الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: سلام للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

ثالثا ـ العقل

الصراع

السفسطة:

الحوارية:

الاستذكارية:

الصورية:

الإشراقية:

الثالوثية:

المدرسية:

التجريبية:

الرياضية:

العقلانية المادية:

الحسية التجريبية:

المثالية الفلسفية:

الشكوكية التجريبية:

النسبية الذاتية:

الجدلية المثالية:

الجدلية المادية:

السلام

المدارك الحسية

قوة الحس:

ضعف الحس:

القوانين المنطقية

1 ـ تأييد المنطق:

2 ـ نقض المنطق:

التجارب الميدانية

الخواطر النفسانية

الخبرات البشرية

الفيوضات الربانية

الإشراقات الروحية

 

ثالثا ـ العقل

في اليوم الثالث، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. اعذروني، لقد كنت أحمل أسماء كثيرة مستعارة مثل من سبقني، كنت أحاول بها أن أغطي حقيقتي التي كانت تعذبني كل حين.. لكن حقيقتي أبت إلا أن تتمرد علي، وتذيقني في تمردها من الهوان ما لم أكن أحسب له أي حساب.

هناك جوانت مشرقة في قصتي ممتلئة بالنور والسلام والصفاء.. سأحدثكم عنها[1]..

ولكني لن أحدثكم عنها حتى تبصروا الصراع الذي كنت أعانيه.. وكانت جميع لطائفي تعانيه معي.

قلنا: حدثنا أولا عن الأسماء التي تسميت بها.. فلا يمكن أن نعرفك من دون أن نعرف اسمك؟

قال: لقد تسميت بأسماء كثيرة لا تكاد تحصى.. منها ما تعرفون.. ومنها ما لا تعرفون.. منها سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وايبيكوروس، وسيكستوس ايمبيريكوس، وأوغسطين، وبويتيوس، وأنسيلم كانتربوري، ووليام أوكام، وجون سكوت، وتوماس الأكويني، وميتشل دي مونتان، وفرانسيس بيكون، ورينيه ديكارت، وسبينوزا، ونيكولاس ماليبرانش، وغوتفريد لايبنتز، وجورج بيركيلي، وجون لوك، وديفيد هيوم، وتوماس ريد، وجان جاك روسو، وإمانويل كانت، وجورج ويلهيلم فريدريك هيغل، وآرثر شوبنهاور، وكيرغيكارد، وفريدريك نيتشه، وكارل ماركس، وفريجه، وألفريد وايتهيد، وبيرتراند رسل، وهنري بيرغسون، وإدموند هوسرل، ولودفيج فيتغينشتاين، ومارتن هايدجر، وهانز جورج غادامير، وجون بول سارتر، وألبرت كامو و كوين..

ومنها دونالد ديفيدسن، ودانيال دينيت، وجيري فودور، ويورجن هابرماس، وساول كريبكي، وتوماس كون، وتوماس نايجل، ومارثا نوسباوم، وريتشارد رورتي، وهيلاري بوتنم، وجون راولز، ووجون سيرل.. وغيرها كثير.

قلنا: من أي البلاد أنت؟

قال: من كل البلاد التي حنت إلى العقل.. وامتلأت به.. وطلقت كل شيء من أجله.. لكنها في أوج غرورها لم تكتسب إلا الأوهام.. ولم تظفر بغير السراب.

قلنا: كثيرة هي البلاد التي تحمل هذه الصفات..

قال: كلها بلادي التي نشأت فيها وترعرعت.. ومن أفكارها تغذيت.. من سمومها صليت.

قلنا: نقصد البلاد التي ولد فيها جسدك.

قال: لقد ذكر لي أبي أني ولدت بأثينة..

الصراع

السفسطة:

في تلك الأيام تتلمذت على أول عقل عرفته.. كان اسمه (السفسطة).. وكان زملائي من التلاميذ يسمون (سفسطائية)

قلنا: فحدثنا عنهم.

قال: هم ثلاثة طوائف.. وهم ينتشرون في كل مكان وزمان[2]..

أما أولاهم.. فيمكن أن نسميها (العنادية).. وهم المعاندون الذين لا يقرون بالحق لأهله مع علمهم به.. لقد عرف قرآن المسلمين منهجهم العقلي خير تعريف حين قال :﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(النمل: من الآية14)

وأما الثانية.. فيمكن أن نسميها (العِندية).. وهي طائفة ترى أن الحق كل الحق عندها وحدها.. وأن الباطل كل الباطل عند غيرها.

وأما الثالثة.. فاختارت أن تسمى (اللا أدرية).. وهي التي تفر من الحقيقة ومن البحث عنها ومن الإقرار لها بقولها كل حين (لا أدري)

قلنا: فكيف بدا لهذه الطوائف أن تظهر للوجود؟

قال: لقد ظهرت هذه الطوائف لترد بكسلها على الأهواء الكثيرة التي حاولت أن تفسر الوجود وحقائق الوجود..

لقد ظهرت عندما رأت عجز الأفكار عن تفسير النشأة الأولى هل هى من ماء أو من تراب.. أو من هواء أو من نار..  وظهرت عندما عجز الدين الوثنى السائد فى بلادنا حينذاك عن تلبية الفطرة الإنسانية.. فقد كان لكل ظاهرة كونية أو إنسانية إله يعبد ويقدس .. وظهرت عندما عجزت السياسة، فسلمت أمرها للحروب والمنازعات.

في هذه الأجواء ظهرت السفسطة كعجوز كسولة تقول للجميع: ليس هناك شيء اسمه الحقيقة.. أو تقول لهم: كلكم تحملون الحقيقة.

أذكر في ذلك الحين أستاذا لي كان اسمه (بروتاجوراس) (480 ق م- 410 ق م)، كانت فلسفته تدور حول اعتبار الإنسان مقياسا لكل شيء.. فهو الذى يقرر وجود الأشياء.. وهو الذي يقرر عدم وجودها.. لقد كان يردد كل حين: (إن الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا)

وكان يردد كل حين ما ذكره في مقدمة كتابه (الآلهة): ( عندما نأتي إلى الآلهة فإني لا أستطيع معرفة هل هي موجودة أم لا؟ أو حتى ماذا يشبه الآلهة في شكلهم، أو هنالك أسباب عديدة تقف في طريق هذه المعرفة، منها غموض المشكلة وقصر حياة الإنسان)

انظروا إلى التناقض الذي وقع فيه (بورتاجوراس) المسكين.. إنه لم يربط معرفة الآلهة بالإنسان كما قال في نظريته في المعرفة.. لقد كان الواجب عليه تقرير موقف من الآلهة متناسب مع نظريته.. لكنه لم يفعل فهو لم يقل بأن الآلهة موجودون بالإضافة إلى من يؤمنون بهم , وغير موجودين بالإضافة إلى من ينكرهم.

لقد كانت هذه المقولة هي التي دفعت أفلاطون[3] على أن يرد عليه في كتابه (القوانين) حين أعلن (أن الإله – ليس الإنسان- هو مقياس الأشياء جميعا بحس أعلى من أي حس إنساني)

في الصف الثاني في مدرسة السفسطة درسنا أستاذ اسمه (جورجياس).. لقد حاول المسكين بكل جهوده العقلية أن يثبت لنا ثلاث قضايا خطيرة.. أولها أن لاشيء في الوجود موجود.. واستدل على ذلك بأن كل شيء خاضع للتغير..

والثانية.. أنه إن وجد شيء، فإنه لا يمكن أن يعلم.. واستدل على ذلك بأن الحواس مختلفة.

والثالثة.. أنه إذا أمكن أن يعرف، فإنه لا يمكن إيصال معرفته للغير.. واستدل على ذلك بأن طريق الحواس ذاتى.

الحوارية:

بعد أن امتلأت بالمنهج الذي علمني إياه أساتذتي في السفسطة مدة من الزمان[4] كنت حينها أتلاعب بالكلمات وبالخطب.. لأبرهن على وجود العدم وعدم الوجود.. مللت هذا المنهج الذي يحتال على الحقائق ويصارعها.. ورحت أبحث عن أساتذة جدد.. لألقن عقلي المنهج الصحيح الذي يدرك به الحقائق.

قلنا: إلى أي مدرسة ذهبت؟

قال: لقد سمعت أن هناك جمعية عقلية تسمى (جمعية محبي الحكمة)[5].. وقد قصدتها.. وقد كان أول من لاقاني فيها شيخ جليل وقور.. كان اسمه (سقراط)[6]  

لقد استطاع بمنهجه الفريد في الإقناع[7] أن يعيد لعقلي توازنه، وينفي عنه ذلك العقم والكسل الذي بذره فيه السفسطائيون.. لكن الأيام لم تمهله.. فقد استطاع السفسطائيون أن يجرعوه السم الذي قضى على حياته قبل أن أكمل مشوار تلمذتي عليه.

لقد كان رجلا شجاعا ومتواضعا.. استطاع أن يستبدل بالآراء الغامضة أفكارًا واضحة.. وكثيرًا ما كان يجادل بعض أعيان أثينا، ويفضح ادعاءهم الفارغ للمعرفة والحكمة، مما سبب له العداوة بينهم، فحُكم عليه بالموت بدعوى أنه يشكل خطرًا على الدولة، وبذلك أصبح رمزًا للفيلسوف الذي يواصل باستمرار بحثه عن الحقيقة مهما كان الثمن..

بعد وفاته.. أو استشهاده.. بحثت في دفاتره عما يروي عقلي من مياه الحقيقة.. فلم أجد في دفاتره ما يكفيني.. فرحت أبحث عن تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه..

الاستذكارية:

في أثينا سمعت بمدرسة كانت تتواجد بحدائق (أكاديموس).. كان اسمها (أكاديمية أفلاطون).. أسرعت أحث خطاي إليها.. فوجدت بها رجلا ضخما كان الناس يطلقون عليه لقب (أفلاطون الإلهي)[8].. وكان هو أستاذي الثاني بعد سقراط..  

لقد ذكر لي عندما سألته عنه أنه ـ مثلي ـ تتلمذ في بداياته على السفسطائيين وعلى كراتيلِس تلميذ هراقليطس، قبل أن يرتبط بمعلِّمه سقراط في العشرين من عمره.. وأخبرني أنه نه تأثر كثيرًا بالحُكم الجائر الذي صدر بحقِّ سقراط وأدى إلى موته؛ الأمر الذي جعله يعي أن الدول محكومة بشكل سيئ، وأنه من أجل استتباب النظام والعدالة ينبغي أن تصبح الفلسفة أساسًا للسياسة.. وهذا ما دفعه للسفر إلى مصر.. ثم إلى جنوب إيطاليا، التي كانت تُعتبَر جزءًا من بلاد اليونان.. وهناك التقى بـالفيثاغوريين.. ثم انتقل إلى صقلية حيث قابل (ديونيسوس) ملك (سيراكوسا) المستبد، على أمل أن يجعل من هذه المدينة دولة تحكمها الفلسفة.. لكنها كانت تجربة فاشلة، سرعان ما دفعته إلى العودة إلى أثينا.. حيث أسَّس أكاديميته[9].

لقد كان أول ما تعلمته من هذا الأستاذ ردوده على السوفسطائية.. وقرأت عليه فيها مجموعة محاوراته..  كمحاورة بروتاجوراس، ومحاورة جورجياس، ومحاورة هيبياس، ومحاورة السوفسطائي.. وغيرها.. وقد انتفعت منها في انتشال عقلي من الهاوية التي أوقعه فيها السوفسطائية.

لكن ذلك.. مع ذلك.. لم يكفني.. فرحت أطالبه بالمنهج البديل لمنهج السفسطائية.. فقال لي ـ وقد كنا بجنب مرآة ـ : أترى صورتنا التي تنعكس على المرآة؟

قلت: أجل.. وكيف لا أراها؟

قال: أترى لها حدودا وجرما وكثافة؟

قلت: أما الحدود.. فأراها.. وأما الجرم والكثافة.. فلا يمكن أن أراها.

قال: لم؟

قلت: لأنها صورة لا حقيقة.. هي صورة تمثل الواقع ببعض أبعاده لا بكل أبعاده.

قال: كمثل هذه الصورة هناك عالم يدعى (عالَم المُثُل).. كل حقائقه ذات حدود.. ولكنها دون كثافة.

في هذا العالم تتجلى صور الحقائق الأرضية جميعا، فالإنسان ـ مثلا ـ يعيش أفراده على الأرض، أما هو فإنه واحد يعيش في عالم المُثُل، وهو (أي حقيقة الإنسان) شبح هناك يمثل كل الناس في كل العصور.

قلت: وعيت هذا رغم صعوبته.. فما بعده؟.. وما علاقته بمنهج التفكير؟

قال: كان الإنسان قبل ينزل إلى الأرض يسرح في ذلك العالم.. عالم المثل..

قلت: فأنت تذهب إلى أن للإنسان وجودا قبل هذا الوجود؟

قال: أجل.. لقد كان الإنسان.. أو روح الإنسان موجودة في ذلك الحين.. وكانت قد أحاطت علما بكل الصور (أو المثل) التي كانت موجودة فيه.. ولكنها نسيتها بعد أن تقولبت في هذه المادة، وهبطت إلى عالم الجسد.

قلت: فكيف يمكن للإنسان أن يستعيد ذكرياته السعيدة في تلك العوالم الجميلة؟

قال: هذا هو منهجي الذي خصصت به.. وأسست هذه الأكاديمية من أجله.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد وجدت من خلال حواراتي أن أقل تنبه يكفي الإنسان لتذكر ما كان قد نسيه، فيعود لمعرفة الحقائق التي عرفها في عالم المثل.. يمكنك أن تسمي هذه النظرية ( النظرية الاستذكارية ).. لأن الفكر، فيها، ليس سوى استعادة المعلومات، والعلم ليس الا استعادة المحفوظات المنسية[10].

قلت: فأنت ترى أن العلم صفة ذاتية في روح الإنسان؟

قال: أجل.. وأرى أن العقل البشري أسمى من أن يعرف الحقائق الجزئية، بل إنه يعرف الكليات؛ أي المثل العامة فقط.. فهو يعرف من الأشياء حقائقها لا أعيانها.

قلت: قد أسلم لك بأن للأرواح وجودا قبل وجود الأجسام [11].. ولكن كيف تعتبر العلم صفة أصيلة في ذات الإنسان، ولسيت صفة طارئة عليه؟

قال: وما الذي يمنع من اعتباره كذلك؟

قلت: أشياء كثيرة.. منها أنه لو كان العلم صفة للذات لم يجز أن يتخلف لحظة عن الذات، ذلك أن الذات لا تفقد نفسها إلا ساعة انعدامها.. كما أن النور لا يمكنه ان يتخلف عن الحركة والإشراق.. ذلك أن ذاته هي الحركة والإشراق؟

قال: فما الذي يمنع من اعتبار استحالة تخلف العلم عن الذات؟

قلت: أشياء كثيرة تراها وتشعر بها.. أنت تعلم أن الإنسان يبدأ جاهلا لا يعلم شيئا[12].. ثم يعلم.. ثم ينسى ما علم[13].. وفوق هذا نحن نعلم من أنفسنا صفة الجهل الذاتية، لأن العلم لا يحصل لنا إلا بتعب وإرهاق.. ثم يزول بسرعة مع هبوب عاصفة النسيان التي تتناوب على أنفسنا فتكنس معها معلوماتنا.

وفوق هذا كله، فإن ذاتي الشيء لا يمكن أن يحدد.. فالجهل والعدم والعجز من ذاتنا، ولذلك فهي غير محدودة، لأنها إذا كانت محدودة لم تكن ذاتية لنا.. أما العلم والإرادة والوجود والقوة فهي مواهب أو مكاسب، ولذلك فهي محدودة.

وبتعبير آخر: إن التحديد يعني العدم في بعض الجوانب.. فلو حددنا علم رجل ببلده مثلا فذلك يعني أنه لا يعلم عن البلاد الأخرى شيئا، وإذا كان ذات الرجل عالما فكيف لا يعلم شيئا عن البلاد الأخرى؟ أفلا يعني ذلك أن هذا الرجل عالم وجاهل في لحظة؟ وهو تناقض مرفوض.

وهل يصح ان نقول: ان ذات الحرارة هي الحركة.. أي لا يمكن أن توجد حرارة ولا توجد حركة أو العكس بأن توجد حركة ولا توجد حرارة.. ثم نقول إن الحرارة يمكنها أن لا توجد في وقت أو في حالة مع وجود الحركة؟!

قلنا: كلامك منطقي.. فبم أجابك؟

قال: لقد أجابني بابتسامة عذبة لا تزال صورتها منطبعة في خيالي.

قلنا: نقصد إجابته لعقلك.

قال: لقد فهمت من ابتسامته ما يريد أن يقول.

قلنا: فما فهمت؟

قال: لقد سلم لي ما ذكرت له.. كما سلمت له ما ذكر لي [14]..

الصورية:

قلنا: فهل اقتنعت بما علمك هذا الأستاذ الفاضل؟

قلت: لا.. لقد كان لعقلي من الشوق للمعارف ما لم يجد معه منهج أستاذي شيئا.. لذلك رحت أبحث عن أستاذ جديد.

قلنا: فبمن ظفرت؟

قال: لقد ظفرت بأرسطو[15].. ذلك الذي كان يسمى (المعلم الأول).. ذلك الذي اعتبره توما الأكويني (الفيلسوف بحق).. وكان دانتي يسميه (سيد العارفين)..

قلنا: كيف التقيت به؟

قال: لقد كنت حينها أسير خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله أبولو ليكيوس.. وهو ما كان الناس يسمونه (اللِّيسيوم)[16].. هناك وجدته مع تلاميذه يسير، وهو يتحدث.. وسرعان ما جذبني الحوار، فانضممت إليهم.

قلنا: فما أفادتك صحبته؟

قال: أنا لم يكن يهمني من كل تلك الثروة التي حظي بها أستاذي أرسطو إلا ما كان يسميه (الأورجانون)

قلنا: ما (الأورجانون)؟

قال: لقد كان يطلقه على جميع مؤلفاته في المنطق.. والكلمة تعني الأداة.. لأنَّ تلك المؤلفات كانت تبحث عن موضوع الفكر الذي هو الأداة أو الوسيلة للمعرفة.

قلنا: فما المنهج العقلي الذي استفدته منه؟

قال: يمكنكم أن تسموه (منطق الانتزاع).. أو (منهج الانتزاع).. وخلاصته باختصار أن للذهن البشري نوعين من التصورات..

أما أولاها، فهي تصورات أولية، كتصور اللون والحجم والطعم والرائحة، وغيرها مما يتصوره الذهن عن طريق الحواس..

وأما الثانية، فهي تصورات ثانوية، وهي التصورات التي يولدها الذهن البشري منتزعة إياها عن التصورات الأولية، وذلك مثل الكليات المجردة، وتصور العلة والمعلول وما أشبه ذلك.

ومنهجه يعتمد على اعتبار التصورات الأولية أساسا للتصورات الثانوية.. ولذلك، فإنه يستحيل على الذهن القيام بأي تصور ثانوي بدون التصورات الأولية..

وبذلك، فإنه يعتبر الإحساس أساسا للعلم.. وهو يعتبر أن الذهن لا يقوم بنمو ذاتي إلا عندما يدخل حريمه تصور أولي، فيتمخض عن تصور ثانوي.. وذلك مثل الأرض الصالحة التي تنمي أشجارا كثيرة بعد أن تزرع فيها النواة.

قلنا: فهل روى هذا المنهج عقلك الباحث عن الحقائق.

ابتسم، وقال: وكيف يرويه.. وهو منطق شكلي، يهتم بشكل التفكير، ويغفل  البحث عن مادة التفكير وموضوعه.. ولذلك فقد تناسي دور السلبيات البشرية التي تدعو إلى الضلالة، كما تناسى دور العقل في تحدي هذه السلبيات.. ولذلك لم يوفق هذا المنطق في إعطائي مزيدا من التقدم الفكري.

لقد رأيت الكثير من رفاقي ـ المتأثرين بمنطقه الشكلي ـ على مدى أجيال طويلة ينطبع تفكيرهم بطابع الإطلاق وسرعة انتزاع الكلي من جزئيات صغيرة.. فكان يكفي الواحد منهم أن يلاحظ عدة أحداث جزئية حتى يحكم بكلي يشمل ملايين من أمثال تلك الأحداث.

ثم تحول المفكرون إلى الاعتقاد بأن المنطق الأرسطي طريق الوصول إلى الحقائق، غافلين عن أنه منهج للتفكير.. والتفكير هو الطريق.. فأخذوا يركبون القياسات بعضها فوق بعض لعلهم يقفون عليها ليروا الحقائق جميعا.

وقد رأيت أن القوالب الفكرية تحولت عند هذا الفريق، إلى أفكار استغنوا بها عن التجربة، بل زعموا أنها تغنيهم حتى عن عقولهم.. وهكذا لفهم الجمود.

وفوق ذلك، فهو منهج يعتمد على الحس، فيجعله سلطانا على العقل.. مع أن الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس.

قلنا: وما الذي جعلك تعتقد هذا؟

قال: لقد اكتشفت ذلك بأدلة كثيرة [17].. منها ـ مثلا ـ أن المصاب بالدوار لا يشك في أن حسه هو مبعث الإحساس بحركة العالم.. وعند مقارنة حسه بحس الآخرين يكتشف أن الذي يحس به وحده لابد ان يكون خاطئا، فالواقع يجب أن يحس به كل أحد.. وهكذا كل إحساس خاطئ ينكشف زيفه فور مقارنته بإحساس الآخرين، أو بإحساس الرجل ذاته في سائر الأوقات.

وهكذا قد تصاب العين بالمرض فترى الأشياء مقلوبة، ولكن اليد تكشف زيف هذا  الإحساس، حين تلمس الأشياء لتجدها سالمة.. وهكذا يحكم العقل بين الأحاسيس المختلفة بمقارنتها ببعضها.

وقد تبصر العين رجلا قزما فلا يتردد العقل من الحكم بأنه طويل القامة، لأنه يقارن المسافة بينه وبين الرجل، فيقول: إذا كانت الرؤية من بعد ميل تظهر الشخص بهذا الطول ـ نصف متر ـ فلابد انه إذا اقترب يظهر ذو طول قد يتجاوز المترين.. وهكذا يقدر العقل دور المسافة في العين والأذن وسائر الأعضاء، بل هكذا يقدر سائر القوانين الفيزيائية كوزن الشيء في الماء، فإن الإحساس البسيط يزعم أنه خفيف مثل ما يتصور، إلا أن العقل سرعان ما يحكم بخلاف ذلك.

وعند مقارنة سائر العوارض الداخلية قد تشعر جميع أعضاء الجسم بالبرودة أو بالحرارة الشديدة، ولكن العقل لا يتردد في أن ذلك احساس باطل لأنه يتقارن مع عوارض المرض، مما يدل على زيف الإحساس.

وهكذا رأيت أن كل مقارنة تنطوي على مجموعة من الأحكام العقلية التي لم نعد نلتفت اليها لسرعة تحققها وشدة وضوحها.. فبالمقارنة ـ مثلا ـ بين ما نحس به وأحاسيس الآخرين نرى أنها تنطوي على الحكم الواضح الذي لا نرتاب فيه، وهو أن ما أحس به إن كان هو الواقع وجب ألا يختلف فيه حس الآخرين لأنهما من طبيعة واحدة، وتكشفان عن حقيقة واحدة. فلابد أن يكون الاختلاف بسبب آخر هو المرض والخطأ وما أشبه ذلك.. وبدون العقل من أين نعرف ان الحقيقة واحدة، أو ان الحقيقة الواحدة لا تبث الا لونا واحدا من الإحساس عندي وعند الآخرين، أو ان للإختلاف سببا خارجيا. فلماذا لا يكون الشيء بلا سبب؟

قلنا: أهذا فقط ما جعلك لا تكتفي بما علمك إياه أستاذك أرسطو؟

قال: ليس هذا فقط.. هناك شيء آخر.. لقد رأيت أن أرسطو ينزع منزع أستاذه أفلاطون في اعتبار النفس تسير في نمو ذاتي حتى تصل إلى العلم.. وبذلك يكون العقل وليدا طبيعيا للنفس ضمن حركة جوهرية تكاملية.

وهذا ليس بصحيح.. فإنه إذا كانت حركة النفس إلى أعلى بصورة مستمرة، فكيف تنتكس حتى لا تعلم بعد علم شيئا، وكيف ينسى الإنسان أشياء عرفها، وكيف لا يعلم أشياء يجهلها بصورة طبيعية، بل كيف يكون محتاجا إلى المعلم[18]؟

وفوق ذلك كله.. فقد رأيت أن المنطق الذي دعاني إلى تعلمه لا يكاد يغني عني شيئا.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد رأيت أنه يرى بأن التصورات لا تنال إلا بالحدود.. وأن الحد هو المركب من الجنس والفصل.. وهذا مبنى على التفريق بين الوجود والماهية , وأن الماهية أسبق على الوجود، وأنها ثابتة فى المادة، مع أنها لا توجد إلا فى الأذهان، وليس فى الخارج سوى الأعيان.. وقد وجدت أن في ذلك تقديرا لحقيقة ليست ثابتة فى الوجود.

 على أن التصورات لا تنال بالحدود أصلاً، فاللفظ لا يدل السامع على معناه إن لم يكن قد تصور المعنى، وعلم أن هذا اللفظ موضوع له، فلو استفيد التصور منه لزم الدور، وبطل القول بأنه العبارة الكاشفة.

والحدود إذا كانت مبينة أو مفصلة لمجمل فليس ذلك من إدراك الحقيقة فى شىء وليس لها فائدة زائدة عما للأسماء[19].

هذا على مستوى التصورات.. أما على مستوى التصديقات.. فقد رأيت أن العلم بالقضية الجزئية سابق على العلم بالقضية الكلية، وليس من طريق يعلم به صدق الكلية إلا والعلم بذلك يمكن من العيان بطريق الأولى، فحيث لا يستدل بقياس التمثيل لا يمكن الاستدلال بقياس الشمول.

والبرهان عنده قائم على القضية الكلية، والكلى لا يكون إلا فى الأذهان، وعليه فلا يفيد العلم بشىء موجود[20]..

فلم يبق من المنطق إذن إلا صورته، وهذا لا يحتاج إليه سائر العقلاء، وليس طلب العلم موقوفًا عليه، فالمعانى العقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص.

الإشراقية:

قلنا: فإلى من لجأت؟

قال: لقد سمعت بأستاذ كبير التقيت به في مصر.. كان اسمه (أفلوطين)[21].. فرح بي كثيرا عندما عرف أنني تتلمذت على أفلاطون.. سألته حينها عن العالم، فقال: إن ما تراه من هذا العالم المادي مجرد أوهام لا حقيقة لها..

سألته عن السياسة، فقال: هي أمر تافه لا قيمه له.

سألته عن الجسم، فقال: هو سجن مؤقت للروح.

سألته عن الحياة، فقال: هي رحلة خلال صورة من الأوهام.. أما الحقيقة، فتقع بعيدًا في كائن وحيد كامل، هو مصدر كل الحقيقة والخير والجمال.. أما الأرواح النقية، فيمكنها أن تأمل بالعودة إلى هناك..

قلت: أنا أبحث عن المعرفة في الدنيا.

قال: في الدنيا يمكن أن يتحقق ذلك في بعض الأحيان على صورة كشف روحي.. لقد جرّبت هذا الكشف الروحي.. وأنا أعتبره منهجا من مناهج البحث عن الحقيقة.

قلت: لقد تتملذت على أفلاطون.. لكنه لم يذكر لي ما ذكرته لي.

قال: ربما لم تفهمه.. أنا أفهم أفلاطون جيدا.. بل أعتبر نفسي الوريث الوحيد لأفلاطون..

قلت: لكني أسمع الناس يسمون منهجك (الأفلاطونية المحدثة)[22] .. فهل أحدثت فيها ما لم يكن؟

قال: لا.. لقد صغتها فقط صياغة تقربها لأهل عصرنا.. لقد رأيت أن روح الإنسان متشوقة للالتقاء بالله، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق التجربة الروحانية، لذلك كانت فلسفتي جسرًا بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية في عهدها الأول..

لقد أثبت أن الحقائق الكبرى لا تنكشف إلا عن طريق الإيمان بالله والفضل الإلهي، وليس عن طريق العقل.

انتفضت قائلا: ليس عن طريق العقل!؟

قال: أجل.. فالعقل حجاب عن الحقائق لا دليل عليها.

قلت: فاشرح لي كيف نصل إلى الحقائق من دون عقل.

قال: للحقيقة مستويات مختلفة.. ويعتمد كل مستوى على حقيقة تلك المستويات التي تعلوه.. وتجاوز الحقيقة بأكملها هو الواحد، والذي هو في حد ذاته غير معروف، ولايستطيع أحد أن يقول إن الواحد هو، لأن الواحد هو ما وراء الوجود.. ولكن الواحد يتمدد أو يفيض إلى المستويات التي دونه، كما يسطع الضوء خلال الظلام، ويصبح أكثر ظلمة كلما مضى أبعد..

والمستوى الأعلى للحقيقة هو ذلك (العقلي) الذي توجد فيه الأشكال كأفكار فيما وراء الوقت والفراغ. والمستوى التالي أكثر ظلمة وأقل حقيقة، وهو الروح.. والمستوى التالي هو الطبيعة، العالم المظلم لأجساد المادة.

وتحت هذه المستويات المادة التي ليس لها وجود حقيقي..

قلت: فهل يمكن رقي الأدنى إلى الأعلى؟

قال: أجل.. فنحن نسكن المستويات الدنيا.. ومع ذلك ترانا نشتاق للصعود والعودة إلى المستويات الأعلى.. بل يمكن لأرواحنا أن تترك أجسامنا، وتسبح في عالم الفكر حيث تستقر الأشكال كأفكار في العقل الإلهيّ.

