الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: سلام للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

رابعا ـ النفس

الصراع

السلام

القرآن

السنة

العقل

الحكمة

الطب

السياسة

التربية

 

رابعا ـ النفس

في اليوم الرابع، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. لا لتتألموا ببعض ما أصابني من آلام.. ولكن لتعلموا من نحن.. ومن هي النفوس التي كنا نهتدي بهديها، ونتحرك تحت أوامرها، ونصارع كل شيء من أجل تلبية شهواتها.

لقد كان اسمي في تلك الأيام (سارتر)[1] لا شك أنكم تعرفونه.. إنه اسم ذلك الرجل الذي ارتبط بما يسمونها (الوجودية)[2].. نعم.. هي تلك التي تختصر الوجود في الإنسان.. وأحيانا كثيرة في شهوات الإنسان.

كنت كما كان سائر أساتذتي: (سُورِين كيركيجارد) ذلك الفيلسوف الدنماركي اللاهوتي البروتستانتي الذي يُعدّه أصحابنا مؤسس حركتنا، و(فريدريك نيتشه)، الذي لا شك أنكم تعرفونه، ذلك الذي صاح بموت الإله.

وكنت كما كان سائر أصدقائي من المفكرين الوجوديين كألبير كامو، وجابرييل مارسيل، وكارل ياسبر، ومارتين هايدجر، ونيقولاس بيردييف، ومارتن بوبر.

كنت كهؤلاء جميعا أصيح في داخلي بموت الإله، وكل القيم، وكل المبادئ، وكل الأخلاق.. وكل ما يمنع النفس الممتلئة بالشهوات، ويقف في طريقها.

لقد كنت كمن امتلأت بطنه، فراحت تزاحم دماغه وقلبه.. وتريد أن تحرمهما من الوجود..

هكذا كنت.. وهذه هي صورتي الكاريكاتورية.. أو هي صورتي الحقيقية.. فأنا لم أكن إلا بطنا مليئا بأصناف اللعب والشهوات..

نعم.. أنا ذلك الرجل.. وتلك هي حقيقتي.. ولكني لن أحدثكم عن نفسي.. فلا شك أنكم تعرفون الكثير عني.. أنا أريد أن أحدثكم عن سر رحلتي إلى هذه البلاد.

لعلكم لا تصدقون أنني ـ أنا سارتر ـ جئت إلى هذه البلاد بحثا عن المحاسبي[3].. لقد وجدت في المحاسبي الماء الذي كنت أبحث عنه.. أو كانت نفسي وجميع لطائفي تبحث عنه..

قلنا: فمن أين تبدأ قصتك؟

قال: بعد أن تشربت كل تلك المبادئ، وامتلأ عقلي بذلك التمرد الذي أوحته إليه نفسي، قررت أن أصير أستاذا لألقن الأجيال ما كنت قد لقنته، واقتنعت به، وسرت حياتي جميعا على هديه.

 لقد كنت أصيح في تلاميذي بكل صوتي: ليس الوجود إلا أنتم.. ولولا أنتم لما كان هناك أي وجود.

وكنت أقول لهم: الإِنسان أقدم شيء في الوجود.. وما قبله كان عدماً.. وما بعده سيكون عدما..

وكنت أقول لهم: لقد عجزت كل الأديان والنظريات الفلسفية أن تحل مشكلة الإِنسان.. لأنها كانت تبحث عن اللاإنسان.

وكنت أقول لهم: أعيدوا الكلي لذواتكم بكل حرية.. فلا يحق لأحد مهما كان ـ حتى لو كان الله نفسه لو فرضنا وجوده[4] ـ أن يتحكم فيكم.

وكنت أقول لهم: أثبتوا وجودكم كما تشاءون، وبأي وجه تريدون، دون أن تراعوا أي قيد، مهما كان ذلك القيد.. فالقيد ليس إلا قيدا.

وكنت أقول لهم: اطرحوا عنكم جلابيب الماضي.. وتنكروا لكل القيود.. دينية كانت أم اجتماعية أم فلسفية أم منطقية.. فلا ينبغي أن تؤمنوا بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه.. إنما كل إنسان يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قيماً أو أخلاقاً معينة على الآخرين.

وكنت أقول لكل من يجادل من تلاميذي فيما أطرحه من أفكار: انطلق أيها الأحمق الغبي في عمل ما تريد أو تشتهي وتهوى، مهما كان ذلك في اعتبار الناس شراً، دون أن يكون لأحد عليك سلطان، فأنت الذي تصنع فكرة الخير حسب مزاجك، وأنت الذي تصنع فكرة الشر، وأنت الذي تخلق فكرة الحق وفكرة الباطل، وأنت الذي تخلق فكرة الحسن وفكرة القبيح.

كنت أقول لهم هذا وغير هذا.. إلى أن امتلأوا بهذه الخرافات التي ملأت العالم صراعا.

قلنا: فما كانت نتيجة هذه الدروس التي لقنتها لتلاميذك؟

قال: سأذكر لكم بعض المآسي التي رأيتها في تلاميذي.. وقد كانت هي السبب الذي جرني إلى الانتحار.. ولولا أن قيض الله المحاسبي لإنقاذي لكنت الآن في عداد الموتى.

 

الصراع

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق.. لم نشأ أن نفسده عليه.. قال بعده:  لقد كنت أسير مرة في بعض بلادنا.. وهناك رأيت تلميذا من تلاميذي يخاصم امرأة يظهر عليها الفقر والحاجة مخاصمة شديدة، ثم يستولي على ما بقي لها من مال، بل يطلب منها بعد ذلك أن تمضي له على بعض الأوراق..

وقد أثر في ذلك المنظر، فأسرعت إلى ذلك التلميذ الذي ما إن رآني حتى أسرع إلي يصافحني بكل حرارة، وكأنه لم يحصل منه أمام عيني ما حصل من القسوة والشدة.

سألته: ما خبر هذه المرأة، وما علاقتك بها.. أراك تخاصمها بشدة؟

قال:  لا.. بل هي التي تخاصمني بشدة.. لقد كنت أقرضتها قبل فترة بعض المال.. بفائدة كما تعلم.. وأنا الآن آتي كل حين لآخذ منها من الفوائد ما استحققته عليها.. وهي دون الناس تماطلني كل حين.. وتتعامل معي كما رأيت.

قلت: ألا ترى حالها.. إن حالها على ما يبدو شديد؟

قال:  لا يهمني حالها.. يمكنها أن تعمل أشياء كثيرة لتسدد ما عليها من حقوق.

قلت: ولكني أعلم أنك سليل أسرة غنية!؟

قال:  أجل.. ولولا ذلك ما كان لي هذا المال الذي أقرضته إياها كما أقرضت غيرها.

قلت: ألا يمكن أن تسامحها فيما وجب عليها من حقك؟

قال:  مقابل ماذا؟

قلت: ما تقصد؟

قال:  لقد تعلمنا من مدرستك أن لا نعطي من غير أن نأخذ.. فما الذي تريدني أن آخذ منها؟

لم أجد ما أجيبه به.. فقال: أنت تعلم ـ يا أستاذ ـ أني من تلاميذك النجباء.. وأنا ممنون لك بثروة كبيرة من المال كنت أنت سببها.. بل لولاك لضاعت مني الثروة التي ورثتها.

قلت: كيف؟

قال:  لقد كنت صاحب قلب رقيق.. وقد تعلمت منك أن الرقة لا تتناسب مع الاقتصاد.. فلذلك تخلصت منها كما يتخلص المرء من الداء القاتل.. وكان تخلصي منها بركة على مالي، فقد نما كما نما مال قومي..

***

في ذلك المساء قدر الله أن أشغل التلفاز، لأتفرج على قناة من قنواتنا المحترمة المختصة بالأخبار، وقد فوجئت إذ رأيت نفس ذلك التلميذ يصرف أموالا ضخمة على مشاريع سمتها تلك القناة (مشاريع خيرية).. لقد امتلأت من العجب من ذلك الخبر.. ولكني عجبي زال عندما رأيته يظهر على التلفاز، وهو ممتلئ فخرا وكبرا ورياء ليعرف بنفسه، وبشركاته وخدماته التي يقدمها للبشرية.

***

في يوم آخر رأيت إعلانا بأن بعض تلاميذي يريد أن يقدم محاضرة في بعض النوادي العلمية، فسرني ذلك، وأسرعت أحجز لي مكانا في قاعة المحاضرات.. وقد فوجئت بأن موضوع المحاضرة كان حول ما يطلق عليه قومنا (الجنسية المثلية) Homosexuality، ويريدون به الميل الجنسي إلى الجنس المماثل.

وقد أطنب هذا التلميذ في مبررات هذا النوع من الانحراف حتى اعتبره الأصل والفطرة التي لا تستقيم الحياة إلا بمراعاتها.

بعد انتهاء المحاضرة دعينا إلى احتفال في ذلك النادي العلمي، وقد ملأني ذلك الحفل بالتقزز والغثاء.. فقد رأيت فيه من ألوان البهيمية والشذوذ ما تنفر منه النفوس.

لست أدري كيف خطر على بالي أن أقترب من جماعة من ضيوف ذلك الحفل ممن كان يبدو عليهم الوقار.. ومما سمعته من حديثهم:

قال أحدهم: من العجب أن أولئك الهمجيين من المسلمين ينكرون علينا هذا السلوك ويعتبروننا منحرفين عن الفطرة.

قال آخر: عن أي فطرة يتحدثون؟.. هل اطلعوا على البرنامج الذي جبل عليه كل البشر حتى يمكنهم ادعاء مثل هذه الدعاوى العريضة؟

قال آخر: لعلهم لم يسمعوا ما ذكر سيدنا فرويد من أن الفرد يمر بمرحلتين: الأولى حب نفس الجنس، والثانية حب الجنس الآخر أو المغاير.. وقد ذكر أن مكونات حب الجنس الآخر لدى المثلي تكون ضعيفة مقارنة بمكونات حب نفس الجنس القوية لديه مما يدفعه إلى الانسجام وممارسة الحب مع نفس الجنس.

قال آخر: ولعلهم لم يسمعوا بأن بعض علمائنا الكبار اكتشف أن دماغ الرجال المثليين تكون المنطقة الأمامية فيه Anterior Commissure أكبر من مثيلتها في الرجال غير المثليين، وهذا قد يكون ناتجاً عن زيادة هرمون الذكورة Androgen في دم الأم في فترة الحمل.

قال آخر: بما أن القرد الشمبانزي أقرب الحيوانات من الناحية البيولوجية للإنسان ويشترك معه في 98% من الجينات، فقد أجرى العلماء تجاربهم على الشمبانزي واكتشفوا أن الشمبانزي (بونوبوس) Bonobos ينشغل في بعض الأحيان بسلوك جنسي مثلي بين الذكور، ربما لتوطيد الانتماءات الفريقية، أي ليكوّن عدة ذكور فريقاً واحداً ضد الذكور الآخرين.

واكتشفوا ـ أيضا ـ بأن هناك نسبة بسيطة من الخراف تكون مثلية مائة بالمائة ولا تقترب من النعاج أبداً.

ولهذا، فإن الشذوذ الجنسي ليس منبعثاً عن ظروف اجتماعية، لأن الشمبانزي والخراف تتصرف حسب الطبيعة ولا تتحكم فيها الموانع الاجتماعية Social Inhibitions مثل الإنسان. وإذا كان هذا صحيحاً فلا بد أن يكون الشذوذ الجنسي موروثاً عن طريق الجينات.

قال آخر: لقد قام العالمان (وارد أودينولد) و(شانق دنق زانق) من المعهد القومي للصحة، في ولاية ماريلاند الأمريكية، بدراسة ذبابة الفاكهة Fruit Fly التي تتوالد مرة كل أسبوعين. فعزلا جيناً واحداً اعتقدا أنه المسؤول عن السلوك الجنسي في الذبابة وحقنا هذا الجين في ذكور الذبابة ثم وضعا الذباب ( ذكوراّ وإناثاً) في وعاء زجاجي كبير للمراقبة.

واندهش هذان العالمان عندما تبين لهما أن الذكور أصبحت تجامع بعضها البعض ولم تهتم بالإناث. ولذلك قررا أن هناك جيناً واحداً من مجموع جينات مسؤولة عن تكوين الشذوذ الجنسي في الذكور.

قال آخر: وقد درس الدكتور دين هامر وزملاؤه حالات 114 رجلاً من الذكور المثليين، ووجدوا أن نسبة الأخوان والأعمام من ناحية الأم وأبناء خالات هؤلاء الذكور تكثر فيهم نسبة الشذوذ الجنسي بنسبة أعلى بكثير من متوسط الأشخاص الآخرين.

وتابعوا شجرة العائلة في هؤلاء الرجال ووجدوا أن بعضهم لديهم أجداد مثليون سبقوهم بثلاث أو أربعة أجيال Generations. وكل الأجداد المثليين كانوا من جانب الأم.

فاستنتج هؤلاء العلماء أن الجين المسؤول عن الشذوذ الجنسي لا بد أن يكون في الكروموسوم اكس Chromosome X وهو كرموسوم الأنوثة.

واستنتج هؤلاء العلماء أن الجين المسؤول عن الشذوذ الجنسي يوجد في النصف الأسفل من كروموسوم اكس، لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن التعرف على هذا الجين أو الجينات.

قال آخر: لقد ذكر الدكتور هامر أن الميول الجنسي للشخص أكثر تعقيداً من أن يحدده جين واحد، فقد يكون هناك أكثر من جين واحد يحدد السلوك الجنسي.

قال آخر: وأكثر دلالة من هذا، فقد درس الدكتور هامر أربعين زوجا من الأخوان المثليين ووجد أن ثلاثة وثلاثين من هؤلاء الأزواج يملكون نفس مادة ال DNA في نفس المكان من الذراع الأسفل من كروموسوم اكس.

قالوا ذلك.. ثم انصرفوا ببهيمية للشهوات الشاذة التي ظلت الأجيال تلعنها..

***

في يوم آخر سرت إلى عيادة للأمراض النفسية.. وهناك رأيت امرأة في العشرينات من عمرها كانت في يوم من الأيام تلميذة من تلميذاتي[5]..

اقتربت منها، فوجدت حالتها في غاية الانهيار.. انتظرت إلى أن تحسنت حالها، ثم رحت أسألها عن سر ما أصابها.. فأجابت ؛ والدموع تنهمر من عينيها، قالت : مشكلتي الوحيدة أنني أعيش بقلق واضطراب، ولا أدري متى سينفصل عني صديقي، ولا أستطيع مطالبته بالزواج مني، لأني أخشى من موقف يتخذه، ونُصحتُ بالعمل على إنجاب طفل منه، لعل هذا الطفل يرغبه في الزواج.. لكنه لم يفعل..

قالت ذلك، ثم أخذت تصيح بهستيرية: ها أنت تراني.. لا ينقصني الجمال.. ولا المال.. ومع هذا وذاك فأنا أبذل كل السبل ؛ من تقديم خدمات.. وإنفاق أموال.. ومع ذلك لم أنجح في إقناعه بالزواج..

التفتت إلي، وقالت: هذا سر مرضي، وسبب قهري.. إنني أشعر بأنني وحدي في هذا المجتمع، فليس لي زوج يساعدني على أعباء الحياة، ولي أهل ولكن وجودهم وعدمهم سواء، وليتني بقيت بدون طفل لأنني لا أريد أن يتعذب ويشقى في هذه الحياة كما تعذبت وشقيت..

***

في يوم آخر مررت على مركز من مراكز الأمن.. وهناك رأيت الكثير من تلاميذي يساقون بشدة من طرف بعض الشرطة[6]..

لم ألتفت إلى في البداية لذلك.. فقد كان هذا من الأمور العادية.. لكن بعض تلاميذي راح يصيح بقوة في الشرطة: أسرعوا.. وخذوا ذلك الرجل.. فإنه رئيس عصابتنا.. إنه قائدنا الروحي الذي استلهمنا منه جميع ما سلكناه من سلوك.

أسرعت الشرطة إلي، واقتادتني معهم..

حاولت بكل الطرق أن أتملص من أيديهم.. فلم أستطع..

استدعيت محامي الخاص.. فجاء.. ومعه دفاتير القوانين التي تتيح له أن يخلصني من القيود التي يريد تلاميذي أن يغلوني بها.

جلس المحامي مع المحقق، ورحت أسمع من حديثهما ما ندى له جبيني:

قال المحامي: بأي قانون سقتم موكلي مع المجرمين.

قال المحقق: نحن نبحث منذ فترة عن عصابة خطيرة ليس لها من دور إلا انتهاك الأعراض.. فهي تتحرش بالنساء.. وتغتصبهن.. وتبيعهن.

لقد كشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن 80 بالمائة من ضابطات الشرطة، أي بنسبة أربعة إلى خمسة، يتعرضن للمضايقات الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية.

لقد شارك في الاستطلاع 1800 ضابطة في عشر مديريات أمن في إنكلترا وويلز، وأشرفت عليه الدكتورة (جنيفر بروان) وهي باحثة اجتماعية في الوحدة الملحقة في مديرية أمن (نيوهامبشاير)

ألا ترى ـ حضرة المحامي ـ أنها نسبة مفزعة؟.. تصور أربعة أخماس الشرطيات ـ عفوا ضابطات الشرطة ـ يتعرضن للمضايقات الجنسية.. ومتى ؟ خلال نوبات العمل الرسمية.. خلال العمل على حفظ الأمن[7]!

قال المحامي: ولكن..

قاطعه المحقق بقوة قائلا: هذا في حق حاميات الأمن.. أما في حق الساهرات على مصلحة المرضى فهناك أفعال يندى لها الجبين.

لقد أشارت دراسة صدرت عن جمعية علم النفس البريطانية إلى أن 60  بالمائة من الممرضات اللاتي تم استطلاع آرائهن قد عانين من التحرش الجنسي من مرضاهن الرجال.

وأوضحت الدراسة أن أشكال التحرش الجنسي تمثلت في ممازحات صفيقة، واقتراحات تتضمن الدعوة إلى ممارسة الجنس، بالإضافة إلى الملامسة الجسدية مباشرة، واتضح أن معظم الممرضات يعانين في صمت، ويفضلن عدم الإبلاغ عن تلك الحوادث بنسبة 76 بالمائة.

وقد دعت الباحثة النفسية البريطانية سارة فينيز خلال مؤتمر لجمعية علم النفس البريطانية عقد في لندن إلى ضرورة صياغة توجيهات ولوائح داخلية تلزم الممرضة بالإبلاغ عن جميع حالات التحرش الجنسي التي تعاني منها خلال العمل، على أمل أن يؤدي ذلك إلى الحد من تلك الظاهرة المسيئة لمهنة التمريض ومؤامرة الصمت التي تحيط بها.

وقد أشارت الدراسة إلى أن الرجال (المرضى) لا يتورعون عن الإتيان بأفعال يندى لها الجبين خلال قيام الممرضات بمساعدتهم [8]..

التفت إلي، وقال: انظر.. لا اقتراب الموت، ولا أجواء المستشفى ؛ ولا كل تلك القوانين الصارمة استطاعت أن تمنع هؤلاء المرضى من القيام بتلك الأفعال التي وصفتها الدراسة بـ ( يندى لها الجبين)

نظر إلى المحامي، وقال: ليس التحرش وحده هو الذي تتعرض له نساؤنا المسكينات من أصحاب النفوس الشرهة.

هناك ما هو أخطر من ذلك.. هناك الاغتصاب..

لقد أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح يبلغ 1.3 امرأة بالغة في الدقيقة الواحدة ؛ أي 68000 امرأة في العام.

وأضاف المركز أن واحدة من كل ثماني بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمالي من اغتصبن اثني عشر مليونا ومائة ألف امرأة على الأقل.

ويشير المسح إلى أن 61  بالمائة من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن 18 عاماً، وأن 29  بالمائة من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن 11 عاما.

وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة 59  بالمائة [9].

وتقول دراسة أمريكية: إن جرائم الاغتصاب شأن هجمات واعتداءات الغرباء، تنخفض خلال الشتاء ؛ لأن الناس لا يخرجون كثيراً.. وبالتالي فإن فرص الالتقاء تكون أقل.

قال المحامي: لكن..

قاطعه المحقق، وقال: ليس ذلك فقط.. هناك ما هو أخطر من ذلك.. هناك استغلال المرأة في التجارة الجسدية..

لقد استغلت المرأة جسدياً حتى ظهر ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض.. وقد بلغت أرباحها بالملايين.

قبل أيام ألقت الشرطة التشيكية القبض على أربعة رجال وامرأة كانوا يشكلون عصابة لاستدراج الفتيات التشيكيات إلى الغرب عن طريق وعدهن بالعمل في الغناء والرقص في النوادي الليلية مقابل رواتب مغرية فيما كان الهدف من ذلك إجبارهن على ممارسة الدعارة أو المشاركة في تمثيل أفلام جنسية.

وذكرت بلانكا كوسينوفا المتحدثة الصحافية باسم رئاسة الشرطة التشيكية أن العصابة استدرجت 25 فتاة تشيكية، وأن أحد أفرادها أجنبي من دولة من جنوب شرق أوروبا غير أنه انتحر قبل إلقاء الشرطة القبض عليه، أما زعيم العصابة فألقت الإنتربول القبض عليه في برشلونه وسيسلم إلى القضاء التشيكي لاحقا.

ورغم هذا النجاح للشرطة التشيكية إلا أن ظاهرة استدراج أو تصدير الفتيات من تشيكيا ومن دول أوروبا الشرقية الأخرى بمختلف الأساليب لا تزال تعتبر من الظواهر المقلقة التي تعيشها هذه الدول منذ سقوط الأنظمة الشيوعية فيها، وما أعقب ذلك من تراجع مستويات المعيشة وسهولة الانتقال عبر الحدود واللهث وراء المال بأي ثمن كان.

