الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: عدالة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

سابعا ـ المساواة

1 ـ التصور

وحدة الإله:

وحدة البشرية:

وحدة الموازين:

وحدة المصير:

2 ـ السلوك

الدعوة:

التكليف:

القانون:

الحقوق:

سابعا ـ المساواة

في اليوم السابع، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (سعيد بن جبير) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.

بمجرد أن فتحت أبواب الزنازن أسرع المساجين إلى ساحة السجن حيث سبقهم سعيد بن جبير .. والبسمة على شفتيه .. والسرور باد على وجهه.

لقد تذكرت بمرآه صورة سميه الشهم النبيل (سعيد بن جبير)، وهو يساق إلى الحجاج، ثم يقف بين يديه ليقول له: أنت الشقيّ بن كسير .. فيرد عليه سعيد بكل هدوء: لا .. إنما أنا سعيد بن جبير..  فيغتاظ الحجاج، ويتوعده قائلا: لأقتلنّك .. فيرد عليه سعيد بكل برودة: إذا أنا كما سمتني أمي سعيدا .. فيقول الحجاج: شقيت وشقيت أمك.. فيرد عليه سعيد بهدوئه: الأمر ليس إليك.

وهنا يبلغ بالحجاج غضبه، فيقول لزبانيته: اضربوا عنقه .. فيقول سعيد بهدوئه: دعوني أصلي ركعتين.. فيغتاظ الحجاج، ويقول: وجّهوه إلى قبلة النصارى .. فيقرأ سعيد :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) (البقرة).. ثم يقول: إني استعيذ منك بما استعاذت به مريم.. فيقول الحجاج: وما عاذت به؟ .. فيقول سعيد: قالت :﴿ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) (مريم)، فيرد الحجاج: لأبدلنّك بالدنيا نارا تلظّى.. فيقول سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتّخذتك إلها.

وهنا ييلغ غضب الحجاج منتهاه، فيقول: اجلدوا به الأرض .. فيقرأ سعيد :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) (طه) فيأمر الحجاج السياف قائلا: اذبح .. فما انزعه لآيات الله.. فيقول سعيد: (اللهم لا تسلّطه على أحد بعدي)

لقد صار هذا المشهد حيا أمامي بهذا السعيد الجديد الذي قدر الله لي أن ألتقي به، وأستمع له، ثم أرى شهادته بعيني التي حرمتا من رؤية شهادة سعيد القديم.

***

بعد أن التفت جموع المساجين بسعيد نظر إليهم نظرة ملؤها الحنان، وقال: سأحدثكم اليوم كما حدثني إخواني عن تلك الشريعة العظيمة التي أنزلها الله على عباده لتنقذهم من الأهواء والجور والظلم .. فلا تختم الحياة بشيء أجمل من هذه الأحاديث.

قال له رجل منا: لقد حدثنا إخوانك عن شريعة الإسلام ونظامه ورفقه وحزمه وعن الحريات التي أتاحها، والمسؤوليات التي أمر بها .. فما تريد أن تحدثنا أنت؟

قال: سأحدثكم عن ركن ركين من أركان العدالة .. لا تكتمل إلا به .. بل لا يمكن أن تقوم إلا به ..

لقد عبر القرآن الكريم عن هذا الركن، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) (النساء)

وعبر عنه رسول الله r، فقال: ( ألا وإن الله تعالى - قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بابائها، كلكم لادم وآدم من تراب  ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) (الحجرات) يا أيها الناس! الناس رجلان، فبر تقي كريم وكافر شقي هين على الله)[2]

قلنا: تريد أن تحدثنا عن المساواة؟

قال: أجل .. فلا يمكن للعدالة أن تقوم من غير المساواة.

قلنا: فما سر اختيارك للمساواة دون غيرها؟

قال: لذلك سببان: أما أولهما، فهو أني في رحلتي للبحث عن الحقيقة ألهمني الله أن أضع قيدا لها، وهو المساواة.

قلنا: ما علاقة المساواة بالبحث عن الحقيقة؟

قال: لقد قلت لنفسي، أو قالت لي نفسي: إن الله الذي خلق هذا الكون جميعا بمنتهى الدقة والجمال يستحيل أن يفرق بين شعب وشعب، وبين أمة وأمة .. فما دمنا نتنفس جميعا هواء واحدا، ونعيش حياة واحدة، فيستحيل أن يفرق الله بين عباده، فيفضل بعضهم على بعض من غير سبب يعود إلى كسبهم.

قلنا: هذا الأول .. فما الثاني؟

قال: لقد رأيت أن الفطر السليمة تعتقد المساواة .. وقد رأيت بأن الشريعة الحكيمة هي الشريعة التي لا تخالف الفطرة، بل تسلم لها، وتسير وفق مقتضاها.

قلنا: عرفنا الأسباب التي جعلتك تختار المساواة .. ولكن لم اخترت الإسلام دون غيره؟

قال: تلك قصة طويلة ورحلة طويلة تقلبت فيها من دين إلى دين .. ومن مذهب إلى مذهب .. وقد رأيت في الأخير في نهاية تلك الرحلة أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء بالمساواة في أرقى صورها، وأرفع تجلياتها.

قلنا: فحدثنا عن رحلتك قبل أن تحدثنا عن الإسلام.

قال: في البدء سرت إلى بلاد الهند بحثا عن الدين الحقيقي بالضابط الذي ذكرته لكم .. وقد فوجئت بما رأيت من أنواع الطبقية الجائرة.

لقد رأيت الديانة البرهمية تضع مرسوما للمجتمع الهندي تسميه (منوشاستر) .. وقد قسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات ممتازة تبدأ بالبراهمة الذين يشكلون طبقة الكهنة ورجال الدين .. يليهم شتري رجال الحرب.. يليهم ويش رجال الزراعة والتجارة.. يليهم شودر رجال الخدمة.

لقد عبر (منو) مؤلف هذا القانون عن سره، فقال:( إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه، وشتري من سواعده ، وويش من أفخاذه ، والشودر من أرجله ، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم . فعلى البراهمة تعليم ويد أو تقديم النذور للآلهة وتعاطي الصدقات، وعلى الشتري حاسة الناس والتصدق وتقديم النذور ودراسة (ويد)  والعزوف عن الشهوات ، وعلى ويش رعي السائمة والقيام بخدمتها وتلاوة ويد والتجارة والزراعة ، وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث)

وقد رأيت هذا القانون يمنح طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة، فقد ذكر أن البراهمة هم صفوة الله وهم ملوك الخلق ، وأن ما في العالم هو ملك لهم، فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر- من غير جريرة - ما شاءوا ، لأن العبد لا يملك شيئاً وكل ماله لسيده.

ورأيته ينص على أن البرهمي الذي يحفظ رك ويد (الكتاب المقدس) رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله .. وينص على أنه لا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطرار والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية أو يأخذ منهم إتاوة .. وينص على أنه لا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه ، أما غيره فيقتل.

أما الشتري، فقد قال (منو) في حقهم:(  إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده)

أما شودر (المنبوذون) فكانوا في المجتمع الهندي- بنص هذا القانون المدني الديني- أحط من البهائم وأذل من الكلاب ، فيصرح القانون بأن (من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك9) .. وليس لهم أن يقتنوا مالاً، أو يدخروا كنزاً فإن ذلك يؤذي البراهمة، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده ، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد، وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه ، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً.. وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.

وقد رأيت أن المرأة في هذا المجتمع ـ كما تنص على ذلك شرائعهم الدينية ـ تنزل منزلة العبيد.. فقد كان الرجل قد يخسر امرأته في القمار، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج، فإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج، وتكون هدف الإهانات والتجريح ، وكانت أمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفادياً من عذاب الحياة وشقاء الدنيا.

بعد أن يئست من أن أجد الحقيقة لدى الهنود سرت إلى اليهود.

قلنا: فما رأيت؟

قال: رأيت جورا وظلما وطبقية لا تقل عن طبقية الهنود.

قلنا: كيف تقول ذلك؟ .. وهم يملكون كتابا مقدسا، وشريعة سماوية.

قال: نعم .. ولكنهم أذنوا لأهوائهم ونفوسهم المدنسة أن تتلاعب بها .. لقد رأيت التلمود ـ الذي هو المرجع الأول لليهود ـ يبوئ اليهود مرتبة لا يرقى إليها أحد من شعوب الأرض ولا حتى الملائكة، فقد اعتبر أن اليهود هم شعب الله المختار .. بل اعتبرهم أقرب إلى أن يكونوا آلهة، أما غيرهم من الأمم فهم (قيوم) غير مؤهلين لمرتبة اليهود، بل هم أقرب من أن يكونوا أقل من البشر.

يقول إسرائيل شاحاك (المفكر اليهودي البارز): (إن المفهوم التلمودي الأرثوذكسي والذي يُرجع إليه بكثرة في كل الأوقات، هو أن الكون مقسم إلى خمسة أقسام: الجمادات، النباتات والخضروات، الحيـوانات، سائر البشر، واليهود.. وأن الفرق الشاسع بين اليهود وسائر البشر مثل البون الشاسع بين البشر والحيوانات)

وقد بين الكاتب اليهودي المعاصر هرمن ووك (Herman Wouk) في كتابه هذا هو إلهي (This is my God) بأن (التلمود يبقى حتى يومنا هذا القلب النابض للدين اليهودي، فبغض النظر عن كوننا أورثوذكس، محافظين، إصلاحيين، أو مجرد متعاطفين فنحن نتبع تعاليم التلمود، إنه قانوننا)

وقد رأيتهم يذكرون أن سبب اختيارهم واصطفائهم على سائر الأمم هو أن غير اليهود لم يكونوا حضوراً عند جبل الطور حيث تم تطهيرهم ـ كما يزعمون ـ من الخطيئة الأصلية..

