرب العالمية الثانية.
ومن المؤتمرات التي حضرتها المؤتمرات
التي عقدها مجلس الكنائس العالمي، وهو من المنظمات التي كان لها دور كبير في إثارة
الحوار الإسلامي المسيحي، والإشراف عليه.
لقد صحب تأسيسه عام 1948، تأسيس
دائرة خاصة للتبشير والدراسات التبشيرية، كما وضع مؤسسوه مشروعاً دراسياً حمل
عنوان :( كلمة الله والأديان الحية للبشر)
ومن القضايا الحساسة التي طرحتها هذه
المؤتمرات مسألة الردة التي ناقشها المؤتمر الإسلامي المسيحي التحضيري الذي عقد
عام 1968، وأصدر توصية بإلغائها.
سكت الرجل، فقال الغزالي: هل فرغت ـ
يا أخي ـ من ذكر حججك؟
قال الرجل: وهل ترى أن مثل هذه الحجج
يمكن أن تقاوم .. إنها الصارم المسلول المجهز على كل محاور مشلول؟
قال الغزالي: فهل تأذن لي في أن أدلي
بحججي؟
قال الرجل: تحدث كما تشاء .. ولكن
إياك وبديهيات الدين .. فلا ينبغي أن يناقش أحد في البديهيات.
قال الغزالي: سأكتفي بأربع حجج ..
وستجد فيها الجواب المفصل على ما ذكرته، فلا تقاطعني حتى أكملها لك واحدة واحدة.
قال الرجل: فما أولاها؟
قال الغزالي: القرآن
الكريم
.. اذهب، وافتح القرآن الكريم، فستجده يقرر في مواضع كثيرة مبدأ الحوار مع أهل
الكتاب وغيرهم، بل يضع ضوابط الحوار معهم، ويدعو إلى استخدام أرقى أنواع الخطاب
وألطف العبارات في الحوار.
بل إنه فوق ذلك يقدم العديد من
النماذج لأنواع من الحوار..
بل إنك في قراءتك للقرآن الكريم تجد
كل شيء قابلا للحوار، فلا مقدسات ولا محرمات في الحوار، حتى في وجود الله تعالى
وشخصية النبي r، فنحن نعلم أن القرآن الكريم بسط كل هذه الموضوعات للحوار مع أهل
الشرك والإلحاد فقد عرض لكل المفردات التي اتهم بها النبي r في شخصه وفي رسالته: هل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبي؟ كاذب أم
صادق؟ قرآنه بشري أم إلهي؟ .. ثم عالج القرآن كل هذه المسائل بكل موضوعية وعلمية.
قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ (النحل:
103)، وقال:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ (النحل: 24)
ولعل التحدي الكبير الذي ردّ القرآن
الكريم عليه هو قولهم (إنه لمجنون)، فانظر كيف حاورهم في هذا المجال :﴿
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ (سبأ: 46)
إن الإنسان، وهو داخل اتجاه فكري
جماعي لا يستطيع أن يكون محايداً، بل سيكون متابعاً للكثرة وللجو الصاخب، ولكن
القرآن الكريم يدعوهم أن يبتعدوا قليلاً عن مثل هذه الأجواء، وأن يتفرقوا اثنين
اثنين، أو فرادى واحداً واحداً، ثم يتفكروا في كلمات الرسول r وفي شخصه الكريم فسيرون عندها أنه ليس بمجنون.
بل إن الله تعالى مع عظمته وقدسيته
حاور إبليس، قال تعالى :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طِينٍ ﴾ (لأعراف:12)
وذكر القرآن الكريم حواره تعالى مع
ملائكته، قال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
ويذكر القرآن الكريم أن إبراهيم u
حاور الملائكة، بل اعترض عليهم، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا
إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ
إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ
كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)﴾ (العنكبوت)، بل إن الله سمى حواره
للملائكة جدالا، وهو دليلا على تكرر مراجعته لهم، قال تعالى :﴿ فَلَمَّا
ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي
قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا
إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ
آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)﴾ (هود)
وفوق هذا كله، فإن القرآن الكريم
يحاور أهل الكتاب في قضايا دينهم، لا يترك في ذلك قضية من القضايا الكبرى إلا
طرحها.
بل إنه ـ فوق ذلك كله ـ أمرنا
بحوارهم دون أن يستثني عقيدة أو غيرها، قال تعالى :﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46)
فهذه الآية الكريمة ـ فضلاً عن
مطالبتها بالجدال بالتي هي أحسن ـ كأنها تقول للمسلمين: إذا لم يكن في جعبتكم
الأسلوب الأحسن في الجدال فلا تجادلوا أهل الكتاب.
وهي دعوة صريحة للحوار مع أهل
الكتاب، حوار يركز على الانطلاق من مواطن اللقاء في الفكر والرسالة، والقواسم
المشتركة مع أهل الكتاب، وعلى هذا الأساس كانت الدعوة إلى بدء الحوار من قاعدة
مشتركة في قضية الإيمان التي يمكن أن توحي بإمكانية اللقاء في القضايا الأخرى..
قاطعه الرجل قائلا : ولكن الولاء
والبراء[55] ..
قال الغزالي: ألم أطلب منك أن تمهلني
إلى أن أكمل حججي الأربع؟
قال: لا بأس .. قد وعيت الأولى ..
فاذكر لي الثانية.
قال الغزالي: الثانية هي السنة
المطهرة
.. ففي السنة المطهرة الكثير من النصوص الدالة على أن رسول الله r
حاور من جاءه من أهل الكتاب سواء كانوا من اليهود أو النصارى ..
لاشك أنك تعرف كيف قابل رسول الله r
نصارى نجران وإحسانه وفادتهم وسماحه لهم بالصلاة في مسجده، وفوق ذلط محاورتهم في
أمور الدين .. وهكذا وحواره r مع اليهود، ودعوتهم للإسلام.
