المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: عدالة
للعالمين |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
في اليوم التاسع،
صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (سيد قطب) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع
المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها
فسيتحمل مسؤولية خرقه.
لم يمر بعد هذا
الصياح المزعج إلا لحظات قليلة حتى اجتمع جميع المساجين إلى (سيد) الذي جلس على
الكرسي الذي أعد له، وهو في غاية السرور والانبساط.
ألقى سيد نظرة على الجمع
الملتف حوله، ثم قال: إخواني .. اسمحوا لي أن أحدثكم اليوم ـ على درب إخواني ـ على
ناحية مهمة اهتمت بها تشريعات الإسلام اهتماما شديدا .. لا يمكن للعدالة أن تقوم
من دونها.
قال ذلك، ثم صمت صمتا
عميقا، قال بعده: لا شك أنكم تتألمون للفقراء والمساكين والأرامل واليتامى
والمحرومين ..
قلنا: لا يمكن
للإنسان الذي لا يزال يحتفظ بإنسانيته إلا أن يتألم.
قال: وأنتم تعلمون
أن الألم وحده لا يجدي شيئا ما لم يعقبه العمل الذي يخلص الفقير من فقره، والمحروم
من حرمانه.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: وأنتم تعلمون
أن إحسان الأفراد وحدهم لا يمكن أن يجدي شيئا.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: وأنتم تعلمون
أن الإحسان الجزئي المزاجي قاصر عن أن يحمي المستضعفين من ضعفهم.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: انطلاقا من هذه
المعاني وغيرها تولت شريعة الرحمة الإلهية الاهتمام بهذا الجانب .. فلم تدعه
للأمزجة .. ولم تدعه للأفراد .. ولم تدعه للنزوات .. بل نظمته وأحكمت تنظيمه..
واعتبرته ركنا من أركان الدين التي لا يقوم دين صاحبها إلا به.
اسمعوا هذه الآيات
لتروا علاقة الإحسان والتكافل بالدين .. قال تعالى في سورة تسمى (الماعون) :﴿ أَرَأَيْتَ
الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ
هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ (7) ﴾ (الماعون)
إن هذه السورة[2] ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم
السائد للإيمان والكفر تبديلاً كاملاً .. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة
لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة
السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة.
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس؛
ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد،
مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك
تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق
موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج
متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها
إلى غاية تعود كلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح الحياة ،
ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله
السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم
وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن
حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيداً عنها ، لأن لهذه
الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا
تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان!
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب
تتحرك من فورها لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل
على عدم وجودها أصلاً .. وهذا ما تقرره هذه السورة نصاً ..
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه
كل من تتأتى منه الرؤية ليرى :﴿ أَرَأَيْتَ
الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)﴾
(الماعون)،
وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا
الذي يكذب بالدين ، والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين.
وإذا الجواب :﴿ فَذَلِكَ
الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ﴾ (الماعون)
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى
تعريف الإيمان التقليدي . . ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته . . إن الذي يكذب
بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعاً بعنف .. أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه .. والذي لا
يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته . . فلو صدّق بالدين حقاً ، ولو استقرت
حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم ، وما كان ليقعد عن الحض على طعام
المسكين.
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة
تقال باللسان؛ إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ،
المحتاجين إلى الرعاية والحماية .. والله لا يريد من الناس كلمات . إنما يريد منهم
معها أعمالاً تصدقها ، وإلا فهي هباء ، لا وزن لها عنده ولا اعتبار.
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في
تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل .
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة
تطبيقية من صورها : ﴿ فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ﴾ (الماعون) إنه دعاء أو
وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . . فمن هم هؤلاء الذين هم عن
صلاتهم ساهون!
إنهم :﴿ الَّذِينَ
هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ﴾ (الماعون)
إنهم أولئك الذين يصلون ، ولكنهم لا
يقيمون الصلاة . الذين يؤدون حركات الصلاة ، وينطقون بأدعيتها ، ولكن قلوبهم لا
تعيش معها ، ولا تعيش بها ، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من
قراءات ودعوات وتسبيحات . إنهم يصلون رياء الناس لا إخلاصاً لله . ومن ثم هم ساهون
عن صلاتهم وهم يؤدونها . ساهون عنها لم يقيموها . والمطلوب هو إقامة الصلاة لا
مجرد أدائها . وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها .
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في
نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون
المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو
كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة
الصادقة المقبولة عند الله..
قلنا: عرفنا محل التكافل من الدين ..
فكيف نظم الدين هذا الركن من أركان العدالة.
قال: لقد جاءت التشريعات الكثيرة
تبين مجالات التكافل، وكيفياتها .. بل حتى مقاديرها .. وهو ما لم يوجد في أي شريعة
من الشرائع.
قلنا: فهل حدثتنا عن تفاصيل ذلك؟
التفت إلى المشنقة المنصوبة، وقال:
لو سمحت لي هذه المشنقة المنصوبة أمامكم لذكرت لكم من ذلك ما تقر به أعينكم،
وتعلمون حقيقة ما ذكرت.
قلنا: فعم تريد أن تحدثنا إذن؟
قال: على بعض ما وضع الإسلام في هذا
الباب من رعاية لأنواع الحاجات .. والتي تجعل الكل متساويا في قضاء ما تتيسر به
حياة الناس لينصرفوا إلى ما وكل الله لهم من وظائف.
قلنا: من الكل؟
قال: الكل يبدأ من الفرد، ثم الأسرة،
ثم المجتمع، ثم الأمة، ثم العالم أجمع.
قلنا: الفرد!؟ .. ما علاقة الفرد
بالتكافل؟
قال: لقد أمرت الشريعة المسلم بأن
يقوم بحق نفسه، فلا يقوم بحقوق غيره من يقصر في حقوق نفسه.. لقد ذكر رسول الله r
ذلك، فقال:( ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت
زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة) [3]
وفي حديث آخر قال:( من أنفق على نفسه
نفقة يستعف بها فهي صدقة) [4]
وفي حديث آخر أنه r
قال يوما لأصحابه : (تصدقوا) فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار قال :(أنفقه على
نفسك) ، قال: إن عندي آخر قال :(أنفقه على زوجتك) ، قال: إن عندي آخر قال :(أنفقه
على ولدك) ، قال: إن عندي آخر قال :(أنفقه على خادمك) ، قال: إن عندي آخر قال
:(أنت أبصر به) [5]
وفي حديث آخر أن رجلا مر على النبي r
وأصحابه فرأوا من جلده ونشاطه ، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله ،
فقال r: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج
يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها
فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان) [6]
قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن
التشريعات التي وضعها الإسلام لتكافل الأسرة.
قال: لقد وردت النصوص الكثيرة عن
النبي r تبين مسؤولية المؤمن حول أسرته، ففي الحديث قال رسول الله r
:( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) [7]
وقال:( إن الله سائل كل راع عما
استرعاه أحفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) [8]
وقال:( كلكم راع ومسئول عن رعيته ،
الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في
بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، وكلكم
راع ومسئول عن رعيته) [9]
وقال:( دينار أنفقته في سبيل الله ،
ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك
أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ) [10]
وقال:( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار
ينفقه على عياله ، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ، ودينار ينفقه على أصحابه
في سبيل الله ) [11]
وقال:( عرض علي أول ثلاثة يدخلون
الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار.. فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة : فالشهيد، وعبد
مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ، وعفيف متعفف ذو عيال .. وأما أول ثلاثة يدخلون
النار فأمير مسلط ، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله من ماله ، وفقير فخور) [12]
وقال من جملة حديث طويل لسعد بن أبي
وقاص:( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في
امرأتك) [13]
وقال:( ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة
وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو
لك صدقة) [14]
وروي أن رجلا جاءه r،
فقال: يا رسول الله من أبَرُّ؟ قال: (أُمكَ وأَبَاكَ وأُختَكَ وَأَخَاكَ ومَولاَكَ
الذِي يَلي ذاك، حَقٌّ واجِبٌ ورَحِمٌ مَوصُولَةٌ) [15]
وجاءه رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله من
أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال: (أُمُك) قال: ثُم مَن؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم
من؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم من؟ قال: (أَبُوكَ ثُم أَدنَاكَ أَدنَاكَ)[16]
وقال له رجل: يا رسولَ الله مَن
أَبَرُّ؟ قال: (أُمكَ)، قلتُ: ثم مَن؟ قال: (أُمكَ)، قلت: ثم من؟ قال: (أُمك)،
قلت: ثم مَن؟ قال: (أَبَاكَ ثُم الأَقرَبَ فَالأَقرَبَ) [17]
وعن طارِق المُحاربـي قال: قدمتُ
المدينة، فإذا رسولُ الله قائمٌ على المنبر يخطبُ الناسَ وهو يقول: (يَدُ المُعطي
العُليَا، وَابدَأ بِمَن تَعُول، أُمكَ وَأَبَاكَ، وَأُختَكَ وأَخَاكَ، ثُم
أَدنَاكَ أَدنَاكَ) [18]
وقال:( كل معروف صدقة ، وما أنفق
الرجل على أهله كتب له صدقة ، وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة ، وما أنفق
المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن إلا ما كان في بنيان أو معصية) [19]
وقال:( أول ما يوضع في ميزان العبد
نفقته على أهله) [20]
وقال:( كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة
عليهم) [21]
وروي أن امرأة دخلت تسأل عائشة ومعها
بنتاها فلم تجد إلا تمرة فأعطتها إياها فقسمتها بين بنتيها ولم تأكل منها ، فذكرت
عائشة ذلك لرسول الله r، فقال : من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا أو
حجابا من النار) [22]
وروي أن مسكينة جاءتها ببنتيها
فأعطتها ثلاث تمرات ، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها
فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبها شأنها
فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو
أعتقها بها من النار) [23]
وقال r:( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) [24]
وقال: (من عال ابنتين أو ثلاثا أو
أختين أو ثلاثا حتى يبنين أو يموت عنهن كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه
السبابة والتي تليها) [25]
وقال:( من كانت له أنثى فلم يئدها -
أي يدفنها حية على عادة الجاهلية - ولم يهنها ولم يؤثر ولده يعني الذكر عليها
أدخله الله الجنة) [26]
وقال:( من أنفق على ابنتين أو أختين أو
ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما من فضل الله أو يكفيهما كانتا له
سترا من النار) [27]
وقال: (إن أطيَبَ مَا أكَلتُم مِن
كَسبِكُم، وإن أَولاَدَكُم مِن كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً) [28]
بل إن رسول الله r
جوز في هذا سرقة الزوجة من مال زوجها لتنفق على نفسها وأولادها، ففي الحديث أن
هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا
ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال:( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) [29]
وقد استدل الفقهاء بهذا على أنه يجوز
لمن وجبت له النفقة شرعا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه
الامتثال وأصر على التمرد[30].
بل إن الفقهاء استدلوا بالنصوص
الموجبة للنفقة على الأقارب كقوله تعالى:﴿ لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) ﴾ (البقرة)،
وقوله :﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
مُخْتَالًا فَخُورًا (36) ﴾ (النساء)، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
﴾ (النحل)، وقوله :﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)﴾ (الإسراء)، وقوله :﴿ وَلَا يَأْتَلِ
أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (22) ﴾ (النور)، وقوله :﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ
اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) ﴾ (الروم) وغيرها من الآيات
على لزوم نفقة الأقارب مهما بعدوا[31] ..
فقد جعل الله تعالى حق ذي القربى يلي
حق الوالدين، كما جعله النبـيُّ r سواءً بسواء، وأخبر سبحانه؛ أن لذي القربى حقاً على قرابته، وأمر
بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حق النفقةِ، فلا نَدرِي أي حقَ هُوَ؟
وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى..
ومن أعظم الإساءةَ أن يراه يموت جوعاً وعُرياً، وهو قادر على سد خَلته وستر
عَورَتِهِ، ولا يطعمه لُقمة، ولا يَستُر له عَورَةً إلا بأن يقرضه ذلك في ذِمتِهِ.
وهٰذا الحكم من النبـي r
مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ .. (233)﴾
(البقرة)، فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له.
وروي في تطبيق هذا أن عمر - رضي الله
عنه - حَبَسَ عَصَبَةَ صبـيَ على أن يُنفِقُوا عليه، الرجال دون النساء.
فعن ابن المسيب أن عمرَ بنَ الخطاب
وقف بني عم على مَنفُوسٍ كَلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له،
فقال: ولَو، وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي:
ولو لم يكن له مال.