ويؤكد تقرير حديث لمنظمة الهجرة الدولية أنه يجري سنويا بيع نصف مليون امرأة إلى شبكات الدعارة في العالم، وأن النساء من دول أوروبا الشرقية يشكلن ثلثي هذا العدد، أما أعمارهن فتتراوح بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين

وتعترف منظمة الشرطة الأوروبية (أوروبول) بأن تجارة الرقيق الأبيض منظمة بشكل جيد.. أما المنظمات غير الحكومية المهتمة بهذه المسألة وبعض الأجهزة الأمنية في أوروبا الشرقية فتؤكد أن الكثير من النساء يقعن في فخ الاستدراج الذي يجري عادة عن طريق نشر إعلانات مكثفة في مختلف الصحف في دول أوروبا الشرقية عن الحاجة إلى مربيات أو نادلات في المطاعم أو مغنيات أو راقصات أو عارضات أزياء للعمل في الغرب أو في بعض الدول البلقانية بعروض مغرية.. وبعد وصول الفتيات إلى (أماكن العمل) تصادر جوازات سفرهن ويحتجزن لعدة أسابيع يتعرضن خلالها للإهانات والتعذيب، ثم يجبرن على ممارسة الجنس مع كثير من الرجال إلى أن يروضن تماماً، ثم يبيعهن القوادون إلى عصابات مختلفة، الأمر الذي يجعل عودتهن إلى بلدانهن أو الوصول إلى الشرطة صعبا.

وتؤكد العديد من المصادر المتابعة لتجارة الرقيق الأبيض في أوروبا أن العديد من الدول والمناطق في البلقان غدت مفترق طرق بالنسبة للكثير من النساء، ولاسيما اللواتي يستدرجن من جمهوريات رابطة الدول المستقلة كأوكرانيا أوملدوفيا وروسيا البيضاء، فالنساء الأكثر جمالاً يرسلن إلى أوروبا الغربية ولاسيما إلى المانيا وفرنسا وإيطاليا، في حين أن الأقل جمالا وجاذبية يرسلن إلى تركيا واليونان والشرق الأوسط.

ويؤكد الكسندر لوناس الجنرال في الشرطة الرومانية الذي يترأس المركز الإقليمي لمكافحة الجريمة المنظمة أن مدينة برتشكو الواقعة في البوسنه والهرسك واقليم كوسوفو أصبحا من المعاقل الرئيسية لتجارة الرقيق الابيض، وأن أغلب الفتيات اللواتي يجري الاتجار بأجسادهن تتراوح أعمارهن بين 18-24 عاماً.

وكمثال حي على الطريقة التي تتبع للاستدراج يورد الجنرال قصة بطلة ملدوفيا السابقة في القفز (سفيتلانا) البالغة من العمر 28 عاما التي استجابت لإعلان نشر في إحدى صحف بلادها طلب فتيات للعمل في يوغوسلافيا السابقة في جني الخضار وبدلا من أن تمارس بهذا العمل انتهى مطاف هذه الفتاة الشقراء القادمة من كوسوفو في مكان قريب من الحدود مع ألبانيا وهناك باعها واشتراها ستة من أصحاب بيوت الدعارة وعندما تمردت على ذلك دفعت ثمنا كان سبعة كسور في أضلاعها ثم نقلت بعد ذلك ومن المستشفى مباشرة إلى منزل معاون النائب العام السابق في جمهورية الجبل الأسود زوران، غير أن الأخير لم يساعدها لأنه هو نفسه كان ينظم حفلات الجنس الصاخبة لمسؤولين كبار في هذه الجمهورية البلقانية الصغيرة ولم تتمكن من الهرب إلا بعد إلقاء القبض عليه وسجنه.

وفي دليل على الحجم الخطير الذي وصلت إليه هذه التجارة يقول تقرير حديث للمجلس الأوروبي إن أرباح القوادين ومجموعات المافيا التي تعمل في هذا المجال في دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت في الأعوام العشرة الماضية بنسبة 400 بالمائة وإن شبكات الدعارة هذه تعرض الآن نصف مليون امرأة للبيع، يبلغ الدخل الذي تحققه النساء فيها للقوادين ومزوري الوثائق ومهربي البشر وغيرهم 13 مليار يورو سنويا.

وصدر عن منظمة الهجرة العالمية عام 1997 أن نحو 175 ألف امرأة تم الاتجار بهن عبر البلقان استقدمن من آسيا الوسطى إلى دول الاتحاد الأوروبي. 1000 ألف امرأة ألبانية وقعن فريسة لهذه التجارة.

و أكد خبراء في الأمم المتحدة، أن تجارة الرقيق الأبيض، أصبحت تحتل المركز الثالث عالمياً، بين النشاطات غير المشروعة.

وجاء في ندوة عقدها مسؤولون من مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات في البرازيل، وشارك فيها خبراء دوليون، ومسؤولون من الإنتربول، وشرطة اسكوتلانديارد، أن هذه التجارة تحقق عوائد بلغت أكثر من سبعة مليارات من الدولارات في العام الواحد، ويبلغ عدد ضحاياها أكثر من أربعة ملايين شخص، يهاجرون من بلادهم بصورة غير مشروعة سنوياً، الأمر الذي دفع وزير العدل البرازيلي إلى وصف الدعارة بأنها (مرض العصر)

بعد أن انتهى المحقق من سرده لهذه الإحصائيات والدراسات التفت إلى المحامي، وقال: ألا ترى الجرائم العظيمة التي وقع فيها موكلك؟

قال المحامي: أنا لم أرك تسند له أي جريمة.. لم أرك إلا تذكر الدراسات المختلفة التي تشير إلى ازدياد معدلات الجريمة.

قال المحقق: لقد ثبت بالأدلة القطعية أن موكلك ضليع بكل الجرائم التي وقعت.

اهتز المحامي، والتفت إلي، وقال: لعلك أخطأت حضرة المحقق.. هذا أستاذ جامعي محترم.. له مؤلفات.. وله تلاميذ كبار..

قاطعه المحقق، وقال: تلاميذه الكبار هم الذين ساقوه إلى هذا المحل.. لقد رأينا من خلال دراسة إحصائية لجميع الجرائم أن لموكلك ضلع فيها.. فالقائمون بها إما تلاميذه المباشرون.. وإما تلاميذه غير المباشرين.

قال المحامي: غير المباشرين!؟

قال المحقق: أجل.. هم الذين تتلمذوا على كتبه وأفكاره.. لقد كان موكلك هو الأب الروحي لكل هذه العصابات.. ولذلك فإن من العدالة أن يزج به في السجن الذي يزج إليه المجرمون.

قال ذلك، ثم نادى بصوت عال: ليدخل الشاهد الأول.

دخل بعض تلاميذي، فسأله المحقق عن علاقته بي، فقال: يؤسفني حضرة المحقق أن أخبرك بأن هذا الأستاذ هو الذي جرني إلى ارتكاب هذه الجرائم.

قال المحقق: كيف ذلك؟

قال: لقد قدمت الجامعة التي يدرس فيها بنفس مملوءة بالطهر.. كنت أسكن في الريف.. وكنت أحرص الناس على الأعراض.. لكن هذا الرجل الذي يقف أمامك بقي يلقي في روعي كل حين بأنه لا وجود لشيء اسمه الطهارة.. بل إن الطهارة لا تؤدي إلا إلى الكبت.. والكبت هو أم العقد.. وأم الخطايا.

وتعلمت على يده أن الغاية تبرر الوسيلة..

وبنيت من هذه التعاليم جميعا فلسفة حياتي ودستورها..

وتلك الفلسفة وذلك الدستور هو الذي قادني إلى هنا.

بعد أن أدلى هذا التلميذ بشهادته، استدعي المحقق تلميذا ثانيا وثالثا ورابعا.. وهكذا بقيت طيلة اليوم أسمع تلاميذي المجرمين.. وأرى الجرائم التي ارتكبوها على ضوء التعاليم التي لقنتهم إياها.

بعد أن انتهى الشهود.. ابتسم المحامي، وقال: ومع ذلك كله.. فإن القانون ـ حضرة المحقق ـ يقف في صف موكلي.. وكل هذه الدفاتر التي معي تقول ذلك..

قال ذلك، ثم فتح دفاتره.. وراح يسرد القوانين التي تبرئني وتبرئ أمثالي من الأساتذة والمفكرين والزعماء الروحيين للعصابات والمجرمين..

لم يجد المحقق ما يقول، فلذلك أمر بإطلاق سراحي.. وهو ينظر إلي نظرة ممتلئة بالحقد.. وكان زملاؤه وزميلاته من الشرطة ينظرون إلي نفس النظرة.. وكأنهم يرون المجرم الأكبر يطلق سراحه بينما يزف بالمجرمين الصغار ظلمات السجون.

***

في يوم آخر سرت إلى مستشفى كبير لعيادة بعض أقاربي المرضى.. وهناك حصل ما حصل في اليوم السابق..

قلنا: كيف ذلك.. هل اتهمك المرضى بأنك سبب أدوائهم؟

قال: أجل.. لقد صاح في الكثير.. بعضهم كان مريضا بالسيلان.. وبعضهم كان مريضا بالزهري.. وبعضهم كان مريضا بالسفلس.. وبعضهم كان مريضا بأنواع السرطان المختلفة.. وبعضهم كان مريضا بالأيدز..

قلنا: وما علاقتك أنت بهذه الأمراض؟

قال: سأحدثكم بما حصل.. وستكتشفون علاقتي بها.

أصخنا أسماعنا إليه، فراح يقول: بمجرد دخولي المستشفى.. وبعد أن صاح في المرضى بما ذكرت لك قبضت علي يد شديدة، وأدخلتني قاعة لا تختلف عن قاعة التحقيقات.. ولكني لم أر فيها أحدا من الشرطة.

قال لي الجالس على مكتبها: اسمح لنا حضرة البروفيسور أن نوجه إليك تهمة خطيرة.. ربما لم توجه في جميع التاريخ لغيرك.

قلت: ائذنوا لي أن أستدعيي المحامي الذي يتولى الدفاع عني.

قال: لن تحتاج إليه..

قلت: كيف.. إن القوانين الديمقراطية لا تسمح لكم بتوجيه الاتهامات دون حضور المحامين.

قال: نحن نعلم ما سيقوله المحامي.. ونحن نعلم ما تقوله القوانين.. ولذلك لن تحتاج للمحامي.

قلت: فلن أخضع للحكم إذن.

قال: أنت حر في ذلك.. نحن لن نحاكمك لنسجنك في سجوننا.. فليس لدينا سجون.. ولكنا نحاكمك لضميرك.. لتسجن في سجون نفسك.

قلت: ما فعلت حتى أسجن في سجن ضميري.

قام أحدهم، وقال: أنا الدكتور (برك جونز).. أقف أمامك لأخبرك.. أو لأخبر ضميرك بأن خمسين مليون شخص يصابون بمرض السفلس كل عام [10].

وقد بلغ عدد المصابين المسجلين رسمياً لعام (1998م) ـ حسب تقرير منظمة الصحة العالمية - حوالي خمسة ملايين شخص.. وبلغ عدد الوفيات - حسب ذات التقرير - ( 159,000 ) شخص.

قام آخر، وقال: وأنا طبيب مختص بمرض السيلان.. إن هذا المرض من أكثر الأمراض المعدية انتشاراً في الوقت الحاضر، وقد يصاب به 200-500 مليون شخص في كل عام، معظمهم في سن الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15و28 سنة.. وغالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية - مثلاً - يتراوح عدد الإصابات المسجلة رسمياً بالسيلان ما بين 4و5ملايين إصابة.

أما في البرازيل فتسجل يومياً حوالي عشرين ألف إصابة جديدة في العيادات والمستشفيات.

وفي فرنسا يقدر عدد المصابين بالسيلان سنوياً بـ 500 ألف رجل وامرأة وطفل.

وقد بلغ عدد المصابين بالسيلان لعام (1998م) حسب تقرير منظمة الصحة العالمية حوالي خمسة ملايين شخص.

أما الوفيات فيبلغ عددهم حسب ذات التقرير ثمانية آلاف شخص.

قام آخر، وقال: أنا طبيب مختص بمرض الهربس الزهري، أو القوباء التناسلية.. إن هذا المرض يحتل المرتبة الخامسة من حيث الانتشار في سلسلة الأمراض الجنسية.. وقد تضاعف عدد المصابين في العالم بهذا المرض منذ عام (1970م).. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تسجل سنوياً مليون إصابة جديدة، ويقدر عدد المصابين فيها بحوالي 25 مليون شخص.

وتشكل هذه الإصابات 15 بالمائة من مجموعة الأمراض الجنسية.. وفي اليابان يفوق عدد الإصابات الجديدة بالقوباء عدة مرات عدد الإصابات بالسيلان والسفلس.

وفي أوربا الغربية يشكل الهربس التناسلي 20 بالمائة من مجموع الأمراض المتناقلة عبر الجنس، فقد تم رصد أكثر من عشرة آلاف حالة في بريطانيا وحدها عام (1980م).

وقد ذكر الدكتور (مورس) ـ وهو أستاذ الفيروسات الطبية في كلية طب جامعة مانشستر ببريطانيا ـ أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوماً بعد يوم، وأن أكثر الإصابات به تقع بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين 15-30 سنة.. وأن هذا المرض يتناسب طردياً مع الجنس وطرق ممارسته وازدياده في المجتمع بطرق غير صحيحة، فيما يقل بالمقابل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه.

وقد انتقل المرض إلى عواصم عالمية أخرى مثل: بروكسل وأمستردام وكوبنهاجن وستوكهولم وبرلين وباريس وجنوب إفريقية)

قام آخر، وقال: أنا طبيب مختص بمرض الإيدز.. لاشك أنك لاحظت أن عدد الإصابات بوباء الإيدز منذ اكتشافه في أوائل الثمانينات حتى يومنا هذا في تصاعد مستمر ومخيف.

فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي كشف النقاب عنها في المؤتمر العالمي الخامس ضد مرض الإيدز المنعقد في مونتريال بكندا عام (1989م)، فإن عدد الإصابات بمرض الإيدز حتى عام (1985م) لم يتجاوز 70,000 إصابة.

ثم ارتفع هذا العدد ما بين عامي (1986و1988م)، ليصبح حوالي 300,000 إصابة.

ويقدر عدد الإصابات ما بين عامي (1989و1990م) ما بين 700,000 إصابة ومليون ونصف المليون إصابة.

وقد بينت منظمة الصحة العالمية بأنه إذا لم يستطع الأطباء إيجاد وسيلة فعالة للقضاء على هذا الوباء في السنوات المقبلة، فإن عدد الإصابات سيبلغ في أواخر هذا القرن خمسة ملايين إصابة.

ولكن يبدو أن توقعات منظمة الصحة العالمية عن عدد المصابين بهذا المرض كانت متواضعة جداً.. فقد بلغ عدد المصابين بالإيدز بنهاية عام (1998م) 70,930,000 إصابة (35 مليون مصاب من الذكور، و34 مليون مصاب من الإناث تقريباً)، وبلغ عدد الوفيات 2,285,000 شخص.. وذلك حسب الإحصاءات الصادرة عن المنظمة نفسها عام (1999م).

قالوا ذلك، ثم نظروا إلي بقسوة، فصحت فيهم: وما علاقتي أنا بكل هذا؟

قال الجالس على المكتب: ألست أنت الذي فتحت لهم كل الأبواب والنوافذ ليتمتعوا بما تمليه عليهم نفوسهم من شهواتهم؟

ألست أنت الذي كنت تلقنهم الأفكار التي تخلصهم من البراءة والطهر والعفاف؟

ألست أنت الذي كنت تمري بالتخلف كل من تمسك بالأخلاق والتزم بها؟

لم أجد بما أجيبهم، فقالوا جميعا: أنت مجرم، وإن برأتك جميع محاكم الدنيا.. وأنت قذر ولو اغتسلت في جميع بحارها.

قالوا ذلك، ثم انصرفوا.. وقد تركوا في نفسي خدوشا كثيرة لم تستطع الأيام أن تمحوها.

***

في يوم آخر.. ذهبت إلى البنك لأستلم أجرتي الشهرية.. وقد فوجئت إذ رأيت في رصيدي مبلغا ضخما من المال.. فسألت القائمين عمن أرسله إلي، فوجدته تلميذا من تلاميذي القدامى.. أرسله لي، وترك مكتوبا قال لي فيه: شكرا يا أستاذ.. فأنا مدين لك بثروتي الضخمة.

لست أدري كيف دب الأمل إلى نفسي.. لقد قلت لها: ها أنت ترين جدوى تعاليمك.. ها هو تلميذ من تلاميذك النجباء يعرف الوفاء.. ويتعامل به.

لكن ضميري الذي بدأت الحياة تدب إليه دعاني للبحث عن هذا التلميذ (الوفي!).. وقد اكتشفت ما ملأني ألما..

نعم.. صار لهذا التلميذ ثروة ضخمة من المال.. ولكن عندما بحثت في كيفية اكتسابه لها.. وفي كيفية إنفاقه منها وجدت ما ملأني بالتقزز.

لقد كان صاحب شركات كثيرة.. منها شركات ربا.. ومنها شركات متاجرة في الأعضاء البشرية.. ومنها شركات وهمية تصدر جميع أنواع السموم..

بالإضافة إلى قنوات منحرفة كثيرة كان يديرها.. وكانت تدر عليه مبالغ من المال لا تخطر على البال.

لكني مع كل ذلك كله قبضت المال.. وتمتعت به برهة من الزمان.. إلى أن جاء اليوم المشأوم الذي قررت فيه التخلص من الحياة.

قلنا: كيف كان ذلك؟

قلت: كنت أسير في ذلك اليوم في شارع من شواع مدينتنا العريضة.. كانت السيارات الضخمة القوية تسير بسرعة جنونية.. وفجأة حدث أمامي حدث أليم.. راح ضحيته صبي صغير تفوح عيناه بكل عطور البراءة.

عندما رأيت جثته المشوهة امتلأت ألما.. وشعرت.. ولست أدري كيف.. بأنني أحد الذين خططوا لقتل هذه البراءة..

وقد وجدت الأمر كما تصورت.. أو كما حدثتني مشاعري..

لقد قبض على الجاني.. وكان شابا مراهقا.. وكانت علاقته بي علاقة وطيدة.. فهو تلميذ كتبي وأفكاري.. وعندما سئل عن سبب سوقه بتلك السرعة قال بكل بساطة: لقد وجدت راحتي وسعادتي ومتعتي وهوى نفسي في هذا النوع من السياقة.. فلذلك رحت أرفع سرعتي إلى الحد الذي رأيتم.

قال ذلك، ثم التفت إلي، وقال: ألم تعلمنا ـ يا أستاذ ـ أن نضحي بكل شيء من أجل أن نلبي ما تطلبه نفوسنا.

صمت.. وتدخل المحامي الموكل بي ليدافع عني.. لكني قلت للمحامي: دعه يتحدث.. ودعهم يرمونني.. فأنا مجرم.. ولا يحق للمجرم أن يتلاعب بالقوانين التي تبرئه..

لكني مع قولي هذا لم أجد أحدا يقبض علي.. أو يودعني أي سجن..

كان الناس في الطرقات ينظرون إلي نظرة ازدراء واحتقار.. ويتمنون من كل قلوبهم لو يزيحوني من تلك الكراسي الكثيرة التي كنت أجلس عليها لألقن الأجيال كيف يخضعون لنفوسهم وشهواتهم ولو على حساب كل حقائق الوجود.

 

***

كان لي صديق في تلك الأيام.. كان فيزيائيا كبيرا.. كان اسمه (لويس دي برولي).. وهو الحائز على جائزة نوبل عام 1929.. كتب كتابا كأنه يخاطبني به.. كان عنوانه (الفيزياء والميكروفيزياء)..  قال فيه: ( يتطلب جسدنا المتوسع زيادة في الروح).. وقال : (هل سنستطيع الحصول على هذه الزيادة بنفس سرعة تقدم العلم؟ لاشك أن مصير البشرية متوقف على ذلك).. وقال : ( والآن في هذا الجسد الذي اتسع أكثر مما ينبغي بقيت الروح كما كانت أضأل من أن تملأه وأضعف من أن ترشده.. إن هذا الجسد المتخم ينتظر إضافة في الروح، وإن الآلة تتطلب تصوفا.. إن الإنسانية تئن، تكاد تسحقها أثقال التقدم الذي صنعته)..

عندما قرأت هذه الكلمات قررت أن أبحث عن الروح التي تردع النفس.. وكان أول ما بدأت به الكتاب المقدس.. لكني لم أجد فيه.. ولا في الكنيسة.. ولا في الأديرة إلا ما ملأني بالغثاء [11]..

ولذلك قررت أن أنتحر.

صحنا جميعا: تنتحر!؟

قال: أجل.. بعد كل هذه الآلام والصراع.. خطر على بالي أن أنتحر.. فلم يعد للحياة عندي أي معنى.

وقد قدر الله أن يكون أحد تلاميذي هو المنفذ لما خطر على بالي.. لقد كان يعمل في مستشفى من مسشفيات واشنطن الكبرى.. كان اسمه ( تيموثي كيل ).. عندما رأيته لم يكن خطر على بالي بعد أن أنتحر.. ولكني بعد أن سمعت حديثه مع بعض رفاقه خطر على بالي.. سأنقل لكم بعض ما سمعت من حوار[12].. وسأذكر لكم بعدها ما فعلت مع هذا التلميذ: 

قال أحدهم: أنا من الهند.. وقد اجتمع مؤتمر الاتحاد الدولي لجراحي المخ والأعصاب بنيودلهى من 8-13 أكتوبر 1989 م وأجمع أعضاؤه.. وكانوا أربعة آلاف طبيب على اتخاذ قرار ينص على أنه في حالات الأمراض غير القابلة للشفاء.. وفى المرحلة الأخيرة يحق للطبيب بعد مناقشة واضحة وقرار من المريض أو أقرب أقاربه أن يحد تدخله من هذا العلاج بشكله المناسب إلى قدر الإمكان لنوعية الحياة التي تقترب من نهايتها.

قال آخر: كنت معه في هذا المؤتمر، وقد نص أيضا على أنه من الواجب العناية بالمريض الذي على حافة الموت حتى النهاية.. ولكن بطريقة تسمح للمريض بالمحافظة على كرامته.

قال آخر: كنت معهم.. وكان القرار الذي وافق عليه أربعة آلاف طبيب من مختلف دول العالم على أن من حق الطبيب في إيقاف علاج المريض الذي أصبح ميئوساً من شفائه.

