المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: عدالة
للعالمين |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
|
في اليوم السادس، صاح
السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (حطيط الزيات) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع المساجين
بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها فسيتحمل
مسؤولية خرقه.
بمجرد أن فتحت أبواب
الزنازن أسرع المساجين إلى ساحة السجن حيث وجدوا حطيطا الزيات.. والبسمة على شفتيه
.. والسرور باد على وجهه .. وكأن الموت لا ينتظره ذلك المساء.
كان يخاطب الجمع
الذي اجتمع لتوديعه كما يخاطب الرئيس مرؤوسيه، فهو يأمرهم بالنظام وبالصمت بقوة
وحزم وأدب لا تليق إلا بأعدل المسؤولين وأقواهم.
بمجرد أن اعتدلت
الجموع في جلساتها، وأخذت تنصت إليه، قال: اسمحوا لي في البداية أن أحدثكم عن هذا
الشرف العظيم الذي هيأه الله لي أنا عبده الفقير الخامل الضعيف .. لقد شرف الله
دمي أن يلتحق بتلك الدماء الكثيرة التي ذهبت ضحية شعورها بالمسؤولية تجاه تحقيق
العدالة التي أمر الله الكل بالسعي إليها.
إن العدالة بمفهومها
الشامل لا يمكن أن يحققها طرف من الأطراف .. هي مسؤولية الجميع .. ولابد أن يتعاون
الجميع على تحقيقها.. لقد وضح رسول الله r ذلك وشرحه، فقال:( كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته،
الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية
في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم
راعٍ ومسئول عن رعيته) [2]
هذه مجرد أمثلة
ذكرها رسول الله r .. وإلا فإن الأمثلة في هذا لا تحصر ..
وقد تولت النصوص المقدسة بيانها بكل صنوف البيان ..
المسؤولية عن إطعام
المسكين مثلا .. قد تبدو في الظاهر من اختصاص الأغنياء .. ولكن القرآن الكريم وفي
مواضع كثيرة منه لا يعتبر البخل على المسكين وحده جريمة .. بل يعتبر السكوت عن حض
الأغنياء على إعطاء المساكين جريمة .. وبهذا لا يعذر أحد من الناس فقيرا كان أو
غنيا عاجزا كان أو قويا.
اسمعوا إلى هذه
الآيات الكريمة التي تهدد وتتوعد من يرى مسكين، ثم لا يسعى له بكل الوسائل ليوفر
له ما يسد رمقه، قال تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ
فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا
حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ
الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا
فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا
حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا
الْخَاطِئُونَ (37) ﴾ (الحاقة)
انظروا كيف قرنت هذه
الآيات الكريمة الاهتمام بالمستضعفين بالإيمان برب العالمين .. وكأنها تقول لنا:
لا يمكن لأحد يؤمن بالله، ويعظم الله، أن يكون قلبه قاسيا إلى الدرجة التي يضيع
فيها المساكين.
في آية أخرى نلاحظ
هذا، نلاحظ اقتران التقصير في عبادة الله بالتقصير في حقوق المساكين، قال تعالى:﴿
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي
جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) ﴾(المدثر)
بل إن سورة من
القرآن الكريم خصصت لوصف المكذبين بالدين .. لا تصفهم بأنهم ينكرون وجود الله، أو
ينكرون أسماءه الحسنى، أو ينكرون ما أمروا به من عبادات .. وإنما تصفهم بتلك
القسوة التي تحول بينهم وبين تحقيق العدل في الحياة، قال تعالى :﴿
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾ (الماعون)
قال رجل من الجمع:
حدثنا عن نفسك، قبل أن تحدثنا عما تدعو إليه.. فمن أنت؟
قال: لا يهمكم من هو
أنا .. لقد محوت ذاتي وأهوائي في الرسالة العظيمة التي شرفت بتحملها، فلم يبق من
هم لي في الحياة إلا بالدعوة إليها والتضحية في سبيلها.
قال الرجل: فلم حطك
أهلك بتسميتك حطيطا؟
قال: لم يختر أهلي
هذا الاسم .. أنا الذي اخترته لنفسي .. لقد كان اسمي في البدء بلعم[3] .. لعلكم تعرفونه .. إنه ذلك العالم الذي
باع علمه بثمن بخس ليرضي أهواءه .. لقد ذكره الله تعالى فقال :﴿ وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾ (الأعراف)
وعندما شببت رأيت
كثيرا من البلعميات[4] سواء في بلاد المسلمين أو في غير بلاد المسلمين
.. رأيتهم يتمسحون بأحذية السلاطين، وفي نفس الوقت يركلون بأقدامهم تلك الرعية
المسكينة الممتلئة بالمهانة.. فامتلأت
بالغثاء .. ورحت أسارع بتغيير اسمي ..
قال الرجل: فلم
اخترت (حطيطا)؟
قال: لقد رحت أبحث
في سير الرجال .. فوجدت هذا الرجل البسيط المتواضع الممتلئ بالحطة .. ولكنه في نفس
الوقت استطاع أن يقف أمام طاغية كبير، ويلقنه من الدروس ما لم تجسر جميع بلعميات
الأرض أن تلقنه إياه.
لقد حدث المؤرخون أن
زبانية الحجاج جاءوه بحطيط الزيات, فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ فقال حطيط: نعم..
سل عمّا بدا لك, فاني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن, وإن
ابتليت لأصبرن, وإن عوفيت لأشكرن.. فقال الحجاج: فما تقول فيّ؟ .. قال حطيط: أقول
فيك أنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة.. قال: فما تقول في
أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ .. قال حطيط: أقول إنه أعظم جرما منك, وانما
أنت خطيئة من خطاياه..
فأمر الحجاج أن
يضعوا عليه العذاب, فانتهى به العذاب الى أن شقق له القصب, ثم جعلوه على لحمه
وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة, حتى انتحلوا لحمه, فما سمعوه يقول شيئا,
فقيل للحجاج: إنه في آخر رمق، فقال: أخرجوه، فارموا به في السوق.
قال الراوي: فأتيته
أنا وصاحب له, فقلنا له: يا حطيط ألك حاجة؟ فقال: شربة ماء، فأتوه بشربة، ثم
استشهد, وكان عمره ثماني عشرة سنة[5].
هذا كل ما رواه
التاريخ عن حطيط .. ولكن هذا بالنسبة لي يكفي عن آلاف المجلدات من الدجل، وآلاف
المجلدات من أخبار الدجالين.
لقد وجدت أن موقفا
واحدا مثل هذا الوقف قد يزعزع الأرض من تحت أقدام الطواغيت .. ليؤسس من وراء تلك
الزلزلة مدينة العدل الفاضلة التي جاء الإسلام لبنائها.
صحت: أراك تحمل فكرا
ثوريا .. فمن أي مدرسة ثورية استفدته؟
قال: من مدرسة الإسلام
.. لقد علمنا الإسلام أن لا نرضى بالظلم والضيم والجور .. أمرنا بالتغيير والنهوض،
واعتبر ذلك واجب الكل .. واجب العلماء، وواجب الحكام، وواجب العامة .. إنه واجب
الكل .. كل بما أوتي من طاقة وقدرة.
العلماء بما أوتوا
من سلطة العلم التي تجعلهم يرأسون الأمة في فكرها وسلوكها.
والحكام بما أوتوا
من سلطة التنفيذ والتنظيم والردع.
والعامة بما أوتو من
سلطة المسؤولية على الأمة .. فالمسلمون ـ كما أخبر رسول الله r ـ : ( تتكافا دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى
بذمتهم أدناهم) [6]
هؤلاء كلهم مسؤولون
عن تحقيق العدالة، ومحاسبون على التقصير فيها ..
لقد وردت النصوص
الكثيرة تؤكد هذا، وترغب فيه، وترهب من التقصير فيه:
فقد أخبر الله تعالى
أن اللعنات تتنزل على من ترك الأمر بالمعروف وترك النهي عن المنكر .. قال تعالى
ضاربا لنا المثل ببني إسرائيل :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ
أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ
كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ﴾
(المائدة)
انظروا عظم الردع
الذي تحمله هذه الآية .. إنها تخبر أن اللعنات تنزلت على بني إسرئيل بسبب تفريطهم
في النهي عن المنكر .. وبسبب إعطائهم الولاء للقائمين على المنكر، والممثلين له.
لقد وصف رسول الله r ذلك .. وحذر منه هذه الأمة، فقال : ( لما وقعت بنو
إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم،
وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن
مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، وكان رسول الله r متكئًا، فجلس، فقال: (لا والذي نفسي بيده
حتى تأطروهم على الحق أطرا) [7]، أي تعطفوهم وتقهروهم وتلزموهم باتباع
الحق.
وفي رواية أخرى وصف
أدق قال فيه r (إن أول ما دخل النقص على بني سرائيل كان
الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه
من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب
بعضهم ببعض، ثم قال :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ إلى قوله :﴿
فَاسِقُونَ ﴾ ، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر،
ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا أو تقصرنه على الحق قصرًا) [8]
التفت إلي، وقال:
ألا ترى في قوله r : (لَتَأطرنَّه على الحق أطْرا .. أو
تقصرنه على الحق قصرًا) ثورة ضد الظلم والجور والطغيان .. قارن هذا بما نقل عن
المسيح u من قوله كما في (متى 22 :15-22): (
فَذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَآمَرُوا كَيْفَ يُوْقِعُونَهُ بِكَلِمَةٍ
يَقُولُهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بَعْضَ تَلاَمِيذِهِمْ مَعَ أَعْضَاءِ حِزْبِ
هِيرُودُسَ ، يَقُولُونَ لَهُ: يَامُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ
وَتُعَلِّمُ النَّاسَ طَرِيقَ اللهِ فِي الْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ
لأَنَّكَ لاَ تُرَاعِي مَقَامَاتِ النَّاسِ، فَقُلْ لَنَا إِذَنْ مَا رَأْيُكَ؟
أَيَحِلُّ أَنْ تُدْفَعَ الْجِزْيَةُ لِلْقَيْصَرِ أَمْ لاَ؟ فَأَدْرَكَ يَسُوعُ
مَكْرَهُمْ وَقَالَ: أَيُّهَا الْمُرَاؤُونَ، لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي
عُمْلَةَ الْجِزْيَةِ! فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً، فَسَأَلَهُمْ: لِمَنْ هَذِهِ
الصُّورَةُ وَهَذَا النَّقْشُ؟ أَجَابُوهُ: لِلْقَيْصَرِ! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَنْ،
أَعْطُوا مَا لِلْقَيْصَرِ لِلْقَيْصَرِ، وَمَا لِلهِ لِلهِ، فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا،
مَدْهُوشِينَ مِمَّا سَمِعُوا)
وقارنه بما قاله
سيدكم بولس الذي تجاسر على الشريعة جميعا، فنسخها ومحاها من الكتاب المقدس، ولكنه
لم يتجاسر أن ينطق كلمة واحدة ضد المستبدين، وضد الاستبداد .. اسمع إليه، وهو يقول
: ( لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها
الله، فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند
ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم، لأن خوف الرؤساء ليس على العمل
الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه
ممدوحا لأنه خادمُ الله لك للخير، فأما إن
فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى
يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر، فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل
من أجل الضمير أيضا، فإنكم لأجل هذا
تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه .. أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ،
والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن لـه المهابة ، والكرامة لمن لـه
الكرامة) (رومية 13/1-7)
التفت إلى الجمع،
وقال: لقد كانت هذه النصوص من النصوص التي صرفتني عن الكتاب المقدس في الوقت الذي
رحت أبحث عن الحقيقة .. لقد قلت لنفسي: إن دين الله هو الدين الذي يحض على العدل
.. ويملأ النفس محبة للعدل ودعوة إليه وتضحية في سبيله.
إن دين الله الحقيقي
هو الدين الذي يعلم الإنسان كيف يصرخ في وجه الظالم لا ترهبه قوته ولا بطشه ولا
جبروته ..
أذكر أني في ذلك
الحين كنت مشغوفا بقراءة قصص الكتاب المقدس .. وكان من بين ما قرأت قصة سحرة
فرعون، والتي ورد النص عليها هكذا كما في (الخروج: 8/ 9- 13) : (وقالَ الرّبُّ
لموسى وهرونَ: إذا قالَ لكُما فِرعَونُ أُريدُ عجيبَةً يأخذُ هرونُ عصاهُ ويُلقيها
أمامَ فِرعَونَ لِتَصيرَ حَيَّةً، فدخلَ موسى وهرونُ على فِرعَونَ وفعَلا كما أمرَ
الرّبُّ. ألقى هرونُ عصاهُ أمامَ فِرعَونَ ورِجالِهِ فصارَت حَيَّةً، فدَعا
فِرعَونُ المُنَجمينَ والعَرَّافينَ وهُم سَحَرةُ مِصْرَ، فصَنعُوا كذلِكَ
بِسِحْرِهِم، ألقى كُلُّ واحدٍ مِنهُمِ عصاهُ فصارَت كُلُّ عصًا حَيَّةً عظيمَةً،
ولكِنَّ عصا هرونَ اَبتلَعَت عِصيَّهُم، فاَشْتَدَ قلبُ فِرعَونَ قساوَةً حتى لا
يسمَعَ لموسى وهرونَ، كما قالَ الرّبُّ)
هذا كل ما ورد النص
عليه في الكتاب المقدس .. وقد كان من قدر الله أن سمعت صبيا في ذلك الحين كان جارا
لنا .. وكان يقرأ من القرآن قوله تعالى عن نفس القصة :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا
بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا
أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ
بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا
لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا
أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا
هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ
أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
(124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)﴾ (الأعراف)
اعذروني إن كنت قد
قرأت لكم هذه الآيات جميعا .. لقد كانت هذه الآيات هي المفتاح الذي فتح به علي باب
الإسلام .. بسببها رحت أبحث عن الإسلام أنا الذي امتلأ كراهة الظلم والجور .. وكره
من اتخاذ الدين أفيونا للشعوب ينيمها عن حقوقها.
إن هذه الآيات على
خلاف ما ورد في الكتاب المقدس تبين الفوارق العظيمة التي آل إليها أمر السحرة ..
لقد دخل السحرة وهم يسجدون لفرعون .. ولكنهم يخرجون يسجدون لله لا يبالون ببطش
فرعون وتهديده.
لقد دعاني هذا إلى
بحث مستفيض في نصوص المسلمين المقدسة، فوجدت العجب العجاب:
لقد وجدت القرآن
يعتبر (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) صفة من صفات المسلم الأساسية، والتي
تميزه عن غيره من الكفار والمنافقين .. اسمعوا لهذه الآيات :﴿
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)﴾ (التوبة)
وعندما ذكر الله
تعالى الجزاء العظيم الذي أعده المؤمنين، وذكر أوصافهم التي استحقوا بها هذا
الجزاء، ذكر معها هذه الخصلة الأساسية، قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)﴾ (التوبة)
وفي مقابل ذلك ..
عندما ذكر المنافقين قال :﴿
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)﴾
(التوبة)
والأمر لا يتوقف عند
الأفراد .. بل على الجميع .. بكل ما أوتوا من طاقات أن ينهضوا بهذا الواجب الذي
تتوقف عليه خيرية الأمة، قال تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ (آل عمران)،
وقال :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران)
التفت إلي، وقال:
حتى أن القرآن الكريم عندما ذكر صفة نبينا r في الكتب المتقدمة ذكر أنه موصوف فيها
بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. قال تعالى :﴿ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(157)﴾ (الأعراف)
وعندما ذكر المؤمنين
من أهل الكتاب قال :﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)﴾ (آل عمران)
التفت إلى الجمع،
وقال: حتى أن القرآن يصف موعظة رجل حكيم لابنه .. فكان من موعظته قوله له :﴿
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾
(لقمان)
انظروا كيف قرن
القرآن الكريم بين الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
بل إنه في سورة
العصر .. تلك السورة التي حصر الله فيها صفات من نجا من الخسارة في هذه الدنيا ..
ذكر هذه الخصلة الأساسية .. فقال تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
(العصر)
انظروا كيف ختمت
الآية بالتواصي بالصبر .. وكأنها تقول للمؤمنين: اصبروا على ما يصيبكم من بلاء بعد
تواصيكم بالحق .. أو كأنها تقول لهم: لن تعذروا بالسكوت عن المنكر .. وإن أصابكم
البلاء .. فلذلك تسلحوا بالصبر.
سكت قليلا، ثم قال:
بعد أن امتلأت من العجب مما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الإيجابية في
التعامل مع قضايا المجتمع ذهبت إلى سنة محمد r .. فوجدتها تؤكد ما ورد في القرآن وتقرره
وتضع المناهج لتحقيقه .. لن أتحدث لكم عن تلك المناهج الآن[9] .. ولكني سأحدثكم عن تلك
التوجيهات العظيمة التي بثها رسول الله r في كيان كل مسلم لتحول منه داعية إلى
الخير والحق والهدى.
لقد ورد في الحديث
ذكر العقوبات التي تصيب الساكتين عن إنكار المنكر، أو الساكتين عن الأمر بالمعروف،
ففي الحديث قال رسول الله r : (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم
بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن
يموتوا) [10]
وفي حديث آخر قال
رسول الله r: ( أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن
المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم ؛ إن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود
والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على
لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء) [11]
وفي آخر قال: (لا
تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا
بحقها)، قالوا يا رسول الله وما الاستخفاف بحقها؟ قال : ( يظهر العمل بمعاصي الله
تعالى فلا ينكر ولا يغير)[12]
وفي آخر قال: ( تعرض
الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب
أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا فلا يضره
فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا[13] لا
يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)[14]
وفي آخر قال: ( إذا
رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم) [15]
وفي آخر قال: (إذا
عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها
فرضيها كان كمن شهدها)[16]
وفي آخر قال:
(الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان
والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسليمك على أهلك ، فمن انتقص شيئا منهن
فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره) [17]
وفي آخر قال: ( ليس
منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر) [18]
وعن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ قالت: دخل النبي r فعرفت وجهه أنه قد حضره شيء، فتوضأ وما
كلم أحدا فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال
: (يا أيها الناس إن الله يقول لكم : ( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن
تدعوا فلا أستجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم) فما زاد عليهن
حتى نزل[19].
وعن أبي هريرة ـ رضي
الله عنه ـ قال: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه، فيقول
له: ما لك إلي وما بيني وبينك معرفة، فيقول: كنت تراني على الخطأ وعلى المنكر ولا
تنهاني[20] .
بل إن رسول الله r اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا من أركان
الإسلام، فقال: (الإسلام ثمانية أسهم الإسلام أي الشهادتان سهم ، والصلاة سهم ،
والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن
المنكر سهم ، والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له)[21]
لست أدري كيف صحت من
غير أن أشعر: ولكني وجدت القرآن يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
(المائدة)؟
ألا ترى أن هذه
الآية تحث على اهتمام كل امرئ بنفسه؟
ابتسم، وقال: هذه
الآية تكمل تلك النصوص، ولا تناقضها.
قلت: كيف؟ .. أنا لا
أراها إلا متناقضة.
قال: وأنا لا أراها
إلا متسالمة .. جل كلام الله أن يصيبه التناقض ..
قلت: ففسر لي منها
ما يصحح خطئي إن كنت مخطئا.
قال: سأدلك أولا على
فقيه من صحابة رسول الله r .. وهو أعرف مني بأسرار القرآن ومقاصده ..
ليبين لك خطأ هذا الفهم .. إنه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ .. لقد قام خطيبا
في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية :﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (المائدة)، وإنكم تضعونها على غير
موضعها، وإني سمعت رسول الله r قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا
يغيرونه أوشك الله عز وجل، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه) [22]
قلت: لا أزال إلى
الآن لا أفهم .. فأبو بكر لم يزد على أن روى حديثا من مثل الأحاديث التي رويتها.
قال: لا بأس ..
سأجيبك بما يبين عظم المقصد الذي تحمله تلك الآية .. إنها تتحدث عن إيجابية أخرى
ورد الحث عليها في النصوص الكثيرة .. هذه الإيجابية هي الاهتمام بإصلاح النفس
وإصلاح ما يمكن إصلاحه إن عجزنا عن إصلاح الكل.
قلت: لم أفهم.
قال: أرأيت لو أن
شخصا عاش في واقع منحرف .. حاول إصلاحه بكل ما يطيق من وسائل لكنه لم يستطع ..
ماذا عسى هذا الإنسان أن يفعل .. أو ما عساك تنصح هذا الإنسان؟
سكت، فقال: لا بد
أنك ستقول له: لقد أديت ما عليك .. وحسبك الآن أن تهتم بنفسك، وبرعاية من كلفت
برعايته.
قلت: ربما أقول هذا.
قال: ألست تنصحه إن
قلت له هذا؟
قلت: بلى.
قال: فهذا ما تنص
عليه الآية .. إنها تقول لنا: ابذلوا كل وسعكم لتصلحوا واقعكم .. لكنكم إن لم تستطيعوا،
فحسبكم أنفسكم .. فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
قلت: إن كانت الآية
تقصد هذا .. فهو معنى جميل صحيح.
قال: هي لا تقصد هذا
فقط .. إنها تقول بالإضافة إلى ذلك للذين يتألمون للواقع المنحرف الذي يعيشون فيه:
لا تتألموا .. فالألم سيحول بينكم وبين التأثير .. التزموا أنتم الجادة .. ولعلكم
إن لم تستطيعوا أن تقنعوا الناس بالمقال، أن تقنعوهم بالفعال .. فأكثر الناس
تقنعهم الفعال أكثر مما تقنعهم الأقوال.