وذكر ابن أبـي شيبة، عن سعيد بن
المسيب، قال: جاء ولي يتيم إلى عمرَ بنِ الخطاب، فقال: أَنفِق عليه، ثم قال: لو لم
أجد إلا أقصى عشيرته لَفَرضتُ عليهم. وحكم بمثل ذلك أيضاً زيدُ بن ثابت.
وعن زيد بن ثابت، قال: إذا كان أُمٌّ
وَعمٌّ، فعلى الأم بقدر مِيراثها، وعلى العم بقدر مِيراثه، ولا يعرفُ لعمر، وزيد
مخالف في الصحابة البتةَ.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء :﴿
وعَلَى الوَارِثِ مِثلُ ذٰلِكَ ﴾ ، قال: على ورثة اليتيم أن ينفقوا
عليه كما يرثونه. قلت له: أَيُحبَسُ وارثُ المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال:
أفيدعُه يموت؟. وقال الحسن :﴿ وعَلى الوَارِثِ مِثلُ ذٰلِكَ﴾
قال: على الرجلِ الذي يَرِثُ أن ينفق عليه حتى يستغنيَ.
وبهذا فسرَ الآية جمهورُ السلف، منهم:
قتادة، ومجاهد، والضحاك، وزيدُ بن أسلم، وشريح القاضي، وقَبِـيصَةُ بنُ ذُؤيب،
وعبدُ الله بن عتبة بن مسعود، وإبراهيم النخعي، والشعبـي، وأصحابُ ابن مسعود، ومن
بعدهم: سفيان الثوري، وعبد الرزاق، وأبو حنيفة وأصحابه، ومن بعدهم: أحمد، وإسحاق،
وداود وأصحابهم.
قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن
التشريعات التي وضعها الإسلام لتكافل المجتمع.
قال: لقد وردت النصوص الكثيرة ..
ومعها التشريعات المنظمة .. تبين مسؤولية المؤمن عن المجتمع الذي يعيش فيه .. بدءا
بالجار بمراتبه.. مرورا بالأرملة والمسكين .. واليتامى والقاصرين .. وانتهاء
بالضيوف وعابري السبيل.
لقد اعتبر الله تعالى ذلك من البر ..
وقرنه بقضايا الإيمان، فقال :﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾ (البقرة)
ووصف الصالحين من عباده، فقال :﴿
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)﴾
(الإنسان)
انظروا المرتبة الرفيعة التي رفع
الله بها عباده المؤمنين .. فهم لا يطعمون ما فضل من طعامهم، بل يطعمون ما يحتاجون
إليه منه .. فهم :﴿ َيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ﴾
وبمثل ذلك وصفهم، فقال :﴿
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾ (الحشر)
ولهذه وردت النصوص الكثيرة تطالب
المؤمنين بالإطعام .. والحض على الإطعام .. وتربطه
بالعبادات المختلفة حتى لا يبقى جائع بين المسلمين ..
اسمعوا هذه الأوصاف التي يصف الله
بها المجرمين، قال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ
الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ
(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)﴾
(المدثر)
واسمعوا لهذا الحل الذي يضعه الله
بين يدي عباده إذا ما أرادوا تجاوز العقبة التي تحول بينهم وبين مرضاته :﴿
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)﴾ (البلد)
واسمعوا لهذا الذم الشديد للذي انشغل
بما تطلبه نفسه الممتلئة بالشهوات عن المستضعفين والمحتاجين، قال تعالى:﴿
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾ (الفجر)
وبمثل ذلك وردت الوصايا الكثيرة من
رسول الله r ، والتي ظلت تقرع آذان المسلمين أجيالا طويلة، لتربي فيهم من
معاني التكافل ما لم تستطع جميع قوانين الدنيا أن تربيه:
ففي الحديث أن رجلا سأل النبي r،
فقال: أي الإسلام خير؟ قال :( تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)[32]
وقال له رجل: يا رسول الله إني إذا
رأيتك طابت نفسي وقرت عيني أنبئني عن كل شيء، قال :( كل شيء خلق من الماء)، قال:
أخبرني بشيء إذا عملته دخلت الجنة، قال :( أطعم الطعام، وأفش السلام، وصل الأرحام،
وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام)[33]
وقال:( اعبدوا الرحمن، وأطعموا
الطعام، وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام)[34]
وقال:( إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها
من باطنها وباطنها من ظاهرها) قيل: لمن هي يا رسول الله؟ قال :( هي لمن أطاب
الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام)[35]
وعن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: قال
عمر لصهيب: فيك سرف في الطعام، فقال: إني سمعت رسول الله r يقول :( خياركم من أطعم الطعام)[36]
وقال:( الكفارات: إطعام الطعام
وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)[37]
وعن عبد الله بن سلام قال أول ما قدم رسول الله r
إلى المدينة انجفل الناس[38] إليه، فكنت
فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: وكان أول
ما سمعت من كلامه أن قال :( أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل
والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)[39]
وقال :( من موجبات الرحمة: إطعام
المسلم السغبان)[40]
وقال :( إن الله ليربي لاحدكم التمرة
واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد)[41]
وقال :( إن الله عز و جل ليدخل بلقمة
الخبز وقبصة[42] التمر ومثله
مما ينفع المسكين ثلاثة الجنة الآمر به والزوجة المصلحة له والخادم الذي يناول
المسكين)، ثم قال r :( الحمد لله الذي لم ينس
خدمنا)[43]
وقال :( تعبد عابد من بني إسرائيل،
فعبد الله في صومعته ستين عاما، وأمطرت الأرض، فاخضرت، فأشرف الراهب من صومعته،
فقال لو نزلت، فذكرت الله، فازددت خيرا، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان، فبينما هو في الأرض
لقيته امرأة، فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها، ثم أغمي عليه، فنزل الغدير يستحم،
فجاء سائل، فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات، فوزنت عبادة ستين سنة بتلك
الزنية، فرجحت الزنية بحسناته ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته، فرجحت حسناته،
فغفر له)[44]
وجاءه أعرابي، فقال: يا رسول الله
علمني عملا يدخلني الجنة قال :( إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق
النسمة وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع واسق الظمآن)[45]
وقال :( من أطعم أخاه حتى يشبعه
وسقاه من الماء حتى يرويه باعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة
خمسمائة عام)[46]
وقال :( أفضل الصدقة أن تشبع كبدا
جائعا)[47]
وقال :( أيما مؤمن أطعم مؤمنا على
جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمإ سقاه
الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري كساه الله يوم
القيامة من حلل الجنة)[48]
وقال :( يحشر الناس يوم القيامة أعرى
ما كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط وأنصب ما كانوا قط، فمن كسا لله
عز و جل كساه الله عز و جل، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله عز وجل ومن سقى لله عز
وجل سقاه الله عز و جل، ومن عمل لله أغناه الله، ومن عفا لله عز و جل أعفاه الله
عز و جل)[49]
وقال :( إن الله عز و جل يقول يوم
القيامة يا ابن آدم مرضت، فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال:
أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن
آدم استطعمتك، فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت
أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن
آدم استسقيتك، فلم تسقني قال: يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك
عبدي، فلان، فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)[50]
وخاطب أصحابه يوما، فقال:من أصبح
منكم اليوم صائما؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال: من أطعم منكم اليوم مسكينا؟ فقال أبو
بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، فقال: من عاد منكم
اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله r :( ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل إلا دخل الجنة)[51]
وسئل r أي الأعمال أفضل؟ قال :( إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته أو
كسوت عورته أو قضيت له حاجة)[52] ، وفي رواية
:( أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه
جوعا، أو تقضي عنه دينا)
وقال:( من أطعم مؤمنا حتى يشبعه من
سغب أدخله الله بابا من أبواب الجنة لا يدخله إلا من كان مثله)[53]
وقال:( إن الله عز و جل يباهي
ملائكته بالذين يطعمون الطعام من عبيده)[54]
وقال:( ثلاث من كن فيه نشر الله عليه
كنفه وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، وإحسان إلى المملوك، وثلاث من
كن فيه أظله الله عز وجل تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله: الوضوء في المكاره، والمشي
إلى المساجد في الظلم، وإطعام الجائع)[55]
وكان r ـ لذلك كله ـ يحث على الأكل جماعة، ويخبر عما أودع الله فيه من
البركات .. فقد روي أن أنّ رجلا قال للنبيّ r: إنا نأكلُ ولا نشبَع، فقال r :( فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله
يُبَاركْ لكم فيه)[56]
وفي حديث آخر قال r
:( كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا؛ فإن البركة مع الجماعة)[57]
وبمثل ما وردت النصوص بفضل الإطعام،
وردت بفضل السقي باعتباره من الحاجات الأساسية
للإنسان:
ففي الحديث قال رسول الله r:(
رجلان سلكا مفازة، عابد والآخر به رهق، فعطش العابد حتى سقط، فجعل صاحبه ينظر إليه
وهو صريع، فقال: والله إن مات هذا العبد الصالح عطشا ومعي ماء لا أصيب من الله
خيرا أبدا، ولئن سقيته مائي لأموتن، فتوكل على الله وعزم، فرش عليه من مائه وسقاه
فضله، فقام، فقطع المفازة، فيوقف الذي به رهق للحساب، فيؤمر به إلى النار، فتسوقه
الملائكة، فيرى العابد، فيقول: يا فلان أما تعرفني، فيقول: ومن أنت، فيقول: أنا
فلان الذي آثرتك على نفسي يوم المفازة، فيقول: بلى أعرفك، فيقول للملائكة: قفوا،
فيقفون، فيجيء حتى يقف، فيدعو ربه عز و جل، فيقول يا رب قد عرفت يده عندي وكيف
آثرني على نفسه، يا رب هبه لي، فيقول هو لك، فيجيء، فيأخذ بيد أخيه، فيدخله الجنة)[58]
وقال:( إن رجلا من أهل الجنة يشرف
يوم القيامة على أهل النار، فيناديه رجل من أهل النار، فيقول يا، فلان هل تعرفني،
فيقول: لا والله ما أعرفك من أنت، فيقول أنا الذي مررت بي في الدنيا، فاستسقيتني
شربة من ماء، فسقيتك قال: قد عرفت قال: فاشفع لي بها عند ربك، فيسأل الله تعالى جل
ذكره، فيقول إني أشرفت على النار، فناداني رجل من أهلها، فقال لي هل تعرفني قلت لا
والله ما أعرفك من أنت قال أنا الذي مررت بي في الدنيا، فاستسقيتني شربة من ماء،
فسقيتك، فاشفع لي عند ربك، فشفعني فيه، فيشفعه الله، فيأمر به، فيخرج من النار)[59]
وقال:( يصف الناس يوم القيامة صفوفا،
ثم يمر أهل الجنة، فيمر الرجل على الرجل من أهل النار، فيقول: يا فلان، أما تذكر
يوم استسقيت، فسقيتك شربة، فيشفع له، ويمر الرجل على الرجل، فيقول: أما تذكر يوم
ناولتك طهورا، فيشفع له، ويمر الرجل على الرجل، فيقول: يا فلان أما تذكر يوم
بعثتني لحاجة كذا وكذا، فذهبت لك، فيشفع له)[60]
وروي أن رجلا أتاه، فقال: أخبرني
بعمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي r :( أو هما أعملتاك) قال: نعم قال :( تقول العدل وتعطي الفضل )،
قال: والله لا أستطيع أن أقول العدل كل ساعة، وما أستطيع أن أعطي الفضل، قال :(
فتطعم الطعام وتفشي السلام)، قال: هذه أيضا شديدة، قال :( فهل لك إبل؟)، قال: نعم
قال:( فانظر إلى بعير من إبلك وسقاء، ثم اعمد إلى أهل بيت لا يشربون الماء إلا غبا[61]، فاسقهم،
فلعلك لا يهلك بعيرك ولا ينخرق سقاؤك حتى تجب لك الجنة)، فانطلق الأعرابي يكبر،
فما انخرق سقاؤه ولا هلك بعيره حتى قتل شهيدا)[62]
وأتاه رجل، فقال: ما عمل إن عملت به
دخلت الجنة، قال: أنت ببلد يجلب به الماء، قال: نعم، قال: (فاشتر بها سقاء جديدا،
ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها عمل الجنة)[63]
وروي أن رجلا جاءه، فقال: إني أنزع
في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري، فسقيته، فهل في ذلك من أجر؟
فقال رسول الله r :( إن في كل ذات كبد أجرا)[64]
وقال :( سبع تجري للعبد بعد موته وهو
في قبره: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو
ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)[65]
وقال :( ليس صدقة أعظم أجرا من ماء)[66]
وروي أن سعدا أتى النبي r،
فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال :( نعم،
وعليك بالماء)[67]
وقال:( من حفر
ماء لم تشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة) [68]
وقال: (ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على
فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل، يقول الله له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما
لم تعمل يداك ..) [69]
وهكذا في كل الحاجات الأساسية للإنسان، فقد سئل رسول الله r : ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال :(الماء والملح
والنار) قيل: يا رسول الله هذا الماء وقد عرفناه فما بال الملح والنار؟ قال :( من
أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما أنضجت تلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع
ما طيبت تلك الملح، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق رقبة،
ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها) [70]
وقال:
(المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلإ، والنار، وثمنه حرام) قال أبو سعيد:
يعني الماء الجاري[71].
