الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: سلام للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

عاشرا ـ الله

الصراع

الخرافة:

التحريف:

الضلال:

            الإلحاد:

السلام

الواحد:

العلي:

الأول، والآخر، والظاهر، والباطن:

الخالق، البارئ، المصور:

البر، الوهاب، الكريم:

الرحمن الرحيم:

الودود:

العفو، التواب، الغفور:

الحَفيظُ:

الجليل، الجميل:

العليم، الخبير، اللطيف:

السميع البصير:

الحكيم:

الحكم، العدل:

الرزاق:

الخاتمة

 

عاشرا ـ الله

في اليوم العاشر، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. ربما كان هو أهم الأحاديث وأشرفها وأولاها بإطالة الكلام فيه.. ولكني مع ذلك لن أطيل عليكم.. سأترك لكم الوقت الكافي.. وأترك لنفسي كذلك الوقت الكافي لنستقبل فيه الموت الذي ينتظرنا في أي لحظة من لحظات هذا اليوم[1].

في البداية أذكر لكم أني امرؤ عاش يحلم بالتعرف على المبدع العظيم الذي أبدع هذا الكون.. فلم يكن يرتاح لي بال، ولا يهدأ لي خاطر إلا بالأحاديث عنه وفيه.

ولكني مع تلك الهمة كنت لا أقع إلا في أيدي قطاع الطرق الذين يملأون عقلي بالأوهام والخرافات والصراع.

وكنت ضعيفا مستسلما أمامهم.. فلا أجد في قلبي ولا عقلي إلا ما ينقشونه بفؤوسهم ومعاولهم..

وكنت أتعذب لذلك كثيرا.. بل وصل بي الأمر إلى ما وصل بكم من الإقدام على الانتحار.. ولولا أن قيض الله لي من النور والسلام والصفاء من أنقذني لكنت الآن في عداد الموتى.. وقد شاء الله الذي لا راد لمشيئته أن يكون سبب حياتي هو نفسه سبب موتي.. وأنا راض بذلك مستلم له.. ولكني مع ذلك متألم لأن عقلي وقلبي لم يصل إلى مراده بعد.

 

 

 

الصراع

قلنا: حدثنا عن أول شأنك.

الخرافة:

قال: في البداية كنت امرؤا ضمتني قبائل كثيرة من القبائل البدائية.. كلها لم تكن تلقنني إلا الخرافة..

وكنت بحكم طبيعتي المستسلمة التي ذكرتها لكم أسمع وأطيع.. وفوق ذلك كله ومعه أتعذب.. فلم يكن للخرافة أن تنشئ في نفسك ولا في عقلك سلاما.

قلنا: حدثنا عن هذه الفترة من حياتك.

ابتسم، وقال: هي فترة أقرب إلى الجنون منها إلى العقل.. ماذا سأحدثكم عنها؟

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق قطعه بقوله: في البداية كنت فردا من قبيلة متعددة الفروع كانت تستوطن أستراليا وأفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها[2].

وكنا نتخذ لأنفسنا في تلك القبائل حيوانا نجعله طوطما، ونعتبره أبا لنا، أو نزعم أن أبانا الأعلي قد حل فيه، وقد يكون الطوطم في بعض الحالات نباتا أو حجرا نقدسه كتقديس الأنصاب.

وكان في عرفنا أن القبيلة إذا اتخذت طوطما لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال.. وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلي ذلك الطوطم ولو من بعيد.. وقد يكون للقبيلة الكبري بطون متفرقة تتعدد طواطمها، ويجوز الزواج بين المنتمين إليها، ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير.

قلنا: فقد كانت لكم آلهة متعددة إذن؟

ابتسم، وقال: آلهة كثيرة جدا.. وكنا متشردين في وسطها لا نرضي أحدها إلا بسخط الآخر..

لقد كان من آلهتنا أرباب الطبيعة، أو الأرباب التي تتمثل فيها مشاهد الطبيعة وقواها كالرعد والبرق والمطر والفجر والظلام والينابيع والبحار والشمس والقمر والسماء والربيع.

وكان منها أرباب إنسانية، وهي الأرباب التي تقترن بأسماء الأبطال والقادة المحبوبين والمرهوبين، ممن نحسبهم من القادرين علي الخوارق والمعجزات.

وكان منها أرباب الأسرة، وهم الأسلاف الغابرون، يعبدهم أبناؤهم وأحفادهم ويحيون ذكراهم بالحفلات والمواسم المشهودة.

وكان منها أرباب المعاني، كرب العشق ورب الحرب ورب الصيد ورب العدل ورب الإحسان ورب السلام.

وكان منها أرباب البيت كرب الموقد ورب البئر ورب الجرن ورب الطعام.

وكان منها أرباب النسل والخصب وهي علي الأغلب الأعم في صورة الإناث، وكنا نسميها بالأمهات الخالدات، وقد ترقت مع الزمن إلي واهبات الخلود بعد هبة الحياة.

وكان منها آلهة الخلق التي ننسب إليها خلق السماوات والأرض والإنسان والحيوان.

وكان منها الآلهة العليا، وهي آلهة الخلق التي تدين عبادتها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق، وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء.

قلنا: فهل انتهت رحلتك عند هذا الحد؟

قال: لقد بدأت رحلتي بهذا.. ولم تنته به.

قلنا: فحدثنا.

قال: قال: لقد قدر الله لي أن أرحل إلى بلاد اليونان في فترة كانت فيها ممتلئة بالأفكار المطعمة بالخرافات.

قلنا: فما رأيت؟

قال: لقد وجدتها في تلك العهود السحيقة ممتلئة بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيود.. لقد عبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة.. واستمدوا من جزيرة (كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بيت أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية.. فرمزوا بها إلي أرباب البراكين والعوالم السلفية.. واتخذها بعضهم (طوطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلي الآباء.

لقد كان أرباب الأوليمب في مبدأ أمرهم يقترفون أقبح الآثام ويستلمون لأغلظ الشهوات.. وقد قتل زيوس أباه (كرونوس) وضاجع ابنته، وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار، ويغازل بنات الرعاة في الخلوات، وغار من ذرية الإنسان، فأضمر له الشر والهلاك، وضن عليه بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء.

ولم يتصوروه خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب، فهو علي الأكثر والد لبعضها، ومنافس لأنداده منها، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد.

ولم يزل (زيوس)إلي عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره، عاجزا عن الفكاك من قضائه.

لقد صوره لنا الشاعر المتدين علي مثال أقرب إلي خلائق الرحمة والإنصاف، ومثال الكمال، ولكنه نسب الخلق إلي أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية.. وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء و(أيروس) رب التناسل والمحبة الزوجية، وجعل أيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات السماوية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب، وعلي رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب.

قلنا: فهل ظللت طول عمرك في بلاد اليونان، واكتفيت بما عندها من الآلهة؟

قال: لا.. لقد زرت الهند، وبحثت في معابدها ومخطوطاتها، والتقيت برجال دينها.. وقد وجدت أن الديانات الهندية القديمة تعود إلى أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية..

لقد رأيت من خلال البحث المستوعب المستقصي أن (الله) في الديانات الهندية القديمة لم يكن واحدا.. بل كان أنواعا شتي من الآلهة.. منها آلهة تمثل قوى الطبيعة وتنسب إليها.. فيذكرون المطر، ويشتقون منه اسم (الممطر).. ويعتبرونه الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث.. ومن هنا كان (أندر) هو إله السحاب، لأنه مشتق من كلمة (أندر) بمعني المطر، أو بمعني السحاب.

ويذكرون إلى جانب (أندر) إله النار.. وإله النور.. وإله الريح.. وإله البحار.. ويجمعونها جميعا في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتي من الديانات..

وأقدم الأسماء عندهم كان اسم (ديفا) Deva.. وهو يعني (المعطي).. لقد بقيت آثار من هذا الاسم في اللغات اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة.. فكلمة (ديو) الفرنسية Dieu وكلمة ديتي Deity الإنجليزية، وكلمة (زيوس) اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم.

بالإضافة إلى هذا، فقد رأيت البرهمية القديمة تشتمل علي عبادة الأسلاف.. كما تشتمل علي عبادة المظاهر الطبيعية.. ولذلك فإن تقديس الملك عندهم تقليد موروث من تقديس جد القبيلة.. وقد تحول إلي تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلي الأمة.

وقد وجدت أن عبادة (الطوطم) تعززت في الهند بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول.. فلذلك عبدوا الحيوان علي اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة.. ثم تطوروا أكثر[3]، فآمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود، أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه.. وآمنوا مع ذلك كله بتناسخ الأرواح.

ورأيت الطوطمية عاشت عندهم في أرقي العصور كما عاشت في عصور الهمجية لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم.. لكنهم خلصوا في الأخير إلى الإيمان بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه في التعرف عليه.. فلم يكن إيمانهم به علي الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد.

قلنا: فإلى أين رحلت بعد الهند؟

قال: بعد الهند قصدت الصين.. وقد كنت آمل من خلال ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها أن أجد فيها جميع أنواع التصورات عن الإله..

لكني لم أجدهم ـ عبر تاريخهم الطويل ـ يحبون الخوض في مباحث ما وراء الطبيعة.. ولهذا فإن التدين بينهم يكاد يكون ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة.

أما العبادات.. فأشيعها بينهم عبادة الأسلاف والأبطال.. وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية علي جملة الأرواح التي يعبدونها، ويمثلون بها عنصر الطبيعة أو مطالب المعيشة.. ولهذا، فإنه لا يقدر الصيني قربانا هو أغلي قيمة، وأحب إلي نفسه من قربانه إلي روح سلفه المعبود.. وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلي كل شيء كانت تحتاج إليه، وهي في عالم الأجساد.

والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم.. فما أرضي السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر.. وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد.

وتتمشي عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلي جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال.. فالسماء والشمس والقمر والكواكب آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي).. ويليه إله الشمس.. فبقية الأجرام السماوية.. فالعناصر الأرضية.

وهم يتقربون إلي (شانج تي) بالذبائح، ويبلغون صلواتهم بإشعال النار علي قمم الجبال، فيعلم الإله – مما أودعه الكاهن دواخينها- فحوي الرسالة التي يرفعها إليه عباده، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان.

وإله السماء عندهم هو (الإله) الذي يصرف الأكوان، ويدبر الأمور، ويرسم لكل إنسان مجري حياته الذي لا محيد عنه.. وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة.. وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب.. فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية.

وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمي عاهل الصين باسم (ابن السماء).. ويقال إنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده.. فنقلها العاهل إلي بلاد الصين.

وقد أراد الفيلسوف (شوهستي) في القرن الثاني عشر أن ينشيئ بوذية صينية توفق مذهب بوذا في أمور وتخالفه في أمور، فدعا إلي دين لا إله فيه ولا خلود للروح، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر.

وسمي دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهرة وخافية.. وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد، فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت.. وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متي (نضجت) كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم.. وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح، كأنها الثرة في حالة العفن والإهمال.

ولما مات كنفشيوس (478 ق. م) أقاموا له الهياكل وعبدوه علي سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية علي عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة.. ولم تزل عبادته قائمة إلي العصور المتأخرة بل إلي القرن العشرين.. فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده – وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس- عيدا قوميا يحجون فيه إلي مسقط رأسه، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه.

قلنا: لاشك أنك رحلت بعد الصين إلى اليابان

قال: أجل.. وقد وجدت أن موقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين علي الإجمال.. فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية.. وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثي لعبادة السلف الأعلي حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها.. وتلك الربة هي (اميتراسوا-أموكامي) التي لا تزال معبودة إلي اليوم.

ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ علي جزيرة كيوشو، وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلي الجبال، وكأن أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر (سوسا- نو- وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلي المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية.. ثم انعقدت الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والممغزوة، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبري الأخوين.

ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان، لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب.. وهذه أرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية.. ويسمون الواحد منها (كامي).. وهي كلمة تطلق علي كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال.. ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلي الربة الكبري برضوان من خالق السماوات والأرضين.

أما الخلق فهو منسوب عندهم إلي إله السماء (أزاناجي- نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي-نوميكوتو).. فولدا جزر اليابان وألقحاها ببذور الآلهة، وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة الآلهة.. فكلهم في النسب الأعلي – وليس الميكاد وحده- إلهيون.

وفي إحدي الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار، فانبعثت من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والرعود.. ولم ترجع الأرض إلى خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة.

وينسبون الخلق في رواية أخري إلي (أزاناجي) وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه.. فمن عينه اليسري خلقت الشمس ومن عينه اليمني خلق القمر، ومن عطسته خلق (سوسا- نو- وو) رب الرياح والأمطار.. ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء.

فالديانة اليابانية الأصلية شمسية سلفية جمعت معني التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوره أبا للخليقة بمفرده أو مشاركة زوجه، ثم جمعتها في الربة الواحدة علي اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.

التحريف:

قال رجل منا: نراك لم تقصد إلا الديانات الأرضية الممتلئة بالخرافة.. فلم لم تقصد ما يسمى بالديانات السماوية.. لم لم تقصد اليهودية مثلا، فهي أقدم الديانات السماوية كما يقال؟

تنفس الصعداء، ثم قال: من الصعب التحدث عن الإله عند اليهود بصفة علمية..

قلنا: لم؟

قال: لقد كان لكل عصر إلهه.. ولكل جماعة يهودية إلهها.. ومن الصعب أن يحصر هذا حاصر..

لكني مع ذلك سأذكر لكم بعض ما قال رجل خبير في اليهودية استفدت منه كثيرا.. إنه رجل من المسلمين التقيت به كان اسمه (عبد الوهاب المسيري)[4]

وقد حدثني هذا الرجل الخبير[5] أن الأصل في (الإله) الذي يؤمن به اليهود هو أنه إله واحد لا جسد له ولا شبيه.. لا تدركه الأبصار.. وتعتمد عليه المخلوقات كافة.. ولا يعتمد هو على أيٍّ منها، إذ هو يتجاوزها جميعاً ويسمو عليها.

وأن كل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليست إلا تعبيراً عن قدرته.. فهو روح الكون غير المنظورة، السارية فيه، والتي تُمده بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد.

وأخبرني أن التوحيد في اليهودية وصل إلى ذروته على يد بعض الأنبياء الذين خلَّصوا التصور اليهودي للإله من الشوائب الوثنية التي علقت به، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسمواً، وأقل عزلة وقومية وتعالياً.

وأخبرني أن هذا التيار التوحيدي استمر في مختلف فترات تاريخ اليهودية.. وتدل على بعض آثاره من الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل (آني مأمِّين) (إني مؤمن) و(يجدال) (تنزَّه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد.

وأخبرني أن التصور اليهودي للإله قد تراكم عليه في فترات التاريخ الطويلة ما انحرف به انحرافات كثيرة خطيرة.. حتى غدا التوحيد مجرد طبقة واحدة ضمن طبقات مختلفة.. فالعهد القديم، كما هو من خلال مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.

وتتبدَّى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، التي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة يسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14)..

وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22).

وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، ( أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً) (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.

والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة، ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها (أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) (خروج 3/22)

وهكذا، فإننا نجد منذ البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين.

وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة يسرائيل في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها هارون أخو موسى)[6]، وأن يقبل العهد القديم عناصر وثنية مثل الترافيم والإيفود (الأصنام)، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيراً عما جاء في العهد القديم.. ولهذا ليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة اليسرائيلية.

ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضاً الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة (الكونية الطبيعية أو التاريخية) يصبح امتداداً لما هو نسبي، وامتداداً للشعب اليهودي على وجه الخصوص.. فيصبح الخالق امتداداً لوعي الأمة بنفسها، فيظل إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب.

ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع، ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب (وتلاحُم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي).

ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه.. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود.. ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدَّس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين، ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية.. ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية، حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري، ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة (التي يفترض أنها معادلة للإله وتحوي سر الكون).

وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه (التي تضم تفسير الحاخامات) شُبِّهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدَّسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل.. وتُستخدَم كلمة «ابن الله» للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضاً اللوجوس.

ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة.

وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية.. ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً.. وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور.

ويصل الحلول إلى منتهاه، وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبَّالاه، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر، ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.

وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم، وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر).. كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث، وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي.

وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً.

ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين، ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان.

وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي.. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله، وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها.. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص.

ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبَّالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء (43/12)، حيث جاء فيها:( أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله)، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه. وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضاً فيفسرها بقوله: (حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله)، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس.

بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: (حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي. وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي)

ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائماً عبارة (كما لو أن) لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.

وعلى أية حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسياً في النسق الديني اليهودي، بل كان يكتسب أحياناً قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني الإسلامي، كما هو الحال مع كلٍّ من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون.. وكثيراً ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري)، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة. بل يُلاحَظ أن عبارة (كما لو أن) كانت تضاف حتى في التفسيرات القبَّالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبَّالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسة الحاخامية نفسها وسيطر فكر حلولي حرفي متطرف. ومع تغلغل القبَّالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعاداً مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.

ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.

وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي. كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً (حلولية موت الإله)، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله).

ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها.

بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن (لاهوت موت الإله)، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله. وقد تفرَّع من هذا (لاهوت الإبادة) أو (لاهوت ما بعد أوشفيتس) الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي.. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله.

الضلال:

قال رجل منا: فهلا تركت اليهود إلى المسيحيين.

قال: لقد فعلت.. وقد كان أول ما قصدته الكتاب المقدس.. لكني وجدته بعهديه متضاربا في ذلك غاية التضارب..

فبينما قرأت هذا النص في (إشعياء: 46 /9): (اذكروا الأوليات منذ القديم لاني انا الله وليس آخر. الاله وليس مثلي)

وهذا النص في (هوشع 11 /9): ( لا اجري حمو غضبي لا اعود اخرب افرايم لأني الله لا انسان القدوس في وسطك فلا آتي بسخط)

وهذا النص في (إرميا 10 /6): ( لا مثل لك يا رب عظيم انت وعظيم اسمك في الجبروت)

وهذا النص في (إشعياء46 /5): ( بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه)

وهذا النص في (إشعياء 40 /25): ( فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس)

وهذا النص في (إشعياء40 /18): ( فبمن تشبهون الله وأي شبه تعادلون به)

وهذا النص في (عدد 23 /19): ( ليس الله انسانا فيكذب.ولا ابن انسان فيندم.هل يقول ولا يفعل او يتكلم ولا يفي)

فهذه النصوص جميعا تدل على تقدس الله وتنزهه..

إلا أني قرأت معها الكثير من النصوص تصف الله بما لا يمكن أن يوصف به إله.. ولذلك لم يصعب عليهم أن يرسموه في الكنائس والمعابد بصورة رجل عجوز ذي لحية طويلة بيضاء يظهر عليه الشيب والعجز والتعب..

