الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: عدالة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

ثامنا ـ التنوع

1 ـ التنوع الفطري

2 ـ التنوع الكسبي

ثامنا ـ التنوع

في اليوم الثامن، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (عمر المختار) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.

بمجرد أن فتحت أبواب الزنازن أسرع المساجين إلى ساحة السجن حيث سبقهم عمر المختار .. والبسمة على شفتيه .. والسرور باد على وجهه.

لقد تذكرت بمرآه صورة سميه المجاهد البطل (عمر المختار) ..

تذكرت تلك اللحظات المريرة التي تم فيها أسره .. بل تلك اللحظة التي أظهر فيها من الثبات في الاستجواب ما كان أظهره على أرض المعركة ..

لقد تذكرت حديثه مع غراسياني ـ القائد الإيطالي ـ عندما سأله قائلا: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟ .. فأجابه عمر: من أجل ديني ووطني.. فسأله غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟ .. فأجاب عمر: لا شيء إلا طردكم .. لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله.. فسأله غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟.. فأجاب عمر: لا يمكنني أن أعمل أي شيء … وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح..

***

بعد أن التفت جموع المساجين بعمر نظر إليهم نظرة ملؤها الحنان، وقال: لقد حدثكم صاحبي عن المساواة .. وأنا لا أجد إلا أن أحدثكم عن التنوع .. فلا يمكن لشريعة أن تحفظ العدل وهي لا تحترم التنوع الذي أودعه الله في خلقه.

لقد عبر رسول الله r عن هذا الركن من أركان العدالة، فقال :( أنزلوا الناس منازلهم)[2]

وعبر عنه، فقال:(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) [3]

وروي في تطبيق هذا أن رسول الله r دخل بيتا من بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى امتلأ المجلس ، فجاء جرير بن عبد الله البجلي ، فلم يجد مكانا فقعد على الباب فلف رسول الله r رداءه وقدمه إليه ليجلس عليه ، وقال له:( اجلس على هذا)، فأخذ جرير الرداء ، ووضعه على وجهه ، وجعل يقبله ويبكي ، متأثرا من إكرام النبي r له ، ثم لفه ورده إلى النبي r شاكرا مقدرا ، وقال : ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني ، فنظر المصطفى r يمينا وشمالا ثم قال : (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)[4]  

وعبر عنه عندما أمر بالتجاوز عن عثرات أهل الفضل وذوي الهيئات، وتَقبُّل أعذارهم للحفاظ على منزلتهم وشأنهم إلا في حدود الله عز وجل وحقوق الناس، فقال :( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)[5]

وروي في تطبيقه وصيته r بالأنصار الذين حازوا الخير والفضل كله بإيوائهم رسول الله r ونصرته، وحبه، وحب كل من هاجر إليهم ومؤاثرته على أنفسهم.. لقد أوصى بهم رسول الله r قائلا: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم)[6]

قال رجل منا: أنت ـ بكلامك هذا ـ تنسف كل ما أراد صاحبك الذي حدثنا عن المساواة أن يقنعنا به؟

قال عمر: لا ـ يا أخي ـ كلامي يكمل كلامه ولا ينسفه .. لقد خشيت أن تفهموا من المساواة ما فهمها الشيوعيون، فتنحرفوا عما تتطلبه الفطرة السليمة من ضرورة التنوع والاختلاف ..

قال الرجل: وما فعل الشيوعيون؟

قال عمر: لقد تصوروا أن أي تمييز بين البشر ـ مهما دفعت إليه الضرورة والفطرة ـ نوعا من أنواع الطبقية .. وتصوروا أن محو هذا النوع من الطبقية من شأنه أن يضع حداً فاصلاً لما ذخر به تاريخ البشرية من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الشيوعية، وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد - حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد.

قال الرجل: هذا جيد.

قال عمر: هو جيد من حيث عالم المثل .. لا من حيث الواقع .. والحياة لا تقوم إلا على الواقع الذي تدعو إليه الفطرة السليمة.. أما المثل المجردة فإنها سرعان ما تصطدم بصخرة الواقع.

قال الرجل: ومع ذلك يظل ما قاله الشيوعيون سليما، ولم يوجد من دعا إلى هذه المثل كدعوتهم.

قال عمر: ليس الشأن في الدعوة للمثل .. ولكن الشأن في أن نعيش المثل.. فهل طبق الشيوعيون ما دعوا إليه؟

سكت الرجل، فقال عمر: لقد أثبت التطبيق العملي[7] في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر، كان ذلك التركيب هو (الجهاز الحزبي والسياسي).

لقد كان هذا التركيب يتمتع بالإمكانيات والصلاحيات التي تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ.. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة، كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.

ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.

وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه.

قال الرجل: صدقت في هذا .. لقد قدر الله لي أن أعيش في البلاد التي كانت تحمل راية الشيوعية .. وقد رأيت بعيني كيف أن الحكومة الشيوعية نفسها كيف بدأت تتراجع عن مبادئها .. ففي المرحلة الثانية من عهد ستالين كان النظام في حاجة إلى زيادة الإنتاج ، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال ـ بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى ـ أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافي يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشتري أنواعاً من الطعام أفخر ، أو كميات أكبر ، وأنواعاً من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية .

ثم رأيت كيف أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردي والالتجاء إليه، ولو كانت ترى ـ أو تعتقد في دخيلة نفسها ـ أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردي لفعلت ، خاصة وهي تملك الحديد والنار وتستخدمهما ـ بإسراف ـ في جميع المجالات ، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردي ـ أيا تكن مبرراته التي تلقى أمام الناس ـ هو تراجع عن أصل من أصول النظرية ، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئاً فطرياً وأن الأصل في الناس هو الملكية الجماعية!

قال عمر: ولهذا، فإن الإسلام اعترف بالتنوع، وتعاملت تشريعاته مع البشر على أساسه، فلا يمكن أن يقوم العدل من غير مراعاة للفوارق التي فرق الله بها بين عباده.

قال الرجل: ولكن هذا التعامل سيوقع الإسلام لا محالة في مأزق لا فكاك له منه.

قال عمر: وما هو؟

قال الرجل: إن هذا سيجعله يتبنى كل ما تبناه العنصريون .. فهم لم يقولوا بما يقولون به إلا انطلاقا من رؤية ما جعل في العباد من أنواع الفوارق.

قال عمر: لا .. لقد ميز الإسلام بين أنواع التنوع .. وتعامل مع كل نوع بحسبه.

قلنا: فما أنواع التنوع؟ .. وكيف تعامل معها الإسلام؟

قال عمر: هناك نوعان من التنوع .. هناك التنوع الفطري الجبلي الذي جعله الله في عباده من غير اختيار منهم .. وهناك التنوع الذي نشأ بسبب الكسب والاختيار ..  

1 ـ التنوع الفطري

قلنا: فحدثنا عن التنوع الأول .. ما تريد به؟

قال: ألا ترون أن الله خلق لكل شيء خصائصه التي تفرد بها عن غيره؟

قلنا: بلى ..

قال: ألا ترون من العدل أن يعامل كل شيء بما تتطلبه طبيعته من معاملة؟

قلنا: كيف ذلك؟

قال: أنتم تعلمون أن النبات والحيوان كلاهما كائنات حية ..

قلنا: صحيح.

قال: ولكنا مع ذلك .. ومع اعتقادنا لتساويهما في الحياة نتعامل معهما معاملات مختلفة .. ونستفيد منهما بأساليب مختلفة.

قال رجل منا: ذلك صحيح .. بل نحن نعتبر كل صنف من النبات والحيوان صنفا قائما بذاته، فنتعامل معه بحسب ما تتطلبه طبيعته من متطلبات.. فنحن نحرق الشوك في الوقت الذي نضع فيه الورود في أحسن موضع من منازلنا.

قال: فهذا هو التنوع الفطري.

قال الرجل: إن ما تقوله هو نفس ما يدعيه أصحاب التمييز العنصري .. إنهم يعتقدون أن من البشر أزهارا ينبغي وضعها فوق الرؤوس، وأن منهم أشواكا ينبغي أن تداس بالأقدام.

قال: لا .. الإسلام لا يقول بهذا .. ولا يقول بالتفريق بين الخلق .. فهم كلهم عباد الله متساوون في عبوديتهم لله.. ولكنه ـ مع هذا الاعتقاد ـ يتعامل مع كل صنف منهم بحسب ما وهب له من القوى والطاقات .. فالله لا يكلف النفوس إلا ما تسع وتطيق ..

انظر مثلا إلى القرآن الكريم كيف اعتبر أصحاب العاهات كغيرهم من الناس .. فـ ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)﴾ (النور)

وهم في وجوب إبلاغ الدعوة لهم ـ كسائر الناس .. قال تعالى :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)﴾ (عبس)

ولكنهم ـ مع هذا ـ رفع عنهم القلم فيما لا يطيقون من التكاليف .. قال تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)﴾ (التوبة)، وقال تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)﴾ (الفتح)

ومع هذا .. فإن الله برحمته يكتب لهم من الأجر والجزاء ما يكتبه للأصحاء .. وقد ورد في الحديث عن  جابر بن عبد الله ، قال : كنا مع النبي r في غزاة ، فقال:( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا ، إلا كانوا معكم حبسهم المرض)، وفي رواية:(إلا شركوكم في الأجر)[8]

وعن أنس، قال : رجعنا من غزوة تبوك مع النبي r، فقال:( إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا ، إلا وهم معنا ؛ حبسهم العذر)[9] 

وأخبر r أن الله يكتب للمعذور أجر عمله وهو في حياته العادية، فقال :( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)[10]

ويقاس على هذا كل ما ورد في النصوص من أنواع المفاضلات .. فهي في الحقيقة مفاضلات تكليف لا مفاضلات جزاء ..