الثالوثية:

بقيت مدة في صحبة أفلوطين.. ومن معه كجُوهانْس سكوتَسْ أريجِينا[23]..  وبورفيري [24].. وبروكلس.. وغيرهم كثير.. ومع أني وجدت لذة كبيرة في تلك الأجواء التي كنت أعيشها معهم إلا أن عقلي مع ذلك ثار علي، فلم أكن أدري هل ما كنت أعيش فيه حقائق عليا ينبغي التسليم لها.. أم أنها مجرد أوهام وخرافات وأحلام يقظة، وليس لها أي علاقة بالحقيقة.

في تلك الأيام زارنا رجل مسيحي كان يحمل مبادئ بسيطة.. ولكنها جميلة.. ولكنه لم يكن مقتنعا بها.. فقد كانت له أشواق روحية مع عقل فلسفي، ولم يستطع أن يمزج بينهما، فجاءنا يطلب منا أن نعلمه من مبادئنا ما يستطيع به أن يحول المسيحية إلى ديانة ممتلئة بالأشواق الروحية السامية.. والإشراقات النوارنية الفائضة.. والعقل الفلسفي الحكيم..

كان اسم هذا الرجل الذي تحول قديسا فيما بعد هو (أوغسطين)[25].. وقد استطاع بذكائه.. وبعد فترة قصيرة.. أن يحول من المسيحية البسيطة إلى ديانة فلسفية عميقة، لأنه كان يعتقد أن الديانة التي ينبغي أن يبشر بها في العالم لا يصح إلا أن تكون من هذا النوع[26].

لقد مزج بساطتها أولا بـ (الأفلوطونية)، وهي مدرسة غربية في الأمة الإغريقية اليونانية.

ومزجها ثانيا بـ (الأفلوطونية الحديثة)، وهي مدرسة في الشرق بالإسكندرية، هيئ لها جو من أساتذة الفكر الروماني اليوناني، كما هيئ لشيخها أن ينقل عديدا من ثقافات الهند وفارس ويصهرها كلها في بوتقة واحدة.

ومزجها ثالثا بالتنظيم الثالوثي في الوثنية القديمة لدولة الرومان[27].

لست أدري كيف بدا لي أن أسافر إلى (تاجاست) حيث يتواجد (أوغسطين).. وهناك انضممت إلى جماعة من الرهبان الذين كان القديس أوغسطين يشملهم برعايته..

في صحبته علمت الأثر الكبير الذي أحدثته الأفلاطونية المحدثة في هذا القديس.. وقد أعجبني من تعاليمه دعوته إلى الاشتغال بالله وعدم الانشغال باهتمامات الدنيا ومتاعها.

ولكن الذي لم يعجبني وظللت فترة طويلة تحت أسره هو تلك الصور المشوهة عن الله.. والتي لم يكن عقلي يستطيع أن يتقبلها.. فكنت بين نارين: نار الأشواق الجميلة التي تصبها في نفسي تلك المواعظ والأشعار.. ونار عقلي الذي يحترق لأنه لم يجد حقيقة منطقية مقبولة يستطيع أن يسلم لها.

المدرسية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: ذهبت إلى (نابولي).. وهناك وجدت مدرسة دومينيكانيه [28].. وفيها التقيت بأستاذ حاول أن يجمع بين أفكار أرسطو الرئيسية مع التوراة والعقيدة المسيحية.. كان اسمه (القديس توما الأكويني) [29]

وقد رأيت من خلال صحبتي له أنه لم يأل جهدا في المزج بين فكر أرسطو، والفكر اللاهوتي.. وقد رأيت كثرة أتباعه.. بل رأيت أن فلسفته تحولت إلى الفلسفة الرسمية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية.. وكانت تسمى عندها (الفلسفة المدرسة)[30] أو (فلسفة المدرسيين)

عندما دخلت عليه في مدرسته سمعته يتحدث إلى تلاميذه الذين كانوا يسجلون كل ما يقوله.. كان يقول لهم[31]: مثلما تجسد الابن فإنه من الممكن لكل من الأب أو روح القدس أن يتجسد.. تماماً مثلما فعل الابن..

ثم يستغرق في صمت عميق، وكأنه يتلقى وحيا من السماء، ثم يقول: إن الابن، الكلمة الأزلية، قادر تماماً على أن يتجسد مرة أخرى، في روح و جسد فرد إنساني آخر مختلف، مولود من أم أخرى أو مولود من أم و أب، من جنس مختلف و عرق مختلف و في بلد آخر و زمن آخر متكلماً لغة أخرى ومستخدماً نموذجاً من الصورة البشرية مختلفة تماماً عن المسيح ليبشّر برسالته و يشرح العلاقة بين الله و العائلة البشرية.

ثم يستغرق مرة أخرى، ثم يقول بعدها: إن الله لم يصر إنساناً لأجل أن يكون يهودياً ذكراً من أهل القرن الأول الميلادي ذا طول و عرض..  بل الله اختار الإنسان لأجل أن تكون لِلَّه طبيعة جنس الإنسان ككل.. ولذلك فإنه من الممكن للأب و الابن و روح القدس أن يتجسدوا ثلاثتهم جميعاً مع بعض وفي وقت واحد في إنسان فرد واحد فقط، أو في عدة أفراد..

لم أكن أدري الأسس المنطقية التي ينطلق منها هذا المدرس.. فقد قرأت الكتاب المقدس، ولم أجد فيه ما يذكره.. سألته عن المنطق العقلي الذي يبرر أقواله هذه.. فنظر إلي كالحزين، وقال: إن الحقائق التي يقدمها الإيمان لا يقوى العقل على التدليل عليها، ففي استطاعة العقل أن يتصور ماهية الله، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تثليث الأقانيم، ومن دلل على عقيدة التثليث في الأقانيم حقر من شأن الإيمان[32].

ثم أضاف يقول، وتلاميذه يكتبون: حتى الكنائس الشرقية تقول هذا، فالقس باسيلوس يقول: (إن هذا التعليم عن التلثيث فوق إدراكنا، ولكن عدم إدراكه لا يبطله).. ووزميله توفيق جيد يقول: (إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس تعتبر أعماقاً إلهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها أو تحليلها أو أن نلصق بها أفكاراً من عندياتنا)[33]

التجريبية:

قلنا: فهل ظللت في صحبته بعد أن سمعت منه هذا الموقف من العقل؟

قال: لا.. لم أستطع أن أستمر طويلا في صحبته.. فقد كان مع احترامه الشديد لأرسطو وللمنطق أبعد الناس عن أرسطو وعن المنطق.. وما كان لعقلي أن يرضى بصحبة من هذا حاله.

قلنا: فإلى من لجأت؟

قال: في ذلك الحين بدأت في أوروبا حركة ثقافية كبرى، تسمى النهضة، أعقبت نهاية العصور الوسطى.. وصار لكثير من الناس شغف كبير بالعلوم.. كل العلوم..

وقد أصابني من عدوى ذلك الشغف ما أصابني.. فلذلك رحت أبحث عمن يلبي أشواق عقلي للمعارف وأسباب المعارف ومناهجها.

وقد دلني بعضهم على رجل يقال له (فرنسيس بيكون)[34] رأيته قصد أخا له يقال له (روجر بيكون)[35].. كان قد نقل إلى سجن بدير الراهبات بباريس.. ذهبت معه إلى الدير.. وتوسلنا إلى الراهبات بكل ما أمكننا أن نتوسل به.. فأذن لنا.. وهناك صحبناه مدة من الزمان.

كان أول ما بدأنا به أن قال لنا[36]: لن يعقل عقلك حتى تحطم الأصنام التي تحيط به.. والتي تمنعه من التفكير السليم.

سألته عنها، فقال لي: هي أربعة..

أولها.. صنم الطائفة.. إنه صنم ينحرف بمرآة العقل، فيعكس الحقائق بغير صورتها الأصلية.

وثانيها.. صنم الفرد ذاته.. وهو صنم تفرضه طبيعة الميول الخاصة بكل واحد منا، حيث تسبب هذه الميول الشخصية انحرافات بعيدة في فكر الإنسان.

وثالثها.. صنم السوق.. سوق المعرفة.. وهي الأفكار الخاطئة التي تتسرب إلى أذهاننا بسبب العبارات الغامضة، فعلينا تنقية العبارات حتى نستطيع الوصول إلى الحقائق.

ورابعها صنم المعرض (معرض الأفكار القديمة) التي تحتوي أفكار الفلاسفة السابقين، وتسبب ضغطا شديدا على أذهاننا، وبالتالي أخطاءا جسيمة.

قلت: أنت تحتقر الأفكار القديمة إذن؟

قال: أنا لا أحتقرها.. ولكني أرى أن منهجهم في التفكير لن يوصلهم إلى شيء.. ولن تتطور الإنسانية ما دامت تتمسك به.. والمنطق الذين يعتمدون عليه، ويستقون منه أفكارهم هو منطق صوري لا يفيد علما جديدا، انما هو ترسيخ للمعلومات السابقة وإلزام الخصم بها.

قلت: فما منطقك البديل؟

قال: منطقي البديل هو الذي ينهض بالعلم.. إنه ينطلق من القياس والتعقل، واستخراج الكليات من الجزئيات، بعد الاستقراء فيها، وتنويعها، والتعقل فيها، وبدون ذلك يظل الاستدلال عقيما، وبدون أساس ثابت.

الرياضية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل جمع بين الفلسفة والرياضيات.. ولذلك كان له من العقل ما أرضى به بعض عقلي.. كان اسمه (رينيه ديكارت)[37].. ولكني ـ للأسف ـ لم ألقه إلا قبل فترة وجيزة من وفاته.. كان خارجا حينها من قصر الملكة كريستينا.. ملكة السويد..

قال لي أول ما التقيته: لاشك أنك تبحث عن منهج يستطيع به عقلك أن يصل إلى الحقائق من أقرب طريق، وأوثق طريق.

قلت: لقد قرأت ما في عقلي.. وأحسب ذلك كافيا لأن يجعل عقلي يعقد صحبة مع عقلك.

قال: لن يتيح عقلي لعقلك صحبته إلا إذا تخلق بأربع خلال.

قلت: فما أولها؟

قال: الاستقلال الفكري..

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: يجب ألا يعتقد عقلك إلا بما يكون واضحا لديه مقبولا لا ريب فيه..

قلت: فكيف يتسنى لي هذا؟

قال: بأربعة أركان:

أولها.. أن ترفض أفكار السابقين إذا خالفت العلم.. إذ أن اتباع الآخرين في العلم يشبه الأعمى الذي يقوده العميان.. ولهذا، فكلما كان واضحا عند النفس وضوحا شديدا كان معلوما، حتى ولو لم يكن واضحا عند القدماء.

وثانيها.. يجب ألا تتسرع في الحكم بشيء.

وثالثها.. يجب التخلص من الأهواء الداخلية.. فكما أن أفكار القدماء تأسر قلب المتعلم حتى يكاد لا يبصر الحقائق، كذلك أهواء النفس قد تأسر القلب ولا تدعه يكتشف الحقائق.

ورابعها.. اجعل وجدانك حكما على الأشياء، بحيث لا تقبل أي شيء إلا إذا كان واضحا ماثلا أمام وجدانك تماما.

قلت: عرفت أولها.. فما ثانيها؟

قال: التحليل.

قلت: ما تريد به؟

قال: بما أن علم الإنسان أوضح بالبسائط منه بالمركبات، فلا بد أن تحلل الحقيقة إلى أكبر قدر ممكن من البسائط.. فالمسائل كما تعلم قد يتضح جزء منها ولا يتضح جزء آخر.. ولذلك فإن التحليل هو الذي ينقذ الفكر من من التردد، ويضع لكل جزء من المسألة ما يناسبه، دون اختلاطه بالجزء الآخر.

قلت: فما ثالثها؟

قال:  التدرج..

قلت: ما تريد بالتدرج؟

قال: بما أن التحليل يؤدي إلى تعقيد الروابط بين الأجزاء.. فإن ترتيب الفكر والتدرج في البحث عن الواقع الأبسط فالأبسط هو الذي يحمي التحليل من ذلك.

قلت: فما رابعها؟

قال: الاستقراء..

قلت: ما تريد به؟

قال: هو الاستقصاء عن كل ما يكشف أي جزء من المسألة حتى تشبعه بحثا وتنقيبا فلا نتحول إلى الجزء الثاني الا بعد ان ننتهي من الجزء الأول في البحث.

قلت: عرفت أصول منهجك.. فما فروعه؟

قال: لقد وجدت أن مقدار العقل واحدا عند الناس جميعا.. وذلك جعلني أعتقد أن المنهج الذي يبنغي للعقل أن يتبعه ويسير فيه واحد أيضا.. ولذلك يجب ألا يكون هناك أي فرق بين العلوم المختلفة في المنهج.

قلت: فأي منهج موحد يجب أن تسير فيه العلوم جميعا؟

قال، وبقوة: إنه منهج الرياضيات الذي يبحث عن الكم.. إنه منهج محدد وواضح.. لذلك يجب بحث جميع العلوم حتى الطبيعيات في ضوء هذا المنهج.

نستطيع على ضوء هذا المنهج أن ندخل القياسات الكمية في العلوم الطبيعية.. بل نستطيع أن نحول المرض والقوة والحرارة وما أشبه ذلك إلى أمور مقاسة بالكم.

إن الطريقة الرياضية ـ وخصوصا طريقة الجبر ـ هي الطريقة الوحيدة لمعرفة جميع العلوم.

قلت: فهلا شرحت لي ما تريد بهذا المنهج؟

قال: افترض ـ أولا ـ حلا مسبقا لمشكلتك.. ثم عدد النتائج التي قد تترتب على هذا الحل على افتراض صحته.. ثم فتش عن هذه النتائج لترى هل هي موجودة فعلا أم لا..

مثلا، لو طرحت عليك مسألة تقول: هل الحديد يتمدد بالحرارة؟.. فإن الجواب السليم لذلك هو أن تفترض أولا حلا للمسألة بأنه (نعم الحديد يتمدد بالحرارة) ثم تبحث عن النتائج المترتبة على ذلك؟.. وأولى النتائج أنه من تمدد الحديد لا بد أن يعوج الحديد أو يكسر أيام الحر لأنه حديد ممتد.. أو لا بد أن يكون بين قطع الحديد فواصل تظهر أيام الشتاء، وتختفي أيام الصيف.. فهذه هي النتيجة المترتبة على الحل المفترض.

وهذه النتائج تجعلك تلاحظ الواقع الخارجي لترى صحة النتيجة خارجا، فتعرف مدى صحة الفرضية.

ثم التفت إلي، وقال: أليس هذا خيرا من منهج أستاذك أرسطو.. ذلك المنهج العقيم الذي لا يزيدك إلا جهلا.. (ان النتيجة في منطقه ليست سوى صيغة أخرى للمقدمة.. فإن كانت المقدمة صحيحة فإن النتيجة معلومة بصورة آلية.. وإن كانت إحدى المقدمات باطلة، فإن المنطق ليس سوى وبال)

قال لي ذلك، ثم سار، وسرت معه مدة من الزمان أتتلمذ على يديه كما تتلمذت الأجيال الكثيرة.. لكن عقلي مع ذلك ومع احترامي لاكتشافاته العلمية التي تمت على ضوء منهجه الجديد كنت أرى في منهجه مجموعة نواقص..

منها أنه لم يركز في منهجه على دور التجربة في فهم الحقائق، مما صبغ منهجه بالصبغة الصورية.. وهو بذلك وقع فيما وقع فيه أرسطو من قبل.

ومنها أني رأيت أن تبسيط العلوم يفيد في كثير من الأحيان.. ولكنه بالرغم من ذلك قد يوصلنا إلى طرق مسدودة.. فمثلا، لو أردنا البحث عن حقيقة الوجود أو العدم، لا نصل إلى نتيجة.. فليس الأمر كما ذكر ديكارت دائما، بأنه في سبيل البحث عن الحقائق لا بد من تبسيطها إلى آخر درجة ممكنة، لأن العلم بالبسائط أسهل من العلم بالمركبات.. كلا فبعض البسائط، العلم بها لا يختلف عن المركبات في صعوبته.

ومنها أن العلوم في لحظة وحدتها في جهة تختلف في جهات عديدة، وليس من الصحيح وضع منهج واحد لجميع العلوم، كما حاول ذلك ديكارت.. وقد تنبه المتأخرون إلى مدى فرق العلوم عن بعضها، فوضعوا لكل واحد منها منهجا بعد الإشارة إلى المنهج العام الذي يشمل جميع العلوم.

بالإضافة إلى نواقص أخرى كثيرة اكتشفتها بعد أن صحبت العقل الذي اجتمعت فيه العقول.. والذي لم أرحل لهذه البلاد إلا لأجل البحث عنه.

***

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: لقد لقيت في طريقي رجلا لم تتح لي معرفته بالتفصيل.. كان اسمه (مابرانش) (1608 1715).. كان على ما يبدو تلميذا من تلاميذ ديكارت.. رآني مهتما، فقال: أنت تبحث عن المستحيل.. فلذلك لك أن تهتم.

سألته: ما تعني؟

قال: أنت تريد أن تعلم حقائق الأمور.. وهذا ما لا يكون.

قلت: لم؟.. وما الحائل بيني وبينها؟

قال: ما دام عقلك يصحب جسمك، ويندمج معه، فيستحيل أن تعرف الحقائق.. لأن حواسك وخيالك الفارغ ورغباتك النفسية ستحول بينك وبين الحقائق.

قلت: كيف تتسبب الحواس في حجب العقل عن الحقيقة؟

قال: تعليل ذلك البسيط.. إن الهدف الفطري من الحواس يختلف عن الهدف الذي ينشده الإنسان، ولذلك يتورط الإنسان في الخطأ.. إن الغاية من الحواس بالأصل هي ايجاد علاقة مناسبة بين الجسم والعالم المحيط به، حتى يبقى الجسم مصونا من الأخطار.. بينما يستخدم البشر حواسهم فيما هو وراء هذه الغاية، وهو البحث عن العلم بحقائق الأمور، جهلا بأنها إنما تنقل المظاهر الساذجة والآثار السطحية إلى ضمير الإنسان، حتى يتجنبها لأنها هي غايته الطبيعية.

إن حواسنا ـ مثلا ـ تشعر بالألم إزاء بعض الإثارات الخارجية.. فهل الألم أثر من آثار تلك الأمور الخارجية كما نتصور وكما نقول ظاهرا بأن الضرب مؤلم، فننسب الألم إلى الضرب، ونجعله صفة من صفاته؟.. كلا إنما هو من مقتضيات ذواتنا نحن، فهي التي تتأثر بالضرب، ولا دخل له بصورة الحياة الخارجية، ونحن إنما نعبر عن الضرب أنه مؤلم لبيان نوعية العلاقة التي تربطه بأجسامنا.

أضف إلى هذا أخطر داء يحول بيننا وبين العلم بالحقائق.. إنه (التوهم).. إنه الداء الذي يجعلنا نزعم صحة أفكار الآخرين، فنتبعهم بينما هي باطلة وانما تخيلنا خيالا.

أضف إلى هذا كله الرغبات النفسية فإنها تولد الحب والبغض في الإنسان.. وهما بدورهما يحجبان نور العقل ويوقعان الإنسان في الخطأ..

أضف إلى هذا الصفات النفسية.. فهي أشد أثرا في القلب من الرغبات النفسية، لأن الصفة المنحرفة بذاتها تسبب الخطأ، دون واسطة الحب والبغض.

ليس ذلك فقط.. بل إن طاقة الفهم (العقل) قد تتسبب في الخطأ، ذلك لأنها بطبيعتها محدودة بينما يزعم الإنسان أنها قادرة على كشف الأشياء جميعا.. وهذا الغرور سبب خطير من أسباب الخطأ البشري.

قلت: عرفت الأدواء.. فما الدواء؟

قال: يجب ـ أولا ـ أن تطرح أي مسألة بصورة مبسطة.. ثم تبحث عن الوسائط المشتركة.. ثم تحذف الزوائد.. ثم تلخص المعلومات بقدر الإمكان.. ثم تتدبر في نوعية ترتيب المعلومات مع بعضها بدقة تامة.. ثم تقابل المعلومات المركبة مع بعضها لحذف المكررات عنها.. ثم تحذف الأمور غير المفيدة.. وهكذا إلى أن تصل إلى ما قد يتاح لك من الحقائق.

العقلانية المادية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل من هولندا كان اسمه (اسبينوزا)[38].. لقيته في أمستردام بين أعضاء جماعته اليهودية.. وقد كان حينها مطرودا مهانا بينهم بسبب ادعائه بأن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية ليست سوى استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة الله.

لم يكن يهمني منه إلا البحث عن منهجه العقلي.. فقد سمعت أنه من تلاميذ ديكارت.. وأنه من الذين حاولوا أن يطوروا أفكار ديكارت ومنهجه.

عندما التقيت به أول مرة قال لي: لقد رأيت بعد بحث طويل ومعاناة قاسية أن طرق معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها..

أما أولها.. وأدناها فهي ما نتلقاه من أفواه الناس.. كمعرفتنا مثلا بيوم ميلادنا..

وأما ثانيها.. فالتجربة المجملة.. كمعرفة الناس ـ بعد التجربة ـ أن النفط مما يحترق.

وأما ثالثها.. فمعرفة الرابطة بين الجزئيات والكليات.. كما نعلم بالحرارة بعد العلم بوجود النار.. وهذا الطريق أفضل من الطرق التي سبقته.

وأما رابعها.. وأعلاها.. فهو الوجدان الذاتي والشهود الشخصي.. وهو طريق لا يأتيه الخطأ، لأنه منطبق مع المعلوم، ويأتي بعلاقة مباشرة بين الفرد والمعلوم، ولذلك فهو موجب لليقين، وهو يتعلق بالبسائط والمبادئ الأولية، وموارده قليلة جدا[39].

قلت: لم كان كذلك؟

قال: لأن العلم بالبسائط.. أي بالطريق الوجداني.. واضح ومحدد وموافق مع المعلوم الخارجي، ولسنا بحاجة إلى حجة تدل على صحته.. ولهذا فلسنا بحاجة إلى البحث عن منهج صحيح للمعرفة.. فالمعرفة هي بذاتها دليل على صحتها، وعلى صحة الطريق المؤدي إليها، لا العكس وبالتالي فإن العلم هو طريق العلم.. العلم بالواقع طريق العلم بذلك المنهج الذي يوصلنا اليه، أي على ضوئه نستطيع معرفة المنهج المؤدي إليه وإلى غيره.

قلت: إن هذا يستدعي البحث عن حقيقة واضحة جدا ومتميزة تماما عن الباطل.

قال: أجل.. فلا يمكن أن تؤسس الحقائق إلا على الحقائق.. وكلما كانت الحقيقية واضحة أكثر وضوحا، وأشد تمييزا عن الباطل كانت أفضل.. لأن أساس العلم آنئذ يكون أكثر رسوخا، ويكون العلم النابع منه أشمل إحاطة بالحياة.

قلت، وقد هزني الفرح: فما هو ذلك العلم الأول الذي يتعلق بأوسع الأشياء إحاطة وأسماها رتبة؟

قال: إنه العلم بالله الذي يهدي إلى كل علم.. فعلى ضوئه نتعرف على المنهج الصحيح ونبلغ به جميع الأشياء.

قلت: ومن هو الله؟.. وكيف نصل إليه؟

قال: ليس الإله كائنًا فوق البشر..  وليس هو الذي خلق الكون.. وليس هو الذي تذهب إليه الديانات.. وليس هو اختلف عن الطبيعة والتاريخ وتجاوزهما.. وليس هو الذي ينشغل بمصير البشر، ويرسل لهم العلامات والرسائل.

قلت: فمن هو إذن؟

قال لي بلغته اللاتينية: ديوس سيفي ناتورا (Deus sive natura)

قلت: تقصد (الإله أي الطبيعة)

قال: أجل.. فبما أن الطبيعة هي النظام الكلي للأشياء.. فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء[40].

الحسية التجريبية:

اكتفيت بقوله هذا.. والذي رفضه عقلي أيما رفض[41].. ورحت أبحث عن أستاذ آخر.

قلنا: إلى من لجأت؟

قال: إلى رجل حاول أن يجمع بين الفلسفة والسياسة.. كان اسمه (جون لوك)[42].. لقيته عند خروجه من بلاط الأمير وليم بهولندا.. أراني أول ما لقيته مقالا له عن الفهم الإنساني شرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم.

وقد رأيته فيه يعترض على المذاهب التي ترجع الأفكار إلى الفطرة والتلقائية.. أو التي ترى أن الأفكار تكون جزءاً من العقل عند الميلاد، ولا يتم تعلمها أو اكتسابها فيما بعد من المصادر الخارجية.

ورأيته يذكر بدل ذلك أن الأفكار جميعها تأخذ مكانها في العقل من خلال الخبرة.. وأن هناك نوعين من الخبرة: الخبرة الخارجية، والخبرة الداخلية.

أما الخبرة الخارجية، فتُكتسب من حواس البصر والتذوق والسمع والشم واللمس، وهي الحواس التي تمد المرء بمعلومات عن العالم الخارجي.

وأما الخبرة الداخلية، فتُكتسب من خلال التفكير في العمليات العقلية التي تتم لتمحيص هذه البيانات، وهي التي تمد المرء بمعلومات حول العقل.

ورأيته يذكر فيه أن في الكون ثلاثة أنواع من الأشياء: العقول، وأنماط مختلفة من الأجساد، والإله.. ويذكر أن للأجساد نوعان من الخواص: نوع يمكن قياسه حسابياً مثل: الطول والوزن، وهي أشياء توجد في الأجساد ذاتها؛ ونوع آخر كيفي مثل الصوت واللون، لا يوجد في الأجساد ذاتها ولكنه، باختصار، قوى تمتلكها الأجساد لتعريف العقل بمفاهيم الألوان والأصوات.

ورأيته يذكر فيه أن الحياة الصالحة هي حياة المتعة.. وأن المتعة والألم مفهومان مجردان يصاحبان تقريباً كل التجارب الإنسانية.. ويستلزم التصرف على نحو أخلاقي تحديد أي الأفعال يمكن أن يؤدي إلى أكبر قدر من المتعة في موقف معين، وذلك قبل ممارسته..

ورأيته يذكر فيه أن الله قد وضع قانوناً إلهياً، يمكن التعرف عليه بالعقل، يكون الخروج عليه خطأ أخلاقياً.. وكان يرى أن هناك توافقاً بين القانون الإلهي ومبدأ المتعة.

ورأيته يذكر فيه أن للناس بطبيعتهم حقوقاً وواجبات معينة، مثل: الحرية والحياة وحق الملكية.. ورأيته يقصد بالحرية المساواة السياسية..

لم يكن يهمني من آرائه إلى ما يتعلق منها بالمنهج العقلي، فلذلك رحت أسأله عنه، فقال: أنا صاحب (النظرية الحسية).. أنا الذي أسستها.. وهي مدرسة تعيد كل العلوم إلى مبدأ واحد هو الحس..

قلت: والعقل!؟

قال: أنا لا أنكره.. ولكني أرى أنه ناشئ من الحس.. أو بالأحرى كان بروزه متأخرا عن الحس.. ولذلك فأنا أرى الإنسان لا يمكنه أن يعرف حقيقة إلا بتجربتها مباشرة، فليست هناك حقيقة استنباطية يسير فيها الفكر من الحقائق العامة إلى الحقائق الجزئية.

قلت: ولكن الحس يعتمد على العقل.. ألا ترى أنا نقول: إن كل فلز يمتد بالحرارة.. والحديد فلز.. فلابد ان يمتد بالحرارة؟

قال: من أين عرفت هذا العموم؟.. هل من التجربة على الحديد التي كانت بين التجارب التي أجريت على كل فلز؟.. أم أنه مجرد تخمين؟

قلت: بل هو حكم عقلي.

قال: لا يكفي ذلك لثبت ما تريد أن تثبته.. بل يجب أن تجرب الامتداد على الحديد بالذات حتى يمكنك أن تقول ذلك.. فالعلم لا يحصل بدون التجربة.

قلت: على ما تعتمد هذه النظرية؟

قال: على ثلاث قواعد..

قلت: فما أولها؟

قال: قوى الادراك.. لقد وجدت أن في الإنسان عدة قوى متدرجة.. هي التي توفر له المعرفة.. وتبدأ هذه القوى بقوة الإدراك، وهي أولى مراحل المعرفة.. تليها قوة الحفظ، وهي القوة التي تدخر المعلومات الناتجة من الإدراك.. تليها قوة التمييز، وهي التي تفصل بين المعلومات المدخرة.. تليها قوة التقييم، وهي التي تبين نسبة المعلومات إلى بعضها.. تليها قوة التركيب، وهي التي تكلف بجمع المعاني البسيطة وتركيبها.. تليها قوة التجريد أو الانتزاع وهي مسؤولة عن استنباط معنى كلي من الخصائص الجزئية التي تلاحظها في منظر واحد.

قلت: فما القاعدة الثانية؟

قال: التقسيم..

قلت: ما تريد به؟

قال: لقد رأيت أن التصورات.. جميع التصورات.. إما أن تكون بسيطة منشأها حس واحد، وذلك مثل تصور الحرارة.. وإما مركبة منشأها عدة أحاسيس.. وذلك مثل تصور الجسمية، لأنه إنما يأتي من تصور الحجم والوزن وغيرها.

ورأيت أن التصور قد يكون مثبتا، يكشف عن وجود شيء، وذلك مثل تصور النور والحرارة.. وقد يكون منفيا يكشف عن عدمه، وذلك مثل تصورنا للظلام والبرودة.

ورأيت أن الفكرة التي يستوعبها الذهن بسبب التصور تدعى بـ (المفهوم)، بينما ارتباط هذا التصور بمنشئه يسمى بـ (الخاصية).. فمثلا الحرارة، مفهوم ذهني، ولكنها من جانب آخر خاصية للنار.

والتصور أيضا قد يكون تصور لذات شيء، وقد يكون تصورا لحاله، وقد يكون تصورا لعلاقته بسائر الأشياء.

قلت: فما القاعدة الثالثة؟

قال: فقه اللغة..