لقد كان لهذه الصورة سندها من الكتاب المقدس..

ففي الكتاب المقدس النصوص التي تصف الله بالعجز.. ففي (تكوين32 /24-28) نبأ مصارعة يعقوب لله : ( فبقي يعقوب وحده.وصارعه انسان حتى طلوع الفجر.. وقال اطلقني لأنه قد طلع الفجر.فقال لا اطلقك ان لم تباركني)

هكذا ينص الكتاب المقدس على أن يعقوب حارب الرب وهزمه.. بل أوثقه.. بل إن الرب طلب منه أن يطلقه لأن الفجر قد طلع.. ولا أعلم ما علاقة طلوع الفجر برغبة الرب في الانصراف ومحايلة يعقوب حتى يطلقه ؟

وفي ( إنجيل مرقس 6 /5) أن الرب ـ والمقصود هنا هو يسوع ـ عجز عن صنع معجزة : (ولم يقدر ان يصنع هناك ولا قوة واحدة غير انه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم)

وفي سفر القضاة لم يستطع الرب أن يطرد سكان الوادي، لأن مركباتهم حديدية.. ففي (القضاة 1 /19): (

وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل ولكن لم يطرد سكان الوادي لان لهم مركبات حديد)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسكر.. ففي (المزمور 78 /65): ( فاستيقظ الرب كنائم كجبار معّيط من الخمر)

وفي (مزمور75 /8) : (لان في يد الرب كاسا وخمرها مختمرة ملآنة شرابا ممزوجا وهو يسكب منها لكن عكرها يمصه يشربه كل اشرار الارض)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينام.. ففي (مزمور35 /22) : ( قد رأيت يا رب لا تسكت يا سيد لا تبتعد عني استيقظ وانتبه الى حكمي يا الهي وسيدي الى دعواي) 

وفي ( مزمور78 /65 ): ( فاستيقظ الرب كنائم كجبار معّيط من الخمر)

وفي ( مزمور44 /23): ( استيقظ.لماذا تتغافى يا رب. انتبه. لا ترفض الى الابد)

وفي ( زكريا2 /13 ): ( اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه) 

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب الرب يمشي على عكاز، ففي (قضاة6 /20-23): (فقال له ملاك الله خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة واسكب المرق.ففعل كذلك. فمدّ ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة واكلت اللحم والفطير.وذهب ملاك الرب عن عينيه. فرأى جدعون انه ملاك الرب فقال جدعون آه يا سيدي الرب لاني قد رأيت ملاك الرب وجها لوجه. فقال له الرب السلام لك.لا تخف.لا تموت)

وفي ( مزمور23 /4): (ايضا اذا سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب جاهل.. ففي (رسالة بولس إلى أهل كرونثوس الأولى 1 /25 ) : (لان جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله اقوى من الناس)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عنده خزانة، وفيها آلات الرجز.. ففي (إرميا50 /25(: (فتح الرب خزانته واخرج آلات رجزه لان للسيد رب الجنود عملا في ارض الكلدانيين)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسيئ.. ففي (1ملوك17 /20) : (وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أيضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت بإماتتك ابنها)

وفي (العدد 11 / 11): (فقال موسى للرب لماذا اسأت الى عبدك ولماذا لم اجد نعمة في عينيك حتى انك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليّ)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينقض العهد.. ففي (زكريا11 /10): (فاخذت عصاي نعمة وقصفتها لانقض عهدي الذي قطعته مع كل الاسباط فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم اذل الغنم المنتظرون لي انها كلمة الرب)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصيح كالوالدة وينخر ويخرب.. ففي (إشعياء 42 /13-16): ( الرب كالجبار يخرج.كرجل حروب ينهض غيرته.يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت.كالوالدة اصيح.انفخ وانخر معا اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام واسير العمي في طريق لم يعرفوها.في مسالك لم يدروها امشيهم.اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينسى.. ففي ( مزمور 13 /1) : ( الى متى يا رب تنساني كل النسيان.الى متى تحجب وجهك عني)

وفي (خروج2 / 24): ( فسمع الله انينهم فتذّكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يأكل الخرفان.. ففي (العدد 28 /1-9): ( وكلم الرب موسى قائلا. (2) اوص بني اسرائيل وقل لهم.قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون ان تقربوه لي في وقته. (3) وقل لهم.هذا هو الوقود الذي تقرّبون للرب خروفان حوليان صحيحان لكل يوم محرقة دائمة. (4) الخروف الواحد تعمله صباحا والخروف الثاني تعمله بين العشاءين. (05) وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض تقدمة. (6) محرقة دائمة.هي المعمولة في جبل سيناء.لرائحة سرور وقودا للرب. (7)  وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد.في القدس اسكب سكيب مسكر للرب. (8) والخروف الثاني تعمله بين العشاءين كتقدمة الصباح وكسكيبه تعمله وقود رائحة سرور للرب (9) وفي يوم السبت خروفان حوليّان صحيحان وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا.. ففي ( خروج:13 /21): (  وكان الرب يسير امامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم.لكي يمشوا نهارا وليلا)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصفر للذباب ويعمل حلاقاً ويصفق.. ففي (إشعياء 7 /18-20): (ويكون في ذلك اليوم ان الرب يصفر للذباب الذي في اقصى ترع مصر وللنحل الذي في ارض اشور (19)فتأتي وتحل جميعها في الاودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعي. (20)في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك اشور الراس وشعر الرجلين وتنزع اللحية ايضا)

وفي (إشعياء 5 /26): (فيرفع راية للامم من بعيد ويصفر لهم من اقصى الارض فاذا هم بالعجلة ياتون سريعا)

وفي (التكوين 6 /6): ( فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض.وتأسف في قلبه)

وفي (حزقيال 21 /17) : ( وانا ايضا اصفّق كفّي على كفّي واسكن غضبي.انا الرب تكلمت)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يأمر الناس بسب الأنبياء..  ففي (صموئيل الثاني 16 /10) : ( فقال الملك ما لي ولكم يا بني صروية.دعوه يسب لان الرب قال له سبّ داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. (11) وقال داود لابيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من احشائي يطلب نفسي فكم بالحري الآن بنياميني.دعوه يسب لان الرب قال له)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يحتاج علامة ليتذكر بها.. ففي (تكوين 9 /15-16): (اني اذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حيّة في كل جسد. فلا تكون ايضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد فمتى كانت القوس في السحاب ابصرها لأذكر ميثاقا ابديا بين الله وبين كل نفس حيّة في كل جسد على الارض) 

وفي ( خروج 12 /13): ( ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي انتم فيها فأرى الدم واعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين اضرب ارض مصر)

وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يولول ويبكي ويصرخ ويصوِت.. ففي (ميخا1 /8): ( من اجل ذلك انوح وأولول. امشي حافيا وعريانا. اصنع نحيبا كبنات آوى ونوحا كرعال النعام)

وفي (إرميا 48 /30-32): ( انا عرفت سخطه يقول الرب انه باطل. اكاذيبه فعلت باطلا. من اجل ذلك اولول على موآب وعلى موآب كله اصرخ.يؤنّ على رجال قير حارس. ابكي عليك بكاء يعزير يا جفنة سبمة قد عبرت قضبانك البحر وصلت الى بحر يعزير وقع المهلك على جناك وعلى قطافك)

وفي (إرميا 48 /35-36): ( وابطل من موآب يقول الرب من يصعد في مرتفعة ومن يبخر لآلهته. من اجل ذلك يصوّت قلبي لموآب كناي ويصوت قلبي لرجال قير حارس كناي لان الثروة التي اكتسبوها قد بادت)

الإلحاد:

قلنا: لاشك أنك قصدت الإسلام بعد أن يئست من المسيحية؟

قال: ليتني فعلت ذلك.. لو فعلت ذلك لكانت ـ ربما ـ حياتي مختلفة تماما عما ترونه الآن.

قلنا: فمن قصدت إذن؟.. نراك قد جلت على جميع الأديان.

قال: بعد أن امتلأت بالصراع هربت من الله الذي نذرت حياتي كلها للبحث عنه..

قلنا: كيف؟

قال: في غمرة تلك الآلام لاقاني رجل كان يقال له (آرثر شوبنهاور).. قال لي بلهجة حادة: إن الإله ليس شيئا سوى صنيعة من صنائع البشر، ابتكروها لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب ما يراه مؤسس الدين مناسبا، وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية.

ثم أضاف يقول: من المستحيل أن تكون كل هذه الديانات من مصدر واحد.. فالاله الشديد البطش الذي أنزل 12 مصيبة على المصريين القدماء، وقتل كل مولود أول ليخرج اليهود من أرض مصر هو ليس نفس الاله الذي ينصحك بأن تعطي خدك الآخر ليتعرض للصفع دون ان تعمل شيئا.

قلت له بنفس اللهجة التي خاطبني بها: فما تقول في هذه الحياة ومعجزاتها؟

ابتسم بخبث، وقال: لا شك أنك لا تعرف تشارلز داروين.

قلت: ما به؟

قال: لقد حل المشكلة.. فالحياة من صناعة الصدفة والتطور والارتقاء.

قلت: والإله؟

قال: لقد أعلن (فريدريك نيتشه) موته.. وأعلن أن الدين فكرة عبثية، وجريمة ضد الحياة إذ أنه من غير المعقول ان يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز و التطلعات، وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك إياها مرة أخرى بعد الموت.