قال تيموثي كيل: لقد أبدعنا في بلادنا (اليوتانيجا)

قالوا: وما (اليوتانيجا)؟

قال: تستطيعون تسميتها ( القتل من أجل الرحمة ) أو ( القتل يأساً من الشفاء )

قالوا: وضح ما تريد.

قال: لو قرأتم ما نشرت مجلة (..؟)الطبية الأمريكية في مارس عام 1991 حولي لعرفتم معناها.

قالوا: فماذا كتبت عنك؟

قال: لقد رويت أنا الطبيب (تيموثي كيل) قصة المريضة (دياني) التي كانت مصابة بسرطان حاد في الدم، وقررت ألا تتناول جرعة الدواء الكيميائي المخصص لها، والتي وصفها لها الطبيب المعالج.. ونظراً لاقتناعي بأن دياني قد اتخذت بالفعل القرار الحكيم، فقد وصفت لها المحاليل الكيميائية التي ساعدتها على التخلص من حياتها.

قالوا: وصفت لها ما يقتلها.

قال: أجل.. وفى يوليو في نفس العام رفضت هيئة المحلفين إدانتي بتهمة مساعدة المريض على الانتحار.. ثم جاءت ( المبادرة 119 ) وهى استفتاء ولاية واشنطن على مشروع قانون يبيح ممارسة القتل الرحيم، ليصبح أكبر دليل على تزايد التأييد لهذه الفكرة في الولايات المتحدة.

قالوا: فهل يجد هذا تأييدا شعبيا عندكم؟

قال: أجل.. ولم يقتصر الأمر على ذلك.. ففي عام 1990 كان الطبيب المتقاعد جاك كينعوركاتاب حديث العناوين الرئيسية في الصحف عندما ساعد جانيت إدكيز، وهي سيدة مصابة بمرض عضال على الانتحار في مدينة ميتشجان باستخدام آلة الانتحار التي اخترعها.. والتي من خلالها يستطيع المريض حقن نفسه بمادة سامة من خلال أنبوبة خاصة.

وفى سبتمبر عام 1991 ساعد الطبيب كيفور اثنين من مرضاه على الانتحار أيضاً في ميتشجان التي ليس لديها أي قوانين حدية تمنع تدخل الطبيب لمساعد مرضاة على الانتحار.

وفى أبريل 1919 نشرت جمعية هيملوك كتاب ديري همفري ( المخرج الأخير Final Exit) الذي يصف أكثر من طريقة للانتحار، ويقدم بيانياً كاملاً بالأقراص التي يستطيع الشخص تناولها للانتحار وعددها، وسرعان ما أصبح هذا الكتاب في مقدمة أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد امتدح مؤيدو الكتاب مضمون الكتاب واعتبروه مادة قيمة لمساعدة المرضي الميئوس من شفائهم.. خاصة المصابين بالإيدز الذين يخشون فقد السيطرة على أنفسهم وعدم كيفية موتهم.

بل إن انتشار الكتاب على هذا النحو قد يدفع أصحاب الأمراض العصبية بقوة إلى الانتحار.

قال آخر: أنا من هولندا.. ولنا طرقنا الخاصة بالقتل الرحيم.. فعندنا يعطي المريض محاليل بهدف قتله رحمة به.. وهذه العقاقير تصيب المريض بغيبوبة عميقة لا إفاقة منها خلال 30 دقيقة على أن تضع حداً لحياته في غضون عدة ساعات.

قال آخر: أنا من بلده.. وقد أصدرنا وثيقة خاصة بـ (الليثمانميا)، وصدرت عن أطباء الجمعية الهولندية الملكية للأدوية.. وهي تنص على أنه يجب عدم منح المريض أي عقاقير خاصة بالهلوسة أو التشنجات.. وإن حصل احتمال للتقيؤ فيجب أن يواجه بإعطاء المريض المزيد من العقاقير.

ومنذ نحو 20 عاماً مضت قبل أن تصبح اليوتانجيا عملاً مقبولاً في النظام الطبي الهولندي كان المريض الذي يطلب تطبيق اليوثانيي عليه يخاطر بمواجهة موت أقل راحة وكرامة.. ففي ذلك الوقت كان الأطباء الذين يشعرون بالأسي لوضع حد لآلام المرضي يلجئون إلى إصابة المريض بنسبه نقص السكر من خلال حقن بجرعات مضاعفة من الأنسولين وحقنه بعقاقير أخري تساعد على إصابة نوبة قلبية، وأحياناً كانوا يخنقون المرضي بالوسائد.

قال آخر: أما الآن فيتم تخيير المريض بين حقن بعقار سام تحت الجلد حتى يغرق في غيبوبة كاملة يعقبها حقن آخر بمواد تساعد على ارتخاء العضلات من أجل شل عمل الجهاز التنفسي علاوة على طرق أخري يتم خلالها قتل المريض الميئوس من شفائه على عدة مراحل تستغرق عدة ساعات من خلال عقاقير سامة أيضاً.

قال آخر: والأمر يزداد شدة.. ونخشى أن يخرج الأمر على السيطرة.. فيصبح الأطباء منفذي إعدام أكثر منهم أطباء.. وخاصة إذا أصبح الأمر بيد الطبيب، ولم يعد المريض هو صاحب القرار.. فإن ذلك سيفتح الباب أمام ممارسات غير مشروعة لا أول لها ولا آخر وقد يصعب وقفها.. وليس بعيداً عن الأذهان تجارة الأعضاء التي أصبحت رائجة عند الكثيرين لدرجة أنه يمكن التأكيد على أن هناك طرقا خاصة بهذه التجارة.

***

بعد أن سمعت هذا الكلام.. وبعد أن امتلأت قناعة بأنه لا يصلح لي إلا الانتحار.. ذهبت إلى هذا التلميذ في المستشفى الذي يعمل فيه، فعرفته بنفسي، وبكوني كنت في يوم من الأيام أستاذا له.. فلم يكترث كثيرا لمعرفتي.. بل ما زاد على أن تحدث معي ببرودة عن طلبي، فأخبرته به.. فلم يبدو عليه ـ مع غرابة هذا الطلب ـ أي تعجب.. بل اكتفى بأن طلب مني مبلغا من المال.. ومع أنه كان مبلغا كبيرا إلا أني قبلت به، فقد كان لي من الجبن ما يمنعني من ممارسة ما يمارسه أكثر الناس من أساليب الانتحار.

بعد أن سلمته المال أعطاني ذلك العقار، ووصف لي بدقة الكمية التي أستعملها منه.. ووصف لي ما سيحدث لي بالضبط.

قلنا: ما دمت معنا، فأنت لم تتجرأ على استعماله؟

قال: لا.. بل استعملته.

قلنا: فقد غشك تلميذك إذن.. أخذ مالك دون أن يعطيك العقار القاتل.

قال: لا.. لقد أعطاني العقار القاتل.. ولكني لم أستعمله بالكيفية التي حددها.

قلنا: لم؟

قال: لقد سقطت القارورة من يدي فجأة.. لا.. ليس فجأة.. بل بعد سماعي لصوت جميل كان يردد من قرآن المسلمين هذه الآية :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾ (الفجر)

لست أدري كيف سرت قشعريرة لذيذة إلى جسمي جميعا وأنا أسمع هذه الكلمات.. وقد غصت بعدها في غيبوبة عميقة.. ولم أستفق إلا وأنا في بيت النور والسلام والطمأنينة والصفاء.

قلنا: فحدثنا عن حديثك معه.

 

 

 

السلام

امتلأ وجه صاحبنا بالسلام الجميل، ثم قال: لقد كان أول ما سمعته من ذلك المسلم هو تحية السلام.. المنطلقة من وجه ممتلئ بالسلام..وكان أول ما قال لي: لقد شاء الله أن يمد في عمرك لترى من حقائق السلام ما حجبك عنه الصراع.

قلت: وما حقائق السلام؟.. وما الحجب التي حالت بيني وبينها؟

قال: السلام هو الذي يملأ كيانك كله بالطمأنينة والاستقرار، فتشعر بأن كل شيء في محله الذي يصلح له.. أو تشعر بأن كل شيء هو في حالته التي خلقه الله عليها لم يغير ولم يبدل.

قلت: فما الحجب التي تحول بيني وبين هذا السلام؟

قال: أول الحجب هو النفس..

قلت: ولكننا لا يمكن أن نعيش من دون نفوسنا.. ألم يخلق الله لنا النفوس لنعيش بها؟

قال:  لنعيش بها.. لا لنعيش لها.

قلت: لم أفهم.

قال:  فرق كبير بين أن تعيش لتأكل، وبين أن تأكل لتعيش.

قلت: لقد قرأت هذا.. ولكني ضحكت عليه، وسخرت منه، ورحت ألقن تلاميذي ما يخالفه.

قال:  فماذا رأيت من تلاميذك؟

لم أجد ما أجيبه به، فقال: لقد خلق الله لنا مع نفوسنا التي لا تشبع أو لا تريد أن تشبع عقولا وأرواحا وقلوبا وفوق ذلك خلق معنا بشرا وحيوانات وأفلاكا.. وكل ذلك ينبغي أن يراعى.. فلا ينبغي للعاقل أن يترك لنفسه العنان لتصارع نفسها، وتصارع ما حولها.

قلت: ولكن الكبت نفسه صراع.

قال:  لا.. ليس الكبت صراعا.. الكبت علامة السلام الكبرى.

قلت: كيف يكون ذلك؟.. والكابت إنما يصارع نفسه التي بين جنبيه.

قال:  ألا ترى أن وقوف ذلك الشرطي في محله سليما معافى دليل على الاستقرار وسبب له.

قلت: وما علاقة الشرطي بما نحن فيه؟

قال:  أليس الشرطي هو الذي يقوم بالكبت.. فيكبت كل النزعات الشريرة التي تريد أن تغذي هوى النفس على حساب العقل والقلب.. والكون؟

قلت: قد يصح ما تقول.

قال:  بل لا يصح إلا ما أقول.

قلت: أنت على ثقة كبيرة بنفسك؟

قال:  أجل.. ذلك أن معي النور الأزلي الذي لا تكشف الحقائق إلا به.

قلت: وما هذا النور؟

قال:  كلام ربي الذي أنزله إلي كما أنزله إلى كل البشر ليحتموا بأنواره من الظلمات التي توقعهم فيها نفوسهم وشياطينهم.

قلت: فهل تحدث ربك عن النفس، وتلك الغرائز التي تمتلئ بها؟

قال:  أجل.. لقد ذكر ربي النفس.. وبين أنها المحل الذي قد يرتع فيه الشياطين.. وهي المحل الذي قد يرفع صاحبها إلى أعلى الجنان.. قال تعالى:﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)، لقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الله تعالى خلق النفس سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، وبين أنها في أصل خلقتها مستعدة لأن توظف ما وهب لها من طاقات في سبل الخبر.. كما أنها مستعدة لأن توظفها في سبل الشر، كما قال تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ (الروم: 30)، وكما قال رسول الله r :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)[13]، وقال r حاكيا عن ربه عز وجل:( يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)

وأخبر أنه لن يفلح إلا من حافظ على سلامة فطرة نفسه، فلم يدنسها بأي دنس..

التفت إلي، وقال: أتدري ما مثل ذلك؟

قلت: ما مثله؟

قال:  إن مثله كمثل قوم لهم أجسام سليمة وعقول سليمة كلفوا بالدخول إلى أرض تختلط فيها أشعة الشمس الطيبة بالأشعة الخبيثة.. وقد زودوا لذلك بما يقيهم من أوزار الأشعة الخبيثة.. كما زودوا بما يمكنهم من الانتفاع بالأشعة الطيبة.

لكن بعضهم لم يرض هذا الوضع، فراح يقتحم الأشعة الخبيثة بوجهه العاري زاعما أن ذلك القناع الذي يضعه على وجهه نوع من الكبت يحرم النفس من حقها في التمتع بأنواع الأشعة.

أتدري ما يحصل لهذا؟

قلت: أجل.. لاشك أنه سيحترق بتلك الأشعة.

قال:  فهكذا الأمر بالنسبة لنفوسنا.. لقد خلق الله لها ما يتناسب معها.. وأباحه لها.. وخلق ما لا يتناسب معها،  وحرمه عليها.

قلت: ما دام لا يتناسب معها، فلم خلقه؟

قال:  هو لا يتناسب معها من الجهة التي تريد أن تتناوله من خلالها، ولكنه يتناسب معها من حيث منفعته العامة.

قلت: لم أفهم.

قال:  أليست الكهرباء وسيلة نافعة من وسائل الحياة؟

قلت: بل قد صارت ضرورة من ضروراتها.

قال:  فمن أراد أن يلمس التيار الكهربائي بيديه العاريتين؟

قلت: ستصعقه الكهرباء بلهيبها.

قال:  وهكذا النفس.. إنها إن تناولت الأشياء من محلها، وبالسبل التي أبيحت لها، فإنها لن تظفر إلا بالسعادة والسلام والصفاء.. ولكنها إن أبت إلا أن تركب نفسها وهواها، فإنها لن تجني إلا ما يجنيه الجريء على الكهرباء أو الجريء على الأشعة السامة.

قلت: كلامك معقول.. فهل ورد في كتابكم المقدس ما يدل على هذا؟

قال:  أجل.. لقد سمى الله تعالى تلك المشاعر التي تجذب النفوس إلى الهاوية (هوى)، فقال :﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ (النازعات)

قلت: ولكن الحياة التي تمتلئ بقمع هوى النفس حياة ممتلئة بالصراع.. فكيف يتحقق السلام مع هذا الصراع؟

قال:  هو صراع محدود ومؤقت.. والنفس التي تقدم عليه تنال من اللذة ما يناله ذلك الذي انتصر على أعدى أعدائه.

قلت: ولكن الصراع يظل صراعا؟

قال: السلام لا يتحقق إلا بهذا النوع من الصراع.. ألا ترى العالم لا يتحقق له مراده من الكمال العلمي إلا ببذل الجهد، ومصارعة نزوات الهوى التي تدعوه إلى الركون إلى الراحة؟

قلت: بلى.. فلا يمكن لأحد أن يتمكن من شيء ما لم يبذل جهده فيه.

قال:  ولذلك قال تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ (البلد:4).. فالإنسان لابد أن يكبد في حياته ويتعب إلى أن يتحقق له مراده..

قلت: وعيت ما ذكرته.. فهلا حدثتني عن مطالب النفس الأمارة.. وعن كيفية قمعها.

قال:  ذلك علم طويل.. والعلم لا يكفي وحده فيه.. بل لا بد معه من تربية ومجاهدة..

قلت: فهل تدلني على من أرى فيهم ما تتحدث عنه؟

ابتسم، وقال:  أنا أستاذ مثلك.. ولذلك سأمر بك على بعض تلاميذي[14]، ولنحاول أن نختبرهم بما تشاء من أنواع الاختبار.. لترى كيف تحولت نفوسهم إلى نفوس طاهرة طيبة ممتلئة بالسلام الجميل.

قلت: يسرني ذلك.. لكن أخبرني من أنت حتى أعرف مع من أسير.. وتلاميذ من سألتقي.

قال:  أنا المحاسبي[15].. أنا الرجل الذي تعامل مع نفسه كما يتعامل الغريم مع غريمه.. حاسبتها وجاهدتها إلى أن استقامت على طريق الله.. وأسأل الله أن يثبتني على ذلك.

قلت: فهل ستدلني على الطريق التي سرت فيها؟

قال: يسرني ذلك.. فلا هدف لي في الحياة إلى الدلالة على هذا.

قلت: فاختر لنا مجلسا نتحدث فيه.

قال: أنا مجرد فرد.. وحديثي وحده لا يكفي.. سأسير بك إلى كلية مختصة بهذا.. إن اسمها (كلية التهذيب والترقي) وفيها فروع كثيرة.. سأمر بك على بعضها.. لتبصر كيف عالج الإسلام النفس من أدوائها.. وكيف لم يكتف بذلك، بل راح يغرس فيها من المكارم ما جعلها حقلا عظيما لها.

قلت: من أسس هذه الكلية؟

قال: ومن غيره؟.. إنه محمد r.. إنه ذلك الرجل الذي لم تعرف البشرية مربيا مثله.

القرآن

كان أول قسم في (كلية التهذيب والترقي) قسم كتب عليه من القرآن هذه الآية:﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) (ق)، ) وهذه الآية :﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) (الإسراء)، وهذه الآية :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) (الإسراء)، فسألت المحاسبي عنه، فقال: في هذا القسم لن تسمع إلا القرآن.

قلت: وهل للقرآن كل هذه القوة في تهذيب النفس؟

قال: لقد وصف الله القرآن بكونه شفاء .. وما دام كذلك، فإنه يشفي من كل العلل النفسية.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد صيغ القرآن صياغة خاصة، فهو يخاطب النفس من جذورها .. ولذلك فإن الذي أدمن عليه والتزمه تأدب على يديه لا محالة.

إن كل من رباهم رسول الله r .. وكل من تربوا في حجر هذه الأمة لم يتهذبوا إلا بالقرآن ..

روي أن عمر في جاهليته أراد أن يطوف بالكعبة، فإذا رسول الله r قائم يصلي، فقال عمر حين رآه، لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثياب الكعبة ما بيني وبينه إلا الثياب، فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام وكان رسول الله r يقرأ سورة (الحآقة).

وروي أن النجاشي طلب من جعفر بن أبي طالب أن يسمعه شيئاً مما جاء به الرسول r عن الله، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون.

وعن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علىّ فتلوت :﴿ والذاريات فلما بلغت قوله تعالى :﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)(الذاريات)، قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلّم عليّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت :﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)(الذاريات)، فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين قائلها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه.

***

سمعنا صوتا عذبا يرتفع بالقرآن .. أردت أن أتكلم، فقال لي المحاسبي: لقد ذكرت لك أن هذا القسم لا يوجد فيه إلا القرآن .. فهلم نسمع إلى المقرئين، وهم يخاطبون النفوس، ويهذبونها بكلام ربها.

اقتربنا من المقرئ .. فسمعته يردد من القرآن هذه الآيات :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ (الأحزاب: 72) .. :﴿ وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: 283) .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ (النساء: 58).. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأنفال: 27) .. ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾ (المؤمنون).. ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)﴾ (المعارج)

رأيت المجتمعين حوله مستغرقين استغراقا تاما، ورأيت على وجوه بعضهم دموعا كثيرة تنحدر .. ورأيت بعضهم يمسك ورقة يكتب فيها شيئا، فاقتربت منه، فرأيته يضع جداول مملوءة أرقاما .. فقلت له مختبرا: ما تفعل يا رجل .. أنت تنشغل عن كلام ربك بعد ثروتك؟

قال لي ـ والدموع تنحدر من عينيه ـ : لا يا أخي .. لا تسئ بي الظن .. أنا رجل كنت مسرفا على نفسي .. وقد أخذت أموالا كثيرة بغير حق .. وقد نبهتني هذه الآيات إلى وجوب إرجاع الحقوق لأصحابها .. وقد عاهدت الله في هذا المجلس أن لا أخرج منه إلا بعد أن أرد كل حق لصاحبه حتى لو افتقرت .. فلأن أذوق فقر الدنيا خير من أن أذوق فقر الآخرة.

***

تركته، وسرت إلى مجلس آخر، فرأيت رجلا يردد بينه وبين نفسه: : بلى يا رب قد آن .. بلى يا رب قد آن .. بلى يا رب قد آن.

فسألت المحاسبي عن شأنه، فقال: هذا الفضيل بن عياض .. كان شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس .. وكان سبب توبته أنه ارتقى بعض الجدران فسمع تالياً يتلو قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾ (الحديد)، فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن فرجع، فآواه الليل إلى خربةٍ فإذا بها سابلة.. فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا.. قال: ففكرت، وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.

***

تركته، وسرت إلى مجلس آخر، فرأيت رجلا يتوسط حلقة، وهو يقرأ عليهم القرآن، وبعد أن انتهى سأله أحدهم قائلا: يا شيخنا .. يا ابن القيم.. أخبرنا عن سر تأثير القرآن في قمع الشهوات الخسيسة التي تمتلئ بها النفوس.

فأجابه[16]: لقد جعل الله في القرآن من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار .. وكل ذلك يرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبا للرشد، مبغضا للغي ..

فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن، فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه ويسره وينشطه ويثبت ملكه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه.

وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغدية المصلحة له والحمية عما يضره فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصل له به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين.

 

السنة

بعد أن تجولت على حلقات كثيرة في قسم القرآن من كلية (كلية التهذيب والترقي) سرت مع صاحبي المحاسبي إلى قسم آخر كتب عليه من القرآن هذه الآية :﴿  لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) (آل عمران)

فسألت المحاسبي عنها، فقال: في هذه الآية يذكر الله الوظائف التي كلف بها رسول الله r ..

قلت: فما علاقتها بالتهذيب والترقية؟

قال: لا يوجد في العالم رجل وضع خطة متكاملة للتهذيب والترقية مثل رسول الله r ..

قلت: فأين أجد هذه الخطة؟

قال: في أحاديثه .. تلك التي اجتهد العلماء في تمييز الموثوق منها من غيره .. ثم اجتهدوا في معرفة المعاني العظيمة التي تحملها .. ثم اجتهدوا في استنباط الكيفيات العملية التي تجعل منها واقعا ملموسا.

أردت أن أسأل، فقال لي: تعال .. فخير جواب لك أن ترى وتسمع، فليس الخبر كالعيان.

سرت معه إلى أول حلقة كان يجلس فيها شيخ عرفت فيما بعد أن اسمه (عبد الوهاب الشعراني) [17]

كان يقول: قال رسول الله r :( نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع)[18] 

 ومعنى نضر الله : الدعاء بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن تقديره جمله الله وزينه بالأخلاق الحسنة والأعمال المرضية.