قلت: وما علاقته بهذا؟

قال: لا يمكن فهم العمليات العقلية من دون فقه اللغة.. لأن اللغة هي التي تكشف بقدر ما عن التصورات، وتكون مقياسا أمينا لمعرفة طبيعتها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: بما أن تصور الإنسان يعتمد على الإحساس في البداية، فإن الرجل البدائي يعبر عنه أولا، فالطفل مثال للفرد البدائي وهو لا يعبر أول ما ينطق إلا عن الأمور المحسوسة.. كذلك الأمم المتوحشة، مثال للجماعة البدائية، فلا نجد في لغتهم تعابير تخص الأمور العقلية، وكلما تقدمت الأمة باتجاه الحضارة، كلما زادت تعابير لغتها التي تكشف عن أمور عقلية.

قلت: عرفت منهجك العقلي، فما حقيقة العلم؟

قال: يقسم العلم إلى ذاتي وتعقلي وحسي.. فالذاتي، هو معرفة نسبة التصورات الذاتية إلى بعضها معرفة مباشرة.. والتعقلي، هو المعرفة التي تحتاج إلى استدلال وتفكر.. والحسي، هو المعرفة الناشئة من الإحساس، وهو بالرغم من قلة قيمته الفلسفية لعدم إفادته اليقين فإنه ذات قيمة عملية لأننا نعتمد على الحس في كل شؤوننا، وخاصة في العلوم الطبيعية التي مرد تصوراتها فيها تكون  خارج الذهن.

بعد أن سمعت منه هذا صحبته مدة من الزمن أتدرب على يديه.. لكني سرعان ما انصرفت عنه، فقد لاحظت تعلقه الشديد.. بل تطرفه الشديد باتجاه تقييم الحس.. وقد نتج عن تطرفه هذا أمران..

أما أولهما.. فتناسي دور العقل والسابقيات الفكرية، التي يكشفها العقل، في بناء صرح المعرفة، وهذا مخالف للواقع المشهود[43].

وثانيهما.. أنه جعل المنهج العلمي خاضعا للتجربة المادية، تتشابه مع سائر التجارب التي تجري على المادة.. وهذا مخالف للرأي العلمي السديد الذي يفصل بين أنواع التجربة حسب اختلاف المواد[44].

وبالتالي فإن عقلي رفض نظريته، لأني رأيت أنه من دون وجود عقل يكشف عن صحة أو زيف الاحساس لا يمكننا أن نثق به ونستثمره في سبيل تحصيل العلم..

 وقد رأيت أن لوك ذاته تنبه إلى هذه الملاحظة فجعل العلم الناشئ من الإحساس في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد العلم الذي يحصل بالوجدان والعلم الذي ينشأ من الاستدلال.

المثالية الفلسفية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل دين كان مطرانا إنجليكانيا.. وكان في نفس الوقت فيلسوفا.. كان يقال له (جورج بارْكلي)[45].. لقيته بمسقط رأسه  أيرلندا..

قال لي أول ما لقيته: لاشك أنك كنت عند ذلك الأعمى الذي يقال له (جون لوك)

قلت: أجل.. ولكنه لم يكن أعمى.

قال: ما دام لا يرى إلا الحس فهو أعمى.

قلت: وما ترى أنت؟

قال: أنا لا أرى إلا المعنى..

قلت: ولكن هناك أشياء محسوسة.. بل كل ما يحيط بنا محسوس.

قال: كل ما نراه من أشياء مادية ليس إلا أفكار أو أحاسيس نشعر بها تجاهها..

قلت: فأنت ـ بهذا الاعتبار ـ لا تعد التفاحة شيئاً سوى لونها، وشكلها، وملمسها، ووزنها، وطعمها، وخواصها الأخرى على النحو الذي ندركه بأحاسيسنا.

قال: أجل.. كما أن الخصائص أو الأفكار التي نشعر بها لا توجد إلا في مخيلتنا.. وهي تتغير بتغير الشخص الذي يتلقاها.. فالمياه الدافئة نفسها تبدو ساخنة لليد الباردة، وتبدو باردة لليد الساخنة.. وهكذا فإن الخصائص التي نشعر بها ماهي إلا أفكار تعتمد على العقل الذي يتلقاها، وليس لها وجود مستقل.

قلت: ما الذي جعلك تعتقد هذا مع أن الكل يعتقد أن الأشياء المادية المحسوسة تتكون من مادة، والمادة هي الشيء الذي توجد فيه الخصائص المختلفة، ومن المفترض أن المادة توجد خارج العقل، ومستقلة عنه.

قال: إن كل ما يدركه البشر يرتكز على الحس، وإذا اختبرنا الحس وجدناه مليئا بالمتناقضات.. فالبصر يرى الشيء القريب كبيرا، وإذا ابتعد عنه حسبه صغيرا.. والأذن تسمع الصوت ضعيفا إذا كان بعيدا عنها، وإذا اقترب اليها سمعته عاليا ـ أو بالأحرى تعتقد أنها تسمعه عاليا ـ وهكذا..

فإذا كان الإحساس يتناقض فكيف نطمئن إليه؟

ثم لدى تحليل الإحساس نجده ليس سوى التصور، والتصور لا يعدو أن يكون فكرة تعيش داخل الشعور، ولكن لدى التعمق نجد أن هذه الفكرة قد لا تكون وليدة واقع موضوعي.. بل وليدة هاجسة نفسية أو قوة علوية تبعثها في نفوسنا.. أليس أولئك الواقعيون يعترفون بوجود أفكار لا واقع لها.. فلماذا لا يجعلون كل الأفكار بعيدة عن الواقع؟

سكت قليلا، ثم قال: لندع التصورات الساذجة.. ولندرس المعارف البشرية، هل هي ذات قيمة بعد التناقض الذي نجده بينها؟ فهي لا تقوم إلا لكي تنهار.. فكم من قضية كانت من المسلمات، أصبحت من الخرافات، وكم من فكرة أجمع عليها المفكرون، ولم تمض عليها فترة حتى اصبحت مهجورة.

فالواقعيون لا يتمكنون من ادعاء الصحة في أي جزء من معلوماتهم ما دامت سائر الاجزاء قد تبخرت مع حرارة الزمن!

قلت: ألا ترى أن ما تقوله مثالية؟

قال: إن كانت المثالية تعني أن الوجود لا يعني سوى التصور، فأنا مثالي، وفلسفتي مثالية.

قلت: فأنت تنكر بقولك هذا العالم..

قال: أنا لا أنكر العالم، ولا أي حقيقة موضوعية فيه.. ولكني أنكر أن تكون حقيقة الأشياء هي الوجودات المستقلة عنا، القائمة بذاتها.. إن هذا وهم كبير.. إن حقيقتها لا تعدو أن تكون مجموعة تصورات تتفاعل داخل شعور كل منا، وكل ما يقوله الناس عن العلم والصناعة والتاريخ والاكتشافات والنشاطات المادية حقيقة لا ريب فيها، ولكنا نسأل عن معنى الحقيقة؟ انهم يحسبون أن معناها الوجود المادي الكثيف، ولكني أقول إن معناها الوجود الذهني اللطيف.

قال ذلك، ثم استغرق في صمت عميق قال بعده: كل ما يقوله العلماء والفلاسفة والناس جميعا صحيح، ولكنه لا يعني وجود واقع خارج الشعور.. بل إن كل ما يذكرونه تصورات شعورية محضة.

لم تطل صحبتي له طويلا.. فقد رأيت أن ما ذهب إليه من منهج يكاد يقضي على كل العلوم.. بل يكاد يحولني إلى السفسطة..

أما ما ذكره من أدلة فهي مجرد التباسات.. فمعرفة أخطاء الحس وتناقضاته بسيطة لمن أوتي نور العقل.. وما دمنا آمنا بدور العقل الذي لا يخضع للحس وإنما بالعكس يخضع الحس له، فإن بمقدورنا كشف تناقضات الحس ببساطة متناهية[46].

أما استدلاله بإمكانية خطأ المعارف البشرية، فإنه نوع من الخلط بين المعرفة والجهل، لأن المعارف لن تخطئ لأنها مشاهدات مباشرة للواقع.. وهناك فرق كبير بين تبين خطأ عقيدة، وبين تبين خطأ علم.. العلم لا يخطئ، بينما تخطئ العقيدة إذ أن الثانية تخضع للشهوات والتطورات المادية بيد أن العلم النابع من العقل ليس كذلك.

ويكفينا حجة: تلك المجموعة الضخمة من المعلومات التي لا يتردد أحد فيها ولا يحتمل أنها قد تخطئ في يوم ما إطلاقا مثل الإيمان بوجود حقيقة الكون والسنن العامة فيه، والقوانين الرياضية التي تحكمه، لا يمكن ولا نحتمل ان تخطئ في يوم من الأيام.

الشكوكية التجريبية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى فيلسوف أسكتلندي أثر وتأثر بالشكوكية والتجريبية.. فصار شكوكيا تجريبيا.. كان يقال له (ديفيد هيوم)[47].. سألني أول ما التقيته قائلا: إذا كان كلّ ما يعرفه الإنسان مجرد فكرة عن شيء ما، فكيف السبيل إلى التأكد من وجود شيء في العالم يتطابق مع تلك الفكرة؟

لم أجد بما أجيبه، فقال: إن الوجود يحدث بحصول إدراكه.. فالشيء لا وجود له إلا عندما يدركه عقل الإنسان.

قلت: تقصد أن الأشياء المادية ليست سوى أفكار مرسومة في العقل، وليس لها وجود مستقل.

قال: أجل.. هذا ما فهمته من نظريات لوك وباركلي.. لقد رأيت من خلال الجمع بين فلسفتهما أن جميع محتويات العقل إنما هي انطباعات وأفكار.. وقد تخطر بالبال فكرة يمكن الاهتداء إلى أصلها المتمثل في انطباع سابق.

ولهذا يجدر بالإنسان أن يحدد الانطباع الذي أنتج الفكرة وأعطاها معنى معينًا، فالفكرة التي تخطر بالبال من غير أن نستدل على أصلها لابد أنها عديمة المعنى.

سكت قليلا، ثم قال: كيف يمكن التأكد من أن المستقبل سوف يكون مثل الماضي؟

قلت: ما تقصد؟

قال: هل ستمارس قوانين الطبيعة عملها على المنوال السابق نفسه؟

قلت: هذا هو الظاهر.

قال: لا نستطيع أن نؤكد أنها جميعا سوف تستمر في السير على المنوال نفسه..

قال ذلك، ثم انصرف عني.. فانصرفت إلى مؤلفاته أدرسها لأبحث عن الأساس الذي انطلق منه في أفكاره تلك.. فوجدته عديم الثقة بالتأمل الفلسفي.. ولكنه يؤمن أن كل معرفة جديدة تأتي نتيجة للخبرة، وأن كل الخبرات لا توجد إلا في العقل على شكل وحدات فردية من الخبرة.. ووجدته يعتقد أنّ كل ما مَرّ به الفرد مباشرةً من خبرة لم يكن أكثر من محتويات شعوره الخاص، أو ما يتضمنه عقله الخاص.. ووجدته يعتقد بوجود عالم ما خارج منطقة الشعور الإنساني، ولكن لم يطرأ على ذهنه أنّ هذا الاعتقاد كان من الممكن إثباته.

وقد وجدته يطلق على وحدات الخبرة الحيوية الفعّالة اسم المدركات الحسِّية، أما وحدات الخبرة الأقل حيوية وفعالية فقد أطلق عليها اسم المعتقدات أو الأفكار.. فالكلمات والمدركات لها معانيها عند الشخص إذا كانت لها علاقة مباشرة بوحدات هذه الخبرة.. وكانت كل وحدة من الخبرة منفصلة متميزة عن بقية الوحدات الأخرى جميعها، على الرغم من أن الوحدات عادة ما تُمارس وتُجرب على أنها مرتبطة بعضها ببعض.

وقد وجدته يرى أن هناك ثلاثة مبادئ تربط الأفكار المتحدة بعضها ببعض..

أولها التشابه.. فإذا ما تشابهت وحدتان من الخبرة، فإن التفكير في واحدة قد يؤدي إلى التفكير في الأخرى.

وثانيها التّماس أو التجاور.. فإذا ما تلازمت وتجاورت وحدتان الواحدة مع الأخرى، فإن التفكير في واحدة قد يثير التفكير عن الأخرى.

وثالثها السبب والنتيجة (الأثر).. فإذا ما سبقت وحدة واحدة باستمرار وحدة أخرى، فإن فكرة الوحدة الأولى ستظهر في فكرة الوحدة الثانية.

وقد وجدته يهجم على مبدأ السببية الذي يقرر أنه لا يمكن أن يحدث أو يظهر إلى عالم الوجود شيء من غير سبب.. وقد كان هيوم يعتقد بدل ذلك أنه بالرغم من أن حدثًا واحدًا يسبق دائمًا حدثًا آخر، إلا أن هذا لا يثبت أن الحدث الأول سبّب الحدث الثاني.

ووجدته يرى أن التزامن المتواصل بين حدثين، ينشئ توقعًا بأن الحدث الثاني سوف يتم حدوثه بعد الأول.. ولكن لم يكن هذا شيئًا أكثر من اعتقاد راسخ، أو عادة عقلية علمتنا إياها الخبرة، ولم يستطع أحد أن يبرهن أن هناك ارتباطات سببية بين الانطباعات.

وقد بنى هيوم نظريته عن الأخلاقيات على الخبرة، رافضًا الرأي القائل بأن العقل في استطاعته التمييز بين الفضيلة والرذيلة.. وقد فحص الظروف التي كان فيها الناس يتحدثون عن الأخلاقيات، وختم أقواله بأن الميزات الفاضلة عند الناس هي تلك التي كانت سائغة أو نافعة لهم.

النسبية الذاتية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى فيلسوف ألماني، كتب في (نقد العقل الخالص) [48].. كان اسمه (إيمانويل كَانْط)[49] لقيته ببروسيا الشرقية.. والتي تُعرف الآن بكالينينغراد في روسيا..

لقيته في في جامعة كونجزبيرج، وهو يصيح في طلبته ومن حضر معهم من سائر الناس قائلا: اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب.. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر.. فالله زودكم بعقول وينبغي أن تستخدموها.

سأله بعضهم حينها عن التنوير، فأجاب: إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد.

سأله آخر عن علاقة التنوير بالإيمان، فأجاب: عند حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان.. لكن احذروا من الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين.

سأله آخر عن القصور العقلي، فأجاب: إنه التبعية للآخرين، وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا.

اقتربت منه أنا، وسألت سؤالي المعتاد الذي تعودت أن أسأل به العقول، قلت له: كيف يتسنى للعقل أن يبلغ حقائق الأشياء بلوغا لا شك معه.

ابتسم، وقال: أنت لا تعرفني..

قلت: رأيتك.. ولكني لا أزال لا أعرفك.

قال: ولذلك وجهت لي هذا السؤال.. ولو أنك عرفتني لما سألت هذا السؤال.

قلت: لم؟

قال: لأن منهجي العقلي ينطلق من إلغاء هذا السؤال.

قلت: فسر لي ما تريد قوله.

قال: حينما رأيت مشاكل عديدة تمنع عن بلوغ حقيقة المعرفة، فعلت ما فعل غاليلو بالنسبة إلى الهيئة؛ فبدلا من ان يقول الأرض مركز العالم والشمس تدور حولها، قال: ان الشمس هي المركز والأرض تدور حولها، فنجح وحلت مشاكله العلمية.. وكذلك نجحت حين قلت: الناس حتى اللحظة كانوا يحسبون ان الحقائق هي المركز والفكر يدور حولها. ولكن بدأت أقول: الفكر هو المركز والحقائق تدور حوله، وأبسط الحقائق هو الإحساس.. فما يزعمه الناس حول الإحساس انه انعكاس الحقيقة على الذهن، ولكن أقول بل هو صبغة الذهن للحقائق.. أنا أقول: صحيح أن هناك حقائق نحس بها، ولكن لم يكن من الممكن الإحساس بها الا في حدود الزمان والمكان.. ولدى التعمق أكثر من هذا، نرى أن الزمان لا يعني سوى نسبة الإنسان إلى الأحداث.. وأما المكان فهو نسبة الإنسان.. أي الفكر.. إلى الأشياء.

فاليوم يعني: تقارن إحساسي مع دورة الشمس، والمكان القريب يعني: قربي إليه.. ونستطيع تشبيه الزمان والمكان بظرف بلور نضع فيه الماء فيصطبغ الماء بلون الظرف، فنعتقد نحن أن اللون من الماء، ولكن الظرف فقط واهب اللون، وكذلك نحن نزعم الحقيقة في الزمان والمكان، والواقع هو أننا نحن نعيش عبر المحدودية الزمانية والمكانية، لا أن الحقائق هي التي تعيش.

قلت: فأنت تعتبر الحقيقة هي الإحساس مصبوغا بصبغة ذاتية هي صبغة الزمان والمكان.

قال: أجل.. فالحقيقة كما هي في واقعها - أو كما هي في ذاتها - لا يمكن أن تعرف، لأننا لا نملك إلا أداة محدودة للمعرفة، وهي أداة الذهن التي تعيش ضمن وقت ومحل محدودين.. فالحقيقة إنما تعرف بنسبة معينة.

تأمل في وجهي قليلا، ثم قال: ولذلك فإن بحوث الميتافيزيقيا (الغيب) بعيدة عن إحاطة الإنسان، لأنها مجردة عن الزمان والمكان.. أما بحوث الرياضيات فإنها أيضا لا تعكس الحقائق، ولكنها صحيحة حسب أفكارنا إذ أنها تكرير لحقيقتي الزمان والمكان.. فالحساب مجموعة أعداد، والعدد ليس إلا انعكاس الذهن على شاشة الأشياء.. وكذلك الهندسة، فهي تحديد للأماكن القريبة والبعيدة ونوع قربها وبعدها عني.

قلت: فأنت تفرق بين العلوم في علاقتها بالحقيقة المجردة؟

قال: أجل.. لقد وجدت أن الطبيعيات.. كل الطبيعيات.. تحتوي على مادة هي الإحساسات وصورة هي الزمان والمكان.. وأن الرياضيات تحتوي على صورة ـ وهي الزمان والمكان ـ ولكن بدون مادة.. أما (الميتافيزيقيا) فلا تحتوي موضوعاتها على صورة ولا على مادة.

ولذلك، فإن معارفنا عن الطبيعيات مزيجة من الذاتية والموضوعية، وهي لذلك لا تمثل إلا بعض الحقيقة.. أما معارفنا عن الرياضيات، فهي ذاتية بحتة.. فرغم أننا نعتقد بها لأنها جزء من تركيب أذهاننا لكنها مع ذلك لا تعكس حقيقة وراءها.. وأما معارفنا عن الغيب (ميتافيزيقيا) فإنها لا ذاتية ولا موضوعية.

لم تطل صحبتي له طويلا، فقد انصرفت عنه بعد مدة قصيرة.. فلم أجد عنده ما يسد حاجة عقلي..

نعم.. النظرية النسبية التي تعتبر أساس منهجه، صحيحة علميا، إذا أريد منها: أن العلم بكل الأشياء غير ممكن لنا، وكذلك العلم بكنه الأشياء.. ولكن إذا أريد بها التشكيك في صحة علمنا بظواهر بعض الأشياء، فإن ذات العلم ينفي هذا النوع من التشكيك إذ أنه حين يكشف لنا عن شيء يعطينا اطمئنانا بالغ الشدة به، بحيث ينقطع التشكيك فيه.

ومن هنا كان خطأ كانط الكبير، حين اعتبر الزمان والمكان من متصورات النفس البشرية ومن إضافاتها النهائية التي تضفيها على الأشياء لا لأمر إلا لتعرفها.. ذلك أن الزمان والمكان بدورهما حقائق يكشف عنهما العقل البشري.. ويثق بوجودهما في الخارج كما يثق بوجود أي شيء آخر.. وما هو الفرق بينهما وبين مواد التصورات وكيف جاز لكانط أن يعتقد أن تصور الحرارة من نتائج الخارج ولكن تصور مكانها وزمانها من نتائج الذهن.

هذا بالإضافة إلى أن الذهن البشري يتصور إلى جانب الزمان والمكان أمورا أخرى كالشدة والضعف والنوع والكيف، فالذهن يتصور مكان وزمان الحرارة ويتصور أيضا الفرق بين الحرارة والبرودة، وبين الحرارة الشديدة والضعيفة.. وهكذا.

صحيح أن التصور الزمكاني شرط أساسي للإحساس، إذ الإحساس مشروط بالتنظيم؛ وهو مشروط بتصور الزمكان فهو ينبئ عن قدرة الذهن على الفهم قدرة قبلية.. ولكن ليس من الصحيح أن هذا التصور مجرد إضافة ذاتية يضيفها الذهن على الأشياء، بل هو كشف قبلي يجده الذهن ويجد الأشياء به[50].

الجدلية المثالية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى فيلسوف ألماني.. هو أحد أكثر الفلاسفة الألمان تأثيرًا في المذاهب الفلسفية الحديثة.. كان اسمه (جورج ويلهلم فريدريك هيغل)[51].. كانت أول كلمة سمعتها منه هي (ديالكتيك)[52].. سألته عنها، فقال: أنت تبحث عن العقل الذي يدرك حقائق الأشياء.. وضالتك عندي..

استبشرت كثيرا لقوله هذا، وطلبت منه أن يبين لي الآلية التي أدرك بها الحقائق، فقال: لتفهم تلك الآلية تحتاج إلى معرفة ثلاثة معانٍ كبرى.. هي الفكرة، والروح، والطبيعة.. وهذه المعاني الثلاثة ترجع إلى معنى واحد هو المطلق.. والمطلق هو الذات الكلية التي تنتظم كل شيء، وكل الأشياء إنما هي تطور ونمو ديالكتيكي لهذه الذات الكلية.

قلت: فكيف نصل إلى هذه الذات الكلية؟

قال: لن تصل إليها حتى تعرف أن حركة التغير والتطور تسير وفق دورات لولبية صاعدة، كل دورة منها ذات ثلاث مراحل، أما أولاها، فسميتها (الطريحة) أو (أطروحة).. وأما الثانية، فسميتها (النقيضة) أو (النفي).. وأما الثالثة، فسميتها (الجميعة) أو (نفي النفي)، أو (التركيب)[53]

والحركة الجدلية في هذا المطلق الذي هو الذات الكلية، تنطوي على ثلاث مراحل في ثلاث لحظات، هي الوضع الأول، ثم انقلابه إلى نقيضه، ثم مركب الوضع ونقيضه بعد توحدهما بسقوط التناقض بينهما، وارتفاعهما بهذا التوحد إلى ما هو أسمى من الوضع ونقيضه.

وهكذا دواليك تتكرر حركة الجدلية، فيكون في الأشياء كلها تطور ونمو.

أي أن الحالة الأولى التي يكون عليها المطلق، أو تكون عليها الفكرة، أو الروح، أو الطبيعة، أو الكائن الطبيعي، أو المجتمع الإنساني.. وهي الحالة التي أسميها (الطريحة) تتفاعل مع أضدادها ونقائضها، فتنقلب إلى الطرف الآخر الذي تقع فيه أضدادها أو نقائضها، وبذلك يتم التحول إلى الحالة الثانية، وهي الحالة التي أسميها (النقيضة).. ثم تتفاعل الحالة الثانية مع أضدادها أو نقائضها، فينشأ من ردود الأفعال تغير لها، ولكن لا إلى ذات الطرف الذي سبق أن تركته في التغير الأول، بل إلى تغير صاعد يجمع بين الطريحة والنقيضة جمعاً توفيقياً، وبهذا الجمع تسقط صفات وعناصر دنيا خسيسة، وبذلك يحصل الارتقاء، وهذه هي الحالة التي أسميها (الجميعة).. ويُحذفُ التناقض في هذه الحالة إذ يتم امتصاصه في شمولٍ أعلى.

ثم تغدو الحالة الثالثة (الجميعة) من جديد (طريحة) تتغير إلى (نقيضة) جديدة، ثم إلى (جَمِعيةٍ) جديدةٍ صاعدة.. وهكذا دواليك تذهب الدورات صاعدة.

التفت إلي، وقال: هذا هو طريق الحقيقة.. وهذا هو (الديالكتيك)..

قال ذلك، ثم التفت إلى برعم شجرة أمامه، وقال: هذا (البرعم) مثلا أعتبره (طريحة).. تأتي الزهرة، فتنفيه، وتصبح الزهرة بالتالي (نقيضة).. ثم تأتي (الثمرة) التي هي الجميعة، وهي أسمى من البرعم والزهرة.

قلت: فهمت الديالكتيك الذي يعرف به منهجك.. فما المثالية؟

قال: أنا من فئة المثاليين، الذين يؤمنون بالغيبي المجرد من الحسيات، لا من فئة الماديين، فأنا أؤمن بإلهٍ.. والله في تصوري هو الوجود غير المتناهي، وهو المطلق، وهو الحقيقة الكاملة.

بقيت في صحبته مدة.. إلى أن بان لي أن ما يذكره قد يوصلني إلى بعض الحقائق.. ولكنه قد يوصلني في نفس الوقت إلى كثير من السراب والأوهام..

فقد رأيته أن مذهبه من الناحية العقلية المنطقية مبني على اجتماع الأضداد أو المتناقضات سواء في حالة اصطراعها  أو في حالة ائتلافها في الجميعة، ومنطق العقل يحكم جازماً باستحالة اجتماع الأضداد أو المتناقضات في شيء واحد وزمن واحد[54].

ورأيه يشتمل على أن التغيرات تذهب صاعدةً مرتقية باستمرار إلى ما هو أسمى، ولكن الواقع لا يُصدِّق هذا الادعاء، فهو إن صدق بمثالٍ أو بعددٍ من الأمثلة، لا يصدق بأمثلة كثيرة لا تحصى، فهو إذن لا يصلح لأن يكون قانوناً شاملاً.

ولئن سلمنا في تغيرات المجتمع البشري، بأن التطرف في (الديكتاتورية) الفردية في المجتمع قد ينشأ عنه نقمة في المجتمع، ويتولد عنه – دون حتمية- رد فعلٍ عنيف، يدفع بالمجتمع إلى حرية اجتماعية سمتها الفوضى، ثم يتولد عن هذه الفوضى الاجتماعية رجعة توفيقية بين الديكتاتورية والحرية المسرفة، وهي أفضل منهما.. فمن الطريحة والنقيضة تولدت الجميعة.. ولكن ذلك لم يتم إلا من خلال وعي الناس، ودون أن تكون ضرورة حتمية.

فكيف نطبق الحركة التغيرية الصاعدة حينما تسوء حالة الجميعة التوفيقية هذه في المجتمع، فترجع إليه الديكتاتورية المتطرفة مرة أخرى، ثم الحرية الاجتماعية المسرفة، ثم الديمقراطية المعتدلة؟!

أليست هذه دورات متناظرة، وليست بصاعدة كما زعم الادعاء[55]؟

الجدلية المادية:

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: إلى رجل تعرفونه جميعا.. استعمل جدلية هيجل بعد أن نزع عنها المثالية.. فحولها إلى مادية.

قلنا: تقصد (كارل ماركس)[56]

قال: أجل.. لقد أخذ هذا الرجل من هيجل آراءه في الجدلية بعد أن حذف منها نظرتها المثالية، المرتبطة بالله، وأضاف إليها نظرته المادية، فصار مذهبه الفلسفي الجذري (المادية الجدلية)

وبناء على ذلك جعل الدين، والقانون، والسياسة، والأخلاق، والنظم الاجتماعية، والفلسفة، والفن، آثاراً في الوعي الإنساني للجدلية في حركة المادة وتطورها، وجعل هذه كلها صناعة إنسانية، وجعل الإنسان نتاج المادة في حركتها الجدلية، وجعل الفكر فيه نتاجها الأعلى.

وقد أخبرني أنه بعمله هذا قد أوقف آراء هيجل على قدميها، بعد أن كانت عنده واقفة على رأسها.. قال لي: إن هيجل لما اعتبر جدليته منطلقة من الله إلى كل الأكوان، فإنه بذلك قد عكس حقيقة الأمر، إذ حقيقة الأمر في ادعائي هو أن الله من اختراع الفكر الإنساني، ومن ابتكاراته التي لا تنطبق على الحقيقة والواقع.

وقد رأيت (ماركس) يعتبر نظام الجدلية أساساً لكل التغيرات في الطبيعة وفي التاريخ الإنساني بصفةٍ عامة، ويعتبره أساساً تتغير على وفقه المجتمعات الإنسانية، من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع بورجوازي إلى مجتمع اشتراكي وأخيراً إلى مجتمع شيوعي تنتهي فيه كل الطبقات، ولا حاجة فيه إلى سلطة حاكمة.

ورأيته يعطي هذه التغييرات التي ذكرها صفة القانون الاجتماعي الحتمي، ليقنع قطعان الجند من الشيوعيين بأن النهاية مضمونة لهم، فهم الذين سيقبضون على ناصية الأمر في كل المجتمعات.

ورأيته يطلق عليها وصف (المادية) لأن نظرتها مادية صرفة، أي: لا ترى الوجود كله إلا مادة فقط، وتعلل حوادث الكون تعليلاً مادياً، وترفض أي مؤثر غيبي، أو خارج عن حدود المؤثرات المادية.. وهذا الرفض قد جعل الماركسيين يلتزمون تلقائياً عدم حاجة الكون لعلم سابقٍ وحكمة واختيار وقدرة، رغم كل ظواهر الإبداع والإتقان والعناية، ورغم كل روائع الحكمة البادية فيه لكل متدبر مفكر، ورغم نظام الوحدة المسيطر عليه، والدالة على وحده المنظَّم، ورغم تصاريفه الهادفة إلى غاية مثالية عظيمة، والتي لا يلاحظ فيها أية عشوائية، أو أي تخبط على غير هدى، بخلاف حال المصادفات.

قلنا: فكيف فسر الكون بجدليته هذه؟

قال: لقد ذكر لي أن مادة الكون الأولى قد تطورت تطوراً ذاتياً، ضمن نظام (جدلية هيجل) حتى تكامل للكون نظامه الرائع.. ثم ظهرت في الأرض الحياة نتيجة لحركة التطور وفق الجدلية.. ثم ظهر الإنسان بالتطور الذاتي، وتدرج في كماله حتى بلغ وضعه الحالي المشاهد..