ويقاس على هذه الثلاثة
كل ما لا تتم حياة الإنسان إلا به.. فلا يحل أن يفتقد أي مسلم في أي مجتمع ما لا
تتم حياته إلا به ..
وبمثل ما ورد
من النصوص والأحكام مما يرتبط بالحاجات الأساسية للإنسان ورد ما يحث على رعاية المحتاجين ممن يضمهم
المجتمع المسلم.
ويبدأ المسلم
رعايته للمحتاجين برعايته لجاره
المحتاج .. ففي الحديث قال رسول الله r :( ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو
يعلم)[72]
وقال:( ليس
المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)[73]
وقال:( من أغلق
بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه،
أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه،
وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت
جنازته، ولا تستطيل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح
قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرا،
ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)[74]
وجاءه رجل
فقال: يا رسول الله اكسني، فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله اكسني فقال:( أما لك جار
له فضل ثوبين؟) قال: بلى غير واحد قال :(فلا يجمع الله بينك وبينه في الجنة)[75]
وقال:( كم من جار متعلق بجاره يقول يا رب سل هذا
لم أغلق عني بابه ومنعني فضله)[76]
وقيل له: يا
رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها
بلسانها، قال: (هي في النار)، وقيل له: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها
وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال :( هي في الجنة)[77]
وعن أبي أمامة
قال سمعت رسول الله r وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع
يقول :(أوصيكم بالجار) حتى أكثر فقلت إنه يورثه[78].
وروي أن عبد
الله بن عمر ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي .. أهديتم
لجارنا اليهودي .. سمعت رسول الله r يقول :( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه)[79]
ولذلك اعتبر r :( من سعادة المرء: الجار الصالح،
والمركب الهنيء، والمسكن الواسع)[80]
وذكر :( أن
الله عز و جل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء، ثم قرأ :﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
.. (251) ﴾)[81]
بالإضافة إلى الجار وردت النصوص
الكثيرة، ومعها التشريعات الكثيرة التي ترعى حاجات
اليتامى والأرامل:
ففي الحديث، قال رسول الله r
:( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) وأشار بالسبابة والوسطى
وفرج بينهما[82].
وقال r :( من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن
قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة
أخوين كما أن هاتين أختان ـ وألصق أصبعيه السبابة والوسطى ـ)
[83]
وقال:( من قبض
يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا
يغفر)[84]
وقال:( من ضم
يتيما من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه وجبت له الجنة)[85]
وقال :( من ضم
يتيما بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة، ومن أدرك
والديه أو أحدهما ثم لم يبرهما دخل النار فأبعده الله، وأيما مسلم أعتق رقبة مسلمة
كانت فكاكه من النار)[86]
وقال :( ما قعد
يتيم مع قوم على قصعتهم، فيقرب قصعتهم شيطان)[87]
وقال:( إن أحب
البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم)[88]
وقال:( خير بيت
في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)[89]
وقال:( أنا
وامرأة سفعاء [90]
الخدين كهاتين يوم القيامة ـ وأومأ بيده الوسطى والسبابة ـ امرأة آمت[91]
زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)[92]
وقال:( أنا أول
من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني فأقول لها: ما لك، ومن أنت؟ فتقول:
أنا امرأة قعدت على أيتام لي)[93]
وقال:( من مسح
على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن
إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)ـ وفرق بين أصبعيه السبابة
والوسطى[94].
وقال:( والذي
بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم، ولان له في الكلام، ورحم
يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله)[95]
وقال:( إياكم
وبكاء اليتيم فإنه يسري في الليل والناس نيام)[96]
وقال :( الساعي
على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر)[97]
وأتاه رجل يشكو
قسوة قلبه، فقال :( أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم، وامسح رأسه،
وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك)[98]
وروي أن رجلا
شكا إليه r قسوة قلبه، فقال:( امسح رأس اليتيم،
وأطعم المسكين)[99]
قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن
التشريعات التي وضعها الإسلام لتكافل الأمة.. وما تعني بالأمة[100]
أولا؟
قال: الأمة في المفهوم الإسلامي تعني
جميع المسلمين باختلاف ألوانهم وأعراقهم ومذاهبهم ولغاتهم وبلدانهم .. فكل من كان
مسلما كان من أمة الإسلام .. ووجب على المسلمين جميعا القيام بحقوقه ..
ولهذا، فإن مفهوم الأمة في الإسلام
هو الذي حفظ الإسلام لا الدولة .. ولا القوانين .. ولا الجيوش .. فالدول تدال..
والقوانين تخرق .. والجيوش تنهزم .. أما تلك الجذوة التي تتقد في قلوب المؤمنين
نحو بعضهم بعضا، فلا يمكن أن تخرق ولا أن تحرق ولا أن تنطفئ.
نعم .. قد يخفت نورها .. ولكنه لا
ينطفئ .. فسرعان ما تهب عليه أرياح التوجيهات المقدسة لتعيد لشعلة الحب نورها
واتقادها وإشراقها.
لقد أشعل تلك
الجذوة تلك النصوص المقدسة التي تجعل المسلمين ـ مهما تناءت ديارهم ـ إخوة، قال
تعالى:﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ (الحجرات)
وقال يمن على عباده المؤمنين بتلك
الألفة التي ربط بها بين قلوبهم :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾
(آل عمران)
وأخبر r أن المودة والمحبة التي تربط بين المؤمنين هي علامة من علامات
تغلغل الإيمان في القلب، قال r :( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة
الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله،
ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)[101]
وقال:( إن الله
تعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا
ظلي)[102]
وقال:( من سره
أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله)[103]
وقال:( سبعة
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله،
ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل
دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا
تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)[104]
وقال:( إن من
الإيمان أن يحب الرجل رجلا لا يحبه إلا لله من غير مال أعطاه، فذلك الإيمان)[105]
وقال:( ما تحاب
رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز و جل أشدهما حبا لصاحبه)[106]
وقال:( ما من
رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه)[107]
وقال:( من أحب
رجلا لله فقال إني أحبك لله، فدخلا جميعا الجنة فكان الذي أحب أرفع منزلة من الآخر
وأحق بالذي أحب لله)[108]
وقال:( إن رجلا
زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته[109] ملكا،
فلما أتى عليه قال: أين تريد، قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من
نعمة تربها[110]
قال: لا غير أني أحبه في الله قال: فإني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما
أحببته فيه)[111]
وقال:( قال
الله عز وجل: قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون
من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من
أجلي)[112]
وقال:( ليبعثن
الله أقواما يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس، ليسوا
بأنبياء ولا شهداء)، فجثى أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله جلهم لنا نعرفهم،
قال:( هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه)[113]
وقال:( يا أيها
الناس، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء
يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله)، فجثى رجل من الأعراب من
قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي r فقال:( يا رسول الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا
شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله أنعتهم لنا جلهم لنا
يعني صفهم لنا شكلهم لنا)، فسر وجه النبي r بسؤال الأعرابي فقال رسول الله r :( هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم
أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور،
فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون
وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)[114]
وقال:( إن في
الجنة لعمدا من ياقوت، عليها غرف من زبرجد، لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب
الدري)، قالوا: يا رسول الله من يسكنها؟ قال :(المتحابون في الله، والمتباذلون في
الله، والمتلاقون في الله)[115]
قلنا: وما يجدي
الحب؟ .. إنه لن يطعم الجائع، ولن يكسي العاري، ولن يؤوي المشرد.
قال: كلا ..
الحب يفعل كل ذلك .. فيستحيل على المحب أن يشبع، وتصيبه التخمة، ومحبوبه جائع ..
ويستحيل أن يتلهى بمتاع الدنيا وزخارفها في الوقت الذي يرزح فيه محبوبه في أغلال
الفاقة ..
لقد ذكر رسول
الله r ذلك، فقال متوعدا:( لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[116]
بل قال مبينا
خطورة الغفلة عن مصالح المسلمين :( من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم
يصبح ويمس ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم)[117]
قلنا: هذه التوجيهات .. فما
التنظيمات؟
قال: لقد وضع الإسلام كثيرا من
التشريعات التي تنظم التكافل حتى يؤدي الغاية المرجوة منه .. فمن التكافل ما ألزم به
الأفراد .. ومنه ما ألزم به المجموع .. ومنه ما جعله تطوعا يتنافس فيه الأفراد
والجماعات.
قلنا: فحدثنا عن التكافل
الذي ألزم به الإسلام الأفراد.
قال: من ذلك الزكاة .. وهي ركن
أساسي من أركان الدين .. وهي فريضة إلزامية فرضها الله على المسلم دينا وجعل
للدولة الحق في أخذها منه قهرا إذا هو امتنع عن أدائها.
لقد قال تعالى يبين عاقبة من
يتهاونون في هذا الركن من أركان الدين :﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ
شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
(آل عمران:180)
لقد بين رسول الله r
المراد من هذه الآية، فقال :( مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ
مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، يُطَوّقُه يوم القيامة، يأخذ
بلِهْزِمَتَيْه - يعني بشدقَيْه - يقول: أنا مَالُكَ، أنا كَنزكَ)، ثم تلا هذه
الآية[118].
وقال r في بيان هذه الآية: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها،
إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها
جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى
بين العباد)[119]
قال رجل منا: كيف تقول هذا عن الزكاة،
وهي ليست سوى ضريبة من الضرائب التي لا تزال الدول تفرضها على رعاياها رضوا أم
كرهوا.. بل كانت الدولة الرومانية وغيرها من الدول تفرضها على رعاياها، فأي جديد
جاء به الإسلام في هذا الباب[120]؟
ابتسم سيد، وقال: شتان ما بينهما ..
شتان ما بين الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، وبين تلك الإتاوات الثقيلة التي
كان ولا يزال يفرضها المستبدون على الرعايا، ثم يصرفون ما شاءوا منها في اللهو
والترف.
قال الرجل: كيف تقول هذا والضريبة
والزكاة يتفقان في كونهما فريضة إلزامية، يلتزم الممول بأدائها إلي الدولة، تبعًا
لمقدرته علي الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي
تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة من ناحية، وتحقيق
بعض الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسة وغيرها من الأغراض التي تنشد الدولة
تحقيقها من ناحية أخرى.
قال سيد: لكن الزكاة حق مقدر فرضه
الله في أموال المسلمين لمن سماهم في كتابه من الفقراء والمساكين وسائر المستحقين،
شكرًا لنعمته تعالى، وتقربًا إليه، وتزكية للنفس والمال.
قهقه الرجل، وقال: بغض النظر عن
الشاعرية التي عرفت بها الزكاة فهي لا تعدو أن تكون ضريبة من الضرائب.. سأبين لك
ذلك ..
انظر .. إن عنصر القسر والإلزام الذي
لا تتحقق الضريبة إلا به، موجود في الزكاة إذا تأخر المسلم عن أدائها بدافع
الإيمان، ومقتضى الإسلام، وأي قسر وإلزام أكثر من أخذها بقوة السلاح ممن منعها،
ومن سل السيف لقتال من جحدها وكان ذا شوكة؟.
هذا أولا .. ثانيا .. كما أن من شأن
الضريبة أن تدفع إلي هيئة عامة مثل السلطة المركزية والسلطات المحلية .. فكذلك
الزكاة، إذ الأصل فيها أن تدفع إلي الحكومة بواسطة الجهاز الذي سماه القرآن :﴿
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا .. (60)﴾ (التوبة)[121]
ثالثا .. من مقومات الضريبة انعدام
المقابل الخاص، فالممول يدفع الضريبة بصفته عضوًا في مجتمع خاص، يستفيد من أوجه
نشاطه المختلفة، والزكاة كذلك لا يدفعها المسلم مقابل نفع خاص وإنما يدفعها بوصفه
عضوًا في مجتمع مسلم يتمتع بحمايته وكفالته .. فعليه أن يسهم في معونة أبنائه،
وتأمينهم ضد الفقر والعجز وكوارث الحياة، وأن يقوم بواجبه في إقامة المصالح العامة
للأمة المسلمة التي بها تعلو كلمة الله وتنشر دعوة الحق في الأرض، بغض النظر عما
يعود عليه من المنافع الخاصة من وراء إيتاء الزكاة.
