المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: عدالة
للعالمين |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
في اليوم الخامس،
صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (عمار بن ياسر) [1].. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع
المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها
فسيتحمل مسؤولية خرقه.
ما هي إلا لحظات
قصيرة حتى اجتمعت الجموع حول عمار بطلعته البهية وقامته الفارعة وسنحته الممتلئة
بأسارير الإيمان[2] .. وكأنه ذلك الجبل الشامخ الذي صحب
رسول الله r، وقدم روحه فداء له ولدينه إلى آخر لحظة
من لحظات حياته.
عندما اجتمعت
الجموع، نظر إليهم عمار نظرة حانية، ثم صاح: اسمحوا لي أنا العبد الضعيف الفقير
إلى الله أن أجلس بينكم لأحدثكم عن أعظم رسالة وأعدل شريعة وأكمل نظام ..
واسمحوا لي قبل ذلك
أن أحدثكم عن نفسي ..
لقد نادى السجان علي
باسم (عمار بن ياسر) .. ولعل ذلك يجعلكم تتوهمون أن هذا هو اسمي الذي ولدت به..
وأنا أبادر فأصحح هذا الخطأ ..
إن هذا الاسم في
الحقيقة هو الاسم الذي اخترته بعد ولادتي الثانية .. والتي كانت بعد مخاض طويل
تقلبت فيه بين الأديان والمذاهب والأفكار أبحث لي عن دين أتحقق فيه بالحرية[3] التي عشقتها، ولم أر في الحياة شيئا يعدلها.
وبعد ذلك التيه رأيت
الإسلام بعقيدته وشريعته .. ورأيت فيه من الحرية ما لم أجده في أي دين ولا أي
مذهب.. وقد شدني ذلك العملاق من أصحاب رسول الله r .. ذلك الذي يسمى (عمار بن ياسر)، فرحت أسمي نفسي به.
لقد تحرر عمار من كل
القيود .. قيود القبيلة .. وقيود الأهواء .. وقيود الأنا .. وقيود المتجبرين
المستبدين الطغاة.. فلذلك صار عندي مثالا للانعتاق الكامل .. بل مثالا للحرية التي
لم أكن أرى في الحياة شيئا يعدلها.. ولذلك رحت أتشرف بأن أتسمى باسمه، ثم أسلك في
حياتي سلوكه .. وها أنتم ترون ما حصل له يحصل لي .. وأنا فخور بذلك فرح به .. ولعل
الله يشرفني هذه الليلة .. فألتقي به .. وألتقي بجميع الأحبة الذين امتلأ قلبي
عشقا لهم.
قال رجل منا: من
العجب أن تخبرنا بهذا .. ونحن لا نعلم دينا كبت الحريات وقيدها كما فعل الإسلام ..
أليس هو الدين الذي يدعو إلى العبودية .. ثم يضع الإنسان في قالب صلب ممتلئ
بالأغلال والقيود .. فلا يتحرك حركة إلا ويجد من أحكام الشريعة ما يحد حركاته
ويضبطها ويقيدها ..
ابتسم عمار، وقال:
قبل تيهي في المذاهب والأفكار بحثا عن الانعتاق والتحرر كان هذا هو تصوري للحرية
..
كنت أتصور أني أتحرر
عندما أفعل كل ما تشتهيه نفسي .. وقد أوقعني ذلك في قيود كثيرة .. لم ينقذني منها
إلا الإسلام.
لقد اكتشفت نفسي في
ذلك التيه عبدا لكل شيء[4] ..
لقد صدق في قوله r :( تعس عبد
الدينار تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)[5]
لقد
أصبحت عبدا أسيرا للدنيا .. فالدينار والدرهم والمال والدنيا هي كل شيء عندي .. من
أجلها أرضى.. ولأجلها أسخط .. وفي سبيلها أضحي بكل شيء.
وقد
استغل أباطرة الظلم والاستبداد هذه العبودية الاختيارية التي أوقعتني فيها نفسي
وشهواتي .. فراحوا يطلقون على عبوديتي هذه (حرية).. وراحوا يطالبونني بعمل المزيد
من أجل تحقيقها.. يطالبونني باستعمال كل الوسائل حتى لو كان القتل والفتنة والفساد
..