قلت: ولكن الحياة لا تستقيم من دون إله؟

قال: لاشك أنك لا تعرف كارل ماركس!؟

قلت: ما به؟

قال: لقد اكتشف ذلك الفيلسوف العظيم أن الدين أفيون الشعوب.. إنه يجعل الشعب كسولا و غير مؤمنا بقدراته في تغيير الواقع.. واكتشف أن الدين تم استغلاله من قبل الطبقة البورجوازية لسحق طبقة البسطاء.

قلت: ولكن النفس الإنسانية تطلب إلها.. الفطرة لا تستقيم من دون؟

قال: لا شك أنك لا تعرف (سيغموند فرويد)؟

قلت: ما به؟

قال: لقد اكتشف هذا العبقري العلامة أن الدين وهم كانت البشرية بحاجة اليه في بداياتها.. واكتشف أن فكرة وجود الاله هو محاولة من اللاوعي للوصول إلى الكمال في شخص مثل أعلى بديل لشخصية الأب إذ أن الأنسان في طفولته ينظر إلى والده كشخص متكامل وخارق، ولكن بعد فتره يدرك أنه لا وجود للكمال فيحاول اللاوعي ايجاد حل لهذه الأزمة بخلق صورة وهمية لشيء اسمه الكمال.

***

ظللت مع (آرثر شوبنهاور) وأصحابه مدة من الزمن إلى أن امتلأت باليأس من وجود الله.. وهناك شعرت بفراغ عظيم.. لم أجد للحياة أي معنى أو طعم.. فلذلك رحت ألتمس الموت وأبحث عنه.

وقد لاقاني في طريقي وأنا أبحث عن الموت رجل يقال له (هونج ينج شين) كان زعيما لكنيسة خلاص الله، وكان يعرف لدى أعضاء طائفته بالمعلم شين.

عندما رأيته، ورأيت الموت في عينيه قال لي: إن الله سيأتي إلى الأرض في طبق طائر في ضاحية دالاس.. فتعال لتنظر إلى ذلك الحدث العظيم.

في اليوم الموعود ذهبت فلم أجد غيره.. لم أجد غير (هونج ينج شين)، فسألته، فقال لي: إن الله سيظهر على شاشة القناة الثامنة عشرة وفي أجهزة التلفاز المنتشرة في العالم منتصف يوم 24 مارس، وفي يوم 31 مارس الساعة العاشرة صباحاً.

انتظرت ذلك الوقت بلهفة فلم أجد غيره.. لم أجد غير (هونج ينج شين)، فسألته، فقال لي: لا يمكنك أن تعرف الله إلا بعد أن تموت.

قلت: لم يحضر أجلي بعد.

قال: أجلك بيدك.. يمكنك أن تقربه، ويمكنك أن تبعده.

قلت: فكيف أقربه؟

أعطاني قارورة صغيرة، وقال: تناول من هذه القارورة، وسترى الموت الذي يقربك من الله.

أخذت القارورة من يده، وسرت بها إلى بعض الحدائق.. لكني ما إن مددت بفمها إلى فمي حتى سمعت صوتا يردد بصوت جميل هذه الكلمات :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)(البقرة)

 

 

 

السلام

كان للصوت من القوة والدفء والحنان ما جعلني أصيح من حيث لا أشعر: هذا هو الإله الذي ظللت طول عمري أبحث عنه .. فدلوني عليه.

أقبل إلي الرجل القارئ، وقال: ها أنذا بين يديك .. ما الذي تطلبه مني؟

قلت بلهفة وحزن: أنا أبحث عن ربي .. لقد ظللت طول عمري أبحث عنه .. ولكني لم أجد في بحثي إلا السراب.

قال لي: وأنا محمد .. جئت من بلاد بعيدة .. وليس لي من دور إلا التبشير بالإله الحقيقي الذي حاول قطاع الطرق أن يحجبوا الخلق عنه.

قلت: فهلم دلني عليه .. فلا يمكن لروحي أن تسمو .. ولا لنفسي أن تطمئن إلا بصحبته .. وإياك وأحاديث اللصوص فقد ملأوني أوهاما.

قال: جل جناب الحق أن يترك اللصوص وحدهم .. وجل جناب الحق أن يترك الدنيا بلا هاد يدل عليه .. إن كرم الكريم ورحمة الرحيم ولطف اللطيف يأبى ذلك.

قلت: أراك تذكر أسماء كثيرة .. فلمن هي؟

قال: هي أسماء ربي .. لربي من الأسماء ما يدل عليه .. ونحن نتعرف عليه من خلالها، ونتعامل معه على أساسها.. فبما أن الله غني، فنحن فقراء إلى فضله، قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ﴾ (فاطر:15)، وقال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ  ﴾ (الأنعام:123)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ هَل مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ ﴾ (فاطر:3)

وقال r فيما يرويه عن ربه تَبَارَكَ وَتعالي :( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَي قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلكَ فِي مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه)[7]

قلت: إن لحديث ربك حلاوة .. فدلني عليه .. وعرفني بأسمائه الحسنى .. لعلي أحيط بمعرفته علما.

قال: ربي أعظم من أن يحاط به علما .. قال تعالى:﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾( طه:110)

إن البشر الذين عجزوا عن معرفة أبسط أسرار المكونات كيف يطمعون في الإحاطة برب المكونات.

قلت: فسم لي أسماء ربك .. لعلي أعبر منها إلى ذاته.

قال: البشر جميعا بجميع عقولهم وطاقاتهم أعظموا من أن يحصروا أسماء ربهم .. لقد قال تعالى :﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)﴾ (لقمان)

وفي الحديث عن رسول الله r:( مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ ، إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ : اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ بَصَرِي ، وَجِلاَءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، إِلا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً)[8]

قلت: فسم لي من أسمائه ما أطيق[9] .

الواحد:

قال: ربي هو الواحد الأحد .. وصف نفسه، فقال:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ (الإخلاص: 1)، وقال :﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ (الرعد: 16)

قلت: من هو الواحد الأحد؟

قال: هو الذي تفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال، وحمد، وحكمة، ورحمة، وغيرها من صفات الكمال، فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه، فهو الأحد في حياته، وقيوميته، وعلمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وجماله، وحمده، وحكمته، ورحمته، وغيرها من صفاته .. وهو موصوف بغاية الكمال، ونهايته من كل صفة من هذه الصفات..

العلي:

قلت: إن ذلك حسن يدل عليه كل شيء .. فما غيره؟

قال: ربي هو العلي الأعلى .. يقول في كتابه الكريم واصفا نفسه:﴿ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ (البقرة: 255)، وقال:﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ (الأعلى: 1)

قلت: من العلي الأعلى؟

قال: هو الذي لا رتبة فوق رتبته وجميع المراتب منحطة عنه .. وهو الذي لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى:﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾( طه:110).. وهو ليس كمثله شيء في كل نعوته .. وهو الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكن .. فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه.

الأول، والآخر، والظاهر، والباطن:

قلت: إن ذلك حسن تدل عليه كل الحقائق .. فما غيره؟

قال: ربي هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن .. قال تعالى :﴿ سبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) ﴾ (الحديد)

قلت: إن هذا النص الذي تلوته يتناول القلوب ، فيهزها هزاً ، ويأخذها أخذاً ..

قال: أجل .. إنه يجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله ، ولا ترى إلا الله ، ولا تحس بغير الله ، ولا تعلم لها مهرباً من قدرته ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعاً إلا إليه ، ولا متوجهاً إلا لوجهه الكريم.

قلت: فما معنى هذه الأسماء؟  :

قال: لقد فسرها النبي r فقال مخاطبا لربه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)[10]

قلت: ففسر لي ما قال؟

قال: إنه يعني أن الله هو الأول فليس قبله شيء .. وهو الآخر فليس بعده شيء .. وهو الظاهر فليس فوقه شيء.. وهو الباطن فليس دونه شيء ..

هو الأول والآخر مستغرقاً كل حقيقة الزمان ..والظاهر والباطن مستغرقاً كل حقيقة المكان .. وهما مطلقتان.

قلت: إن هذا يعني أن الله هو الموجود الوحيد في الكون.

قال: أجل .. إن الله هو صاحب الوجود الحقيقي في الكون .. وكل شيء يستمد وجوده منه ..

قال ذلك، ثم أخذ ينشد بصوت عذب:

الله قل وذر الوجود وما حوى
 

إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
  

فالكل دون الله أن حققته
 

عدم على التفصيل والإجمال
  

واعلم بأنك والعوالم كلها
 

لولاه في محو وفي اضمحلال
  

من لا وجود لذاته من ذاته
 

فوجوده لولاه عين محال
  

والعارفون بربهم لم يشهدوا
 

شيئاً سوى المتكبر المتعال
  

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا
 

ً في الحال والماضي والاستقبال
  

قلت: إن لما تقوله تأثيرا عظيما في النفس لا يمكن وصفه.

قال: أجل .. إن هذه الحقائق إذا استقرت في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله ؟ وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى؟ وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء[11]؟

وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة .

الخالق، البارئ، المصور:

قلت: فزدني من أسماء ربك.

قال: ربي هو الخالق، البارئ، المصور .. قال تعالى :﴿ هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ (الحشر:24)، وقال :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾(الأنعام:102)، وقال :﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الزمر:62)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (فاطر:3 )، وقال :﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (النحل:17)، وقال :﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (النور:45)، وقال :﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (القصص:68)، وقال :﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾  (الزخرف:16)، وقال :﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد:16)، وقال :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ (غافر:62)

قلت: فما تعني هذه الأسماء؟

قال: إنها تجعلك ترى كل شيء من تصميم الله وصناعته وخلقه .. فلا شيء من الله .. ولا شيء إلا بالله ..

القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، المانع، المعطي، الضار، النافع:

قلت: إن هذا جميل يملؤني بالسلام .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، المانع، المعطي، الضار، النافع .. قال تعالى:﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة:245)، وقال :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾ (الفرقان:45-46)، وقال :﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ (الشورى:27)، وقال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾ (الإسراء:30)، وقال :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (الشورى:12)

وكان النبي r يدعو، فيقول :( اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ وأعوذ بك مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا)[12]

وروي أن النَّاس قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ )[13]

وقال r :( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)[14]

وقال لأصحابه حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ:( إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ)[15] 

وقَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ)[16]

قلت: ما يعني كل هذا؟

قال: يعني أن ربي ورب الخلق جميعا هو المتفرد بكل تدبير يحصل في الكون .. فهو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات .. وهو الذي يبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة .. وهو الذي يقبض الصدقات من الأغنياء.. وهو الذي يبسط الأرزاق للضعفاء .. وهو الذي يبسط الرزق على الأغنياء حتى لا يبقي فاقة .. وهو الذي يقبضه عن الفقراء حتى لا يبقي طاقة .. وهو الذي يقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله.. وهو الذي يبسطها بما يتقرب إليها من بره ولطفه وجماله.

وهو الذي يخفض الكفار بالإشقاء .. وهو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد .. وهو الذي يرفع أولياءه بالتقريب .. وهو الذي يخفض أعداءه بالإبعاد.

وهو الذي يؤتي الملك من يشاء .. وهو الذي يسلبه ممن يشاء ..

البر، الوهاب، الكريم:

قلت: إن تفرد ربك بكل هذا عظيم .. وهو يملؤني بالسلام .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو البر، الوهاب، الكريم .. قال تعالى :﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾(الطور: 28)، وقال:﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40)، وقال:﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران: 8)، وقال :﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ (النحل:53)

قلت: ما يعني هذا؟

قال: إن ربي هو البر الوهاب الكريم الذي شمل الكائنات بأسرها ببره، وهباته، وكرمه، فهو مولى الجميل، ودائم الإحسان، وواسع المواهب.. وصفه البر .. وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة، والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبره طرفة عين.

الرحمن الرحيم:

قلت: إن هذا حسن .. وهو يملؤني بالأمل .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو الرحمن الرحيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلما .. قال تعالى :﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً﴾ (غافر:7)، وقال :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء ﴾ (الأعراف:156)

وقد وردا مقترنين في مواضع من القرآن الكريم للدلالة على سعة الرحمة وشمولها، كما قال تعالى:﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة:1)، وقال تعالى:﴿  الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة:3)، وقال تعالى:﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:163)، وقال تعالى:﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (فصلت:2)

بل إن الله تعالى جعل اسم الرحمن علما على الذات الإلهية المقدسة، قال تعالى:﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الاسراء: من الآية110)، وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ (طـه:90)

ومما يدل على دلالته للذات أن الله تعالى نسب الملك للفظ الجلالة الدال عل الذات، كما قال تعالى:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ (الحج:56) ونسبه إلى الرحمن، كما قال تعالى:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ (الفرقان:26)، وقال تعالى:﴿ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طـه:109)، وقال تعالى:﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾ (النبأ:38)

ولهذا ترد نسبة العباد إلى الرحمن سواء من البشر، كما قال تعالى:﴿  وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾ (الفرقان:63)، أو من الملائكة، كما قال تعالى:﴿ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ﴾ (الزخرف:19)

ودلالته على الذات تعني شموليته لكل شيء، فكل شيء قائم بالله، ولهذا يربط القرآن الكريم كل المظاهر برحمانية الله سواء ما كان منها من باب الرحمة الخالصة، كقوله تعالى:﴿  جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾ (مريم:61)

 أو من باب الرحمة الممزوجة بالآلام على حسب ما تقتضيه الأسماء الحسنى والحكمة الإلهية، كما قال تعالى على لسان إبراهيم u:﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ (مريم:45)

فقد ذكر إبراهيم u الرحمن، ولم يقل الجبار ولا القهار، للدلالة على أن العذاب لا يتنافى مع الرحمة الإلهية، كما لا يتنافى الكي أو الحقنة أو الدواء المر إذا وضعت في مواضعها التي تقتضيها حكمة الجسم مع رحمة الطبيب.

ولذلك قال تعالى: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ﴾ (يّـس:23)، فقد نسب إرادة الضر إلى الرحمن ليدل على أن هذا الضرر في حقيقته رحمة، اقتضاه التدبير الإلهي.

ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾ (مريم:69)، وقال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً﴾ (مريم:75)

وقد وردت النصوص الكثيرة  التي تقرب لنا حقيقة هذه الصفات العظيمة .. ففي الحديث أن رسول الله r رأى امرأة تبحث عن ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه r:(  أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا:( لا يا رسول اللّه)، قال:( فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) [17] 

بل إن رسول الله r أخبرنا بأن هذه الرحمة التي وقفتها هذه الأم ليست سوى تجل من تجليات رحمة الله، قال r:( جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) [18]

وقد أخبر القرآن الكريم أن ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طـه:5)، وفي ذلك إشارة إلى أن مملكة هذا الكون الواسعة مبنية على أساس الرحمة الإلهية ومنتهية إليها.

فالله تعالى في تلك الآية الكريمة لم يختر من أسمائه إلا هذا الاسم الجليل الذي يجمع بين الدلالة على منتهى الرحمة وكمالها والعلمية على الذات ليدل على هذا المعنى، فإنه إذا قيل:( حكم الملك الشجاع) دل ذلك على ان أكبر منجزات هذا الملك مؤسسة على شجاعته، وإن قيل:( حكم الملك العادل) دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله، وهكذا.

الودود:

قلت: إن هذا لجميل يدل عليه كل شيء .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو الودود .. قال تعالى :﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ (البروج:14-15)، وقال:﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ (هود:90)، وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾ (مريم)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾ (المائدة)

ويحكي رسول الله r عن ربه قوله لعباده:( إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) [19]، وقوله:( يا ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك) [20]

وفي الأثر الإلهي يقول الله تعالى:( إني والجن والإنس في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي)[21]

وفي أثر آخر:( ابن آدم، ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي، وأنت فقير إلي)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك , يا  ابن آدم لو أتيتني بقرابة الأرض - بضم القاف ويجوز كسرها أي قريب ملئها - خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) [22]

قلت: إن هذا جميل .. ولكن ألا ترى فيه تشجيعا للعصاة على معاصيهم؟

قال: لا .. إن الله تعالى هو الذي وصف نفسه بذلك، ومن الخطر أن نصف الله تعالى بغير ما وصف به نفسه..

فالله تعالى يخاطب المسرفين على أنفسهم بألوان الذنوب قائلا:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)، فالله تعالى عرف نفسه لهؤلاء المسرفين بكونه غفورا رحيما، ومن الخطأ أن نعرفهم لهم بغير ما عرفهم به.

بل إن هذا التعريف هو الذي يحرك القلوب للسير نحو الله، ويكبح الغرائز عن معارضة الرحيم الودود، وقد روي أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وسبب توبته أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية::﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53)، فوقف عليه، فقال:( يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً.

ويروى من هذا أن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل u، فقال: إن أسلمت أضفتك؛ فمرّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيـير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره، فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك؛ فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه؛ فقال له المجوسي: ما السبب فيما بدا لك؟ فذكر له؛ فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني ثم قال: اعرض علي الإسلام فأسلم.

ويروى عن عمر أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام؛ فقيل له: تتابع في هذا الشراب؛ فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: ﴿ بسم الله الرحمن. حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:1 ـ 3)، ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر ـ رضي الله عنه ـ أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.

فهذه المعرفة بالله جعلت الأول يستهين بكل صعب في سبيل الله، وجعلت الثاني يقبل على الله، وجعلت الثالث يتوب إلى الله، ولذلك قال الغزالي:( اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف، لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له، والحب يغلب الرجاء، واعتبر ذلك بملكين يخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه) [23]

ولما يتضمنه القنوط من رحمة الله من مساوئ في الاعتقاد أو السلوك ورد النصوص بتحريمه، كما قال تعالى في الآية السابقة:﴿ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية53)، فحرم أصل اليأس.

بل اعتبر اليأس من روح الله من صفات الكافرين، كما قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية87)

وأخبر تعالى أن كفر الكافرين وضلالهم ناتج عن سوء ظنهم بربهم، كما قال تعالى:﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (فصلت:23)، وقال تعالى:﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ (الفتح:12)

وذلك لأن استشعار رحمة الله يحبب في لقاء الله، بخلاف اليأس من رحمته، فإن الإنسان يكره لقاء من لا يحبه، قال r:( إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له؟ قلنا: نعم يا رسول الله. قال: إن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا. فيقول: لم؟ فيقولون رجونا عفوك ومغفرتك , فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي) [24]

ولهذا ورد الأمر بحسن الظن بالله خاصة في موقف الاحتضار، وقد سمع النبي r قبل موته بثلاثة أيام يقول:( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى) [25]

ودخل r على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله , وإني أخاف ذنوبي , فقال r:( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف) [26]

وقد أخبر r عن تأثير حسن الظن بالله ـ والذي يعتمد على معرفة رحمة الله الواسعة ـ سواء في السلوك أو في تنزل فضل الله عليه:

فقال عن تأثيره السلوكي:( حسن الظن من حسن العبادة) [27]، وقال r:( إن أفضل العبادات حسن الظن بالله تعالى , يقول الله لعباده أنا عند ظنك بي) [28] 

وقال عن تأثيره في تنزل فضل الله عليه:( قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني) [29]، وقال r:( قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله , وإن ظن شرا فله) [30]

وأخبر r عن تأثير حسن الظن بالله في الآخرة بقوله:( أمر الله تعالى  بعبد إلى النار فلما وقف على شفيرها التفت فقال: أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسنا , فقال الله تعالى ردوه , أنا عند ظن عبدي بي) [31]

ويروى في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويـين في العبادة، قال: فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه، فيقول: يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته عليَّ في عليـين، فيقول الله سبحانه: إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وأنت كنت تسألني النجاة من النار، فأعطيت كل عبد سؤله.