رابعا ..إذا كان للضريبة - في
الاتجاه الحديث- أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة فوق هدفها المالي فإن
الزكاة لها أيضًا مثل هذه الأهداف.
سكت الرجل، فقال سيد: أنا لن أجادلك
فيما ذكرت .. ولكني سأبين لك ما تتميز به الزكاة عن الضريبة .. وهو ما يجعل الزكاة
حلا أمثل بكثير من الحل الذي اتخذته الدول، ودعاه إليه عدلها أو جورها.
أما أول الفروق .. فيبدأ من الاسم ..
فكلمة (الزكاة) التي اختارها الله لهذه العبادة تدل على الطهارة والنماء والبركة
.. ولذلك في النفس إيحاء جميل، يخالف ما توحي به كلمة (الضريبة)، والتي هي مشتقة
من (ضرب عليه غرامة)، أي ألزمه بها، وكلفه تحمل عبئها.. ولهذا ينظر الناس عادة إلي
الضريبة باعتبارها مغرمًا وإضرارًا ثقيلاً.
أما كلمة (الزكاة)، وما تحمله من
دلالات التطهير والتنمية والبركة، فهي توحي بأن المال الذي يكنزه صاحبة، أو يستمتع
به لنفسه، ولا يخرج منه حق الله الذي فرضه يظل خبيثًا نجسًا، حتى تطهره الزكاة،
وتغسله من أدران الشح والبخل.
وهي توحي كذلك بأن هذا المال الذي
ينقص، في الظاهر، لمن ينظر ببصره، يزكو وينمو ويزيد، في حقيقة الأمر، لمن يتأمل
ببصيرته. كما قال تعالى :﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾ (البقرة)، وقال :﴿
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (39)﴾ (سبأ)، وقال الرسول r:(وما نقص مال من صدقة)[122]
وهي توحي كذلك أن الطهارة والنماء
والبركة ليست للمال وحده، بل للإنسان أيضًا: لآخذ الزكاة ولمعطي الزكاة.. فآخذ
الزكاة ومستحقها تتطهر بها نفسه من الحسد والبغضاء وتنمو بها من معيشته، إذ تحقق
له ولأسرته تمام الكفاية.. وأما معطي الزكاة فيتطهر بها من رجس الشح والبخل وتزكو
نفسه بالبذل والعطاء، ويبارك له في نفسه وأهله وماله، قال تعالى :﴿ خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
(التوبة)
قال الرجل: دعنا من الاسم .. وعد بنا
إلى المسمى .. فما أسهل أن نسمي الضريبة باسم الزكاة، وترتفع المشكلة.
ابتسم سيد، وقال: ليس الشأن في الاسم
.. الشأن في المسمى .. وشتان بين مسمى الزكاة ومسمى الضريبة:
فالزكاة عبادة فرضت على المسلم،
شكرًا لله تعالى، وتقربًا إليه.. أما الضريبة فهي التزام مدني محض خال من كل معنى
للعبادة والقربة.. ولهذا كانت (النية) شرطًا لأداء الزكاة وقبولها عند الله، إذ لا
عبادة إلا بنية.
ولهذا تذكر (الزكاة) في قسم
(العبادات) في الفقه الإسلامي، اقتداء بالقرآن والسنة اللذين قرنا الزكاة
بالصلاة.. فالقرآن في نيف وعشرين موضعًا من سوره المكية والمدنية، وأما السنة ففي
مواضع لا حصر لها، كما في حديث جبريل المشهور، وحديث: (بني الإسلام على خمس)
وغيرها.. فكلاهما ركن من أركان الإسلام الخمسة، وعبادة من عباداته الأربع.
ولما كانت الزكاة عبادة وشعيرة
وركنًا دينيًا من أركان الإسلام، لم تفرض إلا علي المسلمين، فلم تقبل الشريعة
السمحة أن توجب على غير المسلمين فريضة مالية فيها طابع العبادة والشريعة الدينية،
وهذا بخلاف الضريبة، فهي تجب على المسلم وغير المسلم، تبعًا لمقدرته على الدفع.
قال الرجل: وما القيمة العملية لهذا
الفرق؟
قال سيد: لهذا قيمة كبيرة ..
فالضريبة يتهرب منها من ضربت عليه بينما الزكاة ـ باعتبارها عبادة ـ يسعى بها
صاحبها قريرة بها عينه، لأنه يعلم أن الله كلفه بها، وأنه يقوم بإخراجها طاعة لله
لا طاعة لأي سلطة.
بالإضافة إلى هذا فإن كونها عبادة
جعل تحديد مقاديرها وأنصبتها ومصارفها وكل ما يرتبط بها لله .. لله وحده.
فالزكاة حق
مقدر بتقدير الشارع، فهو الذي حدد الأنصبة لكل مال،
وعفا عما دونها، وحدد المقادير الواجبة من الخمس إلي العشر، إلي نصف العشر، إلي
ربع العشر.. فليس لأحد أن يغير فيما نص عليه الشرع أو يبدل، ولا أن يزيد أو ينقص..
بخلاف الضريبة، فهي تخضع في وعائها، وفي أنصبتها، وفي سعرها، ومقاديرها لاجتهاد
السلطة وتقدير أولي الأمر، بل بقاؤها وعدمه مرهون بتقدير السلطة لمدى الحاجة
إليها.
ويترتب على هذا: أن الزكاة فريضة
ثابتة دائمة ما دام في الأرض إسلام ومسلمون، لا يبطلها جور جائر، ولا عدل عادل،
شأنها شأن الصلاة، فهذه عماد الدين، وتلك قنطرة الإسلام.. أما الضريبة فليس لها
صفة الثبات والدوام، لا في نوعها ولا في أنصبتها ولا في مقاديرها، ولكل حكومة أن
تحور فيها وتعدل حسبما ترى، أو يرى أهل الحل والعقد من ورائها.. بل بقاؤها نفسه
غير مؤبد، فهي تجب حسب الحاجة وتزول بزوالها.
وللزكاة مصارف خاصة، عينها الله
في كتابه، وبينها رسوله r بقوله وفعله، وهي مصارف محددة واضحة، يستطيع الفرد المسلم أن
يعرفها وأن يوزع عليها - أو على معظمها- زكاته بنفسه إذا لزم الأمر، وهي مصارف ذات
طابع إنساني وإسلامي.. أما الضريبة فتصرف لتغطية النفقات العامة للدولة، كما
تحددها السلطات المختصة.
وبذلك تكون للزكاة ميزانية مستقلة عن
الميزانية العامة للدولة، واجبة الصرف إلي الأبواب المنصوص عليها، والتي جعل
القرآن الصرف لها وفيها :﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ .. (60)﴾
(التوبة)
وانطلاقا من هذا، فإن أداء الضريبة
علاقة بين المكلف أو الممول وبين السلطة الحاكمة، وهي التي تسنها، وهي التي تطالب
بها، وهي التي تحدد النسبة الواجبة، وهي التي تملك أن تنقصها، أو تتنازل عن جزء
منها لظرف معين ولسبب خاص، أو على الدوام، بل تملك إلغاء ضريبة ما، أو الضرائب
كلها إن شاءت.. فإذا أهملت السلطة أو تأخرت في المطالبة بالضريبة فلا لوم علي
المكلف، ولا يطلب منه شيء، أما الزكاة فهي - قبل كل اعتبار- علاقة بين المكلف
وربه.. هو الذي آتاه المال، وهو الذي كلفه أن يؤتي منه الزكاة، امتثالاً لأمره
وابتغاء مرضاته، وعرفه مقاديرها، وبين له مصارفها.. فإذا لم توجد الحكومة المسلمة
التي تجمع الزكاة من أربابها، وتصرفها على مستحقيها، فالمسلم يفرض عليه دينه أن
يقوم هو بتفريقها على أهلها ولا تسقط عنه بحال.. مثلها في ذلك مثل الصلاة، لو كان
المسلم في مكان لا يجد فيه مسجدًا ولا إمامًا يأتم به، وجب عليه أن يصلي حيث تيسر
له، في بيته أو غيره، فالأرض كلها مسجد للمسلم ولا يترك الصلاة أبدًا، والزكاة أخت
الصلاة.
ولذلك يجب علي المسلم أن يدفع الزكاة
وهو طيب النفس بها، راجيًا أن يتقبلها الله منه ولا يردها عليه، ويستحب له أن يسأل
ربه قبولها بمثل هذا الدعاء: (اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا).
ومن هنا يحرص المسلم على إيتاء
الزكاة ولا يتهرب من دفعها، كما يتهرب جمهور الناس من دفع الضرائب، فإن لم يتهربوا
دفعوها مكرهين أو كارهين.. بل نجد من المسلمين من يدفع من ماله أكثر مما توجبه
الزكاة، رغبة فيما عند الله، وطلبًا لمثوبته ورضوانه.
بالإضافة إلى كل هذا، فللزكاة أهدافا
روحية وخلقية تحلق في آفاق عليا، تقصر الضريبة عن الارتقاء إليها، وحسبنا من هذه
الأهداف ما صرح كتاب الله في شأن أصحاب المال المكلفين بالزكاة حيث قال تعالى :﴿
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) ﴾
(التوبة)، ومعنى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم، وكان r يدعو لدافع الزكاة بالبركة في نفسه وفي ماله، وهو أمر مندوب لكل
عامل على الزكاة أن يدعو لمعطي الزكاة اقتداء بالنبي r، بل قال بعض الفقهاء: هو واجب، لأن الآية أمرت به وظاهر الأمر
الوجوب.
أما الضريبة فهي بمعزل عن التطلع إلى
مثل هذه الأهداف، وقد ظل رجال المالية قرونًا يرفضون أن يكون للضريبة هدف غير
تحصيل المال للخزانة، وسمي هذا (مذهب الحياد الضريبي)، فلما تطورت الأفكار، وتغيرت
الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، انهزم مذهب الحياديين، وظهر الذين
ينادون باستخدام الضرائب أداة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية معينة، أو تقريب
الفوارق وغير ذلك، وهذا إلى جوار هدفها المالي، وهو الهدف الأول.
ولكن لم يستطع مشرعو الضرائب ولا
علماء المالية العامة ومفكروها أن يخرجوا من دائرة الأهداف المادية، إلى دائرة
أرحب وأبعد مدى، وهي دائرة الأهداف الروحية والخلقية التي عنيت بها فريضة الزكاة.
بالإضافة إلى هذا كله .. فإن من أبرز
أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة، الأساس الذي بني عليه فرض كل منهما.. فالأساس
القانوني لفرض الضريبة قد اختلف في تحديده على نظريات متباينة لعلك تعرفها، ولعلكم
تعرفونها[123]
.. أما الزكاة، فإنها تقوم على أربع نظريات واضحة معقولة متوافقة لها تأثيرها
الممتد.. إن شئتم شرحتها لكم.
قلنا: أجل .. فما أولها؟
قال: النظرية العامة للتكليف .. وتقوم هذه النظرية على أن من حق الخالق المنعم أن يكلف عباده ما يشاء من
واجبات بدنية ومالية، أداءً لحقه، وشكرًا لنعمته، وليبلوهم أيهم أحسن عملاً،
ليختبر ما في صدورهم، وليمحص ما في قلوبهم، وليعلم من يتبع رسله ممن ينقلب على
عقبيه، فيميز الله الخبيث من الطيب، والمسيء من المحسن، ويوفيهم أعمالهم وهم لا
يظلمون.
فكما كلف الله
المسلم بالصلاة والصيام وكل منهما عبادة بدنية، وبالحج، وهو عبادة بدنية مالية،
كلفه بالزكاة، وهي عبادة مالية خالصة فيها بذل المال الذي هو شقيق النفس، وعصب
الحياة، وفتنة الدنيا ليعلم من يعبده تعالى حقا فيبذل ما عنده لله، ومن يعبد ماله
ودنياه، فيؤثرها على رضا الله :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ﴾ (الحشر)
قلنا: وعينا
هذا .. فما النظرية الثانية؟
قال: نظرية الاستخلاف في مال الله.. فالمسلم
يعتقد أن المال مال الله تعالى، والإنسان ليس سوى مستخلف فيه، فكل ما في هذا
العالم علويه وسفليه، ملك خالص لله تعالى، وليس لأحد شرك في ذرة منه .. والأموال ـ
بذلك ـ كلها ملك لله تعالى، فهو واهبها والمنعم بها على عباده وهو وحده خالقها
ومنشئها، وعمل الإنسان الذي نسميه (إنتاجًا) يتخذ مجاله في مادة خلقها الله سبحانه
وسخرها له، ولهذا يقول الاقتصاديون: إن الإنتاج هو خلق المنفعة وليس خلق المادة،
ومعنى هذا أنه يحول المادة لتشبع حاجاته وتكون لها منفعة.