لقد
كانت دعوى الحرّية من أهم شعارات الثورة الفرنسية .. وأعقبتها ثورات أُخرى كثيرة
قامت لتصارع من أجل صورة الحرّية التي توهمتها، وتعاقبت الثورات في تاريخ الإنسان
حتى يومنا هذا .. ولكن الإنسان في الأرض اليوم ما زال يفقد الحرية الحقيقية، وما
زال يجاهد من أجل السراب.
لقد
فشلت معظم هذه الجهود لأَنها لم تطلب الحرّية بصورتها المتكاملة، وميزانها العادل،
فاضطربت المقاييس وامتد الصراع.
لقد
قامت الشيوعية تدعو إلى حقوق الطبقة العاملة وحرّيتهم وإنقاذهم من المجرمين
الظالمين في الرأسمالية.. فماذا كانت النتيجة؟ .. لم ينل العمال حقوقهم ولا
حرّيتهم، ولم تحترم أدنى درجات الإنسانية .. ولكن الشيوعية وأحزابها في صراعها مع
الرأسمالية استبدلت بمجرمي الرأسمالية مجرمين اشتراكيين وشيوعيين .. استبدلت
بالظالمين ظالمين جدداً .. فأفنت الملايين من البشر في ظلمات فوقها ظلمات.
وهكذا
قامت شعوب كثيرة تطالب بحريتها .. فمن فشلت جهودهم من هذه الشعوب سُحِقوا تحت شعار
الحرية والعدالة ، ومن نجحت جهودهم أقاموا لوناً آخر من الظلم والفساد في الأرض ،
ولوناً آخر من العدوان والنهب.
كلٌّ
يدّعي الحرّية، وكل يصوغها على نمط مصالحه المادية وشهواته المتفلتة ..
فالديمقراطية حين أطلقت الحرية الفردية دون ضوابط أَغرقتها في أوحال الحرية
الجنسية الملوّثة وأوحال الجريمة، لا توقفها مسؤولية في الدنيا ولا رهبة من الآخرة
.. وعندما يطلقون حرية الدين كما يزعمون فإنهم في حقيقة أَمرهم يقتلون الحرية
ويدفنونها .. ذلك لأنهم خدَّروا الناس بالشهوة والمصالح والجري اللاهث وراء
الدنيا، فجرَّدوا الإنسان بذلك من جوهر قوته التي يفكر بها حرّاً طليقا .. جرّدوه
من سلامة الفطرة التي لوَّثتها المعصية وأَحاطت بها الجريمة وخنقتها الأهواء
والشهوات الثائرة.
ولم
يكتفوا بذلك، بل صاغوا له القوانين التي تدفعه إلى الانحراف دفعاً، وهيأوا له من
وسائل الإعلام ما يجعل الشهوة ناراً يلتهب بها دمه، ثمَّ حبسوا الدين في الكنائس،
لا يخرج للناس منه إلا ظنون وأَوهام ، وأَحقاد وعصبيات ، لا علم معها ولا بحث عن
الحقّ ولا دراسة ولا تَقَصٍّ.. حبسوا الدين في الكنائس لا يخرج منها إلا للدعاية
التي تحتاجها المصالح الشخصية المتصارعة ، أو لإطلاق حركات التنصير خارج بلادهم
لتكون مُمهِّدة للجيوش الزاحفة بظلمها وعدوانها.
سكت
قليلا، ثم قال: لا شك أنكم ترون الإنسان الآن ـ في ظل هذه الحضارة الآبقة ـ كيف
صار مسحوقا ومخدَّرا.. كل العلوم الحديثة والصناعة تحوّلت إلى أَدوات تسحق الإنسان
وتُخدِّر فيه إحساسه وقواه ..
قرون
طويلة امتدت والحضارة الغربية هي التي تقود الإنسان ، بعد أن انحسر الإسلام وزالت
خلافته في الأرض.. لقد كانت هذه القرون مجازر ومآسي ودموعاً وحسرات تكاد لا تتوقف
.. وفقد الإنسان خلالها جوهر حقوقه وحرّيته .. وأَصبح الإسلام اليوم ، كما كان
دائماً ، حاجة البشرية كلها ، حاجتهم الملحة .. لن ينقذ الإنسان اليوم إلا الإسلام
ليعيد له كرامته التي كرَّمه الله بها ، وحقوقه التي سلبتها عصابات المجرمين ،
وحرّيته التي قتلها الطغاة الظالمون.