قلت: هذا معنى آخر
جميل ..
قال: لقد وردت
النصوص الكثيرة تجمع بين الإيجابيتين إيجابية المقال، وإيجابية الفعال .. وكما سقت
لكم النصوص التي تدل على إيجابية المقال، فسأذكر لكم بعض النصوص الشديدة التي تحث
على إيجابية الفعال.
أول مصادرنا المقدسة
هو القرآن الكريم .. فلذلك سأبدأ به .. لقد قال الله تعالى موبخا أهل الكتاب :﴿
أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)﴾ (البقرة) .. في هذه الآية يخاطب الله
أهل الكتاب، ليقول لهم: كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس
بالبر، وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم
مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما
أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم[23].
وفي آية أخرى، يقول
الله تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة موبخا لهم :﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) ﴾ (الصف)
وفي آية أخرى أخبر
الله عن شعيب u أنه قال لقومه :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا
حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ
أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾ (هود)
سكت قليلا، ثم قال:
لتفهموا المحل الذي تنزل فيه هذه الآيات .. فاسمعوا هذه الحادثة عن رجل وصفه رسول
الله r أنه ترجمان القرآن .. حدث الضحاك، عن ابن
عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من
كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل :﴿ أتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (44)﴾ (البقرة) أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني. قال:
قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ (3) ﴾ (الصف) أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال:
قول العبد الصالح شعيب u :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ (هود: 88) أحكمت هذه الآية؟
قال: لا. قال: فابدأ بنفسك[24].
انظروا .. بهذا
الأسلوب كان تلاميذ رسول الله r أسوة برسول الله r يربون الناس .. وينشرون الخير .. ويجعلون
كل فرد يتحمل مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه المجتمع .. حتى لا يصبح المجتمع مجموعة من
الأفواه التي تصيح لأجل الصياح من غير أن يكون هناك أي عمل لا من الصائح ولا من
غيره.
وكما رباهم القرآن
الكريم على هذا ربتهم السنة .. وكما أوردت لكم من القرآن سأورد لكم من السنة:
لقد قال رسول الله r يخاطب جيله وكل أجيال الأمة: (يؤتى بالرجل يوم القيامة
فيلقى في النار فتندلق : أي تخرج أقتاب بطنه ـ أي أمعاؤها وأحدها قتب بكسر القاف ـ
فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك
ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه
وأنهى عن المنكر وآتيه) [25]
وقال: ( مررت ليلة أسري
بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك
الذين يقولون ما لا يفعلون)[26]
وقال : (رأيت ليلة
أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال
الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا
يعقلون)[27].
وقال: (ما من عبد
يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أردت بها)[28]،
قال الراوي: فكان مالك بن دينار إذا حدث بهذا بكى، ثم يقول: أتحسبون أن عيني تقر
بكلامي عليكم وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة يقول ما أردت به؟ فأقول:
أنت الشهيد على قلبي لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ على اثنين أبدا .
وقال : ( إن ناسا من
أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بماذا دخلتم النار؟ فوالله ما
دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم .. فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)[29]
وقال : ( مثل الذي
يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج ـ أو مثل الفتيلة ـ يضيء للناس ويحرق
نفسه)[30]
وقال : ( إن أخوف ما
أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان)[31]
وقال : ( إن الرجل
لا يكون مؤمنا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ولا يخالف قوله عمله ويأمن جاره
بوائقه)[32]
وقال : ( إني لا
أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، أما المؤمن فيحجزه إيمانه ، وأما المشرك فيقمعه
كفره ، ولكن أتخوف عليهم منافقا عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون)[33]
قلنا: ألا ترى أن
هذه النصوص تكاد تنسخ ما سبق أن ذكرت من النصوص؟
قال: لا .. هي لا
تنسخ .. هي تكمل .. إنها تقول لنا: أحسنوا .. ولكن لا تكتفوا بالإحسان .. بل
انشروا الإحسان .. لأنكم إن اقتصرتم على الإحسان وحده، فقد أسأتم.
قلنا: لقد ذكرت لنا
أن العدل مسؤولية الجميع، فما مسؤولية العلماء الذين اعتبرتهم رأس الأمة المدبر؟
قال: للعلماء أربع مسؤوليات:
أما الأولى ..
فالتعليم.
وأما الثانية ..
فالاجتهاد في البحث عن وجوه تحقيق العدل ..
وأما الثالثة ..
فالسعي لتحقيقه بما أوتوا من سلطات على الأمة وعلى حكام الأمة.
وأما الرابعة ..
فالتضحية في سبيل تحقيق هذه المسؤوليات بالجاه والمال والمناصب.. فلا يمكن لعالم
ممتلئ بالطمع أن يوظف علمه في مصلحة الأمة.
قلنا: ما تريد بالأولى؟
قال: العالم الحقيقي
هو العالم الذي لا يكتم علمه .. إنه الذي يسعى لينتشل الرعية من ظلمات الجهل إلى
نور العلم.. فأعظم جور هو ترك الرعية لجهلها .. والرعية الجاهلة لا تعرف حقوقها،
لذلك لا تستطيع أن تطالب بها.
لقد ورد في النصوص
المقدسة التأكيد على هذا الواجب المناط بأعناق العلماء .. وقد اعتبرت هذه النصوص
قعود العالم عن هذه الوظيفة الخطيرة كتمانا للعلم .. وتوعدت عليه بأشد الوعيد:
لقد قال الله تعالى
يذكره ويشدد في ذكره: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾ (البقرة)
انظروا كيف اشترطت
الآية لقبول توبة هؤلاء أن يبيبنوا ويعلموا ..
وقال تعالى :﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى
وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾
(البقرة)
وقال :﴿
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ (آل عمران:187)
وعلى هذا النهج أخبر
النبي r عن العذاب الشديد الذي ينتظر القاعدين عن
وظيفة التعليم، قال r : ( من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة
ملجما بلجام من نار ، ومن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجما بلجام
من نار)[34]
وقال r :( إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كتم حديثا فقد كتم
ما أنزل الله)[35]
وقال r : (مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز
الكنز ثم لا ينفق منه)[36]
وقال r : ( ناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من
خيانته في ماله ، وإن الله - عز وجل – مسائلكم)[37]
وفي الحديث أنه r خطب ذات يوم خطبة، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا،
ثم قال: (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ،
وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون ، والله ليعلمن قوم
جيرانهم ، ويفقهونهم ، ويعظونهم ، ويأمرونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون
أو لأعاجلنهم العقوبة)، ثم نزل، فقال قوم: من ترون عنى بهؤلاء؟ قالوا : الأشعريين
هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب ، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا
رسول الله r ، فقالوا: يا رسول الله ذكرت بخير وذكرتنا
بشر، فما بالنا؟ فقال r : (ليعلمن قوم جيرانهم وليفقهنهم وليعظنهم
، وليأمرنهم ولينهوهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ، ويتفقهون ، ويتعظون أو لأعاجلنهم
العقوبة في الدنيا)، فقالوا: يا رسول الله أنعظ غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم ،
وأعادوا قولهم: أنعظ غيرنا ؟ فقال ذلك أيضا، فقالوا : أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم
ويعلموهم ويعظوهم، ثم قرأ رسول الله r هذه الآية :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ
مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)﴾ (المائدة)[38]
قلنا: عرفنا
المسؤولية الأولى .. فما تريد بالثانية؟
قال: العالم هو الذي
لا يتوقف في علمه .. ولا يكتفي بالتقليد في علمه ..
العالم الحقيقي هو الذي
يجتهد ليحل كل معضلة، ويرفع كل مشكلة، ويسد كل ثغرة، ولا يترك أي فرصة للشيطان ولا
لأبواب الشيطان أن تفسد الأمة أو تنحرف بها.
لقد ذكر رسول الله r أصناف العلماء، فقال :( إن مثل ما بعثني الله به من
الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قبلت الماء فأنبتت
الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا
منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفةٌ منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت
كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم
يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)[39]
ففي هذا الحديث ذكر
رسول الله r ثمرتين صالحتين، وثمرة فاسدة:
أما الثمرة الأولى،
وهي أصلح الثمار وأكملها، فهي ثمرة انتفعت بالعلم انتفاعا عظيما، حيث أنبتت من
غيثه الكلأ والعشب الكثير الذي انتفع به الإنسان وغير الإنسان.
وأما الثمرة
الثانية، فأمسكت من الماء ما انتفع به الناس بعد ذلك في سقيهم وزرعهم.
وأما الثمرة
الثالثة، فلم تنتفع بشيء .. فلم تنبت كلأ، ولم تسق عطشانا.
فالرسول r في هذا الحديث يدعوا العلماء لأن ينبتوا من علمهم الكلأ
والعشب الكثير .. فلا خير في علم لا ينبت شعرا، ولا ينمي خيرا.
نعم .. يمكن أن يكون حفظة للعلم .. ولكن
العلم لا يكتمل إلا بالاجتهاد .. قد جمع
النبي r بين كلتا الناحيتين، فقال :( نضر الله
عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى
من هو أفقه منه)[40]
قلنا: أذلك في الدين
أم في الدنيا؟
قال: ليس في الإسلام
دين ودنيا .. كل العلوم عندنا علوم دين .. لأن المطلوب منا أن نعمر الدنيا بالدين،
لا أن نفصل الدنيا عن الدين .. فالدنيا بلا دين أم الخبائث .. والدنيا بالدين أم
الطيبات.. وكما ينبغي أن نبغض أم الخبائث، فينبغي أن نحب أم الطيبات.
قلنا: عرفنا
المسؤولية الثانية .. فما تريد بالثالثة؟
قال: العالم المعلم
المجتهد هو الذي يبلغ ما أداه إليه اجتهاده إلى أولي الأمر .. لا يحول بينه وبين
ذلك حجب ولا عسكر ولا سيوف ..
لقد أمر رسول الله r بذلك بصيغ شتى، فقال: ( سيكون أمراء من بعدي يعرفون
وينكرون فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم ومن خالطهم هلك)[41]
وقال: ( سيكون بعدي
أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولم
يرد على الحوض)[42]
وقال:( ستكون امراء
فتعرفون وتنكرون ، فمن كره برئ ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع)[43]
وقال : ( ما من نبي
بعث الله في أمة من قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقدون
بأمره ، ثم إنها تخلف منهم من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا
يأمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم
بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل)[44]
وقال : ( لا يحقرن
أحدكم نفسه أن يرى أمر الله تعالى فيه مقال ، فلا يقول : يا رب خشيت الناس ، فيقول
: فاياي كنت أحق أن تخشى)[45]
وقال : ( أفضل
الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)[46]
وقال : (الجهاد أربع
: الامر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، والصدق في مواطن الصبر ، وشنآن الفاسق)[47]
قال رجل منا: إن ما
تذكره من النصوص إما أن يكون ضعيفا، أو يكون منسوخا.
قال: وكيف عرفت ذلك؟
قال الرجل: هل ترى
أن كل أولئك الذين يسكتون على السلاطين بل يؤيدونهم في جورهم لم تبلغهم هذه الأحاديث.
قال: بلى بلغتهم.
قال الرجل: فهم يرون
ضعفها إذن، أو يرون نسخها؟
قال: لا .. هم لا
يرون ضعفها .. ولكنهم يرون ضعف أنفسهم .. لقد نسخوا هذه النصوص بأهوائهم ..
سكت قليلا، ثم قال:
سأخبرك عن مواقف العلماء الفحول الذين لم يختلف في علمهم أحد من الناس:
منهم طاووس اليماني[48] .. لقد روي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة، فلما دخلها قال: ائتوني
برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال: من التابعين، فأتي بطاوس
اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن
قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه وجلس بإزائه، وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب
هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله؛ فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن
ذلك، فقال له: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد
غضباً وغيظاً؛ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي، ولم تسلم علي بإمرة
المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟ قال: أما ما
فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات
ولا يعاقبني ولا يغضب علي، وأما قولك (لم تقبل يدي) فإني سمعت أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقول: لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من
شهوة أو ولده من رحمة، وأما قولك (لم تسلم علي بإمرة المؤمنين)، فليس كل الناس
راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب، وأما قولك (لم تكنني)، فإن الله تعالى سمى أنبياءه
وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ (المسد:1)، وأما قولك (جلست بإزائي) فإني سمعت أمير
المؤمنين علياً ـ رضي الله عنه ـ يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار،
فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام)، فقال له هشام: عظني، فقال: سمعت من أمير
المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ يقول: (إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال
تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته)، ثم قام منصرفا.
وحدث ابن طاووس قال:
كنت لا أزال أقول لأبي أنه ينبغي أن يخرج على هذا السلطان, وأن يفعل به .. قال:
فخرجنا حجاجا، فنزلنا في بعض القرى وفيها عامل ـ يعني لأمير اليمن ـ يقال له ابن
نجيح، وكان من أخبث عمّالهم, فشهدنا صلاة الصبح في المسجد, فجاء ابن نجيح فقعد بين يدي طاووس فسلم عليه فلم يجبه, ثم
كلمه فأعرض عنه, ثم عدل الى الشق الآخر فأعرض عنه, فلما رأيت ما به قمت اليه فمددت
يده وجعلت أسائله, وقلت له: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك, فقال العامل: بلى, معرفته
لي فعلت ما رأيت. قال: فمضى أبي لا يقول لي شيئا فلما دخلت المنزل قال: أي لكع
بينما أنت زعمت تريد أن تخرج عليهم بسيفك لم تستطع أن تحبس عنه لسانك.
وروي أن الخليفة
سليمان بن عبد الملك جاء يوما الى طاووس فلم ينظر اليه، فقيل له في ذلك، فقال:
أردت أن يعلم أن لله رجالا يزهدون فيما لديه.
وروي أن أبا جعفر
المنصور استدعى طاووس ومعه مالك بن أنس، فلما دخلا عليه, أطرق ساعة ثم التفت الى طاووس، فقال له: حدثني عن أبيك يا
طاووس، فقال: حدثني أبي أن رسول الله r : ( أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل
أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله)
قال مالك: فضممت
ثيابي مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت اليه أبو جعفر, فقال: عظني يا طاووس.
قال: نعم يا أمير
المؤمنين, ان الله تعالى يقول :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا
فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾ (الفجر)
قال مالك: فضممت
ثيابي مخافة أن يملأني من دمه، فأمسك عنه ثم قال: ناولني الدواة, فأمسك ساعة حتى
اسودّ ما بيننا وبينه, ثم قال: يا طاووس, ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه، فقال: ما
يمنعك أن تناولنيها؟ فقال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع
ذلك قال: قوما عني.
قال طاووس: ذلك ما
كنا نبغ منذ اليوم.. قال مالك: فما زلت أعرف لطاووس فضله.
ومنهم الأحنف بن قيس[49] .. دخل على معاوية وعليه شملة ومدرعة صوف،
فلما مثل بين يديه اقتحمته عينه فأقبل عليه فقال: مه! فقال الأحنف: أيها الأمير،
أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الدخول، فالمكثر
منها قد أطرق والمقل منها قد أملق. وبلغ به المخنق؛ فإن رأى الأمير أن ينعش الفقير
ويجبر الكسير ويسهل العسير، ويصفح عن الدخول ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف
البلاء ويزيل اللأواء. ألا وإن السيد من يعم ولا يخص، ويدعو الجفلى ولا يدعو
النقرى، إن أحسن إليه شكر وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء الرعية عماداً يدفع
عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات.
ومنهم سفيان الثوري[50] .. أدخل على أبي جعفر المنصور بمنى فقال له: ارفع إلينا حاجتك، فقال: اتق
الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً، فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك،
فقال: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق
الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال: حج
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً،
وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، وخرج.
وحدث أبو عمران
الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنأوه بما صار إليه من
أمر الخلافة، ففتح بيوت الأموال، وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك
يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر النسك والتقشف، وكان مؤاخياً لسفيان بن سعيد بن
المنذر الثوري قديماً، فهجره سفيان ولم يزره، فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به
ويحدثه، فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه
كتاباً يقول فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه
سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين
المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك، ولم
أقطع منها ودك، وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي
قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد
الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد
فتحت بيوت الأموال وأعطيتم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني، وإني
استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت لك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً، وقد علمت يا أبا
عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل
العجل)
فلما كتب الكتاب
التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته، فقال: علي برجل من
الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني، فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق
به إلى الكوفة، فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري، فإذا
رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول، فأحص عليه دقيق أمره
وجليله لتخبرني به.
فأخذ عباد الكتاب
وانطلق به حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة، فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان، فقيل
له هو في المسجد.
قال عباد: فأقبلت
إلى المسجد، فلما رآني قام قائما، وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير.
قال عباد: فوقعت الكلمة في قلبي فجرحت، فلما
رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة ، فربطت فرسي بباب المسجد، ودخلت
فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من
عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام علي برؤوس الأصابع، فبقيت واقفاً
فما منهم أحد يعرض على الجلوس، وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت:
إن المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه.
فلما رأى الكتاب
ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه
ولفها بعباءته وأخذه، فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال: يأخذه بعضكم
يقرؤون فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده.
قال عباد: فأخذه
بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه، ثم فضه وقرأه، وأقبل سفيان يتبسم تبسم
المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: أقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل
له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي. فقال: اكتبوا إلى
الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام
فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا. فقيل له: ما نكتب؟
فقال: اكتبوا: (بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر
الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان. أما بعد:
فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جلعتني
شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته
في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي
تشهدني على نفسك. أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك
وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى، يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين
بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى
والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم
والأرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشد يا هرون مئزرك وأعد للمسألة
جواباً وللبلاء جلباباً، واعلم أنك تقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ
سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً
وللظالمين إماماً، يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت ستراً دون بابك
وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون
الناس ولا ينصفون؟ يشربون الخمور ويضربون من يشربها! ويزنون ويحدون الزاني؟
ويسرقون ويقطعون السارق! أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على
الناس؟ فكيف بك يا هرون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى :﴿
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)﴾ (الصافات)، أي الظلمة وأعوان الظلمة، فقدمت
بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك،
والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق
الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة
عن سيئاتك، بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك
بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية، فاتق الله يا هرون في رعيتك،
واحفظ محمدا r في أمته وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن
هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها
واحد بعد واحد فمنهم من تزود زاداً نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا
هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام)
قال عباد: فألقي إلي
الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة
من قلبي فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من
الله إلى الله؟ فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم، فقلت: لا حاجة لي في المال ولكن
جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي
كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أمله حتى
أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً، فهزأ بي من كان على باب الخليفة. ثم
استؤذن لي.
فلما دخلت عليه وبصر
بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل
والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا مالي ولملك يزول عني سريعاً؟
ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي.
فأقبل هرون يقرؤه
ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ
عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد، وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة
لغيره. فقال هرون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه والشقي من
أهلكتموه، وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه.
ثم لم يزل كتاب
سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله.
ومنهم محمد بن كعب[51] .. قال لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين إنما الدنيا سوق من الأسواق،
فمنها خرج الناس بما ربحوا فيها لآخرتهم وخرجوا بما يضرهم، فكم من قوم غرهم مثل
الذي أصبحت فيه حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا مرملين، لم يأخذوا من الدنيا
للآخرة، فأخذ مالهم من لا يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم؟ فانظر إلى الذي تحب أن
يكون معك فقدمه بين يديك حتى تخرج إليه، وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت
فابتغ به البدل حيث يجوز البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك ترجو رواجها
عندك، يا أمير المؤمنين افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم.
ومنهم الحسن بن محمد بن الحسين .. دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له: يا عمر، ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان.
فقال عمر: إيه أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة! وجثى على ركبتيه، فقال الحسن: من إذا
رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا قدر لم
يتناول ما ليس له.
ومنهم ابن شهاب الزهري[52] .. دخل على الوليد بن عبد الملك فقال: يا ابن شهاب ما حديث يحدثنا به أهل
الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثونا أن الله تبارك وتعالى إذا
استرعى عبداً رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات! قال: كذبوا يا أمير
المؤمنين! أنبي خليفة أقرب إلى الله أم خليفة ليس بنبي؟ قال: بل نبي خليفة. قال:
أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بما لا شك فيه، قال الله تعالى لنبيه داود :﴿
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26).. يا أمير المؤمنين، هذا وعيد الله لنبي خليفة
فما ظنك بخليفة غير نبي؟ فقال الوليد: إن الناس ليفرونا عن ديننا.
ومنهم شقيق البلخي[53] .. دخل على هارون الرشيد فقال له: أنت شقيق الزاهد؟ فقال: أنا شقيق، ولست
بزاهد.. فقال له: أوصني. فقال: إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق، وأنه يطلب منك
مثل صدقة، وأنه أعطاك موضع عمر الفاروق، وأنه يطلب منك الفرق بين الحق والباطل
مثله، وأنه أقعدك موضع عثمان ذي النورين وهو يطلب منك مثل حيائه وكرمه، وأعطاك
موضع علي وهو يطلب منك مثل العلم والعدل كما يطلب منه.. فقال له: زدني من وصيتك.