وبناء على هذا،
لا غرابة أن ينفق الإنسان عبد الله بعض ما رزقه الله في سبيل الله، وإعلاء كلمة
الله، وعلى إخوانه عباد الله، قيامًا للواهب المنعم بحق الشكر على نعمائه، ومن أجل
هذا يخاطبنا الله في كتابه بقوله تعالى :﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاكُمْ ﴾ (البقرة: 254)، ويقرر أن المال مال
الله، والإنسان ما هو إلا مستخلف فيه، أو موظف مؤتمن على تنميته وإنفاقه،
والانتفاع والنفع به، فيقول :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ (النور: 33)، ويقول :﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) ﴾ (آل عمران) ليذكرهم بهذه الحقيقة: أن المال رزق من عند الله آتاهم من فضله،
ويقول:﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)﴾ (الحديد).. فالإنسان ليس مالك المال في الحقيقة، ولكنه خليفة المالك - وهو
الله تعالى- ووكيله فيه.
وليست ثمرة العلم
بأن المال مال الله، والإنسان فيه بمنزلة النائب أو الوكيل، مقصور على تهوين البذل
والإنفاق عليه، حيث ينفق من مال غيره وقد أذن له فيه، بل يفيد العلم بهذه الحقيقة
أيضًا أن يتقيد الإنسان بمشيئة المالك الحقيقي للمال، فإن الوكيل ما هو إلا ممثل
لإرادة الموكل، ومنفذ لما يطلبه، وليس له حق الانفراد بالتصرف حسبما يهوى ويشتهي،
وإلا بطلت وكالته، ولم يعد جديرًا بحق الاستخلاف الذي أساء استعماله.
قلنا: وعينا
هذا .. فما النظرية الثالثة؟
قال: نظرية التكافل بين الفرد والمجتمع .. فمن المقرر لدى فلاسفة الاجتماع أن الإنسان مدني بطبعه، وأنه لا يستطيع أن
يحيا حياة إنسانية حقة إلا في ظل مجتمع.. ومن المقرر كذلك أن الفرد مدين للمجتمع
بكثير من معارفه وخبراته وفضائله، فإن الفرد - في بداية حياته - لا يمكنه أن يعيش
ويحيا بغير عون المجتمع، فهو الذي يضمن له الحياة والبقاء، ولولاه لمات في مهده،
والمجتمع هو الذي يقوم بتلقين الفرد مظاهر الحضارات والثقافة المختلفة وقواعد
الدين والمعاملة..
فالفرد إذن
مدين للمجتمع بلا ريب، وهذا كما يصدق على مكاسب الفرد المعنوية والثقافية
والحضارية، يصدق على مكاسبه المادية والاقتصادية.. فالذي لا شك فيه أن الفرد - وإن
أوتي من المواهب ما أوتي- لم يكسب المال بجهده وحده، بل شاركت فيه جهود وأفكار
وأيد كثيرة لا تحصى، بعضها ساهم من قريب، وبعضها ساهم من بعيد، بعضها عن قصد،
وبعضها عن غير قصد، وكلها أسباب عاونت في وصول المال إلى صاحبه.
فإذا نظرنا
مثلاً إلى الزارع الذي حصد القمح، كيف حصل على قمحه هذا؟ وما قيمة جهده بجانب جهد
المجتمع؟ إن المجتمع هو الذي شق له الترع والقنوات ونظم الري والصرف، وصنع له
المحراث وغيره من أدوات الزراعة، وأمده بما يحتاج إليه من قوت وملبس ومسكن، وهيأ
له الأمن والاستقرار.. إلى غير ذلك من الأمور التي لا تحصى.
وإذا نظرنا إلى
التاجر مثلاً، كيف جمع ماله، وحقق كسبه؟ رأينا للمجتمع عليه الفضل الأكبر، واليد
الطولى، فممن يشتري؟ ولمن يبيع؟ ومع من يعمل؟ وبمن يسير إذا لم يكن المجتمع
ومعاونة المجتمع؟
ومثل الزارع
والتاجر، الصانع والموظف وكل ذي حرفة وكل ذي مال.
وكلما كان مال
المالك أكثر، وثروته أوسع، كان جهد الجماعة أظهر وأعظم، ونصيب الفرد فيه أقل
وأصغر، فإن طاقة الفرد للعمل محدودة - ولا شك- بحدود قدرته ووقته وضروراته كإنسان.
كم يبذل من
الجهد صاحب المزرعة الواسعة، أو المصنع الكبير، أو المؤسسة الضخمة ذات الفروع؟ وكم
يقاس جهده إذا كان له جهد إداري مثلا، بجانب جهد العشرات أو المئات أو الألوف من
أبناء المجتمع الذين يعملون معه، ويبذلون من عرق جبينهم،أو نور أعينهم، أو وهج
أفكارهم؟! ومن أجل هذا كان المال الذي يحوزه مكتسبه، وينسب إليه، هو مال الجماعة
أيضا، ينسب إليها، ويحسب عليها، وتكلف متضامنة بالمحافظة عليه.
وهذا ما جعل
القرآن الكريم يخاطب جماعة المسلمين فيقول:﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا .. (5) ﴾ (النساء)،
ويقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ﴾ (النساء)، فالآية الكريمة تنهى أن يأكل المؤمنون بعضهم مال بعض، كما تنهى أن
يقتل بعضهم بعضًا، وإنما اختارت الآية التعبير بـ (أموالكم) و(أنفسكم) ليشعر كل
منهم أن مال بعضهم هو مال كلهم، وأن نفس كل فرد منهم كنفس الآخر.
فالأمة المسلمة
متكافلة متضامنة في حقوقها ومصالحها وأنفسها وأموالها، فمن أضاع مال غيره فكأنما
أضاع مال نفسد، أو أضاع مال المجتمع كله، ومن اعتدى على نفس أخيه بالقتل فكأنما
قتل نفسه، أو اعتدى على الجماعة كلها، كما جاء في الآية الأخرى:﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا .. (32) ﴾ (المائدة)
انظروا ..
بلاغة هذه الآية وعظم المقاصد التي تحملها .. لقد قال السيد رشيد رضا تعليقا
عليها: (إن مثل هذه الإضافة قد قررت في الإسلام قاعدة الاشتراك التي يرمى إليها
الاشتراكيون في هذا الزمان، ولم يهتدوا إلى سنة عادلة فيها، ولو التمسوها في
الإسلام لوجدوها، ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل من فرد من أفراده المتبعين له مالاً
لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية، وحفظ حقوقها، فهو يوجب على كل ذي مال
كثير حقوقًا معينة للمصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى جميع البشر، ويحث فوق ذلك
على البر والإحسان، والصدقة الدائمة والمؤقتة، والهدية)[124]
نخلص من هذا
كله إلى أن للجماعة حقًا أكيدًا في مال الفرد، حقًا لا يسلبه ملكيته المشروعة له،
بل يجعل جزءًا معينًا لمصالحها العامة، وأكثر منه عند اقتضاء الحاجة، واستدعاء
المصلحة.
فمن حق المجتمع
ممثلاً في الدولة التي تشرف عليه، وترعى مصالحه، أن يكون لها نصيب من مال ذي المال
تنفقه فيما يعود على المجتمع بالخير، وما يحفظ على المجتمع كيانه ورسالته، ويذود
عنه كل بغي وعدوان.
فلو لم يكن في
المجتمع المسلم أفراد فقراء محتاجون، لوجب على المسلم – ولابد - أن يؤدي زكاته،
لتكون رصيدًا للجماعة الإسلامية، تنفق منه عند المقتضيات، وتبذل منه في (سبيل
الله) وهو مصرف عام دائم ما دام في الأرض إسلام.
قلنا: وعينا
هذا .. فما النظرية الرابعة؟
قال: نظرية الإخاء بين المسلمين ..فالإخاء معنى أعمق غورًا، وأبعد مدى، من التكافل بين الفرد والمجتمع..
فالإخاء لا يعتمد على تبادل المنافع، ولا على الإعطاء مقابل الأخذ، وإنما هو معنى
إنساني روحي، ينبع من جوهر الإنسان الأصيل، الإخاء يقتضي الأخ أن يعطي أخاه وإن لم
يأخذ منه، وأن يساعد أخاه وإن لم يكن محتاجًا إليه، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه،
بل قد يؤثره إلى نفسه.
ويتأكد حق هذه
الأخوة إذا كان المؤمنون بها يعيشون في ظل مجتمع واحد، فهنا تنضم رابطة المساكنة
في الوطن الواحد إلى رابطة الأخوة الإيمانية الواصلة، ومن الثابت أن دار الإسلام
-على سعتها- وطن واحد للمسلمين، وأن أبناء الإسلام داخل هذا الدار مجتمع واحد.
وقد بينَّ رسول
الإسلام r حقوق هذه الأخوة بأحاديثه الكثيرة
الهادية: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)[125]..
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر)[126]..
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)[127]،
ومن ترك أخاه يجوع ويعرى ويمرض، وهو قادر على إنقاذه من الجوع والعرى والمرض، فقد
أسلمه وخذله.
هذا هو المجتمع
المسلم: بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، وأسرة واحدة يكفل كل أخ فيها أخاه، بل جسد
واحد، إذا اشتكى بعضه اشتكى كله.. فمن حق الإنسان المسلم الذي لا يستطيع أن يعمل،
أو يستطيع أن يعمل ولا يجد عملاً، أو يعمل ولا يجد كفايته من عمله، أو يجد ولكن حل
به من أحداث الزمن ما أفقره إلى المعونة، كأن احترق بيته، أو ذهب السيل بماله، أو
أصابت الجوائح زرعه، أو أفلست تجارته، أو نحو ذلك، مما جعله يدان على عياله، كذلك
من سافر لغرض مشروع فانقطع في الطريق غريبًا عن وطنه وماله.
من حق كل واحد
من هؤلاء أن يعان، ويشد أزره، ويؤخذ بيده لينهض ويسير في قافلة الحياة مرفوع
الرأس، بوصفه إنسانًا كرمه الله، وإلا فلا خير في الإنسان، ولا في المؤمن إذا ضيع
أخاه في العقيدة والإيمان.
التفت سيد إلى
الرجل، وقال: بهذا كله يتضح لنا الأساس النظري لفرض الزكاة في الإسلام، وهو شيء
أوسع وأعمق وأخلد من الأساس الذي بني عليه فرض الضريبة، وقد يكون في نظرية التكافل
قدر مشترك بين الزكاة والضريبة، ولكن النظريات الثلاث الأخر، مما تميزت به فريضة
الزكاة بلا مراء.
قلنا: ذكرت لنا
ركنا من أركان الإلزام الفردي .. فهل هناك غيره؟
قال: أجل ..
هناك الكفارات .. وهي ما فرضه الإسلام على المسلم لارتكابه بعض المحظورات أو تركه بعض
الواجبات, ككفارة اليمين إذا حلف المسلم بالله فحنث، وكفارة الفطر عمدا بدون عذر
مقبول شرعا في نهار رمضان وغيرها .. وهذه الكفارات في بعض مصارفها إطعام لعدد من
المساكين, ومن هنا كانت وسيلة لتحقيق التكافل.
قال تعالى في
كفارة اليمين: :﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)﴾ (المائدة)
وقد اتفق
الفقهاء على وجوب الإطعام في كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها على التخيير
بينه وبين الكسوة وتحرير الرقبة ، فإن عجز فصيام ثلاثة أيام.. وهو ما نصت عليه
الآية الكريمة.
وقال تعالى في
كفارة الظهار[128]
:﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) ﴾
(المجادلة)
وبمثل هذا وردت الأدلة توجب الإطعام في كفارة الفطر في صوم رمضان أداء [129] ..
وذهب بعض
الفقهاء[130]
إلى أنه يصار إلى الفدية في الصيام عند اليأس من إمكان قضاء الأيام التي أفطرها
لشيخوخة لا يقدر معها على الصيام ، أو مرض لا يرجى برؤه ، لقوله تعالى:﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ..(184) ﴾
(البقرة)، والمراد من يشق عليهم الصيام .