إن
الديمقراطية والرأسمالية والشيوعية والعلمانية والحداثة لم تفقد جوهر الحرية
وحقيقتها فحسب، بل إنها فقدت معها الأمن والعدل والكرامة الإنسانية وهبطت به أسفل
سافلين .. إنها أفقدت الناس حقيقة الإيمان والتوحيد اللذيْن هما أساس حياة الإنسان
وأساس مستقبله في الدنيا والآخرة .
لقد
جاءت السنوات الأخيرة تكشف زيف هذه الحضارة وعمق بؤسها وإجرامها في حق الإنسان ،
وتكشف أَن الحرّية لم تكن أَكثر من حرّية الجشع والنهب والاستغلال وانتهاز الفرص،
حتى سمى نيكسون - رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقاً - كتابه الأَخير (انتهاز
الفرصة)، وكتابه الأسبق (نصر بلا حرب) يعلن فيه خُطة الحرب الباردة للقضاء على
أَعداء أمريكا وتأمين مصالحها الخاصة على حساب شعوب الأرض وبخاصة شعوب العالم
الثالث.
فإذا
انهار الاتحاد السوفياتي وتفككت دولته ومؤسساته وبطل سحره ، فإن الغرب نفسه انكشفت
أَوراقه وبان زيفه ، وأَخذت تنمو قواه الخانقة شيئاً فشيئاً ، وبدأ الإنسان هناك
يشعر أَنه لا يملك حرّية ولا يجد مساواة ولا يرى إخاء ، وإنما يرى نفسه إنساناً
مسحوقاً .
فما
يسمى بـ (السوق الحرّة) كانت في الحقيقة سوق استغلال وفساد .. والمؤسسات المالية
أصبحت متورطة بأنواع شتى من الجرائم والغش والرشوة ، وصفقات الأسلحة والمخدرات ، وجرائم
القتل والمؤمرات . وامتلأت الصحف في بريطانيا وأمريكا تتحدث عن الجرائم اليومية في
المجتمع بما تقشعر منه الأبدان ، وكذلك في غيرها من أَقطار الغرب.
الجريمة
هناك امتدت إلى الطفل والطفلة ، إلى المرأة والفتاة ، إلى العجائز ، إلى الكهول
والشيوخ . وانتشرت حتى لم يعد الشارع آمناً ، ولا الحديقة ولا الفندق ولا المدرسة
ولا البيت ولا مكان البيع والشراء . لم يعد الإنسان يجد الأمن ولا الحرّية ، ولم
يعد القانون والسلطة ورجالها قادرين على توفير الحماية .. الجريمة تكاد تكون يومية
تعرضها الصحافة والإذاعة والتلفاز .. لقد أصبحت الحرية هي حرّية المجرم في اختير
ضحيته وفي اختيار وقت الجريمة ومكانها.
انفلتت
ضوابط الحرّية انفلاتاً واسعاً حتى إن فتاة تدخل الانتخابات في إيطاليا ، فتكون
حملة دعايتها أَن تعرض جسمها العاري على الجمهور[6]
.. هي نالت حريتها لتفعل ذلك ، والجمهور نال حرّيته لينظر ويُسَرَّ ثم لينتخبها ..
قال رجل منا: حدثنا
عن الحرية التي جاء بها الإسلام .. فما ذكرته من المظالم نراه بأعيننا، ولا نحتاج
لتشرحه لنا.
قال عمار: لقد أسس
الإسلام الحرية الحقيقية .. وقد بدأ تأسيسه للحرية بتحريره للفكر الإنساني .. فلا يمكن
للحياة أن تستقيم بالأفكار الممتلئة بالقيود.
قلنا: فحدثنا عن تحرير الإسلام
للفكر.
قال: قال: لقد بدأ الإسلام رسالته
بتحرير العقول من كل الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات التي تسيطر عليها.. فلا
تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن
يقول مقالاً أو يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقوله ويفعله ويعقله.
والدعوة الإسلامية ـ من أول أيامها
إلى آخرها ـ قامت على أساس العقل .. فالقرآن يعتمد في إثبات وجود الله، وفي إقناع
الناس بالإسلام، وفي حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه اعتماداً أساسياً على
استثارة تفكير الناس وإيقاظ عقولهم .. فهو يدعوهم بكل الوسائل إلى التفكير في خلق
السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي غير ذلك من المخلوقات، ويدعوهم إلى التفكير
فيما تقع عليه أبصارهم وما تسمعه آذانهم؛ ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة
الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل.
ونصوص القرآن التي تحض على استخدام
العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة[7] ..