 وفي رواية: (فربما حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)[19] 

 وفي رواية:( اللهم ارحم خلفائي قالوا يا رسول الله وما خلفاؤك ؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها للناس)[20] 

بعد أن روى هذه النصوص قال[21]: أخذ علينا العهد العام من رسول الله r أن نسمع الناس الحديث، ونبلغه إلى البلاد التي ليس فيها أحاديث، وذلك بكتبنا كتب الحديث وإرسالها إلى بلاد الإسلام .. وقد كتبت بحمد الله كتابا جامعا لأدلة المذاهب وأرسلته مع بعض طلبة العلم إلى بلاد التكرور حين أخبروني أن كتب الحديث لا تكاد توجد عندهم إنما عندهم بعض كتب المالكية لا غير، وأرسلت نسخة أخرى إلى بلاد المغرب كل ذلك محبة في رسول الله r وعملا على مرضاته r .

 وكان سفيان الثوري وابن عيينة وعبدالله بن سنان يقولون : (لو كان أحدنا قاضيا لضربنا بالجريد فقيها لا يتعلم الحديث ومحدثا لا يتعلم الفقه)

 وفي كتابة الحديث وإسماعه للناس فوائد عظيمة منها عدم اندراس أدلة الشريعة، فإن الناس لو جهلوا الأدلة جملة والعياذ بالله تعالى لربما عجزوا عن نصرة شريعتهم عند خصمهم.

 ومنها تجديد الصلاة والتسليم على رسول الله r في كل حديث وكذلك تجديد الترضي والترحم على الصحابة والتابعين من الرواة إلى وقتنا هذا.

 ومنها وهو أعظمها فائدة الفوز بدعائه r لمن بلغ كلامه إلى أمته في قوله : (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، ودعاؤه r مقبول بلا شك.

ومنها .. وهو أعظمها ما تحدثه أحاديثه في النفس من آثار عظيمة لا يمكن أن تحدث بغيرها.

***

انتقلنا إلى حلقة أخرى، كان يطلق على شيخها لقب (ابن أبي الدنيا)[22].. عندما جلسنا سمعنا سائلا يسأل قائلا: نحن تجار قدمنا من بلاد بعيدة .. ونريد منك أن تحدثنا عن نبينا r .. وعن التوجيهات التي خصنا بها.

ابتسم ابن أبي الدنيا ابتسامة هادئة، وكأنه يرحب بهم من خلالها، ثم قال: قال رسول الله r :( ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) قال الراوي: فقرأها رسول الله r ثلاث مرات.. قال الراوي: فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال : (المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)[23]

وفي رواية [24] :( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)

وقال r :( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل)[25] 

وفي رواية : (يقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ، ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه فأخذها وهو على غير ذلك ، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف له)

وفي رواية:( ورجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، ورجل منع فضل ماء فيقول الله له يوم القيامة اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)

وقال رسول الله r :( أربعة يبغضهم الله : البائع الحلاف ، والفقير المختال ، والشيخ الزاني ، والإمام الجائر)[26]  

وعن واثلة قال: كان رسول الله r يخرج إلينا وكنا تجارا وكان يقول : (يا معشر التجار إياكم والكذب)[27]

وقال رسول الله r :( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) [28]

وقال رسول الله r :( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)[29] 

وقال رسول الله r :( إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا)[30] 

وقال رسول الله r :( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا بركة بيعهما .. اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)[31]

وخرج r إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال : (يا معشر التجار) ، فاستجابوا لرسول الله r ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ، فقال : (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق)[32]

***

انتقلت إلى حلقة أخرى، سمعنا شيخها وكان يطلق عليه (محمد قطب)[33]  يقرأ حديثا يردده مرات كثيرة، وهو :( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر)[34]

ثم يخاطب الجمع الملتف به بانفعال وتأثر قائلا : انظروا .. لعل آخر ما كان يدور في ذهن السامعين أن يقول لهم الرسول r ذلك الحديث .. لعلهم توقعوا أن يقول لهم الرسول الذي جاء ليذكر الناس بالآخرة، ويحثهم على العمل لها، ويدعوهم إلى تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الأكبر: يوم الحساب الذي تدان فيه النفوس.. لعلهم توقعوا أن يقول لهم: فليسرع كل منكم فليستغفر ربه عما قدمت يداه، وليتوجه لله بدعوة خالصة أن يميته على الإيمان ويقبل توبته ويبعثه على الهدى.. ولعلهم توقعوا أن يقول لهم: أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الأرض.. وتطهروا.. اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إلى الآخرة.. انقطعوا عن كل ما يربطكم بالأرض.. اذكروا الله وحده.. توجهوا إليه خالصين من كل رغبة في الحياة، حتى إذا ذهبتم إلى ربكم، ذهبتم وقد خلصت نفوسكم إليه، فيقبل أوبتكم ويظلكم بظله، حيث لا ظل إلا ظله.

ولو قال لهم ذلك فهل من عجب فيه؟!

أليس الطبيعي وقد تيقن الناس من القيامة أن ينصرفوا للحظة المرهوبة؟

أليس الطبيعي والهول المهول على الأبواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالأرض، ويتطلعوا في رهبة الخائف وذهول المرتجف إلى قيام اليوم الذي وصفه الله فقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾ (الحج)

فإذا قال لهم الرسول (: لا تقفوا مذهولين مرجوفين مرعوبين، ولكن توجهوا إلى الله أن ينقذكم من هذا الكرب العظيم، أخلصوا له الدعاء فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.. ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. هلموا تطهروا، وصلوا إلى الله خاشعين)

إذا قال لهم الرسول ذلك وضع البلسم الشافي على الأرواح المكلومة. وقد وضع يده الحانية يربت بها على النفوس المهتزة المزلزلة الراجفة فتطمئن. وقد فتح الكوة التي يطل منها على القلوب المكفهرة المذعورة بصيص الأمل والأمن والرجاء..

ولكن رسول الله r لم يقل شيئاً من ذلك كله الذي توقعه السامعون.. بل قال لهم أغرب ما يمكن أن يخطر على قلب بشر.. قال لهم: (إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها.. فله بذلك أجر!)

يا ألله! .. يغرسها؟! .. وما هي؟ .. فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين؟ والقيامة في طريقها إلى أن تقوم؟ وعن يقين؟! .. يا الله! لن يقول هذا إلا نبي الإسلام خاتم النبيين! .. الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه، ونبي الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يهتدي هذا الهدي، ويهدي به الآخرين!..

انظروا .. إنها كلمة بسيطة لا غموض فيها، ولا صنعة، ولا تفنن .. كلمة - رغم غرابتها لأول وهلة، وبدهها للفكر على غرة - تخرج بسيطة كبساطة الفطرة، عميقة كعمق الفطرة، شاملة واسعة فسيحة، تضم بين دفتيها منهج حياة.. منهج الحياة الإسلامية.

كم من معنى تستخلصه النفس من الكلمات البسيطة العميقة في آن واحد ..

أول ما يخطر على البال هو هذه العجيبة التي يتميز بها الإسلام: أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق! .. إنهما ليسا طريقين منفصلين: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة! وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك.. ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة، وطريق للدنيا اسمه العمل، وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل.. كلاهما شيء واحد في نظر الإسلام. وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه!

العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر. إلى آخر خطوة من خطوات الحياة! يغرسها والقيامة تقوم تقوم هذه اللحظة. عن يقين!

وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه والحض عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإسلام. ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه.

وقد مرت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر، كانت تحس فيها بالفرقة بين الطريقين.. كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة!.. وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده، وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه.

ليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من هذا الحديث العجيب.. فلا يأس مع الحياة! .. والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!.. فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل.. حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها!.. إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه!.. لا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل!.. كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل المستحيلات .. كلها لا وزن لها ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل.. وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات.

***

انتقلنا إلى حلقة أخرى، فسمعنا شيخها يردد هذا الجزء من الحديث: (قال: فأخبرني عن الإحسان.. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[35]

ثم يقول بعده: القاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله: هي أن تعبد الله كأنك تراه.. يقيم عليها نظمه جميعاً، وتشريعاته وتجيهاته جميعاً.. نظام السياسة.. نظام الاقتصاد.. نظام المجتمع.. موقف الفرد من الدولة وموقف الدولة من الفرد.. نظام الأسرة.. معاملات الأفراد، معاملات الدول في السلم وفي الحرب.. كل شيء في هذه الحياة!

تعبد الله كأنك تراه.. إنه عالم واسع يفيض بالحب، ويفيض بالتقوى، ويفيض بالأمل، ويفيض بالرهبة، ويفيض بالنور.. والإنسان في مواجهة مولاه. في مواجهة الذات العظمى الخالقة القاهرة المستعلية المشرفة على جميع الكائنات. والنور - نور السماوات والأرض - يغمره من كل جانب، وينفذ إلى أعماقه، فيضيء ثنايا قلبه، ويستقر فيه.

الإنسان في مواجهة مولاه... بنفسه جميعاً. بكل جوارحها وكل خلجاتها. بظاهرها وباطنها، بدقائقها ولطائفها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار.. وكلها مكشوفة لله.. (فإن لم تكن تراه فإنه يراك!)

يا الله! إنها الرهبة والقشعريرة تملأ النفوس.. عين الله البصيرة النافذة إلى كل شيء في هذا الوجود، إلى كل نأمة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور.. إنها تراك وترقبك. سواء كنت متيقظاً لهذه المراقبة أم غافلاً عنها. وسواء أعددت نفسك لها أم كنت من المعرضين.

وإنه لخير لك أن ترى الله كما يراك.. خير لك أن تتوجه إلى حيث ترقبك العين البصيرة النافذة. فتأمن المفاجأة!

إنها الرهبة في الحالين.. الرهبة في حضرة المولى العزيز العليم القوي الجبار.. ولكنها الرهبة والأمل هنا، والرهبة والذعر هناك!

الرهبة والأمل وأنت متوجه إلى الله، مخلص له قلبك، عامل على رضاه..

والرهبة والذعر حين تتوجه بعيداً عنه وهو من ورائك محيط! فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه!

وحين تتوجه إليه بنفسك جميعاً، ظاهرها وباطنها، وسرها ونجواها.. وحين تتوجه إليه وفي نفسك شعور التقوى الخاشعة والرهبة العميقة.. فلا شك أنك ستنظف نفسك وتحرص على نظافتها.

إن الله لا تخفى عليه خافية.. فكيف تستتر منه وأنت مقبل عليه؟ كيف يمكن أن تعمل عملاً واحداً لا يراه؟

***

انتقلنا إلى حلقة أخرى، فسمعنا شيخها يردد هذا الحديث :( إِن الله كتب الْإِحْسَان فِي كل شَيْء ، فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة ، وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة ، وليحد أحدكُم شفرته ، وليرح ذَبِيحَته)[36]

بعد أن كرره مرات كثيرة، قال: يا الله! يا رحمة نبيه..! (وليرح ذبيحته) .. ومتى؟ وهو مقدم على ذبحها!!

إنه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة التي ليس وراءها شيء إلا ذلك النور الأعظم الذي ينير الكون كله وينفذ إلى قلوب الكائنات.. إنها الرحمة التي لا تقف عند الأناسى من الخلق، ولا يحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه، وإنما تتعداها إلى المجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الأحياء في الكون.

ثم لا تقف عند هذا المدى - وهو في ذاته قمة عالية - وإنما ترتقي درجة أخرى!

فالرحمة بالأحياء درجة مفهومة  على أي حال، سواء وفق إليها القلب البشري أم انحرف عنها وشذ.

مفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذا العصفور. فإنه ضعيف مسكين. وهو جميل لطيف لا يستحق القتل.

ومفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة، فإنك لن تستفيد شيئاً من قتلها، وهي في رشاقتها اللطيفة جمال يحسن أن تمتع به حسك وروحك.

بل مفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذه الزهرة الجميلة - حتى إن كانت لا تتألم للقتل - فهي على غصنها هكذا جميلة.. أجمل منها في يدك أو في عروة ثيابك.

كل ذلك مفهوم. والقلب البشري الطيب يمكن أن يوجه إليه في يسر، فيعتاده فيصبح من طباعه.

ولكنها درجة - وراء هذا المفهوم - أعلى وأشف - أن أقول لك: هذه الذبيحة التي ستذبحها، والتي لن تكون حية بعد لحظات.. أحْسِنْ ذبحتها ولا تطل آلامها ولا (تمتها موتات) كما ذكر البخاري في حديث قريب من هذا الحديث [60].

وليرح ذبيحته! .. إنها كلمة تهز الوجدان هزاً وهي تذبح، وهي تساق إلى الفناء.. إلى حيث لا توجد ولا تشعر.

ما القيمة العملية لإراحة الذبيحة هذه الثواني المعدودة التي تنتقل فيها من عالم الوجود إلى عالم الفناء؟ بل ما قيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلامها أشد ألم يمكن أن تتعرض له وهو الذبح؟

في الظاهر.. لا شيء! .. وفي الباطن.. كل شيء!

إن الذبيحة ميتة ميتة.. أرحتها أم لم ترحها.. وهي متألمة متألمة، سواء قطر قلبك رحمة بها أم كنت تذبحها مجرد القلب من المشاعر متلبد الوجدان.. وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عنفك معها، إن كنت ممن يفهمون عن هذه الخلائق، ويجاوبون ما يصدر عنها من الأحاسيس.. ولن يضيرها كثيراً - وهي مسوقة إلى الفناء الكامل الوشيك - إنها ذاقت - قبل ذلك بلحظة - شيئا من الغلظة أو شيئاً من الجفاء!

إذن فما القيمة العملية بالنسبة للذبيحة.. لا شيء!

ولكن القيمة العملية لك أنت.. كل شيء! .. وهل ثمة شيء أكبر من أن يكون لك قلب إنسان؟!

 

العقل

بعد أن تجولت على حلقات كثيرة سمعت فيها من هدي محمد وتربيته للنفوس، وتغلغله فيها، سرت مع المحاسبي إلى قسم آخر في (كلية التهذيب والترقي)، وقد رأيت على لافتة بابه هذا النص العجيب :﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) (البقرة، وغيرها كثير)، فسألت المحاسبي عنه، فقال: في هذا القسم تخاطب العقول بما وضع الله فيها من المدارك .. فتربى النفوس من خلال ذلك.

دخلنا قاعة الدرس .. فرأيت تلاميذا كثيرين متحلقين في حلق مختلفة، وهم في منتهى الأدب والنظام، وقد تعجبت من ذلك إذ لم أر مراقبين ولا أساتذة كبارا يشرفون عليهم.. بل كانوا كلهم في سن المراهقة.. ومع ذلك كانوا كلهم في حكمة الشيوخ واتزانهم وانضباطهم[37].

اقتربنا من حلقة من الحلقات، فسمعنا شيخها الشاب يقول[38]: السعاة الحقيقية هي السعادة التي لا تعني إلا بقاء بلا فناء، ولذة بلا عناء، وسرورا بلا حزن، وغنى بلا فقر، وكمالا بلا نقصان، وعزا بلا ذل.. وفوق ذلك تكون أبد الآباد، وعلى وجه لا تنقصه تصرم الأحقاب والآماد، بل لو قدّرنا الدنيا مملوءة بالدّرر، وقدّرنا طائراً يختطف في كل ألف سنة حبة واحدة منها، لفنيت الدّرر ولم ينقص من أبد الآباد شيء.

فمثل هذه السعودة لا نحتاج إلى استحثاث النفوس على طلبها، إذ أن كل يتسارع إلى ما هو أقل منها بكثير، ولا يصرفه عنها كون الطريق إليها متوعراً، ومحوجاً إلى ترك لذات الدنيا، واحتمال أنواع من التعب هنا.. فإن المدة في احتمال التعب منحصرة، والفائت فيها قليل.. واللذات الدنيوية منصرمة منقضية.. والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقداً في طلب أضعافه نسيئة.

ولذلك ترى الخلق كلهم في التجارات والصناعات، وحتى في طلب العلم، يحتملون من الذل والخسران، والتعب والنصب، ما يعظم مقاساته طمعاً في حصول لذة لهم في المستقبل، تزيد على ما يفوتهم في الحال زيادة محدودة، فكيف لا يسمحون بتركه في الحال للتوصل إلى مزايا غير مقدرة ولا محدودة.

قال آخر: إن سبب فتور الخلق عن طلب هذا النوع من السعادة هو ضعف إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فالعقل الناقص قاض بالتشمير لسلوك طريق السعادة فضلاً عن الكامل.

قال آخر:  لقد تأملت فرق الناس في أمر الآخرة فوجدتهم أربع فرق:

أما أولاها، وهي أكمل الفرق وأعقلها، وأحقها بنيل السعادة، فهي الفرقة التي اعتقدت الحشر والنشر والجنة والنار، كما نطقت بها الشرائع، وأفصح عن وصفه القرآن، وأثبتوا اللذات الحسية جميعها من المطعوم والمشموم والملموس والملبوس والمنظور إليه، وغير ذلك.. واعترفوا بأنه يضاف إلى ذلك أنواع من السرور، وأصناف من اللذات التي لا يحيط بها وصف الواصفين، فهي (مما لا أعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)[39]

واعتقدوا أن ذلك يجري أبداً بلا انقطاع، وأنه لا ينال إلا بالعلم والعمل، وهذا هو قول المسلمين.. وهو ما يملؤهم بالسلام والسعادة والطمأنينة.

وأما الثانية، فقوم اعترفوا بنوع من اللذة لا تخطر على قلب بشر كيفيتها، وسموها لذة عقلية، وأما الحسيات فأنكروا وجودها من الخارج إلا من طريق التخييل[40].. وهذا القول يتنافى مع متطلبات النفس التي ترى أنها لا تستغني عن الملموس من اللذات والمنظور منها والمطعوم وغيره.

وأما الثالثة، فذهبوا إلى إنكار اللذة الحسية جملة، بطريق الحقيقة والخيال، وزعموا أن التخيل لا يحصل إلا بآلات جسمانية، والموت يقطع العلاقة بين النفس والبدن، الذي هو آلته في التخيل وسائر الاحساسات، ولا يعود قط إلى تدبير البدن بعد أن أطرحه، فلا يبقى له إلا آلام ولذات ليست حسية ولكنها أعظم من الحسية.

وأما الرابعة، فهم جماهير من الحمقى، ذهبوا إلى أن الموت عدم محض، وأن الطاعة والمعصية لا عاقبة لهما، ويرجع الإنسان بعد موته إلى العدم، كما كان قبل وجوده.

وقد رأيت أن الدعاة لهذا المذهب لا يعدون كونهم بطّالين غلبت عليهم شهواتهم، واستولى عليهم شيطانهم، فلم يقدروا على قمع هواهم، ولم تسمح لهم رعونتهم بأن يعترفوا بالعجز عن مقاومة الهوى، فتعللوا لنقصانهم بأن ذلك واجب وأنه الحق، ثم أحبّوا أن يساعدهم غيرهم، فدعوا إلى البطالة وما جلبت عليه النفس من اتباع الهوى الذي هو أشد حامل للأحمق على المسارعة إلى التصديق به.

قال آخر: لقد تحدث شيخنا أبو حامد عن هذا الصنف الرابع كثيرا، وذكر علة ما وقعوا فيه ورد على مقولاتهم.. ومن أشهرها ادعاءهم أن (النقد خير من النسيئة.. ولذات الدنيا يقين.. ولذات الآخرة شك!!.. ولا يترك اليقين بالشك)

وقد اعتبر أن هذا القياس فاسد.. وأنه لا يختلف عن قياس إبليس فى قوله :﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(لأعراف: من الآية12).. فظن أن الخيرية فى النسب..

وقد ذكر أن علاج هذا الغرور يتم بأمرين: التصديق الإيماني.. والبرهان.

أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله :﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ (القصص: من الآية60)، وقوله :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ (آل عمران: من الآية185)).. وتصديق الرسول r فيما جاء به.

وأما البرهان: فهو أن يعرف وجه فساد قياسه، وأن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة، وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس.. وليس الأمر كذلك.. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار.. والمقصود فهو خير.. وإن كان أقل منها.. فالنسيئة خير منه.. فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهماً ليأخذ عشرة نسيئة، ولا يقول :( النقد خير من النسيئة فلا أتركه)، وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفاً من ألم المرض في المستقبل؛ فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة.. والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقداً لأجل الراحة والربح نسيئة، فإن كان عشرة في ثاني الحال خيراً من واحد في الحال فانسبوا لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة، فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة، وليس هو عشر عشير من جزء ألف ألف جزء من الآخرة، فكأنه ترك واحداً ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد، وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة، فإذن قد غلط في قوله: (النقد خير من النسيئة)

فمنشأ هذا الغرور ـ كما ترون ـ هو قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص، فغفل به المغرور عن خصوص معناه، فإن من قال: النقد خير من النسيئة، أراد به خيراً من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به.

قال آخر: ولكن الشيطان لا يكتفي بهذا.. بل هو يفزع إلى قياس آخر هو: (أن اليقين خير من الشك.. والآخرة شك.. والدنيا يقين)

قال آخر: إن هذا القياس لا يختلف عن الذي قبله.. بل لعله أكثر فساداً من الذي قبله.. لأن كلا أصليه باطل، إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله، وإلا فالتاجر في تعبه على يقين وربحه على شك، وطالب العلم في طلبه على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك، والصياد في تردده على المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك، وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك، ولكن التاجر يقول: إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري، وإن اتجرت كان تعبي قليلاً وربحي كثيراً؛ وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين، ولكن يقول: ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت.

وهكذا من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول: أيام الصبر قلائل، وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة، فإن كان ما قيل فيه كذباً؛ فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم، فأحسب أني بقيت في العدم، وإن كان ما قيل صدقاً، فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق، ولهذا قال علي ـ رضي الله عنه ـ لبعض الملحدين: إن كان ما قلته حقاً فقد تخصلت وتخلصنا، وإن كان ما قلناه حقاً فقد تخلصنا وهلكت.