سأضرب لكم في هذا مثالا مهما .. كثيرا ما اتخذه الشياطين وسيلة لإثارة الشبهات والفتن ..

إنه في معاملة الإسلام للمرأة .. لاشك أن الشبهات المثارة في هذا الباب تعرفونها وتحفظوها[11] .

قال رجل منا: أجل .. فقد فرق الإسلام بين الرجل والمرأة في نواح كثيرة .. وهي بالنسبة لنا مواضع شبهة.

قال آخر: لقد أعطى الإسلام المرأة نصف ما أعطى الرجل في الميراث..

قال آخر: ليس ذلك فقط .. بل لم يعتبر شهادتها كشهادة الرجل في كثير من المحال..

قال آخر: بل منعها من كثير من الوظائف التي أتاحها للرجال.

قال عمر: رويدكم .. أنا أعرف هذه الشبه، وأعرف من يثيرها .. إنهم قوم لا قيمة عندهم للمرأة ولا كرامة .. فهم يهينونها كل أصناف الإهانات .. ثم يستخدمونها بعد ذلك حربا على الدين الوحيد الذي حفظ لها كرامتها وعزتها وحقوقها.

قلنا: دعنا من الحديث العام .. وحدثنا عن الأدلة.. فلا تقبل الدعاوى من غير أدلتها.

قال: ليس لي الوقت الكافي لأحدثكم عن تفاصيل فضل الله على النساء .. ولكني سأبين لكم أسرار التفريق بين الرجل والمرأة في المواضع التي ذكرتم ..

سأضرب لكم ـ مثلا على ذلك ـ يقرب لكم المسألة ..

ففي الميراث تأخذ الأم في العادة نصف نصيب الأب .. قد تتصورون أن الذكر بذلك أفضل من الأنثى .. وأن الأمر برعاية الأب أكثر من الأمر برعاية الأب ..

هذا خطأ .. فقد ورد في النصوص الحث على بر الأم أكثر من بر الأب .. ففي الحديث أن رجلا جاء إلى رسول الله r ، فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك . قال: ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك[12].

انظروا كيف اعتبر رسول الله r بر الأم مقدما على بر الأب ..

قلنا: ما دام الأمر كذلك .. فلم أنقص نصيبها في الميراث؟

قال: لأن الميراث مرتبط بالنواحي المالية .. والعدالة تقتضي أن تصرف الأموال لمن يحتاج إليها .. وبما أن الأب أحوج إلى المال من الأم، فقد أعطي أكثر منها في بعض الأحوال .. لأن نفقتها واجبة عليه.

ومع ذلك، فإن هذا ليس عاما، فالميت إذا ترك أولاداً وأباً وأماً .. فإن أبويه يرث كل واحد منهما سدس التركة‏،‏ دون تفريق بين ذكورة الأب وأنوثة الأم‏،‏ كما قال تعالى :﴿ ‏وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ .. (11)﴾ (النساء)

وسر ذلك أن الأب في هذه الحالة عادة يكون كبير السن، ويكون له من الأولاد والأحفاد من ينفق عليه، فاستوى هو والأم في الميراث بسبب ذلك.

قال رجل منا: فما تقول فيما ورد في القرآن من أن :﴿ .. ‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ .. (11)﴾ (النساء)‏؟

قال عمر: هو نفس ما قلت في الأم[13] ..  فعلى الذكر من الأعباء ما ليس على الأنثى.. والعدالة تقتضي أن يعطى من تقع عليه الأعباء ..

فعلى الرجل في بداية حياته الزوجية أن يدفع المهر لزوجته، قال تعالى :﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..(4)﴾ (النساء)

وعلى الرجل بعد الزواج أن ينفق على المرأة، وإن كانت تمتلك من الأموال ما لا يمتلكه هو ، فليس من حقه أن يطالبها بالنفقة على نفسها فضلاً عن أن يطالبها بالنفقة عليه ؛ لأن الإسلام ميزها وحفظ مالها ، ولم يوجب عليها أن تنفق منه .

والرجل ـ فوق هذا ـ مكلف بالنفقة على الأقرباء وغيرهم ممن تجب عليه نفقتهم ، حيث يقوم بالأعباء العائلية والإلتزامات الإجتماعية التى يقوم بها المورث باعتباره جزءاً منه ، أو امتداداً له ، أو عاصباً من عصبته . 

وهذه الأسباب وغيرها تجعلنا ننظر إلى المال أو الثروة نظرة أكثر موضوعية ، وهى أن الثروة أو المال أو الملك مفهوم أعم من مفهوم الدخل .. فالدخل هو المال الوارد إلى الثروة ، وليس هو نفس الثروة ؛ حيث تمثل الثروة المقدار المتبقى من الواردات والنفقات .. وبهذا الإعتبار نجد أن الإسلام أعطى المرأة فى بعض الحالات نصف الرجل فى الدخل الوارد ، وكفل لها الاحتفاظ بهذا الدخل دون أن ينقص سوى من حق الله كالزكاة ، أما الرجل فأعطاه الله الدخل الأكبر وطلب منه أن ينفق على زوجته وأبنائه ووالديه إن كبرا فى السن ، ومن تلزمه نفقتهم من قريب وخادم وما استحدث فى عصرنا هذا من الإيجارات والفواتير المختلفة ؛ مما يجعلنا نجزم أن الله فضل المرأة على الرجل فى الثروة ؛ حيث كفل لها حفظ مالها ، ولم يطالبها بأى شكل من أشكال النفقات.

ولذلك حينما تتخلف قضية العبء المالى كما هو الحال فى توريث الإخوة والأخوات لأم ؛ نجد أن الشارع الحكيم قد سوى بين نصيب الذكر والأنثى فى الميراث ، قال تعالى :﴿ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ .. (12) ﴾ (النساء).. فالتسوية هنا بين الذكور والإناث فى الميراث سببها أصل توريثهم هنا هو الرحم ، وليسوا عصبة لمورثهم حتى يكونوا امتدادا له من دون المرأة ، فليست هناك مسئوليات أو أعباء تقع على كاهله بهذا الإعتبار.

وباستقراء حالات ومسائل الميراث انكشف للعلماء والباحثين حقائق قد تذهل الكثيرين .. فهناك أربع حالات فقط ترث المرأة نصف الرجل[14] .. وهناك أضعاف هذه الحالات ترث المرأة مثل الرجل[15] .. وهناك حالات كثيرة جدا ترث المرأة أكثر الرجل [16] .. وهناك حالات ترث المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال[17].

قال رجل منا: وعينا هذا .. ولكن ما تقول فيما ورد في القرآن من أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل.. وما ورد تعليلا له في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رسول الله r في أضحى أو فِطْر إلى المصلى، فمرّ على النساء ، فقال: (يا معشر النساء ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟)، قلن: بلى.. قال: (فذلك من نقصان عقلها.. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم ؟)، قلن: بلى.. قال: (فذلك من نقصان دينها)[18] 

ابتسم عمر، وقال: أرايتم لو أن طبيبا ذكر القدرات الجسمية للرجل والمرأة .. فذكر من بينها قوة عضلات الرجل مقارنة بقوة عضلات المرأة .. وأنه لذلك يمكنه أن يتحمل من الجهد البدني ما لا تتحمله المرأة .. هل تراكم توافقونه على ذلك، وترونه ناصحا .. أم أنكم تؤلبون عليه الخصومة، وتعتبرونه محتقرا للمرأة؟

قلنا: بل نراه ناصحا .. فهذه حقيقة نراها بأم أعيننا.

قال: ومع ذلك يمكنكم أن تقولوا بأن من النساء من يفوق الرجال قوة.

قلنا: ذلك صحيح .. ولكنه في حكم الشاذ .. والشاذ لا يقاس عليه.

قال: فهكذا تحدث رسول الله r .. فقد أخبر عن حقيقة علمية واقعية غالبة.. وبنى عليها حكما .. فلا ينبغي الرد عليه بمن شذ من النساء فقوي، أو من شذ من الرجل، فضعف.

قال رجل منا: أما إن قلت ذلك .. فقد كنت في يوم من الأيام مع طبيب ملحد .. وقد سمعنا قارئا يقرأ قوله تعالى :﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ (البقرة :282) .. وقد تعجبت إذ رأيت الطبيب ينصرف بكليته إلى الآية .. ثم يسأل عنها .. ثم سرعان ما يعلن إسلامه.

وعندما سألته عن سر هذا التغير المفاجئ أخبرني بأنه ـ بعد بحوث طويلة ـ اكتشف هذه الحقيقة [19] .. 

قال عمر: بالإضافة إلى هذا .. فإن الحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة .. وهي حقيقة لا شك فيها.. فالمرأة تغلب العاطفة على العقلانية، وذلك على عكس الرجل ، الذي تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفى هذا التمايز رحمة إلهية ، وحكمة بالغة ، ليكون عطاء المرأة في ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.

فنقص العقل الذي أشار إليه الحديث الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به ، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك أخبر r أن النساء يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون :( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)

قال الرجل: وما تقول في (نقص الدين) الذي ذكره الحديث؟

قال عمر: هو الآخر وصف الواقع غير المذموم ، بل إنه الواقع المحمود والممدوح .. فعندما سألت النسوة رسول الله r عن المقصود من نقصهن في الدين ، تحدث عن اختصاصهن برخص في العبادات تزيد على الرخص التي يشاركن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال في كل الرخص التي رخّص فيها الشارع من إفطار الصائم في المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها في السفر.. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات.. ثم يزدن عن الرجال في رخص خاصة بهن من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيَّض و النفساء.. وإفطار المرضعة ، عند الحاجة ، في شهر رمضان..

وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تـُؤتـَى رخصه كما يحب أن تـُؤتـَى عزائمه ، فإن التزام النساء بهذه  الرخص  الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود ، وفيه لهن الأجر والثواب [20] ..