، فالله تعالى يقول :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا
بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: 164)، ويقول:﴿ قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا﴾ (سبأ: 46) ويقول:﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ (الروم: 8)، ويقول:﴿قُلِ
انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (يونس: 101)، ويقول:﴿
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾
(الطارق: 5 - 7)، ويقول:﴿ أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ (الغاشية: 17 - 20)، ويقول:﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37)، ويقول:﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ
أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)
ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا
عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا
بالعادات والتقاليد دون تفكير فيما يتركون وما يدعون، وينعي عليهم ذلك كله، ويصف
من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنهم يتبعون
غيرهم دون التفكير ولا يحكمون عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، ولأن العقل
هو الميزة الوحيدة التي ميز الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات، فإذا ألغى
عقله أو عطل فكره تساوى بالأنعام، بل كان أضل منها.
ونصوص القرآن صريحة في تقرير هذه
المعاني .. اسمعوا قوله تعالى:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء
وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 170 -
171)، وقوله:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:
46)، وقوله:﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ
وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف:
179)
وتقرر الشريعة الإسلامية أن للإنسان
أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير ولو فكر في
إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على
أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما
أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول r: (إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به
أو تكلم)[8]
.. وفي الأثر الإلهي قال رسول الله r :( إن الله تعالى يقول للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن
عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها
عشرا)[9]
قال رجل منا: كيف تقول هذا .. والإسلام
يفرض سلطانه على العقول فرضا لا مخلص لها منه؟
ابتسم عمار، وقال: إن كنت تقصد أن له
من الحجج والبراهين ما يفرض به هذا السلطان فقد صدقت .. وذلك دليل على كونه حقا لا
مرية فيه .. فالحق هو الذي يفرض نفسه فرضا ..
أما إن أردت أن تقول بأن الإسلام
يفرض عقيدته بسلطان غير سلطان الحجة والبرهان .. فقد أخطأت في ذلك.. فالشريعة
الإسلامية وهي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها
إلى آخر الحدود، فلكل إنسان - طبقاً للشريعة الإسلامية - أن يعتنق من العقائد ما
شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار
عقيدته.
لقد ألزمت الشريعة الإسلامية
المسلمين أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاءون، وفي تركه يعمل طبقاً لعقيدته،
فليس لأحد أن يكره آخر على اعتناق عقيدة ما أو ترك أخرى.. ومن أراد أن يعارض آخر
في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى، ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد، فإن قبل أن
يغير عقيدته عن اقتناع فليس عليهما حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا الضغط
عليه، ولا التأثير عليه بما يحمله على تغيير عقيدته وهو غير راضٍ.. ويكفي صاحب العقيدة
المضادة أنه أدى واجبه؛ فبين الخطأ، وأرشد إلى الحق، ولم يقصر في إرشاد خصمه
وهدايته إلى الصراط المستقيم.
لقد وردت النصوص الكثيرة تصرح بهذا
وتدعوا إليه قال تعالى :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة:
256)، وقال:﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾
(يونس: 99)، وقال:﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم
بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 - 22)، وقال:﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ
إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54)
هذه النصوص المقدسة لم يكن يقرؤها
المسلمين للتعبد فقط .. بل كانوا يقرؤونها، ويمتثلون لها، ويعيشونها[10].
لقد روي أن عمر بن الخطاب قال لعجوز
نصرانية: (أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق)، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت
أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
(البقرة: 256)[11]
وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني
تلميذ أبي حنيفة: (لم ينقل عن النبي r
ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام .. وإذا أكره على
الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى
يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه،
وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه
على الإسلام .. ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه،
كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى :﴿
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)[12]
وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن
قدامة: (وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت
له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً)[13]
وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر
الله الذي يصفه (ترتون) بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل
الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير
(سنة 418هـ)[14]
ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام
موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني
مرتداً، بل قال: (رجل يكره على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً)، وعلق عليها الدكتور
ترتون بقوله: (وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل)[15]
وكان من مقتضيات هذا أن ضمن المسلمون
في جميع عهودهم التي أعطوها للأمم التي دخلت في ولايتهم أو عهدهم أن لا تمس مراكز
عبادتهم .. لقد كتب النبي r
لأهل نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم، وأعطاهم
على ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد: (وكتب رسول الله r لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم
ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار
الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته)[16]
ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء
الراشدون من بعده r ، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة
العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها: (بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد
الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ،
ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم،
ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم .. ولا
يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة
رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين)[17]
وبمثله كتب عمر لأهل اللُد.. وبمثله
كتب عياض بن غنم لأهل الرقة، ولأسقف الرها.