فقال: نعم. اعلم أنا لله تعالى داراً تعرف بجهنم، وأنه قد جعلك بواب تلك الدار،
وأعطاك ثلاثة أشياء بيت المال والسوط والسيف، وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار
بهذه الثلاثة، فمن جاء محتاجاً فلا تمنعه من بيت المال، ومن خالف أمر ربه فأدبه
بالسوط، ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف بإذن ولي المقتول، فإن لم تفعل ما
أمرك فأنت الزعيم لأهل النار، والمتقدم إلى البوار.. فقال له: زدني. فقال: إنما
مثلك كمثل معين الماء، وسائر العلماء في العالم كمثل السواقي، فإذا كان المعين
صافياً لا يضر كدر السواقي، وإذا كان المعين كدراً لا ينفع صفاء السواقي.
ومنهم ابن السماك[54] .. قال له هارون الرشيد: عظني.. فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يرض
لخلافته في عباده غيرك، فلا ترض من نفسك إلا ما رضي به عنك، فإنك ابن عم رسول الله
r وأولى الناس بذلك.. يا
أمير المؤمنين من طلب فكاك رقبته في مهلة من أجله كان خليقاً أن يعتق نفسه.. يا
أمير المؤمنين من أذاقته الدنيا حلاوتها بركون منه إليها، أذاقته الآخرة مرارتها
بتجافيه عنها.. يا أمير المؤمنين ناشدتك الله أن تقدم على جنة عرضها السماوات والأرض،
وقد دعيت إليها وليس لك فيها نصيب.. يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتحاسب وحدك،
وإنك لا تقدم إلا على حالة نادم مشغول، ولا تخلف إلا مفتوناً مغروراً، وإنك وإيانا
لفي دار سفر وجيران ظعن.
وحدث عن نفسه قال:
بعث إلي هارون، فلما انتهيت إلى باب القصر أخذ حرسيان بضبعي فأعجلا بي في دهليز
القصر، فلما انتهيت إلى باب القاعة لقيني خصيان ضخمان فأخذاني من الحرسيين فأعجلا
بي في قاعة القصر، فانتهيت إلى البهو الذي هو فيه، فتلقاني خصيان دونهما فأخذاني
فأعجلا بي في البهو، فقال لهما هارون: رفقاً بالشيخ. فلما وقفت بين يديه قلت له:
يا أمير المؤمنين، ما مر بي يوم منذ ولدتني أمي أتعب من يومي هذا! فاتق الله في
خلقه واحفظ محمداً في أمته، وانصح لنفس في رعيتك، فإن لك مقاماً بين يدي الله
تعالى أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، فاتق الله واعلم أن من أخذ الله وسطواته
على أهل المعصية كيت وكيت. قال: فاضطرب على فراشه حتى نزل إلى مصلى بين يدي فراشه.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذل الصفة فكيف لو رأيت ذل المعاينة؟ قال: فكادت نفسه
تخرج فقال يحيى للخصيين: أخرجاه فقد أبكى أمير المؤمنين.
ثم دخل مرة أخرى
فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي أكرمك بما أكرمك به لحقيق عليك أن تحب ما أحبه
وتبغض ما أبغضه، فوالله لقد أحب الله داراً وأبغضتها وأبغض داراً وأحببتها، فكأنما
أردت خلاف ربك أو أردت سواه. واعلم يا أمير المؤمنين أن الذي في يديك لو بقي على
من كان قبلك لم يصل إليك، فكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك، فاتق الله في خلافته
واحفظ وصية محمد r.
وقال له الرشيد مرة:
يا ابن السماك عظني، وبيده شربة من ماء، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك
هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبس عنك
خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم. قال: فلا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة!
ومنهم ابن أبي شميلة .. دخل على عبد
الملك بن مروان فقال له: تكلم، قال: بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم
عليه وبال إلا ما كان لله؟ فبكي عبد الملك ثم قال: يرحمك الله لم يزل الناس
يتواعظون ويتواصون، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من
غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه؛ فبكى عبد الملك ثم
قال: لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت.
ومنهم عمرو بن عبيد[55] .. دخل على المنصور فقرأ :﴿
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ
(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾ (الفجر)، ثم قال: لمن فعل مثل
فعالهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين فإن بأبوابك ناراً تأجج، لا يعمل فيها بكتاب
الله ولا بسنة رسول الله، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا
تصلح دنياهم بفساد آخرتك! أما والله لو علم عمالك أنه لا يرضيك منهم إلا العدل
لتقرب به إليك من لا يريده.
فقال له سليمان بن
مجالد: اسكت! فقد غممت أمير المؤمنين.
فقال عمرو: ويحك يا
ابن مجالد! أما كفاك أنك خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين حتى أردت أن تحول بينه وبين
من ينصحه؟ اتق الله يا أمير المؤمنين فإن هؤلاء قد اتخذوك سلماً إلى شهواتهم، فأنت
كالماسك بالقرون وغيرك يحلب، وإن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئاً!
ومنهم مالك بن دينار[56] .. دخل على أمير البصرة، فقال: أيها الأمير قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى
يقول ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني! ومن اعز ممن اعتز بي؟ أيها الراعي
السوء دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاماً
تتقعقع، فقال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك؟. قال: لا،
قال: قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا.
ونظر مرة إلى المهلب
بن أبي صفرة يجر أذياله ويتبختر في أثواب خيلائه، فناداه: أن ارفع من ثيابك ..
فقال له المهلب: أوما تعرفني؟ قال له مالك: بلى إني أعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك
جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ومنهم عمر بن عبد العزيز[57] .. كان واقفاً مع سليمان بن عبد الملك، فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره
على مقدمة الرحل، فقال له عمر: هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه؟ ثم نظر
سليمان إلى الناس فقال: ما أكثر الناس، فقال عمر: خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له
سليمان: ابتلاك الله بهم.
وقال يحيى بن سعيد:
حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفا على عقبة عسفان نظر
سليمان إلى السرادقات قد ضربت له، فقال له: يا عمر كيف ترى؟ قال: أرى دنيا عريضة
يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عنها المأخوذ بها. فبينما هو كذلك إذ طار غراب من
سرادق سليمان في منقاره كسرة فصاح، فقال سليمان: ما يقول هذا الغراب؟ فقال عمر: ما
أدري ما يقول، ولكن إن شئت أخبرتك بعلم. قال: أخبرني. قال: هذا غراب طار من سرادقك
في منقاره كسرة، أنت بها مأخوذ مسؤول عنها من أين دخلت ومن أين خرجت؟ قال: إنك
لتجيء بالعجب! قال: أفلا أخبرك بأعجب من هذا؟ قال: بلى. قال: من عرف الله كيف
عصاه، ومن عرف الشيطان كيف أطاعه، ومن أيقن بالموت كيف يهنيه العيش؟ قال: لقد غشيت
علينا ما نحن فيه.. ثم ضرب فرسه وسار.
ومنهم أبو حازم[58] .. روي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم
فدعاه، فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم
خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، فقال: يا
أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم
على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي
عند الله؟قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال :﴿ إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)﴾
(الانفطار)، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين، ثم قال سليمان:
يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟ قال: أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال أفضل؟
قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الكلام أسمع؟ قال: قول الحق عند من
تخاف وترجو، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها،
قال: فأي المؤمنين أخسر؟ قال: رجل خطا في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا
غيره، قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني؟ قال: لا بد فإنها نصيحة
تسديها إلي، قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك
عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا،
فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم؟ فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت، قال أبو حازم:
إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه. قال: وكيف لنا أن
نصلح هذا الفساد؟ قال: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه، فقال سليمان: ومن يقدر على
ذلك؟ فقال: من يطلب الجنة ويخاف من النار. فقال سليمان:ادع لي. فقال أبو
حازم:اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ
بناصيته إلى ما تحب وترضى، فقال سليمان: أوصني، فقال: أوصيك وأوجز، عظم ربك ونزهه
أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.
وقال عمر بن عبد
العزيز لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب
أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن،
فلعل تلك الساعة قريبة.
ومنهم عطاء بن أبي رباح[59] .. دخل على عبد الملك بن
مروان - وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في
خلافته - فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال له: يا
أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده
بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق
الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول
عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له: أجل
أفعل، ثم نهض وقام. فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك
وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج فقال عبد الملك:
هذا وأبيك الشرف!
وروي أن الوليد بن
عبد الملك قال لحاجبه يوماً: قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني. فوقف
الحاجب على الباب مدة فمر به عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له: يا شيخ أدخل
إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك؛ فدخل عطاء على الوليد على حاجبه وقال له. ويلك
أمرتك أن تدخل إلى رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إلي رجلاً لم يرضى أن يسميني
بالاسم الذي اختاره الله لي. فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره، ثم قال لعطاء:
اجلس، ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا أن في جهنم
وادياً يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه. فصعق الوليد من قوله، وكان
جالساً بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشياً عليه؛ فقال
عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر بن عبد العزيز فغمزه غمرة
شديدة، وقال له: يا عمر إن الأمر جد فجد، ثم قام عطاء وانصرف.. فبلغنا عن عمر بن
عبد العزيز رحمه الله أنه قال: مكنت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي.
ومنهم الحسن البصري[60] .. روى بعضهم: أن الحجاج دعا بفقهاء
البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه، ودخل الحسن البصري آخر من دخل، فقال الحجاج:
مرحباً بأبي سعيد إلي إلي، ثم دعا بكرسي فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه؛ فجعل
الحجاج يذاكرنا، ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فنال منه ونلنا
منه مقاربة له وفرقاً من شره؛ والحسن ساكت عاض على إبهامه؛ فقال: يا أبا سعيد مالي
أراك ساكتاً؟ قال: ما عسيت أن أقول؟ قال: أخبرني برأيك في أبي تراب، قال: سمعت
الله جل ذكره يقول :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى
عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ (143)﴾ (البقرة)، فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان، فأقول: ابن عم
النبي r
وختنه على ابنته، وأحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن
تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها .. والله ما
أجد فيه قولاً أعدل من هذا .. فبسر وجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً، فدخل
بيتاً خلفه وخرجنا..
قال عامر الشعبي:
فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا
عامر، يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس
تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه .. ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت، أو سكت
فسلمت؟ قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها، قال الحسن: فذاك أعظم
من الحجة عليك وأشد في التبعة.
قال: وبعث الحجاج
إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول (قاتلهم الله قتلوا عباد الله على
الدينار والدرهم؟) قال: نعم، قال ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء
من المواثيق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: يا حسن أمسك عليك لسانك، وإياك أن
يبلغني عنك ما أكره، فأفرق بين رأسك وجسدك.
وروى أن ابن هبيرة
دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم،
وجعل يكلم عامر الشعبي، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علماً، ثم أقبل على
الحسن البصري فسأله، ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة - يعني الشعبي - وهذا
رجل أهل البصرة - يعني الحسن - فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن،
فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله
عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما
يصلحهم مع النصيحة لهم، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه
فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم، فيبلغ أمير
المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا
إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة. فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من
الأمور والنية فيها على ما ذكرت؟
قال الشعبي: فقلت:
أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب، قال: فسر بقولي وأعجب به ورأيت
البشر على وجهه، وقال: فلله الحمد.
ثم أقبل على الحسن
فقال: ما تقول يا أبا سعيد قال: قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين
على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم
والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم
بالنصيحة، وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله r يقول: قال رسول الله r : ( من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة
حرم الله عليه الجنة)، ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم
وأن يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى
أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير
المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأعرض كتاب أمير
المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته
مخالفاً لكتاب الله فانبذه؛ يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب
العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف
ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك؛ يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا
يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني
أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
فقال ابن هبيرة:
أربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين؛ فإن أمير المؤمنين صاحب
العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل، وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة
لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته.
فقال الحسن: يا ابن
هبيرة، الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد، يا ابن هبيرة: إنك إن
تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقي رجلاً يغريك ويمنيك.
فقام ابن هبيرة وقد
بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره
وحرمتنا معروفه وصلته، فقال: إليك عني يا عامر، قال: فخرجت إلى الحسن التحف والطرف،
وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلاً لما أدى إليه كنا أهلاً أن يفعل
ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين
المقارف وما شهدنا مشهد إلا برز علينا. وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم. قال
عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه.
ومنهم محمد بن واسع[61] .. دخل على بلال بن أبي بردة فقال له: ما تقول في القدر؟ فقال: جيرانك أهل القبور
فتفكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر.
ومنهم ابن أبي ذؤيب .. حدث محمد بن علي
قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب، وكان والي
المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن
بن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال: فسأله، فقال: ما
تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب؟ فقال: أشهد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثير والأذى
لهم. فقال أبو جعفر: قد سمعتم، فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين سله عن الحسن بن
زيد، فقال: يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد؟ فقال: أشهد عليه أنه يحكم
بغير الحق ويتبع هواه، فقال: قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ
الصالح؟ فقال: يا أمير المؤمنين أسأله عن نفسك. فقال: مما تقول في؟ قال: تعفيني يا
أمير المؤمنين، قال: أسألك بالله إلا أخبرتني. قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف
نفسك؟ قال: والله لتخبرني، قال: أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه، فجعلته في
غير أهله، وأشهد أن الظلم ببابك فاش.. قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في
قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس
والروم والديلم والترك بهذا المكان منك! فقال ابن أبي ذؤيب: يا أمير المؤمنين قد
ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا
آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك صادق
لقتلتك، فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي،
قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال
له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار، ولكن ساءني قولك له ابنك
المهدي، فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد.
ومنهم الأوزاعي[62] .. حدث عن نفسه قال: بعث إلي أبو جعفر
المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة
رد علي واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: قلت وما الذي
تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال: فقلت: فانظر يا
أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه
وجهت إليك وأقدمتك له؟ قال: قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع
وأهوى بيده الى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت
نفسي وانبسطت في الكلام. فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال
رسول الله r: ( أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه
وإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد
بها إثماً يزداد الله بها سخطاً عليه) ..
يا أمير المؤمنين
حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله r : ( أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله
عليه الجنة) ..
يا أمير المؤمنين من
كره الحق فقد كره الله. إن الله هو الحق المبين. إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين
ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله r وقد كان بهم رؤوفاً رحيماً مواسياً لهم
بنفسه في ذات يده محموداً عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق.
وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً.. لا تغلق عليك دونهم الأبواب
ولا تقم دونهم الحجاب. تبتهج بالنعمة عندهم. وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير
المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم -
أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم - وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث
منهم فئام وراء فئام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها
إليه؟
يا أمير المؤمنين
حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله r جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين،
فأتاه جبرائيل u فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي
كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعباً؟ فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب
ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه؟
يا أمير المؤمنين
حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله r دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده
فأتاه جبريل u فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً
ولا متكبراً. فدعا النبي r الأعرابي فقال: (اقتص مني)، فقال
الأعرابي: قد أحللتك؛ بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتيت على نفسي.
فدعا له بخير.
يا أمير المؤمنين رض
نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من بربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول
فيها رسول الله r : ( لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من
الدنيا وما فيها)
يا أمير المؤمنين إن
الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك..
يا أمير المؤمنين
أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ
هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)، قال
الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك، فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن؟
يا أمير المؤمنين
بلغني أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة
لخشيت أن أسأل عنها، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟
يا أمير المؤمنين
أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك :﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ (ص:26)، قال الله تعالى في الزبور: يا داود إذا
قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له
فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة، يا داود إنما جعلت
رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبرو الكسير
ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء.
يا أمير المؤمنين
إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.
يا أمير المؤمنين
حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري: أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله
عنه ـ استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك
من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال: لا، قال: وكيف
ذلك؟ قال: إنه بلغني أن رسول الله r قال : ( ما من وال يلي شيئاً من أمور
الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على
جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب
فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فيهوي به في النار
سبعين خريفاً)، فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ ممن سمعت هذا؟ قال: من أبي ذر وسلمان
فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول الله r فقال عمر: وا عمراء من يتولاها بما فيها؟
فقال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ
المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني.
يا أمير المؤمنين قد
سأل جدك العباس النبي r إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له
النبي r : ( يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير
من إمارة لا تحصيها) نصيحة منه لعمه وشفقة عليه، وأخبره أنه لا يغني عنه من الله
شيئاً إذ أوحى الله إليه :﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
(الشعراء:214)، فقال: يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني
عنكم من الله شيئاً إن لي عمل ولكم عملكم، وقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه
ـ: (لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقد، لا يطلع منه على عورة، ولا
يخاف منه على حرة، ولا تأخذه في الله لومة لأئم)
وقال: (الأمراء
أربعة؛ فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه
بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه
الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله r : ( شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده)، وأمير أرتع
نفسه وعماله فهلكوا جميعاً)
وقد بلغني يا أمير
المؤمنين أن جبرائيل u أتى النبي r فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار
فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة، فقال له: يا جبريل صف لي النار فقال: إن الله
تعالى أمر بها فأوقد عيها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم
أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها،
والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً
ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ولو أن ذراعاً من
السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت، ولو أن
رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه)
وقد بلغني يا أمير
المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد
الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين.. يا أمير
المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من
طالب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه. فهذه
نصيحتي إليك والسلام عليك.
ثم نهضت فقال لي:
إلى أين؟ فقلت: إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: قد أذنت
لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه
أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول
القول غير المتهم في النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله.
قال محمد بن مصعب:
فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع
نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
ومنهم أبو يوسف القاضي[63] .. عندما طلب هارون الرشيد من أبي يوسف
القاضي وضع كتاب الخراج .. قدم له بهذه النصيحة .. قال: يا أمير المؤمنين: إن الله
وله الحمد, قد قلّدك أمرا عظيما, ثوابه أعظم الثواب, وعقابه أشد العقاب, قلدك أمر
هذه الأمة, فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير, قد استرعاكهم الله وائتمنك عليهم
وابتلاك بهم وولاك أمرهم, وليس يلبث البنيان اذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله
من القواعد فيهدمه على من بناه وأعان عليه. فلا تضيّعن ما قلدك الله من أمر هذه
الأمة الرعية, فان القوة في العمل باذن الله, لا تؤخر عمل اليوم الى الغد, فانك
اذا فعلت ذلك أضعت, إن الأجل دون الأمل, فبادر الأجل بالعمل فإنه لا عمل بعد
الأجل, إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه، فأتم الحق فيما ولاك
الله وقلدك ولو ساعة من نهاره, فإنّ أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت
رعيّته, ولا تزغ فتزيغ رعيّتك, وإيّاك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب واذا نظرت الى
أمرين, أحدهما للآخرة والآخر للدنيا فاختر أمر الآخرة على الدنيا, فإن الآخرة تبقى
والدنيا تفنى ولكن من خشية على حذر, واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب
والبعيد, ولا تخف في الله لومة لائم, واحذر فإن الحذر في بالقلب وليس باللسان, اتق
الله فإنما التقوى بالتوقي, ومن يتقي الله يتقه.
إني أوصيك يا أمير
المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله, ورعاية ما استرعاك الله, وألا تنظر في ذلك إلا
إليه وله, فإنك إن لا تفعل تتوعّر عليك سهولة الهدى وتعمى في عينيك وتتخفى رسومه,
ويضيق عليك رحبه, وتنكر منه ما تعرف, وتعرف منه ما تنكر, فخاصم نفسك خصومة من
الفلج لها لا عليها, فإن الراعي المضيّع يضمن ما هلك على يديه ما لو شاء رده عن
مواطن الهلكة باذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة فان ترك ذلك أضاعه وإن تشاغل
بغيره كانت الهلكة عليه أسرع وبه آخذ.
وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك, ووفاه الله أضعاف ما وفى له.
فاحذر أن تضيع
رعيّتك فيستوفي ربها حقها منك ويضيّعك بما أضعت أجرك, وانما يدعم البنيان قبل أن
ينهدم, وانما لك من عملك ما عملت فيمن ولا الله أمره, فلست تنسى ولا تغفل عنهم
وعما يصلحهم, فليس يغفل عنك ولا يضيع حقك من هذه الدنيا.. وأوصيك في هذه الليالي
والأيام بكثرة تحريك لسانك في نفسك بذكر الله تسبيحا وتهليلا وتمجيدا والصلاة على
رسول الله r نبي الرحمة وإمام الهدى.
ومنهم الفضيل بن عياض[64] .. حدث الفضل بن الربيع وزير هارون الرشيد، قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني،
فخرجت مسرعا فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال: ويحك قد حك في نفسي
شيء، فانظر لي رجلا أسأله فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة فقال: امض بنا إليه.
فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من ذا? فقلت: أجب
أمير المؤمنين فخرج مسرعا، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال له:
خذ لما جئناك له رحمك الله.
فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين، قال: نعم
فقال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، انظر لي رجلا
اسأله فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب
فقال: من هذا? قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو
أرسلت إلي أتيتك قال: خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة ثم قال له عليك دين قال: نعم
قال: أبا عباس اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئا انظر لي
رجلا اسأله قلت: ها هنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه فأتيناه فإذا وهو قائم يصلي
يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا، فقلت:
أجب أمير المؤمنين، فقال:( ما لي، ولأمير المؤمنين ) فقلت: سبحان الله أما عليك
طاعة? أليس قد روي عن النبي r أنه قال:( ليس للمؤمن أن يذل نفسه)، فنزل ففتح الباب ثم
رتقى إلى الغرفة، فأطفا المصباح ثم التجأ إلى زواية من زوايا البيت، فدخلنا،
فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال:( يا لها من كف ما
ألينها، إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل ) فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي
من قلب تقي.