قال آخر: أما الأصل الثاني من كلامه: وهو (أن الآخرة شك)، فهو أيضاً خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين، وليقينه أدلة كثيرة[41] لعل أقلها هو الإيمان تقليداً للأنبياء والعلماء، وذلك يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوام وأكثر الخواص، ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته، وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك البراهين الطبية، بل يثق بقولهم ويعلم به، ولو بقي سوادي أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه عدداً وأغزر منه فضلاً وأعلم منه بالطب، بل لا علم له بالطب، فيعلم كذبه بقولهم ولا يعتقد كذبهم بقوله، ولا يغتر في علمهم بسببه، ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوهاً مغروراً، فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها، وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل، وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء واتبعهم عليه الخلق على أصنافهم، وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم إلى التمتع، فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار، فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء، فكما أن قول الصبي وقول السوادي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوالها الأنبياء والأولياء والعلماء.

قال آخر: وفوق ذلك، فلو تأمل هذا الشاك[42] آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته ووحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به عنه لعلم أن ذلك حق لاشك فيه وأن خالق هذا العالم هو رب السموات والأرض، يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه، ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه وأنكر ربوبيته وملكه إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة أن يكون الملك الحق عاجزا أو جاهلا لا يعلم شيئا ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهي ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعز من يشاء ولا يذل من يشاء ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها ولا يعتني بأحوال رعيته، بل يتركهم سدى، ويخليهم هملا.. إن مثل هذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولايليق به، فكيف يجوز نسبه للملك الحق المبين.

وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدإ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه تبين له أن من عني به هذه العناية، ونقله إلى هذه الأحوال، وصرفه في هذه الأطوار لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى لا يأمر ولا ينهاه ولا يعرفه بحقوقه عليه ولا يثيبه ولا يعاقبه.

ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا يبصره دليلا له على التوحيد والنبوة والمعاد، بل إن الانسان نفسه دليل على وجود خالقه وتوحيده وصدق رسله وإثبات صفات كماله.

قال آخر: والشيطان لا يكتفي بهذا، بل يلجأ إلى قياس آخر يوسوس به لمن امتلأت نفوسهم بحب الشهوات يقول لهم فيه : ( لقد أحسن الله إليكم بنعم الدنيا.. وكل محسن فهو محب.. وكل محب فهو محسن)

وليس الأمر كما يقول، فقد يكون في الظاهر محسناً.. ولكنه ليس محباً.. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج.. وذلك محض الغرور.. لقد قال الله تعالى يبين فساد هذا القياس :﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾ (الفجر).. وقال :﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)﴾ (المؤمنون).. وقال:﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)﴾ (القلم).. وقال :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾ (الأعراف)

قال آخر: لكن مم ينشأ هذا النوع من الغرور؟

قال آخر: هو قياس من أقيسة إبليس جعلهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا.. فيقيسون عليها نعم الآخرة، ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال :﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ﴾ (المجادلة).. ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء.. فيزدرونهم ويقولون:﴿ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ (الأنعام: من الآية53).. ويقولون:﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ﴾ (الاحقاف: من الآية11)

***

انتقلنا إلى حلقة أخرى، وقد التف جمع من الشباب يتذاكرون، وقد كان لهم من الوقار والسمت والهيبة ما ملأني تعظيما لهم، قال أحدهم: إن استسلام النفس لربها وخضوعها له لا يقف بينها وبين سعادتها وملذاتها.

قال آخر: لقد قال شيخنا أبو حامد في حواره للطوائف التي امتلأت بالعبودية لنفوسها يذكرها باللذات التي فاتتها بسبب ذلك :( إن هذه الفرقة، وإن أنكروا السعادة الآخروية، فلم ينكروا السعادة الدنيوية، وأعلى السعادات الدنيوية العزة والكرامة، والمكانة والقدرة، والسلامة من الغموم والهموم، ودوام الراحة والسرور.. وهذا أيضاً لا يفوز به الإنسان إلا بالعلم والعمل.. فلا يخفي لذة العالم في علمه، وفيما ينكشف له في كل لحظة من مشكلات الأمور، لا سيما إذا كان في ملكوت السموات والأرض، والأمور الآلهية.. وهذا لا يعرفه من لم يذق لذة انكشاف المشكلات.. ثم إنها لذة لا نهاية لها، لأن العلوم لا نهاية لها، ولا مزاحمة فيها، لأن المعلومات تتسع للطلاب وإن كثروا، بل استئناس العالم يزيد بكثرة شركائه، إذا كان يقصد ذات العلم، لا حطام الدنيا ورئاستها، فإن الدنيا هي التي تضيق بالمزاحمة، بل يزداد سعة بكثرة الطلاب.. ثم مع أنها أوفى اللذات عمن أنس بها، فهي أدومها، إذ المنعم بها عليه هو الله، ولكن عند اكبابه على الطلب وتجرده له. ولذلك لا ترى جماعة من الرؤساء والولاة، إلا وهم في خوف العزل يتشوقون أن يكون عزهم كعز العلماء.. وأما العمل فلسنا نعني به إلا رياضة الشهوات النفسانية، وضبط الغضب، وكسر هذه الصفات، لتصير مذعنة للعقل، غير مستولية عليه، ومستسخرة له في ترتيب الحيل الموصلة إلى قضاء الأوطار. فإن من قهر شهواته، فهو الحرّ على التحقيق، بل هو الملك. ولذلك قال بعض الزهاد لبعض الملوك: (ملكي أعظم من ملك)، فقال: كيف؟ قال: (من أنت عبده عبدي)، وأراد به أنه عبد شهواته، وشهواته صارت مقهورة له.. فعبد الشهوات، العاجز عن كسرها وقهرها، رقيق وأسير بالطبع، لا يزال في عناء دائم وتعب متواتر، إن قضى وطره يوماً عجز عنه أياماً. ثم لا يخلو في قضائها عن أخطار، وعلائق ومشاق، يضطر إلى تقلدها، فتقليل الشهوات تقليل لأسباب الغموم، ولا سبيل إلى إماطتها إلا بالرياضة والمجاهدة، وهو المراد بالعمل.. فإذن العالم العامل أحسن الناس حالاً، عند من رأى السعادة مقصورة على الدنيا. فإن الدنيا ليست تصفو لأحد، وليس يفي جدواها بمشاقها. فالممعن في اتباع الشهوات، والمعرض عن النظر في المعقولات، شقيّ في الدنيا باتفاق، وشقيّ في الآخرة إلا عند شرذمة من الحمقى، لا يؤبه لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يعدون في جملة العقلاء رأساً)[43]

الحكمة

بعد أن سمعت من حوار العقل ما لذ وطاب انتقل بي المحاسبي إلى قسم آخر في (كلية التهذيب والترقي) كان اسمه (قسم الحكمة) وقد كتب على بابه هذه الآية :﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)﴾ (البقرة)

عندما دخلت القسم رأيت حلقة من الحلقات كانت تفوح بعطر عجيب ملأني همة وإيمانا.. كان يتربع على عرشها رجل سمعت أن اسمه (ولي الله)[44] .. وأنه كان من بلاد الهند.. وأنه كان يقال له لذلك (الدهلوي)

كان حديثه ينبع من بحر عميق من بحار الحكمة لم أجد فيما قرأت من كتب الفلسفة والحكمة نظيرا له [45]..

بدأ درسه بتلاوة بآية من القرآن تقول:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾ (الأحزاب)، رتلها بخشوع، ثم قال بعدها: المراد بالأمانة في هذه الآية على حسب ما ينص المفسرون هو (تقلد عهدة التكليف).. والمراد منها قبول الإنسان لتعرضه لخطر الثواب والعقاب الناتج عن الطاعة أو والمعصية.

والله تعالى بحكمته لم يعرض على الإنسان هذه الأمانة الثقيلة إلا بعد استعداده لها.. وإباء غيره لقبولها هو إباء طبيعي سببه عدم اللياقة والاستعداد..

ويدل لهذا ما ورد في الآية من قوله تعالى عن الإنسان :﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا  ﴾؛ فإن الظلوم من لا يكون عادلا، ومن شأنه أن يعدل.. والجهول من لا يكون عالما، ومن شأنه أن يعلم.

وغير الإنسان ـ مما نعرفه من الكائنات ـ إما عالم عادل لا يتطرق إليه الظلم والجهل كالملائكة، وإما ليس بعادل ولا عالم ولا من شأنه أن يكسبها كالبهائم.

واللام في قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ لِيُعَذِّبَ ﴾ (الأحزاب: من الآية73) لام العاقبة.. كأنه قال : ( عاقبة حمل الأمانة التعذيب والتنعيم)

إن شئتم أن تدركوا هذا.. فتبصروا في حال الملائكة في تجردها.. فهي لا يزعجها حالة ناشئة من تفريط القوة البهيمية كالجوع والعطش والخوف والحزن، أو إفراطها كالشبق والغضب والتيه.. فهي لا تهمها التغذية والتنمية ولواحقهما.. وإنما تبقى فارغة لانتظار ما يرد عليها من ربها، فإذا ترشح عليها أمر منه من إجماع على إقامة نظام مطلوب أو رضا من شيء، أو بغض لشيء امتلأت به، وانقادت له، وانبعثت إلى مقتضاه، وهي في ذلك فانية عن مراد نفسها باقية بمراد ربها.

في مقابل ذلك البهائم التي لا تزال مشغوفة بمقتضيات الطبيعة، فانية فيها لا تنبعث إلى شيء إلا انبعاثا بهيميا يرجع إلى نفع جسدي واندفاع إلى ما تعطيه الطبيعة فقط[46].

بين هذين كان الإنسان.. وكانت نفس الإنسان..

لقد أودع الله في الإنسان بحكمته الباهرة قوتين.. قوة كقوة الملائكة تتشعب من فيض الروح المخصوصة بالإنسان على الروح الطبيعية السارية في البدن وقبولها ذلك الفيض وانقهارها له[47].

وقوة أخرى هي قوة بهيمية تتشعب من النفس الحيوانية التي تشترك فيها كل الحيوانات.. وهي متشبحة بالقوى القائمة بالروح الطبيعية واستقلالها بنفسها وإذعان الروح الإنسانية لها وقبولها الحكم منها.

وبين هاتين القوتين تزاحما وتجاذبا وصراعا.. فالقوة الملكية تجذب إلى العلو.. والقوة البهيمية تجذب إلى السفل.. وإذا برزت البهيمية، وغلبت آثارها كمنت الملكية.. وإذا برزت الملكية، وغلبت آثارها كمنت البهيمية.

وكما تعلمون.. فإن الله الحكيم يعطي كل شيء بحسب استعداده الأصلي والكسبي.. فإن كسب هيآت بهيمية أمد له فيها، ويسر له ما يناسبها.. وإن كسب هيآت ملكية أمد له فيها، ويسر له ما يناسبها.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾ (الليل).. وقال:﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) ﴾ (الإسراء)

بعد هذا.. فإن لكل قوة لذة وألما.. واللذة تتحقق عند إدراك ما يلائمها.. والألم يتحقق عند إدراك ما يخالفها.. وحال الإنسان في ذلك يشبه حال من استعمل مخدرا في بدنه، فلم يجد ألم لفح النار في حينه.. حتى إذا ضعف أثره، ورجع إلى ما تعطيه الطبيعة وجد الألم أشد ما يكون.

قال بعض تلاميذه: أبهذا تفسر الخدر الذي يقع فيه الساكنون لقوة البهيمية فيهم؟

قال الدهلوي:أجل.. فهم في حال سكر.. والسكران لا يرى مبلغ ما فيه من ألم إلا بعد أن يصحو من سكره.. لكنه إن صحا.. فسيجد من الآلام ما لا تسده كل الملذات التي توهمها.

قال له آخر: ولكن.. كيف تتغلب القوة الملكية التي هي الشطر الأعلى من الإنسان على القوة البهيمية.. كيف يرتفع إلى العلو.. وهو لا يجد أمامه إلا السفل.. وكيف يعرج وهو لا سلم له؟

قال الدهلوي:تعالى الله أن يطلب من الإنسان أن يصعد وهو لم يهيئ له المعارج التي يصعد من خلالها[48].

قال الرجل: فما هذه المعارج؟

قال الدهلوي:معارج التكليف..

قال الرجل: فما علاقة التكليف بنوع الإنسان؟

قال الدهلوي:التكليف من مقتضيات النوع.. والإنسان يسأل ربه بلسان استعداده أن يوجب عليه ما يناسب القوة الملكية.. ثم يثيبه على ذلك.. ويسأله أن يحرم عليه الانهماك في البهيمية.. ويسأله أن يعاقبه على ذلك.

قال الرجل: لم؟

قال الدهلوي:حتى يرتفع.. وحتى تنتصر الملكية على البهيمية.. وحتى يصير ذلك الإنسان السماوي العلوي الذي تاهت جميع الفلسفات البشرية في البحث عنه.

قال الرجل: ألا يمكن أن تزيدنا توضيحا.. فإن من قومنا من يعتبر التكاليف نوعا من القيود التي تمارس على الإنسان لتزيد في عذابه..؟

قال الدهلوي:لا.. كيف يقال هذا.. ألا يبصر هؤلاء.. ألم ينظروا إلى الأشجار وأوراقها وأزهارها وثمراتها.. وما في كل ذلك من الكيفيات المبصرة والمذوقة وغيرها.. ألم يروا كيف جعل الله لكل نوع أوراقا بشكل خاص، وأزهارا بلون خاص، وثمارا مختصة بطعوم.. وبتلك الأمور جميعا يعرف أن هذا الفرد من نوع كذا أو من نوع كذا..

ألم ينظر هؤلاء إلى أصناف الحيوان.. حيث يجدون لكل نوع شكلا وخلقة.. وحركات اختيارية، وإلهامات طبيعية، وتدبيرات جبلية يمتاز كل نوع بها، فبهيمة الأنعام ترعى الحشيش، وتجتر، والفرس والحمار ترعى الحشيش، ولا تجتر، والسباع تأكل اللحم، والطير يطير في الهواء، والسمك يسبح في الماء، ولكل نوع من الحيوان صوت غير صوت الآخر، وحضانة للأولاد غير حضانة الآخر..

وكل هؤلاء ألهموا بما يتناسب مع أمزجتهم وما يصلح نوعهم.

وهكذا الإنسان فقد أوتي من خصائص الصورة النوعية ما يقتضي التكليف.

قال الرجل: بلى.. هم قد نظروا.. ولكن نظرهم لم يهدهم إلا إلى بهيمية الإنسان.. لقد رأوا في الإنسان ما رأوه في أصناف الحيوان كالسعال والتمطي والجشاء ودفع الفضلات ومص الثدي في أول النشأة.. وغير ذلك مما نعرفه جميعا.

قال الدهلوي:ولكن للإنسان خصائص أخرى كثيرة يمتاز بها من سائر الحيوان.. منها النطق.. ومنها فهم الخطاب.. ومنها توليد العلوم الكسبية من ترتيب المقدمات البديهية، أو من التجربة والاستقراء والحدس.. ومنها الاهتمام بأمور يستحسنها بعقله، ولا يجدها بحسه، ولا وهمه، كتهذيب النفس.

إن هذا مما تتفق عليه الشعوب.. حتى سكان شواهق الجبال يجدونه في أنفسهم.. وما ذلك إلا لسر ناشئ من جذر صورتهم النوعية..

وذلك السر هو أن مزاج الإنسان يقتضي أن يكون عقله قاهرا على قلبه، وقلبه قاهرا على نفسه.

انظر إلى تدبير الحق لكل نوع، وتربيته إياه، ولطفه به، فلما كان النبات لا يحس، ولا يتحرك جعل له عروقا تمص المادة المجتمعة من الماء والهواء ولطيف التراب، ثم يفرقها في الأغصان وغيرها على تقسيم تعطيه الصورة النوعية.. ولما كان الحيوان حساسا متحركا بالإرادة لم يجعل له عروقا تمص المادة من الأرض، بل ألهمه طلب الحبوب والحشيش والماء من مظانها، وألهمه جميع ما يحتاج إليه من الارتفاقات.. ولما كان الإنسان مع إحساسه وقبوله للالهامات الجبلية والعلوم الطبيعية ذا عقل وتوليد للعلوم الكسبية ألهمه الزرع والغرس والتجارة والمعاملة، وجعل منهم الحكيم المتكلم بالحكمة الإلهية والطبيعية والرياضية والعملية، وجعل منهم الذي لا يهتدي لذلك إلا بضرب من تقليد، ولذلك ترى أمم الناس من أهل البوادي والحضر متواردين على هذه..

وهذا كله من الخواص والتدبيرات الظاهرة المتعلقة بقوته البهيمية وارتفاقاته المعيشية.

وهكذا القول في قوته الملكية.. فالإنسان ليس كسائر أنواع الحيوان، بل له إدراك أشرف من إدراكاتهم، ومن علومه التي يتوارد عليها أكثر أفراده ـ غير من عصت مادته أحكام نوعه ـ التفتيش عن سبب إيجاده وتربيته، والتنبيه بإثبات مدبر في العالم هو أوجده ورزقه، والتضرع بين يدي بارئه ومدبره بهمته وعلمه حسبما يتضرع إليه هو وجميع أبناء جنسه دائما سرمدا بلسان الحال كما قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج:18)

قال الرجل: وعينا كل هذا.. ولا نحسب أنا نجادلك فيه.. فحدثنا عن كيفية الترقي.. فلا يمكن أن نصعد سلم الملكية ما لم نعرف كيف نترقى عن البهيمية.

قال الدهلوي: خلاصة ما يمتاز به الإنسان من سائر أفراد الحيوان خصلتان تجتمع فيهما جميع فروع التميز..

أما أولاهما، فزيادة القوة العقلية.. فلا شك أن الإنسان أعقل من جميع أفراد الحيوان.. ولهذه القوة شعبتان.. أما أولاهما، فهي غائصة في الارتفاقات لمصلحة نظام البشر واستنباط دقائقها.. وأما الثانية، فشعبة مستعدة للعلوم الغيبية الفائضة بطريق الوهب.

وأما ثانيهما، فبراعة القوة العملية.. ولها كسابقتها شعبتان.. أما أولاهما، فابتلاعها للأعمال من طريق بلعوم اختيارها وإرادتها، فالبهائم تفعل أفعالا بالاختيار، ومع ذلك لا تتلون أنفسها بأرواح تلك الأفعال، وإنما تلتصق بالقوى القائمة بالروح الهوائي فقط، فيسهل عليها صدور أمثالها.. بخلاف الإنسان الذي يفعل أفعالا، فتفنى الأفعال، وتنزع منها أرواحها، فتبلعها النفس، فيظهر في النفس إما نور وإما ظلمة.. وأمارة ذلك ما اتفق عليه أمم بني آدم من عمل الرياضات والعبادات ومعرفة أنوار كل ذلك وجدانا، ومن الكف عن المعاصي والمنهيات ورؤية قسوة كل ذلك وجدانا.

وأما الشعبة الثانية من شعب القوة العملية.. فهي أحوال ومقامات سنية، كمحبة الله والتوكل عليه مما ليس في البهائم جنسها.

قال الرجل: وعينا هذا.. فحدثنا عن الأسباب التي يقتضي التكليف بها المجازاة.

قال الدهلوي: هي أربعة أسباب تربط المجازاة بالتكليف.

قال الرجل: فما أولها؟

قال الدهلوي: مقتضى الصورة النوعية للإنسان، فكما أن البهيمة إذا علفت الحشيش، والسبع إذا علف اللحم صح مزاجهما، وإذا علفت البهيمة اللحم، والسبع الحشيش فسد مزاجهما، فكذلك الإنسان إذا باشر أعمالا أرواحها الخشوع بجانب الحق، والطهارة والسماحة والعدالة صلح مزاجه الملكي، وإذا باشر أعمالا أرواحها أضداد هذه الخصال فسد مزاجه الملكي، فإذا تخفف عن ثقل البدن أحس بالملاءمة والمنافرة كما يحس أحدنا من ألم الاحتراق.

قال الرجل: فما الثاني؟

 قال الدهلوي: جهة الملأ الأعلى، فكما أن الواحد منها له قوى إدراكية مودعة في الدماغ، يحس بها ما وقعت عليه قدمه من جمرة أو ثلجة، فكذلك بصورة الإنسان المتمثلة من الملكوت خدام من الملائكة أوجدها عناية الحق بنوع الإنسان، لأن نوع الإنسان لا يصلح إلا بهم، كما أن الواحد منا لا يصلح إلا بالقوة الإدراكية، فكلما فعل فرد من أفراد الإنسان فعلا منجيا خرجت من تلك الملائكة أشعة بهجة وسرور، وكلما فعل فعلا مهلكا خرجت منها أشعة نفرة وبغض، فحلت تلك الأشعة في نفس هذا الفرد، فأورثت بهجة، أو وحشة، أو في نفوس بعض الملائكة، أو بعض الناس، فانعقد الإلهام أن يحبوه، ويحسنوا إليه، أو يبغضوه، ويسيئوا إليه.. وذلك مثل ما نرى من أن أحدنا وإذا وقعت رجله على جمرة أحست قواه الإدراكية بألم الاحتراق ثم خرجت منها أشعة تؤثر في القلب، فيحزن، وفي الطبع فيحم.

وتأثير أولئك الملائكة فينا شبيه بتأثير الإدراكات في أبداننا، فكما أن الواحد منا قد يتوقع ألما أو ذلا فترتعد فرائصه، ويصفر لونه، ويضعف جسده فهذا كله تأثير القوة الإدراكية في الطبيعة ووحيها إليها وقهرها عليها، فكذلك الملائكة الموكلة ببني آدم يترشح منها عليهم وعلى نفوس الملائكة السفلية إلهامات جبلية، وحالات طبيعية تؤثر فيها[49].

وكما تهبط تلك الأشعة إلى السفل فكذلك يصعد إلى حظيرة القدس منها لون يعد لفيضان هيئة تسمى بالرحمة والرضى والغضب واللعن.. فيتحقق التجدد في الجبروت من هذا الوجه، فيكون غضب، ثم توبة، ويكون رحمة، ثم نقمة.

لقد وردت النصوص المقدسة بكل هذا، فالله تعالى يقول :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ (الرعد: من الآية11).. وقد أخبر النبي r في أحاديث كثيرة أن الملائكة ترفع أعمال بني آدم إلى الله تعالى، وأن الله يسألهم: كيف تركتم عبادي؟.. وأن عمل النهار يرفع إليه قبل عمل الليل.