وهكذا فعل صحابته ـ رضي الله عنهم ـ
في عهده، فأقرهم .. لاشك أنك تعرف ما جرى في مجلس النجاشي بأرض الحبشة بين مهاجري
المسلمين والوفد القرشي الذي ذهب لردهم، حيث تلى جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه
ـ قدرا من سورة مريم يخبر عن المسيح وأمه مريم، وانتهى الحوار بمناصرة النجاشي
للمسلمين على وفد قريش، والإذن لهم بالاقامة في الحبشة ما شاءوا معززين مكرمين.
ولاشك أنك تعرف ما وقع في مجلس هرقل
ملك الروم، بإيلياء (بيت المقدس)، وتولى عرض الإسلام دحية الكلبي الذي كان رسول
رسول الله r إلى هرقل،وانتهي الحوار بقبول هرقل لرسالة النبي إليه[56].
ولاشك أنك تعرف ما وقع في المدينة
المنورة بين الرسول r وبين وفد نجران الذي جاء محتجاَ
على وصف عيسى بن مريم u بأنه بشر وليس إلهاَ ولا ابن إله، وقال رسول الله r
: نعم إنه أخي وإنه عبد الله ورسوله،وأن الله تعالى لم يلد ولم يولد، ودعاهم
الرسول r إلى الإسلام، فأبوا فدعاهم الرسول إلى المباهلة،فرفضوا وقبلوا
الجزية، وأعطاهم الرسول عهد الأمان مؤكدا
فيه الالتزام التام بحمايتهم والدفاع عنهم، وحماية دور عبادتهم ضامناً لهم الحرية
في العبادة وممارسة شعائرهم[57].
قال الرجل: وعيت الثانية .. فاذكر لي
الثالثة.
قال الغزالي: الثالثة هي مقاصد
الشريعة ..
فقد ورد في النصوص الكثير الإخبار بأن الأمور بمقاصدها، ولا يمكن لأحد أن يحرم ما
ثبتت مصلحته، أو يبيح ما ثبتت مفسدته.
قال الرجل: وهذا الذي دخلت إليك منه
.. فإن مقاصد الشريعة هي دليلي الذي اعتمدت عليه في تحريم الحوار.
قال الغزالي: ومقاصد الشريعة هي
دليلي الذي أعتمد عليه في الدعوة إليه.
قال الرجل: كيف ذلك؟
قال الغزالي: بغض النظر عن الاستعمال
السيء للحوار، فإن نتائجه الإيجابية لا شك فيها، سأذكر لك بعضها.
أولا .. لقد رأيت أن الحوار هو
أحد السبل الكبرى لتقريب وجهات النظر بين
الأديان، وإزالة سوء الفهم القائم بينها، ومن ثم تحقيق التعايش السلمي بين الناس
.. وذلك هو السبيل الأمثل لعرض الإسلام، فلا يمكن أن يعرض الإسلام إلا في جو
السلام.
ثانيا .. لقد حققت بعض المؤتمرات
الحوارية نتائج إيجابية تشجع على الاستمرار فيه، ومن ذلك ـ مثلا ـ المؤتمر الذي
دعت له وأشرفت عليه جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية في إسبانيا، وشارك فيه قرابة
مائتي باحث وعالم مسلم ومسيحي، وكان تحت عنوان (التقدير الإيجابي لمحمد والمسيح ـ
عليهما الصلاة والسلام ـ في المسيحية والاسلام) .. فقد صدرت عن هذا المؤتمر عدة
توصيات منها الاعتراف من قبل الجانب المسيحي بأنَّ الإسلام دين سماوي،وأنَّ محمداً
r نبيًٌ ورسولٌ من عند الله تعالى .. ومنها تكليف فريق من قبل
الجانب المسيحي بدراسة مائتين وخمسين كتاباً يتداوله التلاميذ في مختلف المراحل
التعليمية في إسبانيا، وحصر وتصحيح العبارات التي تشوه صورة الإسلام ونبيه محمد r،
واستبعاد كل ما هو مختلق ومكذوب منها.
ثالثا .. إظهار محاسن الإسلام،
ومحاربة الصور السلبية عنه، فعن طريق الحوار يمكن عرض محاسن الإسلام، وبيان ما
يتسم به من شمول وكمال وتنظيم لعلاقة الإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين خالقه
وبينه وبين أخيه الانسان وبينه وبين سائر المخلوقات.
كما يمكن أن يكون الحوار وسيلة لمحو
الصورة المشوهة للإسلام في العالم الغربي، والتي أسهمت في رسمها جهات عديدة، من
بينها الكنيسة ، وعبر قرون طويلة، من خلال
بث الحقد والكراهية ضد المسلمين ودينهم، ورمي الاسلام عقيدة وشريعة بكل
المثالب والنواقص، وبخاصة في الكتب والدراسات التي تحدثت عن الاسلام.
كما يمكن أن يكون الحوار وسيلة
لتنقية الكتب المدرسية التي تدرس في مدارس الدول الغربية المسيحية، وتصفيتها من كل
الشوائب والتشويهات والأفكار الخاطئة التي لحقت بالإسلام.
رابعا .. يمكن أن يكون الحوار سبيلاً
للتعاون بين أهل الأديان في صد الهجمة الشرسة التي يشنها أهل الباطل على الإيمان
وعلى الأخلاق الفاضلة والمثل النبيلة التي جاءت بها الأديان جميعاً.
فالقيم المشتركة بين أصحاب الأديان السماوية يمكن
أن تشكل رابطاً حقيقياً بينهم تدفعهم ـ
رغم ما يوجد بينهم من خلافات ـ إلى أن
يتعاونوا في العديد من الميادين التي تهمهم جميعا، لا سيما في مجال القيم الدينية
والأخلاقية، وقيم العدل ورفع الظلم عن الناس.