قال الرجل: فما تقول فيما قاله محمد من أن (المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها على عوج)[21]

قال عمر: أقول فيه ما قال الشوكاني .. فقد قال تعليقا على هذا الحديث :( الحديث فيه الإرشاد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة)[22]

قال الرجل: ما يعني الشوكاني بقوله هذا؟

قال عمر: في هذا الحديث يخبر رسول الله r الرجال عن طبيعة النساء حتى لا يخطئوا في التعامل معهن[23] .. فمن من أكبر أسباب المشاكل العائلية تعامل الرجل مع المرأة وكأنها رجل ، وتعامل المرأة مع الرجل بهذا المنظار، مع أن لكل منهما أسلوب تفكيره الخاص الذي قد يتناقض مع أسلوب الآخر، تناقضا تحتاج إليه الحياة لاستمرارها، كما تحتاج الذرة إلى الجمع بين تناقضات إلكتروناتها وبروتوناتها.

قال الرجل: أنت تقصد أن هذا الحديث لا يحمل أي ذم للمرأة؟

قال عمر: أجل .. بل هو كقول القائل : إن القوس منحني الشكل، فليس في ذلك أي ذم للقوس، بل هو وصف له، ودليل على جماله، ولو وصف بالاستقامة لكان وصفا لغير القوس.

فكذلك المرأة تقتضي منها طبيعتها ، وفطرتها الأنثوية والعاطفة التي جبلت عليها أن تميل معها حيث تميل، فلذلك أرشد الرجل لأن يميل لميلها مراعيا طبيعتها، كمن يسير في منعرجات ومنحنيات يحتاج إلى السير كما تقتضي تلك المنحنيات والمنعرجات، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

هي الضلع العوجاء لست تقيمها     ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

تجمع ضعفا واقتدارا على الفـتى      أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

وقد رأيت من خلال الواقع والتجربة أن لهذه المعرفة دورا كبيرا في حل الكثير من الخلافات الزوجية، بل في الوقاية من وقوعها.. وقد ورد في الآثار ما يدل على استخدام هذه المعرفة في هذا السبيل، فقد قدم جرير بن عبد الله على عمر فشكا إليه ما يلقى من النساء من سوء أخلاقهن , قال فقال عمر : إني ألقى مثل ما تلقى منهن , إني لآتي الناس أشتري منهم الدابة أو الثوب فتقول المرأة : إنما انطلق ينظر إلى فتاتهم أو يخطب إليهم, فقال عبد الله بن مسعود: أو ما تعلم أن شكا إبراهيم من سوء في خلق سارة فأوحى الله إليه: (إنما هي من ضلع فخذ الضلع فأقمه فإن استقام وإلا فالبسها على ما فيها)، وفي رواية: (فأوحى  الله إليه إنما هي من ضلع، فارفق بها أما ترضى أن تكون نصيبك من المكروه)[24]

قال الرجل: فما تقول فيما ورد في الحديث :( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[25]

قال عمر: أتدري المراد بالأمر هنا[26]؟

قال الرجل: هو عام .. ويقصد به كل أمر.

قال عمر: لا .. بل يقصد به أمورا خاصة بدليل أن الشريعة أتاحت للمرأة أمورا كثيرة أجازت أن تكون ولية فيها.. فالمسلمون مجمعون على أن الإسلام قد سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة ، وولاية وسلطاناً على أموالها مثلها في ذلك مثل الرجل سواء بسواء.. والولاية المالية والاقتصادية من أفضل الولايات والسلطات في المجتمعات الإنسانية.

والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية على نفسها ، تؤسس لها حرية وسلطانا في شؤون زواجها، عندما يتقدم إليها الراغبون في الاقتران بها ، وسلطانها في هذا يعلو سلطان وليها ..

ففي الحديث أن فتاة قالت - يعني للنبي صلى الله عليه وسلم -: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاء فجعل الأمر إليها ، فقالت : يا رسول الله ! إني قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلّم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء)[27]

انظروا كيف ارتفع الإسلام بالمرأة حتى أصحبت تعرف حقها ، وتريد أن تُعَرِّف الأخريات عليه . وأصبحت تستطيع أن تشكو إذا هضم حقها ، وتجد من يسمع لها ويعطيها إياه ..

وفي حديث آخر عن ابن عباس، قال: إن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه خلفها يطوف ودموعه تسيل على لحيته ، فقال رسول الله r للعباس : ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فقال لها رسول الله r: لو راجعته ؟ فقالت : يا رسول الله ! تأمرني ؟ قال : لا إنما أشفع قالت : لا حاجة لي فيه[28].

انظر .. حتى رسول الله r .. لم يكن له سلطة على هذه المرأة، فيفرض عليها شيئا يخصها ..

فالأمر إذن لا يراد به هذا ..

ولا يراد به كذلك أي سلطة للمرأة في بيتها .. فللرجل أن يجعل أمر البيت بيد زوجته .. والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية ورعاية وسلطاناً في بيت زوجها ، وفى تربية أبنائها.. فقد قال رسول الله r وهو يفصّل أنواع وميادين الولايات:( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى مسئولة عنهم ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)[29]

ولا يراد به كذلك أي سلطة قد تمارسها المرأة في مجتمعها مما لها القدرة فيه .. فلها أن تكون مديرة أو وزيرة أو أي منصب من مناصب المسؤولية التي يكون لقدراتها مجال فيها.

قال الرجل: فأنت تنفي بقولك هذا معنى الحديث .. أنت تفرغه من محتواه.

قال عمر: لا .. أنا لا أفرغه من محتواه .. بل أحصره في محتواه .. فمن الخطأ أن نحمل كلام رسول الله r ما لا يحتمل .. ومن الجرم أن نضرب الشريعة بالشريعة.

قال الرجل: فما نوع الأمر الذي تنهى المرأة عن توليه؟

قال عمر: لقد ذكرت لك أنه كل أمر لا يتناسب مع طبيعتها.. والنساء يختلفن .. وقد ذكر القرآن من النساء من تولين المناصب الرفيعة، وأثنى عليهن .. لقد تحدث القرآن الكريم عن ملكة سبأ - وهى امرأة - فأثنى عليها وعلى ولايتها للولاية العامة، لأنها كانت تحكم بالمؤسسة الشورية لا بالولاية الفردية .. قال تعالى :﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)﴾ (النمل)

انظروا في الوقت الذي أثنى فيه القرآن على ملكة سبأ ـ وهي امرأة ـ ذم فرعون مصر - وهو رجل ـ لأنه قد انفرد بسلطان الولاية العامة وسلطة صنع القرار، قال تعالى :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾ (غافر)

 قال الرجل: ولكن الفقهاء مع ذلك متفقين على أنه ليس للمرأة أن تتولى الولايات العامة؟

قال عمر: لأن الولايات العامة تستدعي قدرات خاصة لا تتوفر في المرأة .. بل لا تتوفر في كثير من الرجال .. لعل أقلها هو ما جبلت عليه طباع أكثر الناس على عدم الثقة في قدرة النساء على تولي هذا المنصب ..

انظروا ..  فإن الواقع التاريخي منذ أقدم العصور كان ولا يزال متفقاً مع هذا الذي قررته شريعة الإسلام‏..‏ تأملوا في أسماء من نصبوا ملوكاً أو رؤساء لدولهم منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا‏،‏ ستجدون أن النساء اللائي تبوّأن هذا المركز لايزدن على عدد أصابع اليدين‏.‏ ‏.‏وها هي ذي الولايات المتحدة التي تهيب بنساء العالم أن يطالبن بحقوقهن، لم نسمع عن امرأة واحدة تولت الرئاسة فيها‏،‏ منذ فجر ولادتها إلى اليوم‏،‏ بل لم نسمع عن امرأة نجحت في أن تصل إلى الترشح للرئاسة فيها.

قال الرجل: ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا .. فقد رأيت الكثير من الفقهاء يذهب إلى تحريم عمل المرأة خارج بيتها تحريما مطلقا.

قال عمر: بغض النظر عمن قال هذا فإن هناك بعض الحق فيه .. فعمل المرأة المرهق خارج بيتها يضرها ويضر أسرتها أكثر مما ينفعها ..

صاح الرجل: ها قد صرحت أخيرا بما كنت تضمر.

ابتسم عمر، وقال: ما تقول في المرأة التي تترك رضيعها يتلوى جوعا وعطشا، ثم تذهب لتلبس لباس الشرطة وتطارد المجرمين؟ .. أهذا تصرف نبيل في تصورك يتناسب مع طبيعة المرأة؟

قال الرجل: يمكن للمرأة أن تسلم ابنها للحاضنة .. ثم تذهب هي لعملها.

قال عمر: والحاضنة .. كيف تترك عملها وتحضن أولاد الناس؟

قال الرجل: الحضانة هي عملها .. وهي تنال أجرتها عليها من الناس.

قال عمر: فلم هذا الخلط؟ .. لماذا لا تبقى المرأة مع ابنها .. ويكون عملها هو حضانته وتربيته فهي أحن عليه من كل أحد[30]؟

قال الرجل: ولكن المجتمع يشل نصفه بذلك؟

قال عمر: ألا ترى أن المجتمعات المعاصرة تشكو من البطالة؟

قال الرجل: أجل ..

قال عمر: فلم لا يكتفى من أشغال النساء بما يرتبط بهن وبقدراتهن .. ثم تترك سائر الأعمال للرجال .. إن ذلك سيقضي على المحالة على البطالة .. ويوفر للنساء الفرصة للانشغال بما أودعه الله فطرتهن ..

إن البشرية نتيجة الطمع والحرص لم ترض للمرأة ما رضيه الله لها .. فأرادت أن تحول منها لعبة تتسلى بها.. فلذلك حدثتها عن العمل .. ثم سخرتها فيما شاءت لها أهواؤها من أعمال لا تتناسب مع كرامتها وقدراتها[31].