اسمعوا بعض ما ورد في التلمود: (الأممي لا يمكن أن يكون جاراً بمعنى تبادل الحقوق والواجـبات.. بل إن قوانين الأمميّين لا ترقى إلى ذلك أبداً فلا يمكن أن تكون هناك علاقة مبنية على حقوق مشتركة)

وفيه :( عندما تقع مقاضاة بين إسرائيلي ووثني heathen ـ مع العلم أن هذا المصطلح يُطلق على النصارى أيضاً ـ فإن أمكن الحكم لصالح اليهودي وفق قانون إسرائيل فلا بأس فأحكم له وقل هذا (شرعنا)، وإن كان بالإمكان الحكم لصالح اليهودي بقانون الوثنيين فاحكم لليهودي، وقل للوثني (هذا شرعكم)، وإن لم يكن ممكناً الحكم لليهودي بناءً على أي الشرعين فلتجد ذريعة للتحايل عليهم)  

ومن أمثلة احتقار اليهود لغيرهم واعتبار أنفسهم أمة مختارة على سائر البشر، أن تلمودهم يتحدث عن سائر الأمم بأنهم في منزلة منحطة، ولا يمكن قبولهم كيهود حتى لو رغبوا ذلك، فالتلمود يحرم تدريس التوراة لغير اليهود.

قال رجل منا: نعم هذا ما يقوله التلمود .. أو تقوله كتبهم المقدسة.. ولكن تلك التعاليم آثار قديمة ليس لها أي لها أي تأثير في واقع الممارسات الإسرائيليّة في واقعنا اليوم.. فإسرائيل دولة ديموقراطيّة، وتلك تعاليم عنصريّة راديكاليّة؟

قال زيد: لقد بحثت في هذا أيضا، ووجدت أن كل ما يحصل من جور في السياسات العالمية سببه هذه الأفكار المدمرة التي نفخها التلمود وغير التلمود ..

لعلكم سمعتم جميعا تصريحات رئيس وزراء إسرائيل (بيغن) بعدما سببه من دمار وقتل يفوق الخيال بغزو لبنان.. لقد رد بيغن حينها بصلف على تساؤلات الأمريكيين حول المذابح التي ارتكبت قائلاً: (لا نشعر نحن بالمسؤولية لتبرير ما نقوم به للآخرين.. نحن فقط نبرر ذلك لأنفسنا)

وبمفهوم تلمودي فإن كلماته تعني (أن اليهود أكبر وأعلى من أن ينتقدهم القيوم (غير اليهودي) وإن كان سيد نعمتهم وحامي ديارهم وحليفهم الأول)

من أمثلة هذا التفكير العنصري الصهيوني ما نشرته صحيفة (Sunday) حول الحاخام والكيميائي اليهودي (موشيه أنتل مان) والذي يفخر بأنه استطاع تطوير رصاصة تحتوي على شحم الخنزير لاستخدامها ضد الملتزمين من المسلمين، والذين يؤمنون بأن أي اتصال مع الخنزير يفقدهم الفرصة في دخول الجنة، حسب زعمه.. ولقد قدم هذا الحاخام  اختراعه هدية لمستوطني الضفة الغربية، وبأمل أن يحصل على اهتمام البنتاغون في الاستفادة من هذا الاختراع الخنزيري العسكري.

قلنا: فلمن رحلت بعد اليهود؟

قلت: رحت إلى المسيحيين .. لقد تصورتهم أكثر الناس طيبة .. وتصورت أنهم لذلك سيتعاملون مع البشر بما تقتضيه تلك الطيبة، فلا يفرقوا بين بشر وبشر.

قلنا: فما وجدت؟

قال: لقد وجدت روائح العنصرية تفوح من كتبهم المقدسة كما تفوح من كتب اليهود المقدسة.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: أنتم تعلمون أن المسيحيين يعتمدون نفس الكتاب المقدس الذي يعتمده اليهود .. ولذلك فإن روائح العنصرية التي تفوح من العهد القديم هي نفس الروائح التي أزكمت اليهود.

قال رجل منا: ولكن العهد الجديد مختلف .. مختلف تماما.

ابتسم، وقال: فبماذا تفسر ما ورد في الإنجيل من أن امرأة مؤمنة من كنعان[3]، وهم سكان فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل، جاءت المسيح، وأنها ظلّت تتوسل إليه، ولكنه لم يُلبّ طلبها إلا بعد أن أهدرت كرامتها، وقورنت بالكلاب، ورضيت.

اسمعوا ما جاء في إنجيل متى ، وهو الإنجيل الذين يستند إليه المسيحيون في نسبة العالمية للمسيحية:( ثُمَّ غَادَرَ يَسُوعُ تِلْكَ الْمِنْطَقَةَ، وَذَهَبَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي، قَدْ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ صَارِخَةً: (ارْحَمْنِي يَاسَيِّدُ، يَاابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مُعَذَّبَةٌ جِدّاً، يَسْكُنُهَا شَيْطَانٌ) لكِنَّهُ لَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ، فَجَاءَ تَلاَمِيذُهُ يُلِحُّونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ( اقْضِ لَهَا حَاجَتَهَا. فَهِيَ تَصْرُخُ فِي إِثْرِنَا! )، فَأَجَابَ: (مَا أُرْسِلْتُ إِلاَّ إِلَى الْخِرَافِ الضَّالَّةِ، إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ!)، وَلكِنَّ الْمَرْأَةَ اقْتَرَبَتْ إِلَيْهِ، وَسَجَدَتْ لَهُ، وَقَالَتْ: (أَعِنِّي يَاسَيِّدُ!)، فَأَجَابَ: (لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِجِرَاءِ الْكِلاَبِ!)، فَقَالَتْ: (صَحِيحٌ يَاسَيِّدُ؛ وَلكِنَّ جِرَاءَ الْكِلاَبِ تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَوَائِدِ أَصْحَابِهَا!)(متّى 15: 23 ـ 27)

قال الرجل: ولكن المسيح أجاب المرأة .. فقد ورد في (متى: 28) :( فَأَجَابَهَا يَسُوعُ:( أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ مَا تَطْلُبِينَ!) فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ )

قال زيد: أرأيت لو أن شخصا لم يلب طلبك البسيط بالنسبة له إلا بعد أن أهان كرامتك، واحتقرك، بل سماك كلبا، ثم لم يلبه إلا بعد إلحاح شديد، بل بعد سجودك له.. أتعتبر مثل هذا إنسانا محترما لا يحمل أي عنصرية.

سكت الرجل، فقال ويد: ومع ذلك المسيحيون يعتبرونه إلها .. هل الإله هو الذي يفضل شعبا على شعب .. وأمة على أمة؟

قال الرجل: ولكن ورد في لوقا ما ينقض هذا .. لقد ذكر قائد المئة الرومي والذي جاء المسيح إليه بدلاً من أن يذهب هو بنفسه إلى المسيح.. اسمع ما ورد في (لوقا 7: 1 ـ 10):( وَبَعْدَمَا أَتَمَّ إِلْقَاءَ أَقْوَالِهِ كُلِّهَا فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ، دَخَلَ بَلْدَةَ كَفْرَنَاحُومَ. وَكَانَ عِنْدَ قَائِدِ مِئَةٍ عَبْدٌ مَرِيضٌ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزاً عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِيَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ الْيَهُودِ، مُتَوَسِّلاً إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ وَيُنْقِذَ عَبْدَهُ. وَلَمَّا أَدْرَكُوا يَسُوعَ، طَلَبُوا إِلَيْهِ بِإِلْحَاحٍ قَائِلِينَ: (إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ تَمْنَحَهُ طَلَبَهُ، فَهُوَ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَقَدْ بَنَى لَنَا الْمَجْمَعَ). فَرَافَقَهُمْ يَسُوعُ. وَلَكِنْ مَا إِنْ أَصْبَحَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ الْمِئَةِ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ، يَقُولُ لَهُ: (يَاسَيِّدُ، لاَ تُكَلِّفْ نَفْسَكَ، لأَنِّي لاَ أَسْتَحِقُّ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتِي. وَلِذلِكَ لاَ أَعْتَبِرُ نَفْسِي أَهْلاً لأَنْ أُلاَقِيَكَ. إِنَّمَا قُلْ كَلِمَةً، فَيُشْفَى خَادِمِي: فَأَنَا أَيْضاً رَجُلٌ مَوْضُوعٌ تَحْتَ سُلْطَةٍ أَعْلَى مِنِّي، وَلِي جُنُودٌ تَحْتَ إِمْرَتِي، أَقُولُ لأَحَدِهِمْ: اذْهَبْ! فَيَذْهَبُ؛ وَلِغَيْرِهِ: تَعَالَ! فَيَأْتِي؛ وَلِعَبْدِي: افْعَلْ هَذَا! فَيَفْعَلُ). فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ، تَعَجَّبَ مِنْهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَقَالَ: (أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ حَتَّى فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً عَظِيماً كَهَذَا!) وَلَمَّا رَجَعَ الْمُرْسَلُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَجَدُوا الْعَبْدَ الْمَرِيضَ قَدْ تَعَافَى )

قال زيد فرق كبير بين المرأة الكنعانية البسيطة، وهذا القائد .. إن كتبة الإنجيل رغم رفضهم لضعفاء الأمم حتى وإن آمنوا ،لا نجدهم يحتقرون أولي النفوذ والقوة،كملّة اليهود من قبلهم الذين كانوا على مدى تاريخهم ترتعد فرائصهم من أولي البأس والسلطان .. حتى إنهم ينافقونهم، ويخدمونهم، ويسجدون لهم.