ومن ذلك ـ مثلا ـ الوقوف ضد الإلحاد
في العقيدة، ورد الدعوات اللادينية التي ترمي إلى هدم العقائد الإيمانية، والتي
أصبحت خطراً يتهدد القيم الإنسانية في
مجالات الاقتصاد والسياسة والأسرة والأخلاق .. فاللقاء بين الأديان أمر ضروري لصد
ذلك الخطر، ورد الهجمة على الإيمان وعلى الأخلاق الفاضلة والمثل النبيلة التي جاءت
بها الأديان جميعا.
ومن ذلك، التصدي لدعاة الإباحية
الداعين إلى الخروج على القيم الإنسانية والأخلاق الفاضلة ممن ينادون بالحرية
المطلقة والإباحية الأخلاقية والفوضى في العلاقات الجنسية، وعدم القيد في السلوك
والخروج على القيم والآداب.
وقد حدث أن تم تعاون في مؤتمر السكان
في القاهرة عام 1994م، وفي مؤتمر بكين عن المرأة عام 1995م، ووقفت الكنيسة
الكاثوليكية، وممثلو الفاتيكان، مع رجال الأزهر ورابطة العالم الاسلامي، وجمهورية
إيران الاسلامية، جنبا الى جنب ضد دعاة الاباحية.
ومن ذلك مناصرة قضايا المستضعفين،
والتعاون بين أتباع الأديان المختلفة، لدعم قضايا العدل، وقضايا المستضعفين في
الأرض، ومناصرة الشعوب المظلومة التي تعاني ما تعاني من اضطهاد وقتل وتشريد وهتك للأعراض
وسفك للدماء وتدمير للبيوت والممتلكات ودور العبادة والمدارس.
قال الرجل: إن ما ذكرته من نتائج
إيجابية يستدعي حصر الحوار في مواضيع محددة لا يتجاوزها حتى لا يفسد علينا عقيدة
الولاء والبراء.
قال الغزالي: لقد رأيت ـ من خلال
الواقع، ومن خلال النصوص المقدسة ـ أن كل المواضيع يصلح الحوار فيها ..
فالله تعالى يقول :﴿ قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
ففي هذه الآية الكريمة بدأ الله
تعالى بذكر الحوار العقدي .. نعم هم الآن ينفرون من هذا النوع من الحوار .. ولكن
لابد لنا من دعوتهم إليه .. لنقيم عليهم الحجة.
ثم ثنى بقوله :﴿ وَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، وانطلاقا من
هذا يمكن أن يثير المحاور المسلم إشكالية العلاقة السياسية بين الغرب الصليبي
الاستعماري والعالم الإسلامي، وهي المسألة التي تحمل في طياتها مسائل السيطرة
الاستعمارية، وحروب العدوان الدولي، والحصار التجويعي، والاستغلال الاقتصادي،
ومحاولات سحق الآخر، وعدم الاعتراف له بحقه في الاستقلال الثقافي والحضاري، وحقه
في التنمية، بل حتى الاستقلال الذي هللت له الشعوب الإسلامية حوّله الغرب
الاستعماري إلى شكل من أشكال الاستعمار غير المباشر.
وبما أن الغرب هو المسؤول الأول عن
طبيعة هذه العلاقة بيننا وبينهم، ولهذا فإن الحوار الإسلامي المسيحي مطالب بمواجهة
شجاعة لهذه الإشكالية.
بالإضافة إلى هذين الموضوعين يمكن أن
يطال الحوار موضوع المفاهيم الأخلاقية العامة التي يلتقي فيها الإسلام بالمسيحية
في معظم المواطن من أجل وضع القاعدة المشتركة التي تحكم الواقع السلوكي للإنسان
المسلم والمسيحي.
بالإضافة إلى هذا يمكن استثمار
الحوار في مناصرة المستضعفين في الأرض .. لقد ذكر رسول الله r هذا، فعن جبير بن مطعم، وطلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنهما ـ
قالا: قال رسول الله r : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر
النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت)[58]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن
رسول الله r قال: (ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي، وما
أحب أن لي به حمر النعم، وأني كنت نقضته)[59]
فإذا كان اللقاء مع أهل الشرك من
قريش في سبيل نصرة المظلومين استحسنه رسول الله r، ولو دعي إلى مثله في الإسلام فأجاب، فأولى أن تعقد الأحلاف مع
غيرهم، فهم أقرب إلينا من الملحدين والمشركين لأجل نصرة المظلومين.
قال الرجل: وعيت هذا، فما حجتك
الرابعة؟
قال الغزالي: التاريخ
الإسلامي
..
قاطعه الرجل قائلا: قد كنت أحسبك
عاقلا .. متى كان التاريخ الإسلامي حجة؟
قال الغزالي: اصبر علي .. وسترى أن
الكل يحتج به ..
قال الرجل: سأصبر .. فاذكر ما تريد.
قال الغزالي: لقد شهد التاريخ
الإسلامي الكثير من الحوارات بين المسلمين وغيرهم، وخصوصا المسيحيين منهم .. وقد
تنوعت أساليبها وطرقها ما بين حوارات فردية، وحوارات خوطبت بها جماعات هنا وهناك،
وحوارات أخذت شكل رسائل أو كتب أريد بها إحقاق الحق وكشف زيف الباطل.
وكان الهدف من تلك الحوارات جميعاً
الدعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة على الناس ببيان محاسنه وفضائله وحثهم على
اتباعه، وبيان ما عليه المشركون من ضلال، وما وقع فيه أهل الكتاب أو غيرهم من
أصحاب الملل والنحل من انحراف.
قال الرجل: فحدثني عن الحوارت
الفردية.
قال الغزالي: لقد سجلت كتب التراث
الإسلامي العديد من الحوارات التي جرت بين أفراد من المسلمين، وبين أصحاب الأديان
المختلفة، ومن ذلك الحوارات التي جرت مع النصارى،كحوارات المسعودي مع أبي زكريا
النصراني، الذي يقال انه كان متفلسفاً جدلاً، وكان محور تلك المحاورات معتقدات
النصارى حول (الثالوث) و(الصلب)، وغيرها من المعتقدات.