قلنا: نراك خرجت بالحديث عن المرأة عن التنوع؟

قال عمر: لا .. لم أخرج .. هذا نموذج عن تعامل الإسلام مع التنوع الفطري ..

لقد انتشر بين الناس، ولفترة طويلة ما يسمى بالمساواة بين الرجل والمرأة .. وهذا خطأ كبير .. نتج عنه خطر كبير .. فالمرأة التي نريد أن نساويها بالرجل سنقضي على خصائصها وشخصيتها لتتحول بعد ذلك إلى مسخ .. فلا هي رجل .. ولا هي امرأة ..

قال الرجل: أما إن قلت ذلك .. فقد صدقت .. ولم يكن قصدي من سؤالك إلا الوصول إلى هذا .. وقد كنت طبيبا، ورأيت من الفروق بين الرجل والمرأة ما يؤيد ما ذكرت[32].

2 ـ التنوع الكسبي

قلنا: حدثتنا عن التنوع الأول .. فحدثنا عن التنوع الثاني.. ما تريد به؟

قال: التنوع الثاني لا يرتبط بالفطرة .. وإنما يرتبط بالكسب .. والعاقل هو الذي يحترم اختيار الإنسان ما دام هذا الاختيار لا يضر بمصالح الآخرين.

قلنا: ما تعني؟

قال: لقد ورد في الحديث ما يوضح هذا المعنى .. فقد قال رسول الله r :( مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقال الذين في أعلاها: لا ندعهم يصعدون فيؤذونا ، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)[33]

قلنا: فهمنا الحديث لكنا لم نفهم قصدك منه.

قال: في هذا الحديث يخبرنا رسول الله r أن الحياة تقتضي التنوع .. فإن كان في السفينة طبقتين .. فلابد أن يحل بعض الركاب في أسفلها وبعضهم في أعلاها .. فلا يمكن أن يجتمع الجميع في طبقة واحدة..

وهكذا الحياة فلا بد أن يتنوع الناس فيها .. فمن الناس من ينصرف للعلوم .. ومنهم من ينصرف للصناعات .. ومنهم من ينصرف للمكاسب .. وكل ذلك محترم .. ولا حرج فيه .. لقد أشار القرآن إلى هذا، فقال :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)﴾ (الأنعام)

ولكن الحرج في أن يظلم بعضهم بعضا، أو يبغي بعضهم على بعض، أو يتكبر بعضهم على بعض، أو يستغل بعضهم قدراته ليضرب بها غيره ..

قال رجل منا: نعم .. الإسلام احترم التنوع الكسبي المرتبط بالمعايش والأرزاق .. ولكنه لم يحترمه فيما يرتبط بالأفكار والمذاهب والملل والنحل.

ابتسم عمر، وقال: بل لم يوجد في دين الدنيا احترم كل ذلك كما فعل الإسلام .. اسمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر الجهاد في سبيل الله في سبيل حماية المعتقدات المختلفة .. قال تعالى :﴿ .. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج)

قال الرجل: ولكن الإسلام يفرق بين الناس على أساس أديانهم .. ألم تر في القرآن هذه العبارة :﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾ (القلم) .. وهذه العبارة :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾ (ص) .. وهذه العبارة :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ (الجاثية) .. وغيرها من العبارات التي توحي بالتفرقة بين الناس على أساس أفكارهم وسلوكهم؟

قال عمر: صدق الله العظيم .. بل فوق ذلك فإن القرآن الكريم أخبر أن الله تعالى لا يقبل إلا الإسلام، قال تعالى:﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران)

وفي الحديث قال رسول الله r :( تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة فتقول : يا رب، أنا الصلاة. فيقول: إنك على خير .. فتجيء الصدقة فتقول: يا رب، أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير .. ثم يجيء الصيام فيقول: أي يا رب ، أنا الصيام. فيقول: إنك على خير .. ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب، أنت السلام وأنا الإسلام .. فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي)، قال الله في كتابه:﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران)[34]

قال الرجل: فالإسلام لا يحترم التنوع المكتسب إذن؟

قال عمر: فرق بين احترامك لرأي الآخر، وبين تخطئتك له .. فتخظئتك له لا تعني إلا نصيحتك له .. ألا ترى أن الأستاذ عندما يمتحن تلاميذه يسألهم .. ثم يحترمهم في أن يترك لكل واحد منهم الفرصة في أن يجيب الإجابة التي يشاء .. ويحترم نفسه بعد ذلك حينما يضع لكل واحد منهم العلامة التي يستحقها .. أم أنك تريد من الأستاذ أن يسوي بين المخطئ والمصيب .. وبين المجد والهازل؟

قال الرجل: ولكن الأمر مختلف.

قال عمر: لا .. ليس مختلفا .. لقد وضع الله كل وسائل الهداية للخلق .. وأعطاهم من العقول ما يعون به الحقائق.. ثم ترك لهم الفرصة في الكسب الذي يبغونه .. وبعد ذلك أخبر أنه سيحاسبهم على أساس ذلك الكسب.

قال الرجل: ولكن ذلك سيلغي التنوع الفكري والديني؟

قال عمر: كل هدف الإسلام أن يرى البشر جميعا الحقائق بأعينهم ليؤمنوا بها .. ويدخلوا في دين الله أفواجا.

قال الرجل: فالإسلام يلغي التنوع إذن .. ولا يقر به.

قال عمر: التنوع الذي يريده الإسلام هو التنوع الصحيح .. لا التنوع الزائف .. هل ترى الأستاذ النصوح يود أن يكون في تلاميذه المقصر والجاهل بحجة احترام التنوع في تلاميذه.

قال الرجل: لا ..

قال عمر: فما التنوع الذي يريده الأستاذ من تلاميذه؟

قال الرجل: هو تنوع المواهب والتخصصات والقدرات.

قال عمر: فهذا هو التنوع الإيجابي الذي يريده الإسلام من البشر .. لكن التنوع الآخر لا يرضاه ..

قال الرجل: تقصد أن المسلم يضيق بالآخر.

قال عمر: المسلم النصوح يحزن للآخر .. ويأسف له .. ويتمنى من كل قلبه أن يعرض عن جهله ليقبل على الله بكليته.. لقد كان هذا حال رسول الله r وحال ورثته .. لقد ذكر الله ذلك، فقال :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)﴾ (الكهف)، وقال :﴿ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ (فاطر:8)، وقال :﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ (النحل:127)، وقال :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (الشعراء:3)

قال الرجل: ألا ترى أن هذا الحزن والضيق يلجئه إلى استعمال العنف في سبيل إلجاء الآخر إلى الإسلام؟

قال عمر: لا يمكن أن يدخل الناس الإسلام بالعنف .. فالإسلام حب .. والحب لا يفرض بالعنف .. ومن يفعل ذلك يخرج الناس من الإسلام، ولا يدخلهم فيه ..

لقد حصل في عهد رسول الله r أنه كان في بني النضير ـ وهم من اليهود ـ أناس من أبناء الأنصار قد تهوّدُوا[35] بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود، فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم فأنزل الله عزوجل :﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾ (البقرة)

قال الرجل: فهل احترم المسلمون هذا؟

قال عمر: أجلهم .. وما كان لهم إلا أن يحترموا .. والتاريخ أكبر شاهد على ذلك[36] ..

إن التاريخ يشهد أن الإسلام من بدايته الأولى .. أي من  عصر الرسالة .. قدم لأهل الذمة، يهوداً ونصارى، موقفاً منفتحاً رسمت من خلاله تقاليد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ووُضعت أصولها ونُظّمت صيغها.. وعندما مضت حركة التاريخ صوب العصور التالية مضت معها هذه التقاليد والأصول والصيغ تعمل في مجرى العلاقات الاجتماعية، وما حدث بين الحين والحين من خروج عليها , فإنه لم يتجاوز أن يكون شذوذاً على القاعدة ازدادت تأكيداً بمرور الأيام.

انظروا - مثلا - إلى العهد الذي كتبه الرسول r في أعقاب غزوة تبوك عام 9 هـ لنصارى نجران، ذلك العهد الذي يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، والذي لم يفرض عليهم فيه سوى جزية عينية متواضعة .. لقد جاء فيه: (ولنجران وحاشيتهم جوار الله .. ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين .. ولا يُؤاخذ أحد منهم بظلم آخر.. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي r أبداً، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم)[37] .. وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح[38].

ومن العهود التي كتبها r لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة ، بعد غزوة خيبر ( 7 هـ ) والسنين التي تلتها؛ عهده إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة .. وقد جاء فيه: (أما بعد، فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم وصادت عروككم (مراكبكم) واغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله r أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله..)

وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا): (.. إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء)

كما كتب لبني عريض كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم.

وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود: (إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليه من المسلمين)[39]

وبذلك تمكن الرسول r من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها.

ولقد ظل اليهود ـ والنصارى بطبيعة الحال ـ كمواطنين وليسوا كتلاً سياسية أو عسكرية ـ يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية لا يمسسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم إلى المدينة، بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام , وفي مغازي الواقدي.

وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول r كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنه أوصى عامله معاذ بن جبل بـ (أن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم)، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين؛ إذ لم يُكلّفوا إلا بدفع الجزية، وبقوا متمسكين بدين آبائهم.

بعد وفاة النبي r .. استمر الخلفاء الراشدون على هذا المنهج .. فقد شهد المجتمع الإسلامي في عهدهم تنفيذاً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاً عما شهده عصر الرسالة , فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى.

لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم جناحيه على أعداد كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات.

لقد ذكر السير (توماس أرنولد) – وهو غير مسلم كما تعرفون ـ شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: (الدعوة إلى الإسلام The Preaching to Islam) والذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.