وذكر لي أن تطور المادة يخضع لعوامل ونظم من المادة نفسها، يفهمها الإنسان منها بعد وقوعها.. وأن تطورات الكون لا تخضع مطلقاً لخطة فرضت عليها من خارجها مسير لها، مدبر لأمرها، بل تخضع لقوانين حركة المادة.

السلام

قلنا: فإلى من لجأت بعده؟

قال: لم ألجأ إلى أحد.. لقد جرفني تيار الدياليكتيكية بسياطه.. إلى أن أسلمني اليأس إلى ما أسلمكم إليه.

قلنا: الانتحار!؟

قال: أجل.. فقد وجد عقلي ـ الذي لا أستطيع العيش من دونه ـ نفسه خاويا.. فراح يطالبني بالخلاص.. ولم أجد الخلاص إلا في الموت.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قال: في تلك الأيام كنت في باريس منشغلا بالتفرج على مسرحيات (صمويل بيكيت) الأيرلندي و(أوجين يونسكو) الروماني زعيمي حركة اللامعقول.. وفجأة.. وبعد أن رأيت ما رأيت من حقارة حياة العقل.. وبعد أن ذقت من شراب اللامعقول ما ذقت.. أصابتني إغماءة الموت.. التي أعقبت صيحة شديدة تعالت أصداؤها في كل مكان.. ولم ينقذني منها إلا ذلك النور والسلام الذي حدثتكم عنه.. والذي جئت إلى هذه البلاد باحثا عنه.

قلنا: كيف تم ذلك؟

قال: في المسرح الذي أهين فيه العقل.. والذي أصابتني فيه إغماءة الموت التي كادت تقضي علي.. هرع الكل لإنقاذي مستعملين كل وسائلهم وأساليبهم وأسبابهم.. لكنهم جميعا لم يرتدوا إلا بالفشل الذريع.

لكن رجلا ظهر في ذلك الحين.. لست أدري هل كان معنا في المسرح يتفرج على ما نتفرج عليه.. أم أنه سمع صيحتي القوية.. فأسرع لإنقاذي..

اقترب مني.. ثم راح يرتل هذه الآية من القرآن [57] :﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)

ثم يعقبها بآية أخرى تقول :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)

ثم يعقبها بهذه :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفلك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَلأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: 164)

ثم يعقبها بهذه :﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4) ﴾ (الرعد)

ثم يعقبها بهذه :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)﴾ (النحل)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)﴾ (النحل)

ثم يعقبها بهذه :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾ (الحج)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) ﴾ (الروم)

ثم يعقبها بهذه :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ إيمانكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) ﴾ (الروم)

ثم يعقبها بهذه :﴿ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)﴾ (الجاثية)

ثم يعقبها بهذه :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) (البقرة)

ثم يعقبها بهذه :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) (يوسف)

ثم يعقبها بهذه :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(10) (الأنبياء)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (80) (المؤمنون)

ثم يعقبها بهذه :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) (غافر)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) (البقرة)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171) (البقرة)

ثم يعقبها بهذه :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(22) (الأنفال)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179) (الأعراف)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) (يونس)

ثم يعقبها بهذه :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ لأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) ﴾ (العنكبوت)

ثم يعقبها بهذه:﴿ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(14) ﴾ (الحشر)

فانتبهت.. أو بالأحرى انتبه عقلي الذي صار يشعر بأن له وجودا وحياة وحقيقة ووظيفة..

التفت إلى القارئ أبحث عنه.. فإذا به رجل في منتهى النور والسلام والصفاء.. سألته: من أنت؟

قال: أنا مسلم.

قلت: لا أريد دينك.. أريد اسمك.

قال: لقد انمحى اسمي في اسم ديني.. فصرت لا أعرف إلا به.

قلت: بم سماك أبواك؟

قال: لقد سميت أسماء كثيرة.. منها (ابن الهيثم).. ومنها (ابن خلدون).. وأنا الآن  أسمى بين قومي (تقي المدرسي)[58]

قلت: لقد سمعتك تقرأ كلاما يمجد العقل.

قال: ذاك كلام ربي.. الذي خلق لنا العقول.. وعلمنا كيف نستعملها لنصل بها إلى الحقائق.

انتفضت من مكاني، وقلت: هل حقا ما تقول؟.. هل يمكن للعقل أن يصل إلى الحقائق؟

قال: أجل.. لقد دلنا ربنا على المنهج الذي يصل بنا إلى ذلك.

قلت: لقد صحبت الكثير.. ولكني لم أجد عندهم ما يرضي عقلي أو ما يوصله إلى الحقائق.

قال: ذلك لأن عندهم بعض العقل.. لا كل العقل.. ويستحيل على بعض العقل أن يصل إلى الحقائق الكاملة.. إنه في أحسن أحواله يصل إلى حقائق وقتية أو حقائق مشوهة قد ينتفع بها بعض الانتفاع، لا كل الانتفاع.

قلت: هلا قربت لي هذا؟

قال: بأسلوب أهل هذا العصر.. أم بأسلوب غيرهم؟

قلت: ما دمنا في هذا العصر.. فلا يصح أن نستعمل أسلوب غيره من العصور.

قال: إن مثل كل من لقيت من المفكرين والباحثين مثل قوم ضلت بهم الطرق.. وكان لديهم سيارة مجهزة بكل الآلات التي تستطيع أن تقطع بهم الطريق.. لكنهم انشغلوا عن قيادتها بالبحث عن أجزائها.. فانشغل كل طرف منهم بجزء من الأجزاء.. وراح يستغرق فيه ناسيا المقصد الذي صممت السيارة من أجله.

ذهب بعضهم إلى المرائي.. وذهب آخرون إلى العجلات.. وراح آخرون يقيسون.. وراح آخرون يجربون.. وراح آخرون يوجهون أبصارهم إلى غير الجهة التي كانت السيارة قابعة فيها.. ثم يصيحون بملء أفهم: يا قوم ليس هناك سيارة.. فلماذا تبحثون عنها؟..

وكل هؤلاء لم يتعب أحد منهم نفسه ليتساءل عن مقر القيادة الكامل الذي لا تسير السيارة السير الصحيح إلا به.

نهضت من مكاني قائما، وقلت: ها أنا بين يديك.. فدلني.. فقد انقطعت بي السبل.

قال: أول الطريق هو أن تعرف أن لك عقلا.. وأن هذا العقل قد زود بالنور الذي يهيئه لإدراك الحقائق..

إن مثل ذلك مثل من يدخل بيتا تكتنفه الظلمات.. فإن أول شيء يفعله هو أن يتحسس عن المصباح.. فإذا وجده استضاء به في اكتشاف سائر الأشياء..

ولهذا، فإن الإسلام ـ بمصادره المقدسة ـ يذكر الإنسان ـ كل حين ـ بعقله، ليتخذه مصباحا يكشف به حقائق الوجود.

قلت: لقد سمعتك تقرأ علي النصوص الكثيرة التي تذكر فضل العقل وأهميته.

قال: تلك نصوص القرآن الكريم.. إنه الكتاب الذي يدلنا على النور وعلى مصادر النور.. وهو يدلنا على ذواتنا وطاقاتنا كما يدلنا على الكون وكيفية الاتصال به.

قلت: فهل اهتديتم بتلك الآيات إلى العقل؟

قال: لم نهتد لعقل واحد.. بل اهتدينا إلى عقول كثيرة..

قاطعته قائلا: عقول كثيرة!؟.. كيف ذلك؟.. لا أعرف إلا أن للإنسان عقلا واحدا.

قال: نعم هو عقل واحد من حيث الماهية.. ولكن الأدوار والمناهج التي قد يستعملها تختلف اختلافا يجعل من العقل عقولا كثيرة.

قلت: ألا يحدث الصراع بينها؟

قال: يحدث الصراع لو كان منشئها متعددا.. وبما أن منشئها واحد، فإنها تمتلئ بالسلام الذي يمتلئ به كل ركن من أركان الوجود.

قلت: فهلا وضحت لي هذا، فإني أرى عقلي كليلا دون فهمه.

قال: سر معي إلى (أكاديمية العقل المسلم).. ففيها تسمع العقول المغذاة بعقل الإسلام.. وفيها ترى السلام الجميل الذي يغمرها جميعا.

قلت: أكاديمية العقل المسلم!؟.. لم أسمع بها من قبل.

قال: هي أكاديمية أسسها محمد رسول الله.. ولكن الإعلام في جميع فترات التاريخ بذل كل جهده ليهيل تراب النسيان عليها، فلا يبصرها أحد.. فلذلك تراهم يمرون على كل الأكاديميات عداها.

قلت: صدقت.. لقد كتب لي أن أتتلمذ على الكثير من العقول، وفي الكثير من الأكاديميات.. لكني لم أسمع أحدا منهم يذكرها.

قال: سر معي إليها.. وسترى فيها ما يرضيك.. أنا متيقن تماما.

قلت: ما الذي جعلك تتيقن؟

قال: لقد مر علي الكثير من أمثالك.. وهم الآن بحمد الله أساتذة في هذه الأكاديمية.

المدارك الحسية

سرنا إلى أول قسم في (أكاديمية العقل المسلم).. وكان اسمه (المدارك الحسية).. سألت المدرسي عنه، فقال: في هذا القسم يتعلم الطلبة كيف يستفيدون من مداركهم الحسية في تغذية عقولهم بالمعارف.

قوة الحس:

قلت: ألا ترى أن الحس أضعف من أن أصل به إلى الحقائق؟

قال: لا.. بل الحس هو أول المدارك التي نصل بها إلى الحقائق، ولهذا فإن القرآن الكريم يحث على استعماله.. لا لنقف عنده، وإنما لنعبر منه إلى غيره.

اسمع إليه، وهو يقول موجها العتاب الشديد للذين لم يستعملوا مداركهم في العبور بها إلى الحقائق :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) (القصص).. ويقول :﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) (الذاريات).. ويقول :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) (السجدة).. ويقول :﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) (الغاشية).. ويقول :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) (الأنعام)

ويبين عاقبة من لم يستعمل وسائل إدراكه في العبور إلى الحقائق، فيقول :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) (الأعراف).. ويقول :﴿ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) (هود)

قلت: فالعقل المسلم إذن يؤمن بالحس ويستسلم له.

قال: فرق كبير بين إيمانه بما يقوله الحس، وبين استسلامه له.

قلت: ما الفرق بينهما؟

قال: الإيمان بمدارك الحس فطرة بشرية.. فكل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس.

ولكن الاستسلام شيء آخر.. لأن الحس قد يعرض له من الأوهام ما ينصرف به عن الحقيقة.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يجعل إحساسه تبعا لعقله.. لا عقله تبعا لإحساسه.

قلت: لم أفهم.. ماذا تقصد؟

قال: إن العاقل هو الذي يعترف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه.. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية.

مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات كبيرة..ومثل ذلك ما نراه سائلاً.. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت دلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب.. بل يذكرون أن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين، ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا، وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.

لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد على ما يظهر لنا منها[59].

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، وبين مغزاه وفائدته، فقال :﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) (الأنفال).. وقال :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) (آل عمران)

قلت: فهمت هذا.. ولكن كيف يكون الحس تابعا للعقل؟

قال: الاسلام بنصوصه المقدسة أولى جانب الحس أهمية كبرى، حيث دعا إلى النظر والسير والتحرك والتثبت، ولكنه مع ذلك أولى اهتماما اكبر لدور العقل الذي يوجه الحس ويمحص نتائجه، والذي لولاه يصاب الفكر بالشلل الكامل.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لنفترض أننا أبعدنا العقل عن مجال الحس، وأصبحنا مثل أولئك الحسيين الذين لم يعترفوا بدور العقل في توجيه الحس، فسوف نرى كيف نتخبط في الضلالات حتى لا نستطيع كشف أي حقيقة مهما ضؤلت بواسطة الحس. بل إن نكران العقل يدعونا إلى التشكيك في وجود أية حقيقة وراء الحس، وينتهي بالإنسان إلى المثالية أو التشكيك التام.. أفليس من الممكن أن تكون رؤيتنا للأمور أشبه شيء برؤية الحالم في منامه، أوليس من الممكن أن يكون الإحساس نابعا من ذات الأعصاب وليس من الحقائق الخارجية؟ فإن لم يكن هناك نور لدى النفس يحكم بأن مصدر الإحساس حقيقة خارجية بصور جازمة، لو لم يكن هذا فأي حجة تقدر على إثبات الحقائق وراء الإحساس؟

قلت: لقد رأيت بعض الفلاسفة والعامة يتعلل في عدم إيمانه يوجود الله بمدارك الحس.. فهو يرى أنه لا ينبغي أن يؤمن إلا بما يرى[60].

ابتسم، وقال: لقد أشار القرآن الكريم إلى هؤلاء الأغبياء الذي جعلوا عقولهم سجينة حواسهم، فقال :﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) (البقرة)

قلت: لكن هؤلاء يدعون أن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي.

قال: لقد كذبوا في ذلك.. فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم.. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه أعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟

ضعف الحس:

رأيت في القاعة امرأة تخاطب امرأة بفخر واعتزاز قائلة: لا شك أنك لا تعرفيني.. أنا زرقاء اليمامة.. أنا المرأة التي ضربت بها العرب الأمثال في قوة بصرها، فقالت: (أبصر من زرقاء اليمامة).. أنا التي قال في النابغة:

واحْكم كحكم فَتَاة الحيِّ إذا نَظَرتْ
 

إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَد
  

يَحُفُّهُ جَانِباَ نِيقٍ وَتُتْبِعُهُ
 

مِثْلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
  

قالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا
 

إلى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفَهُ فَقَدِ
  

فَحَسبُوهُ فألفَوْهُ كَمَا ذكَرَتْ
 

تسعا وتسعين لَمْ ينقص ولم يَزِدِ
  

قالت لها صاحبتها، وهي تحاورها: كفي عن غرورك يا أختي.. فالعين مهما قدرت على الرؤية، فهي مخلوق عاجز خلق الله له مجالا محدودا لا يمكنها أن تجاوزه.

قالت: أنت تقولين ذلك لما ترين من ضعف بصرك.. ولو أن بصرك كان أقوى ما قلت هذا.

ابتسمت صاحبتها، وقالت: لاشك أنك لم تخفظي الدروس التي لقنها لنا أساتذتنا في هذه الكلية.

قالت زرقاء: أي درس منها؟

قالت صاحبتها: درس (ضعف المدارك الحسية)

قالت زرقاء: لقد درست عظمة هذه المدارك التي من الله بها علينا.. فلم أحتج لإدراك ضعفها.. فلا يمكنني أن أحمد الله على الضعف.

قالت صاحبتها: ولا يمكنك أن تستفيدي من شيء، وأنت لا تعرفين ضعفه.

قالت زرقاء: كيف ذلك؟

قالت صاحبتها: لأنك قد تقعين في فخاخ الجهل التي ينصبها لك ضعفه.

قالت زرقاء: فلنفرض أني سلمت لك بما ذكرت.. فاذكري لي من ضعف بصري ما يكفني عن الاغترار به.

قالت: سأذكر لك سبعا من أنواع النقصان التي لقننا إياها علماؤنا وأساتذتنا ليحفظوا بها عقولنا من أن تقع ضحية لأخطاء مداركنا الحسية.

قالت زرقاء: فما هي؟

قالت[61]:  لقد قال الغزالي، وهو يلقننا ضعف حاسة البصر مقارنة بالعقل:( اعلموا أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب.. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها.. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا)

ثم قال متسائلا: (فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة.. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى باسم النور أم لا؟)

ثم أجاب: (اعلموا أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني.. ودع عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني، فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه (عقلا) متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع)

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الأول.

قالت: القصور الأول هو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه.. إذ يدرك نفسه عالما وقادرا.. ويدرك علم نفسه.. ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية.. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الثاني.

قالت: القصور الثاني هو أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا، بينما العقل يستوي عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا.. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الثالث.

قالت: القصور الثالث هو أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص.. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل، وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الرابع.

قالت: القصور الرابع هو أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها، بينم يتغلغل العقل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور الخامس.

قالت: القصور الخامس هو أن العين تبصر بعض الموجودات فقط دون جميع المعقولات، بل دون كثير من المحسوسات، فهي لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة من السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.

بينما الموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا.. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه.. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور السادس.

قالت: القصور السادس هو أن العين لاتبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام، والأجسام لاتتصور إلا متناهية، والعقل يدرك المعلومات، والمعلومات لا يتصور أن تكون متناهيه.. فهو ـ مثلا ـ يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية، ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه.. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.

قالت زرقاء: فاذكري لي القصور السابع.

قالت: القصور السابع هو أن العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن، والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق، بينما يدرك العقل الكواكب وأن الشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة كثيرة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة، وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها.

القوانين المنطقية

بعد أن تعرفت في القسم الأول في (أكاديمية العقل المسلم) على المدارك الحسية، والضوابط التي تحكمها، سرت مع المدرسي إلى قاعة أخرى كتب على بابها (قاعة القوانين المنطقية) فسألته: أهذه هي القاعة التي يدرس فيها منطق أرسطو؟

قال: ليس هناك في الدنيا شيء اسمه (منطق أرسطو)

قلت: كيف تقول ذلك؟.. لقد رأيت أرسطو وتتملذت على يديه.. بل حفظت على يديه (الأورجانون)

قال: فهل ابتدع منطقه ابتداعا.. أم أنه اكتشفه اكتشافا.. أم أنه وصفه وصفا؟

قلت: ربما أليق الألفاظ أن تعتبره واصفا أو ضابطا.

قال: فهل يمكن أن ننسب العربية للخليل أو لسيبويه.. فنقول (عربية الخليل) أو (عربية سيبويه)؟

قلت: العربية أوسع من أن تنحصر في هذين الرجلين.

قال: فكذلك المنطق.. لقد جبل الله عليه العقول.. فلا يصح أن يوصف به فرد دون فرد.. ولا أمة دون أمة.

قلت: فما الحاجة إلى تدريسه إذن؟

قال: لأن العقول قد تنحرف بها الأهواء عن الحقائق.. كما ينحرف اللحن بالألسن عن الإعراب.. فتحتاج إلى ما يقومها.. سأضرب لك مثالا على ذلك من القرآن الكريم..

لقد كان من مجادلات اليهود لرسول الله r قولهم :﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ (الأنعام: من الآية91).. وقد أمر الله رسوله r أن يرد عليهم، فقال :﴿ قل مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ (الأنعام: من الآية91)

انظر[62].. كيف استعمل القرآن الكريم المنطق هنا للرد عليهم.. فالذي يلزم من قولهم ذلك هو أن الله لم ينزل التوراة على موسى.. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال :﴿ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ﴾  (الأنعام: من الآية91)

ولهذا نزه الله تعالى القرآن الكريم من التناقض، فقال :﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء:82).. فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون فيما قال تناقض.

دخلنا القاعة، فرأيت حلقتين متجاورتين.. فسألت المدرسي عنهما، فقال: هاتان الحلقتان يكمل بعضهما بعضا.. فلا يصح لطالب من الطلبة أن يدرس في إحداهما، ويترك الأخرى.

قلت: من شيخ الحلقة الأولى؟

قال: هما شيخان، أما أحدهما، فرجل من علماء المسلمين يقال له (ابن حزم).. وأما الثاني، فيقال له (أبو حامد الغزالي)

قلت: فمن شيخ الحلقة الثانية؟

قال: : هما كذلك شيخان، أما أحدهما، فيقال له (ابن الصلاح).. وأما الثاني، فيقال له (ابن تيمية)

قلت: عهدي بالحلقات أن لا يكون لها إلا شيخ واحد.

قال: أحيانا تحتاج إلى شيخين أو أكثر.. ليكمل أحدهما ما يقصر فيه الآخر.. ألا ترى غرف العمليات كيف يجتمع فيها جموع الأطباء من كل التخصصات؟

قلت: بلى.. لكن ذلك في الأجساد.

قال: والعقول أولى من الأجساد.. فلا تصح الأجساد إلا بصحة العقول.. ألم تسمع الحكمة التي تقول (الجسم السليم لا يكون إلا لصاحب العقل السليم)؟

قلت: هم يقولون ( العقل السليم في الجسم السليم)

قال: لقد قالوا ذلك احتقارا للعقل.. فقدموا عليه الجسد.. ولو أنهم فطنوا لقدموا العقول.. فلا يحفظ الأجساد مثل العقول.

قلت: صدقت في هذا.. فبأي الحلقتين أبدأ؟

قال: الطلبة هنا يبدأون في العادة بحلقة الغزالي.. ثم ينتقلون بعدها إلى حلقة ابن تيمية.

قلت: فلا يصح أن نخالف الأعراف إذن.

1 ـ تأييد المنطق:

جلست إلى الحلقة الأولى، فسمعت شيخها الأول (ابن حزم) يقول[63]: الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض وما بينهما، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت، من الإنس والجن، بالدين الذي اجتبرهم به، ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من أطاعه ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه؛ وما توفيقنا إلا بالله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عز وجل.. أما بعد:

فإن الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه، يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس :﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر:62)

وقال مثنيا على عباده من أولي الألباب :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )  (آل عمران:191)

وقال ممتنا على عباده :﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) (الرحمن)

وقال آمرا عباده :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) (العلق)

تدبروا هذه الآيات، فإنها جامعة لوجوه البيان الذي امتن به الله تعالى على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان، فضلا منه تعالى يؤتيه من يشاء.. والله ذو الفضل العظيم.

وقد وجدنا أن الله عز وجل عدد في عظيم نعمه على من ابتدأ اختراعه من النوع الإنسى تعلمه أسماء الأشياء؛ فقال تعالى :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31).. وهو الذي بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية، وهو البيان عن جميع الموجودات، على اختلاف وجوهها، وبيان معانيها، التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف أسماؤها، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه، وسائر نوعه، ولم يعرف موقعها لديه، لم يكن يفضل البهائم إلا في الصورة؛ فلله الحمد على ما علم وآتى، لا إله إلا هو.

ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات، الموجبة لافتراق أسمائها، ويحد كل ذلك بحدودها، فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة، ومر عليها غافلا عن معرفتها، معرضا عنها، ولم يخب خيبة يسيرة بل جليلة جدا.

قال بعض التلاميذ: كيف تقول هذا، ولم نر أحدا من السلف الصالح تكلم فيه؟

قال ابن حزم: إن هذا العلم مستقر في نفس كل ذي لب.. فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من الفهم، إلى فوائد هذا العلم.. والجاهل كالأعمى يحتاج إلى أن ينبه عليه.. وهكذا سائر العلوم.. فما تكلم أحد من السلف الصالح، رضى الله عنهم، في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس، باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالا عظيمة، وكان ذلك معينا على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه r، وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى، فكان هذا من فعل العلماء حسنا وموجبا لهم أجرا.. وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه؛ فإن السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما آتاهم الله به من الفضل ومشاهدة النبوة، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله، يرى ذلك حسا ويعلم نقص من لم يطالع هذه العلوم ولم يقرأ هذه الكتب وأنه قريب النسبة من البهائم، وكذلك هذا العلم فان من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه r، وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا، والتقليد مذموم، وبالحرى إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها.

قال آخر: لقد ذكرت بأن هذا العلم موجود في ذهن كل إنسان، فهل هو كسب اكتسبه، أم أنه معرفة ولد بها وفطر عليها.

قال ابن حزم: بل هو من العلم الذي اكتسبه.. لقد قال الله تعالى يشير إلى هذا :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)

قال التلميذ: فكيف تسنى للعقل أن يصل إليها؟

قال ابن حزم [64] : العقل هو الوسيلة التي تدرك بها الحقائق.. أو هو النور الذي إذا سلط على الحقائق ظهرت له وتجلت.. ولذلك فإن تلك الحقائق يكشفها نور العقل للنفس كما يكشف ضوء الشمس ألوان الحقول..

وقد كان خطأ الإنسان الأكبر غفلته عن مصدر النور وتوجهه إلى الأحكام زاعما أنها هي حقيقة النور، فراح يبحث عن مصدر يقيِّم به تلك الأحكام.. ولو كان الإنسان قد تذكر بأن الذي يساعده على البحث ليس الا هذا النور، وانه لو افتقده أصبح كالمجنون والنائم حيث لا يفهمان أمرا ولا يعلمان شيئا، وأنه أشبه شيء بنور الإرادة ونور الحرية الذين تملكهما النفس البشرية، وتملك بهما القدرة على الاختيار وهي بذاتها قدرة ذاتية لا تعلل..

لو فعل الإنسان ذلك إذا لتخلص عن سلسلة لا تنتهي من المشاكل العلمية التي أحاطت بنظرية المعرفة.

 ذلك لأنه حينذاك يجد أن البحث عنه ضرب من الإسراف والترف الفكري.. إذ ما من بحث الا وهو يؤكد على وجود قوة للإنسان تساعده على البحث، وهي بالتالي تنير طريقه إلى الحقيقة، وتلك القوة هي العقل، وهو نور مقدس عن الإحاطة به من لدن الذات..

التفت إلي، وقال: ومن هنا كانت عملية (كانط) النقدية ـ والتي استهدفت نقد العقل ـ عملية موغلة في الجهل إذ أن الغفلة عن نور العقل، ذلك النور الذي لم يستطع (كانط) ذاته القيام بعملية النقد بدون وجوده لديه.. إن الغفلة عنه فقط كانت السبب في التوجه إلى السابقيات الذهنية، كتصور الزمان والمكان والعلة و.. و.. لينقدها وينتهي بالتالي إلى نظرية النسبية ومنطقه الوضعي.

ولو أن (كانط) كان يتذكر بوجود نور يجعله يقيم الأشياء ويعتمد على تقييمه هذا، وأن ذلك النور هو الذي يكشف له عن الزمان والمكان والعلة والسبب، إذا لنقد الأشياء به، ولم يزعم انه استطاع نقده هو، غافلا عن أن العقل لا يمكن الإحاطة به، فكيف يتاح له نقده، وبأي شيء ينقد الإنسان عقله؟ أبعقله أم بجهله؟ والعقل لا يشكك في ذاته والجهل لا يمكنه نقد العقل..

ومن هنا ـ أيضا ـ أصاب (ديكارت) دوار عنيف في مسيرته عبر العقول إذ أنه شكك نفسه في معلوماته النظرية.. وحين زعم أنه تخلص منها قام ليبني صرح العلم على قواعد جديدة، فلم ير تحت رجليه حجرا ثابتا، وجر إليه انتقادات كبيرة من لدن معارضيه من الحسيين.. ورغم ان (ديكارت) عقلي التفكير فإنه أيضا مخطئ في منهجه، وينشأ خطئه من أمرين:

أولهما: تشكيكه في أن تكون سابقياته الفطرية ناشئة من النفس أو من قوة شيطانية داخلها.. ولم يعلم أن تشكيكه إنما هو في التصورات الغامضة التي لم تتنور بعلم الإنسان.. أما الحقائق الواضحة التي أحاط بها علم البشر فلم يمكن التشكيك فيها أبدا.. ولهذا عاد (ديكارت) نفسه فاعترف بالنفس، وعلل اعترافه بأنه يجدها ظاهرة مميزة أمامه بحيث لا يمكنه إلا الاعتراف بها.

وثانيهما: غفلته عن حقيقة النور الذي كان معه في لحظة تشكيكه في العقل، وإلا فكيف استطاع أن يبلغ بالتشكيك مرحلة متقدمة منه بترتيب النتائج على الأسباب.. كيف استطاع أن يقول: يمكن أن يكون هناك شيطان مضلل للفكر؟.. مع أن علمه باستلزام سبب للأفكار الخاطئة إنما هو ناشيء من حكم عقلي مسبق وهو: (لا بدية السبب لكل شيء) وأن علمه بأن الشيطان يقوم بالإضلال، يقوم على أساس وجود ضلالة وهداية، وقبح الضلالة وحسن الهداية، وكل هذه الأحكام عقلية.

إن مثل (ديكارت) في ذلك مثل الذي يشكك في وجود الشمس، ثم يرينا الحقول والواحات المضاءة بالشمس، ويقول لو كانت الشمس موجودة لما كانت لها ظلال وارفة.. إن مجرد رؤية الحقول والواحات دليل على وجود الشمس، وإن ذات الظلال الوارفة لهي دليل على وجودها.. فكيف يستدل بهما على عدم وجود الشمس؟ وهكذا القدرة على التشكيك نوع من إثبات نور العقل.

والواقع: إن (ديكارت) لم يحاول التشكيك في عقله، إنما شكك في ركام الجهل الذي تجمع فوق النفس البشرية وزعم الإنسان أنها علم وعقل.. لذلك فإن تصوره للعقل يختلف عن العقل الذي أرشد إليه الدين، فإنه زعم أن العقل إنما هو كل ما في النفس البشرية من تصورات، أما الإسلام فيرى ان التصورات ليست الا معقولات يكتشفها نور العقل وينقدها.

وهكذا ترون كيف اضطربت وتناقضت مقاييس البشر حين زعمت أن المسبقات ذاتها العقل، بينما العقل هو: ما ينور للنفس تلك المسبقات العلمية.

 قال تلميذ آخر: وعينا هذا.. فحدثنا عن خصائص هذه الأحكام التي نجدها في عقولنا.. فقد رأينا من الأساتذة من يبث من الشبهات حولها ما يرفع الثقة عنها.

قال: للأحكام العقلية السليمة أربعة خصائص كبرى ترفع كل شبهة.

قالوا: فما أولها؟

قال: الجزم.. فجميع الحقائق المنطقية ثابتة جازمة لا تقبل الريب.. إذ أن ذاتها الكشف، والكشف يعني ملامسة الواقع وشهوده.. فكيف يجد الانسان الواقع ثم يشكك فيه؟ ومن هنا فإن الحكم بقبح الظلم، وحسن التضحية، وجمال الآداب ليست أحكاما تقبل الريب، والذي يرتاب فيها يحاول الفرار عنها بتغيير موضوعاتها بحيث تصبح الأحكام ليست هي التي تغيرت، بل موضوعاتها فقط تبدلت، فمثلا: الذي يقول: ان الظلم حسن يغير معنى الظلم حتى يجعله يساوي معنى العدل ثم يقول بأنه حسن [65].