قال الرجل: فما الثالث؟

قال الدهلوي: مقتضى الشريعة المكتوبة عليهم.. والتي يلهم الناس قبولها واستحسانها، فيؤيد ناصرها، ويخذل معاندها، وتلهم الملائكة الإحسان لمطيعها، والإساءة إلى عاصيها، ثم يصعد منها لون إلى الملأ الأعلى وحظيرة القدس، فيحصل هنالك رضا عن مؤيدها وسخط على عاصيها.

قال الرجل: فما الرابع؟

 قال الدهلوي: النبي إذا بعث في الناس، وأراد الله تعالى ببعثه لطفا بهم وتقريبا لهم إلى الخير، وأوجب طاعته عليهم.. صار العلم الذي يوحى إليه متشخصا متمثلا، وامتزج بهمة هذا النبي ودعائه وقضاء الله تعالى بالنصر له، فتأكد وتحقق.

قال الرجل: فهل هناك فرق بين هذه الأسباب؟

قال الدهلوي: أجل.. أما المجازاة المرتبطة بالصورة النوعية وجهة الملأ الأعلى.. فهي فطرة فطر الله الناس عليها، ولن تجد لفطرة الله تبديلا، وليس ذلك إلا في أصول البر والاثم، وكلياتها دون فروعها وحدودها، وهذه الفطرة هو الدين الذي لا يختلف باختلاف الاعصار، والأنبياء كلهم مجمعون عليه.

وأما المجازاه بمقتضى الشريعة المكتوبة، فمختلفة باختلاف الأعصار، وهي الحاملة على بعث الأنبياء والرسل، وإليها الإشارة بقوله r : (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما، فقال يا قوم أني رأيت الجيش بعيني، وأني أنا النذير العريان، فالنجا النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذيت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فكذلك مثل من أطاعني، فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق)[50] 

وأما المجازاة المرتبطة بالنبي.. فلا تكون إلا بعد بعثة الأنبياء، وكشف الشبهة وصحة التبليغ :﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ (لأنفال: من الآية42)

قال الرجل: وعينا كل هذا.. فحدثنا عن الطريق الذي نترفع به إلى عروش الكمال التي أتاحها الله لنوعنا.. فلا نرى أن السعادة تتحقق إلا بذلك.

قال الدهلوي: صدقت.. وقد تأملت في البشر.. فوجدت أنهم في هذا الباب نوعان:

أما أولهما، فأفراد معدودون محدودون لا يمكن أن يقاس عليهم.. وهم من راموا الانسلاخ عن الطبيعية البهيمية.. وذلك بالتمسك بالحيل الجالبة لركود أحكام الطبيعة وخمود سورتها، وانطفاء لهب علومها وحالاتها مقبلين على التوجه التام لله.. وهذا الذي رامه المتألهون من الحكماء، والمجذوبون من الصوفية.. وقد وصل بعضهم غاية مداها، وقليل ما هم.. وبقي آخرون مشتاقين لها، طامحة أبصارهم إليها، متكلفين لمحاكاة هيآتها.

وأما ثانيهما، فهو للعموم الغالب من الناس.. وهو إصلاح البهيمية، وإقامة عوجها مع تعلق أصلها..

ولما كان مبنى التدبير الإلهي في العالم على اختيار الأقرب فالأقرب، والأسهل فالأسهل، والنظر إلى صلاح ما يجري مجرى جملة أفراد النوع دون الشواذ، وإقامة مصالح الدارين من غير أن ينخرم نظام شيء منهما اقتضى لطف الله ورحمته أن يبعث الرسل أولا لإقامة الطريق الثانية، والدعوة إليها، والحث عليها، ويدل على الأولى بإشارات التزامية، وتلويحات تضمنية لا غير، ولله الحجة البالغة.

قال الرجل: لم كان الأمر كذلك؟

قال الدهلوي: لأن الأولى إنما تأتي من قوم ذوي تجاذب، وقليل ما هم، وبرياضات شاقة، وتفرغ قوى، وقليل من يفعلها، وإنما أئمتها قوم أهملوا معاشهم، ولا دعوة لهم في الدنيا، ولا تتم إلا بتقديم جملة صالحة من الثانية ولا يخلوا من إهمال إحدى السعادتين إصلاح الارتفاقات في الدنيا وإصلاح النفس للآخرة، فلو أخذ بها أكثر الناس خربت الدنيا، ولو كلفوا بها كان كالتكاليف بالمحال، لأن الارتفاقات صارت كالجبلة.

وأما الثانية، فأئمتها المفهمون، وذوو إصلاح، وهم القائمون برياسة الدين والدنيا معا، ودعوتهم هي المقبولة، وسنتهم هي المتبعة، وينحصر فيها كمال المصطلحين من السابقين أصحاب اليمين، وهم أكثر الناس وجودا، ويتمكن منها الذكي والغبي، والمشتغل والفارغ، ولا حرج فيها وتكفي العبد في استقامة نفسه، ودفع أعوجاجها، ودفع الآلام المتوقعة في المعاد عنها.

قال الرجل: فما الأصول التي يرجع إليها تحصيل الطريقة الثانية؟

قال الدهلوي: أصول ذلك كثيرة.. ولكنها ـ مع تفرقها ـ قد تجتمع في أربع خصال إنما بعث الأنبياء للدعوة إليها، والحث عليها، وكل الشرائع تفصيل لها وراجعة إليها [51].

قال الرجل: فما أولها؟

قال الدهلوي: الطهارة.. وحقيقتها أن الإنسان عند سلامة فطرته وصحة مزاجه وتفرع قلبه من الأحوال السلفية الشاغلة له عن التدبير إذا تلطخ بالنجاسات، وكان حاقبا حاقنا انقبضت نفسه، وأصابه ضيق وحزن، ووجد نفسه في غاشية عظيمة، ثم إذا تخفف عن الأخبثين، واغتسل ولبس أحسن ثيابه، وتطيب اندفع عنه ذلك الانقباض، ووجد مكانه انشراحا وسرورا وانبساطا.. وكل ذلك لا لمراءاة الناس والحفظ على رسومه، بل لحكم النفس فقط، فالحالة الأولى تسمى حدثا، والثانية الطهارة.

والذكي من الناس، والذي يرى منه سلامة أحكام النوع وتمكين المادة لأحكام الصورة النوعية يعرف الحالتين متميزة كل واحدة من الأخرى، ويحب إحداهما، ويبغض الأخرى لطبيعته.

والغبي منهم إذا أضعف شيئا من البهيمية، لا بد يعرفهما ويميز كل واحدة من الأخرى.

والطهارة أشبه الصفات النسمية بحالات الملأ الأعلى في تجردها عن الألواث البهيمية، وابتهاجها بما عندها من النور، ولذلك كانت معدة لتلبس النفس بكمالها بحسب القوة العملية..

والحدث إذا تمكن من الإنسان وأحاط به من بين يديه ومن خلفه أورث له استعدادا لقبول وساوس الشياطين.

قال الرجل: فما ثانيها؟

قال الدهلوي: الإخبات لله تعالى.. وحقيقته أن الإنسان عند سلامته وتفرغه إذا ذكر بآيات الله تعالى وصفاته، وأمعن في التذكر تنبهت النفس النطقية، وخضعت الحواس والجسد لها، وصارت كالحائرة الكليلة، ووجد ميلا إلى جانب القدس، وكان كمثل الحالة التي تعتري السوقة بحضرة الملوك، وملاحظة عجز أنفسهم، واستبداد أولئك بالمنع والعطاء.

وهذه الحالة أقرب الحالات النسمية، وأشبهها بحال الملأ الأعلى في توجهها إلى بارئها، وهيمانها في جلاله، واستغراقها في تقديسه، ولذلك كانت معدة لخروج النفس إلى كمالها العلمي.. أي انتقاش المعرفة الإلهية في لوح ذهنها، واللحوق بتلك الحضرة بوجه من الوجوه.

قال الرجل: فما ثالثها؟

قال الدهلوي: السماحة.. هي الهيئة التي تمنع الإنسان من أن يتمكن منه ضد الكمال المطلوب علما وعملا.. وحقيقتها كون النفس بحالة لا تنقاد فيها لدواعي القوة البهيمية، ولا يتشبح فيها نقوشها، ولا يلحق بها ضرر لوثها.. وذلك لأن النفس إذا تصرفت في أمر معاشها، أو عافست اللذات، أو غضبت، أو شحت بشيء، فإنها لا بد في تلك الحالة أن تستغرق ساعة في هذه الكيفية لا ترفع إلى ما ورائها النظر، ثم إذا زايلت تلك الحالة، فإن كانت سمحة خرجت من تلك المضايق كأن لم تكن فيها قط، وإن كانت غير ذلك فإنها تشتبك معها تلك الكيفيات، وتتشبح كما تتشبح نقوش الخاتم في الشمعة.

 والسماحة وضدها لهما ألقاب كثيرة بحسب ما يكونان فيه، فما كان منهما في المال يسمى سخاوة وشحا، وما كان في داعية شهوة الفرج أو البطن يسمى عفة وشرها، وما كان في داعية الرفاهية والنبو عن المشاق يسمى صبرا وهلعا، وما كان في داعية المعاصي الممنوعة عنها في الشرع يسمى تقوى وفجورا، وإذا تمكنت السماحة من الإنسان بقيت نفسه عرية عن شهوات الدنيا، واستعدت للذات العلية المجردة.

قال الرجل: فما رابعها؟

قال الدهلوي: العدالة.. وهي ملكة في النفس تصدر عنها الأفعال التي يقام بها نظام المدينة والحي بسهولة، وتكون النفس كالمجبول على تلك الأفاعيل.. والسر في ذلك أن الملائكة والنفوس المجردة عن العلائق الجسمانية ينطبع فيها ما أراد الله في خلق العالم من إصلاح النظام ونحوه، فتنقلب مرضياتها إلى ما يناسب ذلك النظام، فهذه طبيعة الروح المجردة، فإن فارقت جسدها وفيها شيء من هذه الصفة ابتهجت كل الابتهاج، ووجدت سبيلا إلى اللذة المفارقة عن اللذات الخسيسة، وإن فارقت وفيها ضد هذه الخصلة ضاق عليها الحال، وتوحشت، وتألمت، فإذا بعث الله نبيا لإقامة الدين، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويقوم الناس بالعدل، فمن سعى في إشاعة هذا النور، ووطأ له في الناس كان مرحوما، ومن سعى لردها وإخمالها كان ملعونا مرجوما.

وإذا تمكنت العدالة من الإنسان وقع اشتراك بينه وبين حملة العرش ومقربي الحضرة من الملائكة الذين هم وسائط نزول الجود والبركات، وكان ذلك بابا مفتوحا بينه وبينهم، ومعدا لنزول ألوانهم وصبغهم بمنزلة تمكين النفس من إلهام الملائكة والانبعاث حسبها.

قال الرجل: وعينا هذا.. فحدثنا عن طريق اكتساب هذه الخصال، وتكميل ناقصها ورد فائتها.

قال الدهلوي: اكتساب هذه الخصال يكون بتدبيرين.. أحدهما علمي.. والآخر عملي.

قال الرجل: فحدثنا عن التدبير العلمي.

قال الدهلوي: التدبير العلمي هو أول التدبيرات.. وقد احتيج إليه لأن الطبيعة منقادة للقوى العلمية، ولذلك ترى سقوط الشهوة عند خطور ما يورث في النفس الحياء أو الخوف، فمتى امتلأ علمه بما يناسب الفطرة جر ذلك إلى تحققها في النفس.. ولذلك إذا اعتقد أن له ربا منزها عن الأدناس، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لاراد لقضائه، ولا مانع لحكمه، منعم بأصل الوجود وتوابعه من النعم الجسمانية والنفسانية، مجاز على أعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.. فإن ذلك كله يفيده الهيبة وغاية التعظيم.

قال الرجل: فحدثنا عن التدبير العملي.

قال الدهلوي: العمدة في التدبير العملي هي التلبس بهيآت وأفعال وأشياء تذكر النفس الخصلة المطلوبة، وتنبهها لها، وتهيجها إليها، إما لتلازم عادة بينها وبين الخصلة، أو لكونها مظنة لها بحكم المناسبة الجبلية، فكما أن الإنسان إذا أراد أن ينبه نفسه للغضب، ويحضره بين عينيه يتخيل الشتم الذي تفوه به المغضوب عليه، والذي يلحقه من العار ونحو ذلك، فكذلك لكل واحدة من هذه الخصال أسباب تكتسب بها، والاعتماد في معرفة تلك الأمور على ذوق أهل الأذواق السليمة.

فأسباب الحدث امتلاء القلب بحالة سفلية، كقضاء الشهوة، وإضماره مخالفة الحق وإحاطة لهن الملأ الأعلى به، وكونه حاقبا حاقنا، وقرب العهد بالبول والغائط والريح، وهذه الثلاثة فضول المعدة، وتوسخ البدن والبخر واجتماع المخاط ونبات الشعر على العانة والابط وتلطخ الثوب والبدن بالنجاسات المستقذرة، وامتلاء الحواس بصورة تذكر الحالة السفلية كالقاذورات.. والطعن في الملائكة والصالحين والسعي في إيذاء الناس.

وأسباب الطهارة إزالة هذه الأشياء واكتساب أضدادها واستعمال ما تقرر في العادات كونه نظافة بالغه كالغسل والوضوء ولبس أحسن الثياب واستعمال الطيب، فإن استعمال هذه الأشياء تنبه النفس على صفة الطهارة.

وأسباب الإخبات مؤاخذة نفسه بما هو أعلى حالات التعظيم عنده من القيام مطرقا والسجود والنطق بألفاظ دالة على المناجاة والتذلل لديه ورفع الحاجات إليه، فإن هذه الأمور تنبه النفس تنبيها قويا على صفة الخضوع والاخبات.

وأسباب السماحة التمرن على السخاوة والبذل والعفو عمن ظلم ومؤاخذة نفسه بالصبر عند المكاره ونحو ذلك.

وأسباب العدالة المحافظة على السنة الراشدة بتفاصيلها.

الطب

انتقلنا بعد قسم الحكمة إلى قسم آخر كان أشبه بالعيادة .. وقد رأيت مكتوبا على بابه (عيادة عيوب النفس ومداوتها)[52]، فسألت المحاسبي عنه، فقال: هذه العيادة تحاول أن تشخص عيوب النفس.. لتقوم بعد ذلك بعلاجها.

قلت: فمن طبيبها؟

قال: رجل من أهل الله يقال له (أبو عبد الرحمن السلمي)[53].. قدمت به من (نيسابور) لما رأيت فيه من حكمة وعلم وقدرة على التأثير والإصلاح..

وقد قدر الله بمنه وكرمه أني بمجرد أن قدمت به، وسمع به الناس.. انهالوا عليه.. واستفادوا منه.. وتربوا على يديه..

قال ذلك، ثم طلب مني أن ندخل تلك العيادة العجيبة التي لم أر مثلها في حياتي..

رأينا جمعا من الناس ملتفين حول الشيخ كما تلتف الهالة حول الشمس.. كانوا وكأن على رؤوسهم الطير..

جلسنا مع الجمع نسمع وصفات الطبيب الحكيم..

قال أحد الحاضرين: يا شيخ.. أشكو إليك نفسي فإنها تطلب كشف الضر ممن لا يملكه، وترجو النفع ممن لا يقدر عليه، وتهتم بالرزق وقد تكفل الله لها بالرزق.

قال السلمي: فعالجها بالرجوع إلى صحة الإيمان بما أخبر الله في كتابه.. فقد قال :﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)﴾ (الأنعام:17).. وقال :﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6).. ثم انظر إلى ضعف الخلق وعجزهم لتعلم أن كل من يكون محتاجا لا يقدر على قضاء حاجة غيره.. ومن يكون عاجزا لا يمكنه ان يصلح أسباب غيره.

قال آخر: نفسي ألفت الخواطر الرديئة حتى استحكمت فيها المخالفات.

قال السلمي: فعالجها برد تلك الخواطر في الابتداء، لئلا تستحكم.. وذلك بالذكر الدائم، وملازمة الخوف، وبعلمك أن الله يعلم ما في سرك كما يعلم الخلق ما في علانيتك، فتستحي منه أن تصلح للخلق موضع نظرهم، ولا تصلح موضع نظر الحق.

حدثني شيخي وقدوتي إبراهيم الخواص، قال : (أول الذنب الخطرة، فإن تداركها صاحبها بالكراهية وإلا صارت سقط الهوى فتصد العقل والعلم والبيان)

قال آخر: نفسي استحكمت فيها الغفلة والتواني والإصرار والتسويف وتقريب الأمل وتبعيد الأجل.

قال السلمي: فعالجها بدواء الجنيد.

قال: وما دواؤه؟

قال: لقد سئل: كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله؟.. فقال : ( بتوبة تحل الإصرار، وخوف يزيل التسويف، ورجاء يبعث على قصد مسالك العمل، وذكر الله على اختلاف الأوقات، وإهانة النفس بقربها من الأجل، وبعدها عن الأمل)، قيل: فبم يصل العبد إلى هذا؟ فقال : ( بقلب مفرد فيه توحيد مجرد)

قال آخر: نفسي استحكمت فيها رؤيتها لأعمالها، وإعجابها بها، فانشغلت بها عن كل شيء.

قال السلمي: فعالجها برؤية فضل الله عليها في جميع الأحوال تسقط عنك رؤيتها لنفسها.. حدثني شيخي الواسطي قال : ( أقرب  شيء إلى مقت الله رؤية النفس وأفعالها)

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فقد انشغلت بعيوب الناس عما بها من عيبها.

قال السلمي: فعالجها بمحبة الصالحين والائتمار بأوامرهم.. وأخبرها أن أقل حسنة تفعلها أن تسكت عن عيوب الناس وتعذرهم فيها وتستر عليهم خزاياهم لعل الله أن يصلحها لها ما ابتليت به من عيوبها.. فقد قال r : (من ستر على أخيه المسلم ستر الله عورته ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه في جوف بيته)

وحدثني شيخي (زاذان المداينى) قال : (رأيت أقواما من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس، فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب.. ورأيت أقواما لم تكن لهم عيوب اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوب)

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها اشتغلت بتزيين الظواهر.. والتخشع من غير خشوع.. والتعبد من غير حضور.

قال السلمي: فعالجها بالاشتغال بحفظ الأسرار، ليزين الله أنوار باطنها.. فقد قال r : ( من أصلح سريرته أصلح الله علانيته )

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها تطلب العوض على أعمالها.

قال السلمي: فعالجها برؤية تقصيرها في عملها، وقلة إخلاصها.. فإن الكيس في عمله من أعرض عن طلب الأعراض أدبا وتورعا.. وأعلمها أن ما قدر لها سيأتيها دنيا وآخرة.

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنك لا لذة الطاعة.

قال السلمي: ذلك من سقم القلب، وخيانة السر.. فعالجها بأكل الحلال، ومداومة الذكر، وخدمة الصالحين والدنو منهم، والتضرع إلى الله تعالى في ذلك.. ليمن على قلبك بالصحة وزوال ظلمات الأسقام فتجد عند الذكر لذة الطاعة.

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها لا تحن لشيء كما تحن للراحة والنوم والكسل.

قال السلمي: الكسل ميراث الشبع.. فإن النفس إذا شبعت قويت.. فإذا قويت أخذت بحظها وغلبت القلب بوصلها إلى حظها.. فعالجها بالتجويع فإنها إذا جاعت عدمت حظها، وضعفت فغلب عليها القلب، فإذا غلب عليها حملها على الطاعة وأسقط عنها الكسل، ولذلك قال النبي r : ( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولابد ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس)

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها تطلب الرئاسة بالعلم.. وتتكبر به وتفاخر وتباهي وتتطاول..

قال السلمي: فعالجها برؤية منة الله عليها في أن جعلها وعاء لأحكامه.. وعالجها برؤية تقصيرها في شكر نعمة الله عليها بالعلم والحكمة والتزام التواضع والانكسار والشفقة على الخلق والنصيحة لهم.. فإنه روى عن النبي r أنه قال : (من طلب العلم ليباهى به العلماء، أو ليمارى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده في النار)

وقال بعض السلف : ( من ازداد علما فليزدد خشية، فإن الله تعالى يقول :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28).. وقال رجل للشعبي : ( أيها العالم)، فرد عليه : ( إنما العالم من يخشى الله)

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها كثيرة الكلام.

قال السلمي: فعالجها بإخبارها بأنها مؤاخذة بما تتكلم به.. وأنه مكتوب عليها.. وأنها مسئولة عنه.. فالله تعالى يقول :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾ (الانفطار).. ويقول :﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).. ويقول :﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114)

 ويقول r : ( وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )[54] وقال: (لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي)[55]

قال آخر: أشكو لك نفسي، فإنها إن رضيت مدحت الراضي عنه فوق الحد، وإذا غضبت ذمته، وتجاوزت الحد.

قال السلمي: فعالجها برياضتها على الصدق والحق حتى لا تتعدى في مدح من رضى عنه ولا في ذم من سخط عليه، فإن أكثر ذلك من قلة المبالاة بالأوامر والنواهي.. وقد قال رسول الله r : (احثوا في وجوه المادحين التراب )

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها تستخير الله تعالى في أفعالها، ثم تتسخط عليه فيما يختار لها.

قال السلمي: فعالجها بإعلامها بأنها لا  تعلم من الأشياء إلا ظواهرها.. أما الله فإنه يعلم علنها وحقائقها.. وأعلمها بأن حسن اختيار الله لها خير من اختيارها لنفسها.. فإن الله هو المدبر، ولا مدبر سواه.. وأعلمها بأنها سخطها للقضاء لا يغير المقضى.

قال آخر: أشكو لك نفسي.. فإنها كثيرة التمني.. وليس تمنيها إلا اعتراض على الله تعالى في قضائه وقدره.

قال السلمي: فعالجها بإعلامها أنها لا تدري ما يعقبه التمني.. أيجرها إلى الخير أم إلى الشر.. أم إلى الرضا أم إلى السخط.. فإذا أيقنت ذلك رجعت إلى الرضا والتسليم، فتستريح.. ولذلك قال النبي r : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) ولذلك قال النبي {صلى الله عليه وسلم} ( إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته )

قال آخر: أشكو إليك نفسي.. فهي كثرة الذنوب والمخالفات.. وهي تجعل قلبي مثل الحجارة الصلبة القاسية.