لقد قال بولس، وهو ينافق السلطة الوثنية الغالبة في عصره:( عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أَنْ تَخْضَعَ لِلسُّلْطَاتِ الْحَاكِمَةِ. فَلاَ سُلْطَةَ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالسُّلْطَاتُ الْقَائِمَةُ مُرَتَّبَةٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ. حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَةَ، يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَجْلِبُونَ الْعِقَابَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لاَ يَخَافُهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاَحَ بَلْ مَنْ يَفْعَلُ الشَّرَّ. أَفَتَرْغَبُ إِذَنْ فِي أَنْ تَكُونَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنَ السُّلْطَةِ؟ اعْمَلْ مَا هُوَ صَالِحٌ، فَتَكُونَ مَمْدُوحاً عِنْدَهَا، لأَنَّهَا خَادِمَةُ اللهِ لَكَ لأَجْلِ الْخَيْرِ. أَمَّا إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّ السُّلْطَةَ لاَ تَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً، إِذْ إِنَّهَا خَادِمَةُ اللهِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْتَقِمُ لِغَضَبِهِ مِمَّنْ يَفْعَلُ الشَّرَّ. وَلِذَلِكَ، فَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ تَخْضَعُوا، لاَ اتِّقَاءً لِلْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ مُرَاعَاةً لِلضَّمِيرِ أَيْضاً. فَلِهَذَا السَّبَبِ تَدْفَعُونَ الضَّرَائِبَ أَيْضاً، لأَنَّ رِجَالَ السُّلْطَةِ هُمْ خُدَّامٌ لِلهِ يُوَاظِبُونَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ بِعَيْنِهِ. 7فَأَدُّوا لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقَّهُ: الضَّرِيبَةَ لِصَاحِبِ الضَّرِيبَةِ وَالْجِزْيَةَ لِصَاحِبِ الْجِزْيَةِ، وَالاحْتِرَامَ لِصَاحِبِ الاحْتِرَامِ، وَالإِكْرَامَ لِصَاحِبِ الإِكْرَامِ )(روميه 13/1 ـ 7)

قلنا: فلمن لجأت بعد أن لم تجد بغيتك عند أتباع المسيح؟

قال: بعد أن يئست من الأديان رحت أبحث في البلدان .. لعلي أجد أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات استطاعت أن تحطم وهم العنصرية لترى البشر بشرا.

قلنا: فبم بدأت؟

قال: بدأت ببلاد الفرس ..

قلنا: فما وجدت؟

قال: وجدت نفس الروائح التي تفوح بالعنصرية .. لقد رأيت أكاسرتهم ـ ملوكهم ـ يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، ولذلك كانت الرعية تنظر إليهم كما تنظر للآلهة، بل يعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فكانوا يُكَفّرون لهم، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد ، وفوق البشر، لا يجري اسمهم على لسانهـم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم.

ورأيتم يعتقدون في بيوتات الأشراف من قومهم، فيرونهم فوق العامة في طينتهم، وفوق مستوى الناس في عقولهم، ونفوسهم، ويعطونهم سلطة لا حد لها، ويخضعون لهم خضوعاً كاملاً.

يقول البروفسور (أرتهر سين) مؤلف تاريخ (إيران في عهد الساسانيين): (كان المجتمع مؤسساً على اعتبار النسب والحرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها. وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً. وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع)

قلنا: فلمن ذهبت بعد بلاد فارس؟

قال: ذهبت إلى بلاد الإغريق .. وقد وجدت التفاضل بين البشر عندهم قائماً، فقد كانوا يعتقدون أنهم شعب خصهم الله بكريم الصفات الإنسانية، من عقل وإرادة، وأن غيرهم من سائر البشر لم يشاركوهم في كريم صفاتهم الإنسانية؛ ولذلك فقد كانوا يطلقون على غيرهم من الشعوب اسم البرابرة، إشارة إلى أن مرتبة كل الشعوب لا تستطيع أن تسمو إلى مرتبتهم في الصفات الإنسانية الكاملة، وأصبحوا ينظرون إلى من أسموهم البرابرة نظرة احتقار وازدراء، بالرغم من أنهم لا يختلفون عن اليونان إلا في اللغة والعادات.

وكان فيلسوفهم (أرسطو) يؤكد أن هؤلاء البرابرة لم يخلقوا إلا ليقرعوا بالعصا ويستذلهم ويستعبدهم شعب اليونان.

كما أنه يسود عندهم نظام طبقي منحط، فشعبهم مقسم إلى أحرار وأرقاء .. وللأحرار كل الحقوق السياسية لا تفرقة بينهم من حيث الثروة أو المركز الاجتماعي في التأثير في مساهماتهم في الحياة السياسية أو تقلدهم الوظائف العامة، وأما الأرقاء وهم الأكثر عدداً بالنسبة لهؤلاء الأحرار، فليس لهم أدنى الحقوق وإنما هم مبعدون عن أي نشاط في هذا المجتمع.

قلنا: فلمن ذهبت بعد الإغريق؟

قال: إلى الرومان .. وقد رأيتهم من خلال فكرهم وسلوكهم يعتبرون أنفسهم أوصياء على الإنسانية كلها، ولذلك بسطوا سلطانهم بحد السيف على الكثير من الشعوب، واستعملوا في سبيل ذلك كل الوسائل التي توصلهم إلى ما يبتغونه، سواء أكانت هذه الوسائل شريفة أم حقيرة، واستطاعوا في النهاية أن يسيطروا على معظم أجزاء العالم معتبرين أنفسهم سادته.

ولم تكن قوانينهم ونظمهم تساوي بين الرومان وغيرهم من سائر الشعوب التي يتحكمون في مصائرها، وإنما يعتبرون غير الروماني من طبقة أدنى من طبقة الرومان ليس له الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء، وإنما قد خلق ليكون رقيقاً يخدم فقط وليس من حقه التطلع إلى ما وراء ذلك.

ولذلك فإنهم انطلاقاً من هذا المعتقد وضعوا نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: القانون المدني، وهو خاص بالشعب الروماني نفسه.. وثانيهما: قانون الشعوب، وهو خاص بسكان البلاد التي احتلها الرومان.

قلنا: لقد ذكرت لنا ما وجدت عند أهل الملل والحضارات، فحدثنا عما وجدت في الإسلام.

قال: لقد رأيت أن الإسلام لم يكتف فقط بأن يؤمن بالمساواة، وهي مطلبي الأدنى الذي كنت أطلبه .. بل رأيته صرخة كبرى، وثورة عظمى ضد الطبقية والعنصرية وكل ما يفرق بين البشر بأي سبب من الأسباب.

قلنا: فحدثنا عن ذلك.

قال: لقد رأيت الإسلام يعمق الحقائق التي تتطلبها المساواة في كلا الركنين اللذين تتكون منهما اختيارات الإنسان: التصور والسلوك.

1 ـ التصور

قلنا: فحدثنا كيف عمق الإسلام حقائق المساواة عبر التصور.

قال: لقد بدأ الإسلام بتصحيح التصورات التي كان البشر ـ بموجبها ـ يتعالى بعضهم على بعضهم، ويتسيد بعضهم على بعض.. وكان من أهم ما جاء به، بل كاد ينفرد به أربع تصورات .. كل تصور منها أكسير من الأكاسير التي تقضي على الكبرياء والخيلاء والزهو الكاذب.

وحدة الإله:

قلنا: فما التصور الأول؟

قال: وحدة الإله.

قال رجل منا: وما علاقة وحدة الإله بهذا؟

قال آخر: لقد رأينا العنصرية عند اليهود مع كونهم يعبدون إلها واحدا.

قال زيد: نعم .. هم يعبدون إلها واحدا .. لكنه إله مشوه .. بل هو إله قومي لا علاقة له إلا بإسرائيل .. ولا يهتم إلا بإسرائيل ..

لقد ورد في سفر (التثنية: 14/2) عن اليهود: (لأنك شعب مقدَّس للرب إلهك. وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض)

وفي سفر (اللاويين:20/24، 26): (أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب.. وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميَّزتكم من الشعوب لتكونوا لي)

ويشكر اليهودي إلهه في كل الصلوات لاختياره الشعب اليهودي.. وحينما يقع الاختيار على أحد المصلين لقراءة التوراة عليه أن يحمد الإله لاختياره هذا الشعب دون الشعوب الأخرى، ولمنحه التوراة علامة على التميز.

والإله في تصور هؤلاء الذين غذوا بمثل هذه النصوص والشعائر لا يعدو أن يكون إلها قوميا خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7)

ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع.

ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب .. ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده.. والغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه.. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود، ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدَّس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين.. ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة[4] .. وقد قرأت لكم من قبل من التلمود ما يبين لكم ما يحمله هذا الشعب من عنصرية مقيتة يلبسها لباس الدين.

قلنا: عرفنا تصورات اليهود، فحدثنا عن تصورات المسلمين.

قال: يعتقد المسلمون جميعا أن الله الذي خلق كل شيء هو رب كل شيء والمتصرف فيه، ولذلك لا يحق لأحد مهما كان أن يتعالى عليه أو يتوهم نفسه أفضل منه، فالله هو الذي يفضل لا الإنسان.. 

ففي أول سورة من القرآن يكررها المسلم كل حين يقول الله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) (الفاتحة)، فيعرف المؤمن من خلالها أن ربه هو رب كل شيء ومليكه، وأنه لا يحق لذلك لأحد أن يفخر على أحد أو يتيه عليه.

لقد تكرر هذا الوصف لله في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، يقول تعالى :﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) (البقرة) .. انظروا كيف قرن الله تعالى هنا بين الإسلام لله وكونه رب العالمين.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى :﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) (الأنعام)

ويقول تعالى حاكيا عن ابن آدم الصالح الذي رفض أن يمد يده لقتل أخيه:﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) (المائدة) .. انظروا ما توحي به هذه المقولة من احترام الإنسان، بل احترام العالمين جميعا لكون الله هو ربهم.

وهكذا نجد القرآن الكريم يملأ كيان المؤمن أثناء توجهه لله رب العالمين باحترام العالمين جميعا وعدم التيه عليهم لأن الله هو ربهم الذي خلقهم، وما كان للمؤمن أن يحتقر ما خلق الله.

وفي الحديث قال رسول الله r حاكيا عن ربه عز وجل، وهو يخاطب عبده يوم القيامة: يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني ، فيقول : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : إن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه ، أما علمت لو إنك أطعمته لوجدت ذلك عندي . يا ابن آدم ! استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)[5]

انظروا كيف يخاطب الله عبده ويعاتبه على تقصيره في حق عباده دون أن يحدد في ذلك جنسا دون جنس أو لونا دون لون .. لأن الكل عباده.

وحدة البشرية:

قلنا: عرفنا التصور الأول، فما التصور الثاني؟

قال: وحدة البشرية.

قلنا: ما تريد بذلك؟

قال: لا شك أنكم تعرفون أن البشرية في جميع أطوارها كانت تعتقد بأن هناك دماء أفضل من دماء، وأن هناك شعوبا أفضل من شعوب.

قال رجل منا: ذلك في العصور البدائية القديمة.