وذكر الفقهاء
إلى أن المحرم يخير إذا قتل صيدا بين ثلاثة أشياء : إما شراء هدي بالقيمة وذبحه،
أو الإطعام بالقيمة ، أو الصيام ، لقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) ﴾ (المائدة)، ومن قتل ما ليس له دم مثل الجراد ،
تصدق بما شاء كحفنة من طعام للواحدة وحفنتين للاثنتين.
قلنا: عرفنا
الإلزام الفردي .. فحدثنا عن الإلزام الجماعي.
قال: لقد ورد في الشريعة الإسلامية
الأمر الملزم لجميع المسلمين بكفاية المحتاج في أي بلاد من بلاد الإسلام، وقد ورد
في تطبيق ذلك عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه أرسل في عام الرمادة عندما اشتدت الحاجة
إلى القوت إلى الأقاليم ذوات الغلات الزراعية يطلب المعونة منها، فأرسل إلى عمرو
بن العاص والي مصر يقول له: (الغوث، الغوث) فرد عمرو: سأرسل إليك عيراً يكون أولها
عندك وآخرها عندي.
وهكذا كان تصوره وتصور جميع الخلفاء
الراشدين .. فعن أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب t يقول: اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه، ثم قال لهم: إني
أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قرأت آيات من كتاب الله،
سمعت الله يقول:)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(
(الحشر:8)، والله ما هو لهؤلاء وحدهم.
ثم تلا:) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(
(الحشر:9) والله ما هو لهؤلاء وحدهم.
ثم تلا:) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ(
(الحشر:10)، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي أو منع حتى
راع بعدن )
وقد جاء في رواية أخرى قوله عن الآية
السابقة:( هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال
حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش ـ إن شاء الله ـ لم يبق أحد من المسلمين إلا
سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه )
وقد ذكر الفقهاء في هذا المحل مسألة
أطلقوا عليها ( الحقوق المالية غير الزكاة)، وذهب كثير منهم [131]
إلى أن في المال حقًا سوى الزكاة .. قال ابن حزم معبرا عن هذا :( وفرضٌ على
الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم
الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي
لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف
والشمس وعيون المارة)
وقال:( ولا يحل لمسلم اضطر، أن يأكل
ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي؛ لأن فرضًا على
صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم
الخنزير، وبالله تعالى التوفيق، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قُتل فعلى قاتله القود
(القصاص) وإن قَتَل المانع فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقًا، وهو طائفة باغية)[132]
ومن الأدلة التي تدل على هذا قوله
تعالى :﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) ﴾ (الإسراء)، وقوله تعالى :﴿
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى
وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)﴾
(النساء)، قال ابن حزم معلقا على هذه الآيات:( فأوجب تعالى حق المساكين وابن
السبيل مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار
وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك)
ومن الأدلة على هذا ما جاء في القرآن
الكريم من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون، قال تعالى :﴿ فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾ (الماعون)، وقد قال عبد
الله بن مسعود في تفسيرها: (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله r
عارية الدلو والقدر)، ومعنى هذا أن إعارة هذه الأشياء الصغيرة التي يحتاج إليها
الجيران بعضهم من بعض واجبة؛ لأن مانعهما مذموم مستحق للويل، كالساهي عن الصلاة
المرائي ولا يستحق المكلف الويل إلا على ترك واجب، وإذا ثبت أن إعارة هذه الأشياء
واجبة وهي غير الزكاة قطعًا، فقد ثبت أن في المال حقًا سوى الزكاة.
ومن الأدلة على هذا النصوص القرآنية
الدالة على وجوب التكافل بين المسلمين ، كقوله تعالى في
وصف المؤمنين:﴿ رُحماءُ بَيْنَهُمْ ﴾ (الفتح: 29)، وقوله :﴿ وَآتِ ذَ القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
﴾ (الإسراء: 26)، وقوله:﴿ وَبِالوَالِدَيْنِ
إحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
مَلّكَتْ أيْمَانُكُمْ ﴾ (النساء: 36).
ومثلها الآيات الكثيرة التي جعلت
إطعام المسكين والحض على إطعامه من علائم الإيمان، وتركه من لوازم الكفر والتكذيب
بالآخرة، كقوله تعالى في أسباب دخول المجرمين إلى سقر :﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)﴾
(المدثر)، وقوله في شأن مَن أوتي كتابه بشماله فاستحق صليّ الجحيم والعذاب الأليم
:﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ
عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)﴾ (الحاقة)
ومثل ذلك ما ورد في الأحاديث الكثيرة
التي تحث على رعاية المحتاجين مطلقا من غير ربط لذلك بالزكاة ونحوها، كقوله r
:( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)[133]،
ومن كان على فضلة زيادة عن حاجة ورأى المسلم أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم
يغثه، فما رحمه بلا شك.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدَّيق:
أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وأن رسول الله r قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام
أربعة فليذهب بخامس... أو سادس)[134]
وعن ابن عمر أن رسول الله r
قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)[135]
، ومن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه يعني خذله.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله r
قال: (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد
به على من لا زاد له » ، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد
منا في فضل)[136] ، وهذا إجماع من الصحابة – رضي الله عنهم -
يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في الخبر نقول.
وعن أبي موسى عن النبي r
قال: (أطعموا الجائع، وفكوا العاني وأطعموا الجائع ، وعودوا المريض)
وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول
الله r :( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع
فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنَّ
الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا)[137]
ومثل ذلك ما صحت به الأحاديث من
إيجاب حق الضيف على المضيف، كقوله r :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، يوم
وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة)[138]،
والأمر بإكرامه يدل على الوجوب بدليل تعليق الإيمان عليه، وبدليل جعل ما بعد
الثلاثة الأيام صدقة، بدليل قوله r لعبد الله بن عمرو t
:( إنَّ لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن لزوجك
عليك حقًا)[139]،
وقوله:( أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا
فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه)[140]،
بل روي أنه r قال : (أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا، فإن نصره حق على
كل مسلم حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله)[141]
لقد جعلت هذه النصوص وغيرها كثير علماء
المسلمين وأولياء أمورهم يدركون أنه لا يحق لأحد أن يستأثر بالمال في الوقت الذي
يفتقد إخوانه فيه ـ في أي مكان من بلاد الإسلام ـ ما تحتاج إليه حياتهم من
ضروريات.
لقد قال عمر معبرا عن ذلك:( لو
استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لأخذتُ فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء
المهاجرين) .. وقال عليّ بن أبي طالب :( إنَّ الله تعالى فرض على الأغنياء في
أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحقٌ على
الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه) .. وقال ابن عمر :( في المال حق
سوى الزكاة) .. وعن عائشة والحسن بن عليّ وابن عمر: أنهم قالوا كلهم لمن سألهم:
(إن كنت تسأل في دم موجع، أو غُرم مفظع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك).. وصح عن أبي
عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة: أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا
أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء.
قلنا: عرفنا أنواع الإلزامات التي
جاءت بها الشريعة الإسلامية لتحقيق التكافل بين أفراد الأمة .. فما أنواع التطوعات
التي شرعتها؟
قال: نوعان: تطوعات محدودة ..
وتطوعات ممدودة.
قلنا: فحدثنا عن الأول.
قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة الحث
على أن يفيض المؤمن مما رزقه الله من مال وغيره على كل محتاج ..
وقد سلكت هذه النصوص المقدسة كل
المسالك التي ترغب النفس في هذا العمل الصالح .. ومن ذلك وعد المتصدق بتعويض
الله في الدنيا قبل الآخرة .. قال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾
(سبأ)
وفي الحديث قال رسول الله r
:( ما نقصت صدقة من مال)[142]
وقال:( ما من يوم يصبح العباد فيه
إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر: اللهم أعط
ممسكًا تلفًا)[143]
وقال:( قال الله تعالى: يا ابن آدم
أَنفقْ أُنفقْ عليك، وقال: يمين الله ملأى، سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار)[144]
ومن ذلك الإخبار بغنى الله، وأن الصدقة
في الحقيقة لا تنفع إلا صاحبها، قال تعالى :﴿ هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ
ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد)، وقال:﴿ هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)﴾ (المنافقون)، وقال:﴿ خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
(التوبة)، وقال:﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)﴾ (إبراهيم)، وقال:﴿
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا
إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)﴾
(المنافقون)
وفي الحديث، قال رسول الله r
:( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)[145]
وقال:( إن الصدقة ولو قلت لتطفئ غضب
الرب وتدفع ميتة السوء)[146]
، وفي رواية :( إن الله تعالى ليدرأ بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء)
وقال:( كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى
بين الناس)[147]
وقال:( إن الصدقة تطفئ عن أهلها حر
القبور)[148]
وقال:( لا يخرج رجل شيئا من الصدقة
حتى يفك عنها لحي سبعين شيطانا كلهم ينهى عنها)[149]
وقال:( الصدقة تسد سبعين بابا من
السوء)[150]
وقال:( باكروا بالصدقة فإن البلاء لا
يتخطى الصدقة)[151]
وقال:( ما منكم من أحدٍ إلا
سيُكلِّمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان فينظُرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم
فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم فينظر ببين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه
فاتقوا النار ولو بشق تمرة)[152]
أي: أن العبد برحمة الله قد ينجو من النار ولو تصدق بالقليل ولو كان مقدار (نصف
التمرة)
ومن ذلك الإخبار بأن ما
تصدق به المؤمن باق عند الله، ولن يضيع أبدا، بل سيلقاه أحوج ما
يكون إليه، قال تعالى :﴿ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ
فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)﴾
(البقرة)، وقال:﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾ (البقرة)، وقال :﴿
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)﴾ (البقرة)
وفي الحديث عن عائشة أنهم ذبحوا شاة
فقال النبي r: ما بقي منها ؟ فقالت عائشة : ما بقي إلا كتفها ؟ فقال r
:( بقي كلها إلا كتفها)[153]
أي أن ما تصدقوا به هو الباقي.
وقال r :( يقول الإنسان مالي مالي .. وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل
فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)[154]
ومن ذلك الإخبار بمضاعفة
الله الجزاء لعبده، فتتضاعف الصدقة أضعافا مضاعفة، قال
تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ
مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)﴾ (البقرة)، وقال:﴿
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ
فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)﴾ (البقرة)، وقال :﴿ آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)﴾
(الحديد)، وقال :﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
(آل عمران)، وقال:﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)﴾ (الحديد)
وفي الحديث قال رسول الله r
:( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه
ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)[155]
.. وفي رواية[156]:
(إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه فرباها ، وإن الرجل
ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا)
قلنا: عرفنا التطوع المحدود .. فما
مرادك بالتطوع الممدود[157].
قال: هو ما عبر عنه r
بقوله :( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو
علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)[158] .. ففي هذا الحديث أخبرنا رسول الله r أن الإنسان يمكنه أن يعمل الخير، وأن
ينال جزاءه، ولو بعد موته.
قلنا: فما
علاقة هذا بما نحن فيه؟
قال: له علاقة
وطيدة .. فكل مؤمن يحب لنفسه النجاة عند الله .. وكل مؤمن يحب أن تظل الحسنات تهدى
إليه لينال من رضوان الله وفضله ما يأمل فيه ويطمح إليه .. ولذلك، فإن فتح هذا
الباب يجعله حريصا على أن يترك من الخير ما يبقى بعد موته.
وقد ورد في
النصوص المقدسة ذكر أنواع الخير الكثيرة التي تلحق الإنسان بعد موته، وقد جمعها
بعضهم[159]، فقال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري |
عليه من خصال غير عشر |
علوم بثها ودعاء نجل |
وغرس النخل والصدقات تجري |
وراثة مصحف ورباط ثغري |
وحفر البئر أو إجراء نهر |
وبيت للغريب بناه يأوي |
إليه أو بناء محل ذكر |
وتعليم لقرآن كريم |
فخذها من أحاديث بحصر |
وقد اشتهر في
جميع العصور الإسلامية ما يسمى بـ (الوقف)[160] ..
وهو سنة سنها رسول الله r
.. وكان يدعو إليها كل حين ..
ففي الحديث أن رسول الله r
قال: (من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا، فإن شبعه وروثه في ميزانه
يوم القيامة حسنات)[161]
وعن عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول
الله r درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته
البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقة، وقال جابر: لم يكن أحد ذو مقدرة من أصحاب
النبي r إلا وقف[162].
وعن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من
أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه
فما تأمرني، فقال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أنها لا تباع
ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل لا جناح على من
وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول)[163]
وعنه قال: قال عمر للنبي r:
أن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصيب مالاً قط أعجب إلي منها قد أردت أن أتصدق
بها، فقال النبي r: (أحبس أصلها وسبل ثمرتها)[164]
وعن عثمان: أن النبي r
قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل
فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)، فأشتريتها من صلب مالي[165]
.