قالوا: فما الثانية؟

قال: الشمول.. فالأحكام العقل شاملة لا تخصص، فإذا كانت الرذيلة قبيحة، فليس هناك فرق بين أن تكون صادرة من كبير أو صغير، وفي أي عصر وأي زمان.. وإذا كانت الحادثة بحاجة إلى علة محدثة وسبب موجد، فلا فرق بين أن تكون الحادثة رمي كرة القدم أم وجود كرة الأرض.. واذا كانت الصدفة محالة في وجود ساعة يد، فإنها محالة أيضا في صنع مخ الإنسان.. وإذا كانت معادلة 5×5=25 صحيحة، فلا فرق ان تكون في أي وقت وأي مكان.

قالوا: فما الثالثة؟

قال: العموم.. فأحكام العقل تتفق عليها عقول البشر، فالعقل هو العقل في أي إنسان كان.. وما هو فضيلة أو رذيلة هنا فهي في كل مكان ولدى كل إنسان فضيلة أو رذيلة.. اذهبوا إلى من شئتم فسوف لا تجدون الفضيلة في الخيانة والنفاق وبيع الأوطان وإيثار النفس على الآخرين.. وسوف لا تجدون معاني التضحية والفداء والشجاعة والإباء من معاني الرذيلة.. ومن هنا فإن الأمم تتبارى بهذه القيم، وتجعل منها مقياسا يحتجون به وينتهون إليه، وترتكز أجهزة إعلامهم على الادعاء بأنهم يمثلون الفضيلة والعدل، وأن أعداءهم يمثلون الزيف والباطل.. وهكذا أصبح العقل حجة بين الأفراد ومقياسا لكل أحكامهم، فلا يمكن أن نتصور رجلا عاقلا في الأرض يحكم عقله بإمكان الصدفة أو صحة التناقض والتشكيك في وجود الذات وغيرها.

قالوا: فما الرابعة؟

قال: الثبات.. فأحكام العقل لا تتطور حسب تطور الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفسيولوجية.. لأنها تكشف عن الحقائق الخارجية تماما كما لا تتغير المرآة وهي تعكس صور الحياة الناشطة الحركات..

وهنا تختلف الرؤية الإسلامية في المعرفة عن النظريات الذاتية والديالكتيكية.. ذلك أن تلك النظريات حسبت العقل وليدا لنفس المادة المتطورة، فادعت انها تتطور أيضا، ولم تستطع تلك الفلسفات اكتشاف حقيقة العقل التي لا تعدو أن تكون طاقة من نور زودت بها النفس للكشف عن الحقائق بصورة مباشرة.. ولذلك فإن حكمه مشهود متيقن ثابت وان أي حكم يتغير أو يتصور فيه التغيير لهو ليس بحكم العقل.. ومن هنا لا يمكن القول: بأن 2×2=4 انما هو صحيح اليوم ويمكن ان يتطور غدا حسب تطور الاوضاع السياسية فيصبح 2×2=5 إذ هذا القول مضحك بذاته لدى كل نفس عاقلة.

وأيضا كان الزعم بأن القول (أن الحادث بحاجة إلى سبب) صحيح اليوم، أما غدا فحيث يحكم البلاد نظم جديدة في الاقتصاد، فإن الحادث يمكن ان يحدث بلا سبب، كان هذا الزعم قولا مرفوضا بذاته، وهكذا.

قال تلميذ من التلاميذ: نراك تعاتب كانت وديكارت.. مع أن المنطق الذي تدرسنا إياه ليس إلا وليد البيئة التي ولد فيها هذان الرجلان.. أليس هو من تأليف أرسطو اليوناني؟

قال ابن حزم: وما الحرج في ذلك.. إن المنطق من المعارف الإنسانية العامة، كعلم الحساب والهندسة، فإن كنا نجيز لأنفسنا أن نستفيد من علم الحساب فى الفرائض فلماذا لا نستفيد من المنطق؟

قال آخر: ولكن علماء المسلمين نظروا في تلك الكتب التي تشرحها لنا، فرأوا فيها أموارا عظاما؟

قال ابن حزم: لقد وجدت أن مواقف المطالعين لتلك الكتب أربع طوائف.. وقد اخترت لنفسي ولكم أشرفها وأعلاها.

قالوا: فمن الطائفة الأولى؟

قال: هم قوم حكموا على تلك الكتب بانها محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد، دون ان يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة.. وهؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى :﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36).. وهم المقصودون بقوله تعالى :﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران:66).. وهم المقصودون بقوله تعالى :﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111)

ونحن ـ في مجلسنا هذا ـ نطلب من هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبيت، القابلة دون علم، القاطعة دون برهان..

قالوا: فمن الطائفة الثانية؟

قال: هم قوم يعدون هذه الكتب هذيانا من المنطق، وهذرا من القول.. وهؤلاء ـ كأكثر الناس ـ سراع إلى معاداة ما جهلوه، وذم ما لم يعلموه.. ولا يصدق عليهم إلا قوله r :( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة)[66]

قالوا: فمن الطائفة الثالثة؟

قال: هم قوم قرأوا هذه الكتب بعقول مدخولة، وأهواء مشوبة، وبصائر غير سليمة.. وقد أشربت قلوبهم لذلك حب الاستخفاف، واستلانوا مركب العجز، واستوبأوا نقل الشرع، وقبلوا قول الجهال، فوسموا أنفسهم بفهمها، وهم أبعد الناس عنها وعن درايتها..

ونحن ـ في مجلسنا هذا ـ نصحح ما أخطأوا فيه.. عسى أن يكون ذلك سببا في هداية من سبقت له الهداية في علم الله عز وجل، فيفوز بالحظ الأعلى، ويحوز القسم الأسنى.

قالوا: فمن الطائفة الرابعة؟

قال: هم قوم نظروا بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل، وعقول سليمة، فاستناروا بها، ووقفوا على أغراضها فاهتدوا بمنارها، وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، وشاهدوا انقسام المخلوقات وتأثير الخالق فيها وتدبيره إياها، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالفريق الصالح والخدين الناصح والصديق المخلص الذي لا يسلم عند شدة، ولا يفتقده صاحبه في ضيق إلا وجده معه.. فلم يسلكوا شعبا من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة الكتب أمامهم ومعهم، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف إلا أحسوا بفائدتها غير مفارقة لهم، بل ألفوها لهم كل مستغلق، وتليح لهم كل غامض في جميع العلوم.

وهؤلاء هم أنتم.. وقد قصدنا في مجلسنا هذا ـ أنا وأخي الغزالي ـ أن نبسط لكم ما تعقد.. ونكشف لكم ما غمض..

وقد كان منهجي في ذلك التبسيط والتيسير.. وقد رأيت تعقيد الترجمة في تلك الكتب، لأنها وردت بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة.. فلذلك رأيت أن أورد هذه المعاني بألفاظ سهلة بسيطة يستوي في فهمها العامي والخاصي، والعالم والجاهل.

وهذا بناء على مذهبي في أن العالم هو الذي يسهل العلم جهده، ويقربه بقدر طاقته، ويخففه ما أمكن.. بل لو أمكن أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجزي الأجور لمقتنيه، ويعظم الأجعال عليه للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابرا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظا جزيلا، وعملا جيدا، وسعيا مشكورا كريما وإحياء للعلم.

بالإضافة إلى هذا.. فقد رأيت أن هذه الكتب كالدواء القوي، إن تناوله ذو الصحة والمستحكمة، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد، انتفع به وصفى بنيته وأذهب اخلاطه وقوى حواسه، وعدل كيفياته؛ وإن تناوله العليل المضطرب المزاج، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاء، وربما أهلكه وقتله.. ولذلك فإن منهجي في تدريسها هو ربطها بالدين بمصادره المقدسة.. حتى لا يضل من شاءت له نفسه الضلالة، وهو يرى من أمثلتها ما يتناسب مع هواه.

قالوا: هذا منهجك.. ونحن نقدره.. فما منهج أخيك (الغزالي)؟

قال ابن حزم: ها هو أمامكم.. وسيحدثكم.. فخير من تحدث عن الإنسان لسانه.

قال ذلك، ثم التفت إلى الغزالي، وقال: لقد جاء دورك.. فهلم حدثهم عن منهجك.

قال الغزالي: قبل أن أذكر لكم منهجي أحب أن أبين لكم سر اهتمامي بالمنطق.. والذي ألفت فيه كما تعلمون مجموعة كتب.. منها (محك النظر).. ومنها (معيار العلم) وغيرها..

لقد بلغ اهتمامي بهذا العلم أن ذكرت بأن الحقائق لا يمكن أن تعرف في أي علم من العلوم على وجهها إلا إذا كان المنطق ميزانها.. وقد قلت في مقدمة كتابي (المستصفي) التي شرحت فيها علم المنطق إجمالاً.. وجعلته مقدمة لأصول الفقه:( نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي، وأقسامها على منهاج أو جزء مما ذكرناه في كتاب محك النظر، وكتاب معيار العلم، وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلاً)[67]

قال بعض التلاميذ: نحن نعرف كل ذلك.. وقد رأينا من يرميك بسببه بالعظائم.. فهذا الإمام العلامة المحدث أبو عمرو بن الصلاح الشهرزوري يقول - فيما جمعهُ من طبقات أصحاب الشافعي وقرَّرهُ الشيخ أبو زكريا النووي – في فصل عقده بعنوان: ( فصلٌ في بيان أشياء مهمةٍ أُنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته، ولم يرتضيها أهل مذهبهِ من الشذوذ في مصنفاته ).. ومما ذكره فيه قوله عنك: ( فكيف غَفَلَ الغزالي عن شيخه إمام الحرمين ومِن قبلهِ مِن كلِّ إمام هو لهُ مُقدِّم، ولمحله في تحقيق الحقائقِ رافعٌ ومُعظِّم، ثم لم يرفع أحدٌ منهم بالمنطقِ رأساً، ولا بنى عليه أُسَّاً، ولقد أتى بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُمَ شؤمها على المتفقهة، حتى كثُرَ فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان)

وقال الإمام العلامة أبو بكر بن العربي المالكي:( شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر).. وقال في موضع آخر : ( يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يُحرفون كلام الله ورسوله r عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة والباطنية)

قاطعه الغزالي، وقال، وهو يبتسم: بل قال في صديقي وحبيبي ابن رشد: (إنه ـ أي أنا ـ لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنه كما قيل:

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن    وإن لقيت معديا فعدناني

قال التلميذ: أجل.. وقد قال غيره مثل ما قال، أو قريبا مما قال، أو أعظم مما قال.

قال الغزالي: لا ينبغي للعالم أن يخاف من آراء الرجال فيه أو نقدهم له.. لقد كنت في موقف لو وقفوا فيه لفعلوا ما فعلت.

قال التلميذ: كيف ذلك؟

لقد انتشر في ذلك الحين ما يسمى بالفلسفة، أو علوم الأوائل.. وكان الناس حولها مختلفين إلى ثلاث طوائف.

قالوا: فما الطائفة الأولى؟

قال: هم المحافظون المتشددون الذين راحوا يقابلون تلك العلوم بالرفض الكلي.. بل بتأليب الرأي العام عليها، وتكفير أو تبديع كل من يبحث أو يخوض فيها.. ولم تكن علاقة هؤلاء بتلك الثقافات إلا علاقة الحكم المسبق في معظم الأحيان، ولهذا لم يكن نقدهم لها إلا نقدا ظاهريا لا يعتمد البرهان العلمي، ولا الحجة المنطقية،لأن المنطق نفسه من الفلسفة.

وأنا شخصيا أعتبر هذا التيار سببا لانتشار الأفكار المضللة.. فهم كالصديق الجاهل يضر صاحبه أكثر مما ينفعه.

انظروا ـ مثلا ـ إن هؤلاء أنكروا كون خسوف القمر عبارة عن انمحاق ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس.. بل أنكروا الهندسة والحساب والمنطق والفلك وغيرها.. وكان دافعهم إلى ذلك جميعا هو كون مصدر ذلك هو كونها من الثقافات الأجنبية، مع أنها لا تصادم النصوص الشرعية.

لقد قلت في بعض كتبي أقررهذا: (وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع)، مع أن الشرع لم يتعرض لهذه العلوم نفيا ولا إثباتا،ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الشرعية.

وقد انجر عن هذا المنهج نوع من الشعور بالتصادم بين العقل والدين، فإن تلك القضايا من الوضوح والدقة، وبراهينها من الوضوح والقوة بحيث لا يمكن رفضها؛ ورفض العلماء لها بحجة منافاتها للدين كذب عليه، وخدمة للملحدين والمشككين، وهو ما حصل في أوروبا عندما أنكرت الكنيسة الكثير من الكشوف العلمية التي تتنافى مع موروثاتها اليونانية وغيرها، مما أدى إلى النفور من الكنيسة، والتمكين للإلحاد.

قالوا: هذه الطائفة الأولى.. ولا يزال ـ للأسف ـ لها وجود واقعي خطير.. فما الطائفة الثانية؟

قال: هم طائفة عكس الأولى.. فهم يرون القبول الكلي لما ورد في تلك الفلسفات والثقافات.. بل يرون طرح الدين بسببها والانخداع بمظاهرها.. لقد قلت واصفا هذه الطائفة في مقدمة كتابي (تهافت الفلاسفة) : ( أما بعد، فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا)

وقد رأيت أن ذوبان هذا التيار في تلك الثقافات لا يرجع إلى تحكيم الموازين العقلية بقدر رجوعه إلى أوهام وخيالات وأسباب النفسية.. منها إطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم، وأنهم مع كل ذلك الذكاء منكرون للشرع متنصلون من تكاليفه.

ومنها مصادرتهم العامة على مطالبهم المعرفية استدراجا لهم.. فقد كانوا إذا ما أوردوا عليهم إشكالا تذرعوا بأن هذه العلوم غامضة، وأنها أعصى العلوم على الأفهام الذكية، ولا يمكن التوصل إلى فهمها إلا بتقديم الرياضيات والمنطق، وهذا كله استدراج نفسي للوصول بهم إلى حالة الانبهار التام المؤدي إلى ا لخضوع الكلي.

ومنها الخلط بين العلوم الطبيعية والهندسية والمنطقية مع الآراء الميتافيزيقية، حتى ظن من ينظر في منطقهم فيراه مستحسنا أن سائر علومهم مؤيدة بتلك البراهين.

ومنها ما مزجه (إخوان الصفا) بتصانيفهم المستمدة من الفلسفة اليونانية من الحكم النبوية والكلمات الصوفية استدراجا للعامة إلى مقاصدهم، مع العلم أن انتشار آراء تلك الجمعية في ذلك الحين كان واسعا شاملا كل فئات المجتمع،كما تشير إليه رسائلهم.

وقد رأيت ـ كما ترون معي ـ أن جميع هذه الأسباب لا ترجع إلى براهين عقلية، أو حجج منطقية، وإنما هو حالة من الانبهار الساذج، والتأثر العاطفي الذي لا يحكمه العقل، ولا يستند إلى الحجة.

قالوا: فما الطائفة الثالثة؟

قال: هي الطائفة التي اخترت أن أنتسب إليها.

قالوا: وما تقول هذه الطائفة؟

قال: هذه الطائفة تريد أن تكون وسطا بين الطائفتين.. فتسد المفسدة، وتجلب المصلحة.

قالوا: أي مفسدة؟

قال: مفسدة الطائفة الأولى التي تحرم المسلمين علوما لم يحرمها الشرع.. ومفسدة الطائفة الثانية التي تريد أن تستغل العقل لتضرب الدين.. مع أن الدين عين العقل.. بل لا عقل بلا دين.. ولا دين بلا عقل.

قالوا: وأي مصلحة؟

قال: لقد رأيت في تلك العلوم مصالح كثيرة يمكننا أن نستفيد منها فيها.. فمن علومهم  الرياضيات.. وهي تتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، ولا يتعلق شيء منها بالأمور الدينية، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجا حدتها بعد فهمها.. بل إنها من الفروض الكفائية ما دام يحتاج إليها.

ومنها العلوم الطبيعية.. وهي تشمل الطب والكيمياء والفلك وغيرها.. وهي لا تتعرض للدين.. ولذلك لا ينبغي مخالفتهم في شيء منها إلا بما هدى إليه الدليل العلمي.

ومنها العلوم السياسية.. وهي تبحث عن الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية ولا علاقة لذلك بالدين.. بل يمكن الاستفادة من أبحاثهم فيها باعتبارها مستمدة ـ كما أرى ـ من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء.

ومنها العلوم الأخلاقية.. وكلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وأجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها.. وأنا لا أرى ردها باعتبارها لا تناقض الشرع، بل إن كلامهم فيها مأخوذ من كلام الصوفية والمتألهين الذين لم يخلو من وجودهم أي عصر من العصور، ولذلك فإن الاستفادة منهم تلق لمزيد من التجارب والفوائد التي لم تمنعنا الشريعة من الأخذ بها.

ومنها العلوم الإلهية.. وأكثر أغاليطهم فيها.. وأنتم تعلمون أني ناظرتهم في هذه العلوم معتمدا المنطق الذي وضعوه هم بأنفسهم.. وفي ذلك تمام الحجة عليهم ببيان تناقضهم.. لقد قلت في مقدمة الكتاب الذي وضعته لهذ الغرض:( ونناظرهم في هذا الكتاب بلغتهم، أعني بعباراتهم في المنطق، ونوضح أن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس.. لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية)

ومنها العلوم المنطقية.. والتي وجه إليك اللوم لي بسببها.. وهي تتعلق بالنظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط  مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، ولا يتعلق شيء منها بالدين إلا ما حشيت به من أمثلة تتناقض وتتعارض مع الأصول الدينية، ولأجل ذلك ألفت كتبي المنطقية،كمعيار العلم وغيره،وحشوتها بدلا من ذلك بالأمثلة الفقهية.

قال بعض التلاميذ: ولكن لم ذلك.. ألم يكن عندنا ما يكفي؟

ابتسم الغزالي، وقال: ولكن ما المانع من قبولها؟

قال: لأن الذي كتبها وقالها ليس مسلما.

ابتسم الغزالي، وقال: ألم تعلم ـ يا ولدي ـ أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها..

قال التلميذ: ولكنهم فلاسفة.. وليسوا حكماء؟

قال الغزالي: إن مثل من ينكر على هؤلاء بسبب كونهم فلاسفة كمن يسمع من النصراني قوله : (لا إله إلا الله عيسى رسول الله)، فينكره، ويقول:هذا كلام نصراني، ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكار نبوة محمد r.

قال بعض التلاميذ: وعينا هذا.. وبورك فيك.. فحدثنا عن المنهج الذي تريد أن نتعلم من خلاله هذا العلم.

قال:

لقد رأيت ـ كما وضح لكم زميلي ابن حزم ـ أن الأحكام العقلية إذا تجردت من سلطة حكم الحس و الوهم لا تكاد تخطئ، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها .. قال تعالى :﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(الروم: من الآية30).. انظروا كيف سمى الله العقل دينا..

ولكون أحكام العقل المجرد دينا، فإن التناقض بين أحكام العقل وأحكام الشرع مستحيلة.. بل إن أساس الشرع العقل.. فالعقل كالأس والشرع كالبناء.. ولن يغني أ س ما لم يكن بناء.. ولن يثبت بناء ما لم يكن أ س.

والشرع ـ بسبب مراعاته الضرورية للأحكام العقلية ـ عقل.. فالشرع عقل من الخارج، والعقل شرع من الداخل.. وهما متعاضدان بل متحدان.

و بسبب هذا الاتحاد بين أحكام العقل وأحكام الشرع، فإن تمجيد العقل تمجيد للشرع، وإعماله أعمال للشرع، ونبذه نبذ للشرع.. لأن كليهما من وضع الله.. أما ذم من ذمه فسببه إلى أن الناس نقلوا اسم العقل إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات، فاستخدموا العقل في غير ما خلق له، فلذلك كان الذم منصبا على الاستخدام السيئ لا على المحل فإن  (نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى، ويعرف صدق رسله، لا يتصور ذمه؟،وقد أثنى الله تعالى عليه ؛ وإن ذم فما الذي بعده يحمد؟)

قال بعض التلاميذ: وعينا هذا.. فما المنهج الذي تريد أن تعلمنا إياه؟

قال: لقد وفقني الله بعد أن كتبت في المنطق ما تعرفون.. فكتبت كتابا حاولت فيه أن أكتب المنطق بأسلوب يفهمه الجميع.. ولن يعترض عليه أحد من الناس.. إنه كتابي (القسطاس المستقيم).. وقد جعلته ـ بتوفيق الله ـ الميزان الذي ينفي الخلاف عن الخلق.

قال بعض التلاميذ: لقد رأيت الكتاب.. ولكني رأيت أن تلك الموازين التي وضعتها فيه مطابقة للموازين المنطقية اليونانية.

ابتسم الغزالي، وقال: لا يمكن لأحد في هذا الباب أن يأتي بالجديد المجرد.. إن تلك الموازين تتفق فيها العقول جميعا، ولو خالفتها لكنت مجنونا.

قال التلميذ: فما فعلت إذن؟

قال: تقريب الصياغة وربطها بمصادرنا المقدسة.. لقد فعلت ذلك لصنفين من الناس..

أما أولهما.. فالذين استهوتهم الفلسفة بما فيها من علوم عقلية، فخلطوا بين حقها وباطلها، وظنوا التناقض بين العلوم النقلية والأحكام العقلية.

وأما ثانيهما، فالعلماء الحرفيين الذين رفضوا المنطق باعتباره فلسفة وعلما غريبين عن الدين.

لقد قلت في مقدمة كتابي هذا : (لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه أهل التعليم لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه، ولا يخالف فيه أهل المنطق، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له، ولا يخالف فيه المتكلم، لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات،وبه يعرف الحق في الكلاميات)

قلت: لقد شوقتنا إلى هذه الموازين.. فما هي؟

قال: هي ثلاثة موازين: ميزان التعادل.. وميزان التلازم.. وميزان التعاند.

قلت: فما ميزان التعادل؟

قال: له ثلاثة أشكال[68]..

أما أولهما، فالميزان الأكبر.. وومثاله قوله تعالى على لسان إبراهيم  u :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ )(البقرة: من الآية258)، وصياغة هذا الميزان هي: كل من يقدر على إطلاع الشمس فهو الإله، فهذا ‏أصل؛ وإلهي هو القادر على الإطلاع، وهذا أصل آخر؛ فلزم من مجموعهما ‏بالضرورة أن إلهي هو الإله، ويمكن صياغته رمزيا هكذا : أ هي ب، وب ‏هي ج،إذن :أ هي ج.‏

وأما الثاني، فالميزان الأوسط.. ومثاله قوله تعالى عن إبراهيم u :﴿ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)(الأنعام: من الآية76)، وصياغة هذا الميزان هي : أن القمر آفل، والإله ليس بآفل‏؛ فالقمر ليس بإله.. ويمكن صياغته رمزيا هكذا :أ هي ب، وج ليست ب،إذن ‏‏: أ ليست ج.‏

قلت: فما الفرق بين هذا الميزان والميزان الأكبر؟

قال: الفرق بينهما واضح.. فالصفة في الميزان الأكبر عامة تشمل ‏جزئيات الموصوف كلها، بخلاف ما هي عليه في الميزان الأوسط حيث تنحصر في ‏شيئين متباينين كل التباين بحيث ينفي عن أحدهما ما يثبت للآخر.

قلت: فما الشكل الثالث من أشكل ميزان التعادل؟

قال: الميزان الأصغر.. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ت)(الأنعام: من الآية91)، ووجه الوزن بهذا الميزان هو أن موسى  u بشر، وقد أنزل عليه الكتاب، إذن بعض البشر أنزل عليهم الكتاب.. وصياغته الرمزية هي: ب هي أ، وب هي ج، إذن بعض أهي ج.‏

والفرق بين هذا الميزان وما قبله أته يستخدم في التخصيص والتمييز بين ‏الصفات الذاتية التي تشترك فيها عموم جزئيات الجنس والصفات العرضية التي لا ‏يشترك فيها إلا قسم من هذه الجزئيات.

قلت: فما الميزان الثاني؟

قال: ميزان التلازم[69].. وهو ـ كما عرفه الغزالي ـ أن كل ما هو لازم للشيء ‏تابع له في كل حال، فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم، ووجود ‏الملزوم يوجب بالضرورة وجود اللازم، أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا ‏نتيجة لهما.‏

وقد ضرب له مثالا بقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )(الانبياء: من الآية22)‏، وصياغة هذا الميزان هي أنه لو كان في السموات والأرض إلهان ‏لفسدتا، فهذا أصل، ومعلوم أنهما لم تفسدا، وهذا أصل آخر؛ فيلزم منهما ضرورة ‏نفي الإلهين، وإثبات الإله الواحد.‏

قلت: فما الميزان الثالث؟

قال: ميزان التعاند.. وهو ـ كما يعرفه الغزالي ـ بأن (كل ما انحصر في قسمين، فيلزم من ‏ثبوت أحدهما نفي الآخر، ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر بشرط أن تكون القسمة ‏منحصرة، لا منتشرة)

وقد ضرب له مثالا من القرآن الكريم بقوله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ:24)، ووجه الاستدلال به هو: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال ‏مبين، ومعلوم أننا لسنا في ضلال، والنتيجة هي: أنتم ضالون)‏

قال بعض التلاميذ: إن ما ذكرته من الموازين العقلية هي نفس المقاييس المنطقية..

قال: لقد ذكرت لكم ذلك.. لقد ذكرت في كتابي (القسطاس المستقيم):(‏‎ ‎‏ ‏أما هذه الأسامي فأنا ابتدعتها، وما عندي أني سبقت إلى استخراجها من ‏القرآن؛ وأما أصل الموازين فقد سبقت إلى استخراجها، ولها عند مستخرجيها من ‏المتأخرين أسام سوى ما ذكرتها، وعند بعض الأمم الخالية السابقة على بعثة محمد ‏وعيسى ـ صلوات الله عليهما ـ أسام أخر كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم ‏وموسى ـ عليهما السلام ـ)

قال التلميذ: فهل سندرس في هذا الفرع هذه الموازين؟

قال: في هذا الفرع ستتدربون على هذه الموازين وغيرها.. فلا يمكن للمحاور أن يحاور، وعقله لا يعرف كيف يزن، وكيف يتثبت مما يزن.

2 ـ نقض المنطق:

بعد أن استفدت من الحلقة الأولى ما استفدت.. سرت نحو الحلقة الثانية.. والتي كان يشرف عليها ابن تيمية بصحبة ابن الصلاح.

بمجرد جلوسنا سمعنا بعض طلبة العلم من الجالسين يسأل (ابن تيمية) قائلا: ما تقولون ـ يا شيخنا ـ في المنطق.. فقد سمعنا من يعتبره من فروض الكفاية.. فهل هو مصيب في ذلك أم مخطئ[70]؟

قال ابن تيمية: ما كان لهذا القائل أن يقول هذا الكلام.. فليس في المنطق من المصالح ما يحتاج معه إلى تعلمه.. ولهذا ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله وينهون عنه وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله حتى إن من الحكايات المشهورة أن شيخنا أبا عمرو بن الصلاح ـ الذي يجلس معي هذا المجلس ـ أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا.. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا.

التفت إلى السائل، وقال: فكيف يعتبر بعد هذا فرض كفاية؟

قال السائل: هلا ذكرت لنا ـ سيدنا ـ أدلة ذلك.. فقد عودتنا على ذم التقليد؟

قال ابن تيمية: لذلك أدلة كثيرة لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها.. لعل أقلها أن نفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها.. إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميزها وما فيها من الإجمال والاشتباه.. فإن فيه مواضع كثيرة إنما هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.

ومنها ذلك الغرور الذي يملأ أهله حين يعتقدون أنهم يملكون بزمام الحقائق مع أنهم لا يملكون إلا السراب.. فتراهم قد يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان.. وهم في ذلك كما قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) (المطففين)

بل إن منهم من يتحول إلى كافر زنديقا منافق جاهل ضال مضل.. من أكابر أعداء الرسل الذين قال الله فيهم :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، وقال فيهم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32)

بل ربما حصل لبعضهم إيمان إما من هذه الطريق أو من غيرها.. ويحصل له أيضا منها نفاق فيكون فيه إيمان ونفاق، ويكون في حال مؤمنا وفي حال منافقا، ويكون مرتدا إما عن أصل الدين أو عن بعض شرائعه إما ردة نفاق وإما ردة كفر.. لقد رأيت ذلك بنفسي.. فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقام..

لاشك أنك سمعت أنهم يزعمون بأن (المنطق آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره)

قال السائل: أجل.. وهذا ما جعل أولئك العلماء يعتبرونه من فروض الكفاية.

قال ابن تيمية: هم يقولون هذا.. ولكنهم لا يسلمون له.. ألا تراهم يذكرون أن النفوس القدسية - كنفوس الأنبياء والأولياء - تفيض عليها المعارف بدون الطريق القياسية.. وأنهم متفقون جميعهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها بالموازين الصناعية في المنطق فهم يقولون: هو حكيم بالطبع.. والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو ؛ وكما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض..

قال السائل: أعلم ذلك، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم.. لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين..

قال ابن تيمية: أنت تدفعني للحديث عن تفاصيل كثيرة ربما لا يتسع هذا المجلس لذكرها.

قال السائل: لا مناص لك من ذكرها.. فقد ذكرت لنا أن السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز.

قال ابن تيمية: لا بأس.. فأصخ سمعك جيدا.. فسأذكر لم بعض ما توصلت إليه من خلال تأمل عميق في كتب المناطقة.

قال السائل: هذا ما كنا نبحث عنه.

قال ابن تيمية: لقد رأيت أن كلامهم كله منحصر في الحدود التي تفيد التصورات سواء كانت الحدود حقيقية أو رسمية أو لفظية.. وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات سواء كانت أقيسة عموم وشمول أو شبه وتمثيل أو استقراء وتتبع..