ومنها محاورة القاضي الباقلاني مع
ملك الروم التي بين القاضي خلالها مدى
الخطأ الذي يقع فيه النصارى عند نسبتهم الولد لله تعالى[60]، في الوقت الذي ينزهون أنفسهم عن ذلك.
ومنها الحوار الذي جرى بين فخر الدين
الرازي وقسيس من خوارزم، وأثيرت خلاله عدة قضايا يتعلق بعضها برسالة الرسول r
وشكه فيها، وبعضها بألوهية عيسى u .
ومنها حوارات الشيخ محمد عبده مع
القسيس إسحق تيلور الإنكليزي، ومع المستشرق غبريال هانوتو، وقد رد ـ خلالها ـ
الشيخ محمد عبده على مطاعن المستشرقين، وافتراءتهم ضد الإسلام.
ومنها حوارات الشيخ أحمد ديدات مع المنصرين
المسيحيين، والتي بلغت أكثر من 32 حواراً مع القساوسة في الولايات المتحدة
الأمريكية وبريطانيا وايرلنده وكندا وهونج كونج وسنغافورة والهند وزيمبابوي
وموريتانيا وملاوي، وفي موطنه الأصلي جنوب أفريقيا.
وقد أحدثت تلك المناظرات هزة في
عقيدة كثير من المسيحيين، ونتج عنها إسلام عدد كبير من المنصرين الذين دخلوا معه
في مناظرات ومساجلات من مختلف أنحاء
العالم، كما أعطت تلك المناظرات المسلمين ثقة أكبر بصحة دينهم وقدرته على مواجهة
الاعتراضات التي يثيرها الآخرون حول الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً.
ويدخل في هذا الباب الرسائل الحوارية
المتبادلة بين المسلمين وغيرهم، ومن بين تلك الرسائل (رسالة الحسن بن أيوب) (ت.
نحو:378ﻫ/988م) الذي أثار إسلامه تساؤلات لدي أخيه علي بن أيوب، فتضمنت
الرسالة كشفاً لأخطاء النصرانبة التي دفعته إلى تركها، وبياناً لفضائل الإسلام
التي دعته لاعتناقه.
ومنها (رسالة القاضي أبي الوليد
الباجي) ( ت.474ﻫ/1081م) التي كتبها رداً على رسالة أرسالها راهب فرنسي إلى
الأمير المقتدر بالله (ت.475ﻫ/1081م) داعياً إيَّاه إلى اعتناق المسيحية،
وقد جاء رد الباجي مدللاً على بطلان معتقدات النصارى في المسيح عارضاً لمحاسن الإسلام عقيدةً ونظاماً
وعبادةً وأخلاقاً، داعياً الراهب إلى الدخول في
الإسلام، وشرح صدره للاستماع لتعاليمه.
ومنها (رسالة أبي عبيدة الخزرجي)
(ت.582ﻫ/1187م) التي جاءت رداً على رسالة بعث بها قسيس مدينة طليطلة هاجم
فيها الإسلام منتصراً لديانته، فرد عليه أبو عبيدة مبيناً بطلان معتقدات النصارى،
وما عليه الإسلام من حق ومفنداً مزاعم القسيس.
ومنها (الرسالة القبرصية)، وهي رسالة كتبها
ابن تيمية الى سراجوس ملك قبرص، يدعوه فيها إلى الإسلام، ويبين العلاقة بين
الإسلام والمسيحية، ويوضح وسطية الشريعة
الإسلامية في العقائد والعبادات والأخلاق.
ويدخل في هذا الباب الكتب التي كتبت
ردا على أصحاب الديانات والملل المخالفة للإسلام ومفندةً ما أثاروه من شبهات او
أباطيل حول الإسلام، ومن تلك الكتب:
(الإعلام بمناقب الإسلام) لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري (ت.381ﻫ /992م)،
و(الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل) لأبي حامد الغزالي (450-505ﻫ)،
و(الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي، و(شفاء العليل في بيان ما
وقع في التوراة والإنجيل من التبديل) لأبي المعالي عبد الملك الجويني ( ت:478ﻫ)، و(الجواب الصحيح لمن
بدل دين المسيح) لابن تيمية.
ويلاحظ أنَّ جميع هذه الحوارات في
جملتها ومهما اختلف نوعها لا تخرج عن مضمون موضوعات الحوار القرآني الذي اهتم
بالدفاع عن العقيدة الإسلامية، وإبطال ما يخالفها من معتقدات، وبيان حقائق الدين
الإسلامي في مقابل أباطيل خصومه.
قال الرجل: وعيت هذا، فحدثني عن الحوارات
الجماعية؟
قال الغزالي: لقد سجلَّ التاريخ
الإسلامي أنواعاً من الحوارات الجماعية التي اتخذت أشكالاً مختلفة، معظمها جرى في
بلاط الخلفاء ، ومجالس الأمراء الأمويين
والعباسيين وغيرهم من ملوك وأمراء الدول الإسلامية ، وكان يشهدها الخاصة، وتتناقل أخبارها العامة.
ومن أفضل النماذج لذلك: الحوارات
التي جرت في مجلس الخليفة المأمون الذي اشتهر باهتمامه الثقافي، وإجادته لكثير من
فروع المعرفة، وإلمامه بالعلوم الشرعية واللغوية، وبعض العلوم التجريبية، فضلاً عن
حبه للفلسفة والجدل الكلامي.
وقد شهد مجلسه العديد من المناظرات
والحوارات التي كانت تجري بين أصحاب المذاهب الإسلامية فيما بينهم، وبينهم وبين
أصحاب العقائد والملل والنحل المخالفة لهم.
وقد كان للمعتزلة الذين اشتهروا
بالنظر والكلام ـ لا سيما كبار علمائهم كالنظام (ت: 221 ﻫ)، وأبو الهذيل
العلاف (ت:230ﻫ) ـ دور كبير في تلك المناظرات، حيث استغلوا ملكاتهم الفكرية
وذخيرتهم الثقافية والعلمية في محاورة النصارى والثنوية والديصانية والدهرية،
وألفوا الكتب رداً عليهم .