قال السلمي: فعالجها بكثرة الاستغفار، والتوبة آناء الليل وأطراف النهار.. وعالجها بمداومة الصيام والتهجد بالليل والناس نيام.. وعالجها بخدمة أهل الخير ومجالسة الصالحين وحضور مجالس الذكر مع الذاكرين.. فقد روي فإن رجلا شكي إلى رسول الله r قسوة قلبه فقال: (أدنه من مجالس الذكر).. وقال:(إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)، وقال:( إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب واستغفر الله ذهبت فإن أذنب ثانيا فكت في قلبه نكتة أخرى إلى ان يصير القلب غيثا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا)، ثم قرأ النبي r :﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14)

قال آخر: أشكو إليك نفسي وسرورها لمن يمدحها.. وطلبها الراحة.

قال السلمي: ذلك من نتاج الغفلة.. فعالجها بالتيقظ لما بين يديها، وأعلمها بتقصيرها فيما أمرت به، وارتكابها ما نهيت عنه.. وأعلمها أن هذه الدار سجن.. ولا سرور ولا راحة في السجن.. فإن النبي r قال: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)..

حدثني أستاذي داود الطائي قال : ( قطع نياط قلوب العارفين أحد الخلودين)، وقال رجل لبشر الحافي: ما لى أراك مهموما؟ فقال : ( لأني مطلوبه)

قال آخر: أشكو إليك نفسي.. واتباعها هواها، وموافقتها لمواضع رضاها.. وحرصها على مراداتها.

قال السلمي: فعالجها بقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ (النازعات).. وأعلمها بقوله تعالى :﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾ (يوسف).. حدثني مطر الداري قال : ( لنحت الجبال بالأظافير أهون من زوال الهوى إذا تمكن في النفس)

قال آخر: أشكو إليها نفسي واسترواحها إلى معاشرة الأقران.. وميلها إلى صحبة الإخوان.

قال السلمي: فأعلمها بأنها ستفارق كل صاحب.. وأنه لا يدوم لها إلا صحبة ربها.. فقد روي أن جبريل u قال للنبي r : ( عش ما عشت فإنك ميت وأحببت من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به)

حدثني أبو القاسم الحكيم قال : ( الصداقة عداوة إلا ما صافيت، وجمع المال حسرة إلا ما واسيت، والمخالطة تخليط إلا ما داويت)

السياسة

بعد أن استفدت ما شاء الله لنا أن أستفيد في عيادة أبي عبد الرحمن السلمي سرنا إلى قسم آخر كتب على بابه  (تهذيب الأخلاق) [56].. فسألت المحاسبي عنه، فأخبرني أن هذا القسم خاص برجل جاء به من الري يطلق عليه (ابن مسكويه)[57]

فسألته عن الفرق بين هذا والذي قبله.. فقال لي: ذاك رجل يقصده الكل.. أما هذا فرجل يقصده صنف خاص من الناس.. وهم صنف يحن إلى الحكمة العقلية ويميل إليها.. ولا يؤتى إليه إلا من قبلها.

دخلنا قاعة الحكمة التي تربع فيها ابن مسكويه يحيط بها جمع قليل من الناس.. وقد كان من حسن حظنا أن حظرنا الدرس من أوله..

بدأ ابن مسكويه درسه بقوله: (الحمد لله الذي أرشد إلى الصراط المستقيم ومدح الخلق العظيم وأرسل نبيه محمدا r متمما لمكارم الأخلاق، وأدبه فأحسن تأديبه على الإطلاق.. اللهم إنا نتوجه إليك ونسعى نحوك ونجاهد نفوسنا في طاعتك ونركب الصراط المستقيم الذي نهجته لنا إلى مرضاتك فأعن بقوتك واهدنا بعزتك واعصمنا بقدرتك وبلغنا الدرجة العلي برحمتك والسعادة القصوى بجودك ورأفتك إنك على ما تشاء قدير)[58]

ثم قال: غرضنا في هذا الدرس أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا، لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بترتيب تعليمي.

وقد رأيت أن حسن طريق في ذلك هو أن نعرف ـ أولا ـ نفوسنا ماهي، ولأي شيء أوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها، وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الأشياء العائقة لنا عنها، وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يدسيها فتخيب فإن الله تعالى يقول :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الليل)

***

ثم أخذ يتحدث عن حقيقة النفس وقواها بما بهرني .. ولكن أهم ما سمعته منه، واستفدت منه كثيرا قوله: (لقد شبه الحكماء من أهمل سياسة نفسه العاقلة وترك سلطان الشهوة يستولي عليها برجل معه ياقوتة حمراء شريفة لا قيمة لها من الذهب والفضة جلالة ونفاسة.. وكان بين يديه نار تضطرم فرماها في حباحبها حتى صارت كاسا لا منفعة فيها، فخسرت منافعها.

فقد علمنا الآن أن النفس العاقلة إذا عرفت شرف نفسها وأحست بمرتبتها من الله عزوجل أحسنت خلافته في تربية هذه القوى وسياستها ونهضت بالقوة التي أعطاها الله تعالى إلى محلها من كرامة الله تعالى ومنزلتها من العلو والشرف ولم تخضع للسبعية ولا للبهيمية.

بل تقوم النفس الغضبية التي سميناها سبعية وتقودها إلى الأدب بحملها على حسن طاعتها.. ثم تستنهضها في أوقات هيجان هذه النفس البهيمية وحركتها إلى الشهوات حتى يقمع بهذه سلطان تلك وتستخدمها في تأديبها وتستعين بقوة هذه على تأبى تلك)

لقد محت هذه الكلمات عن نفسي توهم الصراع بين قوى النفس .. فقد عرفت أن الله ما أودع فينا تلك القوى التي نراها متناقضة إلا لنستعمل بعضها في إصلاح بعض.

التربية

بقيت مدة أستمع إلى سياسة النفس التي نطق بها ابن مسكويه.. إلى أن طلب مني صاحبي المحاسبي أن نسير إلى رجل له طرقه الخاصة في مخاطبة النفوس..

لم نسر إلا قليلا حتى رأينا رجلا يقال له (بديع الزمان)[59]  كان بالغ الذكاء والفطنة.. قوي الحجة والدليل.. له قدرة كبيرة على الغوص في أعماق النفوس.. وله قدرة كبيرة على التحاور معها.

كان يخاطب أطفالا.. يقول لهم بلطف وحنان: كان يا ما كان في قديم الزمان.. وسالف العصر والأوان.. كان هناك سلطان له ثروات طائلة، وخزائن هائلة، تحوي جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز خفية أخرى عجيبة جداً.. وكان هذا السلطان صاحب علمٍ واسع جداً، وإحاطة تامة، واطلاع شامل على العلوم البديعة التي لاتحد، مع مهارات فائقة لا تعد.

وبما أن كل ذي جمال وكمالٍ يحب أن يشهَد الغير جمالَه وكمالَه.. فكذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضاً هائلاً لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يُلفت أنظار رعيته إلى أبهة سلطنته، وعظمة ثروته، ويُظهِر لهم من خلاله خوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهِد الكل جمالَه وكمالَه.

ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جداً، وقسّمه بشكل بارع إلى منازل ودوائر مزيّناً كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار إبداعه وأجملها، ونظّمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته.

وبعد أن أتمه وكمله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نِعَمه الثمينة، مخصصاً لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعدّ بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبيناً سخاء وإبداعا وكرماً لم يشهد له مثيل، حتى كأن كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مَدّ عليها من نِعمٍ غالية لا تحصى.

ثم دعا أهالي أقطار مملكته ورعاياه، للمشاهدة والتنزه والضيافة، وعلّم كبير رُسُل القصر المكرّمين ما في هذا القصر العظيم من حكمٍ رائعة، وما في جوانبه ومشتملاته من معان دقيقة، مخصصاً إياه معلماً رائداً وأستاذا بارعاً على رعيته، ليعلّم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة، ومعرّفاً لكل الداخلين رموزَه وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والإشارات الدقيقة التي فيه، ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة. مبيناً لهم تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول، وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلاّ من وراء حجاب.

وكان هذا المعلم الخبير يتوسط تلامذته في أوسع دائرة من دوائر القصر الضخم، وكان مساعدوه منتشرين في كلٍ من الدوائر الأخرى للقصر.

بدأ هذا المعلم هذا بإلقاء توجيهاته إلى المشاهدين كافة قائلاً:( أيها الناس إن سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا، وبإظهار ما ترونه أمام أعينكم من مظاهر، أن يعرّف نفسه إليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته.

إنه يريد بهذه التزيينات الجمالية، أن يحبب نفسه إليكم، فحببوا أنفسكم إليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.

وهو يتودد إليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن إصغائكم لأوامره وبطاعتكم إياه.

وهو يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا الإكرام والإغداق من النعم فعظّموه أنتم بالشكر.

وهو يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله في هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فأظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته، ونيل رضاه.

وهو يريد منكم أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال، بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لا تقلد على جميع المصنوعات.. فكل شيء له، وخاص به، صدر من يد قدرته.. فعليكم أن تدركوا جيداً: أن لا سلطان ولا حاكم إلاّ هو، فهو السلطان الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا مثيل)

هكذا خاطب هذا المعلم الكبير الداخلين للقصر والمتفرجين عليه، لكن الداخلين انقسموا إلى فريقين:

أما الفريق الأول.. فكان من أصحاب العقول النيرة، والقلوب الصافية المطمئنة، الذين أدركوا قدر أنفسهم.. كان هؤلاء حيثما تجولوا في آفاق ذلك القصر يسرحون بنظرهم إلى عجائبه، وهم يرددون: لابد أن في هذا شأناً عظيماً.. ولابد أن وراءه غاية سامية.. فعلِموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني.. ومن حيرتهم بدئوا يقولون: يا تُرى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة في ما شاهدناه ونشاهده؟!

وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الأمر، إذا بهم يسمعون صوت خطبة الأستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا أن لديه مفاتيح جميع الأسرار وحل جميع الألغاز، فأقبلوا إليه مسرعين، وقالوا له: السلام عليكم أيها الأستاذ.. إن مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عرّيف صادق مدقق أمين مثلك، فالرجاء أن تعلّمنا مما علّمك سيدُنا العظيم.

فذكَّرهم الأستاذ بخطبته المذكورة آنفاً، فاستمعوا إليه خاشعين، وتقبّلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيمّا غنيمة، إذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضي عنهم السلطان بما أبدوا من رضى وسرور لأوامره. فدعاهم الى قصر أعظم وأرقى لايكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم.

هذا حال الفريق الأول.. وهذا جزاؤه..

أما الفريق الثاني.. فكان أهله من الذين فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما إن دخلوا القصر، حتى غلبتْ عليهم شهواتُهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسُهم من الاطعمة اللذيذة، صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادّين آذانهم عن جميع تلك الارشادات الصادرة من ذلك المعلم العظيم، وتوجيهات تلاميذه.. فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم، كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السُكرُ، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به فأزعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم، فأساءوا الادب مع قوانين السلطان المعظم وانظمته، لذا أخذهم جنوده وساقوهم الى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاءً وفاقاً على ما عملوا من سوء الخُلق)

حكى بديع الزمان هذه الحكاية، ثم التفت للأطفال الملتفين به، وقال: الى هنا انتهت القصة يا أبنائي.. وسأختبر ذكاءكم في معرفة العبر التي تختزنها.. فما يوحي إليكم القصر؟

قال طفل من الأطفال الملتفين به: إن القصر ـ سيدنا ـ يشير إلى هذا العالم الذي نعيش فيه.. فهذا العالم المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم، والمفروش بهذه الارض المزيّنة بالازهار المتجددة كل يوم.. ليس إلا قصرا بديعه بناه لنا ربنا العظيم.

قال بديع الزمان: وما توحي إليكم أوصاف ذلك القصر التي وصفتها لكم؟

قال طفل آخر: أما منازل ذلك القصر فقد فهمت منها تعدد العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات الله.. وأما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة.. وأما الأطعمة اللذيذة التي فيه، فهي عيون الرحمة الالهية التي تشاهد في كل مكان وفي كل زمان.. وأما ومطبخ ذلك القصر هو سطح الارض وقلبها الذي يتّقد ناراً.

قال بديع الزمان: وما يوحي إليكم ذلك السلطان العظيم صاحب القصر؟

قال طفل آخر: لاشك أنه يدلنا على الله تعالى.. فهو سلطان الأزل والأبد.. وهو الملك القدوس ذو الجلال والاكرام الذي :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )(الاسراء: من الآية44)

قال بديع الزمان: وما توحي إليكم تلك الكنوز الخفية؟

قال طفل آخر: أعظم الكنوز هي تجليات أسماء الله الحسنى المقدسة.

قال بديع الزمان: ومن ذاك المعلم الحكيم؟

قال طفل آخر: لاشك أنه سيدنا، وسيد الكونين محمد r.

قال بديع الزمان: فمن مساعدوه، ومن تلاميذه؟

قال طفل آخر: مساعدوه هم الانبياء ـ عليهم السلام ـ وتلاميذه هم الاولياء الصالحون، والعلماء الأصفياء.

قال بديع الزمان: فمن خدم ذلك السلطان؟

قال طفل آخر: لاشك أنهم الملائكة الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام.

قال بديع الزمان: فمن الذين دُعُوا إلى دار الضيافة؟

قال طفل آخر: إنهم نحن.. نحن البشر هم الذين استضافنا الله في هذا القصر الدنيوي.

قال بديع الزمان: فمن الفريقان؟

قال طفل آخر: أما أولهما، فهم أهل الإيمان الذين لم يرتضوا لأنفسهم مائدة غير مائدة القرآن.. وأما ثانيهما، فهم أهل الكفر والطغيان.. الصمّ البكم الضالون الذين اتبعوا أهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلاّ ظاهرها، فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

قال بديع الزمان: صدقتم يا أبنائي.. ونجحتم في الاختبار.. فاجتهدوا أن تكونوا من أصحاب الفريق الأول.. أولئك الأبرار السعداء الذين أنصتوا إلى المعلم العظيم والأستاذ الجليل.

ذلك الفريق الذي أدى الوظائف المتنوعة للعبودية في هذا المسجد الأكبر المسمى بدار الدنيا، حتى اتخذوا صورة أحسن تقويم، واعتلوا مرتبةً تفوق جميع المخلوقات قاطبة، اذ أصبحوا خلفاء أمناء في الأرض، بما اُودع فيهم من الإيمان والأمانة..

وبعد انتهاء مدة الامتحان والخروج من قبضة الاختبار يدعوهم ربهم الكريم إلى السعادة الأبدية والنعيم المقيم ثواباً لإيمانهم، ويرزقهم الدخول إلى دار السلام جزاء إسلامهم، ويكرمهم - وقد أكرمهم - بنعمٍ لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر، إذ المشاهد المشتاق لجمال سرمدي والعاشق الذي يعكسه كالمرآة، لابد أن يظل باقياً ويمضي إلى الأبد.

هذه هي عقبى تلاميذ القرآن.. اللّهمّ اجعلنا منهم!.

أما الفريق الآخر وهم الفجار والأشرار الذين ما إن دخلوا قصر هذا العالم حتى قابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، واتهموا الموجودات كلها بالتفاهة وحقّروها بالعبثية ورفضوا تجليات الأسماء الإلهية على الموجودات كلها، فارتكبوا جريمة كبرى في مدة قصيرة، مما استحقوا عذاباً خالداً.

قال ذلك، ثم التفت إلينا، وقال، وكأنه يخاطبني: فيا نفسي الحائرة.. ويا صديقي المغرم بالهوى.. أتحسبون أن مهمة حياتكم محصورة في تلبية متطلبات النفس الأمارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة إشباعا لشهوة البطن والفرج؟.. أم تظنون أن الغاية من إدراج ما أودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة، وآلات وأعضاء حساسة، وجوارح وأجهزة بديعة، ومشاعر وحواس متجسسة، إنما هي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية؟ حاشَ وكلا!!

ويا صديقي الحميم، ويا نفسي الامارة بالسوء.. استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس مال عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني.. فالعاقبة وخيمة، اذ تُردّون الى دَرَكةٍ أدنى من أخس حيوان، علماً أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان!

***

بعد أن بقينا مدة نستمع لحكمة هؤلاء الحكماء قال لي المحاسبي: لاشك أنك تريد أن ترى تأثير هذه التعاليم في الواقع.

قلت: لقد طرقت ما في نفسي.. فأنا أشعر، وكأني أعيش في برج عاجي لا علاقة له بالواقع.

قال: تعال معي.. وسترى النفوس المطهرة، وكيف تتحول معها الحياة..

سرت معه إلى محال كثيرة[60].. وقد رأيت فيها من طهارة النفوس وسماحتها ولطفها وجمالها ما لا يمكن التعبير عنه..

لقد رأيت مقابل كل صورة من الصور التي رأيتها من تلاميذي صورة تنسخها وتمحوها..

وقد أيقنت من خلال كل ذلك أن الله وضع نفس الإنسان بيد الإنسان.. وأن لذتها وسعادتها لا تتحقق إلا في اختياراتها الرفيعة.. وأن حريتها الحقيقية لا تكمن إلا في عبوديتها.

قلنا: فقد أسلمت إذن؟

قال: لم يبق بيني وبين الإسلام إلا شعرة واحدة.. لكن لست أدري من قطعها.. وقد جئت هنا أبحث عمن يصلني بها.

قلنا: ألم تكن معهم؟

قال: بلى.. لقد كنت معهم.. ولكني في اليوم الذي أردت أن أكسر فيه الخراسانات المسلحة التي كانت تحول بيني وبين إعلان إسلامي لم أجد أحدا منهم.

قلنا: أين ذهبوا؟

قال: لقد أجمع جميع من سألتهم على أنهم جاءوا إلى هذه البلاد ليقمعوا الفتنة التي تريد أن تستأصل دين محمد من الأرض.. لكن قدري رماني إلى هذه الحفرة التي ترون.. فصار سبب حياتي هم سبب موتي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى (جان بول سار تر) ولد عام (1905م) ومارس التدريس في (الهافر) ثم في المعهد الفرنسي بـ (برلين)، واعتقل عام (1940) ولبث سنة كاملة في السجن، ثم تخلى عن مهنة التدريس وقد تأثر في فلسفته بمؤلفات (هوسرل) و(هيجدر)… وقد كان شيوعياً في ابتداء أمره، ثم عدل عن ذلك إلى (الوجودية) التي تزعمها، وصار على طرفي نقيض مع الشيوعية، ولذا كل من الفريقين يحارب الآخر ويهاجمه أشد مهاجمة، لكنه كان يعتقد بأن المستقبل للاشتراكية، لأن ظروفها باقية، ولسارتر مكان خاص في (باريس) يرتاده مريدوه، ولهم أشكال غريبة وهيئات خاصة من حيث الملبس وغيره، ولسارتر آراء خاصة حول (الكون) و(الإنسان) و(النظام) و(الأخلاق) وغيرها، وكثيراً ما يميل إلى صب آرائه في القوالب القصصية، مما يجعل فهم آرائه أصعب، والوجودية ليست مبدءاً اخترعه هو بل كانت من ذي قبل وإنما نفخ فيها وجعل لها قوالب جديدة. (انظر: الموسوعة الحرة، وغيرها)

([2])الوجودية: حركة فلسفية ظهرت في أوروبا أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وسميت الوجودية لأن معظم أعضائها اهتموا مبدئيًا بطبيعة الوجود أو الكينونة، فقصدوا بمصطلح الوجود الوجود البشري.

وقد نشأت الوجودية من جهود اثنين من مفكري القرن التاسع عشر هما سُورِين كيركيجارد، الفيلسوف الدنماركي اللاهوتي البروتستانتي الذي يُعدّ مؤسس الحركة، وفريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني.

وتشمل قائمة المفكرين الوجوديين في القرن العشرين الفرنسيين: ألبير كامو وجان بول سارتر، وجابرييل مارسيل، والفلاسفة الألمان: كارل ياسبر ومارتين هايدجر والمفكر الروسي الديني السياسي نيقولاس بيردييف، والفيلسوف اليهودي مارتن بوبر.

وهي تُعدُّ ـ إلى حد كبير ـ ثورة ضد فلسفة أوروبا التقليدية التي وصلت ذروتها لدى الفلاسفة الألمان: إيمانويل كانط وجورج ولهلم وفريدريك هيجل، ومال الفلاسفة التقليديون إلى اعتبار الفلسفة علمًا، وحاولوا أن يضعوا مبادئ المعرفة الموضوعية الصحيحة بصفة عامة ومؤكدة، ويرى الوجوديون أن المعرفة الموضوعية العامة والأكيدة هي مَثَلٌ أعلى لا يُمكن الوصول إليه. وهم يؤكدون حقيقة أن كل فرد، حتى الفيلسوف أو العالم الذي يبحث عن المعرفة المطلقة، هو كائن بشري محدود فقط.

وهم يرون أن المأزق موجود في قلب الحالة البشرية، فهم يرون الحياة مجموعة قرارات، وعلى الفرد أن يقرر باستمرار ما هو صحيح وما هو زائف، ما هو حقيقي وما هو خاطئ، وأي معتقدات تُقبل وأيها تُرفض وماذا نفعل وماذا لا نفعل. ولكن لا توجد معايير موضوعية يمكن أن يلجأ إليها الشخص للإجابة عن مشكلات الاختيار، لأن المعايير المختلفة تقدم نصائح متضاربة، ويجب على الفرد أن يقرر أي المعايير يقبل وأي المعايير يرفض.