وليكون كلامنا علميا ومنطقيا.. فسنتحدث عن القواعد الأربع التي بني عليها المنطق.. وهي (أن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد).. و(أن الحد يفيد العلم بالتصورات).. و(أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس).. و(أن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات)

قالوا: فما تقول في قاعدتهم الأولى: (إن التصور لا ينال إلا بالحد)

قال ابن تيمية: الرد على ذلك من وجوه..

أما أولها، فهو أنه لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لا بد لها من دليل، وأما السلب بلا علم ؛ فهو قول بلا علم.. فقولهم لا تحصل التصورات إلا بالحد قضية سالبة، وليست بديهية فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره؟

وأما الثاني، وهو أنه إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد ؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور أو التسلسل وإن كان الثاني بطل سلبهم وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد.

وأما الثالث، فهو أن الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات وأهل الأعمال والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد، ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود: لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.

وأما الرابع، فهو أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان وحده بالحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة.. وكذا حد الشمس وأمثاله.. حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدا، وكلها معترضة على أصلهم.. والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدا وكلها أيضا معترضة.. وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل، فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود ولم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور، فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق، فلا يكون عند بني آدم علم من عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة.

وأما الخامس، فهو أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة وهو المركب من الجنس والفصل، وهذا الحد إما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك ؛ وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا، وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصور عن الحد.

وأما السادس، فهو أن الحدود عندهم إنما تكون للحقائق المركبة وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما ما لا تركيب فيه وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس كما مثله بعضهم بالعقل فليس له حد، وقد عرفوه وهو من التصورات المطلوبة عندهم فعلم استغناء التصور عن الحد، بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى؛ لأنها أقرب إلى الجنس وأشخاصها مشهورة.. وهم يقولون : إن التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي، بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة وتصور العقل من هذا الباب وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي.

وأما السابع، فهو أن سامع الحد إن لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات ألفاظه ودلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام والعلم بأن اللفظ دال على المعنى وموضوع له مسبوق بتصور المعنى، وإن كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه امتنع أن يقال إنما تصوره بسماعه.

وأما الثامن، فهو أنه إذا كان الحد قول الحاد فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد يتصور معنى ما يقوله بدون لفظ والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية فكيف يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد.

وأما التاسع، فهو أن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات أو الباطنة كالجوع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهة وأمثال ذلك وكلها غنية عن الحد.

وأما العاشر، فهو أنهم يتيحون للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع، وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة وبالمعارضة أخرى، ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب.

وأما الحادي عشر، فهو أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وحينئذ يقال: كون العلم بديهيا أو نظريا من الأمور النسبية الإضافية فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن، والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا ينضبط فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيا كذلك أيضا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا ولا يحتاج إلى حد.

قالوا: فما تقول في قاعدتهم الثانية: (إن الحد يفيد تصور الأشياء)[71]

قال ابن تيمية: الرد على ذلك من وجوه..

أما أولها، فهو أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فقوله مثلا: حد الإنسان حيوان ناطق قضية خبرية، ومجرد دعوى خالية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا، فإن كان الأول ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد.. وإن كان الثاني عنده فمجرد قول الخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله ؟ فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة الحدود.

فإن قيل : يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسئول عنه مثلا أو غيره، قلنا : فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه.. وهذا تحقيق ما قلناه: من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع فكذلك الحد.

وأما الثاني، فهو أنهم يقولون: الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة، فيقال : إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد بقوله وقوله محتمل الصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله.. ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصل العلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب، ثم يعيبون على من يعتمد على الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم وخبر الواحد وإن لم يفد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد فإنه خبر واحد لا دليل على صدقه.. بل ولا يمكن عندهم إقامة الدليل على صدقه، فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود.. ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصور وهذا بين..

وتلخيص هذا الوجه هو (أن تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد، وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد)

وأما الثالث، فأن يقال: لو كان الحد مفيدا لتصور المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن يعلم المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود، إذ الحد خبر عن مخبر عنه، وهو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه من غير تقليد للخبر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر، والمخبر ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة.

وأما الرابع، فهو أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية والعرضية ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها ونحو ذلك من العبارات فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع تصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد.. فثبت أنه على التقديرين لا يكون قد تصوره بالحد وهذا بين..

فتبين أن تعريف الشيء إنما هو بتعريف عينه أو ما يشبهه فمن عرف عين الشيء لا يفتقر في معرفته إلى حد، ومن لم يعرفه فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف..

وأما الخامس، فهو أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة؛ فيمتنع أن يعلم بالحد ؛ لأن الذهن إن كان شاعرا بها امتنع الطلب لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإن لم يكن شاعرا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور.. فإن قيل : فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها، قيل : قد سمع هذه الأسماء، فهو يطلب تصور مسماها ؛ كما يطلب من سمع ألفاظا لا يفهم معانيها تصور معانيها، وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلا بد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم إذ لو تصور حقيقة ولم يكن ذلك الاسم فيها لم يكن تصور مطلوبه، فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا وهذا ليس تصورا بالمعنى فقط ؛ بل للمعنى ولاسمه. وهذا لا ريب أنه يكون مطلوبا. ولكن لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبا.

وأيضا فإن المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد ؛ بل لا بد من تعريف المحدود بالإشارة إليه أو غير ذلك مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ، وإذا ثبت امتناع الطلب للتصورات المفردة فإما أن تكون حاصلة للإنسان فلا تحصل بالحد فلا يفيد الحد التصور.. وإما أن لا تكون حاصلة فمجرد الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم.. والمقصود هو التسوية بين فائدة الحد وفائدة الاسم.

وأما السادس، فأن يقال: هل يشترطون في الحد التام وكونه يفيد تصور الحقيقة أن تتصور جميع صفاته الذاتية المشتركة بينه وبين غيره أم لا؟ فإن شرطوا لزم استيعاب جميع الصفات.. وإن لم يشترطوا واكتفوا بالجنس القريب دون غيره فهو تحكم محض، وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس أو يحذف جميع الأجناس لم يكن لهم جواب إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم.. ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف وهذا عين الضلال والإضلال كمن يجيء إلى شخصين متماثلين فيجعل هذا مؤمنا وهذا كافرا وهذا عالما وهذا جاهلا وهذا سعيدا وهذا شقيا من غير افتراق بين ذاتيهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه.. فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات.

وأما السابع، فهو أن اشتراطهم ذكر الفصول المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضي غير ممكن ؛ إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن الآخر أن يجعله عرضيا لازما للماهية.

وأما الثامن، فهو أن فيما قالوه دورا فلا يصح، وذلك أنهم يقولون : إن المحدود لا يتصور إلا بذكر صفاته الذاتية،  ثم يقولون : الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره. فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود، ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها فتتوقف معرفة الذات على معرفة الذاتيات ويتوقف معرفة الذاتيات على معرفة الذات فلا يعرف هو ولا تعرف الذاتيات.. وهذا كلام متين يجتاح أصل كلامهم، ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يبنوه على أصل علمي تابع للحقائق، لكن قالوا : هذا ذاتي وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم، ولم يعتمدوا على أمر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره فإذا لم يعرف المحدود إلا بالحد والحد غير ممكن لم يعرف وذلك باطل.

وأما التاسع، فهو أنه يحصل بينهم في هذا الباب نزاع لا يمكن فصله على هذا الأصل وما استلزم تكافؤ الأدلة فهو باطل.

قالوا: فما تقول في قاعدتهم الثالثة: (إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس)

قال ابن تيمية: الرد على ذلك من وجوه..

أما أولها.. فهو أن يقال : إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا موجود معين؛ لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات ؛ فلا يعلم به موجود أصلا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان.. ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط فليس هذا علما تكمل به النفس ؛ إذ لم تعلم شيئا من الموجودات، ولا صارت عالما معقولا موازيا للعالم الموجود، بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود ؛ وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا.

وأما الثاني، فأن يقال: أشرف الموجودات هو (واجب الوجود)، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ؛ وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ؛ بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود.. وكذلك (الجواهر العقلية)، عندهم وهي العقول العشرة أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم كلها جواهر معينة ؛ لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات لم نعلم شيئا منها ؛ وكذلك الأفلاك التي يقولون: إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات لم تكن معلومة فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول ولا شيئا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات وهذه جملة الموجودات عندهم فأي علم هنا تكمل به النفس؟

وغيرها من الوجوه التي استقصينا الكثير منها في كتبنا.. وكلها تبين أن العلوم التي تكمل بها النفس لا يحصل ببرهانهم.. ولهذا كانت طريقة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ في الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته.. وإن استعملوا في ذلك (القياس) استعملوا قياس الأولى ؛ لم يستعملوا قياس شمول تستوي أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده ؛ بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى وما تنزه غيره عنه من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى ؛ ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السنية والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف.

قالوا: فما تقول في قاعدتهم الرابعة أن (أن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات)

قال ابن تيمية: لقد رأيت المناطقة يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل في هذه القاعدة..

وأكبر ما يدل على خطئهم فيها هو دعواهم أن التصديقات المطلوبة لا تنال إلا بما ذكروه من القياس، فإن هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به، ولا يقوم عليه دليل أصلا، مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس، كما تحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد.

نعم، إن كون القياس المؤلف من المقدمتين يفيد النتيجة أمر صحيح في نفسه.. لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية.. بل كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم، فلم يكن في قياسهم ما يحصل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة إلى ما يمكن العلم بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما، وفيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتضييع الزمان وكثرة الهذيان والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية إلى العلم.

ولهذا قال نظار المسلمين إن هذا لا يفيد العلم المطلوب بل قد يكون من الأسباب المعوقة له ؛ لما فيه من كثرة تعب الذهن كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد، فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدل، فإذا قيض له من يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة - فإنه يتعب تعبا كثيرا حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل، وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب، فيعتقد اعتقادات فاسدة وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه، ولا هو استراح، هذا إذا بقي في الجهل البسيط.

***

ما إن قال ذلك، حتى ارتفع الآذان.. فقاموا جميعا أساتذة وطلبة.. وقد عجبت إذ رأيت ابن تيمية والغزالي وابن حزم وابن الصلاح والمدرسي.. كلهم ـ رغم اختلاف مذاهبم وآرائهم ـ يضع بعضهم يده في يد بعض يغمرهم سلام عظيم قل أن تجد مثله بين المختلفين.

سألت عن ذلك المدرسي، فقال: أنا لا أرى أن هناك خلافا بين هؤلاء جميعا..

قلت: ولكني رأيت أن ابن تيمية وابن الصلاح ينتقدان منهج ابن حزم والغزالي.

قال: لابد أن يكون الأمر كذلك.. لابد أن يكون في الأمة من هو مثل الغزالي.. وأن يكون فيها من هو مثل ابن تيمية.

قلت: إن قولك عجيب.

قال: لا.. ليس عجيبا.. لقد رأيت نفرا من الناس استغرقوا في المنطق، وانحصروا فيه.. فلذلك احتاجوا إلى ابن تيمية.. ورأيت قوما في مقابلهم ألغوا عقولهم، وشذوا عن المنطق الذي فطرهم الله عليه، فلذلك صاروا محتاجين للغزالي.

وبذلك فإن هؤلاء العلماء أطباء.. وبما أن المرضى مختلفين، فلا بد أن يكون الأطباء كذلك مختلفين في مدارسهم ومذاهبهم.. ولكنه اختلاف سلام لا اختلاف صراع.

قلت: لكن البعض يتجه به نحو الصراع.

قال: تلك النفوس المريضة.. لا العقول.. العقول أشرف من أن تسقط في متاهات الصراع.

التجارب الميدانية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. كان اسمه (قسم التجارب الميدانية).. عندما رأيت هذا القسم، قلت للمدرسي: لاشك أن هذا القسم من تأسيس فرنسيس بيكون الذي عاش ما بين (1561-1626م).. فهو الذي يعزى إليه فضل نشوء طريقة البحث العلمي الحديث المعتمدة على المنهج التجريبي[72].

لست أدري كيف جذبني بعضهم جذبا شديدا، وقال: كيف تقول هذا.. إن ما تقوله يخالف جميع الحقائق، وجميع الأدلة.

قلت: من أنت؟

قال: أنا رجال كثيرون كلهم يشهدون بأن المنهج التجريبي أعمق وأخطر من أن يختص بمن ذكرت.. فالتجربة في الأمور الخاضعة للتجربة فطرة أصلية في العقل الإنساني، والإنسان يلجأ إليها بشكل تلقائي إذا أمكنه ذلك ليتأكد من صحة أحكامه، أو ليختبر بعض القضايا، وربما يفعل ذلك دون الاعتماد على قـواعد معينة لذلك.. لقد قال كلود برنارد يؤكد هذا :( إنني أعتقد أن كبار المجربين قد ظهروا قبل أن توجد القواعد العـامة لفن التجريب، ومن ثم يبدو لي أنه لا يحق لأحد أن يقول في حديثه عن بيكون إنه اخترع المنهج التجريبي، ذلك المنهج الذي استخدمه جاليلو  وتورشيلي على نحو جدير بالإعجاب عجز عنه بيكون)[73]

وقالت زيغريد هونكه :( إن الإغريق تقيدوا دائماً بسيطرة الآراء النظرية، ولم يبدأ البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجربة إلا عند العرب)[74].. وقالت:( لم يكن مستوى روجر بيكون العلمي في الكيمياء أرفع من معاصريه ألا أنه رأى في التجربة التي أخذها عن العرب السبيل الحقيقي للوصول إلى نتائج حاسمة في العلوم الطبيعية وخاصة في الكيمياء، وهكذا كان روجر علماً متوهجـاً سطع في سماء القرون الوسطى المظلمة وفي حناياه روح الشاعر الأندلسي ابن الخطيب الذي قال : مبـدئيـاً يجب أن يكـون كـل برهـان متـوارث قـابلاً للتعـديل إذا مـا اتضـح لحواسنا عكسه)

وقد اضطر (فون كريمر) للاعتراف بدور المسلمين في حقل المعرفـة التجريبية[75]، فقال:( إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جلياً في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم، فإنهم كانوا يُبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يُلاحظون ويمحصون، وحين يَجمعون ويُرتبون ما تعلموه من التجربة، أو أخذوه من الرواية والتقليد، ولذلك فإن أسلوبهم في البحث أكبر ما يكون تأثيراً عندما يكون الأمر في نطاق الرواية والوصف)[76]

ويؤكد (الدكتور فرانتز روزنتال) أن المسلمين كانوا ينظرون إلى التجربة والملاحظة على أنها ذات قيمة فريدة في البحث العلمي، وأننا نجد أمثلة هائلة لذلك في الحضارة الإسلامية في حقول المعرفة المتنوعة، وينقل هذه العبارة عن ابن أبي أصيبعة عن الرازي (متى كان اقتصـار الطبيب على التجـارب دون القيـاس وقـراءة الكتب خُـذل) مما يدل على أن التجربة كانت عند الأطباء منتشرة بشكل كبير، وأنه كان يحمد للطبيب أن يضم إلى تجاربه العلمية القراءة النظرية والقياس العقلي.

قال ذلك، ثم انصرف، ليتركني لصاحبي المدرسي الذي سار بي في فروع كثيرة في ذلك القسم، شد انتباهي منها رجل يقال له (ابن الهيثم)[77]

كان هذا الرجل محل إعجاب الكثيرين، منهم (زيغريد هونكه)، التي قالت، وهي تتحدث عنه: (لقد علّم إقليدس وبطليموس بأن العين المجردة ترسل أشعةً إلى الأشياء التي تريد رؤيتها فجاء ابن الهيثم وأعلن أن هذا الادعاء خاطئ لأنه ليس هناك أشعةً تنطلق من العين ليتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها هذه بواسطة عدستها)

وقد سمعت من ابن الهيثم قوله ـ وهو يجمع في إيجاز بين الاستقراء والقياس، ويقدم الاستقراء على القياس، ويحدد فيه الشرط الأساسي في البحوث العلمية الصحيحة وهو أن يكون الغرض طلب الحقيقة ـ : ونبتدئ في البحث باستقراء الموجـودات، وتصفح أحوال المُبْصَرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاء المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل، لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نجيزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء.

قال لي صاحبي المدرسي، وهو يحدثني عنه، وقد رآني شديد الإعجاب بمنهجه [78] : ليس ذلك فقط.. بل إن ابن الهيثم قد عمق تفكيره إلى ما هو أبعد غوراً مما يظن أول وهلة فأدرك ما قال به من بعده (ماك) و(كارل بيرسون) وغيرهما من فلاسفة العلم المحدثين في القرن العشرين.

ومن مميزاته أنه كان يشرح الجهاز، ويبين وظيفة أجزائه المختلفة، ويستعمل أجهزة مبتكرة لشرح الانعكاس والانعطاف، وتدل تجاربه وحساباته أنه استطاع أن يجمع بين مقدرته الرياضية، وكفايته العلمية الممتازة، يدل على ذلك صنعه للأجهزة، واستعمالها في أغراضٍ مختلفة.

كما أنه اعتني بالقياس كما في كتابه (المناظر).. فهو ينتقل من التجربة إلى القياس، ويستنبط من ذلك قضايا مهمة، ويشرح ظواهر خطيرة في الضوء.

***

رأيت في تلك القاعة الكثير من الشخصيات المسلمة الكبيرة التي كان لها الفضل العظيم على الحضارة الإنسانية، وقد رأيتها جميعا تستعمل هذا النوع من المدارك من غير أن تشعر بأي تناقض بينه وبين معرفتها بالله وإيمانها به، وقد دعاني الفضول في بعض المجالس، فسألت بعض أولئك العلماء عن سر عدم استعمالهم هذا المنهج في التعرف على الله[79]، فابتسم، وقال: هل يمكن لأذنك أن تدرك المبصرات، أو يمكن لذوقك أن يدرك المشمومات؟

قلت: كلا.. فلكل منها ميدانه الذي لا يمكنه أن يتجاوزه.

قال: فكيف تريد من عيوننا القاصرة، وقدراتنا المحدودة، وتجاربنا الحقيرة أن تتطلع لمعرفة الذي ليس كمثله شيء.

إن التجربة تقتضي التكرار.. وليس ربك إلا واحد.

قال ذلك، ثم انصرف عني بهمة عجيبة إلى تجاربه.

 

 

الخواطر النفسانية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. فوجدت رجلا منشغلا عن كل شيء، فقصدته، وقلت له: ما الهم الذي جعلك تنعزل عن الكل؟.. اذكره لي لعل في طاقتي أن أملأ قلبك بأنواع السلوى.

قال: أنا لم أجلس هنا مهتما ولا حزينا، بل جلست متعلما.

قلت: على من؟.. لا أرى أمامك أي أستاذ.

قال: على نفسي.. إن من لم يتتلمذ على نفسه لا يصلح له أن يتتلمذ على أي أستاذ.

قلت: نفسك إن تتلمذت عليها ساقتك إلى أنواع الشرور.

قال: تلك النفس الأمارة.. أما النفس المطمئنة، فإنها لا تسوقك إلا إلى الخير الذي لا خير بعده.

قلت: لن تطيق النفس ذلك حتى يكون لها من المدارك ما تستطيع أن تصل به إلى الحقائق.

قال: صدقت.. وقد وهب الله النفس من المدارك ما يمكنها أن تصل به إلى الحقائق.

قلت: لم أسمع من يقول بهذا.

قال: نفسك تقوله.

قلت: نفسي!.. كيف؟

قال: ألا ترى في نفسك أشياء كثيرة توقن بها مع أن هناك الكثير ممن يخالفك فيها؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: فلمن تخضع؟.. ألم تقوله نفسك، أم لما يقوله غيرك؟

قلت: بل أخضع لنفسي.. ولكني أعتبر نفسي أحيانا مخطئا في ذلك.

قال: خطأ نفسك في شيء من الأشياء لا يدل على خطئها مطلقا.

قلت: ذلك صحيح.

قال: فكيف تنفي أن تكون النفس مدركا من مدارك العقل؟

قلت: لأنها تخطئ.

قال: وحواسك كذلك تخطئ.. ومع ذلك تعتبرها مدركا صحيحا.

قلت: لقد ألزمتني الحجة.. لكن كيف أتقي الخطأ؟

قال: في هذا القسم من (أكاديمية العقل المسلم) ندرس هذا.. فنضع الضوابط التي تحمي النفس من الأخطاء التي يمكن أن تسربها للعقول.

قلت: فهلا ذكرت لي بعضها.

قال: أهمها هو حماية النفس من الأهواء.. لأن هذا هو الذي يدع الإنسان يخضع للظروف ويتطور حسبها.. فمتى ما أحب الإنسان شيئا تأثر به بقدر حبه له، ووجب عليه أن يعطي من ذاته تنازلاً له، فطبيعة الحب تختلف عن المعرفة، لأنهما يمثلان جانبين مختلفين في النفس.

صحيح أن الإنسان لا يقدر على تمييز ذلك في كل وقت، وصحيح أن ذلك بحاجة إلى أنواع من التجرد الموضوعي والنقد الذاتي، كما أنه بحاجة إلى التفكر الممنهج. إلا أنه لدى ممارسة التمييز فترة طويلة يسهل ذلك على النفس حتى يبدو العلم والحب بعيدين عن أحدهما، مميزين عن بعضهما..

قلت: فهلا ضربت لي مثالا يقرب لي هذا؟

قال: سأضرب لك أمثلة عن افتراق المعرفة عن الحب..

فمن أمثلة ذلك أن المعرفة تفترق عن الحب في أننا نحب كثيرا من الأشياء ونعلم أنها غير موجودة فعلا.. إننا نحب الخلود حتى أنه قد يطغى علينا هذا الحب فينسينا العلم بالموت، ونعمل كما أننا نعلم بالخلود.. وأننا نحب السيطرة ونعمل في كثير من الحالات مدفوعين بهذا الحب، بل زاعمين أننا نملك السيطرة فعلا، ولكن العلم الحقيقي يكشف لنا خلاف هذا الواقع.

وتفترق المعرفة عن الحب أيضا حينما نحب أن تكون كل معارفنا صحيحة وكل عقائدنا موافقة للحق.. بيد أنا نواجه في كثير من الأوقات حقائق تكرهنا على إعاة النظر في معارفنا وعقائدنا والاعتراف بخطئها كليا أو جزئيا.

وتفترق المعرفة عن الحب، عندما نحب أن تكون كل أمم الأرض تخدم مصالحنا الخاصة في حين نعلم أن طائفة كبيرة منها تخالفها تماما!..

إن هذه الأمثلة توضح الفارق الكبير بين الحب والمعرفة، إلا أنه رغم وجود هذا الفارق يواجه الفرد غموضا بالغا في التمييز بينهما.. فمثلا حين يحب الإنسان ذاته يخادع نفسه عن نقائصها، ويحاول ايجاد تبريرات لأخطائها ويريد أن يوقع مسؤولية ما تصدر عنها على الآخرين.. وحين يحب المرء أبناءه يغمض عينا عن كل ما فيهم من سيئات حتى يصبحوا مجموعة حسنات في عينيه!.. وهكذا حينما يحب الإنسان مبدأ يركز نظره إلى محاسنه حتى يحذف دور عقله كليا في نقد المبدأ أو حتى في تطويره وينقلب إلى إنسان ممسوخ.. ونعرف من ذلك كله: أن الإنسان يستطيع أن يميز الفكرة النابعة من كشف الواقع، والفكرة النابعة من حب النفس وهواها، لأن الأولى تمثل جانب القوة والثانية جانب الضعف في الإنسان.

قلت: ولكن الإرادة قد تقهر الحب.. وتعيد للنفس توازنها.

قال: ولكن الإرادة مع ذلك قد تقهرها الأهواء.. فتضلل النفس..

إن العقل بمثابة مصباح منير تملكه النفس، وتنصرف فيه لرؤية الحقائق وكشفها؛ متى ما تريد وكيف ما تريد؟ فإذا لم يرد الإنسان رؤية جمال العدل، وحسن الآداب، واستحالة التناقض يمكنه ألا يعرف ذلك فعلا، بأن لا يستعمل المصباح الذي أوتيه أو يدسه تحت التراب.

وهذه حقيقة قد تخفى علينا، إلاّ أنه من المؤكد عمليا أننا لسنا في كل لحظة نعلم جميع أحكام العقل، وأننا في أي لحظة نريد التعرف عليها فهي لا تعصى علينا، وهذه حجة كافية على أن العقل يدخل ضمن حرية الفرد واختياره فيستخدمه حينا لمعرفة الحقائق ويدعه عاطلا حينا آخر..

ألست ترى أنك قادر في كل لحظة وفي كل مكان أن تفكر فيما حولك من الأشياء والأشخاص بصورة منهجية، وتستعمل في تفكيرك مقاييسك العقلية الثابتة؟ كما أن بإمكانك أن تتوجه إلى أمور أخرى ولا تفكر منهجيا وعقلانيا في أي شيء.. نعم، إن هناك لحظات لا يمكننا إلا أن نعرف أحكام العقل، كتلك اللحظات التي نقع فيها تحت تأثير موجِّه روحي قوي، أو نشاهد تجربة عملية حادة، إلا أننا سرعان ما نعود إلى حالتنا السابقة حيث يخضع العقل لتصرفنا وإرادتنا من جديد.

قلت: وعيت هذا الضابط وأدركت أهميته.. فهل هناك غيره؟

قال: هناك الكثير.. إن هذا يستدعي دراسة مفصلة للنفس للتعرف على نواحي ضعفها وقوتها..

قلت: فهل أشار قرآنكم إلى هذا؟

قال: أجل.. أشار إلى مجامعه، ونحن ندرسها هنا..

قلت: هلا ضربت لي مثالا على ذلك.

قال: من ذلك مثلا قوله تعالى :﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) (يوسف).. وقال تعالى :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) (طه).. وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) (محمد)

فهذه النصوص وغيرها تشير إلى أن للنفس البشرية مقدرة تمويهية كبيرة، فهي تقوم ـ مثلا ـ بتهدئة النفس وتسكينها حين تهجم عليها المصائب.. وهي تحاول التخفيف عن النفس بما يدعى في علم النفس (بأحلام اليقظة) فتسليها بآمال مستحيلة وأماني غير ممكنة الوقوع.. وحين يحب الإنسان شيئا حبا جما تحاول هذه الطاقة تبرير كل الوسائل المؤدية إليه، حتى تخترع النفس معلومات ليست واقعية، أو تفسير المعلومات التي لا تلائم بلوغ ما أحب بما يلائمها، وهكذا..

 

الخبرات البشرية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. فرأيت شيوخا كثيرين يلتف بهم شباب وصبية، فسألت المدرسي عنهم، فقال: هذا قسم (الخبرات البشرية)

قلت: فما علاقة هذا القسم بالعقل؟

قال: إن هذا القسم يجعل من العقل الواحد عقولا كثيرة.

قلت: كيف؟

قال: لا يمكن للعقل الواحد أن يصل إلا إلى بعض الحقائق.. ولذلك فإن الله جعل له من العقول المعينة ما ينوب عنه في البحث عن غيرها..

قلت: ولكن الأوهام قد تتسرب من هذا الطريق.. بل لا تكاد تتسرب الأوهام من غير هذا الطريق.

قال: لقد جعل الله في العقول القدرة على التمييز بين الحقائق والأوهام.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يستقبل كل الخبرات، ثم يصفيها في غربال عقله ليميز الصادق منها من الكاذب، والحق منها من الباطل.

قلت: ألا يمكن أن نستغني عن هذا النوع من المدارك؟

قال: لو استغنينا عنه لم نصل إلى أي حضارة؟

قلت: وما علاقة الحضارة بهذا؟

قال: الحضارة تتأسس على الخبرات المختلفة.. فكل عالم يبدأ بما انتهى إليه غيره.. بالإضافة إلى أن العلوم يخدم بعضها بعضا.. ولا يمكن لشخص واحد أن يتخصص في العلوم جميعا.

قلت: إن هذا يستدعي البحث عن الخبراء.

قال: صدقت.. ولهذا أمرنا الله بالبحث عنهم وسؤالهم.. فقال تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) (الفرقان).. وقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) (النحل)

قلت: فكيف يميز الدجال عن الخبير؟

قال: في هذا القسم نبحث عن هذا.. فنميز بين الدجال والخبير.. بل نميز بين أقوال الخبير نفسها.. فقد يدخل فيها الدجل من حيث يشعر، ومن حيث لا يشعر.

قلت: إن هذا يستدعي الشك في الخبراء.

قال: الأصل في هذا وغيره الشك.. فلا يمكن أن نتيقن إلا بما تثبت الأدلة صدقه.

الفيوضات الربانية

بعد أن استفدت الكثير من الخبرات والمعارف في قسم (الخبرات البشرية) سرت مع صاحبي المدرسي إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. كان اسمه (قسم الفيوضات الربانية)، وقد رأيت فيه جموعا كثيرة ترفع أبصارها نحو شيء لا أراه.. سألت المدرسي عنه، فقال: هذا القسم هو أشرف الأقسام وأعلاها وأقدسها.

قلت: ما العقل الذي يحكمه؟

قال: هو فوق العقول.. ولذلك لا تجد العقول إلا التسليم له.

قلت: أهناك شيء فوق العقول؟

قال: أجل.. هناك من الحقائق ما تعجز العقول عن إدراكه، فلذلك تداركها الله بلطفه، وأفاض عليها عبر وسائط هدايته ما يدلها على ذلك.

قلت: مثل ماذا؟

قال: خالق الكون مثلا..

قلت: لكن العقل يدل عليه؟

قال: العقل يدل عليه.. لكنه لا يستطيع أن يعرف به.. وفرق كبير بين أن تؤمن بوجود الشيء، وبين أن تعرفه.

قلت: لم أفهم.

قال: إذا طرق بابك طارق.. قد يعرف عقلك بأن هذا الطارق إنسان عاقل مريد حي..

قلت: ذلك صحيح..