ومن الأمثلة على ذلك في عصرنا
المناظرة التي تمت بين المسلمين وطائفة من مسيحي جنوب السودان في الخرطوم بتاريخ
1/12/1980م، بدعوة واشراف: هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان والملحق الديني
للسفارة السعودية في الخرطوم، وقد جرت وقائع اللقاء في شكل أسئلة ألقاها الجانب
المسيحي، يتعلق جانب منها بالديانة المسيحية مثل: موقف القرآن من المسيح والإنجيل،وكيف تم النسخ والتحريف
في الانجيل كما يزعم المسلمون .. وغيرها من الأسئلة.
والجانب الآخر يتعلق بالإسلام، مثل:
حياة الرسول r، وكيفية نزول القرآن عليه.. وهل انتشر الإسلام بالسيف .. ولماذا
يحرم القرآن لحم الخنزير .. وغيرها.
وقد قام الجانب الإسلامي بالإجابة
على تلك الأسئلة، وانتهت المناظرة بإعلان القساوسة المسيحيين اعتناقهم الإسلام،
وقال المتحدث باسمهم: (إننا لا نملك أي رد غير إعلان الإسلام ديناً لنا، والتمسك
بكل قيمه ومثله لأنه الحق والنور لخير الأمم في الدنيا والآخرة)
هذه نماذج عن بعض الحوارات الجماعية
المرتبطة بالدين، أما ما عداها مما يرتبط بقضايا الحياة، فكثيرة .. وسلبية بعضها
لا يعني سلبية الجميع[61].
التفت الغزالي إلى الرجل، وقال: هذه
بعض حججي، فما تقول فيها؟
قال الرجل: ولكن .. سد الذرائع ..
ألا تعلم أن المفسدة مقدمة على جلب المصلحة؟
قال الغزالي: أنت تخاف على المسلمين
أن ينحرفوا إلى غير الإسلام.
قال الرجل: أجل .. أليس هذا الخوف
معتبرا؟
قال الغزالي: أجل هو معتبر .. ولكن
.. ألا تخاف على هذه البشرية التائهة عن الإسلام أن تموت على غيره؟
قال الرجل: هي تائهة لا محالة.
قال الغزالي: ولكنا مسؤولون عن تيههم
.. إذا جاءوا يوم القيامة، وقالوا: يا رب .. إن هؤلاء قاطعونا، وحرمونا من النور
الذي أنزلته، واستأثروا به دوننا، فما عسانا نجيب ربنا؟
قال الرجل: نقول: يا رب .. إنهم
أسمعونا كلاما عظيما.
قال الغزالي: ألا تعلم أن الحوار هو
الذي يكشف عن الجواهر، أم أنك تريد منهم أن ينافقوك، فيظهروا خلاف ما يبطنوا.
سكت الرجل قليلا، ثم قال: صدقت .. لا
أجد ما أجيبك به إلا أن أطلب منك أن تسمح لي أن أنضم إلى هذه المدرسة، فعسى الله
أن يفتح علي فيها من العلم ما أتمكن به من إنقاذ أخ من إخواني في الإنسانية من
ظلمات الجهل إلى نور الإسلام.
قال الغزالي: بورك لك هذه الهمة ..
وأبشر بما بشر به رسول الله r من يهتم بهمتك، فقال مخاطبا عليا ـ رضي الله عنه
ـ :( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب
عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر
النعم)[62]
***
مكثت في ذلك الفرع برهة طويلة من الزمن
درست خلالها كل ما جادت به قريحة علماء المسلمين في الحوار بينهم وبين سائر الملل
والنحل.
وقد عرفت من تلك الدراسة المفصلة
العميقة .. أنها جميعا لم تكن تنهل إلا من بحار القرآن الكريم، وبحار الرسول
الهادي الذي جعله الله نورا للعالمين، كما جعله رحمة لهم.
قلت: فما حال تلك المدرسة، وكيف
تركتها؟
قال: لقد تركتها بخير .. ولكنها
تحولت إلى شر.
قلت: ما هذا؟ .. وهل يتحول الخير إلى
شر؟
قال: ليست المدارس بجدرانها ..
ولكنها بأصحابها .. لقد كان الغزالي هو مدير تلك المدرسة وأستاذها، وكان النبي
المحاور هو روح تلك المدرسة وسر حياتها ..
قلت: فما حصل لهما؟
قال: أما الغزالي، فقد طعنه بعض
الحاقدين الذين أحرقوا كتب جده .. وأما النبي المحاور، فقد راح أولئك الحاقدون
يصورونه بصورة لا أستطيع أن أذكرها لك.
قلت: ما هي؟
قال: صورة نفوسهم المملوءة بالأحقاد،
فهم لا يسمعون إلا أنفسهم وأهواءهم .. فلذلك راحوا يصفون الحوار بالهرطقة،
والمحاورين بالمبتدعة.
قلت: فما وضعوا بدل الحوار؟
قال: السيف بنوعيه.
قلت: أللسيف نوعان؟
قال: نعم .. أما أحدهما، فالسيف الذي
تعرفه، وقد انتدبت له طائفة منهم .. وأما الثاني، فسيف الحرمان؟
قلت: ما سيف الحرمان؟
قال: أنت أدرى الناس به .. ألا تعلم
أن الكنيسة تعاقب من تنتقم عليه بحرمانه من بركات الكنيسة، والمسيحية؟
قلت: بلى .. أعلم ذلك.
قال: فقد راح هؤلاء يسلطون هذا السيف
على كل الناس .. يرمونهم بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموهم به.
قلت: والمدرسة .. كيف حالها؟
قال: أما بنيانها، فباق .. ويوشك أن
يقيض الله لها حفيدا من أحفاد الغزالي ليعيد لها الحياة.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا
أنفسنا قد قطعنا المرحلة الثالثة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب .. ولم
يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية
تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك
المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.