يقول في كتابه هذا :(.. لما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: (فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا)

ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين- نتيجة لما حدث- أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم , فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليه ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: (إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم)، وبذلك رُدّت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم ـ أي على الروم ـ فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا)[40]

وقال :( يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية, وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين.. وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة، ويضطهدونها تارة أخرى؛ إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مرّوا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم، بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين.

ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي.

وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار.

وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي، فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمين؛ إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً.

وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما)، وهو أسقف نسطوري، قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.

ويُقال: إن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين، قد ذُبحوا في هذا الاضطهاد. وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس، وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين.

ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس.. مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها)[41]

(ومما يدل على أن تحوّل المسيحيين إلى الإسلام ـ في مصر ـ لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، ما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية، وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسُمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلّصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أُعفي الرهبان من دفع الجزية , ومُنحوا امتيازات معينة)[42] 

هذه أمثلة بسيطة عن الشهادات التي ذكرها توماس أرنولد .. وهي شهادة تدعمها كل الوثائق التاريخية.

قارنوا هذه النماذج المشرفة بما يفعله المتسلطون المستبدون ..

قال غوستاف لوبون: (لقد أُكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي.. وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن , وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر، التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام، تحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين)[43] 

وقال الندوي: (ثارت حول الديانة النصرانية , وفي صميمها مجادلات كلامية شغلت فكر الأمة واستهلكت ذكاءها , وتحولت في كثير من الأحيان إلى حروب دامية، وقتل وتدمير وتعذيب ، وإغارة وانتهاب واغتيال، وحوّلت المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات دينية تتنافس، وأقحمت البلاد في حرب أهلية، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية، وبين نصارى مصر، أو بين الملكانية والمنوفيسية بلفظ أصح.

وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع حتى صار كأنه حرب بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء.. وشهدت مصر من الفظائع ما تقشعر منه الجلود، فرجال كانوا يُعذّبون ثم يُقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض، ويُوضع السجين في كيس مملوء من الرمال ويُرمى به في البحر، إلى غير ذلك من الفظائع)[44]

وحدث بين اليهود والنصارى ما هو أشد هولاً، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610م) على سبيل المثال، أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده أبنوسوس ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً، قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ورمياً للوحوش الكاسرة.

وحدث ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة , وهذه واحدة من نماذج التعامل بين الطرفين يوردها المؤرخ المصري المقريزي، قال: (في أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى أجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من كل مكان , فنالوا من النصارى كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم , وأسروا بطريك القدس وكثيراً من أصحابه...

وكان هرقل قد ملك الروم، وغلب الفرس، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر , ويجدد ما خربه الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان، فوجد المدينة وكنائسها خراباً، فساءه ذلك، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وأنهم كانوا اشد نكاية لهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا جرم عليه في قتلهم، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء , أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى)[45]

أما ما فعله النصارى بالمسلمين عندما تمكنوا منهم، فيكفي أن نشير إلى ما نفذته السلطة والكنيسة الاسبانيتين عن طريق محاكم التحقيق مع بقايا المسلمين في الأندلس بعد سقوط آخر معاقلهم السياسية: غرناطة، وما فعلته قوى الاستعمار الصليبي في آسيا وإفريقية مع الشعوب الإسلامية عبر القرون الأخيرة، وما تفعله القيادات الإفريقية النصرانية مع المسلمين.

في العصر الأموي والعصور العباسية التالية، حين ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، وأخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطراداً، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.

لقد فتح المسلمون ـ قواعد وسلطة ـ صدورهم لغير المسلمين يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله.

لقد ساهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها، دونما أي عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فُتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأُتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنمّوا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط، وملؤوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية في المجال الإداري من نصيبهم كذلك.

إنه مجتمع تكافؤ الفرص والحرية العقديّة والانفتاح , لقد استجاب المسلمون للتحدي الاجتماعي، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم r بهم، وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن يكونوا رفقاء بأهل الذمة.

يقول فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول) يتحدث عن تلك الفترة من التاريخ الإسلامي:( أقام الذميون في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية، وحافظوا على لغاتهم الأصلية؛ فكانت لهم الآرامية والسريانية لغة في سوريا والعراق، والإيرانية في فارس، والقبطية في مصر.. وفي المدن تقلد النصارى واليهود مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وتمتعوا في ظل الخلافة بقسط وافر من الحرية، ونالوا كثيراً من التساهل والعطف.

وشهد بلاط العباسيين مناقشات كتلك التي جرت في بلاط معاوية وعبد الملك، وقد ألقى تيموتاوس بطريك النساطرة في سنة (781 م) دفاعاً عن النصرانية أمام المهدي، لا يزال محفوظاً نصه إلى اليوم , كذلك تحدّرت إلينا رسالة للكندي تصرح أنها بيان لمناقشة جرت سنة (819 م) في حضرة المأمون في مقابلة بين محاسن الإسلام والنصرانية..)

وكان للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ترجمات عربية معروفة، وهناك أخبار تذكر أن رجلاً يُدعى (أحمد بن عبد الله بن سلام) كان قد ترجم التوراة إلى العربية منذ ولاية هارون الرشيد.. ولدينا ما يثبت أيضاً أقساماً من التوراة كانت قد نُقلت إلى العربية في القسم الأخير من القرن السابع.

(ثم إننا نعرف وزراء نصارى قاموا في الشطر الثاني من القرن التاسع منهم عبدون بن صاعد.. وكان للمتقي وزير نصراني، كما كان لأحد بني بويه وزير آخر.

أما المعتضد فقد جعل في المكتب الحربي لجيش المسلمين رئيساً نصرانياً, وقد نال أمثال هؤلاء النصارى من أصحاب المناصب العالية ما ناله زملاؤهم المسلمون من الإكرام والتبجيل... وكانت أكثرية أطباء الخلفاء أنفسهم من أبناء الكنيسة النسطورية.

وقد نُشر أخيراً براءة منحها المكتفي سنة ( 1138 م ) لحماية النساطرة، وهي توضح مدى العلاقات الودية بين رجال الإسلام الرسميين وبين رجال النصرانية.

(ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظل الخلفاء، أنه كان لها من القوة والنشاط ما دفع بها إلى التوسع فافتتحت لها مراكز تبشيرية في الهند والصين..)

 ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى بالرغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم، والسبب أنهم كانوا قليلي العدد فلم يُخش أذاهم.. وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى.

ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد أنه كان لليهود في الدولة مراكز هامة.. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت فيها مزدهرة حتى سقوط المدينة.. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م)، فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة وعشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين، بصفته سليل بيت داود النبي u ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى.

وقد روى إنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة , وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة، وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته: (أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود ..)[46]

وما يُقال عن العصرين الأموي والعباسي، يمكن أن يُقال عن العصور التي تلتهما: الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لولا بعض ردود الأفعال الغاضبة التي اعتمد فيها العنف لأول مرة بسبب من مواقف عدائية معلنة اتخذتها هذه الفئة أو تلك من أهل الكتاب، فمالأت خصوم المسلمين، ووضعت أيديها بأيدي الغزاة الذين قدموا لإبادتهم وإفنائهم، وتآمرت سراً وجهراً لتدمير عقيدتهم وإزالة ملكهم من الأرض.

ويمكن أن يذكر ـ ها هنا ـ المواقف العدائية العديدة التي اتخذها نصارى الشام والجزيرة والموصل والعراق عامة، خلال محنة الغزو المغولي؛ إذ رحبت جماعات منهم بالغزاة، وتآمرت معهم ضد مواطنيهم المسلمين، فاحتضنهم الغزاة واستخدموهم في فرض هيمنتهم، واتخذوهم مخالب لتمزيق أجساد المسلمين الذين عاشوا معهم بحرية وإخاء عبر القرون الطوال، ويمكن أن نتذكر كذلك التجارب المرة نفسها التي مارستها جماعات من اليهود والنصارى في العصر العثماني، وردود الأفعال العثمانية إزاءها..

لكن هذه الحالات لم تكن في نهاية التحليل، ومن خلال نظرة شمولية لحركة المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، سوى استثناءات أو نقاط سوداء محدودة على صفحة واسعة تشع بياضاً، على العكس تماماً مما شهدته المجتمعات الأخرى؛ حيث كانت حالات الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أصحاب الدين الحاكم ومخالفيه نقاطاً استثنائية بيضاء في صفحة تنفث حقداً ودخاناً.

ومن عجب أن مرحلة الحروب الصليبية نفسها، تلك التي دامت حوالي القرنين من الزمن، وكان الغزاة فيها يحملون الطائفية والكراهية ضد كل ما هو إسلامي، والتي جاءت لكي تدمر على المجتمع الإسلامي أمنه واستقراره، وتفتنه عن دينه لصالح الكنيسة المتعصبة، هذه التجربة المرة لم تسق القيادات والمجتمعات الإسلامية إلى ردود فعل طائفية تقودهم إلى عدم التفرقة، وهم يتحركون بسيوفهم، بين الغزاة وبين النصارى المحليين، رغم أن فئات من هؤلاء تعاونت علناً مع الغزاة , ووضعت أيديها في أيديهم، وتآمرت معهم على إنزال الدمار بالإسلام والمسلمين.

ولحسن الحظ فإن الغزاة الذين انطلقوا أساساً من نقطة التعصب والمذهبية، مارسوا الطائفية نفسها إزاء رفاقهم في العقيدة ممن ينتمون لأجنحة نصرانية أخرى، بدءاً من البيزنطيين الأرثوذكس، وانتهاء بجل الفئات النصرانية المحلية، ممن لم تدن بالمذهب الكاثوليكي الذي انضوى تحت لوائه معظم الغزاة، ولولا ذلك لامتدت مساحة التعاون بين الطرفين، فيما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر وخامة.