قال: ولكنه يقف عند هذا الحد.. فلا يستطيع أن يعرف من هذا الطارق.. وهل هو صديق أو عدو.. وهل يريد بطرقه أن يكرمك أو يهينك..

قلت: ذلك صحيح أيضا.

قال: فكيف تتعرف عليه؟

قلت: لذلك وسيلتان.. أما إحداهما، فأن أفتح له الباب، فأراه.. وأما الثانية فأن أنصب أجهزة تخبر عنه.

قال: أجهزة وسيطة تعرفك به.

قلت: أجل.. مثل الكاميرات وغيرها.

قال: فقد فعل الله هذا بنا.. لقد أرسل لنا عبر أنبيائه ورسله من يعرفنا به وبحقائق الوجود الكبرى التي تضعف عقولنا عن الوصول إليها.

قلت: لكن ما أسهل الدعاوى في هذا الباب.

قال: وما أسهل أن تميز العقول هذه الدعاوى.

قلت: كيف تميز بينها؟

قال: لقد جعل الله لوسائط هدايته ما يدل عليهم.. فلذلك يسلك العقل معهم مسلك التمحيص والشك إلى أن يتيقن صدقهم.. فإذا تيقن صدقهم استطاع أن يستفيد من المعارف التي لا يمكن أن يصل إليها من غير طريقهم.

قلت: ولكن لم لم تتح هذه المعارف لجميع الناس؟

قال: إذا كان جميع الناس قد عجزت مداركهم عن أبسط الأشياء، فكيف تصل مداركهم المحدودة إلى هذه الأمور الخطيرة؟

قلت: فما يدرس في هذا القسم؟

قال: تدرس الضوابط التي يمكن للعقول أن تستفيد بها من هذه الفيوضات.

قلت: أرى جموعا كثيرة تلتفت حول هذه الفيوضات..

قال: وحق لها.. أرأيت لو أن قادما قدم الأرض من كوكب آخر.. ألا ترى أن الناس سيلتفون حوله يسألونه؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فإذا كان هذا القادم يعلم سر الأزل والأبد.. ويعلم ما سيحل بالأرض والكون والإنسان.

قلت: إن الاهتمام بهذا سيشتد.

قال: فلنفرض أن هذا القادم رجل رحل من الأرض وسار في الكون، ثم جاء بأخباره.

قلت: الأمر لا يختلف.. ونحن نرى البشر يصرفون أموالا كثيرة لأجل بعض هذا.

قال: فهؤلاء الذين تراهم يلتفون حول مصدر النور والهداية يفعلون هذا.. لقد علموا أن الله اختار رجلا هو أفضلهم وأكملهم لينوب عنهم في هذه الرحلة العظيمة التي تعرف البشر بحقائق الوجود.

 

 

 

الإشراقات الروحية

سرنا إلى قسم آخر في (أكاديمية العقل المسلم).. لست أدري كيف خطر على بالي عندما وطئت أول عتبة هذا القسم (أفلوطين).. سألت صاحبي المدرسي عنه، فقال: هو كغيره فقه أمورا، وغفل عن أمور، أو اختلطت عليه أمور[80].

قلت: فما فقه؟

قال: لقد عرف أن من مدارك العقول مدارك خفية لا يفطن لها كثير من الناس بسبب كثافتهم.

قلت: فما أخطأ؟

قال: لم يكن للمسكين ما يعصم به تلك المدارك من الخطأ الذي يعتري هذا النوع من العقل.

قلت: فهل في الإسلام ما يعصم هذا العقل؟

قال: أجل.. ففي الإسلام تتكامل العقول ولا تتناقض.

قلت: فأين أجد فقه هذا؟

قال: في هذا القسم.. في هذا القسم يلقن الأساتذة من يريد هذا النوع من العقل كيفية تحصيله.. ويعلموهم في نفس الوقت كيفية تحصينه من الخطأ الذي قد يقع فيه.

دخلنا إلى القسم، فرأينا حلقة تربع على عرشها رجل ممتلئ بالأنوار، سألت صاحبي عنه، فقال: هذا رجل من أهل الله، راض نفسه في ذات الله، وقد وهبه الله لذلك من العلوم التي تحار فيها العقول ما لا يمكن إدراكه إلا بالعقل الذي أدرك به.

قلت: وما العقل الذي أدرك به؟

قال: هو لب لباب العقول.. ولا يصل إليه إلا من حصل التقوى التي نص عليها قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية282)

قلت: فما علاقة التقوى بهذا النوع من العقول؟

قال: تعال بنا لنستمع لهذا الرجل المنور بنور الإيمان، فلن تفهم حقيقة هذا العقل، ولا علاقته بالتقوى إلا بالاستماع إليه، والاستفادة منه.

قلت: من هو أولا؟

قال: هو رجال كثيرون، امتلأت بهم هذه الأمة المباركة.. والكثير هنا يسميه (المتوسم)، وبعضهم يسميه (محدثا)، وبعضهم يسميه (الخضر)

قلت: لم؟

قال: أما المتوسم، فلقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ (الحجر:75)، وقد ورد في تفسير هذا قوله r : (إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم)[81]

وأما المحدث، فلقوله r : ( قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم أناس محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب)[82]

وأما الخضر، فهو رجل آتاه الله من العلم اللدني ما رأى به الحقائق، وقد ذكر الله هذا العلم الذي آتاه، فقال :﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65)

اقتربنا من الرجل، فسمعناه يقول[83]: اعلموا أن القلب مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضا؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت؛ فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ.

وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال؛ لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفا فإذا مات - أي القلب - بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس.. وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له :﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ:22)

قال له بعض التلاميذ: فمتى يحجب القلب عن مطالعة عالم الملكوت؟

التفت إليه، وقال: اعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم، وبيان الحق على سبيل الإلهام.. وذلك لا يدخل من طريق الحواس، بل يدخل في القلب، لا يعرف من أين جاء؛ لأن القلب من عالم الملكوت، والحواس مخلوقة لهذا العالم (عالم الملك)، فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.

قال تلميذ آخر: فمتى يطالع القلب عالم الملكوت؟

التفت إليه مبتسما، وقال: لا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة.

فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما : ( الله - الله – الله) بقلبه إلى أن يصير لا خير معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجملية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي r : ( زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها)، وقال الله عز وجل :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، لأن علوم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كلها كانت من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل:8)، ومعناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية.

قال له تلميذ آخر: أليس هذا خاصا بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: هي في الأصل مختصة بالأنبياء.. ولكن لورثة الأنبياء حظ منها.. ولذلك لا يفتح لهم في هذا الباب إلا ما يؤيد النبوة ويؤكدها..

قال له التلميذ: فكيف نعرف هذه الطريق، ونتأكد من وجودها؟

قال: هذه الطريق لا تفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم.. والواجب التصديق بها حتى لا تحرم منها.. ومن لم يبصر لم يصدق، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (يونس:39)، وقال :﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)(الاحقاف: من الآية11)

قال تلميذ آخر: ألا يمكن أن تبسط لنا هذا حتى نفهمه أولا.

التفت إليه، وقال: اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعض الأحول - تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم.

فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً.

ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب.

أما الأول، فيسمى إلهاماً ونفثاً في الروع.. وأما الثاني، فيسمى وحياً، ولا يختص به إلا الأنبياء.. بينما يختص بالأول الأولياء والأصفياء.. والذي قبله - وهو المكتسب بطريق الاستدلال - يختص به العلماء.

قال التلميذ: ألا يمكن أن تفرق لنا بين منهج الأولياء ومنهج العلماء بمثال محسوس؟

التفت إليه، وقال: سأضرب لك مثالين قد يقربان لك هذا:

أما أولهما، فهو: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض، فإنه يحتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر.. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار.. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.

قال التلميذ: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه؟

قال: كما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرج إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء والأرض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ.

فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي - أي وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أي وجود صورته في القلب - وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية، والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض.

وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك، فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.

قال التلميذ: وعينا هذا.. فاذكر لنا المثال الثاني.

قال: المثال الثاني يتجلى من خلال هذه الحكاية.. فقد روي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك من قولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ؟ فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل.

فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم.

قال تلميذ آخر: كل ما ذكرته نجد من نفوسنا قبوله.. ولكن الاعتراض الذي قد يوجه لكل ذلك هو أن الأمر لو كان كما ذكر الأولياء لاستوى الناس في التعرف على الحقائق.. ذلك أن لكل إنسان المرآة التي يبصر بها الحقائق.

التفت إليه، وقال: إن هذا يستدعي البحث عن الحجب التي تحول بين مرائي الناس والحقائق.. وإدراك ذلك بسيط لا يستدعي إلا التأمل في سر عدم انكشاف الأشياء للمرآة الحسية مع وجودها، ووجود الأشياء حولها.. فأخبرني عما تراه من أسباب ذلك.

قال التلميذ: لقد بحثت في هذا.. ووجدت أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور.. أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل.. والثاني لخبثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل.. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة.. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة.. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.

قال: فهكذا مرآة القلب.. فهي تحجب عن الحقائق بالأسباب الخمسة التي ذكرتها..

أما أولها، فهو نقصانها في ذاتها كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه.

وأما الثاني، فلكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه.

وأما الثالث، فأن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي؟.

وأما الرابع، فالحجاب.. فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد.. وهذا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة.

وأما الخامس، فالجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار، فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث.

التفت إلى التلميذ، وقال: هذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور.. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف.

***

في نهاية هذه القاعة وجدنا شرطة تحمل بعض الناس إلى سجونها، فسألت المدرسي عنه، فقال: هؤلاء قوم استغلوا قدرات العقل.. فراحوا يستعملونها في غير ما خلقت له..

قلت: ولكن لم يسجنون؟

قال: هم أولى بالسجن من اللصوص.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو أن رجلا جاء لصبي صغير صاحب فطرة سليمة وراح يعلمه فنون التلصص.. على من تقع تبعة سرقة الصبي؟

قلت: لاشك أنها تقع على معلمه.

قال: فهكذا الأمر مع من يحتال للعقول ويحتال عليها.

***

سألنا صاحبنا عن سر فراقه لصاحبه المدرسي، ولأكاديمية العقل المسلم، فقال: في ذلك اليوم الذي أزحت فيه كل الكدورات التي تحول بيني وبين الإسلام.. جئت إلى أكاديمية العقل المسلم فوجدتها مغلقة، فسألت عنها، وعن أساتذتها، فأخبرني بعض الثقات أنهم ساروا إلى هذه البلاد ليدرأوا الفتنة التي تريد أن تستأصل الإسلام والمسلمين.

وقد حضرت إلى هذه البلاد بمجرد أن سمعت ذلك.. وها أنتم ترون المصير الذي صرنا إليه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1])استفدنا الكثير من المعلومات عن المدارس الفلسفية الواردة في هذا الفصل ونقدها من كتب العلامة (آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي) ككتاب (الفكر الإسلامي مواجهة حضارية).. وكتاب (المنطق الإسلامي: أصوله ومناهجه).. بالإضافة إلى الكتب التي أرخت للفلسفة ومدارسها.. بالإضافة للموسوعة العربية العالمية، والموسوعة اليهودية.

([2]) هكذا صنفهم ابن حزم (384 - 456 هـ)، فقد قسمهم إلى ثلاثة أصناف:1- صنف نفى الحقائق جملة.2- صنف شكُّوا فيها.3- صنف قالوا هى حق عند مَنْ عنده حق، وهى باطل عند مَنْ هى عنده باطل.

([3]) سنتحدث عن منهجه العقلي في هذا المبحث.

([4]) ظهرت السفسطائية أول مرة إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد، ثم ظهرت فى عصور تالية، وعرفت باسم حركة الشكاك، ووقف الفيلسوف الفرنسى مونتانى (1532-1592م) على أعتاب الفلسفة الأوروبية الحديثة ليعلن أن العلم القديم قد سقط، فلِمَ لا يسقط العلم الجديد كذلك وإذا كان الجهل المطبق بداية العلم فإن جهل العالم هو النهاية، وأن آلات العلم عاجزة عن توفير اليقين، وستظل كذلك.

([5]) أقصد بها الفلسفة.. فكلمة (فلسفة) مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وقَدْ تُترجمُ بـ (حبّ الحكمة).. والفلاسفة في العادة يكونون متشوّقين لمعرفة العالم، والإنسان، والوجود، والقيم..

([6]) سقراط (469 ـ 399 ق.م). فيلسوف ومعلم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يترك أي أثر مكتوب رغم أنه كان دائمًا ينهمك في المناقشات الفلسفية، وقد وصلتنا أفكاره ومناهجه عن طريق مجالس الحوار، التي كتبها تلميذه أفلاطون، حيث برز سقراط شخصًا رئيسيًا يشرف على الحوار، ويشرح عملية البحث عن الحقيقة، وعُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينفون والفيلسوف أفلاطون، بالإضافة إلى ما كتبه عنه أريسطو فانيس وأرسطو.

وُلد سقراط وعاش في أثينا، وكان ملبسه بسيطًا، وعُرف عنه تواضعه في المأكل والمشرب.. وكان يعلم الناس في الشوارع والأسواق والملاعب، وكان أسلوب تدريسه يعتمد على توجيه أسئلة إلى مستمعيه، ثم يُبين لهم مدى عدم كفاية أجوبتهم.

قُدّمَ للمحاكمة وُوجهت إليه تهمة إفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية.. وكان يُلمحُ إلى أن الحكام يجب أن يكونوا من أولئك الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون، وليس بالضرورة أولئك الذين يتم انتخابهم، وقد قضت هيئة المحلَّفين بثبوت التهمة على سقراط وأصدرت حكمها عليه بإلإعدام. ونفذ الحكم بكلِّ هدوء متناولاً كوبًا من سم الشوكران.

كان سقراط يؤمن بأن الأسلوب السليم لاكتشاف الخصائص العامة هو الطريقة الاستقرائية المسماة بالجدلية؛ أي مناقشة الحقائق الخاصة للوصول إلى فكرة عامة.. وقد أخذت هذه العملية شكل الحوار الجدلي الذي عرف فيما بعد باسم الطريقة السقراطية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن حياة سقراط التي وصلت لنا تشير إلى أن له علاقة بالصالحين.. ولعل هذا ما جعل بعض علماء المسلمين يضع احتمالا لكونه نبيا من الأنبياء.. وهو ليس بمستبعد.. وما يروى عنه من خلاف منهج الأنبياء هو من التحريف الذي أصاب الديانات ورجالها.

([7]) وذلك عن طريق أسئلة محكمة صارمة متلاحقة، من نوع :ماذا تعني؟ كيف عرفت ذلك؟ إن هذا الإجراء الذي يسمى الطريقة السقراطية مالبث أن أصبح من الطرائق الفلسفية النموذجية التي تُعنى بالمناقشة والحوار.

([8]) أفلاطون (427؟ - 347؟ق.م) هو فيلسوف ومعلم يوناني قديم، يُعَدُّ واحدًا من أهم المفكرين في تاريخ الثقافة الغربية.. وُلد في واحدة من أعرق العائلات في أثينا، وتنحدر أمه من نسل المشرع الأثيني الكبير سولون، وكلمة أفلاطون كنية تعني ذا الكتفين العريضتين، أما اسمه الحقيقي فهو أرستوكليس.

كان يرغب في شبابه أن يكون رجل سياسة، وفي عام 404 ق.م، نصَّب مجموعة من الأثرياء أنفسهم حكامًا مستبدين على أثينا، ودعوه للانضمام إليهم إلا أنه رفض لاشمئزازه من ممارساتهم القاسية اللاأخلاقية. وعندما أطاح الأثينيون بالحكام المستبدين في عام 403ق.م. وأقاموا حكومة ديمقراطية أعاد أفلاطون النظر في الدخول إلى ميدان السياسة، لكنه تراجع عن ذلك بعد الحكم بإعدام صديقه سقراط في عام 399 ق.م. وبعدها غادر أثينا في أسفار امتدت عدة سنين.

عاد أفلاطون إلى أثينا عام 387ق.م حيث أسس مدرسة للفلسفة والعلوم عُرِفَت باسم الأكاديمية، وكان الفيلسوف الشهير أرسطو أبرز تلاميذه.

من أشهر مؤلفاته (المحاورات)، وقد اهتمت محاورات أفلاطون باستعراض ونقد الآراء الفلسفية، حيث كانت شخصيات محاوراته تتناول المسائل الفلسفية وتتجادل حول الجوانب المتعارضة لموضوع ما. وقد تميزت المحاورات بقيمة أدبية عالية إلى الحد الذي جعل الكثيرين من العلماء يعدون أفلاطون أعظم من كتب بالنثر في اللغة اليونانية وواحدًا من أعظمهم في أي لغة أخرى.. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([9])لكن هذا لم يمنعه من معاودة الكرة مرات أخرى لتأسيس مدينته الفاضلة في سيراكوسا في ظلِّ حكم مليكها الجديد ديونيسوس الشاب، ففشل أيضًا في محاولاته؛ الأمر الذي أقنعه بالاستقرار نهائيًّا في أثينا حيث أنهى حياته محاطًا بتلاميذه.

([10])شرح أفلاطون في كتابه (فيدروس) عملية سقوط النفس البشرية التي هَوَتْ إلى عالم المحسوسات – بعد أن عاشت في العالم العلوي - من خلال اتحادها مع الجسم.. لكن هذه النفس، وعن طريق تلمُّسها لذلك المحسوس، تصبح قادرة على دخول أعماق ذاتها لتكتشف، كالذاكرة المنسية، الماهية الجلية التي سبق أن تأمَّلتها في حياتها الماضية.

وقد عبر عن نظريته (نظرية التذكُّر) بشكل رئيسي في كتابه (مينون) من خلال استجواب العبد الشاب وملاحظات سقراط الذي توصل لأن يجد في نفس ذلك العبد مبدأً هندسيًّا لم يتعلَّمه هذا الأخير في حياته.

([11]) ويدل لهذا من القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (لأعراف:172)

ويروي الإمامية في هذا حديثا يقول فيه رسول الله r: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام[11]) (بحار الانوار،ج58،ص132)

([12]) كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)

([13]) كما قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل:70)

([14]) قال تقي المدرسي بعد نقده لنظرية أفلاطون الإستذكارية : ( هي مرفوضة بسبب واحد وهو أنها تدَّعي أن العلم من ذات الإنسان.. ولو فسرنا هذه النقطة منها، إذا لاستطعنا القبول بها فيما يخص العلم، فسرناها بالقول: ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل، ولكن هذا العقل محتجب بالنسيان وأن التذكر به يرجعه إليه)

([15])أَرسْطو (384 - 322ق.م) لد في ستاجرا، وهي مستعمرة يونانية وميناء على ساحل تراقيا، و كان أبوه نيقوماخوس طبيب بلاط الملك امينتاس المقدوني، ومن هنا جاء ارتباط أرسطو الشديد ببلاط مقدونيا، الذي أثر إلى حد كبير في حياته ومصيره فكان مربي الإسكندر.. دخل أكاديمية أفلاطون للدراسة فيها وبقي فيها عشرين عاما، ولم يتركها الا بعد وفاة أفلاطون..

بعد موت الإسكندر الأكبر في عام 323ق.م. رماه الأثينيون بتهمة عدم احترام الآلهة، وخوفًا من مصير سقراط، هرب أرسطو إلى مدينة كلسيس (اسمها حاليًا كلكيس)، حيث مات هناك بعد عام ٍ واحد.

كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما اصدر من كتابات بـ 400 مؤلف ما بين كتاب وفصول صغيرة.. وتنقسم مؤلفاته إلى ثلاث مجموعات: 1- المؤلفات الشعبية، وقد كانت لعامة الجمهور خارج مدرسته..  2- المذكرات، وهي تصنيفات من مواد البحوث والسجلات التاريخية أعدَّها بمساعدة تلاميذه؛ لتكون مصدرًا للمعلومات التي يحتاجها العلماء الدارسون..  3- المقالات.. وهي تمثل تقريبًا كلَّ مؤلفات أرسطو التي سَلمت من الضياع وبقيت حتى الآن.. وقد كانت المقالات مؤلفةً للطلاب داخل المدرسة فقط.

([16])اللِّيسيوم كان مبنىً رياضيًا في أثينا، يتلقى فيه الصبية والشبان تدريبات بدنية، ويستمعون لمحاضرات يلقيها مشاهير المعلمين.. والمبنى مقام خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله أبولو ليكيوس، إله الشعر في أساطير الإغريق. أسس أرسطو مدرسة شهيرة هناك حوالي عام 335 ق.م.

([17]) سنقتصر هنا على بعضها، وسنرى المزيد منها في الفقرات التالية.

([18]) سنرى المزيد من الردود في خلال هذا الفصل.

([19]) انظر الرد على المنطقيين ص 10.

([20]) انظر صون المنطق2/135.

([21]) أفلوطين (205؟ - 270؟م) هو مؤسس المدرسة اليونانية الفلسفية التي تُعرف باسم (الأفلاطونية المحدثة)، قيل أنه وُلِدَ في مصر، والتحق بحملة حربية إلى الشرق ليتعلم المزيد عن الفلسفة الهندية.. وقضى سنوات حياته الأخيرة في التدريس بروما.. كان يكره الكتابة لكنه ألقى 54 محاضرة في ست وحدات، كل وحدة تسع محاضرات تُسمَّى التُّساعيَّات.. يعكس تشاؤم أفلوطين فقط جانبًا واحدًا من فلسفة أفلاطون حيث ينظر إلى الفلسفة كعزاء أو هروب من العالم.. وكان هذا هو الجانب الذي كان يحبه الرومانيون في عهد أفلوطين.

([22])الأفلاطونية المحدثة: هي مذهب فلسفي تطوّر عن فلسفة أفلاطون، وأخذت أيضًا عناصر من أفكار فيثاغوروس، وأرسطو والرواقيين.. وقد أسس أفلوطين الأفلاطونية المحدثة. أما رواد الأفلاطونية الآخرون فهم أتباع أفلوطين بورفيري وبروكلس.

([23]) هو أريجِينا، جُوهانْس سكوتَسْ (810 - 877م)، هو فيلسوف ولاهوتي أيرلندي عرف بثقافته الواسعة، وقد بدأ أولى المحاولات لتحقيق فلسفة نصرانية منظمة.. ومن أشهر كتبه تقسيمات الطبيعة. أقر نظرية تعتمد على مبادئ الأفلاطونية المحدثة، وكان يقول إن الفكر والوجود يبدآن وينتهيان بالله، وهو فوق الوجود والفكر، واعتُبِر أريجينا على أثر هذه المبادئ صاحب بدعة، وشجبت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كتاباته.

([24]) هو بورفيري (233 - 304م). فيلسوف ينتمي إلى الأفلاطونية المحدثة، وصف كيف أن جميع الخصائص التي ينسبها الناس إلى الأشياء يمكن تصنيفها. وكان لهذا الموضوع الذي عرضه في كتابه مقدمة للمقولات تأثير كبير في الفلسفة في القرون الوسطى، كما أثار مسألة وضع القضايا الكلية التي شغلت أذهان علماء المنطق لمئات السنين. وهو من مواليد صور، ودرس في أثينا ثم سافر إلى روما حيث انضم إلى أفلوطين.

([25])  أشير به إلى القديس أوغسطين (354 - 430).. وهو أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية.. بل تعتبره الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديسا، وأحد آباء الكنيسة البارزين، وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني.. كما يعتبره العديد من البروتستانت، وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي حول النعمة والخلاص.. وتعتبره بعض الكنائس الأورثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديسا.

وهو يتحدّر من أصول أمازيغية على الأغلب.. ولد في تغسات عام 354 (حاليا سوق أهراس، بالجزائر) التي كانت مدينة تقع في إحدى مقاطعات مملكة روما في شمال أفريقيا.. وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره أرسلته أسرته إلى (مداورش)، مدينة نوميدية تقع 30 كلم جنوبي تغسات. وفي عمر السابعة عشرة ذهب إلى قرطاج لإتمام دراسة علم البيان.

كانت أمه مونيكا أمازيغية ومسيحية مؤمنة، أما والده فكان وثنيا.. ورغم نشأته المسيحية إلا أنه ترك الكنيسة ليتبع الديانة المانوية خاذلا أمه، وفي شبابه عاش أوغسطين حياة متعية وفي قرطاج، كانت له علاقة مع امرأة صارت خليلته لمدة 15 عاما.. وخلالها ولدت له خليلته ابنا حمل اسم أديودادتوس..

كان تعليمه في موضوعي الفلسفة وعلم البيان، علم الإقناع والخطابة.. وبعد أن عمل في التدريس في تغسات وقرطاج انتقل عام 383 إلى روما لظنّه أنها موطن خيرة علماء البيان، إلا أنه سرعان ما خاب ظنه من مدارس روما وعندما حان الموعد لتلاميذه أن يدفعوا ثمن أتعابه قام هؤلاء بالتهرب من ذلك. بعد أن قام أصدقاءه المانويين بتقديمه لوالي روما، الذي كان يبحث عن أستاذ لعلم البيان في جامعة ميلانو، تم تعيينه أستاذا هناك واستلم منصبه في أواخر عام 384.

في ميلانو بدأت حياة أوغسطين بالتحول. من خلال بحثه عن معنى الحياة بدأ يبتعد عن المانوية منذ أن كان في قرطاج، خاصة بعد لقاء مخيب مع أحد أقطابها. وقد استمرت هذه التوجهات في ميلانو إذ ذهبت توجهت أمه إليها لإقناعه باعتناق المسيحية كما كان للقائه بأمبروزيوس، أسقف ميلانو، أثرا كبيرا على هذا التحول.

وقد أعجب أوغسطين بشخصية أمبروزيوس وبلاغته وتأثر من موعظاته فقرر ترك المانوية إلا أنه لم يعتنق المسيحية فورا بل جرّب عدة مذاهب وأصبح متحمسا للأفلاطونية المحدثة.

وفي صيف 386، بعد قراءته سيرة القديس أنطونيوس الكبير وتأثره بها قرر اعتناق المسيحية، وترك علم البيان ومنصبه في جامعة ميلانو والدخول في سلك الكهنوت، فقام أمبروزيوس بتعميده وتعميد ابنه في عام 387 في ميلانو. وفي عام 388 عاد إلى إفريقيا وقد توفيت أمه وابنه في طريق العودة تاركين اياه دون عائلة.

بعيد عودته إلى تغسات قام بتأسيس دير.. وفي عام 391 تمت تسميته كاهنا في إقليم هيبو (اليوم عنابة في الجزائر)، وأصبح واعظا شهيرا (وقد تم حفظ أكثر من 350 موعظة تنسب إليه يعتقد أنها أصيلة)، وقد عُرِف عنه محاربته المانوية التي كان قد اعتنقها في الماضي.

وفي عام 396 تم تعيينه أسقفا مساعدا في هيبو وبقي أسقف خيبو حتى وفاته عام 430 رغم تركه الدير إلا أنه تابع حياته الزاهدة في بيت الأسقفية الأنظمة الرهبانية التي حددها في ديره أهلته أن يكون شفيع الكهنة.

توفي أوغسطين وعمره 75 بينما كان الفاندال يحاصرون هيبو، ويُزعم أنه شجع أهل المدينة على مقاومة الفاندال وذلك لاعتناقهم الاريوسية.. ويُقال أيضا أن توفي في اللحظات التي كان الوندال يقتحمون أسوار المدينة.

وقد تحدثنا عنه وعن فلسفته وعلاقتها بالمسيحية في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

([26]) ما نذكره هنا ليس بالضرورة آراء أوغسطين وحده.. بل نشير من خلاله إلى المسيحية المتأثرة بالفسلفات والمذاهب المختلفة.

([27]) سنرى الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([28]) نسبة إلى تنظيم ديني روماني كاثوليكي أسسه القديس الأسباني (دومينيك) في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.. وقد اشتهر الدومينيكانيون بأنهم وعاظ ومدرسون ومنصرون.. وكان تنظيم الدومينيكانيين أول تنظيم يؤكد العمل الذهني، إذ أن الأنظمة السابقة قد ركزت على الأعمال اليدوية، وخلال جيل من قيام التنظيم، ترأس الدومينيكانيون الأقسام اللاهوتية في كثير من الجامعات الكبيرة، ومن بين الأعضاء ذوي الشهرة في التنظيم القديس ألبرتوس ماجنوس والقديسة كاثرين السيناوية، والقديس توما الأكويني.

([29]) هو القديس توما الأكويني (1225؟ - 1274م).. كان أحد أشهر الفلاسفة وعلماء اللاهوت الذين عرفتهم العصور الوسطى في الغرب بتأثيره البالغ على الفكر النصراني، وبصفة خاصة على مذهب الروم الكاثوليك.

نشأ ببلدة روكاسيكا قرب كاسينو بإيطاليا، وتلقى تعليمه بجامعة نابولي، وانضم إلى سلك الرهبنة الدومينيكاني. عين قسيسًا على يد القديس ألبرت الكبير عالم اللاهوت الألماني، ثم صار توما أستاذًا للاهوت في جامعة باريس، حيث اشتهر بتميزه في الجمع بين ورعه الديني، وذاكرته الموسوعية وفرط تركيزه.

وفي عام 1258م بدأ في تأليف كتابه (الدعوة إلى دحض المنكرين للعقيدة)، يدافع فيه عن عقلانية العقيدة المسيحية، موجهًا خطابه إلي غير المسيحيين. وفي الفترة مابين الأعوام 1259 و 1268م خصَّص كتاباته للتعليق على كتابات الفيلسوف اليوناني أرسطو. وفي عام 1265م بدأ في تأليف أشهر أعماله المسمى بحث لاهوتي شامل. وقد اهتم فيه بشرح العقيدة النصرانية بتصنيف وترتيب متقن. ولكنه مالبث أن توقف عن التأليف، إذ أعلن عن دخوله في تجربة وجدانية تركته يوقن أن مجمل ما فعله حتى ذلك الحين لايرقى إلى ماتبدَّى له إثر ذلك الفيض الروحاني. وقد قام البابا يوحنا الثاني والعشرون بإعلانه قديسًا في العام 1323م. ويُحتفل بعيده في السابع من مارس من كل عام..