قال: بل لا يزال لذلك دعاة نشطون، بل علماء وباحثون يستعملون كل الوسائل لإقناع البشر بهذا التمييز العنصري المقيت ..

لاشك أنكم تعرفون أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بدأ بالفلسفة الإنسانية الهيومانية التي تتمركز حول الإنسان وتضعه بشكل كامل فوق الطبيعة، باعتبار أن له عقلاً قادراً على توليد معياريته وقيمه وغائيته من داخله.. وهذه هي العنصرية الأولى.

تلتها عنصرية أخرى حين تحوَّلت تلك الهيومانية تدريجياً إلى فلسفة إنسانية غربية متكبرة متعجرفة تحوسل الطبيعة وتحلم بالتحكم الكامل في الكون.. ثم أصبح الإنسان الغربي هو وحده هذا المركز .. ومن ثم، بدلاً من توظيف الطبيعة وتسخيرها للإنسانية جمعاء بدأ الإنسان الغربي في حوسلة بقية البشر والطبيعة باسم حقوقه المطلقة وباسم تفوقه الحضاري. فتحولت الهيومانية إلى إمبريالية كاملة لا تعترف إلا بالقوة والتفوق العرْقي باعتبارها المعايير الوحيدة.. وهكذا تدهورت الهيومانية الغربية إلى إمبريالية وعرْقية وعداء صريح للآخر وللإنسان ككل[6].

للأسف .. لا يزال هذا الفكر هو المسيطر على الإنسان الغربي إلى الآن ..

في مقابله نرى الإسلام يعطي كل شيء حقه ومحله في هذا الوجود .. فلا يطغى شيء على شيء، ولا يحتقر شيء شيئا.

هذا على مستوى الطيبعة.

أما على مستوى الإنسان، فالبشر كلهم في منطق الإسلام إخوة .. أبوهم واحد .. وأمهم واحدة .. وهم سواء في القدرات الإنسانية .. قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(13) (الحجرات)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) (النساء)، وقال :﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) (الزمر)، وقال:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) (الأنعام)

وهكذا نجد القرآن الكريم لا يخص جنسا دون جنس فخطابه .. فلا نرى فيه أبدا (يا معشر العرب) .. أو (يا أيها العرب) .. بل نرى الخطاب فيه موجها للبشر جميعا (يا أيها الناس) .. أو (يا بني آدم)

وهكذا نجد النبي r ينهى عن الفخر مذكرا بوحدة البشرية وانتمائها .. ففي الحديث قال رسول الله r :( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا ، إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل[7]، الذي يدهده[8] الخرأة بأنفه .. إن الله أذهب عنكم عبية[9] الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب)[10]

وقال: ( إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون)[11] 

وقال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)[12]

وقال: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم  ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا)[13]

وقال في خطبة الوداع فقال:( يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل  لعربي على   عجمي  ولا لعجمي على   عربي  ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله،  قال: فليبلغ الشاهد الغائب) [14]

وحدة الموازين:

قلنا: عرفنا التصور الثاني، فما التصور الثالث؟

قال: وحدة الموازين.

قلنا: ما تريد بذلك؟

قال: لقد وضع الله موازين واحدة للبشر جميعا .. فليس هناك موازين لأمة دون أمة ولا لشعب دون شعب .. لقد أشار إلى ذلك قوله تعالى :﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) (النساء)

وقال منكرا على من غرته الأماني:﴿ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ (لنجم:24)أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له، وقد عقبت هذه الآية بقوله تعالى:﴿  فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ (لنجم:25)، وكأنها تشير إلى أن عجز الأماني وقصورها عن تحقيق مطالب الإنسان في الدنيا هو نفسه عجزها وقصورها عن تحقيق مطالبه في الآخرة.

ومن الأماني التي تصورها الخلق بديلا عن الكسب الاغترارا بالأنساب، وتوهم أنها من القوة بحيث تحول بين الله وعقوبة من يستحق العقوبة، فيتساوى في منطقها الصائم القائم بالسكير الفاجر لأن نسب الفاجر ـ على حسب هذا الوهم ـ من القوة ما يلغي عدالة الله بين عباده.

ولهذا أنكر تعالى على الأمم قبلنا هذا الوهم، فقال تعالى:﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (المائدة:18)

وأخبر تعالى أن لكل أمة ما كسبت، فلا يسأل إلا المكتسب، قال تعالى:﴿  تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:134)، أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.

وقد أشار تعالى إلى هذا عدم جدوى هذا الوهم بقوله على لسان يعقوب u:﴿ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (يوسف: من الآية67)

وإلى هذا أيضا يشير قوله تعالى مخاطبا رسوله r من أن الأمر لله وحده، قال تعالى:﴿  لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (آل عمران:128)

ولهذا ورد في الحديث قوله r:(  ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه علما إلا سهل الله له طريق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)[15] 

وفي هذا الحديث جمع لطيف بين المجتهد الذي يسلك طريق العلم، فيسلك بسلوكه طريق الجنة، وبين من يكتفي بالقعود مع التغني بأمجاد سلفه التي لا تغني عنه شيئا.

ولهذا كان رسول الله r يشتد في نفي هذه الأنواع من الأوهام، وقد قرأ مرة قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)

ثم قال:( فليس لعربى على عجمى فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لاسود على أبيض فضل، ولا لابيض على أسود فضل، الا بالتقوى، يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على أعناقكم، ويجئ الناس بالاخرة، فانى لا أغني عنكم من الله شيئا)[16]

وكان يخاطب قبيلته وأهل بيته قائلا:( يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف اشتروا انفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا)[17]  

ومن الأماني الانتساب إلى مذاهب أو أديان مع الخلو من الأعمال، فيتصور المتوهم أن انتسابه وحده كاف في نجاته، ولذلك قال تعالى رادا على بني إسرائيل في قولهم:﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ (البقرة: من الآية111)

وقد رد الله تعالى على هذا الوهم بقوله تعالى:﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: من الآية111)

وحدة المصير:

قلنا: عرفنا التصور الثالث، فما التصور الرابع؟

قال: وحدة المصير.

قلنا: ما تريد بذلك؟

قال: بما أن الموازين التي تحكم البشر واحدة، وهي موازين في منتهى العدل .. فإن مصير البشر واحد.

قلنا: ما تقصد بذلك؟

قال: لقد كان اليهود ـ بسبب عنصريتهم الوقحة ـ يزعمون أن لهم عند الله مقاما خاصا بحيث لا يعذبون، فإذا عذبوا، فإنهم لن يمكثوا في العذاب إلا فترة محدودة .. وقد رد الله عليهم هذا، وأعلمهم أنهم كسائر الناس، فلا ينجو في الآخرة إلا المصلحون .. قال تعالى :﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)(البقرة)

وفي موضع آخر قال :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) (آل عمران)

تأملوا هذين الموضعين والحقائق العظيمة التي يحملانها .. إنهما يصححان تلك التصورات المنحرفة التي تجعل الله يفاضل بين عباده من غير سبب ولا علة تستوجب التفضيل .. وهما يذكران الإنسان بأن مصيره خاضع لسلوكه في الدنيا بغض النظر عن انتمائه العرقي أو المذهبي ..

وبناء على هذا فإن الخلق في الدنيا والآخرة يصنفون بحسب أعمالهم، ويجازون بحسب أصنافهم، فلا يدخل في كل صنف إلا من وفر من دلائل انتسابه ما يؤهله لذلك.

لقد ذكر الله تعالى عدم جدوى الأنساب في ذلك اليوم، فقال:﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) (عبس)

ولهذا نفت الآيات القرآنية الكثيرة أي مساواة بين العامل والمتكاسل، أو بين المصلح والمفسد، قال تعالى:﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (صّ:28)

وفي آية أخرى يستفهم مستنكرا:﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ (القلم:35)

وقد شبه الله تعالى ـ لتقريب الصورة للأذهان ـ ولإقناع العقل المجادل بصحة هذا التصنيف ـ بعدم تساوي التعامل مع ما نراه من المحسوسات، فقال تعالى:﴿ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث﴾ (المائدة: من الآية100)

وشبه ذلك بالبحار المختلفة الطعوم والمنافع، قال تعالى:﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (فاطر:12)

وشبه ذلك بالتمايز الذي نراه بين الحي والميت، فقال تعالى:﴿  وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ (فاطر:22) 

وشبه الفريقين من المؤمنين وغيرهم بالمنعم عليهم بالحواس والفاقدين لها، قال تعالى:﴿  مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (هود:24)، وقال تعالى:﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ (الرعد: من الآية16)

وشبه الفريقين بالأحرار والعبيد، فقال تعالى:﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:76)، وقال تعالى:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر:29)

ولهذا، فإنه لا يستوي ـ في ميزان العقل ـ المجتهد بالمتكاسل والعامل بالمقعد والقائم بالنائم، قال تعالى:﴿  أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:9)

ولا يستوي المجاهدون المضحون بأنفسهم في سبيل الله بالراكنين إل مخادع الرخاء، قال تعالى:﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء:95)

وهذا التفريق شامل لأجزية الدنيا والآخرة، قال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (الجاثـية:21)

فحكمة الله وعدالته التي قام عليها السموات والآرض تأبى المساواة بين المسيء والمحسن، قال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ (لنجم:31)

 

2 ـ السلوك

قلنا: عرفنا الركن الأول .. فحدثنا عن الثاني .. حدثنا عن السلوك.

قال: لا يطيق هذا المجلس الحديث عن تفاصيله .. ولذلك سأكتفي لكم بمجامعه وأسسه وأركانه.. وهي أربع كالتي سبق.

الدعوة:

قلنا: فحدثنا عن الأول.