وسر هذا أن القانط من رحمة الله يعتقد في الله ما لا يليق به مما ينزه عنه، بينما من أحسن ظنه بالله، وإن قصر في سلوكه، فإن ذلك التقصير لم يؤثر في حسن معرفته بربه، ولذلك قال علي ـ رضي الله عنه ـ لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه:( يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك)

ولهذا ورد الأمر بتحبيب الله إلى عباده، وذلك لا يكون إلا بذكرفضله ورحمته، وقد أوحي الله تعالى إلى داود u:( أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي)، فقال:( يا رب، كيف أحببك إلى خلقك؟)، قال:( اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل)

ويروى أنّ رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدّد عليهم، فيقول الله تعالى يوم القيامة له:( اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها)

وقد رئي أبان بن أبـي عياش في النوم، وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال: أوقفني الله تعالى بـين يديه فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: أردت أن أحببك إلى خلقك، فقال: قد غفرت لك)، وقد لقي في حياته مالكا بن دينار، فقال له: إلى كم تحدث الناس بالرخص؟ فقال: يا أبا يحيـى، إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح.

وقال بكر بن سليم الصوّاف: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه.

وقال يحيـى بن معاذ في مناجاته: يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إياك مع الأعمال؛ لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف، وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.

ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف، فقال له: يا أستاذ، بم نلت هذا؟ فقال: بحسن ظني بربـي.

وحكي أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار سبحانه يقول: أين العلماء؟ قال: فجاؤوا، ثم قال: ماذا عملتم فيما علمتم؟ قال: فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا: قال: فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جواباً غيره، فقلت: أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه، فقال: اذهبوا به فقد غفرت لكم، ومات بعد ذلك بثلاث ليال.

العفو، التواب، الغفور:

قلت: إن ما تذكره جميل .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو العفو التواب الغفور .. قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان:71)، وقال :﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ (الحجر:49)، وقال :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ﴾ (الرعد:6)، وقال :﴿ وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ (الكهف:58)

وقال r :( قَالَ الله : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)[32]

وقال:( لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) [33]

الحَفيظُ:

قلت: إن ما تذكره جميل يملؤنا بالأمل والقوة .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو الحفيظ الذي يحفظ كل شيء .. قال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ (سبأ:21)، وقال:﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ (الشورى:6)، وقال على لسان هود:﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ هود:57)

الجليل، الجميل:

قلت: إن ما تذكره جميل يملؤنا بالطمأنينة والاستقرار.. فما غيره؟

قال: إن ربي هو  الجليل الجميل، قال r :( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال)[34]  .. فلا شيء أكمل من الله، ولا شيء أجمل من الله .. فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته وكمال قدرته وبديع حكمته .. فلا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه ، له الفضل كله على خلقه ، وله النعمة السابغة والحجة البالغة ، والسطوة الدامغة ، ليس في أفعاله عبث ، ولا في أوامره سفه ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن المصلحة والحكمة والفضل والرحمة ، كلامه صدق ، ووعده حق، وعدله ظاهر في سائر الخلق، إن أعطى فبفضله ورحمته ، وكرمه ونعمته ، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته.

العليم، الخبير، اللطيف:

 قلت: إن هذا جميل يملأ القلب محبة وتعظيما .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو العليم الخبير اللطيف الذي أحاط بكل شيء علما .. قال تعالى :﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (الأنعام:59-60)، وقال :﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ﴾ (فصلت:47)، وقال :﴿ لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِالله شَهِيداً ﴾ ( النساء:166)، وقال :﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ (الأنعام:13)، وقال :﴿ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الليْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ﴾ (الأنعام:96)، وقال :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ﴾ (الروم:54)، وقال :﴿ وَهُوَ الذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ﴾ (الزخرف:84)، وقال :﴿ أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ ﴾ (يّس:81)، وقال :﴿ قُل يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ ﴾ (سبأ:26)

وقال في بيان سعة علمه:﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام:80)، وقال تعالى:﴿  قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (لأعراف:89)، وقال تعالى:﴿  إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (طـه:98)

السميع البصير:

قلت: إن هذا جميل يملأ القلب محبة وتعظيما .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو السميع الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي، فيسمع السر والنجوى، بل ما هو أدق من ذلك وأخفى، ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.. يسمع حمد الحامدين فيجازيهم.. ويسمع دعاء الداعين فيستجيب لهم .. يسمع بغير أصمخة وآذان كما يفعل بغير جارحة ويتكلم بغير لسان وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان .. قال تعالى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ (البقرة:127)، وقال :﴿ إِذْ قَالتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ (آل عمران:35)، وقال عن دعاء زكريا :﴿ قال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ (آل عمران:38)

وقال رسول الله r :( وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، يَسْمَعِ الله لَكُمْ ؛ فَإِنَّ الله تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ r : سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ)[35]

وهو البصير الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وإبصاره منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان، فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدثان.

قال تعالى عن موسى u :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ (طه:25-35)، وقال على لسان مؤمن آل فرعون :﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ (غافر:41/44)، وقال :﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) ﴾ (التوبة)

الحكيم:

قلت: إن هذا عظيم يملأ القلب مهابة .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو الحكيم .. قال تعالى :﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة:32)، وقال على لسان نبيه إبراهيم u :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (البقرة:129)، وقال:﴿  وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام:18)، وقال:﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام:83)، وقال:﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة:269)

الحكم، العدل:

قلت: إن هذا عظيم .. فما غيره؟

قال: إن ربي حكم عدل .. فهو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه فلايظلم مثقال ذرة، ولا يحمل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه.. وهو العدل في تدبيره، وتقديره :﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( هود:56)

وقال رسول الله r فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى: ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) [36]

الرزاق:

قلت: إن هذا عظيم .. فما غيره؟

قال: إن ربي هو الرزاق الذي رزق كل شيء .. قال تعالى :﴿ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (النمل:26)، وقال:﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ (الذريات:22) ، وقال:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:60) ، وقال:﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) (هود:6)

فالرزاق هو الذي يتولى تنفيذ الأرزاق لحظة بلحظة.. رزق الخلائق عليه فليس لهم اعتماد في الرزق إلا عليه ، ضمن رزقهم وسيؤديه كما وعد ، ودورهم فقط أن يعبدوه ولا يشركوا به أحدا ، قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ (الذاريات:57)، وقال:﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا ) (الطلاق:3) ، وقال:﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى:12)

***

ما إن وصل محمد من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صوتا يصرخ في البرية بأن أمة محمد مهددة بحرب داخلية مدمرة .. فما إن سمع محمد ذلك حتى تغير وجهه .. ثم قام مسرعا، وهو يصيح: لبيك ربي .. لبيك ربي.

تعجبت من قوله هذا .. فسألت بعض من مر بنا عنه .. فأخبروني بأنه رحل إلى هذه البلاد ..

مكثت مدة أحاول أن أتسلى عن صحبته لكني لم أطق .. لقد صارت ذكراه ذكرا لربه .. لقد أشعل في قلبي من نيران الأشواق ما كامنا .. وقد جاءت بي الأشواق إلى هذه البلاد .. وها أنتم ترون ما حصل لنا.

وأنا لا آسف على شيء في حياتي كما آسف على فراقه ..

 

الخاتمة

بعد أن انتهت الأيام العشرة، وانتهت أحاديث أصحابي العشرة، وفي الليلة التي ينفذ في صباحها حكم إعدامنا حصلت أشياء عجيبة.. سأقصها عليك باختصار:

لقد كان في حراستنا في ذلك الغار رجل صلب شديد، لم نكن نعرف منه إلا الطعام البسيط الذي كان يحضره لنا في الصباح والمساء.. وكان بينهما، وفي الوقت الذي نشتغل فيه بما قصصته لك من الأحاديث يتصنت علينا باهتمام كبير، وكان أحيانا يهتز لما يسمع، وكأننا نخاطبه به.

هذا الرجل الذي لم نتشرف بمعرفة اسمه، كان هو سبب نجاتنا..

في تلك الليلة.. جاءنا متخفيا ملثما كعادته، ثم طلب منا أن نسير خلفه، وأن لا ننحرف نحو أي جهة، كل ذلك وهو مشهر سلاحه نحونا.

ظننا في البدء أن حكم الإعدام سينفذ علينا في تلك الليلة، فسرنا، وقد ملأتنا مشاعر من وقف بين الموت والحياة..

في تلك اللحظات كدت أصيح من كل قلبي، وبكل مشاعري (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. ولكن جبالا من الحديد والزنك والرصاص وقفت في حنجرتي، ومنعتني من أن أنطق بما ظللت طول عمري أحلم بأن أنطق به.

سرنا خلف الحارس.. وقد تعجبنا إذ أنه سلك بنا مسالك كثيرة.. كل ذلك، وهو يشهر سلاحه في وجوهنا، ويصيح فينا بكل قوة بأن نسرع..