وعن سعد بن عبادة: قلت: يا رسول
الله، إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال: (الماء)، فحفر بئرًا، وقال: هذه لأم سعد[166].
وعن ابن عباس قال: أراد رسول الله r
الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحجتي مع رسول الله r؟ فقال: ما عندي ما أحجك، قالت: أحجتي على جملك؟ فلأن قال ذلك حبيس
في سبيل الله، فأتى رسول الله r، فسأله، فقال: (أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله)[167]
لقد كان نظام
الوقف الذي أسسه الإسلام[168] أحد
الأسس المهمة للنهضة الإسلامية الشاملة بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية والعلمية ..
وهو يتميز عن
أي مشروع خيري آخر بخصائص وميزات متعددة لا توجد في المشاريع الخيرية الأخرى، وهذه
المزايا أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها في الأمة الإسلامية على مدى قرون
طويلة.
فمن مزاياه أن
الإسلام منح الواقف الحرية الكاملة في الكيفية التي يرغب بها في التصرف فيما يوقفه
من أموال والشروط التي تلبي رغباته وتحقق آماله فيما يوقف، وكل ذلك فيما هو في
حدود الشرع وفق القاعدة الفقهية (شروط الواقف كنصوص الشارع ) ما لم تخالف نصوص
الشارع.
ومنها دوام
الأجر وعدم انقطاعه طالما بقيت العين الموقوفة نافعة، بل قد يزيد هذا الأجر بزيادة
منفعة العين الموقوفة إذا أحسن القائمون على الوقف إدارته واستثماره وفق ظروف كل
عصر يمر عليه.
ومنها أن نظام
الوقف يتمتع في أحكامه بمرونة تمكن الواقف من توقيت الوقف بوقت معين وفق ظروف
عائلية معينة يعيشها الواقف تحتم عليه مثل هذا التوقيت في الوقف وعدم تأبيده.
لأجل هذه
المزايا وغيرها أقبلت الأمة جميعها بجميع أطيافها على الاستفادة من هذا الخير
قدوتهم في ذلك نبيهم r[169] ، ثم صحبه الكرام ـ رضي الله عنهم ـ فقد وقف مجموعة من أصحاب النبي r منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ،
والزبير بن العوام ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت، وعائشة ، وأم سلمة ، وصفية
زوجات الرسول r ، وأسماء بنت أبي بكر ، وسعد بن أبي
وقاص ، وخالد بن الوليد ، وجابر بن عبد اللَّه وغيرهم .. ثم وقف من بعدهم من
التابعين وتابع التابعين، ومن بعدهم من المسلمين.
قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن
التشريعات التي وضعها الإسلام لتكافل الإنسانية.. وما تعني بذلك؟
قال: لقد اعتبر الإسلام البشر جميعا
إخوة .. ولذلك، فإن من صلة الرحم وصلهم وإعانتهم والتكافل معهم في أي حاجة من
الحاجات التي تعرض لهم .. فلا يحل لمسلم أن يرى أخا له في الإنسانية يموت جوعا،
وهو قادر على إشباعه..
لقد أشار إلى
هذا المعنى العظيم قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا (1)﴾ (النساء)
انظروا .. إن
كلمة (الأرحام) في هذا المقام بعد النداء بـ (يا أيها الناس) والتذكير بخلقهم من
نفس واحدة - هي نفس آدم – لا يفهم منه إلا الحث على صلة رحم الإنسانية العامة،
باعتبار البشر جميعا إخوة.
لقد أعلن رسول
الله r أن هذه الأخوة عقيدة من العقائد التي
يشهد الله عليها، ويدعو الناس إلى الإيمان بها، فقد كان r يقول عقب كل صلاة: (اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا
شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن محمدًا
عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة)[170]
بل دعا إلى
الخروج بهذه الأخوة من مجرد العقيدة إلى العمل والسلوك، فقال: (وكونوا عباد الله
إخوانًا)[171]
ولذلك، فإن من مقتضيات هذه الأخوة التكافل العام بين البشر جميعا .. ولهذا نص الفقهاء
على أن لا يفرق في الصدقة بين الكافر والمسلم .
فعن جابر بن
زيد أنه سئل عن الصدقة: فيمن توضع؟ فقال: في أهل مِلَّتكم من المسلمين وأهل ذمتهم،
وقال: وقد كان رسول الله r يقسم في أهل الذمة من الصدقة والخُمس[172].
وعن عمر في قوله تعالى :﴿
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. (60)(التوبة)، قال: هم زمني أهل الكتاب[173].
ومن الوقائع المشهورة في هذا ما رواه
أبو يوسف عن عمر أنه فرض للشيخ اليهودي من بيت مال المسلمين ما يصلحه، مستدلاً
بآية :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. (60)(التوبة)، قال: (وهذا
من مساكين أهل الكتاب)[174]
وروي أنه ـ أي عمر بن الخطاب ـ مر -
عن مقدمة الجابية من أرض دمشق - بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا الصدقات
وأن يجري عليهم القوت[175].
وعن عكرمة في قوله تعالى:﴿
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. (60)(التوبة)، قال: (لا تقولوا لفقراء
المسلمين مساكين، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب)
***
ما وصل سيد من حديثه
إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيده، وساروا به
إلى مقصلة الإعدام .. وقد كان كإخوانه ممتلئا سرورا وسعادة، حتى أنه كان يختال في
مشيته، وكأنه يساق إلى عرسه لا إلى حتفه.
عندما وصل إلى
المقصلة التفت إلينا، وقال: أستودعكم الله ـ إخواني ـ لا أوصيكم في نهاية حياتي
إلا بأن تبذلوا كل جهودكم لرعاية المحتاجين والمستضعفين الذين ائتمننا الله عليهم
.. فنحن وإن متنا موتة واحدة، فهم يموتون كل يوم مئات المرات.
قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين
.. ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت روحه
إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد r .
([1]) أشير به إلى سيد قطب إبراهيم (1324 - 1385هـ، 1906 - 1966م)،
أديب ومفكر إسلامي، ولد في صعيد مصر، وبها تلقى تعليمه الأوّلي وحفظ القرآن
الكريم، ثم التحق بمدرسة المعلمين الأولية (عبدالعزيز) بالقاهرة، ونال شهادتها
والتحق بدار العلوم وتخرج عام 1933م. عمل بوزارة المعارف بوظائف تربوية وإدارية، وابتعثته
الوزارة إلى أمريكا لمدة عامين وعاد عام 1950م. انضم إلى حزب الوفد المصري لسنوات
وتركه على أثر خلاف عام 1942م. وفي عام 1950م انضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين،
وحوكم بتهمة التآمر على نظام الحكم وصدر الحكم بإعدامه، وأعدم عام 1966م.
وقد قال الشاعر يرثيه:
يَا شَهِيدًا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ |
جَبْهَةَ الْحَقِّ عَلَى طُولِ المَدَى |
سَوْفَ تَبْقَى فِي الْحَنَايَا عَلَمًا |
حَادِيًا لِلرَّكْبِ رَمْزًا لِلْفِدَى |
مَا نَسِينَا أَنْتَ قَدْ عَلَّمْتَنَا |
بَسْمَةَ الْمُؤْمِنِ فِي وَجْهِ الرَّدّى |
غَالَكَ الْحِقْدُ بِلَيْلٍ حَالِكٍ |
كُنْتَ فِيهِ الْبَدْرَ يَهْدِي لِلْهُدَى |
نَسِيَ الْفُجَّارُ فِي نَشْوَتِهِمْ |
أَنَّ نُورَ الْحَقِّ لَا لَنْ يُخْمَدَا |
ولا يخفى سر اختيارنا له
في هذا المحل، فهو بالإضافة لكونه من الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل العدالة
الإسلامية كتب في هذا الباب كثيرا .. وخاصة كتابه المعروف (العدالة الاجتماعية في
الإسلام)
([30]) انظر: نيل
الأوطار:7/131، وفي الحديث فوائد كثيرة تتعلق بالنفقات، وقد ذكرنا ما يرتبط
بالأسرة منها في كتاب (الحقوق المادية للزوجة) من سلسلة (فقه الأسرة).
([31]) انظر (إعلام الموقعين) لابن القيم.. وما سنذكره هنا هو اختيار
ابن القيم وترجيحه للخلاف في مسألة وجوب النفقة على الأقارب، فقد اختلف الفقهاء في
حكم هٰذه المسألة على الأقوال التالية:
القول
الأول:
أنه لا يُجبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌّ وصِلَة، وهذا مذهب
يُعزَى إلى الشعبـي. قال عبدُ بنُ حميدَ الكَشي: حدثنا قَبِـيصةُ، عن سفيان
الثوري، عن أشعث، عن الشعبـي، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على
نفقته.. قال ابن القيم: وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبـي أفقه من
هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ
الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب
الحاكم أو إجباره.
القول
الثاني:
أنه يجب عليه الفقةُ على أبـيه الأدنى، وأمه التي ولدته خاصة، فهٰذان
الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما
نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة
بنته الدنيا حتى تُزَوجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا
تُجبَرُ الأُمُّ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية
الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جد، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمَ،
ولا عمةٍ، ولا خالٍ ولا خالةٍ، ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب
النفقةُ مع اتحادِ الدين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في
النفقات.
القول
الثالث:
أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَن عداهم، مع اتفاق الدين، ويَسَارِ
المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنفَق عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ
إن كان من العمود الأسفل. وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك.
القول
الرابع:
أن النفقة تَجبُ على كل ذي رحمٍ مَحرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو
الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب
إلا مع اتحاد الدين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب
النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعتُبِرَ فَقرُهُ
فَقَط، وإن كان كبـيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان ذَكَراً، فلا بُد مع فقره
من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيراً لم تجب نفقته، وهي مرتبة عنده
على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبـيه، خاصة على المشهور من مذهب.
وروي عن الحسن بن زياد
اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبـي حنيفة،
وهو أوسعُ من مذهب الشافعي.
القول
الخامس:
أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبت نفقتُه مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير
وارث، وهذا مذهب الإمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبـي حنيفة، وإن كان مذهب أبـي
حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في
الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر
الله أن تُوصَلَ، وحرمَ الجنة على كل قاطع رحم.
وقد رجح ابن القيم هذا
القول واستدل له بقوله تعالى :﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ .. (26) ﴾
(الإسراء)، فكلمة (حق) لا تعني إلا الوجوب، وقد رد على من فسرها بـ (ترك قطيعته)
بقوله: الجواب، من وجهين: أحدهما: أن يقال: فأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى
جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد، ولا يُطعِمُهُ لُقمَةً، ولا
يَسقِيهِ جَرعة، ولا يكسوه ما يستر عَورَتَهُ ويقيهِ الحر والبردَ، ويُسكِنُهُ تحت
سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبـيه، أو عمه صِنو أبـيه، أو خالته التي هي
أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَذلُهُ للأجنبـي البعيد، بأن يعاوضه على ذلك في
الذمةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه في غاية اليَسَارِ
والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هٰذه قطيعة، فإنا لا ندري ما هي
القطيعة المحرمة، والصلَةُ التي أمر الله بها، وحرم الجنة على قاطعها.
الوجه الثاني: أن
يقال: فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوصُ، وبالغت في إيجابها، وذَمت
قاطعها؟ فأيُّ قَدرٍ زائدٍ فيها على حق الأجنبـي حتى تَعقِلَهُ القلوب، وتُخبِرَ
به الألسنة، وتَعملَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض،
وتشميتُه إذا عطس، وإجابته إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ
نظيرُه للأجنبـي على الأجنبـي؟ وإن كانت هذه الصلَةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه
والإزراءِ به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُل مسلم، بل للذمي البعيد على
المسلم، فما خصوصيةُ صِلة الرحم الواجبة؟.
ولهذا كان بعضُ فضلاء
المتأخرين يقول: أعياني أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة.