فقال له: خذ لما
جئناك له رحمك الله، فقال:( إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد
الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم:( إني قد ابتليت بهذا البلاء،
فأشيروا علي ) فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبد
الله:( إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك من الموت )
وقال له محمد بن كعب
القرظي:( إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم
عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك )
وقال له رجاء ين
حيوة:( إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك،
واكره لهم ما تكره لنفسك،ثم مت إذا شئت)
وإني أقول لك:( أني
أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل
هذا? )
فبكى هارون بكاء
شديدا حتى غشي عليه فقلت له:( ارفق بأمير المؤمنين) فقال:( يا ابن أم الربيع تقتله
أنت وأصحابك وارفق به أنا )، ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير
المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر:( يا أخي
أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله
فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء)، قال فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر
بن عبد العزيز، فقال له:( ما أقدمك؟) قال:( خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية
أبدا حتى ألقى الله عز وجل )
فبكى هارون بكاء
شديدا ثم قال له:( زدني رحمك الله ) فقال:( يا أمير المؤمنين، إن العباس عم
المصطفى r جاء إلى النبي r فقال:( يا رسول الله أمرني على إمارة ) فقال له النبي r:( إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة،
فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل )
فبكى هارون بكاء شديدا، وقال له:( زدني رحمك
الله ) فقال:( يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم
القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي
قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي r قال:( من اصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة )
فبكى هارون، وقال
له:( عليك دين ) قال:( نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي
إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي) قال: إنما أعني دين العباد قال:( إن ربي لم
يأمرني بهذا أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فقال تعالى:) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ( (الذريات:56 ـ 58)
فقال له هارون:( هذه
ألف دينار، خذها، فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك ) فقال:( سبحان الله،
أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا? سلمك الله ووفقك )
ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون:
أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا قد ترى
ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها:( مثلي ومثلكم
كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه، فأكلوا لحمه )
فلما سمع هارون هذا
الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج، فجلس في السطح على باب
الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه، فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك، إذ
خرجت جارية سوداء فقالت:( يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله،
فانصرفنا.
ومنهم الطرطوشي[65] .. قال يحدث عن نفسه[66]:
دخلت على الأفضل بن أمير الجيوش وهو ملك مصر فقلت: سلام عليكم ورحمة الله، فرد
السلام على نحو ما سلمت رداً جميلاً، وأكرم إكراماً جزيلاً، وأمرني بدخول مجلسه
وأمرني بالجلوس فيه.. فقلت: أيها الملك، إن الله سبحانه وتعالى قد أحلك محلاً
عالياً شامخاً وأنزلك منزلاً شريفاً باذخاً، وملكك طائفة من ملكه وأشركك في حكمه،
ولم يرض أن يكون أمر أحد فوق أمرك، فلا ترض أن يكون أحداً أولى بالشكر منك..
وإن الله سبحانه قد
ألزم الورى طاعتك فلا يكون أحد أطوع لك منك، وليس الشكر باللسان ولكنه بالفعال
والإحسان. قال الله تعالى :﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً ﴾
(سـبأ: من الآية13) ..
واعلم أن هذا الذي
أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك بمثل ما صار
إليك، فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة فإن الله سائلك عن النقير والقطمير
والفتيل، قال الله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾ (الحجر)، وقال الله تعالى :﴿
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى
بِنَا حَاسِبِينَ) (الانبياء:47)
واعلم ـ أيها الملك
ـ أن الله تعالى قد آتى ملك الدنيا بحذافيرها لسليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ
فسخر له الإنس والجن والطير والشياطين والوحوش والبهائم، وسخر له الريح تجري بأمره
رخاء حيث أصاب، ثم رفع عنه حساب ذلك أجمع فقال له :﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (صّ:39)، فوالله ما عدها نعمة
كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجاً من الله
تعالى ومكراً به، فقال :﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ (النمل: من الآية40) .. فافتح الباب وسهل
الحجاب وانصر المظلوم، أعانك الله على نصر المظلوم وجعلك كهفاً للملهوف وأماناً
للخائف.
قلنا: عرفنا الثالث،
فما تريد بالرابع؟
قال: قد يتيسر على
العالم في بعض الأحيان أن يتفوه ببعض الألفاظ في مواعظ السلطان .. ولكن ذلك لا
يكفي.
قلنا: وهل فوق ذلك
شيء؟
قال: أجل .. لا بد
أن يضحي العالم في سبيل المبادئ التي يدعو إليها .. وإلا فلن يقبل منه.
قلنا: بم يضحي؟
قال: قال: أول ما
ينبغي للعالم أن يضحي به مصالح نفسه التي تخوله إياها علاقته بالسلطان ..
قلنا: وما تلك
المصالح؟
قال: الجاه ..
والمال .. والمناصب الرفيعة .. والتي قد تجعله خادما ذليلا للسلطان .. أو تجعله ذيلا
من ذيوله.
لقد تحدث كل العلماء
العاملين عن هذا .. واعتبروه من علامة العالم العالم ..
لقد قال حذيفة ذلك
الرجل العالم بالفتن وأسبابها: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما هي؟ قال: أبواب
الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه.
وقال أبو ذر لسلمة:
يا سلمة .. لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من
دينك أفضل منه.
وقال: من كثر سواد
قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة.
وقال ابن مسعود: إن
الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له، قيل له: ولم؟ قال لأنه يرضيه
بسخط من الله.
وقال سفيان الثوري:
في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك.
وقال الأوزاعي: ما
من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً.
وقال سمنون: ما أسمج
بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال: عند الأمير.. وكنت أسمع أنه
يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، إذ ما دخلت قط
على السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج، فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من
الغلظة والمخالفة لهواهم.
وقال عبادة بن
الصامت: حب القارئ الناسك الأمراء نفاق، وحبه الأغنياء رياء.
واستعمل عمر بن عبد
العزيز رجلاً فقيل: كان عاملاً للحجاج، فعزله، فقال الرجل: إنما عملت له على شيء
يسير، فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً.
وقال الفضيل: ما
ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً.
وقال وهيب: هؤلاء
الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين.
وقال محمد بن سلمة:
الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
ولما خالط الزهري
السلطان كتب أخ له في الدين إليه: (عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت
بحال ينبغي لمن غرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم
الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد r ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء
قال الله تعالى :﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ﴾
(آل عمران: من الآية187)، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم
وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً
تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم
ويدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا في جنب
ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمن أن تكون
ممن قال الله تعالى فيهم :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا
الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا
مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
﴾ (لأعراف:169) .. وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك
فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد :﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ
مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ﴾ (ابراهيم: من الآية38) ..
والسلام)
قلنا: فكيف ينكر
عليهم إن امتنع عن زيارتهم؟
قال: لقد ذكر
فقهاؤنا العدول عذرين للدخول على هؤلاء:
أما أولهما، فأن
يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أوذي أو فسد عليهم طاعة
الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم، بل مراعاة
لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.
وأما الثانية، فأن
يدخل عليهم في دفع ظلم عن الرعية أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم،
فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم
الدخول[67].
قلنا: عرفنا التضحية
بالجاه .. فما التضحية بالمال؟
قال: أن لا يقبل
منهم ما زاد على ما تتطلبه وظيفته من أجر .. وإن استطاع أن يستغني كان أولى .. وقد
كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين.
ويروى أن بلال بن
أبي بردة خرج في جنازة وهو أمير على البصرة، فنظر إلى جماعة وقوفاً فقال: ما هذا؟
قالوا: مالك بن دينار يذكر الناس. فقال الوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له
يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فأدى الرسالة إلى مالك فصاح به مالك: لا، ما
لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما دفنوا ميتهم
قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منها نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى
الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا
يحيى ذكرنا. قال: نسيت شيئاً فأذكركه. قال له: فحدثنا. قال: أما هذا فنعم. قدم
علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا بزنجي
فدفناه إلى جنبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه وتعالى. فقال
بلال: يا أبا يحيى أتدري ما الذي جرأك علينا وما الذي سكتني عنك؟ قال: لا. قال:
لأنك لم تأخذ من دراهمنا شيئاً، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئاً ما اجترأت علي
هذه الجرأة! فأفادني هذا الحديث علماً ألا فاتقوا دراهمهم.
وعن محمد بن صالح
قال: كنت عند حماد بن سلمة، وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ
فيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها؟ فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب، فإذا هو
محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له: ما لي إذا رأيتك امتلأت منك
رعباً؟ قال حماد: لأنه قال r : ( إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله
هابه كل شيء وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء)، ثم عرض عليه أربعين ألف
درهم وقال: تأخذها وتستعين بها قال: ارددها على من ظلمته بها، قال: والله ما
أعطيتك إلا مما ورثته، قال: لا حاجة لي بها قال: فتأخذها فتقسمها، قال: لعلي إن
عدلت في قسمتها أخاف أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم
فازوها عني.
وروى أن الحسن حمل
إليه رجل من خراسان كيساً بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من
رقيق البز، وقال. يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة؛ فقال الحسن: عافاك الله تعالى،
ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس
مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له.
وقيل للأعمش: ولقد
أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال: لا تعجلوا ثلث! يموتون قبل الإدراك وثلث
يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق، والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل.
وقال سعيد بن
المسيب: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص.
وقال الأوزاعي: ما
من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً.
وقال مكحول الدمشقي:
من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقاً إليه وطمعاً فيما لديه خاض
في بحر من نار جهنم بعدد خطاه.
وقال سمنون: ما أسمج
بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسئل عنه فيقال هو عند الأمير!
وقال: وكنت أسمع أنه
يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك؛ إذ ما دخلت قط
على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه
به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافاً
مع أني لا أخذ منه شيئاً ولا أشرب له شربة ماء.
ثم قال: وعلماء
زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه
بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم.
وقال الحسن: كان
فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله r - قال عبد الله بن المبارك عنى به سعد بن
أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم. فقال له بنوه:
يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام فلو أتيتهم، فقال: يا بني
آتي جيفة قد أحاط بها قوم والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها؛ قالوا: يا أبانا إذن
نهلك هزالاً قال: يا بني لأن أموت مؤمناً مهزولاً أحب إلي من أن أموت منافقاً
سميناً قال الحسن: خصمهم والله إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان.
قلنا: عرفنا التضحية
بالجاه والمال، فهل هناك غيرهما؟
قال: أجل .. أن يقدم
نفسه رخيصة في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. لا يبالي من أجل ذلك بشيء.
قلنا: لقد ذكرت لنا
ذلك في مواعظ العلماء للسلاطين.
قال: العالم لا
يكتفي بالمواعظ التي يواجه بها السلطان .. بل ينكر آحاد المنكرات لا يبالي في ذلك
هل رضي السلطان أم سخط.
قال أحدنا: لقد
سمعنا بأن السلطان مطاع، وأنه ظل الله في أرضه.. وأن من تكلم بما يسيئه صار من
الخوارج الذين هم كلاب أهل النار.
قال: السلطان مطاع
إن أطاع الله .. فإن عصى الله فلا ينبغي طاعته ..
قال الرجل: ولكن
العلماء يقولون غير ذلك.
قال: أولئك علماء
السلاطين .. وهم شركاء للسلاطين .. أما العلماء العدول، فقد ينكرون على السلاطين
.. ولا يخافون في الله لومة لائم:
منهم الإمام أبو حنيفة .. روي أن أهل
الموصل انتفضوا على أبي جعفر المنصور, وقد اشترط المنصور عليهم أنهم إن انتفضوا أن
تحل دماؤهم له, فجمع المنصور الفقهاء وفيهم الامام أبو حنيفة، فقال: أليس صحيحا أنه
r قال : (المؤمنون عند شروطهم؟) وأهل الموصل
قد شرطوا ألا يخرجوا عليّ, وقد خرجوا على عاملي وقد حللت دماؤهم.
فقال رجل من علماء
السلطان: يدك مبسوطة عليهم وقولك مقبول فيهم, فإن عفوت فأنت أهل العفو، وإن عاقبت
فبما يستحقون.
فقال لأبي حنيفة: ما
تقول أنت يا شيخ؟ ألسنا في خلافة نبوة وبيت أمان؟
فأجاب أبو حنيفة:
إنهم شرطوا لك ما لايملكون (وهو استحلال دمائهم) وشرطت عليهم ما ليس لك, لأن دم
المسلم لا يحل الا بأحد معان ثلاث[68].
فأمرهم المنصور
بالقيام فتفرقوا فدعاه وحده، فقال: يا شيخ, القول ما قلت .. انصرف إلى بلادك، ولا
تفت الناس بما هو شين على إمامك فتبسط أيدي الخوارج.
ومنهم الإمام مالك .. روي أنه سعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي
بن عبد الله بن عباس، وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: انه لا يرى أيمان
بيعتكم هذه بشيء, فغضب جعفر ودعا به وجرّده وضربه بالسياط, ومدت يده حتى انخلعت
كتفه وارتكب منه أمرا عظيما, فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.
ومنهم منذر بن سعيد[69] .. روي أن الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين
الله أقبل على عمارة الزهراء أيما اقبال, وأنفق من أموال الدولة في تشييدها
وزخرفتها ما أنفق, وكان يشرف بنفسه على شؤون البناء والزخرفة حتى شغله ذلك ذات
مرّة عن شهود صلاة الجمعة, وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء, ورأى أن
يلقي على الخليفة الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة
الزهراء , ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء فلما كان
يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاصّ بالمصلين وابتدأ خطبته
فقرأ قوله تعالى:﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (135)﴾ (الشعراء)
ثم مضى في ذم
الاسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد, ثم تلا قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)﴾ (التوبة)
وراح يحذر وينذر
ويحاسب حتى ادكر من حضر من الناس وخشعوا، وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب , وقد علم
أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه.
غير أن الخليفة لم
يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة ما سمع، فقال شاكيا لولده الحكم: والله
لقد تعمّدني بخطبته وما عنى بها غيري, فأسرف عليّ وأفرط في تقريعي.. ثم استشاط
غيظا عليه متذكّرا كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك.
فأقسم أن لا يصلي
خلفه صلاة جمعة, وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة، ولكن لما
رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم، قال له: ما الذي
يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به اذا كرهته ؟ ولكن الناصر زجره قائلا: أمثل منذر بن
سعيد في فضله وخيره وعلمه (لا أمّ لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير
القصد؟.. هذا ما لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة
شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه, ولكن
أحرجني فأقسمت, ولوددت أن أجد سبيلا الى كفارة يميني بملكي, بل يصلي منذر بالناس
حياته وحياتنا ان شاء الله, فما أظن أنا نعتاض منه أبدا.
ولما اشتدت الفجوة
بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في اسرافه على
بناء الزهراء, أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة، فقال: يا
أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد الا خيرا, لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية[70]
لعذرك)
فلما قال له ولده
ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته، ثم قال لقرابته وزرائه: أرأيتم
أم سمعتم ملكا كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟
فقالوا: لا والله يا
أمير المؤمنين, وإنك الأوحد في شأنك.
فبينما هم على ذلك,
اذ دخل منذر بن سعيد ناكسا رأسه, فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته, فأقبلت دموع
المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن
الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ, ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكن مع ما آتاك الله
وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين..
فاقشعر الخليفة من
قوله، وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟ .. فقال: نعم, أليس الله يقول :﴿ وَلَوْلا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ﴾ (الزخرف:33)، فوجم الخليفة ونكس رأسه مليا, وجعلت دموعه تنحدر
على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له: جزاك الله خيرا وعن الدين خيرا, فالذي قلت
هو الحق.. ثم قام من مجلسه, وأمر بنقض سقف القبة وأعادها ترابا على صفة غيرها[71].
ومنهم الشيخ عبد القادر الجيلاني[72] .. وقف على منبره محاسبا المقتفي لأمر
الله, ومنكرا عليه توليه يحيى بن سعيد المشهور بابن المزاحم الظالم القضاء, فقال
له مخاطبا: ولّيت على المسلمين أظلم الظالمين .. وما جوابك غدا عند أرحم
الراحمين؟.. فارتعد الخليفة وعزل المذكور لوقته.
ومنهم سلطان العلماء
العز بن عبد السلام[73] .. روي أن خلافا اشتد منذرا بالكيد والحرب بين الأخوين: سلطان الشام الملك الصالح
اسماعيل, وسلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب، وقد أوجس اسماعيل خيفة من نجم الدين
أيوب فاستعان بالصليبين أعداء الاسلام, وتحالف معهم على قتال أخيه, وأعطاهم مقابل
ذلك مدينة صيدا, وأمعن اسماعيل في هذه الخيانة فسمح للصليبين أن يدخلوا دمشق
ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب وما يريدون.
أثار هذا الصنيع
المنكر استياء المسلمين وعلماءهم، فهب العز بن عبد السلام واقفا في وجه الخيانة
والخائنين, وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم, وصعد على منبر الجامع الأموي بدمشق في
يوم الجمعة, حيث كان خطيبه الرسمي وأعلن الفتوى وشدد في الانكار على السلطان
بومئذ, وصار يدعو بدعاء : ( اللهم أبرم لهذه الأمة ابرام رشد يعز فيه أولياؤك ويذل
فيه أعداؤك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك)، والمصلون يضجون بالتأمين على
دعائه, ولم يكن السلطان حاضرا لتلك الخطبة, اذ كان خارج دمشق, ولما أعلمه رجاله
بذلك أمر بعزل الشيخ عن خطبة الجمعة، واعتقاله مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي
لاشتراكه معه في هذا الانكار.
وكان أنصار الشيخ قد
أشاروا عليه بأن يغادر البلاد وينجو بنفسه من يد السلطان وأعدوا له وسائل الهرب,
ولكنّه أبى ذلك, وألحّوا عليه, فأصر على الاباء, فعرضوا عليه أن يختبىء في مكان
أمين لا يهتدي اليه السلطان ورجاله, فرفض هذا الغرض أيضا وقال: (والله لا أهرب ولا
أختبىء وانما نحن في بداية الجهاد ولم نعمل شيئا بعد, وقد وطنت نفسي على احتمال ما
ألقى في هذا السبيل, والله لا يضيع عمل الصابرين)
ثم لما قدم اسماعيل
الى دمشق أفرج عنهما بعد الاعتقال, ولكن العز بن عبد السلام أمر بملازمة داره وأن
لا يفتي ولا يجتمع بأحد البتة, فاستأذنه في صلاة الجمعة مؤتما بامامها وأن يعيد
اليه طبيب أو مزين اذا احتاج اليهما وأن يدخل الحمام فأذن له في ذلك, ومرّت الأيام
والشيخ في إقامته الجبرية، وقد منع من الافتاء والاتصال بأحد من اخوانه أو طلابه,
فطلب الهجرة من دمشق قاصدا مصر. وأفرج عنه بعد محاورات ومراجعات فأقام بدمشق ثم
انتزع منها الى بيت المقدس. فوافاه الملك الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق
وأخذه وأقام بنابلس مدة وجدت لهمعه خطوب, ثم انتقل إلى بيت المقدس حيث أقام مدة,
ثم جاء الصالح اسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم الى
بيت المقدس يقصدون الديار المصرية, فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه الى الشيخ
بمنديله, وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ وتلطف له غاية التلطف وتستنزله وتعده
بالعودة الى مناصبه على أحسن حال, فإن وافقك فتدخل به عليّ, وإن خالفك فاعتقله في
خيمة الى جانب خيمتي. فلما اجتمع الرسول بالشيخ, شرع في مسايسته وملاينته.
ثم قال له: بينك
وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير.
فقال الشيخ: والله
يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أقبّل يده, يا قوم أنت في واد وأنا في واد
.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فقال الرسول: يا شيخ
قد رسم لي أن توافق على ما يطلب والا اعتقلتك.
فقال الشيخ: افعلوا
ما بدا لكم .. فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان .. وكان الشيخ يقرأ
القرآن في معتقله والسلطان يسمعه.
فقال يوما لملوك
الفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟
فقالوا: نعم.
قال: هذا أكبر قسوس
المسلمين, وقد حبسته لانكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة
بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته فجاء الى القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم!!.
فقالت له ملوك
الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها[74].
ومنهم الإمام النووي[75] .. روي أنه لما خرج الظاهر بيبرس إلى قتال
التتار بالشام, أخذ فتاوى العلماء بجواز أخذ مال من الرعيّة يستنصر به على قتالهم,
فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه .. فقال: هل بقي أحد؟ فقيل له: نعم بقي الشيخ
محيى الدين النووي .. فطلبه فحضر.
فقال له: اكتب خطابك
مع الفقهاء, فامتنع.
فقال: ما سبب
امتناعك؟.
فقال: أنا أعرف أنك
كنت في الرق للأمير( بندقار) وليس لك مال, ثم منّ الله عليك وجعلك ملكا وسمعت عندك
ألف مملوك, كل مملوك له حياصة من ذهب, وعندك مئتا جارية لكل جارية حق من الحليّ,
فاذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلا من الحوائص وبقيت الجواري
بثيابهن دون الحليّ, أفتيتك بأخذ المال من الرعية.
فغضب الظاهر من
كلامه، وقال: أخرج من بلدي ـ يعني دمشق ـ
فقال: السمع
والطاعة, وخرج الى نوى.