([30])سادت هذه المنظومة الفكرية بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلاديين، وهي تُشير إلى منهج فلسفي للاستقصاء، استعمله أساتذة الفلسفة واللاهوت في الجامعات الأولى التي ظهرت في أوروبا الغربية. وكانوا يُسمّون المدرسيين.

ويعتمد المنهج المدرسي على التحليل الدقيق للمفاهيم، مع التمييز البارع بين المدلولات المختلفة لتلك المفاهيم. وقد استعمل المدرسيون المحاكمة الاستنتاجية انطلاقًا من المبادئ التي وضعوها بمنهجهم، بقصد إيجاد الحلول للمشكلات العارضة.

نشأت المدرسية نتيجة لترجمة أعمال أرسطو إلى اللاتينية التي هي لغة الكنيسة النصرانية في العصر الوسيط. فهذه الأعمال حثت المفكرين آنذاك على التوفيق بين

قدّم المدرسيون مساهمات قيمة في تطور الفلسفة، منها ما قدّموه من أعمال في مجال فلسفة اللغة. حيث بينوا كيف يمكن لخصائص اللغة أن تؤثر في تصورنا للعالم. كما أنهم ركزوا على أهمية المنطق في البحوث الفلسفية.

([31]) ما نذكره هنا ذكره القديس توما في كتابه (Summa) (الجزء 3 / المسألة 3، الفقرات 5 ـ 8 والمسألة 4، الفقرات 4ـ 6)

([32]) قصة النزاع بين الدين والفلسفة، توفيق الطويل: 83.

([33])الله واحد أم ثالوث: مجدى مرجان: (11)

([34]) هو (فرانسيس بيكون) Bacon, Francis (1561 ـ 1626م)، وهو فيلسوف ورجل دولة إنجليزي، كان من المؤيدين الأوائل الأساسييّن والأكثر نفوذًا للمذهب التجريبي ومن المؤيدين لاستعمال الطرق العلمية لحل المشكلات.

من أهم كتبه الفلسفية: التقدم في التعليم (1605م)؛ الأورغانون الجديد (1620م) وهما الكتابان الوحيدان اللذان أتم كتابتهما ضمن مشروع في ستة أجزاء يُسمَّى التجديد الكبير. وهو في طرق بحث ونظريات وإنجازات العلوم التجريبية. وكتب بيكون أيضًا مقالات ذات طابع هزلي ومقالات مبتكرة.

([35]) روجر بيكون (1214؟ - 1292م؟). كان فيلسوفًا وعالمًا إنجليزيًا. وهو يعد واحدًا من الشخصيات الرائدة في تطوير العلوم في القرون الوسطى.. عُرف بصفته مؤسسًا للعلوم التجريبية وأحد الباحثين الأوائل في دراسة علم البصريات، وقد ساعد على إرساء القواعد للثورة العلمية التي ظهرت في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

وُلدَ في سومرست في إنجلترا ودرس الفنون الحرة والفلسفة في جامعة أكسفورد، ثم ترك أكسفورد في ثلاثينيات القرن الثالث عشر الميلادي وبدأ يدَرِّس في جامعة باريس.. عاد إلى أكسفورد وأمضى السنوات العشر التالية من حياته في دراسة مكثفة للرياضيات، والتقنية وخصوصًا علم البصريات.. انضم بعدها إلى جماعة الفرنسيسكان الدينية وعاد إلى باريس ليحث على الإصلاح الثقافي داخل الكنيسة وليكرس نفسه لاكتشاف ونشر نظام لكل المعرفة.

وفي هذا الوقت، قام نزاع في داخل الجماعة الفرنسيسكانية، ونتج عنه وضع رقابة على الكتب. وسمح رؤساء بيكون له بالاستمرار في الكتابة ولكنهم منعوه من نشر أعماله.

وتنفيذًا لرغبة طلب البابا كليمنت الرابع، جمع بيكون ملخصًا لنظام المعرفة وأرسل الملخص المسمى أبوس مايوس (العمل الأطول)، إلى البابا في عام 1267م، وأصبح هذا الملخص من أبرز وأهم أعمال بيكون.

خلال السبعينيات من القرن الثالث عشر الميلادي، كتب بيكون في علم الفلك والرياضيات وعلم الفيزياء. وفي عام 1278م انتقدت الكنيسة بعض مؤلفاته وسجن في باريس في دير الراهبات حتى عام 1292م. وقبل فترة وجيزة من وفاته، أتم بيكون كتابه: ملخص لدراسات علم اللاهوت، وفيه أعلن ماكان يعتبره من شرور العالم النصراني.

كانت أهم الأعمال التي كتبها بيكون في العلوم ولكنه كتب أيضًا في الفلسفة وعلم اللاهوت. وتوضح هذه الأعمال تأثر بيكون بالفيلسوف الإغريقي أرسطو، وعالم اللاهوت النصراني القديس أوغسطين وابن سينا.

([36]) ما ذكرناه هنا هو في الأصل لفرنسيس بيكون لا لروجر بيكون.. مع التنبيه إلى أنهما لم يعيشا في عصر واحد كما ذكرنا في ترجمتهما.

([37]) رينيه ديكارْتْ (1596 - 1650م)، ويعرف أيضا بكارتيسيوس Cartesius فيلسوف فرنسي ورياضياتي وعالم يعتبر من مؤسسي الفلسفة الحديثة ومؤسس الرياضيات الحديثة.. والكثير من الأفكار والفلسفات الغربية اللاحقة هي نتاج وتفاعل مع كتاباته التي لا تزال تدرّس إلى اليوم..

ولد في لاهاييه قرب شاتيليرو. وتعلَّم في إِحدى الكُلِّيَّات اليسوعيَّة، وخدم في جيوش بَلَدَيْن، كما سافر كثيرًا، وقد مكَّنته الأَموال التي ورثها والتي جاءته ممن تولوه بالرِّعاية من تكريس معظم وقته للدِّراسة.. وفي الفترة بين 1628 و1649م، عاش ديكارت حياة علميَّة هادئة في هولندا، وأنتج معظم مؤلفاته الفلسفيَّة.. وفي أواخر عام 1649م، قَبِلَ دعوة من الملكة كريستينا لزيارة السّويد حيث أُصيب بمرض عُضال وتوفي هناك.

له ثلاثة مؤلَّفات رئيسية هي: رسالة في منهج التَّصرُّف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم (عام 1637م) ويُعرف هذا الكتاب باسم شائع وهو رسالة في المَنْهَج.. أَمَّا الكتابان الآخران فهما: تأمُّلات في الفلسفة الأُولى (عام 1641م) ولعلَّه أَهمّ عمل لديكارت، ومبادئ الفلسفة (عام 1644م). وأَصبحت فلسفته تُعْرَفُ بالديكارْتيَّة.

([38])هو باروك سبينوزا (1632-1677م)، فيلسوف عقلاني مادي، من أهم فلاسفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو ـ مع نيتشه ودريدا ـ فيلسوف العلمانية الأكبر.. عاش في هولندا، ولكنه من أصل ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً.

ولد في أمستردام لأبوين يهوديين. اكتسب في بدء حياته سمعة المفكر الحر، ولذلك طرد من المجتمع اليهودي في عام 1656م. ثم عاش في عدة مدن في هولندا صانعًا للعدسات.

كان سبينوزا طوال حياته داعيًا للتحرر الديني والسياسي.. وكان يعتز باستقلاله، ورفض عروضًا لمعاش من الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وأستاذية جامعية في ألمانيا. وبالرغم من أن سبينوزا وجد الاحترام من الجميع فإنه كان مثيرًا للجدل بسبب آرائه الشاطحة في الدين والفلسفة والسياسة.

تأثرت فلسفة سبينوزا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وتبنى آراء ديكارت في أن الفكر والمادة هما النظامان الأساسيان للواقع، وأن العالم المادي ليس سوى أجزاء من المادة تتحرك وتتفاعل وفق قوانين سببية. إلا أنه في كتابه الأخلاق (نُشر بعد موته بقليل)، طور أفكار ديكارت بطرق غير تقليدية تمامًا. ادعى سبينوزا بأن الإله أو الطبيعة هي المادة الحقيقية، وزعم أنّ الفكر والمادة هما من الصفات المتناهية للإله، وأن كل الأشياء الفانية (مثل عقول البشر وأجسامهم) مجرد أشكال أو حالات من صفات الإله.. لم يترك سبينوزا مجالاً لأي استثناءات للسببية، منكرًا الإرادة الحرة للبشرية والإله.. إلا أنه رأى، أن حرية العقل يمكن أن تحقق بالفهم العقلاني لمكاننا في الطبيعة وخضوعنا لقوانينها خاصة قانون الانفعالات.

وقد تعددت روافد فلسفة سبينوزا فكانت من بينها روافد يهودية، ولكنه كان يرفض صحة القول بدقة أسفار العهد القديم ـ وقد ذكرنا رأيه في هذا في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة ـ وهو يرفض دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار.. وقد تأثر كثيرًا بفلاسفة العصور الوسطى من اليهود مثل موسى بن ميمون وابن جبرول وهذان كانا متأثرين بالفلاسفة الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم، لله والخلق والكون، بين الإسلام والمشائية والأفلاطونية المحدثة.

([39]) أنشأ سبينوزا منظومة فلسفية على منوال الهندسة، إذ حاول أن يستخلص الاستنتاجات الفلسفية من عدد محدود من البديهيات المركزية؛ أي التي تفترض أنها من الحقائق المسلم بها، وكذلك من التعاريف.. وهو يُعد من دعاة الفلسفة الآلية لأنه يرى أن كل شيء في الكون مقدر حتمًا، وكان هدفه الأساسي ذا طابع أخلاقي، حيث أراد أن يشرح كيف يمكن للإنسان أن يكون حرًا عاقلاً راضيًا مرضيًا في هذا العالم الذي تسيِّره الحتمية.

([40])ذكر المسيري أن إسبينوزا استخدم للتفرقة بين تصوري الإله والطبيعة تعبيرين لاتينيين (ناتورا ناتورانز natura naturans)، أي (الطبيعة الطابعة)، و(ناتورا ناتوراتا natura naturata)، أي (الطبيعة المطبوعة)، والطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء من حيث هو ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتم تصوُّره بغيره لأن شيئاً لا يخرج عنه، كما أن العلة كامنة فيه باطنة، أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة، فهي الأوجه الجزئية أو المكوِّنات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن صفات الجوهر الشاملة. ويمكن القول بأن (الطبيعة الطابعة) هي الإله/الطبيعة في حالة اكتمال، أما الطبيعة/المطبوعة فهي الإله/الطبيعة في حالة صيرورة آخذاً في التحقق في المادة (وهذا يقابل العقل المطلق عند هيجل ثم تحقُّقه من خلال الجدل داخل الطبيعة إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ) (انظر: الموسوعة اليهودية)

وبهذا، ردَّ إسبينوزا العالم بأسره، في ثباته وحركته، إلى مبدأ واحد، وهذا المبدأ هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام، الكامنة فيها، والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. ويُسمي دعاة وحدة الوجود الروحية هذا المبدأ (الإله) ويسميه دعاة وحدة الوجود المادية (الطبيعة)، ويكتشف إسبينوزا التقابل بين شكلي وحدة الوجود ويؤكد هذه الحقيقة الأساسية بالنسبة لمنظومته الفلسفية في عبارته اللاتينية الشهيرة (ديوس سيفي ناتورا Deus sive natura) وهي عبارة تعني (الإله أي الطبيعة) والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء.. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)

([41]) من الملاحظات التي وجهها المدرسي لمنهج اسبينوزا:

1- أنه قسّم طرق العلم بالحقيقة إلى أربعة وجعل منها الوجدان كما جعل منها أقول الناس.. ومن حقنا أن نتساءل عن معنى العلم؟ أليس هو وجدان الأشياء وكشفها الوصول مباشرة إليها، كما يقول اسبينوزا ذاته.. فإذا كان كذلك، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يأتي هذا الوجدان عن طريق التفكير أو الإحساس أو العلم بالعلة والمعلول، بل إنما يأتي الوجدان بعد هذه الطرق أو بعد غيرها مما يسبب حالة العلم في النفس، إذ الوجدان هو العلم ذاته.. إذا فليس من الصحيح جعل النتيجة من أقسام الطرق المؤدية إليها وجعلها أفضل منها.

2- بالرغم من أنه تفطن إلى أن حقيقة العلم نور وكشف وظهور إلا أنه لم يتفطن، أو لم يذكر، كيف نستطيع الوصول إلى منهج صحيح بعد العلم بحقيقة واضحة.

([42]) هو جون لوك (1632م - 1704م)، وهو فيلسوف إنجليزي أثَّرت كتاباته في علم السياسة والفسلفة، كان لكتابه رسالتان للحكومة (1690م) تأثير قويّ على توماس جيفرسون وهو يكتب إعلان استقلال أمريكا.

وُلد في رينجتون بمقاطعة سومرست بإنجلترا، ودَرَس بجامعة أكسفورد.. وفي عام 1666م التقى بأنطوني أشلي كُوبر الذي صار فيما بعد أول إيرل لشافتسبري، وربطت بين الرجلين صداقة حميمة.. وفي عام 1679م تورط الإيرل في مؤامرات ضد الملك، وثارت الشكوك حول لوك أيضاً، فقرر أن يرحل عن إنجلترا، وانتقل إلى هولندا عام 1683م، حيث التقى بالأمير وليم والأميرة ماري، أميرة أورانج.. وفي عام 1689، صار وليم وماري حاكمي إنجلترا، فعاد لوك إليها بوصفه أحد المقربين إلى البلاط الملكي.. وقد ظل لوك حتى وفاته يكتب بقدرٍ كبير من الحرية في موضوعات مثل الإصلاح التعليمي، وحرية الصحافة، والتسامح الديني.

([43]) سنرى تفاصيل هذا في المبحث الثاني من هذا الفصل عند حديثنا عن النظرية الإسلامية الشاملة.

([44])ومن هنا قال جون ديوي عن لوك:( إن كلمة (خبرة) حين استعملت عند بدء ظهورها استعمالا يضفي عليها الوقار بولغ ـ بغير شك ـ في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلا عند (بيكن ولوك) ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلا سريعا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها (أي إنها كانت من وحي الظروف الخارجية) ذلك لأن الفكر الفلسفي كان قد تدهور حتى بلغ صورة استبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن، بل ينبغي أن نحصلها بالتدليل العقلي وحده الا إذا كانت مستندة إلى أقوال النقاد، فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تساويها في قصر نفسها على جانب واحد، وهي إن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرض ما عسانا نريد أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند (بيكن) وبعد ذلك عند (لوك) إلى اهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي كما أدت عند لوك إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلا بين معرفتنا لأمور الواقع ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات، على أن هذه المعرفة الأخيرة ـ بناءاً على مذهبه ـ تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة سواء كانت تلك الملاحظة داخلية أم خارجية نتج عن ذلك مذهب يرد الخبرة إلى إحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة كما يرد الفكر إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات على أن المفروض في الاحساسات وفي روابطها معا أن تكون عقلية فقط أي أن تكون نفسية خالصة) (المنطق نظرية البحث).

([45])هو جورج بارْكلي (1685 - 1753م) هو مطران إنجليكاني وفيلسوف، وُلد فى أيرلندا.. وقد حاول ربط العلم السائد في عصره بالمسيحية.

([46]) سنرى الأدلة المثبتة لهذا عند عرضنا للنظرية الإسلامية.

([47]) هو ديفيد هيوم (1711 - 1776م) فيلسوف أسكتلندي.. وُلد في أدنبره وقضى غالبية سني حياته في الكتابة، ومن وقت لآخر، كان يقدّم خدماته في بعثات دبلوماسية في فرنسا وأقطار أخرى. وأعظم أعماله: رسالة في الطبيعة البشرية في الفترة بين 1739، 1740م، ولم تجذب إليها إلا اهتمامًا ضئيلاً، عندما نُشرت. ولكن شهرة هيوم طبقت الآفاق وبخاصة في فرنسا، بعد أن نشر عددًا أكبر من أعماله في الفلسفة، والدين والتاريخ. وكانت هذه الأعمال تضم بين دفتيها: موضوعات فلسفية عن الفهم الإنساني (1748م). وبحث فيما يتعلق بمبادئ السلوك الأخلاقي (1751م)، وكتاب هيوم عن تاريخ بريطانيا (1754، 1756م)؛ تاريخ إنجلترا (1759، 1762م)

([48])حوى كتاب ( نقد العقل الخالص) خلاصة تجربة إيمانويل كانط الفلسفية.. بل أدى إلى تغيير خارطة أوروبا الفكرية والفلسفية.

وقد أدى هذا الكتاب بفلاسفة مشهورين كانوا قد سلموا بمطلقية العقل النظري وسيادة أحكامه إلى تغيير آرائهم بصورة تامة بعد قراءته، إذ سلم نيتشه بكل ما في ثنايا الكتاب واعتبرما جاء به من ثورة عقلية قضية مسلماً بها، أما شوبنهور فقد اعتبر الكتاب على أنه أعظم ما أنتجه الأدب الألماني وأكثره شهرة، وكان له رأي مشهور مفاده أن الإنسان يبقى طفلاً في معرفته حتى يقرأ كانط ويفهمه، وأتى هيجل بعدهم ليربط الفلسفة كلها بمعرفة كانط إذ قال (لكي يكون المرء فيلسوفاً فلا بد من أن يدرس كانط)

([49]) هو إيمانويل كَانْط (1724-1804م)، فيلسوف ألماني، وُلد وعاش في كونجزبيرج في بروسيا الشرقية (تُعرف الآن بكالينينغراد في روسيا).. وقد عمل بالتدريس بالقرب من كونجزبيرج من عام 1746م حتى عام 1755م، وبعد ذلك عمل بالتدريس في جامعة كونجزبيرج نحو 50 عامًا حتي وفاته.. وقد كان عمله فاتحة لعهد جديد، لأنه أنشأ الخطوط الأساسية للتطورات الفلسفية منذ ذلك الحين.

إضافة لعمله نقد العقل الخالص، كتب في علم الجمال وعلم الأخلاق. وفي علم الأخلاق، حاول إيضاح: 1- أن أداء الفرد لواجبه أكثر أهمية من إسعاد نفسه أو الآخرين. 2- إذا افترضنا أن بوسع العلماء التنبؤ بما سنفعله، فإن التنبؤات لا تتعارض مع ميلنا نحو حرية الإرادة. لذا فإن تنبؤات العلماء ليس لها أي تأثير على وجوب أن نعيش متحلّين بالأخلاق.

كان عمله الرئيسي في مجال الأخلاق هو كتابه نقد العقل العملي (1788م). ثم نشر تعليقات إضافية حول عَمَلَيْه الرئيسيين تحت عنوان نقد الحكم (1790م)

([50])بالإضافة إلى هذا هناك اعتراضان وجها إلى منطق كانط، أحدهما من زاوية علم (اجتماع المعرفة) والثاني من زاوية علم (نفس المعرفة).. وبالرغم من عدم صحة هذين الاعتراضين بصفة تامة، فإن فيهما قيمة اعتراضية نسبية.

1- أنها ليست الا قائمة لمقولات الفكر الأوروبي التي تمخض عنها العصر الكانتي.. وأنه لم يكن واقعيا في نظرته إلى المعرفة إذ أحال المعرفة إلى (تصورية تركيبية) ونظر إلى العقل على أنه (عقل خالص)، والى الإنسان على أنه (كائن مجرد) ـ بلا تاريخ.. على حين أننا لا نجد إنسانا مجردا على الإطلاق كما يستحيل علينا أن نجد عقلا خالصا.. فلا يوجد في الواقع الا الإنسان المتحضر، أو التاريخ الذي نشاهده وندرسه من خلال احتكاكه بالآخرين، والذي يتأثر عقله بمختلف المعايير الاجتماعية وتصاغ شخصيته في قالب ثقافي، أو في صورة اجتماعية.

2- لقد ثبت في الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانطية، وأن الذهن البشري ليس قائمة منحصرة من المقولات يكدس العقل في داخلها كل التجارب، بل إن مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها ويمكن تكييفها مع عالم أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن. (انظر: المنطق الإسلامي: أصوله ومناهجه، للمدرسي)

([51]) هو جورج ويلهلم فريدريك هيغل (1770 - 1831م) ولد في عائلة بروسية تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، كان والده موظفاً في الدولة البروسية.. بعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد, وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة.

أتم تعليمَه في توبينغر شتيفت (كلية الكنيسة البروتستانتية في فورتيمبيرغ)، حيث ربطته صداقة مَع فلاسفة المستقبل فريدريك شيلنغ وفريدريك هولدرلين. بعد ذلك جذبته وسحرته أعمالِ سبينوزا، كانت، و روسو، و الثورة الفرنسية.

وبدأ سلك التدريس الجامعي عام 1801م، في جينا. وقد عمل أستاذًا للفلسفة في جامعة برلين منذ عام 1818م حتى وفاته.

تناول في أول كتاب نشر له، ظواهر الروح (1807م) مع تطور صيغ الوعي، وتشمل صِيَغُ الوعي هذه اختلافات ثرية ومحيرة لحالات العقل، ومناظرَ للعالم، ومواقف أخلاقية، ونظراتٍ دينية نصرانية، وأنواعًا للنشاط الطبيعي، وصيغًا لتنظيمات اجتماعية.

وقد حاول أن يوضح كيف تم التقدم فيما اعتبره تسلسلاً ضروريًا وتاريخيًا تحرك خلال تناقض وحل لمستويات نضج أكبر.

وحاول في كتابه الثاني، علم المنطق (1812 - 1816م)، أن يبين نوع الجدل نفسه في تطوير النظريات الفلسفية عن الحقيقة. واحتوت موسوعة العلوم الفلسفية (1817م)، نظامه الفلسفي في صورة مكثفة. وتشتمل على ثلاثة أقسام: صيغة قصيرة للكتابة عن المنطق، وفلسفة الطبيعة وفلسفة الروح. وحلل كتابه الأخير فلسفة الحق (1821م)، التطور الجدلي للنظم الاجتماعية، والأخلاقية، والقانونية. وبعد وفاة هيجل، نشر تلاميذه محاضراته عن فلسفة التاريخ، والدين، والفن، وعن تاريخ الفلسفة. وقد أعادوا كتابة المحاضرات بصورة أساسية، من مذكراتهم.

([52]) كلمة (ديالكتيك) مأخوذة من الكلمة اليونانية (دياليغو) ومعناها المحادثة، أو المجادلة والمناظرة.

ثم صارت مصطلحاً علمياً عند فلاسفة الإغريق، يدلّ على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، سواءٌ منهم من أخضع ذلك لعلل وقوى خارجة عن الكون، أو تصور أنها ناتجة عن دوافع ذاتية كامنة في ضمن هذه الأشياء، كأن عناصر الكون تتجادل فيما بينها في حركة دائمة.

والديالكتيك عند سقراط هو الأسلوب الجدلي بين فريقين متعارضين متناظرين في موضوع ما.

واستغله أفلاطونأسلوباً للوصول إلى الحقيقة، من خلال بيانين متعارضين، يكشف كلٌّ منهما ما يراه في الآخر محلاً لتوجيه النقد إليه، أو الاعتراض عليه.

وارتقت المجادلة أو المناظرة عند المسلمين فصارت لها أصول وقواعد وآداب، واقتصرت على ما يكون بين فريقين يتجادلان ويتناظران حول موضوع ما.

ثم جاء الفيلسوف الألماني (هيجل) فأخذ كلمة (ديالكتيك) وفق مصطلح فلاسفة الإغريق الدالة فيه على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، وقام في ذهنه تصور خاص لهذه الحركة الدائمة في الكون، حتى ظن هذا التصور قانوناً ثابتاً، تخضع له العمليات المنطقية الفكرية، وعلميات الكون، وحركة التاريخ الإنساني، لكنه اعتبر هذا القانون نظاماً للقوة الغيبية غير المادية، المهيمنة على الكون والمتصرفة فيه.

([53]) قد تختلف الألفاظ المعبرة عن هذه المراحل عن المعرفين بجدلية (هيجل) مثل التعبير التالي : (الوضع، ونفيه، ومؤتلف الوضع ونفيه)

([54]) من الأصول العقلية البدهية المقررة لدى الفلاسفة والمناطقة وسائر العقلاء والمفكرين أن النقيضين كالوجود والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما مستحيل عقلاً. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل عقلاً.. فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.. ولا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.

أما الضدان كالأبيض والأسود، فلا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في وقت واحد.. لكن الضدين قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود معاً في وقت واحد،إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان.

ومن الملاحظ أن الجدلية قد نسفت هذا الأصل العقلي المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.

وفي ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل لبني الإنسان، على أمر باطل واضح البطلان.

إن اللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.

ولكن الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.

وقد يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم عنه الظواهر الضوئية والحركية، لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.

إن السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود، فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها ليست بكهرباء.

أما السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.

فالموجب والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.

إن القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها. (انظر: كواشف زيوف، لحبنكة)

([55]) استشهد (برنال) بنظرية الرغبات المكبوتة لفرويد في رد هذا الديالكتيك، فقال : إننا نجد الدول الديالكتيكية أبعد ما تكون عن الحتمية فيها، فالغريزة هي الطريحة والكبت هو النقيضة والتسامي هو الجميعة، ثم يقول برنال : هذا جميل، ولكن افرض أن المريض أصيب بالجنون بدلاً عن كونه قد استطاع أن يتسامى. افرض أنه قتل نفسه، أين تكون إذن هذه المواءمة بين الأضداد بين الجميعة؟! أين يكون التقدم من الأدنى إلى الأعلى في هذه الحالة ؟! (انظر: كواشف زيوف، لحبنكة)

([56]) سبق التعريف به.. وسنتحدث بتفصيل عن الرد على جدليته في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([57]) ذكرنا هنا بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن العقل.. والتي سنحاول استنباط المعاني الواردة فيها في هذا البحث.. ولا يخفى وجه الرمزية فيما نذكره هنا.

([58]) أشير به إلى العلامة الجليل آية الله محمد تقي الدين المدرسي، والذي استفدنا من كتبه المتخصصة في هذا المجال كثيرا في هذا الفصل.

([59]) ذكر المدرسي أن بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذكر أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء، قال: فقلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ فالعلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.

([60]) سنرى الرد المفصل على هذه الشبهة في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([61]) ما نذكره هنا مستفاد بتصرف من رسالة (مشكاة الأنوار) لأبي حامد الغزالي.

([62])انظر في هذا مقالا بعنوان (معايير العقلاء)، أ.د. جعفر شيخ إدريس رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.

([63]) هذه مقدمة (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية) لابن حزم، تحقيق: إحسان عباس (بتصرف).. وقد ذكرناها لما فيها من الأدلة على شرعية تعلم هذا العلم ووجه الحاجة إليه.

 

([64]) ما نذكره هنا من التعليلات للمدرسي وليس لابن حزم كما هو ظاهر.

([65]) انظر رسالة (أسرار الأقدار) من (رسائل السلام) عند الكلام عن الحسن والقبح.

([66]) رواه البخاري ومسلم.

([67])مقدمة المستصفي:1/10.

([68]) هذه الموازين الثلاثة المشكلة لميزان التعادل تشبه ما يعبر عنه في المنطق  ‏بأشكال قياس أرسطو الاقتراني الثلاثة.

([69]) وهذا الميزان هو المسمى في المنطق بالقياس ‏الشرطي المتصل.

([70]) هذا هو السؤال الذي بدأ به ابن تيمية كتابه في نقض المنطق، وما نذكره من جواب ابن تيمية هو ملخص مختصر ومتصرف فيه لجوابه.

([71]) ذكر ابن تيمية أن المحققين من النظار لا يذهبون إلى هذا، بل هم يذهبون إلى أن فائدة الحد التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته.. وقد ذهب إلى هذا (جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم، فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره.. وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم)

وإنما ذهب إلى هذا أهل المنطق اليونانيون أتباع أرسطو ؛ ومن سلك سبيلهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم. (انظر: مجموع الفتاوى)

([72])استفدنا من بعض المادة العلمية هنا من مقال بعنوان (شبهة سبق الغرب للمسلمين في وضع مناهج البحث العلمي)، للأستاذ عبد الرحيم الشريف، من موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)

([73])المنطق الحديث ومناهج البحث د. محمود قاسم ص 38.

([74]) (شمس الله تسطع على الغرب) ص 401 – ترجمة فاروق بيضون – دار الجيل – بيروت –

([75])وإن كان هذا الإنصاف منه مقدمة لما يريد أن يصل إليه من إقناعٍ للقارئ بتفوق الجنس الآراي واليوناني على غيره.

([76])مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي فرانتز روزنتال ص 15.

([77]) أشير به إلى محمد بن الحسن بن الهيثم، وهو مهندس من أهل البصرة ولد عام 354 هـ سكن في مصر واستوطن فيها على باب الجامع الأزهر فانقطع للتصنيف والإفادة إلى أن توفي عام 430 هـ له تصانيف في الهندسة وترجمت بعض مصنفاته إلى الألمانية مثل كيفية الإظلال والمرايا المحرقة.. انظر الأعلام 3/ 83، 84.

([78]) انظر: مناهج البحث في العلوم الإسلامية مصطفى حلمي ص 76 .

([79]) سنرى الرد المفصل على هذه الشبهة في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([80]) هذا بحسب ما وصل إلينا لا بحسب حقيقة الحال، لأن ما وصل إلينا من تراث المدارس القديمة لا يمكن الجزم بصحته.. فقد يكون التحريف أو الدس قد دخله.

([81])رواه الطبري والقضاعي في مسند الشهاب والطبراني في المعجم الأوسط، وقال الهيثمي في المجمع (10/268): إسناده حسن.

([82])البخاري ومسلم.

([83]) ما نذكره من حقيقة العلم اللدني والاستدلال له مستفاد من مراجع مختلفة للغزالي منها (الإحياء)، و(كيمياء السعادة)، و(معارج القدس في معرفة النفس)