([2]) وذلك لما روي أن الغزالي لما رجع إلى مسقط رأسه مدينة طوس بعد فترة
الخلوة (اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف
من ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام
وسائر العبادات إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى)
([3]) نشير به إلى الإمام أبي حامد الغزالي (450 - 505هـ، 1058 -
1111م) الملقب بحجة الإسلام، وهو محمد بن محمد بن محمد، أبو حامد الغزاليّ وُلِدَ
في طُوس، وفقد أباه صبيًّا، فرباه وصيٌّ صوفي فترة من الزمن، ثم وضعه في مدرسة
خيرية يعيش ويتعلم. أتى نيسابورَ، وتعلَّم التصوف على الفرامدي، والفقه والكلام
على إمام الحرمين، ثم أتى مجلس نظام المُلك، وزير السلاجقة سنة 478هـ (1085م)، حيث
أقام ست سنوات، عيّنه بعدها الوزير أستاذًا في نظامية بغداد. درّس في بغداد أربع
سنوات (484-488هـ) مرّ أثناءها بشكوك وألف كتابين هما: مقاصد الفلاسفة؛ حيث عرض
فلسفة الفارابي وابن سينا، وتهافت الفلاسفة، حيث انتقد هذه الفلسفة. ترك بغداد،
وتفرغ للخلوة عشر سنوات، عاد بعدها إلى التعليم في نيسابور. اعتزل التعليم بعد سنة
500 هـ، 1106م وأسس مدرسة وخانقاه.
من
أهم كتبه: مقاصد الفلاسفة (487هـ)؛ تهافت الفلاسفة (488هـ)؛ المستظهري؛ الاقتصاد
في الاعتقاد (488 هـ)؛ إحياء علوم الدين (488هـ)؛ أيها الولد، ويسمى الولدية (501
هـ)؛ المنقذ من الضلال (502هـ)؛ المستصفى (503هـ)؛ إلجام العوام عن علم الكلام
(بين 504 - 505هـ)، وغيرها.
وقد
اخترناه لهذا الفصل باعتباره من أئمة الحوار الكبار وأعلامه والدعاة إليه، وقد ترك
لنا نموذجا طيبا للحوار في كتابه (القسطاس المستقيم)، فقد جاء هذا الكتاب على شكل
حوار بينه وبين رجل من الباطنية، وقد استهله بقوله :( إخواني، هل
فيكم من يعيرني سمعه لأحدثه بشيء من أسماري؟ فقد استقبلني رفيق من رفقاء أهل
التعليم وغافصني بالسؤال والجدال مغافصة من يتحدى باليد البيضاء والحجة الغراء)،
ثم ذكر الحوار الذي دار بينهما ،والذي شمل الكتاب جميعا.
والذي
يدل على أن قصد الغزالي ليس الرد على
(التعليمية) فحسب، وإنما ذكر نموذج للمجادلة الحسنة قوله في آخر الكتاب:( وهاكم _
إخواني _ قصتي مع رفيقي ،تلوتها بعجرها وبجرها لتقضوا منها العجب، وتنتفعوا في
تضاعيف هذه المحادثات بالتفطن لأمور هي أجل من تقويم مذهب أهل التعليم، فلم يكن
ذلك من غرضي)
وكتابه
(تهافت الفلاسفة) نموذج جيد أيضا للحوار، فقد كان يلزمهم بأقوالهم، وأقوال غيرهم
التي لا يعتقدها حتى يبين تهافت ما ذهبوا إليه.
([4]) الحوار ـ لغة ـ من الفعل (حَوَرَ) والحوار: الرجوع إلى الشيء
وعنه .. والمحاورة: مراجعة الكلام, وحاورت فلاناً في المنطق, وأحرت إليه جواباً,
وما أحار بكلمة.
وقد
عرف الحوار ـ اصطلاحا ـ عند المُحْدَثِين بأنه (تبادل الحديث)، أو (الكلام
المتبادل بين طرفين)، أو (الكلام وتبادل الرأي من أجل الوصول إلى الحقيقة)النسائي
أو ( هو تردد الكلام ـ أو ما يقوم مقامه ـ بين المتخاطبين على وجه المراجعة في
القول وانتظار الجواب للوصول إلى الحقيقة)
والفرق
بين الحوار والجدال أن كلمة الحوار تتسع لكل أساليب التخاطب، سواء كانت منطلقة من
وضع لا يوحي بالخلاف أو يوحي به.
بينما كلمة (الجدال) تختزن في داخلها معنى
الخلاف والشجار، وتحمل في عمقها أيضاً معنى التحدي والصراع، ولهذا ورد ذمه في
القرآن الكريم كقوله تعالى :﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَّ ﴾ (غافر: 5)
وفي
حال اعتباره أسلوبا من أساليب الدعوة إلى الله قيد بالحسن، كما قال تعالى :﴿
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
(العنكبوت: من الآية46)، وقال تعالى :﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ (النحل:125)
([5]) رواه مالك في الموطأ وسفيان بن عيينة في تفسيره وأبو عبيد في
فضائله وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف وابن حبان والدارقطني
والبيهقي في السنن عن أبي هريرة .
([17]) نحن لا نقصد هنا أي فرقة من فرق المسلمين، فنحن ـ بحمد الله ـ نحترم
المسلمين جميعا بمذاهبهم وفرقهم وطوائفهم، وإنما ذكرنا هذا هنا لنعرف منهج الحوار،
لا لنحكم على طائفة بعينها.
([19]) هذه الموازين الثلاثة المشكلة لميزان التعادل تشبه ما يعبر عنه
في المنطق بأشكال قياس أرسطو الاقتراني
الثلاثة.
([24]) استفدنا في هذا المبحث خصوصا من البحوث المقدمة في (مؤتمر الحوار
مع الآخر في الفكر الإسلامي) المقام في مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية
المتحدة في الفترة من 28 – 30/3/1428هـ ..