فقال الفقهاء: إن
هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به, فأعده الى دمشق.
فرسم برجوعه, فامتنع
الشيخ، وقال: لا أدخلها والظاهر فيها, فمات بعد شهر.
ومنهم أبو الحسين النوري.. كان رجلاً قليل
الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً
غيره ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة
إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار (لطف)، فقرأه وأنكره لأنه لم
يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئاً يعبر عنه بلطف. فقال للملاح: إيش في هذه
الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك؟
فلما سمع النوري من
الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته فقال: أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان؛
قال: وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي، هذا خمر للمعتضد يريد أن يعم به مجلسه؟ فقال
النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، فقال: أحب أن تعطيني ذلك المدري.
فاغتاظ الملاح عليه
وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق ولم
يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً، والملاح يستغيث، إلى أن
ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح، فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد،
وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله.
قال أبو الحسين: فأدخلت
عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب،
قال: ومن ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين،
قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت:
شفقة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي
حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه
وقال فأطرق مفكراً في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من
جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن، فقال: هات خبرني،
فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر
قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه
الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن، فاستشعرت نفسي كبراً على أني أقدمت على مثلك فمنعت
ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال
المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر.
قال أبو الحسين
فقلت: يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن
أغير عن شرطي فقال المعتضد: ما حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالماً
فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأله أحد حاجة
يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
ومنهم محمد بن إبراهيم بن حيويه .. لما احتاج المنصور بن أبي عامر ملك الأندلس أن يأخذ أرضاً محبسة ويعاوض
عنها خيراً منها، استحضر بعض الفقهاء إلى قصره فأفتوا بأنه لا يجوز، فغضب السلطان
وأرسل إليهم رجلاً من الوزراء مشهوراً بالحدة والعجلة فقال لهم: يقول لكم أمير
المؤمنين يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا
شهود الزور وآخذي الرشا وملقني الخصوم، وملقحي الشرور وملبسي الأمور، وملتمسي
الروايات لدى اتباع الشهوات، تباً لكم ولآرائكم! فهو أعزه الله واقف على فسوقكم
قديماً وخونكم لأماناتكم مغضٍ عنه صابرٍ عليه، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجة مرة
واحدة في دهره، فلم تشفعوا إرادته، ما كان هذا ظنه بكم، والله ليعارضنكم وليكشفن
ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم! وأفحش عليهم بهذا ونحوه فأجابه شيخ منهم ضعيف
الهمة فقال: نتوب إلى الله مما قاله أمير المؤمنين ونسأله الإقالة.
فرد عليه زعيم القوم
محمد بن إبراهيم بن حيويه وكان جلداً صارماً فقال للمتكلم: مم نتوب يا شيخ السوء؟
نحن براء من متابك! ثم أقبل على الوزير فقال: يا وزير بئس المبلغ أنت! وكل ما
نسبته إلينا عن أمير المؤمنين فهو صفتكم معاشر خدمته، فأنتم الذين تأكلون أموال
اليتامى بالباطل وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتنتجون معايشكم بالرشا والمصانعة،
وتبغون في الأرض بغير الحق، وأما نحن فليست هذه صفاتنا ولا كرامة، ولا يقولها لنا
إلا متهم بالديانة، فنحن أعلام الهدى وسرج الظلمة، بنا يتحصن الإسلام ويفرق بين
الحلال والحرام وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق وتحقن الدماء
وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب علينا أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ
ما قاله، تأنيت بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمناه منك
وأجبناك عنه بما يصلح الجواب له، وكنت تزين على السلطان ولا تفشي سره، ولا تحيينا
بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين لا يتمادى على هذا الرأي فينا، ولا
يعتقد هذا المعتقد في صفاتنا، وإنه سيراجع بصيرته في إيثارنا وتعزيزنا، ولو كان
عنده على هذه الحالة التي وصفتها عنا، والعياذ بالله تعالى من ذلك، لبطل عليه كل
ما صنعه وعقده من أول خلافته إلى هذا الوقت، فلا يثبت له كتاب من حرب ولا سلم ولا
شراء ولا بيع، ولا صدقة ولا حبس ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا، هذا
ما عندنا والسلام.
ثم قاموا منصرفين
فلم يكادوا يبلغوا باب القصر إلا والرسل تناديهم، فدخلوا القصر فتلقاهم الوزراء
بالإعظام ورفعوا منازلهم واعتذروا إليهم مما كان من صاحبهم، وقالوا لهم: إن أمير
المؤمنين يعتذر إليكم من فرط موجدته، ويستجير بالله من الشيطان الرجيم ونزعته التي
حملته على الجفاء عليكم، ويعلمكم أنه نادم على ما كان منه إليكم، وهو مستبصر في
تعظيمكم وقضاء حقوقكم، وقد أمر لكل واحد منكم بما ترون من صلته وكسوته علامة لرضاه
عنكم، فدعوا له وقبضوا ما أمر لهم به وانصرفوا غالبين لم يمسسهم سوء.
قلنا: عرفنا مسؤولية
العلماء الذين هم رأس الأمة المدبر .. فما مسؤولية الحكام؟
قال: على الحكام
أربع مسؤوليات:
الأولى .. الزهد في
طلب الرئاسة إلا إذا رأوا أنفسهم أهلا لها.
والثانية ..
الاستعانة بالصالحين في القيام بها.
والثالثة .. العفاف
عن أموال الرعية.
والرابعة .. النصح
للرعية .. والسعي في مصالحها ..
قلنا: فحدثنا عن
الأولى.
قال: أولى ما ينبغي
على الحاكم العادل .. وأول ما يرشحه لإعانة الله له أن يتهرب من المسؤولية ما وجد
لذلك مهربا.
قلنا: كيف يتهرب
منها؟
قال: أن لا يطلبها
ما دام هناك من هو أولى منه بها .. وأن لا يحرص على بقائه فيها إذا وجد من يخلفه
فيها .. لقد ربى رسول الله r هذه الأمة على هذا السلوك .. فكان يقول: ( إنا والله لا
نولي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه)[76]
وكان يقول: (إنكم
ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة)[77]
وقال : ( إن شئتم
أنبأتكم عن الإمارة وما هي ، فنادى بعض الصحابة: بأعلى صوته: وما هي يا رسول الله؟
قال: (أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل ، وكيف
يعدل مع أقربيه)[78]
وقال : (ما من رجل
يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله تعالى مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه ،
فكه بره ، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة)[79]
وقال لأبي ذر ـ رضي
الله عنه ـ عندما قاله له : يا رسول الله ألا تستعملني ؟ ـ قال أبو ذر: فضرب بيده
على منكبي ـ ثم قال : (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها إمارة ، وإنها يوم القيامة خزي
وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)[80]
وقال له:( يا أبا ذر
إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تلين مال
يتيم)[81]
وقال : (إنكم
ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعمت المرضعة وبئس الفاطمة)[82]
وقال:( ويل للأمراء
، ويل للعرفاء ، ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا
يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا)[83]
وقال:( ليوشكن رجل
أن يتمنى أنه خر من الثريا ولم يل من أمر الناس شيئا)[84]
وقال: (ستفتح عليكم
مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة)[85]
وقال لعبد الله بن
سمرة:( يا عبد الله بن سمرة لا تسل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت
عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)[86]
وعندما جاءه حمزة بن
عبد المطلب ، فقال : يا رسول الله اجعلني على شيء أعيش به ، قال له رسول الله r: (يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟ قال:
نفس أحييها ، قال: عليك نفسك[87].
وضرب على منكب
المقدام بن معديكرب ثم قال: (أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا ، ولا كاتبا ولا
عريفا)[88]
وكان يقول: ( من طلب
قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار)[89]
وروي أن عمر ـ رضي
الله عنه ـ استعمل بشر بن عاصم ـ رضي الله عنه ـ على صدقات هوازن فتخلف بشر فلقيه
عمر ، فقال ما خلفك ؟ أما لنا سمعا وطاعة ؟ قال : بلى ولكن سمعت رسول الله r يقول : من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة
حتى يوقف على جسر جهنم ، فإن كان محسنا نجا ، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى
فيه سبعين خريفا)، فخرج عمر كئيبا محزونا ، فلقيه أبو ذر ، فقال : ما لي أراك
كئيبا حزينا ؟ فقال : ما لي لا أكون كئيبا حزينا ، وقد سمعت بشر بن عاصم يقول :
سمعت رسول الله r يقول : (من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي
به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم ، فإن كان محسنا نجا ، وإن كان مسيئا انخرق
به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا) فقال أبو ذر: وأنا سمعته من رسول الله r يقول : (من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم
القيامة حتى يوقف على جسر جهنم ، فإن كان محسنا نجا ، وإن كان مسيئا انخرق به
الجسر فهوى فيه سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة)، فأي الحديثين أوجع لقلبك ؟ قال:
كلاهما أوجع قلبي فمن يأخذها بما فيها ؟ فقال أبو ذر: من سلت[90] الله أنفه وألصق خده بالأرض ، أما إنا لا نعلم
إلا خيرا ، أو عسى إن وليتها من لا يعدل فيها أن لا تنجو من إثمها)[91]
ولأجل هذا كان
الصالحون من أكثر الناس كراهة لتولي الإمارة .. وقد ورد في الحديث قوله r : (تجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية)[92]
.. لقد علق الغزالي على هذا بقوله : (لم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها
ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر، إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب
النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا، فإذا صارت
الولاية محبوبة كان الوالي ساعيًا في حظ نفسه، ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما
يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقًا، ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً)[93]
قلنا: ألا ترى أن
هذا سيمكن للمنحرفين؟
قال: كيف؟
قال: إذا هرب
الصالحون من تحمل مسؤولياتهم .. فسيتولاها المنحرفون .. وستفسد بتوليهم البلاد
والعباد.
قال: اصبروا علي
لأكمل ما قال الغزالي .. فلعل فيها جوابا لكم .. لقد قال بعدما ذكر ما ذكر من
النهي عن الحرص على الإمارة : ( ولعل قليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع
ما ورد من النهي عنها متناقضًا، وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في
الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها
فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تُميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في
الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم، وزهدوا في الدنيا، وتبرموا بها
وبمخالطة الخلق، وقهروا أنفسهم وملكوها، وقمعوا الشيطان فآيس منهم، فهؤلاء لا
يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيه أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل
في الإمارة)[94]
قال رجل منا: أهذا
اجتهاد اجتهده .. أم هو ما دلت عليه النصوص؟
قال: بل هو ما دلت
عليه النصوص المقدسة .. لقد قال تعالى يذكر عن يوسف طلبه لتولي الخزائن .. قال
تعالى:﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾ (يوسف)
انظروا كيف طلب يوسف
u هذا التمكين .. ولكنه لم يطلبه لنفسه .. لقد
طلبه للخلائق الذين رأى أن المجاعة ستفتك بهم لو لم يقم بما لديه من طاقات
بإنقاذهم مما ينتظرهم من تهلكة[95] .. ولهذا ذكر صفتين
كلاهما شرط في كل مسؤول .. إنهما الحفظ .. والعلم ..
فكل مسؤول لا يستحق
المسؤولية إلا إذا توفر فيه هذان الركنان: أمانة وخلق وحفظ .. وفي نفس الوقت علم
وخبرة وقدرة.
لقد علق القرطبي على
طلب يوسف u الولاية، وأجاب على الإشكال الذي قد يعلق
لمن لم تكن له القدرة على الجمع بين النصوص .. فذكر وجوها ..
منها أن يوسف u إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في
العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم
يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء
أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها
ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال
يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا
يطلب؛ لقوله r لعبد الرحمن: (لا تسأل الإمارة)، وأيضا
فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على
أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى
قوله r : ( وكل إليها)، ومن أباها لعلمه بآفاتها
ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو
معنى قوله: (أعين عليها)
ومنها .. أنه لم
يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي r : ( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال:
(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال.
ومنها .. أنه إنما
قال ذلك عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى :﴿
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم: من الآية32)
ومنها .. أنه رأى
ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره[96].
وقد ورد ـ بالإضافة
لقصة يوسف u ـ قصة زياد بن الحارث .. وهو رجل من قبيلة
صداء، وكان هذا الرجل هو الذي قاد وفد قبيلته إلى رسول الله r ليعلنوا إسلامهم الذي تبعه إسلام قبيلتهم،
قال زياد: (وكنت سألته أن يؤمرني على قومي، ويكتب لي بذلك كتابا، ففعل)[97]
لقد علق ابن القيم
على هذه القصة فقال: وفيها جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفأ،
ولا يكون سؤاله مانعا من توليته، ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: (إنا لن
نولي على عملنا هذا من أراده)، فإن الصدائي ـ زياد بن الحارث ـ إنما سأله أن يؤمره
على قومه خاصة، وكان مطاعا فيهم، محببا إليهم، وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى
الإسلام، ورأى أن ذلك السائل ـ الذي في الحديث الأول ـ إنما سأله الولاية لحظ نفسه
ومصلحته هو، فمنعه منها؛ فولى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله، ومنعه
لله)[98]
قلنا: حدثتنا عن
الأولى .. فحدثنا عن الثانية.
قال: النصح للرعية
وعدم غشها.
قلنا: هل تقصد أن يجتمع
معها لينصحها؟
قال: النصح الذي تدل
عليه النصوص المقدسة أعم من أن يكون خاصا بالكلام .. إنه يشمل الحياة جميعا ..
ولهذا عرف رسول الله r الدين جميعا بكونه نصيحة .. ففي الحديث:(
الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة) ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال
: (لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، والمؤمنين ، وعامتهم)[99]
وقد كان رسول الله r يبايع أصحابه على هذا .. حدث جرير بن عبد الله ـ رضي
الله عنه ـ قال: بايعت رسول الله r على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح
لكل مسلمٍ[100].
وكان r يشدد عليهم في شأنها .. ومما قال في ذلك : ( من جاء يوم
القيامة بخمس لم يصد وجهه عن الجنة: النصح لله ولدينه ولكتابه ولرسوله ولجماعة
المسلمين)[101]
وقال : ( لا يزال
المؤمن في فسحة من دينه ما محض أخاه النصيحة ، فإذا حاد عن ذلك سلب التوفيق)[102]
قلنا: عرفنا فضل
النصيحة .. فكيف ينصح الإمام رعيته؟
قال: بأن يتعامل
معها كما يتعامل مع نفسه.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: ألا ترون
التاجر كيف يختار لنفسه أجمل البضائع وأحسنها؟
قلنا: ذلك صحيح.
قال: فالراعي الصالح
هو الذي يتعامل مع رعيته كما يتعامل مع نفسه .. هذا هو الضابط الذي يضبط النصح ..
ولقد عبر عنه رسول الله r بقوله : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه)[103]،
وفي رواية : ( لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه)
قلنا: هذا إجمال ..
فهات تفاصيله.
قال: لقد دأب
الصالحون من العلماء أن يبينوا سنن العدل التي يتم بها نصح الراعي لرعيته ..
ومن ذلك أن عمر بن
عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك
سناً فكن له ولداً، ومن كان أصغر منك فكن له أباً، ومن كان مثلك فكن له أخاً،
وعاقب كل مجرم على قدر جرمه، وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن
ذلك يصيرك إلى النار.
ومن ذلك أن الإمام
أبا حامد الغزالي كتب رسالة في أصول العدل لبعض الملوك[104]
.. ومن وصاياه فيها قوله : ( اعلم ـ أيها السلطان ـ أنّ ما كان بينك وبين الخالق
سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل
حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل
بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة)
ولم يكتف أبو حامد
بالموعظة المجردة .. بل ذكر له عشرة من أصول العدل والإنصاف كلها مستنبطة من
النصوص المقدسة، ومن آثار الحكام العدول من المسلمين .. وكلها تدل على المنهج
الصحيح الذي يتحقق به النصح الذي أمر الحكام أن يتعاملوا به مع رعاياهم.
قلنا: فما الأصل الأول منها؟
قال: لقد عبر عنه
الغزالي بقوله : (الأصل الأول هو أن يعرف الحاكم قدر الولاية وخطرها .. فإن
الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له
ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر
بالله تعالى)
وقد ساق له من
النصوص التي تدل على هذا قوله r : (عدل السلطان يوماً واحداً أحب إلى الله
من عبادة سبعين سنة )[105].. وقال: (إذا كان يوم
القيامة لا يبقى ظل ولا ملجأ إلا ظل الله ولا يستظل بظله ألا سبعة أناس: سلطان
عادل في رعيته، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل يكون في السوق وقلبه في المسجد،
ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله في خلوته فأذرى دمعه من مقلته، ورجل دعته
امرأة ذات حسن وجمال ومال إلى نفسها فقال إني أخاف الله، وجل يتصدق سراً بيمينه
ولم تشعر بها شماله)[106] .. وقال:(أحب
الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه السلطان العادل، وأبغضهم إليه وأبعدهم منه
السلطان الجائر).. وقال (والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء
من العمل مثل عمل جملة الرعية، وكل صلاة يصلّيها تعدل سبعين ألف صلاة) .
فإذا كان كذلك فلا
نعمة أجلّ من أن يعطى العبد درجة السلطنة ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن
لم يعرف قدر هذه النعمة واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه أن يجعله الله من جملة
أعدائه.
ثم ساق له من سيرة
الخلفاء العدول ما يدل على تعظيمهم لما وكل لهم من مسؤوليات .. ومن ذلك ما حدث به
عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأنه كان يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى
خللاً يتداركه، وكان يقول: لوتركت عنزاً جرباء على جانب ساقية لم تدهن لخشيت أن
أسئل عنها في القيامة.
قلنا: فما الثاني؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : (أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء، ويحرص على استماع نصحهم)،
ونبهه أن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا .. قاله له محذرا: ( فإنهم يثنون
عليك، ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام،
ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل.. والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال،
ومنصفك في الوعظ والمقال)
وقا له : ( أيها
السلطان خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، والشرح في ذلك طويل، ولا يسلم الوالي الا
بمقارنة عملاء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر)
قلنا: فما الثالث؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : (أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم .. لكن تهذّب غلمانك وأصحابك
وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك)
ثم ذكر له ما كتبه
عمر بن الخطاب إلى عامله أبي موسى الأشعري يقول له: (أما بعد، فإن أسعد الولاة من
سعدت به رعيته، وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته. فإياك والتبسّط فإن عمالك
يقتدون بك، وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضراً فأكلت كثيراً حتى سمنت فكان
سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل)
وقال له وهو يقرر
هذا الأصل: ( وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبناً ممن باع دينه وآخرته
بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم
من الشهوات.. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم
عنده، فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك
وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على
الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في
أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه؛ وذلك
أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل
يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه)
وقال له : ( ويجب أن
يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من
جند الشيطان.. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم؟
وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل
شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا
ينال)
وقال له: ( واعلم
أيها السلطان وتبيّن أن ظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن ترى الأشياء على
ما هي، وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها. مثلاً إذا كنت تجور على الناس لأجل
الدنيا فينبغي أن تنظر أي شيء مقصودك من الدنيا، فإن كان مقصودك من الدنيا أكل
الطعام الطيب فيجب أن تعلم أن هذه شهوة بهيمة في صورة آدمي، لأن الشهوة إلى الأكل
من طباع البهائم، وإن كان مقصودك لبس التاج فإنك امرأة في صورة رجل لأن التزين
والرعونة من أعمال النساء، وإن كان مقصودك أن تمضي غضبك على أعدائك فأنت أسد أو
سبع في صورة آدمي لأن إحضار الغضب للقلب من طباع السباع، وإن كان مقصودك أن تخدمك
الناس فأنت جاهل في صورة عاقل فإنك لو كنت عاقلاً لعلمت أن الذين يخدمونك إنما هم
خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وإن خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا لك وعلامة ذلك
أنهم لو سمعوا إرجافاً بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك أعرضوا بأجمعهم عنك وفي
أي موضع علموا الدرهم خدموا وسجدوا لذلك الموضع، فعلى الحقيقة ليست هذه خدمة وإنما
هي ضحكة.
والعاقل من نظر
أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها، وحقيقة هذه الأعمال ما ذكره وأوضحناه، فكل
من لم يتيقن ذلك فليس بعاقل ومن لم يكن عاقلاً لم يكن عادلاً ومن لم يكن عادلاً
مأواه جهنم، فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل)
قلنا: فما الرابع؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً .. ومن التكبر يحدث عليه
السخط الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وإذا كان الغضب
غالباً، فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز، فإذا صار
ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع
والدواب)
وحكى له أن أبا جعفر
المنصور أمر بقتل رجل، والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبراً
قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله r أنه قال: (إذا كان يوم القيامة وجمع
الخلائق في صعيد واحد، نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من
عفا عن الناس، فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه)
وحكى له عن الحسن بن
علي ـ رضي الله عنه ـ أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر
الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى
الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله؟ قال: خذه، فإنه بلغني عنك
إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا.
وحكى له أن زين
العابدين علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ خرج إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه
ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك
الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته، فإن
كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له
بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله r.
وحكى له أن زين
العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت
ندائي؟ فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ؟ قال: أمنت ..
وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي.
وحكى أنه كان لزين
العادبدين غلام، فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا؟ قال: فعلته غمداً
لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس .. اذهب فأنت حر لوجه الله
تعالى.
وحكى له أن رجلاً
سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي
وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول.