المهم إننا لم نشهد عبر مرحلة الحروب الصليبية هذه بثوراً طائفية، في نسيج المجتمع الإسلامي، كرد فعل لغزو وهو في أساسه ديني متعصب.. لم نسمع بمذبحة ارتكبها المسلمون ضد رفاقهم في الأرض، ولا بعمل انتقامي غير منضبط نفذوه ضد مواطنيهم وأهل ذمتهم!!

وما من شك في أن هذا الانفتاح الذي شهده المجتمع الإسلامي إزاء العناصر غير الإسلامية، والفرص المفتوحة التي منحها إياهم، قاد بعض الفئات ـ كما رأينا ـ إلى ما يمكن عدّه استغلالاً للموقف السمح، ومحاولة لطعن المسلمين في ظهورهم، وتنفيذ محاولات تخريبية على مستوى السلطة حيناً، والعقيدة حيناً، والمجتمع نفسه حيناً ثالثاً، وإننا لنتذكر هنا ـ على سبيل المثال كذلك ـ ما فعلته الطوائف اليهودية بدءاً من محاولات السبئية، وانتهاء بمؤامرة الدونمة لإسقاط الخلافة العثمانية، وما فعلته بعض الطوائف المجوسية في العصر العباسي فيما يشكل العمود الفقري للحركة الشعوبية، التي استهدفت العرب والمسلمين على السواء.

لكن هذه الخسائر التي لحقت بالمسلمين من جراء تعاملهم الإنساني مع مخالفيهم في العقيدة، والمخاطر التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، من قبل هؤلاء الخصوم الذين استغلوا الفرصة، وسعوا إلى ممارسة التخريب والتآمر والالتفاف لا تسوّغ البتة اعتماد صيغ في التعامل غير تلك التي اعتمدها المسلمون في تاريخهم الاجتماعي الطويل .. وتقاليد غير تلك التي منحهم إياها، ورباهم عليها كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وتجارب الآباء والأجداد.

إن الخسائر الجزئية ـ مهما كانت فداحتها ـ لأهون بكثير من الخسارة الكبرى ذات البعد الإنساني، وإن الإسلام نفسه - قبل غيره من الأديان- كان سيخسر الكثير لو حاول أن يسعى إلى تحصين نفسه بالحقد والطائفية، والردود المتشنّجة التي تجاوز حدودها المعقولة والمسوّغة.

وإن الإنسان نفسه كان سيغدو الضحية لو أن المجتمع الإسلامي خرج على التقاليد النبيلة المتألقة التي علّمه إياها رسول الله r ؛ لأنه ـ فيما عدا التاريخ الإسلامي ـ فإنه ليس ثمة في تاريخ البشرية ـ قديماً وحديثاً ـ مرحلة كتاريخ الإسلام احترم فيها فكر المخالفين وصينت عقائدهم، وحُميت حقوقهم، بل كانوا ـ على العكس تماماً ـ هدفاً للاستعباد والهوان والضياع، بل التصفية والإفناء.

لم يكن هدف الفتوحات الإسلامية جميعها، منذ عصر الرسول r وحتى سقوط العثمانيين فرض العقيدة الإسلامية بالقوة كما يتعمد البعض أن يصور أو يتصور.

إنما نشر السيادة والمنهج الإسلامي في العالم , إنها محاولة جادة لتسلم القيادة من الأرباب والطواغيت، وتحويلها إلى أناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.

وتحت ظلال هذه القيادة، كان بمقدور الناس، وقد حُرّروا تماماً من أي ضغط أو تأثير مضاد أن ينتموا للعقيدة التي يشاؤون، ولما كانت عقيدة الإسلام هي الأرقى والأجدر والأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان بأي مقياس من المقاييس، كان من الطبيعي أن تنتشر بين الناس، وأن ينتمي إليها الأفراد والجماعات بالسرعة التي تبدو للوهلة الأولى أمراً محيراً، ولكن بالتوغل في الأمر يتبين مدى منطقية هذا الإقبال السريع الذي يختزل الحيثيات، انتماءً إلى الإسلام وتحققاً بعقيدته.. إنه الجذب الفعّال الذي تملكه هذه العقيدة، والاستجابة الحيوية لحاجات الإنسان في أشدها اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً، تلك التي يحققها هذا الدين.

إن سير توماس أرنولد، الذي ذكرناه، يتفرغ السنين الطوال لمتابعة هذه المسألة، ثم يعلنها في كتابه المعروف (الدعوة إلى الإسلام) بوضوح لا لبس فيه، واستناد علمي على الحقائق وحدها بعيداً عن التأويلات والتحزّبات والميول والأهواء.

ونكتفي هنا ببعض الشهادات التي قدمها هذا الباحث كنماذج تؤكد البعد الإنساني للسلوكية التي اعتمدها الإسلام في الانتشار:

يقول: (يمكننا أن نَحكُم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام , فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم , ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة)[47]

ويقول(إن الأخبار الخاصة بزوال المسيحية من بين القبائل العربية النصرانية التي كانت تعيش في بلاد العرب الشمالية، لا تزال بحاجة إلى شيء من التفصيل، والظاهر أنهم قد انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه الاندماج السلمي، والذي تم بطريقة لم يحسسها أحد منهم، ولو أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت الحكم الإسلامي، لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين) [48]

ويقول: (ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح) [49]

ويقول:( لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: "يا معشر العرب أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا , وأرأف بنا , وأكف عن ظلمنا , وأحسن ولاية علينا , ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا" ، وأغلق أهل حمص مدينتهم دون جيوش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم)[50]

ويقول:( أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم، فقد وجدت أنها تتمتع بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة، بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبية والنسطورية، فقد سُمح لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فُرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة.

ويمكن الحكم على مدى هذا التسامح ـ الذي يلفت النظر في تاريخ القرن السابع ـ من هذه العهود التي أعطاها العرب لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم , وإطلاق الحرية الدينية لهم في مقابل الإذعان ودفع الجزية)[51]

ويقول:( وقد زار عمر الأماكن المقدسة يصحبه البطريق، وقيل: إنه بينما كانا في كنيسة القيامة- وقد حان وقت الصلاة- طلب البطريق إلى عمر أن يصلي هناك، ولكنه بعد أن فكر اعتذر وهو يقول: إنه إن فعل ذلك فإن أتباعه قد يدعون فيما بعد أنه محل لعبادة المسلمين)[52]

ويقول:( وكان المسيحيون يؤدون الجزية مع سائر أهل الذمة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين)[53]

ويقول:( ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعاتهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم حرية التفكير الديني، تمتعوا- وخاصة في المدن- بحالة من الرفاهية والرخاء في الأيام الأولى من الخلافة)[54]

ويقول:( زار راهب دومنيكاني من فلورنسا ويدعى (Ricoldos de Monre Crucis) بلاد الشرق حوالي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وتحدث عن روح التسامح التي تمتع بها النساطرة إلى عصره في ظل الحكم الإسلامي فقال: "قرأت في التاريخ القديم وفي مؤلفات للعرب موثوق بها أن النساطرة أنفسهم كانوا أصدقاء لمحمد وحلفاء له، وأن محمداً نفسه قد أوصى خلفاءه أن يحرصوا على صداقتهم مع النساطرة، التي يرعاها العرب أنفسهم حتى ذلك اليوم بشيء من العناية)[55]

ويقول:( وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق) [56]

ويقول:( إننا لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي.

ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة.

وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم بصفتهم طوائف خارجة عن الدين, ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم)[57]

ويقول:( جلب الفتح الإسلامي إلى الأقباط في مصر حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان.

وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك؛ من التدخل المستمر الذي عانوا من عبثه الثقيل في ظل الحكم الروماني.. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتداد الأقباط عن دينهم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعاً إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين, بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة)[58]

هذه لمحات عن منطقة محدودة هي العراق والشام، ومصر إلى حد ما، من العالم الذي امتد إليه الإسلام وتعامل معه، فهنالك بلاد فارس وأواسط آسيا، وإفريقية، وأسبانيا، وجنوبي أوروبا وشرقيها، والهند والصين، وجنوب آسيا، مما تحدث عنه أرنولد فأطال الحديث..

وكل هذه الشهادات على مدى احترام الشريعة الإسلامية للتنوع نظرية وتطبيقا.

***

ما وصل (عمر المختار) من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد عمر، وساروا به إلى مقصلة الإعدام .. وفي فمه ابتسامة عذبة ذكرتني بابتسامة سميه عمر المختار وهو يواجه سيوف الإيطاليين البغاة..

أراد بعضنا أن يتدخل ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل .. لا أريد منكم وأنا متوجه للقاء ربي الذي طالما اشتقت إليه إلا أن تتأملوا في المعاني العظيمة التي جاء بها الإسلام .. فهي وحدها الكفيلة بإخراج البشرية من كل الظلمات الشيطانية لتزج بها في كل الأنوار المقدسة.

قال ذلك، ثم سار بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد r .

 

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى عمر المختار (1862 - 1931) الملقب بشيخ الشهداء أو أسد الصحراء .. مجاهد ليبي حارب قوات الغزو الإيطالية منذ دخولها أرض ليبيا إلى عام 1931، وذلك لأكثر من عشرين عاما في أكثر من ألف معركة .. وقد استشهد في الأخير بإعدامه شنقاً عن عمر يناهز 73 عاما..

تلقى تعليمه الأول في زاوية جنزور, ثم سافر إلى الجغبوب ليمكث فيها ثمانية أعوام للدراسة والتحصيل على كبار علماء ومشايخ السنوسية في مقدمتهم الإمام السيد المهدي السنوسي قطب الحركة السنوسية، فدرس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولكنه لم يكمل تعليمه.