([28]) جزء من حديث نصه :( نضر الله امرأ سمع منا شيئا، فبلغه كما سمعه،
فرب مبلغ أوعى من سامع) (رواه أحمد والترمذي وابن حبان عن ابن مسعود) .
([34]) الحديث رواه الترمذي عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا: يا رسول
الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال r :( اللهم اهد ثقيفا)، ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
([36]) اعتبر العلماء حوار الله تعالى مع إبليس مناظرة ، قال الرازي :(
دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان
يتكلم مع إبليس من غير واسطة، فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا،
الأظهر منعه، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل ) التفسير الكبير: 27/619.
([37]) روي أن إبليس استشفع بموسى
u إلى ربه أن يتوب عليه فشفع، فقال : يا موسى إن سجد لقبر آدم،
فأعلمه ، فقال بعد أن أظهر الغضب: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا.
([41]) انظر: (حوار شعيب عليه السلام مع قومه في القرآن الكريم)،
الدكتور : محمد أحمد عيد الكردي، الأستاذ المشارك في جامعة عجمان للعلوم
والتكنولوجيا / فرع الفجيرة، مؤتمر:الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي، تنظيم كلية
الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة:30 / ربيع الأول 1428هـ الموافق 16-18
/ 4/ 2007م.
([43]) مما يدل على ذلك أن الله تعالى ذكر هذا بعد قوله :﴿
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)﴾(الأعراف)
([44]) وعلى هذا اتفق كل المتكلمين من المسلمين، قال ابن القيم :(
القرآن مملوء من الحجج والادلة والبراهين في مسائل التوحيد واثبات الصانع والمعاد
وإرسال الرسل وحدوث العالم فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك إلا وهو
في القرآن بأفصح عبارة وأوضح بيان وأتم معنى وأبعده عن الإيرادات والأسئلة، وقد
اعترف بهذا حذاق المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين)
ثم
نقل عن أبي حامد الغزالي قوله في الإحياء :( فإن قلت فلم لم تورد في أقسام العلم الكلام والفلسفة وتبين أنهما مذمومان أو
ممدوحان فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن
والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع ـ كما
سيأتي بيانه ـ وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل بنقل المقالات التي
أكثرها ترهات وهذايانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق
بالدين ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول، ولكن تغير الآن حكمه إذا حدثت
البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة لفقت لها شبها ورتبت لها كلاما مؤلفا فصار
ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونا فيه)
ونقل عن الرازي قوله في كتابه (أقسام اللذات) :(لقد تأملت
الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفى عليلا ورأيت
أقرب الطرق طريقة القرآن) (انظر: مفتاح دار السعادة: 1/145)
([45]) انظر: حوار النبي r مع قومه كما يعرضه القرآن، إعداد:الدكتور أحمد محمد مفلح القضاة،
كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، أعد هذا البحث للمشاركة في ندوة الحوار
التي أقامتها جامعة الشارقة.
([46]) وهذا يسري في كل شيء، فقلما يخلو المخالف من تناقض، فيرد ـ مثلا
ـ على من يقول:( إن كنت من أهل الجنة، فلماذا أعمل ؟ وإن كنت من أهل النار، فلماذا
أتعب نفسي؟ ) بأن يقال له: إن الله كتب لك أن تجوع ثم كتب أن تأكل، ثم كتب لك أن
تشبع بعد أكلك، فإذا جعت، فلا تأكل، وقل : إن كان الله قد قدر لي أن أشبع، فما
حاجتي لتكلف الأكل.
لهذا
ربط النبي r بين حقائق القدر، وبين العمل، فقد روي في الحديث أن غلامين شابين
سألا النبي r فقالا: يا رسول الله، أنعمل فيما جَفَّت به الأقلام وجَرَتْ به
المقادير، أو في شيء يستأنف؟ فقال r :( بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير) قالا: ففيم العمل
إذًا؟ قال: (اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له)، وقد كان هذا القول محفزا
لهذين الشابين، فقالا:( فالآن نجد ونعمل )(تفسير الطبري (30/144)
([47]) قال الآلوسي مبينا سر لجوء المخالف إلى هذا :( وهذا باب آخر من
إنكارهم للنبوة، وذلك أنهم أنكروا أولاً أن يكون النبي بشراً، ثم لما بُكتوا
بتكرير الحجج، ولم يبق عندهم تصور رواجٍ لذلك جاءوا بالإنكار من وجه آخر، فتحكموا
على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين ـ أي الرجلين من مكة والطائف ـ كأنهم
قالوا: لو كان الذي يدعيه محمد حقاً لكان الحقيقَ به رجل من القريتين عظيم، وهذا
منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية،
والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية)
([50]) لأن نواحي إعجاز القرآن الكريم لا يمكن حصرها، لارتباطه بالأزمنة
المختلفة، فالقرآن معجز لكل العصور، ولذلك لا يمكن لأي جيل من الأجيال حصره فيما
تعرف عليه منه.
([53]) انظر:الحوار الإسلامي المسيحي ـ رؤيــة تأصيلية ـ د. علي بن
العجمي العشي، أستاذ مساعد ومدير تحرير مجلة الدراسات الاجتماعية (مجلة محكمة)
ومسؤول برنامج الدراسات الإسلامية جامعة العلوم والتكنولوجيا ـ صنعاء.
والحوار
الإسلامي- المسيحي الواقع وآفاق المستقبل، أ.د. أحمد محمد أحمد الجلي،
جامعة أبو ظبي-كلية الآداب والعلوم.
كلا المحاضرتين قدمتا في (مؤتمر
الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي) المقام في مدينة الشارقة في دولة الإمارات
العربية المتحدة في الفترة من 28 – 30/3/1428هـ .