وحكى له قبل ذلك عن
ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه
القسمة؟ يعني أنها ليست بإنصاف، فحكى ابن مسعود ذلك لرسول الله r فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: (رحم الله
أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى)[107]
ثم عقب على ذلك
بقوله : ( فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل
إيمانهم ثابتاً أثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم
من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان)
قلنا: فما الخامس؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر أنك واحد من جملة
الرعية، وأن الوالي سواك، فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن
رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك)
قلنا: فما السادس؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك، واحذر من
هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة، فلا تشتغل عن قضائها بنوافل
العبادات، فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات)
وحكى له أن عمر بن
عبد العزيز قعد يوما يقضي حوائج الناس، فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من
تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك منتظر
حاجة وأنت مقصر في حقه؟ فقال: صدقت. ونهض فعاد إلى مجلسه.
قلنا: فما السابع؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة
وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة)
وحكى له أن عمر بن
الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سأل بعض الصالحين فقال: هل رأيت من حلاي شيئاً تكرهه؟
قال: سمعت أنك وضعن على مائدتك رغيفين وأن لك قميصين أحدهما لليل والآخر للنهار،
فقال: غير هذين شيء؟ فقال: لا. قال: والله إن هذين لا يكونان أبداً.
قلنا: فما الثامن؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها
بالشدة والعنف)
قلنا: فما التاسع؟
قال: لقد عبر الغزالي
عنه بقوله : ( أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع)
وحدثه عن النبي r أنه قال لأصحابه: (خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم،
وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم)
ثم قال له : (
وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية
مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب
معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس)
قلنا: فما العاشر؟
قال: لقد عبر
الغزالي عنه بقوله : ( أن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع، فإن من سخط
بخلاف الشرع لا يضر سخطه)
وحكى له في ذلك عن
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: إني لأصبح ونصف الخلق علي ساخط، ولابد لكل
من يؤخذ منه الحق أن يسخط، ولا يمكن أن يرضى الخصمين، وأكثر الناس جهلاً من ترك
الحق لأجل رضا الخلق.
وحدثه أن رسول الله r قال : (من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس رضي الله
عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط
الخلق عليه، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع
الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
ثم ختم له هذه
الأصول بقوله : ( اعلم يا سلطان العالم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار، والإنسان
مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه
واستقراره بعدها.. فكل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة، وكل شهر ينقضي منه
فكاستراحة المسافر في طريقه، وكل أسبوع فكقرية تلقاه، وكل يوم فكفر سوف يقطعه، وكل
نفس كخطوة يخطوها، وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة.. وهذه الدنيا قنطرة فمن
عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه، ونسى المنزلة التي هي مصيره ومكانه،
وكان جاهلاً غير عاقل، وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده،
ويكتفي منها بقدر الحاجة، ومهما جمعه فوق كفايته كان سماً ناقعاً، ويتمنى أن تكون
جميع خزائنه وسائر ذخائره رماداً وتراباً لا فضة ولا ذهباً، ولو جمع مهما جمع فإن
نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه، وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه
نزعه عند موته فحلالها حساب، وحرامها عذاب، أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه
الحساب، وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب، وكان إيمانه صحيحاً سالماً لحضرة
الديان، فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان، فإن الله جواد كريم، غفور رحيم.
واعلم أيها السلطان
أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب، مشوب بالنصب، وبسببها تفوت راحة
الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا نهاية له ولا فناء، فيسهل على
العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء.
واعلم ـ أيها السلطان
ـ أنه لو كان للإنسان معشوقة، وقيل له إن صبرت عنها هذه الليلة سلمت إليك ألف ليلة
بلا تعب ولا نصب، وإن كنت تزورها فإنك لا تراها أبداً فإنه كان عشقه لها عظيماً
وصبره عنها أليماً لكن يهون عليه صبره على البعد عنها ليلة واحدة لينال الآخرة، بل
الدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة، ولا شبه بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها، ولا
يُدرك بالوهم طولها)
قلنا: حدثتنا عن
الثانية .. فحدثنا عن الثالثة.
قال: لابد للحاكم
مهما كانت مرتبة حكمه من وزراء يعينونه .. وعمال ينوبون عنه ..
لقد ذكر الله تعالى
ذلك، فقال عن نبيه موسى u :﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ
أَهْلِي ﴾ (طـه:29)، فلو كان الحاكم يستغني عن الوزراء لكان أحق الناس بذلك
كليم الله موسى u ..
ثم ذكر الله تعالى
الحكمة من الحاجة الوزراء فقال :﴿ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ
فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)﴾ (طه).. فقد دلت هذه الآيات على أن
الوزير هو عون الملك وشريكه وصاحبه في عبادة الله وفي تحقيق العدل الذي هو العبادة
الكبرى للحكام.
قالوا: نعلم حاجة
الوزراء والأعوان .. لكن ما علاقتهم بتحقيق العدل؟
قال: العدل لا يقوم
على أحد كما يقوم على هؤلاء .. فقد يكون الحاكم صالحا .. ولكنه يبتلى بمن يصرفه عن
الصلاح .. فيشير عليه بالفساد ..
وقد روي في الأخبار
من ذلك أن موسى u قال لفرعون: آمن ولك الجنة ولك ملكك ..
قال: لا حتى أشاور هامان.. فشاوره في ذلك فقال: بينما أنت إله تعبد إذ صرت تعبد!
فأنف واستكبر، وكان من أمره ما كان.
لقد قال الحكماء في
هذا المنصب : ( الوزير عون على الأمور وشريك في التدبير، وظهير على السياسة ومفزع
عند النازلة، والوزير مع الملك بمنزلة
سمعه وبصره ولسانه وقلبه)، وقالوا في الأمثال: (نعم الظهير الوزير)
وذكروا أن أول ما
يستفيد الحاكم من الوزير أمران: علم ما كان يجهله، ويقوي عنده علم ما كان يعلمه.
وذكروا أن أول ما
يظهر نبل الحاكم وقوة تمييزه وجودة عقله في استنجاب الوزراء واستنفاد الجلساء
ومحادثة العقلاء ، فهذه ثلاث خصال تدل على كماله وبهائه، يجمل في الخلق ذكره ويجل
في العقول قدره، وترسخ في النفوس عظمته والمرء موسوم بقرينه. وكان يقال: حلية
الملوك وزينتهم وزراؤهم.
وذكروا أنه لا يصلح
السلطان إلا بالوزراء ولا الأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة والنصيحة إلا
بالرأي والعفاف..
وذكروا أن أعظم
الأشياء ضرراً على الناس عامة، وعلى الولاة خاصة أن يحرموا صالحي الوزراء ولأعوان،
فتكون أعوانهم غير ذي جدوى وغنى، ويحذر الملك أن يولي الوزارة غير المتحرين كيلا
تضيع الأمور ، كما يحذر أن يتطبب بغير طبيب بصير مأمون.
وضربوا مثالا للحاكم
الخير مع الوزير السوء الذي يمنع الناس خيره ولا يمكنهم من الدنو منه كالماء
الصافي، فيه التمساح فلا يستطيع المرء دخوله، وإن كان سابحاً وكان إلى الماء
محتاجاً ..
وضربوا مثالا آخر،
فقالوا : ( السلطان مثل الطبيب، ومثل الرعية مثل المرضى، ومثل الوزير مثل السفير
بين المرضى والأطباء، فإن كذب السفير بطل التدبير، وكما أن السفير إذا أراد أن
يقتل أحداً من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه، فإذا سقاه الطبيب على صفة السفير هلك
العليل، كذلك الوزير ينقل إلى الملك ما ليس في الرجل فيقتله الملك)
وقالوا في الأمثال
السائرة: (لا تغتر بمودة الأمير إذا غشك الوزير)
وقالوا: (إذا أحبك
الوزير فلا تخش الأمير)
وقالوا : ( الخرق
مماراة الأمراء ومعاداة الوزراء، ورب أمر كرهه الأمير فتم بالوزير، وكم من أمر
أراده الأمير فنهاه عنه الوزير!)
وقالوا: ( إنما
السلطان كالدار والوزير بابها، فمن أتى الدار من بابها ولج، ومن أتاها من غير
بابها انزعج)
وقالوا: (لا يتم
للملك أمره حتى يرفع نفسه عن كل عيب، ويكون له جليس مأمون الغيب وخادم ناصح الجيب)
وقالوا : ( موقع
الوزارة من المملكة كموقع المرآة من النظر، فكما أن من لم ينظر إلى المرآة لم ير
محاسن وجهه وعيوبه، كذلك السلطان إذا لم يكن له وزير لا يعرف محاسن دولته وعيوبها)
وقالوا: (ظهير
الأمير وزيره وزينته حاجبه، ولسانه كاتبه ورسوله عينه)
ولهذا ذكر فقهاؤنا
من شروط الوزير أن يكون صدوقاً في لسانه عدلاً في دينه، مأموناً في أخلاقه بصيراً
بأمور الرعية، ويكون بطانة الوزير من أهل الأمانة والبصيرة.
ورووا في هذا أنه
لما أراد سليمان بن عبد الملك أن يستكتب كاتب الحجاج يزيد بن مسلم، قال له عمر بن
عبد العزيز: أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تحيي ذكر الحجاج باستكتابك إياه.
فقال: يا أبا حفص إني لم أجد عنده خيانة دينار ولا درهم. قال عمر: أنا أوجدك من هو
أعف منه في الدينار والدرهم. قال: ومن هو؟ قال: إبليس ما مس ديناراً ولا درهماً
وقد أهلك هذا الخلق.
قال رجل من القوم:
لقد ذكرت لنا ما ذكرت الحكماء، ولم تذكر لنا ما قال سيد الحكماء.
قال: لقد قال رسول
الله r يقرر هذه الحقيقة، ويدعو من خلالها إلى الاهتمام
بالبطانة الصالحة:( إن الله تعالى لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة
تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السوء فقد
وقي)[108]
وقال:( ما بعث الله
من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه
عليه: وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصمه الله)[109]
وقال: ( من ولي منكم
عملا، فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه)[110]
وقال : ( إذا أراد
الله بالامير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد الله به
غير ذلك جعل وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكره لم يعنه)[111]
لقد فقه الحكام
العدول هذا عن رسول الله r .. فراحوا يتخذون من الصالحين والعلماء
العاملين مراقبين لهم ينبهونهم ويوجهونهم ويصححون مساراتهم ..
حدث عمرو بن المهاجر
قال: قال لي عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: إذا رأيتني قد ملت عن الحق، فضع
يدك في تلبابي ثم قل: يا عمر ما تصنع .. يا راضياً باسم الظالم كم عليك من المظالم
.. السجن جهنم .. والحق حاكم .. ولا حجة لك فيما تخاصم .. القبر مهول فتذكر حبسك
.. والحساب طويل فخلص نفسك .. والعمر كيوم فبادر شمسك.. تفرح بمالك والكسب خبيث ..
وتمرح بآمالك والسير حثيث .. إن الظلم لا يترك منه قدر أنملة، فإذا رأيت ظالماً قد
سطا فنم له فربما بات فأخذت جنبه من الليل نملة.
وقد روى الرواة
العدول عن عمر – رضي الله عنه - في هذا ما يجعله مثالا للحاكم العادل:
ومما روه في ذلك أنه
كتب لرجل من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر في
حجر أبيهم يُقبّلهم، فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما قبَّلت
ولداً لي قط، فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملاً، ورده عمر
فلم يستعمله.
وغزت بعض جيوشه بلاد
فارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يوم
شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أن
أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولم
يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، وبعث
إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال: لولا أن تكون سنّة لأقدت منك، لا تعمل لي على عمل
أبداً.
وخطب ولاته يوما،
فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعمّ من حلم إمام ورفقه، وأنه ليس
أبغض إلى الله ولا أعمّ من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين
ظهرانيه يُرزق العافية ممن هو دونه.
وكان – رضي الله عنه
– لأجل هذا حريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى
الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه
يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قوياً
أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر،
فقال عمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا.
وكان يقول: من
استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله.
وكان لا يولي عملاً
لرجل يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لم يُعن عليه.
وكان يمنع عماله
وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين، وروي أن
عاملاً له اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه
فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ
منه ما حصل عليه من ربح.
وكان يحصي أموال
العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد
الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما
بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً.
وكان إذا استعمل
عاملاً كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً، ولا
يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم
فاشهد.
وكان اختياره للولاة
لا يتم إلا بعد مشاورته لكبار الصحابة، فقد قال لأصحابه يوماً: دلوني على رجل إذا
كان في القوم أميراً فكأنه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير، فأشاروا إلى
الربيع بن زياد.
وقد استشار الصحابة
في من يولي على أهل الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة ومن تجنيهم على
أمرائهم إن استعملت عليهم عفيفاً استضعفوه، وإن استعلمت عليهم قوياً فجّروه، ثم
قال: أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي وآخر قوي مشدّد أيهما
الأصلح للإمارة؟ فتلكم المغيرة بن شعبة فقال يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم
إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوي المشدّد فشداده على نفسه وقوته لك
وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له:
انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجّار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير
المؤمنين.
وكان يختبر عماله
قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على
عمر ابن الخطاب، فاحتبسني عنده حولاً فقال يا أحنف قد بلوتك وخبرتك فرأيت أن
علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك وأنّا كنا نتحدث إنما يهلك هذه
الأمة كل منافق عليم، ثم قال له عمر: أتدري لم احتبستك وبين له أنه أراد اختباره
ثم ولاه.
ومن نصائح عمر
للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلتْ هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف
به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن
قل ورعه مات قلبه.
ومن الملاحظ أنه كان
في كثير من الأحيان يولي بعض الناس على قومهم إذا رأى في ذلك مصلحة ورأى الرجل
جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته (جابر بن عبد الله البجلي) على قومه بجيلة حينما
وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث
على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف
معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره.
قلنا: حدثتنا عن
الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة.
قال: لا يكمل الحاكم
ولا ينصح إلا إذا امتلأت نفسه غنى بالله وبفضل الله عن أن يمد يده لرعيته يغصبها ما وهبها الله من حقوق أو منافع.
قلنا: ما تقصد بهذا؟
قال: الحاكم العادل
هو الذي يعتبر نفسه فردا من الرعية، فلا يستأثر دونها بشيء .. بل إنه ـ كما تدل
النصوص ـ ينبغي أن يكون أكثر اشتدادا على نفسه من الرعية على نفسها.
لقد ورد في الحديث
أن رسول الله r استعمل عاملا، فجاءه العامل حين فرغ من
عمله ، فقال : يا رسول الله، هذا لكم ، وهذا أهدي لي ، فقال له : أفلا قعدت في بيت
أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ ثم قام رسول الله r عشية بعد الصلاة ، فتشهد وأثنى على الله
بما هو أهله ، ثم قال : (أما بعد ، فما بال العامل نستعمله ، فيأتينا فيقول : هذا
من عملكم ، وهذا أهدي لي ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم لا ،
فوالذي نفس محمد بيده ، لا يغل أحدكم منها شيئا ، إلا جاء به يوم القيامة يحمله
على عنقه ، إن كان بعيرا جاء به له رغاء ، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار ، وإن
كانت شاة جاء بها تيعر) [112]
انظروا .. كيف اعتبر
رسول الله r الهدية رشوة ..
وعلى هذا النهج سار
الولاة العدول ..
قال رجل منا: فحدثنا
من أحاديثهم ما تقر به أعيننا، ونعلم أنه يمكن أن يكون في الأرض حكام بالصفة التي
وصفت؟
قال: لقد كان ـ بحمد
الله ـ في هذه الأمة الكثير من الحكام ممن امتلأوا بالتعاليم التي جاء بها رسول
الله r .. فزهدوا وعفوا وتورعوا .. وكانوا بذلك
كله النموذج الأمثل للعدالة التي جاء بها الإسلام.
وكان أولهم في ذلك
الخليفة الأول أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ .. لقد كان ـ قبل أن يستخلف ـ تاجراً يغدو كل يوم إلى السوق
فيبيع ويبتاع، فلما استُخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها،
فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد ياخليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع
ماذا .. وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالا: انطلق معنا حتى
نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاه..
وروي أنهم فرضوا له
خمسين ومائتي دينار في السنة وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعها، فلم يكن يكفيه
ذلك ولاعياله، وقد كان قد ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى
البقيع فتبايع، فجاء عمر، فإذا هو بنسوة جلوس، فقال: ماشأنكن؟ قلن: نريد خليفة
رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقال: تعال هاهنا، فقال:
لاحاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لايكفيني ولاعيالي قال: فإنّا نزيدك، قال أبو
بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها، قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي، وهما على
حالهما تلك، فقال: أكملها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا .. وانطلق
أبوبكر، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: (أيها الناس إن رزقي كان خمسين
ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعُها وإن عمر وعلياً كمّلا لي
ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم؟ قال المهاجرون:(اللهم نعم قد رضينا)[113]
قارنوا ـ أيها
الحضور الكرام ـ هذا النموذج الرائع الذي رباه محمد r بكل قادة البشرية وحكامها .. لا شك أنكم
تحفظون مقالة لويس الخامس عشر: (أنا الدولة والدولة أنا) .. لقد كان لويس تاجر
غلال معروفاً يتجر في قوت رعيته، وهي تتضور جوعاً، ثم لايرى أحد في ذلك شيئاً من
العار .. أليس هو الأصل والأمة فرع عنه؟
وعلى هذه السيرة سار
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ .. فقد مكث زماناً، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتى دخلت
عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور
الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله r فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في
هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر
بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم
اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف.
وجاء في رواية أن
عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم: ما ترونه يحل لي من مال الله؟ أو قال: من
هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم أخبرتكم ما أستحل
منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في الصيف، وقوت عيالي
شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين.
قال معمر: وإنما كان
الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً.
وحدث مالك بن أوس
قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد
منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله r، فالرجل وقدمه،
والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته.
وعن الربيع بن زياد
الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأعجبته هيئته ونحوه، فقال:
يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت - وكان أكل
طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما والله ما أراك
أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن فيك خيراً،
ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم سافروا فدفعوا
نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال:
لا يا أمير المؤمنين، قال: فذلك مثلي ومثلهم.
وعن معدان بن أبي
طلحة اليعمري أنه قدم على عمر ـ رضي الله عنه ـ بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم
قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد
خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صحفة من
خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة.
انظروا ـ أيها الجمع
الكريم ـ كيف يتحرج الخليفة من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر
بإحضار طعام خاص له من خالص ماله .. قارنوا هذا بتلك الموائد الفارهة التي تنصب من
الأموال العامة بدون رقيب ولا حسيب.
وعن عبد الرحمن بن
نجيح قال: نزلت على عمر ـ رضي الله عنه ـ
فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره، فقال: ويحك
من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها،
فخليت لك ناقة من مال الله، فقال ويحك تسقيني ناراً، واستحل ذلك اللبن من بعض
الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها.
انظروا كيف خشي عمر
ـ رضي الله عنه ـ من عذاب الله تعالى لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم
تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من صاحبه.
وروي أنه مرض يوماً،
فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم
يتداو عمر بالعسل كما نصحة الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن الناس: إن
أذنتم لي، وإلا فهو علي حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى
بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.
وعن عبد الله بن
عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، وقد كان ذبح
للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صُبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه،
ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس
فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله r، فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما
صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله r، ففعل ذلك العباس.
وعن الحسن البصري
قال: خرج عمر ـ رضي الله عنه ـ في يوم حارّ واضعاً رداءه على رأسه، فمرَّ به غلام
على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير
المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت
على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام، فدخل المدينة، وهو خلفه والناس ينظرون إليه.
وعن عبد الله بن
عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من المدينة إلى مكة،
إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً[114]، ولا خباء، كان
يلقى الكساء والنطع[115]، على الشجرة
فيستظل تحته.
ودخلت عليه مرة حفصة
أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه
فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك،
ولبست ثياباً ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك، فذكر أمر رسول الله r وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يُذكرها ما كان فيه
رسول الله r وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي
صاحبان سلكا طريقاً، فإن سلكت الشديد، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي.
وخطب مرة الناس، وهو
خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه
اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدم أحمر، وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر
إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يغسل، ولم يكن لي ثوب غيره.
ولم يكن عمر ـ رضي
الله عنه ـ يشتد على نفسه فقط .. بل كان يشتد على أهل بيته أيضا مخافة أن يستغلوا
منصبه في خدمة مصالحهم:
لقد كان إذا نهى
الناس عن شيء تقدم إلى أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون
إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا
أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم
أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر.
ولم يكن هذا مجرد
كلام .. بل كان فعالا .. وفعالا شديدة:
حدث ابنه عبد الله
بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها،
قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن
عمر، قال، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ ... بخ ... ابن أمير المؤمنين، قال:
ما هذه الإبل؟ قال، قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى ابتغى ما يبتغي
المسلمون، قال: فقال: فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير
المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
وقال: شهدت جلولاء -
إحدى المعارك ببلاد فارس - فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً، فلما قدمت على عمر
قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده، أكنت مفتدياً به؟ قلت: والله ما من
شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا:
عبد الله بن عمر صاحب رسول الله r، وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه،
وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسؤول وأنا معطيك
أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدرهم درهم، قال: ثم دعا التجار فابتاعوه منه
بأربعمائة ألف درهم، فدفع إلي ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص
ليقسمه.