قال: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) (الأنبياء)، وقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ : 28)، وقال :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (الأعراف: 158)، وقال :﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام:19)

ففي هذه الآيات جميعا يخبر الله تعالى أن الدعوة التي جاء رسول الله r لتبليغها، وهي دعوة الإسلام، ليست خاصة بجنس دون جنس أو قوم دون قوم .. بل هي للعالمين جميعا، كما قال r :( أرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون)[18]

وهي دعوة اجتمعت فيها جميع دعوات الأنبياء وما أنزل عليهم .. ولذلك فإن من أصول عقائد الإسلام أن من كفر بنبي واحد ، أو رسول واحد ، أو آمن ببعض وكفر ببعض ، فهو كمن كفر بالله وجحده ، وقد فرق بين الله ورسله ، ولا ينفعه إيمانه ببقية الرسل ؛ ذلك أن الرسل حملة رسالة واحدة ، ودعاة دين واحد ، وإن اختلفت شرائعهم، ومرسلهم واحد ، فهم وحدة يبشر المتقدم منهم بالمتأخر ، ويصدق المتأخر المتقدم، قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) (النساء)

ولهذا كان من تربية الله لنبيه r نهيه أن يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء .. قال تعالى :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) (عبس)

لقد نزلت هذه الآيات في بداية الإسلام، وهي تقرر موقف الإسلام الشديد في هذا الباب.

لقد كان النبي r ـ في ذلك الحين ـ مشغولاً بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، فكره رسول الله r هذا وعبس وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول r ؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم ، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها[19].

وقد توالت الأوامر الإلهية في هذا الباب، قال تعالى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين (الأنعام:52)، وقال :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (الكهف : 28)

التكليف:

قلنا: عرفنا الأول .. فحدثنا عن الثاني.

قال: كما يستوي البشر في وجوب دعوتهم إلى دين الله .. فهم يستوون في وجوب تطبيق التكاليف .. وهم ينالون أجزيتهم ومراتبهم بحسب قيامهم بالتكاليف لا بحسب أعراقهم أو منازلهم الاجتماعية.

لقد نص القرآن الكريم على هذا في مواضع كثيرة منه.. وبأساليب متفرقة:

فالله تعالى يبين أن أمانة التكليف تحملها الإنسان بوصفه إنسانا بغض النظر عن جنسه ولونه، قال تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) (الأحزاب)

وبين أن قيمة الإنسان وكرامته عند الله بقدر تقواه التي تعني قيامه بأداء التكاليف التي أمر بها، قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) (الذاريات)

وبما أن الكثير من الشعوب كانت تمتهن المرأة، وتتصور أنها أدنى قيمة من الرجل، فلذلك لا تكلف بما يكلف به الرجل، فقد ورد في النصوص ما يبين أن لها مستوى الرجل في وجوب التكاليف وفي أنواع الجزاء المترتبة عليها.

ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ (آل عمران: 195)، وقال :﴿ وَالْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْـخَاشِعِينَ وَالْـخَاشِعَاتِ وَالْـمُتَصَدِّقِينَ وَالْـمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْـحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْـحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الأحزاب: 35)، وقال:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97) (النحل)

وبناء على هذا فإن مراتب العباد لا تخضع لأجناسهم وألوانهم وإنما تخضع لمدى اجتهادهم في تنفيذ ما أمروا به من التكاليف، قال تعالى :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ (السجدة: 18)، وقال :﴿ أَفَنَجْعَلُ الْـمُسْلِمِينَ كَالْـمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (القلم: 35 – 36)، وقال :﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْـمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْـحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء: 95)، وقال :﴿ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْـحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (الحديد: 10)

القانون:

قلنا: عرفنا الثاني .. فحدثنا عن الثالث.

قال: لقد رأيت في مسيرة بحثي عن شريعة الحق أن القانون الوضعي كان ـ حتى آخر القرن الثامن عشر[20] ـ يميز بين الأفراد، ولا يعترف بالمساواة بين المحكومين، وكان يميز بينهم في المحاكمة وفي توقيع العقوبة، وفي تنفيذ العقوبة، وكانت المحاكم تتعدد تبعاً لتعدد طوائف الأمة، فللأشراف محاكم خاصة وقضاة من طبقة معينة، ولرجال الدين محاكم خاصة وللجمهور محاكم خاصة، ولكل من هاتين الطائفتين قضاتهم. وكانت الجريمة الواحدة يعاقب عليها أمام هذه المحاكم المختلفة بعقوبات مختلفة، وكان لشخصية الجاني اعتبارها في القانون، فالعمل الذي يأتيه الشريف ويعاقب عليه بأتفه العقوبات يعاقب عليه الشخص العادي إذا أتاه بأقصى العقوبات، وكانت العقوبة تنفذ على الشريف بطريقة تتفق مع شرفه، ولكنها تنفذ على رجل الشارع بطريقة تتفق مع ضعته وحطته؛ فإذا حكم بالإعدام مثلاً على شريف ووضيع ضربت رقبة الشريف بالسيف، وشنق الوضيع في حبل كما تشنق الكلاب، وكانت بعض الأفعال تعتبر جرائم إذا أتاها العامة يحاسبون عليها أشد الحساب، بينما يأتيها الأشراف ورجال الدين في كل وقت فلا يحاسبون عليها ولا يحاكمون عنها.

لقد بقي هذا شأن القانون الجنائي الوضعي حتى أواخر القرن الثامن عشر، حتى جاءت الثورة الفرنسية، فجعلت المساواة أساساً من الأسس الأولية في القانون، وأصبحت القاعدة أن تسري نصوص القوانين على الجميع.

لكن مبدأ المساواة بالرغم من ذلك لم يطبق تطبيقاً دقيقاً حتى الآن، إذ لم يكن من السهل التخلص من التقاليد القديمة دفعة واحدة وإنكار الماضي كله، فبقيت حالات من التمييز وعدم المساواة اعتبرت استثناءات من مبدأ المساواة التامة، وراح بعض الكتاب ينتحل لها المعاذير أو يبررها بحيل قانونية، بينما راح البعض ينتقدها ويطالب بإلغائها.

ومن أظهر الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية تميز القوانين الوضعية دائماً بين رئيس الدولة الأعلى ملكاً كان أو رئيس جمهورية وبين باقي الأفراد، فبينما يخضع الأفراد للقانون لا يخضع له رئيس الدولة بحجة أنه مصدر القانون، وأنه السلطة العليا، فلا يصح أن يخضع لسلطة هي أدنى منه وهو مصدرها.

وتعتبر بعض الدساتير ذات الملك مقدسة، كالدستور الدنمركي والدستور الأسباني قبل الجمهورية، أما الدستور الإنجليزي فيجعل ذات الملك مصونة لا تمس، ويفترض أن الملك لا يخطئ، وفي بلجيكا ومصر ذات الملك مصونة لا تمس، وكذلك كان الحال في إيطاليا ورومانيا قبل إلغاء النظام الملكي.

والأصل في النظام الجمهوري أن رئيس الجمهورية غير المسئول، وكانت شعوب العالم تعترف بهذا الوضع لرؤساء الدول الجمهورية حتى القرن التاسع عشر، ثم بدأت تخرج عليه تحقيقاً لمبدأ المساواة، فالدستور الفرنسي يجعل رئيس الجمهورية مسئولاً جنائياً في حالة واحدة هي حالة الخيانة العظمى، ودستور تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب الأخيرة أجاز التحقيق مع رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى، والدستور البولندي الذي وضع بعد الحرب سنة 1914 جعل رئيس الجمهورية مسئولاً جنائياً في حالة الخيانة العظمى والاعتداء على الدستور، كما جعله مسئولاً إذا ارتكب جريمة عادية، واشترط لمحاكمته إذن البرلمان وأغلبية خاصة.

ومن الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية تمييز رؤساء الدول الأجنبية، حيث تعفي القوانين الوضعية رؤساء الدول الأجنبية ملوكاً كانوا أو رؤساء جمهوريات من أن يحاكموا على ما يرتكبونه من الجرائم في أي بلد آخر غير بلادهم، سواء دخلوه بصفة رسمية أو متنكرين، وهذا الإعفاء يشمل كل أفراد حاشية الملك أو رئيس الجمهورية.

وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن إجازة محاكمة رؤساء الدول وأفراد حاشيتهم لا تتفق مع ما يجب لهم من كرم الضيافة والتوفير والاحترام.. وهي حجة لا تستقيم مع المنطق؛ لأن رئيس الدولة الذي ينزل بنفسه إلى حد ارتكاب الجرائم يخرج على قواعد الضيافة، و لا يستحق شيئا من التوفير و الاحترام ، و مثل هذا يقال في أفراد الحاشية.

ومن الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية تمييز رجال السلك السياسي .. حيث تعفي القوانين الوضعية المفوضين السياسيين الذين يمثلون الدول الأجنبية من أن يسري عليهم قانون الدولة التي يعملون فيها، ويشمل الإعفاء حاشيتهم وأعضاء أسرهم.. وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن الممثلين السياسيين يمثلون دولهم أمام الدولة التي يعملون في أرضها، وليس لدولة على أخرى حق العقاب، وأن الإعفاء ضروري لتمكينهم من أداء وظائفهم، وحتى لا تتعطل لتعريضهم للقبض والتفتيش والمحاكمة.. وهاتان حجتان واهيتان لأن الممثل السياسي ليس إلا فرداً من رعايا دولة أجنبية، وبذلك يكون للدولة حق العقاب على رعايا الدول الأجنبية إذا ارتكبوا جريمة في أرضها، ولا يمكن أن يعطل سريان القانون على الممثل السياسي أعمال هذا الممثل ما دام يحترم القانون ويطيعه ولا يعرض نفسه للوقوع تحت طائلته.

ومن الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية تمييز أعضاء الهيئة التشريعية، حيث تعفى القوانين الوضعية ممثلي الشعب في البلاد النيابية من العقاب على ما يصدر منهم من الأقوال أثناء تأدية وظائفهم، والمقصود من هذا الإعفاء إعطاء أعضاء البرلمان قدراً من الحرية يساعدهم على أداء وظائفهم حق الأداء، إلا أن الإعفاء بالرغم من هذا اعتداء صارخ على مبدأ المساواة؛ لأن هناك مجالس نيابية أخرى هي مجالس المديريات ليس لأعضائها أن يتمتعوا بمثل الحصانة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان، ولأن هناك من الوطنيين من يشتغل بالمسائل العامة، وله فيها تأثير أكثر مما لأي عضو من أعضاء البرلمان، وبالرغم من ذلك فهم محرومون من مثل حصانة أعضاء البرلمان.