بعد مسيرة أكثر من ساعتين وجدنا مغارة لا تختلف عن المغارة التي كنا فيه، فأشار إلينا أن ندخل إليها، فدخلنا.. بعدها نظر فيما حوله، ثم دخل خلفنا، وأماط اللثام عن وجهه، فإذا به وجه لا يختلف عن وجوه قومنا لولا تلك اللحية الطويلة التي تميز بها الكل في تلك الجبال.

ثم نطق بلغة إنجليزية فصيحة.. وكأنه من غير تلك البلاد، وقال لنا: اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي.

قال أحدنا ـ مقاطعا له ـ : لا شك أنك من المخابرات الـ (..؟).. ولا شك أن قومنا قد أرسلوك لإنقاذنا.

قال الرجل: أما الأول.. فقد أصبت فيه.. فأنا من المخابرات التي ذكرت.. بل أنا ذو منصب مهم في تلك المخابرات.. وأما الثاني، فقد أخطأت فيه.

تعجبنا من جوابه هذا، وقلنا: فما الذي جعلك تخرج من ذلك المحل؟

قال: نعم أنا أردت أن أنقذكم.. لكن لا تنفيذا لما طلبت من المخابرات.. بل تنفيذ لما طلبه مني قلبي وعقلي وروحي، وربي بعد ذلك كله وقبله.. 

قلنا: فأنت مسيحي متدين إذن.. لهذا جئت لتنقذنا؟

قال: قبل ساعات كنت مسيحيا.. لكني الآن.. والآن فقط أصرح بأعظم شهادة كتب الله لي أن أشهدها.

قلنا: أي شهادة؟

قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قلنا: أأسلمت؟

قال: إن أحاديثكم التي تحدثتم بها هي التي جعلتني أسلم.

قلنا: كيف تسلم، وأنت ترى من المسلمين ما ترى.. إن حكم الإعدام كان سينفذ فينا هذا الصباح لولا أن أرسلك الله لنا؟

نظر إلى خارج المغارة، وكأنه يتهيب مما سيذكره، ثم قال: أتدرون من كان سينفذ فيكم حكم الإعدام؟

قلنا بصوت واحد: أولئك المسلمون.

قال: نعم.. أولئك المسلمون.. ولكن بوحي ممن؟

قلنا: بوحي من نفوسهم التي امتلأت بالصراع.

قال: النفوس وحدها لا تكفي لصناعة الشر.. كل شر يحتاج إلى ركنين: النفس والشيطان..

قلنا: نعرف الشيطان.. ولكنا لا نستطيع أن ننسب الأمر إليه.. فالشيطان غيب لا شهادة.

قال: لا أقصد شيطان الغيب.. بل أقصد شيطان الشهادة.

قلنا: وهل في الشهادة شياطين؟

قال: أنتم أدرى مني بهم.

قلنا: فمن هؤلاء الشياطين الذين أوحوا للمسلمين ما أوحوا؟

سقطت دموع حارة من عينيه، وقال: لقد كنت قبل ساعة أحدهم.

قلنا: أنت؟

قال: أجل.. ألم أذكر لكم أني من مخابرات (...؟)؟

قلنا: لا نعرف المخابرات إلا أنها الجهة التي تتنصت للأحداث لتتعرف من خلالها على صانعي الأحداث.

قال: أخطر المخابرات هي الجهة التي تصنع الأحداث.

قلنا: لم نفهم.

قال: لاشك أنكم لن تفهموا.. فمثل هذه الأسرار لا يعرفها إلا من وصل إلى الدرجات العليا في سلم المراتب الشيطانية.

قلنا: فقد كان لك حظ من هذه المراتب إذن.

قال: أجل.. ولذلك انتدبت مع أفراد كثيرين لهذه الرسالة..

قلنا: أي رسالة؟

أخرج كاميرا متطورة من جيبه، وقال: إن كل ما مر بكم من أحداث مسجل هنا.

قلت: أسجلت كلامنا؟

قال: لا.. سجلت كل ما حصل معكم من خطف وعنف ومحاكمة.

قلنا: لم؟

قال: لنشوه الشمس التي لا يمكن لأحد في الدنيا أن يطمع في تشويهها.. لقد أرسلني قومي.. لأسجل كل ما يحصل.. حتى ساعة الإعدام نفسها.. ليعرض ذلك كله على العالم كله.. لتمتلئ قلوب العالم أحقادا على محمد ودين محمد.

قلنا: أهان على قومنا أن تراق دمائنا في سبيل هذا؟

قال: إنهم يريدون أن يحولوكم إلى قديسين.. ثم يحولوا بعدكم، وبسببكم، هذه الأرض إلى أطلال.

قلنا: لكن كيف استطعت أن تقنع أولئك الغلاظ بأنك أحدهم؟

قال: وهل يصعب على الراعي الخبير أن يقتاد قطيع ماشيته.

قلنا: ولكن الراعي منهم..  أفلم يكن له من العقل ما يميز به الماشية من الذئاب.

قال: بل الراعي منا.. إن القائد الأعلى لكل المجموعات التي ترونها في هذه الجبال منا وبنا.. إنه على وجه التحديد المسؤول الأكبر الذي لست سوى ضابط من ضباط كتيبته.

قلنا: فهو الذي أرسلك إذن.

قال: أجل.. لقد أرسلني لذلك القطيع.. بعد أن أمرهم بأن ينفذوا كل ما أطلبه.

قلنا: ولكنك خرجت بنا خائفا.. كان في إمكانك أن تخرج بنا ونحن في غاية الأمن.

قال: أنت لا تعرف القائد الكبير.. إنه لا يثق في أحد من الناس.. فلذلك ينصب على كل خبير من المخبرين ما يضمن به نجاح جميع مخططاته.. إنه لا يحب الفشل، ولا يرضى به.

قلنا: فسيعلم القائد الكبير بفرارنا إذن.

قال: أجل.. ولذلك جمعتكم هنا لأخبركم بهذا.

قلنا: فسيكافئونك على إنقاذك لنا إذن.

قال: سيكافئونني بالقتل.. سيقتلونني قبل أن يسمع بي أحد من الناس.. ثم يرتبوا سيناريو خاصا لينفذوا به خططهم.

قلنا: لم نفهم.

قال: في البدء كانت خطتهم.. والتي وكلت مع بعض الناس لتنفيذها.. أن تعدموا.. ثم تنشر صور إعدامكم إلى العالم أجمع.. ليصبح كل واحد منكم قديسا ومسيحا.. ثم يرمى على المسلمين الذين صلبوكم من اللعنات ما رمي على اليهود.

قلنا: لقد أفشلت هذه الخطة.. فما الخطة الأخرى؟

قال: سيقتلونني.. ثم يزعمون أنهم استطاعوا بقوتهم وحيلتهم إنقاذكم.. وهنا أيضا سيظفرون بكل أنواع الإكبار.. ولكن مع ذلك دون ما كانوا يطلبون.

قلنا: فما الذي دعاك إلى هذه التضحية؟

قال: ما سمعته منكم هو الذي دعاني إلى هذا.. أنا الإنسان الذي بلي بكل ما ابتليتم به.. ولم أجد منقذا، فهرعت إلى الصراع أبحث فيه عن المنقذ.. وقد دلني ما حدثتموني به عن المنقذ.

قلنا: ولكنك ستموت.

قال: لا يهمني أن أموت بعد أن عرفت المنقذ.. إنني سأموت مطمئنا بعد أن وضعت رجلي في الطريق الصحيح الذي تبدأ به ولادتي الثانية.

قلنا: ألا يمكن أن تفر بنفسك وتدعنا.. فلعل الله أن يقدر لك النجاة؟

قال: ليت ذلك كان ممكنا.. لا يمكن أن يخرج أحد من هذه الجبال إلا من كان له من الخبرة ما ظللنا طول عمرنا نتدرب عليه.

قلنا: فلم لا ترجع إلى أصحابك بعد أن تنقذنا، ثم تخبرهم بفرارنا.. وأنك ظللت تلاحقنا.

قال: أنتم لا تعلمون قانون هذه الوظيفة.. إن هذه الوظيفة لا تطلب من المخطئ أن يعتذر، وإنما تطلب منه أن يقدم رأسه.

قلنا: يعز علينا أن تموت بسببنا.

قال: ويعز علي أن أترك من كان سببا في حياتي يذوق الموت قبل أن يضع رجله في بلاد السلام التي وضعت رجلي فيها.

قال لنا ذلك.. ثم أعطانا خطة الفرار.. فسرنا خلفه نقطع المسالك والمهالك إلى أن وصلنا إلى أرض عراء كانت قريبة من قاعدة من قواعد البلاد التي تنشر الصراع، وتحشر أنفها في كل شيء.

هناك.. قال لنا: اذهبوا الآن.. فلن تتعرضوا هنا لأي سوء..

فجأة.. رأينا جنودا كثيرين.. لسنا ندري هل كانوا من الإنس أم من الجن.. أحاطوا بنا، ثم طلبوا منا أن نرفع أيدينا.. ففعلنا.

تقدم قائدهم منا، وسألنا عنا، فأخبرناه، فقال: من المفروض أن تكونوا هذه الساعة في تلك المغارة، وأن ينفذ فيكم الإعدام في الصباح، فكيف جئتم؟

قلنا: لقد أنقذنا هذا الضابط الباسل.

اقترب منه، ثم نظر إليه مليا والحقد يبدو على عينيه، وقال له بصوت أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر: ما الذي فعلته أيها المجنون؟.. لقد أحبطت كل شيء..