وعن أسلم قال: خرج
عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى
الأشعري، وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به
لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين
وأسلفكماه فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى
أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، ففعلاً، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال. فلما
قدما على عمر قال: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا.فقال عمر: أديا المال
وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين،
لو هلك المال أو نقص لضّمناه. فقال: أديا المال. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله.
فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً (شركة)، فأخذ عمر رأس
المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال .. وقد كان ذلك أول قراض
في الإسلام.
وقال عاصم بن عمر:
أرسل إليّ عمر يرفأ (مولاه) فأتيته ـ وهو جالسٌ في المسجد ـ فحمد الله عز
وجل، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لم
أكن أرى شيئاً من هذا المال يحل لي قبل أن أليه إلا بحقه، ثم ما كان أحرم علي منه
حين وليته، فعاد أمانتي، وإني كنت أنفقت عليك من مال الله شهراً، فلست بزائدك
عليه، وإني أعطيت ثمرك بالعالية منحة، فخذ ثمنه، ثم ائت رجلاً من تجار قومك فكن
إلى جانبه، فإذا ابتاع شيئاً فاستشركه وأنفق عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت.
وقال معيقيب: أرسل
إليَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصماً، فقال
لي: اتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين،
فانتفقهم (سألهم النفقة)، فأعطوه آنية وفضة ومتاعاً، وسيفاً محلى، فقال: عاصم: ما
فعلتُ، إنما قدمت على ناس من قومي، فأعطوني هذا، فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله
في بيت المال.
ومما يروى في هذا أن
عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم المال، ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض
لأسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف،
فقال: يا أبت فرضت لأُسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه
من الفضل مالم يكن لك! وما كان له من الفضل مالم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان
أحب إلى رسول الله r من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله r منك.
ويروى أنه قدم على
عمر ـ رضي الله عنه ـ مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة
حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة
بنت زيد: أنا جيدة الوزن فهلمّ أزن لك، قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن
تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلاً على
المسلمين.
ويروى أنه جيء إلى
عمر ـ رضي الله عنه ـ بمال، فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فقالت: يا أمير المؤمنين،
حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عز وجل بالأقربين من هذا المال، فقال: يا
بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففي سداد المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك.
قومي.
ويروى أنه قدم صهرٌ
لعمر عليه، فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله
ملكاً خائناً: فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلب ماله عشرة آلاف درهم.
لقد صار عمر بهذا
السلوك الأخلاقي الرفيع مضرب المثل لمن بعده .. حدث سفيان الثوري عن نفسه قال: لما
حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان، فوضعوا لي المرصد حول البيت فأخذوني بالليل،
فلما مثلت بين يديه أدناني ثم قال: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمورنا، فما
أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه؟ فقلت له: كم أنفقت في
سفرك هذا؟ قال: لا أدري لي أمناء ووكلاء.. قلت: فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي
الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما حج قال لغلامه:
كم أنفقنا في سفرتنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً. فقال: ويحك،
أجحفنا بيت مال المسلمين!
وكان سلوكه ذلك سببا
في إقبال الناس على الإسلام .. فلا يمكن للناس أن يقبلوا على الإسلام في ظل حكومات
الاستبداد .. ومما يروى من ذلك أن قيصر ملك الروم أرسل رسولاً إلى عمر لينظر
أحواله ويشاهد فعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ قالوا: ليس لنا
ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة .. فخرج الرسول في طلبه فوجده نائماً في
الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة تحت رأسه والعرق يسقط منه
إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل تكون جميع
ملوك الأرض لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالة، ولكنك يا عمر عدلت فأمنت
فنمت وملكنا يجور لا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً. أشهد أن دينكم لدين الحق
ولولا أني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن سأعود بعد هذا وأسلم.
لقد سجل شاعرنا حافظ
إبراهيم هذه المشاهد ببيانه البديع، فقال:
سكت قليلا: ومن
هؤلاء العدول علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .. حدث هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علىًّ بن أبي
طالب بالخورنق, وهو يرعد تحت سمل قطيفة, فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك
ولأهل بيتك في هذا المال، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع! فقال: والله ما أرزؤكم من
مالكم شيئًا، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي ـ أو قال من المدينة ـ
وعن أبي مطر بن عبد
الله الجهنى قال: رأيت عليًا عليه السلام متزرًا بإزار، مرتديًا برداء ومعه الدرة,
كأنه أعرابى بدوى، ثم ذكر دخوله إلى السوق ومساومته أحد التجار في ثوب بثلاثة
دراهم، وأن التاجر عرفه، قال: فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، فأتى آخر فلما عرفه لم
يشتر منه شيئًا، فأتى غلامًا حدثًا فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ثم جاء أبو
الغلام فأخبره، فأخذ أبوه درهمًا ثم جاء به فقال: هذا الدرهم يا أمير المؤمنين،
قال: ما شأن هذا الدرهم؟ قال: كان ثمن القميص درهمين، فقال: باعني رضاي وأخذ رضاه.
وقال عمر بن قيس: قيل
لعلي ـ رضي الله عنه ـ: لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن.
وعن عبد الله زُرَير
الغافقى قال: دخلت على علىَّ بن أبي طالب- رضي الله عنه - فقرب إلينا خزيرة[116],
فقلت: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط - يعنى الأوز- فإن الله عز وجل قد
أكثر الخير، فقال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله r يقول: (لا يحل للخليفة من مال الله إلا
قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدى الناس)
ويروى أنه كان يختم
على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول: لا أحب أن يدخل بطني إلا ما
أعلم, وقال سفيان: إن عليًا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على
قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.
وحدث أبو عبيد في
الأموال عن على - رضي الله عنه - أنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات، ثم أتاه مال
من أصبهان، فقال: اغدوا إلى عطاء رابع، إني لست بخازنكم، فأخذها قوم وردها قوم,
وخطب على الناس فقال: أيها الناس، والله الذي لا إله إلا هو، ما رزأت من مالكم
قليلاً ولا كثيرًا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب، فقال: أهدى إلي
دهقان، وقال: ثم أتى بيت المال وقال: خذوا، وأنشا يقول:
أفلح من كانت له قوصرة[117] يأكل منها كل يوم تمرة
قال رجل منا: أيمكن
أن يعود أمثال هؤلاء ليحكموا العالم؟
قال: أجل .. يمكن أن
يعود هؤلاء .. إذا توفر الإيمان ودعاة الإيمان .. يمكن أن تروا من العجائب ما لا
يخطر على بال.
قال الرجل: أكان
الإيمان هو سبب هذا السلوك الرفيع؟
قال: أجل .. لقد كان
الإيمان بالله وبوعد الله وبوعيد الله هو السبب في كل ذلك ..
لقد حدث أبو الأشهب
قال: مرّ عمر ـ رضي الله عنه ـ على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها،
فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها.
وعن أنس بن مالك ـ
رضي الله عنه ـ قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعته
يقول: وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ،
والله بنيّ الخطاب، لتتقين الله، أو ليعذبنك.
وعن سالم بن عبد
الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر بصغار المعزى
أن تسمط[118]
لنا، ونأمر بلباب[119] الخبز فيخبز لنا،
ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان[120] حتى إذا صار مثل
عين اليعقوب[121]،
أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول:﴿
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ﴾ (الأحقاف،آية:20)
وعن أبي عمران
الجوني قال: قال عمر بن الخطاب: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا
ندعه ليوم ﴿ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ (الحج:2)
وقال عمر ـ رضي الله
عنه ـ: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضرّ بالآخرة، وإن أردت الآخرة
أضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضر بالفانية.
لقد وصف سعد بن أبي
وقاص ـ رضي الله عنه ـ سر عدل عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: والله ما كان عمر بن
الخطاب بأقدامنا هجرة، وقد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا.
ومثل ذلك جميع
الخلفاء الراشدين العدول من أول الأمة إلى آخرها ..
لقد وصف ضرار بن
ضميرة الكناني على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقال: كان يستوحش من الدنيا
وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل
سدوله، وغارت نجومه يتململ في محرابه، قابضًا لحيته، يتململ تململ السليم, ويبكي
بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول
للدنيا: أبي تغررت أم إلىَّ تشوفت، هيهات هيهات، غُرَّي غيرى، قد بنتك ثلاثا،
فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير, آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق.
ودخل الأشتر النخعي
على على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو قائم يصلى بالليل، فقال له: يا أمير
المؤمنين، صوم بالنهار وسهر بالليل، وتعب فيما بين، فلما فرغ على من صلاته قال له:
سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل.
وقالت فاطمة بنت عبد
الملك زوجة عمر بن عبد العزيز تصفه: إن عمر رحمة الله عليه كان قد فَرَّغ للمسلمين
نفسه، ولأمورهم ذهنه، وكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه
بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان من ماله،
فصلى ركعتين ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه، يشهق الشهقة يكاد
ينصدع قلبه لها، وتخرج لها نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً، فدنوت منه فقلت: يا
أمير المؤمنين أليس كان منك ما كان؟ قال: أجل فعليك بشأنك وخلِّيني وشأني، قالت: فقلت
إني أرجو أن أتَّعظ، قال: إذاَ أخبرك، إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة
أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا
المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن
الله سائلي عنهم، وأن رسول الله r حجيجي فيهم، فخفت أن لا يقبل الله تعالى
مني معذرة فيهم، ولا تقوم لي مع رسول الله r حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت
لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت منها خوفاً، فاتَّعظي
إن شئت أو ذَرِي.
قلنا: عرفنا مسؤولية
العلماء ومسؤولية الحكام .. فما مسؤولية الرعية؟
قال: على الرعية
مسؤوليتان .. أما الأولى: فأن يكونوا من الموالاة .. وأما الثانية: فأن يكونوا من
المعارضة.
ضحك بعضنا، وقال:
هذه رعية الطابور الخامس[122].
قال: هذه رعية الحكم
العادل .. فلا يمكن لموازين الحاكم إن تعتدل إن لم تضبط بمن يواليها إذا احتاجت
للموالاة، ويعارضها إناحتاجت للمعارضة.
قلنا: فما تريد
بالموالاة؟
قال: الأصل في
الحاكم أن يطاع .. لأنه لا يمكن أن تستقيم أمور الرعية مع معصيتها له .. وإلا فإنه
لا فائدة حينذاك لوجود الحاكم ..
إن الحاكم عندنا
كالإمام الذي تنتظم به صفوف رعية المصلين .. ولا تصح صلاة مصل يخالف إمامه في
صلاته.
لقد وردت النصوص
بهذا .. فقد قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾
(النساء)
إن أولي أمر
المسلمين يشمل بالإضافة للعلماء الحكام والمسؤولين في مناصبهم المختلفة[123].
وقد ورد في السنة ما
يدل على وجوب هذه الطاعة:
قال رسول الله r : ( اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه
زبيبة)[124]
وعن أم الحصين ـ رضي
الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله r يخطب في حجة الوداع يقول: (ولو استعمل
عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا)[125]
وقال r: ( سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر
بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم
ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم)[126]
وقال: ( كانت بنو إسرائيل
تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء
فيكثرون)، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: (أوفوا ببيعة الأول فالأول،
وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) [127]
وقال:( من رأى من
أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة
جاهلية)[128]
وقال:( من خلع يدا
من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية)[129]
وعن السدي في قوله
تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾ (النساء)
قال: بعث رسول الله r سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن
ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عَرَّسوا، وأتاهم ذو
العُيَيْنَتَين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل. فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم
أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال:
يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله،
وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال
عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل،
فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل، فإنه قد أسلم،
وإنه في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟
فاستبا وارتفعا إلى
النبي r ، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية
على أمير، فاستبا عند رسول الله r، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا
العبد الأجدع يَسُبُّني، فقال رسول الله r : ( يا خالد، لا تسب عمارًا، فإنه من يسب
عمارا يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله)، فغضب عمار
فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله عز وجل قوله :﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ﴾[130]
لقد اتفق على هذا
المعنى جميع المسلمين .. فلا يمكن أن تتحقق العدالة من دون هذا .. اسمعوا للفقيه
السياسي المسلم أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف الطرطوشي، وهو ينطق بهذه الحكم التي
تبين المصالح المرعية من ولاء الرعية لحاكمها .. قال:( الطاعة تؤلف شمل الدين
وتنظم أمور المسلمين.. عصيان الأئمة يهدم أركان الملة.. أولى الناس بطاعة السلطان
ومناصحته أهل الدين والنعم والمروءات، إذ لا يقوم الدين إلا بالسلطان ولا تكون
النعم والحرم محفوظة إلا به.. الطاعة ملاك الدين.. الطاعة معاقد السلامة وأرفع
منازل السعادة، والطريقة المثلى والعروة الوثقى وقوام الأمة، وقيام السنة بطاعة
الأئمة.. الطاعة عصمة من كل فتنة ونجاة من كل شبهة.. طاعة الأئمة عصمة لمن لجأ
إليها وحرز لمن دخل فيها.. ليس للرعية أن تعترض على الأئمة في تدبيرها وإن سولت
لها أنفسها، بل عليها الانقياد وعلى الأئمة الاجتهاد.. بالطاعة تقوم الحدود تقوم
الحدود وتؤدى الفرائض، وتحقن الدماء وتأمن السبل.. الإمامة عصمة للعباد وحياة
للبلاد، أوجبها الله لمن خصه بفضلها وحمله أعباءها فقرنها بطاعته وطاعة رسوله..
طاعة الأئمة هدى لمن استضاء بنورها وموئل لمن حافظ عليها.. الخارج عن الطاعة منقطع
العصمة بريء من الذمة، مبدل بالكفر النعمة.. طاعة الأئمة حبل الله المتين ودينه
القويم، وجنته الواقية وكفايته العالية.. إياكم والخروج من أنس الطاعة إلى وحشة
المعصية، ولا تسروا غش الأئمة وعليكم بالإخلاص والنصيحة.. ما مشى قوم إلى سلطان ليذلوه
إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا.. الطاعة مقرونة بالمحبة.. طاعة المحبة أفضل من طاعة
الهيبة.. للرعية على السلطان الاستصلاح لهم، والتعهد لأمورهم وحسن السيرة فيهم
والعدل عليهم، والتعديل بينهم، وحق السلطان عليهم الطاعة والاستقامة والشكر
والمحبة.. بالرعية من الحاجة إلى الراعي ما ليس بالراعي من الحاجة إليهم لولا
الرعاة لهلكت الرعية، ولولا المسيم لهلكت السوام.
قلنا: ألا ترى أن
هذا الكلام هو نفس الكلام الذي يقوله علماء السلاطين؟
قال: هم يقولونه ولا
يفقهون محله.
قلنا: فما محله؟
قال: لقد حد الشرع
للطاعة حدودا لا ينبغي تجاوزها.
قلت: فما هي؟
قال: أن تكون الطاعة
فيما يحقق العدل والإحسان والمعروف ..
لقد وردت النصوص
تقيد الطاعة بهذا .. ففي الحديث عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: بعث رسول الله r سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَد
عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله r أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي
حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها.. قال: فهم القوم أن
يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله r من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله
r ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها.. قال:
فرجعوا إلى رسول الله r فأخبروه، فقال لهم : ( لو دخلتموها ما
خرجتم منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف)[131]
وقال r: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم
يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)[132]
وقال r : ( أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: رجل
قرأ كتاب الله حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان عليه رداء الإسلام أعاره الله تعالى
إياه اخترط سيفه وضرب به جاره ورماه بالشرك، قيل: يا رسول الله الرامي أحق به أم
المرمي؟ قال: الرامي، ورجل آتاه الله سلطانا فقال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن
عصاني فقد عصى الله وكذب ليس لخليفة أن يكون جنة دون الخالق، ورجل استخفته
الأحاديث كلما قطع أحدوثة حدث بأطول منها أن يدرك الدجال يتبعه)[133]
وعن عبادة بن الصامت
ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا،
وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: (إلا أن تروا كفرا
بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان) [134]
وعن عبد الرحمن بن
عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل
الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله r في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من
يَنْتَضل، ومنا من هو في جَشَره إذ نادى منادي رسول الله r: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله r ، فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن
يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل
عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها
بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول
المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن
بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما
فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا
عُنُق الآخر)، قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله r ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه
قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل
أنفسنا، والله تعالى يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾
(النساء:29)، قال: فسكت ساعة ثم قال: (أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله)[135]
قلنا: عرفنا الولاء
.. وعرفنا حدوده .. فما تريد بالمعارضة؟
قال: لا ينبغي
للرعية أن تكتفي بمعصية الحاكم إن أمرها بمعصية الله .. بل عليها أن تشهر ذلك ..
وعليها أن تواجهه بالإنكار .. لقد وردت النصوص الكثيرة تدل على ذلك ..
ففي الحديث قال r: (إياكم والجلوس بالطرقات)، قالوا: يا رسول الله ما لنا
بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)،
قالوا: وما حقه؟ قال : ( غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر) [136]
انظروا كيف اعتبر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل مسلم ..
وفي حديث الآخر قال r: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)[137]
وقال r : ( من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ ، ومن لم
يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره
بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان)[138]
وعن عبادة بن الصامت
ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في العسر واليسر
والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا
عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)[139]
قال رجل منا: لقد
حدثتنا عن إنكار العلماء على الولاة .. فحدثنا عن إنكار العامة عليهم، ونصحهم لهم.
قال: لقد ورد من ذلك
الكثير .. وهو يرد على علماء السلاطين الذين يحثون على الولاء المطلق .. ولا يحثون
على المعارضة إن وجد ما يسوغها ..
من ذلك ما حدث به الزهري قال: ما سمعت بأحسن من كلام تكلم به رجل عند سليمان بن عبد
الملك، فقال: يا أمير المؤمنين اسمع مني أربع كلمات، فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك
ودنياك. قال: ما هن؟ قال: لا تعد أحداً عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى
سهلاً إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب، وللدهر ثورات فكن
على حذر.
ومن ذلك أن رجلا قال لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين .. اذكر بمقامي هذا مقاماً
لا يشغل الله عنك كثرة من تخاصم من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل ولا براءة
من الذنب.. فبكى عمر بكاء شديداً ثم استرده الكلام، فجعل يردده وعمر يبكي وينتحب،
ثم قال: حاجتك؟ فقال: عاملك بأذربيجان أخذ مني اثني عشر ألف درهم. فقال: اكتبوها
له حتى ترد عليه.
ومن ذلك أنه لما ولي عمر بن عبد العزيز وفد عليه الوفود من كل بلد، فوفد عليه
الحجازيون فتقدم منهم غلام للكلام، وكان حديث السن، فقال عمر: لينطق من هو أسن
منك. فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه،
فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام وعرف فضله من
سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك
بمجلسك هذا. فقال عمر: صدقت! قل ما بدا لك، فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين!
نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة، وقد أتيناك لمن الله الذي من علينا بك، لم تقدمنا
إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتتنا منك في بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنا
جورك بعدلك. فقال له عمر: عظني يا غلام! فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! إن ناساً
غرهم حلم الله عليهم وطول أملهم، وكثرة ثناء الناس عليهم، فزلت بهم أقدامهم فهووا
في النار، فلا يغرنك حلم الله عليك وطول أملك، وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل بك
قدمك فتلتحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه الأمة! ثم سكت، فسأل
الإمام عمر الغلام عن سنه، فإذا هو ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عن نسبه فإذا هو من
ولد الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
ومن ذلك أن رجلا اسمه زياد دخل على عمر بن عبد العزيز فقال: يا زياد ألا ترى إلى ما
ابتليت به من أمر أمة محمد r ؟ فقال زياد: يا أمير المؤمنين والله لو
أن كل شعرة منك قطعت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج مما أنت فيه
يا أمير المؤمنين كيف حال رجل له خصم ألد؟ قال: سيئ الحالة. قال: فإن كان له خصمان
ألدان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنيه عيش. قال: فو الله
ما من أحد من أمة محمد إلا وهو خصمك! فبكى حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك.
ومن ذلك أن رجلاً قال لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أخلي له
المسعى، فقال له: لا جزاك الله عني خيراً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً! ثم جاء إليه
فقال: يا هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من خلق الله
تعالى؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن
خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلس
فجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال
نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ فيقال إن هارون كان يقول
بعد ذلك: إني أحب أن أحج في كل عام، وما يمنعني من ذلك إلا عبيد الله العمري.
ومن ذلك أن بعض النساك دخل على هارون الرشيد، فسلم عليه فقال: وعليك السلام أيها
الملك! ثم قال له: أيها الملك تحب الله؟ قال: نعم. قال: فتعصيه؟ قال: نعم. قال:
كذبت والله في حبك إياه! إنك لو أحببته إذا ما عصيته، ثم أنشد يقول:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه = هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته =إن المحب لمن يحب مطيع
في كل يوم يبتديك بنعمة = منه وأنت لشكر ذاك مضيع
ومن ذلك ما ذكره بشر بن السري قال: بينما الحجاج جالساً في الحجر إذ دخل رجل من أهل
اليمن، فجعل يطوف فوكل به بعض من معه قال: إذا خرج من طوافه فائتني به، فلما فرغ
أتاه به فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل اليمن. قال: لقد تركته أبيض بضاً سميناً
طويلاً عريضاً! قال: ويلك، ليس عن هذا أسألك! قال: فعمه؟ قال: عن سيرته وطعمته.