ومن الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية تمييز الأغنياء على الفقراء في كثير من الحالات، ومن الأمثلة على ذلك أن قانون تحقيق الجنايات في كثير من البلاد يوجب على القاضي أن يحكم بالحبس في كثير من الجرائم، على أن يقدر للمحكوم عليه كفالة مالية إذا دفعها أجل تنفيذ الحكم عليه حتى يفصل في الاستئناف وإن لم يدفعها حبس دون انتظار لنتيجة الاستئناف.

وفي هذا خروج ظاهر على مبادئ المساواة، إذ يستطيع الغني دائماً أن يدفع الكفالة فلا ينفذ عليه الحكم، بينما يعجز الفقير عن دفعها في أغلب الأحوال فينفذ عليه الحكم في الحال.

ومن ذلك تمييز القوانين الوضعية الظاهرين من أفراد الجماعة على غيرهم، ومن أمثلة ذلك أن بعض القوانين تتيح لوكيل النيابة أن يرفع الدعوى العمومية على المتهم في جنحة دون استئذان جهة ما، ولكن إذا كان المتهم موظفاً أو محامياً أو طبيباً أو عضواً في البرلمان أو شخصية ظاهرة فإن وكيل النيابة لا يستطيع رفع الدعوى العمومية إلا بعد استئذان جهات معينة، ويجوز لوكيل النيابة أن يحفظ القضية اكتفاء بجزاء إداري يوقع على الموظف أو الطبيب أو المحامي، وبذلك ينجو المتهم من العقوبة الجنائية، ومثل هذا الحفظ غير ممكن بالنسبة لأفراد الشعب العاديين.

وتجيز هذه القوانين لمن وقع عليه ضرر من جريمة أن يطالب بتعويض ما أصابه من الضرر، والمحاكم حين تقدر هذا التعويض تراعي مركز الشخص وماله، وما أصابه من ضرر وما فاته من نفع، فلو أن مدير شركة وعاملاً في نفس الشركة أصيبا في حادث واحد بإصابات متماثلة فطالبا بتعويض، لكان التعويض الذي يحكم به لمدير الشركة ضخماً كبيراً، ولكان التعويض الذي يحكم به للعامل تافهاً ضئيلاً.

قلنا: عرفنا ما جاءت به القوانين الوضعية .. فما الذي جاء به الإسلام في هذا الباب؟

قال: عندما أدركت أن القوانين قديمها وحديثها مهيضة الجناح، لم تسو بين الرؤساء والمرءوسين، والحاكمين والمحكومين، ولم تسو بين الفرد والفرد، ولا بين الجماعة والجماعة، ولا بين الغني والفقير.. رحت أبحث عن المساواة في شريعة الإسلام .. وقد رأيت من ذلك ما ملأني بالعجب.

قلنا: فحدثنا عما رأيت.

قال: لقد رأيت أن المساواة التي لم يتم نضجها وتكوينها في القانون الوضعي الحديث قد نضجت تمام النضج، وتكونت تمام التكوين في الشريعة الإسلامية.. ولا تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بهذا فقط، بل تمتاز عليها أيضاً بأنها عرفت نظرية المساواة على هذا الوجه من أربعة عشر قرناً، بينما لم تبدأ القوانين الوضعية بمعرفتها إلا في آخر القرن الثامن عشر.

ويستطيع المفكرون المثاليون طلاب المساواة التامة أن يرجعوا إلى الشريعة الإسلامية، فإن المساواة التامة التي يبحثون عنها قائمة في الشريعة، يحوطها من جمال التكوين، وجلال التقنين، وعدالة التشريع، ما يبهر أبصارهم ويحير ألبابهم، ولكنه دون شك يحقق أحلامهم ويشبع أطماعهم.

قلنا: لقد شوقتنا .. فحدثنا.

قال: لقد رأيت أن الشريعة الإسلامية جاءت من يوم نزولها بالمساواة التامة، فقررت المساواة على إطلاقها، فلا قيود ولا استثناءات، وإنما هي مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، ومساواة تامة بين الرؤساء والمرءوسين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي.

فالناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، متساوون في الحقوق، متساوون في الواجبات، متساوون في المسؤوليات، وهم في ذلك كأسنان المشط الواحد لا تزيد سن عن سن، ولا تنقص سن عن سن، أو هم في ذلك كأبناء الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ترشحهم وحدة أصلهم إلى المساواة في حقوقهم وواجباتهم ومسؤولياتهم، لا فضل لرجل على رجل كما فضل أبناء إنجلترا وفرنسا على أبناء المستعمرات التابعة لهاتين الدولتين، ولا فضل لأبيض على أسود كما فضل الأمريكي الأبيض على الأمريكي الأسود، ولا فضل لعربي على عجمي، أي لا فضل لجنس على جنس كما ادعت ألمانيا وغيرها من دول أوروبا أفضليتها على بقية الأجناس.

والتقوى هي وحدها نصاب التفاضل بين الناس في الشريعة الإسلامية، ولكنه تفاضل في حدود معينة، تفاضل بين الناس عند ربهم فقط، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وكون التقي كريماً على الله لا يعطيه حقاً عند الناس يزيد على ما لغيره من الحقوق، فالتقوى صفة تؤثر في صلة الإنسان بربه أكثر مما تؤثر في صلة الإنسان بغيره، والتفاضل الذي ينشأ عن التقوى هو تفاضل معنوي لا مادي.

وتطبق الشريعة مبدأ المساواة إلى أوسع مدى يتصوره العقل البشري، ولهذا لا تفرق نصوصها بين الرؤساء والمرءوسين، ولا بين الملوك والسوقة، ولا بين ممثلي الدول السياسيين والرعايا العاديين، ولا بين ممثلي الشعب وأفراده، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الظاهرين والخاملين.

قلنا: فحدثنا عن المساواة بين رؤساء الدول والرعايا.

قال: : تسوي الشريعة بين رؤساء الدول والرعايا في سريان القانون، ومسئولية الجميع عن جرائمهم، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدول في الشريعة أشخاصاً لا قداسة لهم، ولا يمتازون عن غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد.

وقد كان الرسول r وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازاً، وكان يقول دائماً :﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ (الكهف: 110)، و﴿ هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (الإسراء: 93)

وكان r قدوة لخلفائه وللمسلمين في توكيد معاني المساواة بين الرؤساء والمرءوسين.. دخل عليه أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال له r :( هوَّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد)[21]

وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل ابن عباس وعلي حتى جلس على المنبر، ثم قال: (أيها الناس من كنت جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قِبَلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليَّ من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس)، ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى[22].

وجاء خلفاء الرسول r من بعده، فاهتدوا بهديه، واستنوا بسنته، فهذا أبو بكر الصديق يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة، فتكون أول كلمة يقولها توكيداً لمعنى المساواة، ونفياً لمعنى الامتياز .. لقد قال: (أيها الناس، قد وُليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأت فقوموني).. ثم يعلن في آخر كلمته أن من حق الشعب الذي اختاره أن يعزله، فيقول: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)

وهذا عمر يولى الخلافة فيكون أكثر تمسكاً بهذه المعاني، حتى إنه ليرى قتل الخليفة الظالم.. خطب يوماً فقال: (لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جَنِفَ قتلوه)، فقال طلحة: وما عليك لو قلتَ وإن تعوج عزلوه، قال: (لا، القتل أنكل لمن بعده)

وأعطى أبو بكر القَوَد من نفسه، وأقاد للرعية من الولاة.. وفعل عمر مثل ذلك، وتشدد فيه، فأعطى القود من نفسه أكثر من مرة.. ولما قيل له في ذلك قال: رأيت رسول الله r يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي[23].

ومن تشدد عمر في هذا الباب أنه ضرب رجلاً، فقال له الرجل: إنما كنتُ أحد رجلين: رجل جهل فعُلَّم، أو أخطأ فعُفي عنه. فقال له عمر: صدقت، دونك فامتثِل؛ أي اقتص.

وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وال رعيته إلا أقاد من الوالي للمظلوم، وأعلن على رءوس الأشهاد مبدأه في موسم الحج، حيث طلب ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس قال: (أيها الناس، إني ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعل به شئ سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفس عمر بيده لأقصنَّه منه). فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟ فقال: (أي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه وقد رأيت النبي r يقص من نفسه)

وقد جرى العمل في الشريعة على محاكمة الخلفاء والملوك والولاة أمام القضاء العادي، وبالطريق العادي، فهذا هو علي بن أبي طالب في خلافته يفقد درعاً له ويجدها مع يهودي يدعي ملكيتها، فيرفع أمره إلى القاضي، فيحكم لصالح اليهودي ضد علي.. وهذا هو المغيرة والي الكوفة يُتهم بالزنا، فيحاكم على الجريمة المنسوبة إليه بالطريق العادي.. ويقص علينا التاريخ أن المأمون اختصم مع رجل بين يدي يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طِنْفِسةً لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة على أحد أفراد رعيته، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فاستحيا المأمون ودعا للرجل بطنفسة أخرى.

وبعض الخصومات التي كانت تثور بين الخليفة والولاة وبين الأفراد كانت تفض بطريق شرعي بحت هو التحكيم، كما فعل عمر، فقد أخذ فرساً من رجل على سَوْم فحمل عليه فعَطِبَ، فخاصم الرجل عمر، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي، فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً سليماً، وكان هذا الحكم الذي صدر ضد عمر هو الذي حَفَزَ عمر لتعيين شريح قاضياً.

قلنا: عرفنا مساواة الشريعة الإسلامية بين رؤساء الدول والرعايا .. فحدثنا عن المساواة بين الملوك والسوقة.