ولما أورَدَ الناسُ
هذا على أصحابِ مالك، وقالوا لهم: ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ صَنفَ بعضُهم في صلة
الرحم كتاباً كبـيراً، وأوعب فيه من الآثار المرفوعةِ والموقوفةِ، وذكر جنس الصلة
وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلص من هٰذا الإلزام، فإن الصلة معروفة
يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصلةُ التي
تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبـي؟ فلا يُمكنكم أن
تُعَينوا وجوب شيء إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذكُروا مُسقِطاً
لوجوب النفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبـيُّ قد قَرَنَ حَق الأخ
والأخت بالأب والأم، فقال: (أُمكَ وأَبَاكَ، وأُختَكَ وَأَخَاكَ، ثُم أَدنَاكَ
فَأَدنَاكَ)، فما الذي نسخ هذا، وما الذي جعل أولَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحباب؟
وإذا عُرِفَ هذا، فليس من بِر الوالدين أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكنُسُ الكُنُفَ،
ويُكاري على الحُمر، ويُوقِدُ في أَتُّونِ الحَمامِ، ويَحمِلُ للناس على رأسه ما
يَتَقَوتُ بأُجرَتِهِ، وهو في غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس
مِن بِر أمهِ أن يَدَعَهَا تَخدُمُ الناسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقي لهم الماء ونحو
ذلك، ولا يصُونُها بما يُنفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكتَسِبَان صحيحان، وليسا
بِزَمَنَينِ ولا أَعمَيَـينِ، فيالله العجبُ أين شرطُ الله ورسولِه في بر الوالدين
وصِلَةِ الرحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرحمِ ولا بِرُّ الوالدين
موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً) انظر (إعلام الموقعين)
([46])رواه الطبراني في الكبير وأبو الشيخ ابن حبان في الثواب والحاكم
والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد.
([55])رواه الترمذي بالثلاث الأول، فقط وقال حديث غريب، ورواه الشيخ في
الثواب وأبو القاسم الأصبهاني بتمامه.
([90]) السفعاء: هي التي تغبر لونها إلى الكمودة والسواد من طول الأيمة، يريد بذلك
أنها حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى الزينة والتصنع للزوج.
([91]) آمت المرأة: إذا صارت أيما، وهي من لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا، تزوجت أو
لم تتزوج بعد، والمراد هنا من مات زوجها وتركها أيما.
([100]) تعني الأمة (Nation) ـ في الاصطلاح الحديث ـ مجموعة بشرية كبيرة توحّدها عوامل مشتركة
مثل اللغة والدين والتاريخ والتراث والأصول العِرقية أحيانًا، والثقافة المشتركة.
وهي تعني في القانون
الدّولي، مجموعة من الناس يمارسون حكمًا ذاتيًا داخل إقليم محدد، باعتراف أمم أخرى
من خلال تبادل السفراء فيما بينهما. وعندما تعترف الأمم الأخرى بأمة جديدة فإنها
تحصل على بعض الحقوق، وتترتب عليها بعض الواجبات، تتمثّل حقوقها في حقّ حرية
الملاحة في البحار العليا، أما واجباتها فهي الالتزام بعدم تهديد الأمم الأخرى، أو
استعمال القوّات العسكرية ضدّها. ويطلق القانون الدولي أحيانًا لفظ قطر أو دولة
على الأمة. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
وقد ورد في القرآن هذا
المصطلح على عدة أوجه، من معانيها:
1 - الرجل الجامع
للخير، الذي يُقتدى به: ﴿ (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾
(النحل: 120)
2 - الدين والملة :﴿
إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ (الأنبياء: 92)، ﴿
إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ (الزخرف: 22)
3 - القوم، كقوله
تعالى :﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾
(القصص: 23)
4 - أهل الإسلام خاصة
:﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ (آل عمران: 110)،
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ (البقرة: 143)
5 - الزمن أو السنين :﴿
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾
(هود: 8)، ﴿ وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ (يوسف: 45) ( انظر: يحيى
بن سلام، التصاريف، ط تونس 1979م)
([106]) رواه الطبراني وأبو يعلى ورواته رواة الصحيح إلا مبارك بن فضالة ورواه ابن
حبان في صحيحه والحاكم إلا أنهما قالا (كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه)، وقال
الحاكم صحيح الإسناد.
([116]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه :(لا يبلغ العبد
حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه)
([120]) هنا نرد على شبهة مشابهة الزكاة للضريبة، وقد لخصنا الرد من فصل
كتبه القرضاوي في هذا الموضوع في كتابه (فقه الزكاة)
([121]) نص الآية التي تنص على
مصارف الزكاة :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)﴾ (التوبة)
([123]) اختلف المفكرون في الأساس القانوني لفرض الضرائب على الناس على مجموعة نظريات،
منها:
النظرية التعاقدية: وهي تنص على أن الضريبة
تقوم على أساس علاقة تعاقدية بين الدولة والفرد، فالضريبة تدفع مقابل النفع الذي
يعود على الممول من رعاية الدولة للمرافق العامة، بموجب عقد ضمني مبرم بين الدولة
والمواطنين - وهذه الفكرة هي تطبيق لنظرية (العقد الاجتماعي) التي قال بها (جان
جاك روسو) في بيان أساس الدولة.
وقد ذهب أنصار
النظرية التعاقدية في تكييف طبيعة العقد المبرم بين الدولة ودافع الضريبة مذاهب
شتى:
فقال ميرابو: إن
الضريبة ثمن عاجل يشتري به الفرد حماية الجماعة، ومعنى هذا: أن المبرم عقد بيع.
وقال آدم سميث: إن
هذا العقد هو عقد إيجار أعمال، فالدولة تقوم بأداء خدمات للمواطنين، ويقوم
المواطنون بدفع الضريبة لها كأجر لهذه الأعمال.
وقال مونتسكيو
وهوبز: إن العقد تأمين، فالضريبة هي قسط التأمين الذي يدفعه الممول من ماله
للتأمين على الجزء الباقي.
غير أن الناقدين
بيَّنوا أن هذا التصوير خاطئ من أساسه، فمن غير الممكن تحقيق التعادل بين الضريبة
التي يدفعها الممول وبين ما يعود عليه من نفع من خدمات الدولة لأنه لا يمكن تقدير
نسبة المنفعة التي تعود على كل مواطن على حدة من النفقات العامة، كالمحافظة على
الأمن، أو تنظيم القضاء، أو نشر التعليم، أو الدفاع الوطني، فضلاً عن أنه لو أمكن
تقدير هذه المنفعة، فإن هذه النظرية تؤدي إلى نتائج ظالمة، فالطبقات الفقيرة أكثر
احتياجًا إلي خدمات الدولة من الطبقات الغنية، وتطبيقًا لنظرية البدل أو الإيجار،
يجب أن يتحملوا العبء الأكبر للضريبة.
كما أن نظرية
(التأمين) معيبة من ناحيتين: الأولى أنها تقصر وظيفة الدولة على المحافظة على
الأمن، وهو ما يخالف الواقع، والناحية الثانية: أن عقد التأمين يلقى على عاتق
المؤمن عبء تعويض الخسائر في حين أن الدولة لا تلتزم بتعويض الأفراد عما يلحقهم من
ضرر.
نظرية سيادة الدولة: وتقوم هذه النظرية على أساس
أن الدولة تؤدي وظيفتها بقصد إشباع الحاجات الجماعية، ولا تضع نصب عينيها تحقيق
مصالح الأفراد الخاصة، بقدر تغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، والمحافظة
على التضامن القومي بين الأجيال الحاضرة والمستقبلة - ولما كان أداء هذه الوظائف
يستلزم الإنفاق كان للدولة الحق في أن تلزم المستظلين بسمائها -بما لها من حق
السيادة- أن يتضافروا جميعًا في النهوض بعبء هذا الإنفاق، وتقوم بتوزيع هذا العبء
عليهم، بحسب درجة يسار كل منهم، طبقا لما يقضي به مبدأ (التضامن الاجتماعي) الذي
تقوم عليه الجماعات السياسية الحديثة (انظر: كتاب (ميزانية الدولة) للدكتور محمد
حلمي مراد ص 73)
([129]) غير أن الشافعية والحنابلة قصروه على من جامع في رمضان عامدا ، دون من أفطر
فيه بغير الجماع .. واختلف الفقهاء في رتبته تقديما وتأخيرا: فقال الحنفية
والشافعية والحنابلة بتأخيره عن الإعتاق والصيام ، وقال المالكية بالتخيير بين
الأنواع الثلاثة : الإعتاق والصيام والإطعام.
([130]) وهم الحنفية والشافعية والحنابلة - وهو المرجوح عند المالكية - فالمشهور عند
المالكية أنه لا فدية عليه.
([131]) روي ذلك عن عمر، وعليّ، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن
عليّ، وفاطمة بنت قيس من الصحابة ، وصح ذلك عن الشعبي ومجاهد وطاوس وعطاء وغيرهم
من التابعين ، وهو قول ابن حزم ، وهو أبلغ من قام بنصره وعضده بالأدلة الكثيرة ـ
كما سنرى ـ
([132]) المحلي لابن حزم: 6/159
وقد علق الشيخ أحمد شاكر على رأي ابن حزم هذا بقوله :«من هذا ومن أمثاله في
الشريعة الإسلامية، يرى المنصف، أن التشريع الإسلامي في الذروة العليا من الحكمة
والعدل، وليت إخواننا الذين غرتهم القوانين الوضعية، وأشربتها نفوسهم يطلعون على
هذه الدقائق ويتفقهونها، ليروا أن دينهم جاءهم بأعلى أنواع التشريع في الأرض،
تشريع يشبع القلب والروح، ويطبق في كل زمان ومكان، إن هو إلا وحي يوحى، ولو فقه
المسلمون أحكام دينهم، ورجعوا إلى استنباطها من المنبع الصافي والمورد العذب
الكتاب والسنَّة وعملوا بما يأمرهم به ربهم في خاصة أنفسهم، وفي أمورهم العامة،
وفي أحوال اجتماعهم لو عملوا هذا، لكانوا
سادة الأمم، وهل قامت وهل قامت الثورات الخربة الهادمة والفتن المهلكة، إلا من ظلم
الغنى للفقير، ومن استئثاره بخير الدنيا، وبجواره أخوه يموت جوعًا وعريًا؟!،
والمثل على ذلك كثيرة؛ ولو فقه الأغنياء، لعلموا أن أول ما يحفظ عليهم أموالهم،
إسداء المعروف للفقراء، بل القيام نحوهم بما أوجبه الله على الأغنياء، فليفقهوا
وليعلموا فقد جاءتهم النذر؛ هدانا الله جميعًا". إنها صيحة حق أطلقها
الشيخ كما أطلقها غيره منذ أربعين عامًا،
ولم تجد آذانًا واعية، فكان ما كان)
([157]) رجعنا في هذا المطلب لكتاب (الأوقاف وأثرها الاجتماعي في المجتمع المسلم)،
لعبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان، وغيره، والكتب في هذا الباب كثيرة ـ بحمد
الله ـ وقد أشرنا إلى هذا الموضوع في مناسبات مختلفة في هذه السلسلة.
([160]) عرف الوقف تعاريف
مختلفة منها:
ـ حبس العين على حكم
ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب.
ـ حبس العين على حكم
ملك الواقف والتصدق بالمنفعة ولو في الجملة.
ـ ما أعطيت منفعته مدة
وجوده .
ـ حبس مال يمكن
الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود.
ـ تحبيس مالك مطلق
التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته يصرف ريعه إلى جهة
بر تقربا إلى الله تعالى.
([168]) نظام الوقف باعتباره نظاماً خيرياً موجود منذ القدم بصور شتى، لكن نظام الوقف
في الإسلام بشكله الحالي يبقى خصوصية إسلامية لا يمكن مقارنته بصور البر في
الحضارات أو الشعوب الأخرى، وذلك لما يلي:
ـ التعلق الشعبي به وامتداد رواقه ومظلته إلى
أمور تشف عن حس إنساني رفيع.
ـ لم يحض الوقف
لدى الحضارات الأخرى بالاجتهاد التشريعي التفصيلي على وجه يصون عين الوقف ويحفظ
كيانها كما هو في الإسلام.
ـ عدم اقتصار
الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم
أوجه الخير في المجتمع.
ـ شمول منافع
الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة، فيجوز أن يقف المسلم على الذمي لما روي
أن صفية بنت حيي ـ رضي اللَّه عنها ـ زوج رسول اللَّه r وقفت على أخ لها يهودي.
(انظر: برهان
زريق، نظام الوقف خصوصية إسلامية، مجلة الفيصل، عدد 162، ذي الحجة، 1410هـ، ص14،
بالإضافة للمصدر السابق)
([169]) حيث أنه r بعمله هو الذي سن سنة الوقف ففي
الحديث أن مخيريق ترك سبعة حوائط بالمدينة وأوصى إن هو قتل يوم أحد أنها لمحمد r يضعها حيث أراه اللَّه تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على
يهوديته فقال النبي r :( مخيريق خير يهود)، وقبض النبي r تلك الحوائط السبعة وجعلها أوقافاً بالمدينة للَّه
وكانت أول وقف بالمدينة.