قال: فأجور السيرة وأخبث الطعم، وأعدى العداة على الله وأحكامه. قال: فغضب الحجاج
وقال: ويلك أوما علمت أنه أخي؟ قال: بلى. قال: إذن أفتك بك. قال: أما علمت أن الله
ربي والله لهو أمنع لي منك أكثر منك لأخيك. قال: أجل أرسله يا غلام.
ومن ذلك أن روح بن زنباع كان في طريق مكة في يوم شديد الحر مع أصحابه، فنزلوا وضربت
لهم الخيام والظلال، وقدم إليهم الطعام والشراب المبرد. فبينما هم كذلك وإذا هم
براع، فدعاه إلى الطعام فأبى وقال: إني صائم! فقال له روح: في مثل هذا اليوم
الحار؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟ فقال له روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ
جاد بها روح بن زنباع.
ومن ذلك أن أعرابياً قام بين يدي سليمان بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، إني
مكلمك كلاماً فاحتمله إن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. فقال: هات يا أعرابي.
فقال: إني سأطلق لساني بما خرست به الألسن لحق الله ولحق أمانتك! إنه قد اكتنفك
رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في
الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فأعظم الناس غبناً يوم
القيامة من باع آخرته بدنيا غيره! فقال له سليمان: أما أنت فقد نصحت، وأرجو أن
الله يعين على ما قلدنا وقد جردت لسانك وهو سيفك. فقال: أجل يا أمير المؤمنين، وهو
لك لا عليك!
ومن ذلك ما ذكره ابن أبي العروبة قال: حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة
ودعى بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو
الجبل فإذا هو براع بين شملتين نائم فضربه برجله وقال له: ائت الأمير! فأتاه، فقال
له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. فقال: من هو؟ قال:
الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم هو
أشد حراً منه! قال: فافطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك
إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: لأنه طعام طيب. قال:
لم تطيبه أنت ولا الطباخ ولكن طيبته العافية!
ومن ذلك أن بعض الزهاد حضر بين يدي خليفة، فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني
سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه، فسمعته يقول يوماً وهو
يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي، وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته،
ولكن الشكر لله إذ بصري سالم.. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس
ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه
من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن
من أهل بيت النبوة فانظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك.
ومن ذلك أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك، فقال: تكلم يا أعرابي، فقال: يا
أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال:
يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه فكيف بمن
نأمن غشه ونرجو نصحه؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساؤوا
الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم
يخافوا الله فيك، حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه
فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا
وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من
باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع
سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك.
ومن ذلك ما حدث به ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجاً،
فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع
الفجر رجع إلى جار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فصلى بالناس،
فخرج ذات اليلة حين اسخر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: (اللهم
إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم
والطمع)
فأسرع المنصور في
مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه
الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول
فسلم عليه فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في
الأرض ومنا يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؛ فوالله لقد حشوت مسامعي ما
أمرضني وأقلقني؟
فقال: يا أمير
المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها
لي شغل شاغل.
فقال له: أنت آمن
على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي
والفساد في الأرض أنت.
فقال: ويحك وكيف
يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي؟
قال: وهل دخل أحداً
من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم
فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاجاً من الجص والآجر
وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع
الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان نفر
سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف
ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين
استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا
تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا؟ فأئتمروا على أن لا
يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم
أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم
الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك من بالهدايا والأموال ليتقؤوا بهم على ظلم
رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية
فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت
غافل؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك
عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك
الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة
وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو
ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه؛ فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً
ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؛
لقد كان الرجل يأتي
من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك
فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف.
ولقد كنت ـ يا أمير
المؤمنين ـ أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي
فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي
نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب
سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان
يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه؟ هذا يا أمير المؤمنين مشرك
بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله وابن
عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال
إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط
من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال
الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي
من يساء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني. فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما
أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك
وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت
أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها من قلة الجدة والضعف حين
أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت
فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ..
يا أمير المؤمنين هل
تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد القتل؟ قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك
الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من
عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك؟
فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب؟ هل
يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا؟ فبكى المنصور بكاء
شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً، ثم قال: من
ملك الدنيا؟ فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال. يا ليتني لم
أخلق ولم أرك شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا
خائناً؟ قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن
افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما
حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على
صلاح أمرك ورعيتك.
فقال المنصور. اللهم
وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
ومن ذلك ما حدث به عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً
ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس، وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان
يؤذونه ويولعون به؛ إذ أقلت هوادج هارون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون
نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال: لبيك يا
بهلول فقال: يا أمير المؤمنين؛ حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري
قال: رأيت النبي r منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء؛ لا
ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك
وتجبرك. قال: فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك
الله قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف
في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له
جائزة: فقال: أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن
كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد
اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك
أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من
عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني. قال: فأسبل هرون السجاف ومضى.
ومن ذلك ما حدث به شعيب بن حرب: بينما أنا في
طريق مكة, اذ رأيت هارون الرشيد, فقلت في نفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي,
فقالت لي: لا تفعل فان هذا رجل جبار ومتى أكرته ضرب عنقك.
فقلت في نفسي: لا بد
من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون, قد أذيت الامة وأتعبت البهائم, فقال: خذوه.
ثم أدخلت عليه وهو على كرسي وفي يده عمود يلعب به.
فقال: ممن الرجل؟،
فقلت: من أفناء الناس. فقال: ممن ثكلتك أمك؟. قال: من الأبناء. قال: وما حملك أن
تدعوني باسمي؟. فقلت: أنا أدعو الله باسمه فأقول يا الله, يا رحمن, وما ينكر من
دعائي باسمك, وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب الخلق اليه محمدا, وكنى أبغض الخلق
اليه أبا لهب. فقال: أخرجوه.
قال رجل منا: بورك
في كل هؤلاء .. ولكن هل ترى هذا النوع من الإنكار مجديا؟
قال: أجل .. إذا وجد
الراعي كل رعيته تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولا تداهنه في ذلك، فإنه لن يجد
إلا أن يخضع لها ..
لقد ورد في الآثار
الكثيرة ما يدل على تأثير المواعظ، وربما سمعت من ذلك ما يكفي:
ومن ذلك ما وري أن سائلا سأل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك؟ قال: كنت أضرب
يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة، فعمل ذلك الكلام في
قلبي.
ومن ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال لأسقف قد أسلم: عظني. فقال:
يا أمير المؤمنين إن كان الله عليك فمن ترجو؟ قال: أحسنت فزدني. قال: إن كان الله
معك فمن تخاف؟ قال: أحسنت فزدني. قال: احسب أن الله قد غفر للمذنبين، أليس قد
فاتهم ثواب المحسنين؟ قال: حسبي حسبي .. وبكى علي ـ رضي الله عنه ـ أربعين صباحاً من أجل هذه الموعظة.
***
ما إن وصل حطيط
الزيات من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا
بيد حطيط، وساروا به إلى مقصلة الإعدام ..
أراد بعضنا أن يتدخل
ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل ..
لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في
جيش العدالة الإلهية .. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد .. فـ :﴿ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا
لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)﴾ (الأحزاب)
قال ذلك، ثم سار
بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت روحه
إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد r .
([1]) أشير به إلى (حطيط الزيات)، ولم أقف له على ترجمة .. وكل ما وقفت
عليه حوله هو ما ذكره العلماء من حادثة اسشهاده بعد موقفه من الحجاج.
([3]) هو اسم الرجل المذكور في قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾
(الأعراف:175)على حسب ما ذكر عبد الله بن مسعود، وابن عباس وغيرهما.
([4])البلعميات (بالإنجليزية: Macrophage)
في الأصل: نوع من كريات الدم البيضاء القادرة على التهام العناصر الغريبة.. ولا
يخفى وجه الاستعارة في هذا.
([13]) مجخيا بضم ففتح للجيم فكسر للمعجمة ، أي مائلا أو منكوسا : أي إن
القلب إذا افتتن وخرجت منه حرمة المعاصي خرج منه نور الإيمان كما يخرج الماء من الكوز
إذا مال أو انتكس.
([27]) رواه ابن أبي الدنيا
وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي، زاد ابن أبي الدنيا في رواية : (كلما قرضت
عادت)، وفي أخرى للبيهقي : (ويقرأون كتاب الله ولا يعملون به).
([34]) رواه أبو يعلى بسند صحيح
والطبراني شطره الأول بسند جيد، قال الحافظ المنذري: وخبر : ( من كتم علما ألجمه
الله يوم القيامة بلجام من نار)، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كجابر
وأنس وابني عمر ومسعود وعمرو بن عنبسة وعلي بن طلق وغيرهم ، وأبي سعيد الخدري
بزيادة : ( مما ينفع الله به في أمر الناس في الدين)
([48]) هو طاووس بن كيسان
الخولاني الهمداني، بالولاء، أبو عبد الرحمن (33 - 106 ه ) من أكابر التابعين،
تفقها في الدين ورواية للحديث، وتقشفا في العيش، وجرأة على وعظ الخلفاء والملوك..
أصله من الفرس، ومولده ومنشأه في اليمن.. توفي حاجا بالمزدلفة أو بمنى، وكان هشام
بن عبد الملك حاجا تلك السنة، فصلى عليه.. وكان يأبى القرب من الملوك والامراء،
قال ابن عيينة: متجنبو السلطان ثلاثة: أبو ذر، وطاووس، والثوري.
([49]) هو الأحنف بن قيس بن
معاوية بن حصين المري السعدي المنقري التميمي، أبو بحر (3 ق ه - 72 ه) سيد تميم،
وأحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان الفاتحين.. يضرب به المثل في الحلم.. ولد في
البصرة وأدرك النبي r ولم يره.. ووفد على عمر،
حين آلت الخلافة إليه، في المدينة، فاستبقاه عمر، فمكث عاما، وأذن له فعاد إلى
البصرة، وشهد الفتوح في خراسان واعتزل الفتنة يوم الجمل، ثم شهد صفين مع علي..
وولي خراسان.. وكان صديقا لمصعب بن الزبير (أمير العراق) فوقد عليه بالكوفة فتوفي
فيها وهو عنده.. أخبار كثيرة جدا، وخطبه وكلماته متفرقة في كتب التاريخ والادب
والبلدان.
([50]) سفيان الثوري ( 97 -
161 هـ)، هو سفيان بن سعيد بن مسروق ، الثوري . من بني ثور بن عبد مناة . أمير
المؤمنين في الحديث . كان راسا في التقوي ، طلبة المنصور ثم المهدي ثم ليلي الحكم
، فتواري منهما سنين ، ومات بالبصرة مستخفيا .. من مصنفاته (الجامع الكبير) ؛
و(الجامع الصغير) (انظر: الأعلام للرزكلي 3/158؛ والجواهر المضية 1/250؛ وتاريخ
بغداد 9/151 )
([51]) محمد بن كعب القرظي ( ؟
ــ 108 هـ )، هو محمد بن كعب بن سليم بن أسد ، أبو حمزة ، وقيل أبو عبد الله ،
القرظي الكوفي ثم المدني . روى عن العباس ابن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وابن
مسعود وعمرو بن العاص ، وغيرهم . روى عنه أخوه عثمان والحكم بن عتيبة وموسى بن
عبيدة وأبو جعفر الخصمي وغيرهم .
وقال ابن حبان : كان
من أفاضل أهل المدينة علماً وفقهاً . قال ابن سعد : كان ثقة عالماً كثير الحديث
ورعاً وكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف ، فمات هو وجماعة معه تحت
الهدم (انظر: تهذيب التهذيب 9/421 ، وشذرات الذهب 1/136 )
([52]) ابن شهاب الزهري ( 58 -
124 هـ )، هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب . من بني زهرة ، من قريش . تابعي
من كبار الحفاظ والفقهاء مدني سكن الشام . هو من أوائل من دون الأحاديث النبوية،
ودون معها فقه الصحابة.. قال أبو داود : جميع حديث الزهري(2200 ) حديث .. أخذ عن
بعض الصحابة . وأخذ عنه مالك بن أنس وطبقته. (انظر: تهذيب التهذيب 9/445 ـ 451؛
وتذكرة الحفاظ 1/102 ؛ والوفيات 1/451 ؛ والأعلام للزركلي 7/317 )
([53]) هو شقيق بن إبراهيم بن
علي الازدي البلخي، أبو علي (...- 194 ه) زاهد صوفي، من مشاهير المشايخ في
خراسان.. ولعله أول من تكلم في علوم الاحوال (الصوفية) بكور خراسان.. وكان من كبار
المجاهدين.. استشهد في غزوة كولان (بما وراء النهر)
([55]) هو عمرو بن عبيد بن باب
التيمي بالولاء، أبو عثمان البصري (80 - 144 ه ) شيخ المعتزلة في عصره، ومفتيها،
وأحد الزهاد المشهورين.. كان جده من سبي فارس، وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في
البصرة.. واشتهر عمرو بعلمه وزهده وأخباره مع المنصور العباسي وغيره.. وفيه قال
المنصور: ( كلكم طالب صيد، غير عمرو بن عبيد)،
له رسائل وخطب وكتب،
منها (التفسير) و(الرد على القدرية )، توفي بمران (بقرب مكة) ورثاه المنصور، ولم
يسمع بخليفة رثى من دونه، سواه.
([56]) هو مالك بن دينار
البصري، أبو يحيى (000 - 131 ه) من رواة الحديث، كان ورعا، يأكل من كسبه، ويكتب
المصاحب بالاجرة، توفي في البصرة.
([57]) عمر بن عبد العزيز ( 61
- 101 هـ )، هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم .. الخليفة الصالح .. وربما
قيل له (خامس الخلفاء الراشدين) لعدله وحزمه . معدود من كبار التابعين . ولد ونشأ
بالمدينة . وولي إماراتها للوليد . ثم استوزره سليمان بن عبد الملك وولي الخلافة
بعهد من سليمان سنه 99 هـ فبسط العدل ، وسكن الفتن .. (انظر: الأعلام للزركلي
5/209 ،و(سيرة عمر بن عبد العزيز) لابن الجوزي ؛ و(الخليفة الزاهد) لعبد العزيز
سيد الأهل.
([58]) أبو حازم ( ؟ - 140هـ
)، هو سلمه بن دينار ، أبو حازم ، ويقال له الأعرج . عالم المدينة وقاضيها وشيخها،
روي عن سهل بن سعد الساعدي وأبي أمامة بن سهل وسعيد بن المسيب وغيرهم . وعنه
الزهري وعبيد الله بن عمر وسليمان بن بلال وغيرهم . كان زاهداً عابداً ، بعث إليه
سليمان بن عبد الملك ليأتيه ، فقال : إن كانت له حاجه فليأت ، وأما أنا فما لي
إليه حاجة. (انظر: تهذيب التهذيب 3/143 وصفة الصفوة 2/88 وتذكرة الحفاظ 1/125
والأعلام 3/171 )
([59]) عطاء بن أبي رباح ( ــ
114 هـ )، هو عطاء بن أسلم أبي رباح . يكنى أبا محمد خيار التابعين . من مولدي
الجند ( باليمن ) كان أسود مفلفل الشعر . معدود في المكيين . سمع عائشة ، وأبا
هريرة ، وابن عباس ، وأم سلمة ، وأبا سعيد . ممن أخذ عنه الأوزاعي وأبو حنيفة ..
وكان مفتي مكة . شهد له ابن عباس وابن عمر وغيرهما بالفتيا ، وحثوا أهل مكة على
الأخذ عنه . مات بمكة. (انظر: تذكرة الحفاظ 1892؛ والأعلام للزركلي 5/29؛ والتهذيب
7/199 )
([60]) هو الحسن بن يسار
البصري، أبو سعيد (21 - 110 ه): تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الامة في زمنه..
وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك.. ولد بالمدينة، وشب في كنف علي
بن أبي طالب.
([61]) هو محمد بن واسع بن
جابر الازدي، أبو بكر (..- 123 ه ): فقيه ورع، من الزهاد.. من أهل البصرة.. عرض
عليه قضاؤها، فأبى، وهو من ثقات أهل الحديث.. قال الاصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم
الترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد ابن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة ينضنض بأصبعه
نحو السماء، قال: تلك الإصبع أحب إلي من مئة ألف سيف!
([63]) هو يعقوب بن إبراهيم بن
حبيب الانصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف (113 - 182 ه): صاحب الامام أبي حنيفة،
وتلميذه، وأول من نشر مذهبه.. كان فقيها علامة، من حفاظ الحديث.. ولد بالكوفة..
تفقه بالحديث والرواية، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه (الرأي)، وولي القضاء ببغداد
أيام المهدي والهادي والرشيد.. ومات في خلافته، ببغداد، وهو على القضاء.
([64]) هو الفضيل بن عياض بن
مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي (105 - 187 ه) شيخ الحرم المكي، من أكابر العباد
الصلحاء.. كان ثقة في الحديث، أخذ عنه خلق منهم الامام الشافعي.. ولد في سمرقند،
ونشأ بأبيورد، ودخل الكوفة وهو كبير، وأصله منها.. ثم سكن مكة وتوفي بها.
([65]) الطرطوشي ( 451 ــ 250
هـ ) هو محمد بن الوليد بن محمد الفهري ، أبو بكر ، المعروف بالطرطوشي . نسبته إلى
طرطوشة ، مدينة في شرق الأندلس . ويعرف بابن أبي رندقق . من كبار أئمة المالكية .
كان فقيهاً أصولياً محدثاً مفسراً . رحل المشرق فدخل بغداد والبصرة وتفقه على أبي
بكر الشاشي وغيره . سكن الشام مدة ودرس بها . نزل بيت المقدس . وأخذ عنه جماعة .
وتوفي بالإسكندرية .. من تصانيفه (شرح رسالة بن أبي زيد)؛ و(الحوادث والبدع)؛
و(سراج الملوك) (انظر: الدبياج ص 276 ؛ وشذرات الذهب 4/62 ؛ ومعجم المؤلفين 6/26 )
([68]) يشير أبو حنيفة إلى قوله
r : ( لا يحلّ دم امرىء مسلم الا باحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس
بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم.
([70]) يريد بالبنية هنا القبة
التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها مغشى بالذهب, وجعل سقفها
نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها.
([72]) هو عبد القادر بن موسى
بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو
الجيلي (471 – 561 هـ) من كبار أولياء الأمة وزهادها، وهو غني عن التعريف.
([73]) عز الدين بن عبد السلام
( 577 ـ660 هـ ) هو عبد العزيز بن عبد السلام أبي القاسم بن الحسن السلمي ، يلقب
بسلطان العلماء . فقيه شافعي مجتهد . ولد بدمشق وتولي التدريس والخطابة بالجامع
الأموي . انتقل إلى مصر فولي القضاء والخطابة .. من تصانيفه (قواعد الأحكام في
مصالح الأنام) و(الفتاوى)، و(التفسير الكبير) (انظر: الأعلام للزركلي 4/145 .
وطبقات السبكي 5/80 )
([75]) النووي( 631 - 676 هـ)
هو يحيي ين مشرف بن مري بن حسن ، النووي ( أو النواوي ) أبو زكريا ، محيي الدين.
من أهل نوي من قري حوران جنوبي دمشق . علامة في الفقه الشافعي والحديث واللغة ،
تعلم في دمشق وأقام بها زمنا .. من تصانيفه (المجموع شرح المهذب) لم يكمله ؛
و(روضة الطالبين)؛ و(المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج) (انظر: طبقات الشافعية
للسبكي 5/165 ؛ والأعلام للزركلي 9/185 ؛ والنجوم الزاهرة 7/278 )
([95]) ويشير إلى هذا قوله
تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ
مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (56)﴾ (يوسف) .. فالرحمة التي يصيب الله بها من يشاء ـ هنا
ـ لا تتعلق بيوسف u وحده .. بل هي تتعلق قبل ذلك وبعده بتلك الرعية المسكينة المهددة
بالمجاعة.
([99]) رواه أحمد ومسلم وأبو
داود والنسائي وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والبغوي، والبارودي وابن قانع وأبو
نعيم والبيهقي عن تميم الداري والترمذي وحسنه النسائي والدارقطني عن أبي هريرة
وأحمد ، والطبراني عن ابن عباس وابن عساكر عن ثوبان.
([122]) كناية عن النفاق، وهو في
أصله مصطلح سياسي نشأ أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام 1936 م،
واستمرت ثلاث سنوات، وأول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال كويبو كيللانو أحد قادة
القوات الثائرة الزاحفة على مدريد، وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار وقال:
(إن هناك طابورًا خامساً يعمل مع الثوار من داخل مدريد) ويقصد به مؤيدي الثورة من
الشعب.
وترسخ هذا المعنى في
الاعتماد على الجواسيس في الحروب، واتسع ليشمل مروجي الإشاعات ومنظمي الحروب
النفسية التي انتشرت نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والغربي.
أحدها : هم الأمراء ،
وهو قول ابن عباس ، وأبي هريرة ، والسدي ، وابن زيد.. واختلف قائلو هذا القول في
سبب نزولها في الأمراء ، فقال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي
إذ بعثه رسول الله r في سرية، وقال السدي : نزلت في عمار بن ياسر ، وخالد بن الوليد
حين بعثهما رسول الله r في سرية.
والقول الثاني : هم
العلماء والفقهاء ، وهو قول جابر بن عبد الله ، والحسن ، وعطاء ، وأبي العالية .