قال: لا تميز الشريعة الإسلامية بين أفراد المجتمع، فهم لدى الشريعة سواء، فالحاكم كالمحكوم، والشريف كالوضيع، والقوي كالضعيف، والنابه كالخامل.. وقد عاتب الله رسوله عتاباً شديداً لأنه اهتم بأمر قادة قريش وسراتها أكثر مما اهتم بأمر فقير أعمى هو ابن أم مكتوم الذي جاء يسأل الرسول r أن يعمله مما علمه الله، وكان النبي مجتمعاً في هذا الوقت بصناديد قريش وسراتها يكلمهم في شأن الدعوة، فكره أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، وظهرت هذه الكراهية في وجهه، وأعرض عنه وهو يطمع في استمالة القوم، فأنزل الله جل شأنه في ذلك الحادث قوله :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) (عبس)

وقد حرص الرسول r على تطبيق مبدأ المساواة وعدم التمييز بين الأفراد في كل الأحوال:

ومما يدل على ذلك ما روي أن امرأة من أشراف قريش سرقت، فتحدث الناس أن رسول الله r عزم على قطع يدها، فأعظموا ذلك وكلموا فيها الرسول r ، فقام خطيباً فقال: (ما إكثاركم على في حد من حدود الله، وقع على أمة من إماء الله؟ والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد نزلت بمثل الذي نزلت به لقطع محمد يدها)

وخاصم عبد من عامة الناس عبد الرحمن بن عوف وهو من كبار الصحابة إلى رسول الله r فغضب عبد الرحمن بن عوف، وسب العبد قائلاً: يا ابن السوداء. فغضب النبي r أشد الغضب، ورفع يده قائلاً: (ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق)، فاستخذى عبد الرحمن وخجل، ورأى أن يعتذر للعبد أوضح اعتذار وآلمه للنفس، فوضع خده على التراب، وقال للعبد: طأ عليها حتى ترضى.

ولعلكم تعرفون قصة جبلة بن الأيهم، فقد داس أعرابي على إزاره وهما يطوفان بالكعبة، فلطمه جبلة، فشكاه الأعرابي إلى عمر، فأمر عمر بالقصاص، وعز على جبلة وهو شريف أن يقتص منه الأعرابي، فهرب ولحق بأرض الروم وتنصر، ثم أدركه الندم، فقال مقالته المشهورة:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

بالإضافة إلى هذا، فالقاعدة في الشريعة أن التعويضات لا ينظر فيها إلى شخصية المجني عليه، ولا مركزه، ولا ثروته، وإنما يقدر التعويض على أساس نتيجة الفعل الذي وقع عليه، فإذا قتل شريف ووضيع فديتهما واحدة، وإذا أصيب عامل في شركة ومدير الشركة في حادث وترتب على الحادث أن فقد كل منهما ذراعاً أو أصبعاً عوض كل منهما تعويضاً مساوياً لتعويض الآخر.

قلنا: عرفنا هذا .. فحدثنا عن المساواة القانونية بين المسلمين وغيرهم في بلاد الإسلام.

قال: كما تسوي الشريعة بين المسلمين والمسلمين، فإنها تسوي بين المسلمين وغيرهم ممن تشملهم بلاد الإسلام في كل ما كانوا فيه متساوين.. أما ما يختلفون فيه فلا تسوي بينهم فيه؛ لأن المساواة في هذه الحالة تؤدي إلى ظلم الذميين.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: إذا كانت المساواة بين المتساوين عدل خالص فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح.

قلنا: ألا ترى أن هذا استثناء من قاعدة المساواة.

قال: لا .. بل هو تأكيد للمساواة، إذ المساواة لم يقصد بها إلا تحقيق العدالة، ولا يمكن أن تتحقق العدالة إذا سوى بين المسلمين والذميين فيما يتصل بالعقيدة الدينية؛ لأن معنى ذلك هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم، وحمل الذميين على ما يختلف مع عقيدتهم.. ومعناه أيضاً عدم التعرض للمسلمين فيما يعتقدون، والتعرض للذميين فيما يعتقدون وإكراههم على غير ما يدينون.. ومعناه أخيراً الخروج على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بترك الذميين وما يدينون، والخروج على نص القرآن الصريح :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 256)

وانطلاقا من هذا، فإن الجرائم التي تفرق فيها الشريعة بين المسلمين والذميين هي الجرائم القائمة على أساس ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، فالشريعة الإسلامية تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ومن العدل أن يطبق هذا التحريم على المسلم الذي يعتقد طبقاً لدينه بحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ولكن من الظلم أن يطبق هذا التحريم على غير المسلم الذي يعتقد بأن شرب الخمر غير محرم وأن أكل لحم الخنزير لا حرمه فيه، ولو طبقت قاعدة المساواة تطبيقاً أعمي لأخذ الذميون بأفعال هي في عقيدتهم غير محرمة، وفي هذا ظلم بين، فكان من العدل الذي أخذت به الشريعة نفسها أن قصرت التحريم على المسلمين دون غيرهم، فالمسلم إذا شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير ارتكب جريمة معاقباً عليها، أما الذمي فلا يعتبر شربه الخمر وأكله لحم الخنزير جريمة.

ولكن يعاقب الذميون على الجرائم القائمة على أساس ديني إذا كان إتيانها محرماً في عقيدتهم، أو يعتبر عندهم رذيلة، أو إذا كان إتيان الفعل مفسداً للأخلاق العامة، أو ماساً بشعور الآخرين، فمثلاً شرب الخمر ليس محرماً في عقيدة الذميين ولكن السكر محرماً عندهم، أو هو رذيلة، فضلاً عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم كان الذميون معاقبين على السكر دون الشرب، فمن شرب حتى سكر عوقب، ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه. والشريعة توجب الصوم على المسلم، وترى في عدم الصوم معصية، وفي التظاهر بالإفطار معصية، ولكنها لا تعاقب على عدم الصوم إلا المسلم؛ لأنه ملزم به طبقاً لعقيدته، ولأن غير المسلم ليس ملزماً بالصوم؛ لأنه لا يعتقد به، ولو حمل عليه بالعقوبة ظلم وأكره على عمل ما لا يعتقد، ولا إكراه في الدين. أما التظاهر بالإفطار فيعاقب عليه المسلم والذمي معاً؛ لأن الذمي وقد التزم أحكام الإسلام يجب عليه أن يمتنع عن كل ما يمس شعائر الإسلام وشعور المسلمين، وهذا دون شك في استطاعته، ولا يمس أي مساس بعقيدته، والتظاهر بالإفطار فيه مساس بشعيرة الصوم، وبشعور الصائمين، فإذا ما تظاهر الذمي بالإفطار عوقب على تظاهره بالإفطار، وإذا لم يتظاهر فلا عقاب عليه ولو أنه مفطر؛ لأن الصوم ليس واجباً عليه.

ويترتب على التفرقة في تطبيق نصوص الشريعة بين المسلمين والذميين أن تكون الجرائم في الشريعة قسمين: قسم عام يعاقب على إتيانه كل المقيمين في دار الإسلام، وقسم خاص يعاقب على إتيانه دون غيرهم، ولا يمكن أن يقع إلا منهم، وأساس هذا القسم هو الدين.

وليس في القوانين الوضعية الحديثة قانوناً واحداً لم يسلك مسلك الشريعة من حيث جعل بعض الجرائم عاماً يقع من كل الرعايا، وبعضها خاصاً يقع من بعض الرعايا فقط، ولكن القوانين لا تجعل أساس التفرقة الدين.

وقد اضطرت الشريعة الإسلامية لسلوك هذا الطريق لتحقيق العدالة، وتوفير حرية الاعتقاد، والمحافظة على النظام، وأساس النظام في الشريعة هو الإسلام.

أما القوانين الوضعية فليس فيها ما يحمل واضعها على سلوك هذا الطريق؛ لأن القوانين تجرد عادة من كل ما له مساس بالعقائد والأخلاق والدين على العموم، ويكتفي فيها بتحريم ما يمس علاقات الأفراد المادية، أو يمس الأمن، أو نظام الحكم.

وقد أدت طريقة القوانين ـ كما تعلمون ـ إلى فساد الأخلاق، وشيوع الفوضى، والتحلل من كل القيود، وأوجدت في الجماهير روح التمرد، والاستعداد للخروج على قواعد القانون والاستهانة بها، فكثرت الثورات والانقلابات، وصارت النظم تتغير يوماً بعد يوم، وكل نظام يلاقي مصير الذي سبقه.

وقد أوقع المشرعين الوضعيين في هذا الخطأ الفاحش أنهم أرادوا أن يحققوا المساواة، ويطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معاً إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان، فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى هذه النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا تحقيق ما شاءوا من مبادئ، ولمنعوا من وقوع هذه المساوئ.

ولعل عذر المشرعين الوضعيين فيما حدث أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية تقوم على أساس ديني يراعى فيه مذهب الحاكم واعتقاده، لا مذاهب المحكومين جميعاً وعقائدهم، بحيث كان المخالفون في العقيدة يحملون حملاً بسطوة القانون على اعتناق مذهب الحاكم أو عقيدته، وقد أدى هذا المسلك إلى إثارة الشحناء والبغضاء بين أفراد الشعب الواحد، وإراقة الدماء وتعدد المذابح، مما كان له رد فعل قوي حمل المشرعين على أن يعالجوا هذه الحالة بتجريد القوانين الحديثة من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان، ولكن هذا العلاج أدى إلى نتائج لا تقل سوءاً ، ولا أظن أن هناك علاجاً موفقاً كعلاج الذي ارتأته الشريعة، فإنه يؤدي إلى الأخذ بمبدأي المساواة وحرية الاعتقاد، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى الاحتفاظ بالقيم الأخلاقية والروحية، وهي الأساس الأول في احترام الشرائع والقوانين.

ويجب ألا ننسى حين نقارن القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، أن الشريعة الأخيرة شريعة دينية أساسها الإسلام، فلا يمكن بطبيعة الحال أن تتجه اتجاهاً يخالف الإسلام، وأن الدين الإسلامي يعتبر النظام الأساسي للدولة بكل ما يشتمل عليه من صوم وصلاة وزكاة وحج وتوحيد، وبكل ما يوجبه ويحرمه، وهو نظام لا يقبل التجزئة بطبيعته، فليس من المستطاع الأخذ ببعضه وترك بعضه؛ لأن الأخذ ببعضه وترك بعضه هدم له. وقد فهم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الوضع حق الفهم، فحاربوا مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول واعتبروهم مرتدين، مع أن المسلمين كانوا في أشد الحاجة إلى المسالمة في هذا الوقت العصيب الذي انتفضت فيه شبه جزيرة العرب كلها على المسلمين.