ظهرت عليه علامات النجابة ورزانة العقل، فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد المهدي السنوسى مما زاده رفعة وسمو، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن حتى قال فيه السيد المهدي واصفاً إياه : (  لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم)

ولثقة السنوسيين به ولوه شيخا على زاوية القصور بالجبل الاخضر، وقد اختاره السيد المهدي السنوسي رفيقا له إلى السودان الأوسط (تشاد) عند انتقال قيادة الزاوية السنوسية اليها فسافر سنة1317 هـ . و قد شارك عمر المختار فترة بقائه بتشاد في الجهاد بين صفوف المجاهدين في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية (السودان الغربي، تشاد) وحول واداي. وقد استقر المختار فترة من الزمن في قرو مناضلاً ومقاتلاً, ثم عين شيخاً لزاوية (عين كلكه) ليقضي فترة من حياته معلماً ومبشراً بالإسلام في تلك الأصقاع النائية، وبقي هناك إلى أن عاد إلى برقة سنة 1321 هـ حيث أسندت اليه مشيخة زاوية القصور للمرة الثانية .

عاش عمر المختار حرب التحرير و الجهاد منذ بدايتها يوماً بيوم, فعندما أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في 29 سبتمبر 1911م, وبدأت البارجات الحربية بصب قذائفها على مدن الساحل الليبي, درنة وطرابلس ثم طبرق وبنغازي والخمس, كان عمر المختار في تلك الأثناء مقيما في جالو بعد عودته من الكفرة حيث قابل السيد أحمد الشريف, وعندما علم بالغزو الإيطالي فيما عرف بالحرب العثمانية الإيطالية سارع إلى مراكز تجمع المجاهدين حيث ساهم في تأسيس دور بنينه وتنظيم حركة الجهاد والمقاومة إلى أن وصل السيد أحمد الشريف قادماً من الكفرة. وقد شهدت الفترة التي أعقبت انسحاب الأتراك من ليبيا سنة 1912م أعظم المعارك في تاريخ الجهاد الليبي.

بعد الانقلاب الفاشي في إيطالي في أكتوبر 1922, وبعد الانتصار الذي تحقق في تلك الحرب إلى الجانب الذي انضمت إليه إيطاليا. تغيرت الأوضاع داخل ليبيا واشتدت الضغوط على السيد محمد إدريس السنوسي, واضطر إلى ترك البلاد عاهداً بالأعمال العسكرية والسياسية إلى عمر المختار.

دفعت مواقف المختار ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة كيفية التعامل معه، وتوصلت إلى تعيين غرسياني وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية ليقوم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في وحشيتها وفظاعتها وعنفها.

في معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، فرائها غراتسياني فقال: (الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما)

وفي 11 سبتمبر من عام 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقين في وادي بوطاقة ورجحت الكفة للعدو فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائياً، فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه.

عقدت للشيخ الشهيد محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع في 15 سبتمبر 1931م، وبعد ساعة تحديداً صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعندما ترجم له الحكم، قال الشيخ : ( إن الحكم إلا لله … لا حكمكم المزيف ... إنا لله وإنا إليه لراجعون)

في صباح اليوم التالي للمحاكمة الأربعاء، 16 سبتمبر 1931( الأول من شهر جمادى الأول من عام 1350)، اتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم.

وأحضر الشيخ عمر المختار مكبل الأيدي، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل حتى لا يتمكن عمر المختار من مخاطبتهم، وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً سلم الشيخ إلي الجلاد، وكان وجهه يتهلل استبشاراً بالشهادة وكله ثبات وهدوء، فوضع حبل المشنقة في عنقه، وقيل عن بعض الناس الذين كان على مقربة منه إنه كان يؤذن في صوت خافت آذان الصلاة، والبعض قال انه تتمتم بالآية الكريمة :﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) (الفجر)

وسبق إعدام الشيخ أوامر شديدة الحزم بتعذيب وضرب كل من يبدي الحزن أو يظهر البكاء عند إعدام عمر المختار.

([2])   رواه أبو داود وغيره.

([3])   رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد بلفظ مقارب.

([4])   رواه الطبراني في الأوسط والكبير .

([5])   رواه أبو داود.

([6])   رواه البخاري ومسلم.

([7])   انظر: الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام، الدكتورة نعيمة شومان.

([8])   رواه مسلم.

([9])   رواه البخاري.

([10])   رواه مسلم.

([11])   سنرد بالتفصيل عن الشبهات المثارة في هذا الباب في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([12])   رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما : (أمك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم أدناك أدناك)، زاد ابن حبان: قال :( فيرون أن للأم ثلثي البر)

([13])   رجعنا في هذا إلى مقال بعنوان: الرد على شبه المتنصرين في الميراث، إعداد أحمد حسين خليل حسن، كلية الدراسات الإسلامية – جامعة الأزهر.. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([14])   وذلك في الحالات التالية: البنت مع إخوانها الذكور ، وبنت الإبن مع ابن الإبن .. الأب والأم ولا يوجد أولاد ولا زوج أو زوجة .. الأخت الشقيقة مع إخوانها الذكور .. الأخت لأب مع إخوانها الذكور.

([15])   وذلك في الحالات التالية: الأب والأم فى حالة وجود الإبن .. الأخ والأخت لأم .. أخوات مع الإخوة والأخوات لأم  .. البنت مع عمها أو أقرب عصبة للأب ( مع عدم وجود الحاجب )  .. الأب مع أم الأم وابن الإبن.. زوج وأم وأختين لأم وأخ شقيق على قضاء عمر فإن الأختين لأم والأخ الشقيق شركاء فى الثلث .. انفراد الرجل أو المرأة بالتركة بأن يكون هو الوارث الوحيد ، فيرث الإبن إن كان وحده التركة كلها تعصيبا ، والبنت ترث النصف فرضاً والباقى رداً . وأيضاً  لو ترك أبا وحده فإنه سيرث التركة كلها تعصيباً ولو ترك أما فسترث الثلث فرضاً والباقى رداً عليها .. زوج مع الأخت الشقيقة ؛ فإنها ستأخذ ما لو كانت ذكراً ، بمعنى لو تركت المرأة زوجا وأخا شقيقا فسيأخذ الزوج النصف ، والباقى للأخ تعصيباً .ولو تركت زوجاً وأختاً فسيأخذ الزوج النصف والأخت النصف كذلك .. الأخت لأم مع الأخ الشقيق ، وهذا إذا تركت المرأة زوجا وأما وأختا لأم وأخا شقيقا ؛ فسيأخذ الزوج النصف والأم السدس , والأخت لأم السدس ، والباقى للأخ الشقيق تعصيبا وهو السدس .. ذوو الأرحام فى مذاهب أهل الرحم ، وهو المعمول به فى القانون المصرى فى المادة 31 من القانون 77 لسنة 1943، وهو إن لم يكن هناك أصحاب فروض ولا عصابات فإن ذوى الأرحام هم الورثة وتقسم التركة بينهم بالتساوى كأن يترك المتوفى ( بنت بنت ، وابن بنت ، وخال ، وخالة ) فكلهم يرثون نفس الأنصبة ..

بالإضافة إلى أن هناك ستة لا يحجبون حجب حرمان أبدا وهم ثلاثة من الرجال ، وثلاثة من النساء ، فمن الرجال (الزوج ، والإبن ، والأب) ن ومن النساء ( الزوجة ، والبنت ، والأم )

([16])   من أمثلة ذلك: الزوج مع ابنته الوحيدة .. الزوج مع ابنتيه .. البنت مع أعمامها .. أختين لأب ؛ يرثان أكثر من الأخوين لأب ..

([17])   مثلما لو ماتت امرأة وتركت ( زوجاً وأباً وأماً وبنتاً وبنت ابن ) فإن بنت الإبن سترث السدس، فى حين لو أن المرأة تركت ابن ابن بدلاً من بنت الإبن لكان نصيبه صفراً ؛ لأنه كان سيأخذ الباقى   تعصيباً ولا باقى.

ومثلما لو تركت امرأة ( زوجاً وأختاً شقيقة وأختاً لأب ) فإن الأخت لأب سترث السدس ، فى حين لو كان الأخ لأب بدلاً من الأخت لم يرث ؛ لأن النصف للزوج والنصف للأخت الشقيقة والباقى للأخ لأب ولا باقى.

([18])   رواه البخاري ومسلم.

([19])   ففي دراسة حديثة قام بها علماء في (سيدني ـ أستراليا) ونشرت نتائجها على شبكة CNN وشبكة BBC الإخبارية بعنوان الدراسة: Pregnancy does cause memory loss, study says (الحمل يجعل الذاكرة أقل، الدراسة تقول ذلك). أثبتت الدراسة أن الحمل يتسبب بضعف ذاكرة النساء، وأن هذه الحالة تستمر لفترة ما بعد الولادة أحياناً حيث يتسبب الحمل في تناقص طفيف في عدد خلايا الذاكرة لدماغ الأم الحامل.

قالت جوليا هنري، وهي إحدى العاملات على البحث من جامعة نيوساوث ويلز بسيدني، لشبكة CNN : (ما وجدناه هو أن المجهود الذهني المرتبط بتذكر تفاصيل جديدة أو أداء مهام متعددة المراحل، يصاب باضطراب9 وأضافت: (قد تعجز المرأة الحامل مثلاً عن تذكّر رقم جديد، لكنها ستستعيد بسهولة الأرقام القديمة التي كانت تطلبها على الدوام) وقالت هنري: إنها قامت، مساعدة الدكتور بيتر ريندل، بوضع هذه الدراسة بالاعتماد على تحليل 12 بحثا شمل مسحاً لقدرات النساء الذهنية قبل الولادة وبعدها.

ولفتت إلى أن النتائج تشير إلى احتمال استمرار حالة الاضطراب هذه بعد الولادة لعام كامل أحياناً، دون أن تؤكد بأن الوضع يتحسن بعد تلك الفترة بسبب الحاجة إلى المزيد من الأبحاث.. غير أن الدراسة لم تحدد أسباب هذه الظاهرة، نظراً للحاجة إلى إجراء المزيد من الفحوصات المخبرية المعمقة، وإن كانت قد استعرضت مجموعة من السيناريوهات المحتملة، وفي مقدمتها تبدل هرمونات الجسد والتغيّر السريع في نمط العيش.