قال ذلك، ثم أشار إلى بعض الجنود إشارة خفية بأن يطلق عليه النار، ففعل، فصحنا: إن هذا هو الذي أنقذنا، فكيف تقتلونه؟

لم يلتفت إلينا.. بل أخذنا إلى داخل القاعدة، وهناك التقينا بمن عرفنا ماذا نفعل، وما ينبغي قوله، وأخبرنا في نفس الوقت بأن أي تجاوز منا لما طلب منا لن يعرضنا إلا للموت.

عندما صحنا: إن ما تفعلونه جريمة، قالوا لنا: إن الأمن القومي يقتضي هذا.. وليس في الحرب أخلاق.. فإما أن تتعهدوا أمامنا بما طلبنا، وإما أن تقدموا رؤوسكم لمن يحصدها.

لم نجد إلا أن نخضع لهم..

في ذلك المساء.. رأينا على شاشات التلفزيون مشاهد البطولة التي تم بها إنقاذنا من بين أسنان أكلة لحوم البشر.. ورأينا في نفس الوقت كيف يكرم ذلك القائد الذي أهاننا والذي قتل من أنقذنا.

ورأينا بعد أيام جحافل الطائرات، وهي تدك تلك المغارة، ومن كان يسكن تلك المغارة.

***

قلت: فما فعل أصحابك؟

قال: لقد قدر الله لي أن أزورهم جميعا.

قلت: فحدثني حديثهم.

قال: عمن تريد أن أحدثك؟

قلت: حدثني عن أولهم.. ذلك الذي راح يبحث عن (الأنا)

قال: لقد وجدته مع أستاذه وصديقه شيبان الراعي.. وجدتهما معا في مرعى من المراعي الطاهرة.. كانا يتناجيان، وتشرق بتناجيهما الشموس، وتتفتح الأزهار، وتقبل الأغنام على مرعاها الخصيب.

قلنا: فهل تحدثت إليهما؟

قال:  لقد اقتربت منهما، لأتحدث إليهما، لكني سمعتهما يتحدثان عن معان راقية وحقائق عالية ومواجيد رفيعة، فلم أشأ أن أقطع حديثهما.. اكتفيت بالسماع.. ثم اكتفيت بالانصراف، وأنا أحمل في قلبي غبطة عظيمة لذلك الذي استطاع أن يقهر جميع ما لقنه أساتذته، ويقهر جميع ذلك الجاه الذي تمتلئ به قاعات المحاضرات.. ثم يرضى بتلك المراعي.. وبصحبة ذلك الراعي. 

قلت: حدثني عن ثانيهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (القلب)

قال:  وجدته مع صديقه سمنون المحب.. وجدتهما يتحدثان في عوالم من الجمال لم يطق عقلي أن يفهمها.

قلت: حدثني عن ثالثهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (العقل)

قال:  وجدته مع صديقه المدرسي.. وجدتهما يتحدثان في مدارك العقول .. وعلى حقائق كان لها من قوة الدليل وعظمة الحجة ما كان عقلي معقولا عن إدراكه.

قلت: حدثني عن رابعهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (النفس) وأسرار تهذيبها وترقيتها.

قال: وجدته مع صديقه المحاسبي.. وجدتهما يتحدثان في عوالم التطهير والترقي التي كنت قد حدثتك عن بعضها.. وسأحدثك عن الباقي في باقي رحلتي.

قلت: حدثني عن خامسهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (الأسرة)

قال: لقد التقيت به .. وقد رأيته كون أسرة صالحة ممتلئة بعطر الإيمان.

قلت: حدثني عن سادسهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (المجتمع)

قال: لقد التقيت به .. وقد رأيته يسعى مع إخوانه لتكوين المجتمع الصالح بالمواصفات التي وضعها الإسلام.

قلت: حدثني عن سابعهم .. ذلك الذي راح يبحث عن سلام (العالم)

قال: لقد التقيت به .. وقد شهدت في الأخير تلك اللحظات الأليمة التي قتل فيها.

قلت: من قتله؟ ولم قتله؟

قال: لقد أفشى بعض الأسرار التي نهينا أن ننشرها.. فقدم دمه قربانا لها.

قلت: أتلك التي ذكرتها لي من قصة إنقاذكم؟

قال: لا.. لقد رأى صاحبي ما هو أخطر من ذلك.. لقد ذكره لي عند زيارتي له.

قلت: وما رأى؟

قال: في تلك القاعدة شد انتباهنا صورة لجبال ومغارات لا تختلف عن الجبال والمغارات التي كنا فيها..

قلت: وما سرها؟

قال: لقد بحث صاحبي هذا عن سرها، وكانت معرفته لسرها سبب قتله.

قلت: فقد ذكر لك هذا السر؟

قال: أجل.. لقد رأى صاحبي رجلا ذا لحية طويلة يتردد على تلك القاعدة ليرسل كل الحين من البيانات السرية ما تتنافس جميع أجهزة الإعلام على نشره.

قلت: أتقصد..!؟

قال: أجل..

قلت: لقد كنا ضحايا مؤامرة محكمة إذن؟

قال: ولا زلتم.. ولا زلتم.

قلت: فحدثني عن تاسعهم (الأمازوني) ذلك الذي عشق أكوان الله.

قال:  لقد شاء الله أن أذهب إلى غابة الأمازون.. وهناك التقيت به مع صاحبه.. ومعهما نفر كثير من الناس.. وقد رأيتهم يزمعون على تأسيس جمعية كبيرة تضم أهل السلام من أهل الملل والنحل ليحفظوا للأرض سلامها وحياتها.. ويحفظوا لأكوان الله ما أودعها الله من أسرار إبداعه وقدرته.

قلت: فحدثني عن عاشرهم .. ذلك الذي راح يبحث عن الله.

قال: لقد وجدته في صحبة الله .. ممتلئا بأنوار من الإيمان .. ملأته سكينة وسلاما.

قلت: فما أخبار الفتنة التي أرادت أن تستأصل المسلمين؟

قال: لقد أطفأ الله ظلماته بنور الحكمة.

قلت: كيف كان ذلك؟

قال: لذلك حكاية طويلة .. ستسمعها من أهلها .. فلم أكلف بحكاية حكايتها لك[37].

***

قلت: أهذه هي نهاية أخبار رحلتك إلى سلام الإسلام؟

قال: أجل .. فاذهب واطلب لنفسك بعض الراحة لتستعد بعدها لتسمع رحلتي إلى عدالة الإسلام[38].

 



([1]) اختصرنا الكلام في هذا الفصل، لأن هناك رسالة مطولة خاصة بهذا الموضوع هي رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([2]) استفدنا الكثير من المعلومات التاريخية المرتبطة بهذا من كتاب (الله) لعباس محمود العقاد.

([3])  هذا ما عبر به العقاد.. ويعبر به علماء مقارنة الأديان عادة عند بحثهم في تاريخ الأديان.. ونحن نرى أن الأمر ليس خاضعا للتطور المتوهم.. وإنما هو خاضع لتأثير رسل الله والدعاة إليه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)

([4])  عبد الوهاب المسيري (1938-2008) مؤلف موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية، وهي أحد أهم الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين.. استطاع من خلالها إعطاء نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية للظاهرة اليهودية بشكل خاص، و تجربة الحداثة الغربية بشكل عام، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من تطوير مفهوم النماذج التفسيرية.

ولد في مدينة دمنهور في مصر في أكتوبر عام 1938.. تخرج من كلية الآداب عام 1959، وحصل على الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1964، وعلى الدكتوراه من جامعة رتجرز بنيوجيرزي عام 1969..  صدرت له عشرات الدراسات والمقالات عن إسرائيل والحركة الصهيونية، ويعتبر واحداً من أبرز المؤرخين العالميين المتخصصين في الحركة الصهيوينة.

([5])  انظر مادة (إله) من موسوعة اليهودية، للمسيري.

([6])  حسبما ينص الكتاب المقدس.. أما القرآن الكريم فهو يبرئ هارون u، وينسب العبادة للسامري.

([7]) رواه مسلم.

([8]) رواه ابن حبان.

([9]) سنذكر هنا ملخصا مختصرا لبعض الأسماء الحسنى وسنرى التفاصيل والأدلة المرتبطة بها في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([10]) رواه مسلم.

([11]) في ظلال القرآن، سيد قطب.. وقد رددنا على الشبهات المرتبطة بهذا وأمثاله في رسالة (أكوان الله) من سلسلة (عيون الحقائق) من (رسائل السلام)

([12]) رواه أحمد.

([13]) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، ورواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.

([14])رواه مسلم.

([15])رواه البخاري.

([16])رواه مسلم.

([17])  رواه البخاري.

([18])  رواه البخاري ومسلم.

([19])  رواه البخاري.

([20])  رواه أحمد.

([21])  رواه الحكيم والبيهقي.

([22])  رواه الترمذي.

([23])  الإحياء.

([24])  رواه أحمد الطبراني في الكبير وفيه عبيد الله بن زحر وهو ضعيف.

([25])  رواه أحمد ومسلم.

([26])  رواه الترمذي، وقال: غريب.

([27])  رواه أبو داود والحاكم.

([28])  رواه البغوي.

([29])  رواه البخاري.

([30])  رواه أحمد وفيه ابن لهيعة.

([31])  رواه البيهقي.

([32]) رواه الترمذي.

([33])  رواه البخاري ومسلم.

([34])رواه مسلم.

([35])رواه مسلم.

([36]) رواه مسلم.

([37]) انظر في أخبار هذه الحكاية رسالة (حصون المستضعفين)

([38]) عنوان الرسالة التالية لهذه الرسالة (عدالة للعالمين)