([54]) من العجب أن يطرح مثل هذا .. فكما أن للمسلم الحق في أن يدعو
لدينه، فللمسيحي الحق كذلك في أن يدعو لدينه .. والمسلم الذي يطالب بمثل هذا عليه ـ أيضا ـ أن يقبل بأن لا يدعو المسيحيين
للإسلام .. هذا هو العدل الذي أمرنا به ديننا في التعامل مع غيرنا.
والمنهج الأسلم لمواجهة التبشير، ليس نهي المبشرين عن
التبشير، وإنما توعية المسلمين ليصبحون دعاة للمبشرين إلى دين الله.
([55]) ذلك أن من ذرائع المعارضين للحوار اعتبارهم الحوارتنازلاً عن
مبادئ الإسلام وهدماً لقاعدة الولاء والبراء.. وما أكثر ما جني على الإسلام تحت
ذريعة الولاء والبراء، وسوء الفهم للولاء والبراء.
([60]) سنرى المعنى الحقيقي للبنوة على حسب ما يدل عليه الكتاب المقدس
في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.
1. مؤتمر ممثلي
الأديان قي اندونسيا: الذي دعت إليه الحكومة الاندونيسية، وعقد في
نوفمبر 1967م للتباحث حول مستقبل البلاد، وقضية الوحدة الوطنية والحفاظ على
التعايش السلمي بين أتباع الديانتين: الإسلام والمسيحية.
ودارت
موضوعات المؤتمر حول ضرورة التعايش والتسامح الديني والكف من قبل المسيحيين عن
الإساءة للإسلام وإلى النبي r وإلى القرآن الكريم.
وطلب
المسلمون من المسيحيين التوقف عن عمليات التنصير بين المسلمين لما لذلك من أثر في
اثارة الفتنة وتأجيج العداء، وتوجيه جهودهم نحو القبائل الوثنية واللادينية
الموجودة في بعض الجزرالأندونيسية.
وقوبلت
هذه الدعوة برفض مطلق واستفزاز من قبل المسيحيين، وانتهى المؤتمرون دون الوصول إلى
نتيجة ملموسة بسبب تعنت الجانب المسيحي واصراره على خرق التعايش السلمي والإساءة
الى الإسلام والمسلمين.
2. مؤتمر الحوارالاسلامي المسيحي الوطني بالفلبين:
عقد هذا المؤتمر بدعوة واشراف الجمعية
الإسلامية في الفلبين في مدينة تاغايتي الفلبينية 28/7/1978م، وبحثت فيه المشاكل والعلاقات الإسلامية المسيحية،وخاصة في
جنوب الفلبين.
كما
ناقش المؤتمرون أحوال المسلمين في الفلبين والتوتر في العلاقات الإسلامية
المسيحية، والتي كان ضحيتها المسلمون،كما وضع توصيات وقرارات تدعو الى الحوار بين
الأطراف المتنازعة، ووضع معالجات قانونية للأوضاع التي يسودها التوتر.
3.
مؤتمرات الحوار بين الاديان في السودان:
شهد السودان قبيل استقلاله تفجر الأوضاع الأمنية في جنوبه، وظهور مشكلة الجنوب،
التي سعت الدوائر الاستعمارية الى تصعيدها فيما بعد، وربطها بقضية الصراع بين
الإسلام والمسيحية في الوقت الذي يمثل السودان خلال تاريخه الطويل النموذج الأمثل
للتعايش السلمي بين أتباع الديانتين.
واسهاما
في ازالة هذا الفهم الخاطئ للمشكلة سعت بعض الهيئات الشعبية وعلى رأسها مجلس
الصداقة الشعبية العالمية الى تنظيم ملتقى السلام العالمي، في نوفمبر 1991م، ،كما
قامت مؤسسة السلام والتنمية بالسودان بتنظيم مؤتمر الأديان في أبريل عام 1993م،
كما تبنى مجلس الصداقة الشعبية العالمية فكرة إنشاء جمعية أو هيئة للحوار الإسلامي المسيحي، عقدت اجتماعها
التمهيدي الأول في 9 نوفمبر 1994م،واببثقت من ذلك الاجتماع ،الدعوة إلى عقد مؤتمر
الحوار بين الأديان في تاريخ: 8-10/اكتوبر/1994م،تحت شعار (حوار الأديان سلام
للجميع)، وتقوم تلك الهيئة بنشاط مميز على المستوى المحلي والعالمي، وتعقد العديد
من المؤتمرات.
4.
اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار:
أنشئت بعد اتفاقية الطائف للسلام بلبنان( 1989)،وحملت الدعوة إلى أن تكون لبنان
مساحة إنسانية رحبة للحرية والحوار بين معتنقي الرسالات السماوية، وأرض حياة
مشتركة مسيحية إسلامية، كما دعت إلى
التآخي الوطني بين المسيحين والمسلمين في لبنان في بناء الدولة وإشاعة روح التعاون
والوحدة بين أبناء الوطن الواحد.
5.
الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي:
وهي مؤسسة أنشئت في عام 1995م، وتعنى بشئون الحوار الإسلامي المسيحي بصفة عامة مع
التركيز على إشاعة روح الحوار داخل البلاد
العربية والشرق الوسط لا سيما في مصر
ولبنان وقبرص.
وقد
نظمت المؤسسة عدة حوارات ذات طابع محلي منها: (مسلمون ومسيحيون معاً من أجل القدس)
في بيروت بتاريخ يونية 1996م،وحوار حول (المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان) في
القاهرة بتاريخ اكتوبر 1997م،و حوار (العيش المشترك والتوترات الدينية في بعض
البلدان العربية) في بيروت بتاريخ مارس 2000م، كما أصدرت المؤسسة وثيقة باسم :
الحوار والعيش الواحد ،ميثاق عربي إسلامي في ديسمبر 2001م، كما عقدت ندوة بعنوان:
(إشكالية الحوار والعيش المشترك) بتاريخ 6- 7 يوليو 2004م ،ومؤتمر بعنوان : (التعددية من منظور المواطنة) بتاريخ
30/3 و2/4 2006م بالقاهرة.