ويستنتج الوجوديون أن الاختيار البشري عملية ذاتية لأن الأفراد في النهاية يجب أن يمارسوا اختياراتهم بدون تأثير من المعايير الخارجية كالقوانين، وقواعد الأخلاق، أو التقاليد. وهم بذلك أحرار. ونظرًا لأنهم يختارون بحرية فإنهم مسؤولون تمامًا عن اختياراتهم. ويؤكد الوجوديون أن الحرية تقترن بالمسؤولية. ولكون الأفراد مجبرين على الاختيار لأنفسهم ـ عند أصحاب هذا الاتجاه ـ فهم بالضرورة أحرار.

وتُعدُّ المسؤولية من وجهة النظر الوجودية الجانب المظلم للحرية، وعندما يدرك الأفراد أنهم مسؤولون كلية عن قراراتهم وأعمالهم ومعتقداتهم، يتملكهم القلق. ويحاولون الهروب بتجاهل أو إنكار حريتهم ومسؤوليتهم، أي إنكار موقفهم الحقيقي وبهذا ينجحون فقط في خداع أنفسهم. وينتقد بعضهم هذا الخداع الذاتي. ويصرون على قبول المسؤولية الكاملة من أجل سلوكهم مهما كانت هذه المسؤولية صعبة. (انظر: الموسوعة العربية العالمية، والموسوعة الحرة.. وغيرها)

([3]) أشير به إلى المحاسبي، وهي الشخصية التي جعلناها مقابلة لسارتر في هذا الفصل، وسنترجم لها عند الحديث عنها.

([4]) تنقسم الوجودية من حيث موقفها من الدين إلى قسمين: (وجودية) ملحدة، و(وجودية مسيحية).. واللاهوتيون من الوجوديين لا يحاولون أن يؤسسوا الدين على الأدلة العقلية. فالمعتقد الديني في رأيهم ليس مشكلة تتطلب إثباتًا أو رفضًا، ولكن تتطلب قرارًا، مثل جميع القرارات البشرية الأخرى، يجب أن تتخذ بحرية كاملة بوساطة كل فرد في غياب الدليل المقنع. وينبع اهتمام الوجودي بالدين من اهتمام مبدئي بالتجربة البشرية الدينية. (انظر: الموسوعة العربية العالمية، والموسوعة الحرة.. وغيرها)

([5])انظر : مشاهداتي في بريطانيا: د. عبد الله الخاطر، ص 10.

([6]) استفدنا من الدراسات والإحصائيات الواردة في هذه الفقرة من مقال طويل بعنوان (ظلم المرأة في ظل الحضارة الغربية)، موقع إسلاميات.

([7]) جريدة الشرق الأوسط عدد: (5170 )

([8]) الوطن الكويتية العدد (5711)

([9])  جريدة صوت الكويت العدد 542.

([10]) حسب إحصائية جرت عام 1974م.

([11]) ذكرنا في الرسائل السابقة الكثيرة من الأدلة على هذا، ولذلك لم نحتج إلى إعادته هنا.

([12])  انظر: (القتل الرحيم: هل هو رغبة إنسانية أم دعوة شيطانية؟؟)، الدكتور محمد السقا عيد، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وانظر: مجلة (زهرة الخليج) في عددها رقم 694 يوليو 1992 السنة الرابعة عشرة.

وقد ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة ( أدوية من الأرض) من سلسلة (ابتسامة الأنين)

([13]) رواه البخاري ومسلم.

([14]) ذكرنا في هذا المبحث الأسس التي تقوم عليها النظرة الإسلامية للتعامل مع النفس.. وهي خير رد على المذاهب الوجودية.. أما التفاصيل المرتبطة بهذا، فقد أفردنا لها فصولا في رسالتي (أسرار الإنسان) و(أسرار الحياة)

([15])أشير به إلى أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري، أحد علماء السلوك الكبار، سمي المحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه. و هو أستاُذ أكثرِ البغداديين؛ و هو من أَهل البصرة. مات ببغداد سنة 243هـ.

روي من ورعه أنه كان إذا مد يده إلي الطعام فيه شبهة تحرك إصبعه عرق، فكان يمتنع منه.. وقال الجنيد: مربي يوماً، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: (يا عم، ندخل الدار وتتناول شيئاً)، فقال: نعم، فدخلت الدار، وحملت إليه طعاماً، من عرس قوم؛ فأخذ لقمة وأدارها في فيه مراراً، ثم قام وألقاها في الدهليز وفر، فلما رأيته بعد أيام، قلن له في ذلك، فقال: إني كنت جائعاً أن أسرك بأكلي وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله علامة: ألا يسوغني طعاما فيه شبهة، فلم يمكنني ابتلاعه، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فقلت: إنه حمل من دار قريب لي من العرس، ثم قلت له: تدخل اليوم، فقال: نعم، فقدمت اليه كسراً كانت لنا فأكل، وقال: إذا قدمت إلي فقير شيئاً فقدم مثل هذا.

من مؤلفاته: (الرعايةِ لحقوق الله)، و(مائية العقل وحقيقة معناه)، وغيرها.

ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا الفصل.

([16]) هذا الجواب منقول بتصرف من: إغاثة اللهفان لابن القيم: 1/45.

([17]) نشير به إلى العلامة الجليل عبد الوهاب الشعراني (898 - 973 هـ = 1493 - 1565 م)، ولد في قلقشندة (بمصر) ونشأ بساقية أبي شعرة (من قرى المنوفية) وإليها نسبته: (الشعراني، ويقال الشعراوي) وتوفي في القاهرة.

له تصانيف، منها (الاجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية) و(أدب القضاة) و(إرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء العالمين) و(الانوار القدسية في معرفة آداب العبودية )، و(البحر المورود في المواثيق والعهود) ، و(بهجة النفوس والاسماع والاحداق فيما تميز به القوم من الآداب والاخلاق)، و(العهود المحمدية) الذي رجعنا إليه في هذا المحل، وغيرها.

وننبه هنا إلى أن بعض الخرافات دست في كتبه، وقد نبه هو إلى ذلك، وأشار إليه المؤرخ عبد الحي بن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) عند ترجمته، فقال: (وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإِجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنَّعوا وسبُّوا، ورموه بكل عظيمة، فخذلهم الله، وأظهره الله عليهم وكان مواظباً على السنة، ومبالغاً في الورع، مُؤثِراً ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملاً للأذى، موزعاً أوقاته على العبادة؛ ما بين تصنيفٍ وتسليكٍ وإِفادة.. وكان يُسمَعُ لزاويته دوي كدوي النحل ليلاً ونهاراً، وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى r ، ولم يزل مقيماً على ذلك، معظَّماً في صدور الصدور، إِلى أن نقله الله تعالى إِلى دار كرامته) (شذرات الذهب في أخبار من ذهب:8/374)

([18]) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا.

([19]) هي للطبراني.

([20]) هي للطبراني.

([21]) هذه النصوص منقولة بتصرف من كتاب (العهود المحمدية) لعبد الوهاب الشعراني.

([22])   أشير به إلى أبي بكر عبدالله بن محمد بن عُبيد بن سفيان بن قيس المعروف بابن أبي الدنيا، البغدادي (208 - 281هـ، 823 - 894م)، وهو الحافظ، المحدث، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، كان مؤدب أولاد الخلفاء، وكان من الوعاظ العارفين بأساليب الكلام وما يلائم طبائع الناس، إن شاء أضحك جليسه، وإن شاء أبكاه.. وثقه أبوحاتم وغيره.. صنّف الكثير حتى بلغت مصنفاته 164 مصنفاً منها: العظمة؛ الصمت؛ اليقين؛ ذم الدنيا؛ الشكر؛ الفرج بعد الشدة وغيرها. (الموسوعة العربية العالمية)

ولا يخفى سر اختيارنا له هنا، فهو من المؤلفين المكثرين في الأحاديث المرتبطة بالأخلاق.

([23]) رواه مسلم والأربعة.

([24]) هي للطبراني في الكبير.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.

([27])رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.

([28]) رواه البخاري ومسلم.

([29])رواه الترمذي بسند حسن.

([30])رواه البيهقي وغيره.

([31])رواه البخاري ومسلم.

([32])رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه.

([33]) نشير به إلى المفكر الإسلامي المعروف، وقد اقتبسنا بعض ما نذكره هنا من كتابه (قبسات من الرسول) بالتصرف الذي عهدناه.

([34]) رواه أحمد والبخاري في الأدب.

([35]) رواه مسلم وغيره، وهو جزء من حديث طويل عن عمر ، قال:  بينما نحن جلوس عند رسول الله r ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي r  فأسند ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله r : الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

([36]) رواه مسلم وغيره.

([37]) سنذكر هنا ـ من خلال ما ورد في كتب السلوك الإسلامية ـ ما بنى عليه الإسلام تعامله مع النفس، وهو مما اشتركت في ذكره مدارس السلوك الإسلامية باختلاف توجهاتها.

([38])استفدنا الكثير من مادة هذا المبحث من كتاب (ميزان العمل) للإمام أبي حامد الغزالي، مع التصرف الذي يقتضيه المقام.

وقد قال الغزالي في مقدمة هذا الكتاب :( لما كانت السعادة التي هي مطلوب الأولين والآخرين لا تنال إلا بالعلم والعمل، وافتقر كل واحد منهما إلى الإحاطة بحقيقته ومقداره، ووجب معرفة العلم والتمييز بينه وبين غيره بمعيار، وفرغنا منه، وجب معرفة العمل المسعد، والتمييز بينه وبين العمل المشقي، فافتقر ذلك أيضاً إلى ميزان، فأردنا أن نخوض فيه ونبين أن الفتور عن طلب السعادة حماقة، ثم نبيّن العلم وطريق تحصيله، ثم نبيّن العمل المسعد وطريقه. وكل ذلك بطريقة تترقى عن حد طريق التقليد إلى حد الوضوح، لو استقصى بحقيقته وطوّل الكلم فيه ارتقى إلى حد البرهان على الشروط التي ذكرناها في (معيار العلم)، وإن كنا لسنا نطوّل الكلام به، ولكن نرشد إلى أصوله وقوانينه)

والكتاب في جملته خير ما يبين النظرة الإسلامية للتعامل مع النفس، وهو في نفس الوقت يرد على المقولات المختلفة التي تبرر للنفس سلوكاتها العشوائية غير المنضبطة.

واستفدنا كذلك من كتاب (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين) للراغب الأصفهاني.

([39]) ورد هذا الوصف للجنة في أحاديث كثيرة منها ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال :( لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي فقالت:﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1)، وفي رواية :(خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ثم نظر فيها فقال لها: تكلمي فقالت :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1)، فقال:(وعزتي لا يجاورني فيك بخيل) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحد إسنادي الطبراني في الأوسط جيد.

([40]) وفرق هؤلاء بين طريق التخيل في حالة النوم وبين هذا التخييل بأن النوم يتكدر بالتنبه، وذلك لا تكدر له، بل هو على التأبيد، وذكروا أن هذا قاصر على طائفة من المشغوفين بالمحسوسات، والذين التفات نفوسهم مقصور عليها، ولا يسمون إلى اللذات العقلية، وذكروا أن هذا لا يفضي إلى أمر يوجب فتوراً في الطلب، فإن الالتذاذ إنما يقع بما يحصل في نفس الإنسان من التأثر بالملموس والمنظور والمطعوم وغيره، والشيء الخارج سبب في حصول الأثر، وليست اللذة من الأثر الخارج بل من الأثر الحاصل عند حضور الخارج. فإذا أمكن حصول الأثر في النفس دون الشيء الخارج، كما في حالة النوم، فلا أرب في الشيء الخارج.. (انظر: ميزان العمل)

([41]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

([42]) هذا الدليل منقول بتصرف من (الجواب الكافي) لابن القيم ص22.

([43]) انظر: (ميزان العمل) للغزالي.

([44]) نشير به إلى حكيم الإسلام شاه ولي الله الدهلوي( 1110 ـ 1167هـ )، وهو أحمد بن عبد الرحيم، أبو عبد العزيز من أهل دهلي بالهند، فقيه وأصولي حنفي، محدث ومفسر.. قال عنه صاحب فهرس الفهارس: (أحيا الله به وبأولاده بيته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار) من تصانيفه : (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) و(حجة الله البالغة) و(فتح الخبير بما لابد من حفظه في علم التفسير) (الأعلام للزركلي 1/144)

وما ننقله من كلامه هنا ـ بتصرف ـ هو من كتابه العظيم (حجة الله البالغة)، وهو من الكتب

([45]) نحب أن ننبه هنا إلى الصعوبة التي يتسم بها أسلوب (ولي الله الدهلوي) في عرض أفكاره.. وقد حاولنا تبسيط أسلوبه قدر الإمكان.. ومع ذلك، فإن القارئ يحتاج إلى مزيد تأمل ليفهم مراداته.

([46]) هذا بحسب الظاهر أما الحقيقة فهو أن كل شيء متوجه إلى ربه كما نص على ذلك النصوص الكثيرة.. انظر رسالة (أكوان الله) من (رسائل السلام)

([47]) هذا بناء على رأي الإمام الدهلوي في الروح.. والذي شرحه في في باب عقده في (حجة الله البالغة) بعنوان ( باب حقيقة الروح) استهله بقوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ (الاسراء:85).. ثم ذكر أن الآية خطاب لليهود والسائلين عن الروح، وليست نصا في أنه لا يعلم أحد من الأمة الإسلامية حقيقة الروح، وليس كل ما سكت عنه الشرع لا يمكن معرفته، بل كثيرا ما يسكت عنه لأجل أنه معرفة دقيقة لا يصلح لتعاطيها جمهور الأمة وأن أمكن لبعضهم.

بعد هذا الذي ذكره والذي سبقه إليه كل العارفين المحققين من علماء الأمة وأوليائها ذكر رأيه، فقال ـ بتصرف ـ: (واعلم أن الروح أول ما يدرك من حقيقتها أنها مبدأ الحياة في الحيوان، وأنه يكون حيا بنفخ الروح فيه، ويكون ميتا بمفارقتها منه، ثم إذا أمعن في التأمل ينجلي أن في البدن بخارا لطيفا متولدا في القلب من خلاصة الأخلاط يحمل القوى الحساسة والمحركة والمدبرة للغذاء يجري في حكم الطب، وتكشف التجربة أن لكل من أحوال هذا البخار من رقته وغلظه وصفائه وكدرته أثرا خاصا في القوى والأفاعيل المنبجسة من تلك القوى وأن الآفة الطارئة على كل عضو وعلى توليد البخار المناسب له تفسد هذا البخار، وتشوش أفاعيله ويستلزم تكونه الحياة، وتحلله الموت فهو الروح في أول النظر، والطبقة السفلى من الروح في النظر الممعن، مثله في البدن كمثل كمثل النار في الفحم..

ثم إذا أمعن في النظر أيضا انجلى أن هذا الروح مطية للروح الحقيقية ومادة لتعلقها، وذلك أنا نرى الطفل يشب، ويشيب، وتتبدل أخلاط بدنه والروح المتولدة من تلك الأخلاط أكثر من ألف مرة، ويصغر تارة، ويكبر أخرى، ويسود تارة ويبيض أخرى، ويكون جاهلا مرة وعالما أخرى إلى غير ذلك من الأوصاف المتبدلة والشخص هو هو.

وإن نوقش في بعض ذلك فلنا أن نفرض تلك التغيرات والطفل هو هو، أو نقول لا نجزم ببقاء تلك الأوصاف بحالها، ونجزم ببقائه فهو غيرها فالشيء الذي هو به هو ليس هذا الروح، ولا هذا البدن، ولا هذه المشخصات التي تعرف، وترى ببادئ الرأي، بل الروح في الحقيقة حقيقة فردانية ونقطة نورانية يجل طورها عن طور هذه الأطوار المتغيرة المتغايرة التي بعضها جواهر وبعضها أعراض وهي مع الصغير كما هي مع الكبير ومع الأسود كما هي مع الأبيض إلى غير ذلك من المتقابلات، ولها تعلق خاص بالروح الهوائي، أولا وبالبدن ثانيا من حيث إن البدن مطية النسمة وهي كوة من عالم القدس ينزل منها على النسمة كل ما استعدت له، فالأمور المتغيرة إنما جاء تغيرها من قبل الاستعدادات الأرضية بمنزلة حر الشمس يبيض الثوب ويسود القصار.

وقد تحقق عندنا بالوجدان الصحيح أن الموت انفكاك النسمة عن البدن لفقد استعداد البدن لتوليدها، لا انفكاك الروح القدسي عن النسمة، وإذا تحللت النسمة في الأمراض المدنفة وجب في حكمة الله أن يبقى الشيء من النسمة بقدر ما يصح ارتباط الروح الإلهي بها، كما أنك إذا مصصت الهواء من القارورة تخلل الهواء حتى تبلغ إلى حد لا تخلل بعده، فلا تستطيع المص، أو تنفقئ القارورة، وما ذلك إلا لسر ناشئ من طبيعة الهواء، فكذلك سر في النسمة وحد لها لا يجاوزهما الأمر.

وإذا مات الإنسان كان للنسمة نشأة أخرى، فينشئ فيض الروح الإلهي فيها قوة فيما بقي من الحس المشترك تكفي كفاية السمع والبصر والكلام بمدد من عالم المثال أعني القوة المتوسطة بين المجرد والمحسوس المنبثة في الأفلاك كشيء واحد، وربما تستعد النسمة حينئذ للباس نوراني أو ظلماني بمدد من عالم المثال، ومن هنالك تتولد عجائب عالم البرزخ.

ثم إذا نفخ في الصور ـ أي جاء فيض عام من بارئ الصور ـ بمنزلة الفيض الذي كان منه في بدء الخلق حين نفخت الأرواح في الأجساد، وأسس عالم المواليد أوجب فيض الروح الإلهي أن يكتسي لباسا جسمانيا أو لباسا بين المثال والجسم فيتحقق جميع ما أخبر به الصادق المصدوق r.

ولما كانت النسمة برزخا متوسطا بين الروح الإلهي والبدن الأرضي وجب أن يكون لها وجه إلى هذا، ووجه إلى ذلك، والوجه المائل إلى القدس هو الملكية، والوجه المائل إلى الأرض هو البهيمية) (حجة الله البالغة:38)

هذا باختصار خلاصة رأيه في تعريف الروح.. وهو ما نجنح إليه.. معتقدين أن العلم في ذلك لله من قبل ومن بعد.

([48]) انظر فصل (الصاعد) من رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

([49]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بعلاقة الملائكة ـ عليهم السلام ـ بنا في رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

([50]) رواه البخاري ومسلم.

([51])قال الدهلوي عن قيمة هذه الخصال الأربع : ( فهذه الخصال الأربع إن تحققت حقيقتها، وفهمت كيفية اقتضائها للكمال العلمي والعملي وإعدادها للانسلاك في سلك الملائكة، وفطنت كيفية انشعاب الشرائع الإلهية بحسب كل عصر منها أوتيت الخير الكثير، وكنت فقيها في الدين ممن أراد الله بهم خيرا)

وقد قام ـ رحمه الله ـ في كتابه (حجة الله البالغة) بتطبيق معانيها على ما ورد في فروع الشريعة ومقاصدها وأسرارها، فأبدع أيما إبداع.

([52])   هذا اسم الكتاب الذي استفدنا منه المعاني التي سنذكرها، وهو لأبي عبد الرحمن السلمي.

([53])   أشير به إلى الإمام الجليل محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الازدي السلمي النيسابوري، المعروف بأبي عبد الرحمن السلمي (325 - 412 هـ)

صرف أبو عبد الرحمن همه إلى الدراسة الحديث والتصوف، ولقي شيوخ عصره فيهما. فرحل في الطلب إلى: العراق، والري، وهمدان، ومرو، والحجاز، وغيرها لكتب الحديث، ولقاء الشيوخ، كما جرت بذلك عادة عصره، فوق تتلمذه لشيوخ نيسابور.. ونيسابور يومئذ من أمهات المدن الإسلامية، التي بلغت قمت الاكتمال في العمران والفكر.

بلغت تصانيفه مئة أو أكثر، منها (حقائق التفسير) و(طبقات الصوفية) و(مقدمة في التصوف) رسالة، و(مناهج العارفين) و(رسالة في غلطات الصوفية) و(رسالة الملامتية) و(آداب الفقر وشرائطه) و(بيان زلل الفقراء ومناقب آدابهم) و(الفتوة) و(آداب الصحبة).. و(عيوب النفس ومداواتها)، ومنه استفدنا ما سنذكره في هذا المحل من الأدوية الروحانية.

([54])   رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية أبي وائل عن معاذ وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

([55])   رواه الترمذي والبيهقي، وقال الترمذي حديث حسن غريب.

([56])   هذا اسم الكتاب الذي استفدنا منه المعاني التي سنذكرها، وهو لأبي عبد الرحمن السلمي.

([57])   أشير به إلى أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (ت421 هـ)، وهو مؤرخ بحاثة، أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها.. اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة، ثم أولع بالتاريخ والادب والانشاء.. وكان قيما على خزانة كتب ابن العميد، ثم كتب عضد الدولة بن بويه، فلقب بالخازن، ثم اختص ببهاء الدولة البويهي وعظم شأنه عنده.

وقال أبو حيان في جملة وصفه: (لطيف الالفاظ، سهل المأخذ، مشهور المعاني شديد التوقي، ضعيف الترقي، يتطاول جهده ثم يقصر)

من كتبه (تجارب الامم وتعاقب الهمم) في التاريخ، انتهى به إلى السنة التي مات فيها عضد الدولة (372 ه)، وله (تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق)، ومنه استفدنا في هذا المطلب، و(طهارة النفس) و(آداب العرب والفرس) و(الفوز الاصغر) في علم النفس، و(ترتيب السعادات) في الاخلاق، و(رسالة في ماهية العدل) و (نديم الاحباب وجليس الاصحاب) و(الحكمة الخالدة)، و (الادوية المفردة) و(الاشربة) وغير ذلك.. عاش عمرا طويلا.. (انظر: الأعلام للزركلي)

([58])   هذه مقدمة كتاب (تهذيب الأخلاق).

([59]) أشير به إلى الإمام بديع الزمان النورسي.. وقد تحدثنا عنه مرات كثيرة في هذه السلسلة.

([60]) سنرى الشواهد الكثيرة المثبتة لهذا في رسالتي (أسرار الإنسان) و(أسرار الحياة) من هذه السلسلة.