([20])   انظر: شبهات حول حقوق المرأة في الإسلام – د . نهى قاطرجي.. وغيرها.

([21])   رواه الترمذي، وقال:حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وإسناده جيد.

([22])   نيل الأوطار:6/358.

([23])   انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في (العلاج الشرعي للخلافات الزوجية) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([24])   رواه ابن أبي شيبة والحاكم.

([25])   رواه البخاري و النسائي و الترمذي.

([26])   أجاب بعضهم على الشبهات المرتبطة بهذا الحديث بذكر المناسبة التي ورد فيها .. فقد روي في مناسبته أن نفراً قد قدموا من بلاد فارس إلى المدينة المنورة ، فسألهم رسول الله r: ( من يلي أمر فارس؟)  فقالوا: امرأة. فقال r :( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)

وقد ذكروا بناء على هذا أن ملابسات ورود الحديث تجعله نبوءة سياسية بزوال ملك فارس- وهي نبوءة نبوية قد تحققت بعد ذلك بسنوات - أكثر منه تشريعاً عاماً يحرم ولاية المرأة للعمل السياسي العام ..

ولكنا مع احترامنا لهذا نرى أنه لا ينبغي تخصيص أحاديث الرسول r بمناسباتها، فالنبي r في هذا الحديث يذكر سنة اجتماعية دلت عليه الأدلة الكثيرة.

([27])   رواه النسائي.

([28])  رواه الخمسة إلا مسلماً.

([29])   رواه البخاري ومسلم.

([30])   ذكر تقرير لهيئة الصحة العالمية أن كل طفل مولود يحتاج إلى رعاية أمه المتواصلة لمدة ثلاث سنوات على الأقل، وأن فقدان هذه الرعاية يؤدي إلى اختلال الشخصية لدى الطفل كما يؤدي إلى انتشار جرائم العنف الذي انتشر بصورة مريعة في المجتمعات الغربية وطالبت هذه الهيئة الموقرة بتفريغ المرأة للمنزل وطلبت من جميع حكومات العالم أن تفرغ المرأة وتدفع لها راتباً شهرياً إذا لم يكن لها من يعولها حتى تستطيع أن تقوم بالرعاية الكاملة لأطفالها.

وقد أثبتت الدراسات الطبية والنفسية أن المحاضن وروضات الأطفال لا تستطيع القيام بدور الأم في التربية ولا في أعطاء الطفل الحنان الدافق الذي تغذيه به. (انظر: عمل المرأة في الميزان، للبار)

([31])   نشرت (المدينة) في 14/10/1400 نقلاً عن كريستيان سانيس مونيتور:( إن المرأة في الغرب تجد نفسها مجبرة على العمل خارج البيت لتحقق ما يطلبه منها المجتمع ) وتقول نفس المجلة على لسان الدكتورة ميخائيل : ( إن حال المرأة الأمريكية مخيب للآمال ) وتنقل المجلة المذكورة رأي الدكتورة آمال رسام وهو أن دور المرأة مختلف عن دور الرجل وإن ذلك مشاهد على مدى التاريخ وفي كل مكان وزمان حتى في أمريكا اليوم.

وسنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا وبالشبهات المثارة حوله في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([32])   أثبتت الدراسات الطبية الكثيرة أن كيان المرأة النفسي والجسدي مخالف لتكوين الرجل،  فهيكل المرأة الجسدي يختلف عن هيكل الرجل ، بل إن كل خلية من خلايا جسم المرأة تختلف في خصائصها وتركيبها عن خلايا الرجل.

وإذا دققنا النظر في المجهر هالنا أن نجد الفروق واضحة بين خلية الرجل وخلية المرأة .. ستون مليون مليون خلية في جسم الإنسان ومع هذا فإن نظرة فاحصة في المجهر تنبئك الخبر اليقين : هذه خلية رجل وهذه خلية امرأة ، كل خلية فيها موسومة بميسم الذكورة أو مطبوعة بطابع الأنوثة.

وإذا ارتفعنا من مستوى الصبغيات ( الكروموسومات ) والخلايا إلى مستوى الأنسجة والأعضاء وجدنا الفروق الهائلة الواضحة بين الذكورة والأنوثة .. فعضلات الفتى مشدودة قوية وهو عريض المنكبين واسع الصدر ضيق البطن صغير الحوض نسبياً لا أرداف له ولا عجز كبير .. يتوزع الدهن جسمه توزيعاً عادلاً وطبقة الدهن في الغالب الأعم محدودة بسيطة .. وينمو شعر العانة متجهاً نحو السرة كما ينمو شعر عذاريه وينمو شعر ذقنه وشاربه ويغلظ صوته ويصبح أجش .. بينما نجد عضلات الفتاة رقيقة ومكسوة بطبقة دهنية تكسب الجسم استدارة وامتلاء مرغوبا فيه خالياً من الحفر والنتوءات الواضحة المتعاقبة التي لا ترتاح العين لرؤيتها

ولا تقتصر هذه الطبقة الدهنية على استدارة الجسم وستر ما يعتوره من حفر أو نتوءات بل أن بعض المناطق الخاصة تحظى بنصيب وافر منها مثل الثديين اللذين يكبران ويستديران ويتخذ كل منهما شكل نصف كرة ، وكذلك منطقة الزهرة والاليتان وكما يستدير الفخذان وغيرهما من مواضع خاصة . ويتسع الحوض متخذاً شكلاً مناسباً يتفق مع العمل الذي خصص له ويكتمل نمو أعضاء التناسل الباطنة كالرحم والمبيض الذي يقوم بعملية الابياض السابقة للطمث وكذلك الأعضاء التناسلية الظاهرة كالشفرين الكبيرين ويتخذ كل منهما شكله وحجمه وقوامه وبنيانه وموضعه في البالغ ويظهر الشعر في منطقة الزهرة والإبطين وينعم الصوت بعد أن كان مصبوغاً بصبغة الطفولة .

وغرض كل هذه التغييرات في الفتاة اكتساب جمال المنظر ورشاقة القوام ونضارة الطلعة مما يتفق مع حسن ونعومة ونضارة الأنوثة وكلها عوامل قوية للإغراء.

وتختلف الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة اختلافاً يعرفه كل إنسان فللمرأة رحم منوط به الحمل فإن لم يكن حمل فدورة شهرية وطمث ( حيض ) حتى تحمل أو تتوقف الحياة الجنسية للمرأة . وللمرأة أثداء لها وظيفة جمالية كما لها وظيفة تغذية الطفل منذ ولادته إلى فطامه بأحسن وأنظف وأليق غذاء .. ليس هذا فحسب ولكن تركيب العظام يختلف في الرجل عن المرأة في القوة والمتانة وفي الضيق والسعة وفي الشكل والزاوية .

وإذا نظرنا لحوض المرأة مثلاً وجدناه يختلف عن حوض الرجل اختلافاً كبيراً، فحوض المرأة يختلف عن حوض الرجل بالنسبة لقيامه بوظيفة هامة إضافية تتطلب منه بعض الضروريات اللازمة التي لا يحتاج إليها حوض الرجل .. فنمو الجنين في الحوض وطرق تغذيته وحفظه ثم مروره بتجويف الحوض ومن مخرجه وقت الولادة مما يستلزم بعض التغييرات والتعديلات التي يسهل معها إتمام الولادة بالنسبة للأم والطفل وتنحصر كل هذه التغييرات في أن يكون تجويف حوض السيدة أوسع وأقصر ، وأن تكون عظامه أرق وأقل خشونة وأبسط تضاريساً.

والخلاصة أن أعضاء المرأة الظاهرة والخفية وعضلاتها وعظامها تختلف إلى حد كبير عن تركيب أعضاء الرجل الظاهرة والخفية كما تختلف عضلاته وعظامه في شدتها وقوة تحملها .

انظر: (عمل المرأة في الميزان) لمحمد علي البار، وهو نقلها بدوره عن كتاب (مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء) لأستاذ علم التشريح الدكتور شفيق عبد الملك.

([33])   رواه أحمد والبخاري والترمذي.

([34])   رواه أحمد.

([35])   روى أبو داود في سبب تهودهم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مُقْلاة، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لاندع أبنائنا فأنزل الله عزوجل:﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾ (البقرة)

([36])   نقلنا المعلومات التاريخية الواردة هنا من مقال بعنوان (شهادة التاريخ)، بقلم أ. د. عماد الدين خليل.. من موقع (الإسلام اليوم)

([37])   رواه محمد بن سعد في كتاب (الطبقات الكبرى)، والبلاذري.

([38])   البلاذري : فتوح البلدان.

([39])   ابن سعد : الطبقات 1/2/28 ـ 30.

([40])   الدعوة إلى الإسلام ، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم حسن ورفاقه ، ط3 مكتبة النهضة ، القاهرة ـ 1971 ، ص 79.

([41])   الدعوة إلى الإسلام: ص 86 ـ 88.

([42])   الدعوة إلى الإسلام: ص 130.

([43])   حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ، ط3 ، دار إحياء الكتب العلمية ، القاهرة ـ 1956 م ، ص 336.

([44])   ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص 29 ـ 30.

([45])   نقلا عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص 36.

([46])   تاريخ العرب المطول ، ط4 ، دار الكشاف ، بيروت ـ 1965 م ، 2 / 432 ـ 438.

([47])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 65.

([48])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 67.

([49])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 69.

([50])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 73.

([51])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 74.

([52])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 75.

([53])   الدعوة إلى الإسلام ،  ص79.

([54])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 81.

([55])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 81.

([56])   الدعوة إلى الإسلام ، ص88.

([57])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 98.

([58])   الدعوة إلى الإسلام ، ص 123.