فالشريعة إذن لا يمكن بأي حال أن تتخلى عن العقاب على الجرائم الدينية أو الأخلاقية؛ لأنها تقوم على النظام الإسلامي، ولأنها وجدت لحماية هذا النظام والمحافظة على مقوماته، فلابد أن تحرم كل ما يسمه وتعاقب عليه. ولا يصح أن يعتبر عيباً في الشريعة الإسلامية، لأنه صفة أساسية لاصقة بكل نظام أقيم أو يقام على وجه الأرض، فكل نظام له أسسه التي يقوم عليها، ومقوماته التي لا يستمر بغيرها، ولا يمكن أن يقوم أي نظام وضعي إذا أهملت أسسه، وتجوهلت مقوماته، فالديموقراطية لها أسس معينة ومقومات خاصة، وكل نظام من هذه الأنظمة تختلف أسسه ومقوماته اختلافاً ظاهراً عن أسس النظام الآخر ومقوماته، ولا يمكن أن يعيش أي نظام من هذه الأنظمة إذا أهملت بعض أسسه أو تجوهلت بعض مقوماته؛ لأنه بهذه الأسس والمقومات وجد وعاش، وتميز عن غيره من الأنظمة، ونحن نعلم أن كل نظام من هذه الأنظمة الثلاثة يضع عقوبات قاسية على كل ما يمس أسس النظام أو يهدم مقوماته، فلا عيب إذن على الشريعة إذا عاقبت على كل ما يمس النظام الذي قامت عليه؛ لأن ما تفعله الشريعة هو طبيعة لازمة لكل نظام يراد له البقاء والنماء والاستقرار. وإذا كانت الشريعة تعاقب على ما لا تعاقب عليه القوانين الوضعية فليس ذلك بشيء؛ لأنه يرجع إلى تغاير النظم واختلاف طبائعها، وما دامت اتجاهات النظم مختلفة، وطبائعها مختلفة، فلا يمكن أن تتفق فيما تحل وفيما تحرم.

والأمثلة على ذلك بارزة في الأنظمة الوضعية، فالشيوعية مثلاً تعاقب على الدعوة للنازية والديموقراطية، والنازية تعاقب على الدعوة للديموقراطية والشيوعية، والديموقراطية تحارب الشيوعية والنازية وتعاقب عليهما، والملكية الفردية مباحة إلى غير حد في البلاد الديموقراطية، ولكنها جريمة في البلاد الشيوعية.. فاختلاف الأفعال المحرمة في النظم لا يمكن أن يكون عيباً بذاته، لأن قيمة النظام لا تقاس بما يحل وما يحرم، ولا بعمومه وخصوصه، وإنما يقاس بما يؤدي إليه من إسعاد الجماعة، ورقيها وتفوقها، ونشر العدل والمساواة والتراحم بين أفرادها[24].

الحقوق:

قلنا: عرفنا الثالث .. فحدثنا عن الرابع.

قال: المساواة في الحقوق.

قلنا: ما الذي تقصد بذلك؟

قال: لقد سوت الشريعة الإسلامية العادلة بين الكل في الحقوق .. فلا يوجد في الإسلام فرق بين حر وعبد، ولا بين مسلم وغير مسلم في كل ما يرتبط بالحاجات الأساسية للحياة.

فبالنسبة للماليك الذي كانوا يهانون في كل الشرائع ويذلون ويمنعون من أبسط حقوقهم احترمهم الإسلام وأعطاهم جميع ما يحتاجونه من حقوق مما قد يفتقر إليه الأحرار في عالمنا هذا [25] .

فقد أمر r المالك أن يطعم مملوكه ويكسوه، مما يأكل ويلبس، وأن لا يكلفه من العمل ما لا يطيق، ففي الحديث أن الرسول r قال :( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم )[26]

وقال:( إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكلةً أو أكلتين؛ فإنه ولي علاجه )[27]

وعن عبد الله بن عمرو t أنه قال لِقَهْرَمَانَ له: هل أعطيت الرقيق قُوتَهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم؛ فإن رسول الله r قال :( كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم)[28]

وقد نهي عن تكليفهم من الأعمال فوق طاقتهم، وكان عمر وهو خليفة المسلمين يذهب إلى العوالي في كل يوم سبت، فإذا وجد عبداً في عمل لا يطقه وضع عنه منه.

ويروى عن أبي هريرة  أنه رأى رجلاً على دابته وغلامه يسعى خلفه فقال له:يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله ثم قال: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشي خلفه.

ودخل على سلمان رجل وهو يعجن فقال: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادمة في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين.

وفوق هذا نهى r أن ينادى العبد بما يدل على تحقيره واستعباده، فقال r :( لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي)

ونهى r عن ظلمهم وإذيتهم، بل رتب الكفارة على ذلك ، فعن ابن عمر t قال: قال رسول الله r :( من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه )

وعن أبي مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي، فإذا هو رسول الله r يقول :( اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ) ، فقلت: هو حر لوجه الله، فقال :( لو لم تفعل لمستك النار )

بل نص الفقهاء على أن للقاضي حق الحكم بالعتق إذا ثبت له أن المالك يسيء معاملة ملوكه.

ولهذا ورد نهي من لا يطيق الإحسان إليهم عن تملكهم، قال رسول الله r :( من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) [29]

قلنا: عرفنا حقوق العمال، فما حقوق الذميين؟

قال: لقد كان من احترام الإسلام لهم أن سماهم (أهل ذمة)، وهو ينبه كل مسلم بذلك إلى أن لهم عقد ذمة، يمنحهم عهدا بإباحة إقامتهم على التأبيد في دولة الإسلام،  كما يمنحهم الأمان على دمائهم وأموالهم وأعراضهم،  أي حمايتهم من العدوان الخارجي،  أو التعدي الداخلي.

ونتيجة لهذا، فللذميين في بلد المسلمين ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من الالتزامات سوى ما كان يتعلق منها بشئون الدين والعقيدة ـ كما ذكرنا ذلك من قبل ـ فلا توقع عليهم مثلا : الحدود الشرعية فيما لا يحرمونه، ولا يدعون للقضاء في أيام أعيادهم.

وقد اتفق فقهاء المسلمين على أن للذمي حقا في بيت المال، وأنه سواء مع المسلم في هذا الحق إذا صار شيخا كبيرا، أو عاجزا عن الكسب والعمل.. وقد روي أبو عبيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله r تصدق على بيت من اليهود ثم أجريت عليهم الصدقة من بعد .. وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله في البصرة – وهو عدي بن أرطاة – فقال: (وانظر من قبلك من أهل الذمة من كبرت سنه، و ضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه)، وبهذا كفل الإسلام كافة الحقوق الأساسية لرعايا الدولة الإسلامية، دون تمييز، فتعطي للذمي مثلما تعطي للمسلم.

ليس ذلك فقط .. بل يستطيع الذمي أن يتقلد أي وظيفة في الدولة الإسلامية إذا كانت من وظائف السلطة التنفيذية، كالمحاسب العام أو المهندس الأعلى أو ناظر البريد، أو فوقه.. ويستثنى من ذلك،  ما له صلة مباشرة بالعقيدة والدين، فان هذا لا يتولاه غير المسلم لخطورته في حياة الدولة الإسلامية.

***

ما وصل سعيد بن جبير من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد سعيد، وساروا به إلى مقصلة الإعدام .. وفي فمه ابتسامة عذبة ذكرتني بابتسامة سميه سعيد وهو يواجه سيوف الحجاج..

أراد بعضنا أن يتدخل ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل .. لا أريد منكم وأنا متوجه للقاء ربي الذي طالما اشتقت إليه إلا شيئا واحدا .. أرجو أن توفوا به .. ولن تعذروا إلا إذا وفيتم به.

لا أطلب منكم إلا أن تسيروا في الأرض لتخلصوا المستضعفين من نير المستبدين .. وتحموا الضعفاء من كبر المتكبرين.

قال ذلك، ثم سار بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد r .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى أبي محمد سعيد بن جُبير الأسدي الكوفي ـ رضي الله عنه ـ (45 - 95هـ)، تابعي حبشي الأصل، كان تقيا ورعا عالما .. درس العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين في المدينة المنورة .. سكن الكوفة ونشر العلم فيها، وكان من علماء التابعين، فأصبح إماما و معلما لأهلها، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية.

كان دعاء سعيد بن جبير على الحجاج قبل مقتله :( اللهم لا تسلطه على قتل أحد من بعدي)، وقد أجاب الله دعاءه، فمات الحجاج دون أن يقتل أحدا بعد سعيد بن جبير.

وبعد مقتل سعيد بن جبير اغتم الحجاج غما كبيرا، وكان يقول : ما لي ولسعيد بن جبير، كلما أردت النوم أخذ برجلي .. ويقال : إنه رؤي الحجاج في النوم بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتيل قتلة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.

([2]) رواه البيهقي وغيره.

([3]) وفي رواية مخالفة،أن المؤمنة من اليونان من أصل سوري فنيقي (فنيقيا هي لبنان أو ساحل سوريه)

([4]) انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري.

([5]) رواه مسلم.

([6]) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.

([7]) بضم ففتح : دويبة أرضية.

([8]) أي يدحرج وزنا ومعنى.

([9]) عبية بضم العين المهملة أو كسرها وتشديد الموحدة وكسرها وتشديد التحتية هي الكبر والفخر والنخوة.

([10]) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

([11]) رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف.

([12]) رواه أحمد.

([13]) رواه أحمد.

([14]) رواه الطبراني في الكبير.

([15]) رواه مسلم.

([16])  رواه الطبراني في الكبير.

([17])  رواه البخاري ومسلم.

([18])رواه مسلم.

([19]) في ظلال القرآن.

([20]) انظر: التشريع الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة.

([21]) رواه ابن ماجة.

([22]) رواه ابن سعد وأبو يعلى والطبراني وابن جرير والبيهقي وأبو نعيم.

([23]) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص113 - 115.

([24]) كل هذه المقارنات الجميلة والردود المفحمة منقولة من كتاب (التشريع الجنائي في الإسلام) لعبد القادر عودة، والذي أشرنا إليه مرات كثيرة في هذه الرسالة.

([25]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([26])  البخاري ومسلم.

([27])  رواه البخاري.

([28])  مسلم.

([29])  أبو داود عن أبي ذر.