وقد خاف عمر من انتقاض عهده من بعده
فلم يصل في كنيسة القمامة[18]
حين أتاها وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة.. فقال له
البترك: صل موضعك.. فامتنع عمر وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما
قضى صلاته قال للبترك: (لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا
صلى عمر)
وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا
يؤذن عليها، ثم قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي
كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته[19].
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب
لأهلها : (بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا
دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من
دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله r والخلفاء والمؤمنين)[20]
وتضمن كتابه لأهل عانات عدم التعرض
لهم في ممارسة شعائرهم وإظهارها: (ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من
ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله:
(لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار)[21]
قال أبو الوليد الباجي: (إن أهل
الذمة يقرون على دينهم ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه لا يمنعون من شيءٍ منه
في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق)[22]
وقال الفقهاء المسلمون بتأمين المسلمين
لحقوق رعاياهم في العبادة، فقرروا أنه (يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق
بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، لقوله r : (وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت)[23]
)[24]
ويمتد أمان الذمي على ماله ، ولو كان
خمراً أو خنزيراً ، وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل
الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: (وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع
أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا
كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)[25]
وقال مالك: (إذا زنى أهل الذمة أو
شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويدخلوا
عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين)[26]
وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه
العهود اعتبر المسلمون ذلك ظلماً، وأمر أئمة العدل بإزالته وإبطاله، ومنه أن
الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد،
اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك،
فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم،
فرضوا[27].
كما شكا النصارى إلى عمر بن عبد
العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق كان بعض أمراء بني أمية أقطعها لبني نصر، فردها
إليهم.
ومن أمارات تسامح المسلمين مع غيرهم
أنهم لم يتدخلوا في الشؤون التفصيلية لهم ، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين
وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.
وينقل العيني عن الزهري قوله: (مضت
السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن
يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى)[28]
كما ينقل عن ابن القاسم: ( إن تحاكم
أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من
أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض
الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما) [29]
وقد بين المرداوي المراد من التزام
الأحكام الإسلامية فقال: (لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين : بذل الجزية والتزام
أحكام الملة من جريان أحكام المسلمين عليهم .. يلزم أن يأخذوهم بأحكام المسلمين في
ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه)[30]
سكت عمار قليلا، ثم قال: لقد شهد
المؤرخون المنصفون بهذا .. لقد قال (ول ديورانت): (لقد كان أهل الذمة، المسيحيون
والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من
التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً
في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم)[31]
ويقول: (وكان اليهود في بلاد الشرق
الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون
بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في
الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة
المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية،
الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم
والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين)
ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس
أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام): (لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير
المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي)[32]
ويقول:( لقد عامل المسلمون الظافرون
العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في
القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام
قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا
بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح)[33]
وينقل معرب (حضارة العرب) قول روبرتسن
في كتابه (تاريخ شارلكن): (إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح
التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا
مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية)
وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في
كتابه (رحلة دينية في الشرق) قوله: (ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من
المسلمين التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض
أي معتقد عليهم بالقوة)[34]
وينقل ترتون في كتابه (أهل الذمة في
الإسلام) شهادة البطريك (عيشو يابه) الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657هـ: (إن
العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا
بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون
إلى كنائسنا وأديرتنا)[35]
ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا
أبانيز في كتابه (ظلال الكنيسة) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: (لقد أحسنت
أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم
القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من
إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن
غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي
الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس
النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها،
واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها)[36]
وتقول المستشرقة الألمانية (زيغريد
هونكه): (العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون
والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛
سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت
عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى
التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟)[37]
يقول المـؤرخ الإسباني أولاغي: (فخلال النصف الأول من القرن التـاسع كـانت
أقـلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة)
يقـول القس إيِلُوج : (نعيش بينهم
دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا)[38]
بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض
الحوادث الغريبة المشينة في تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه الزاعمون
المفترون على الإسلام، تقول المؤرخة زيغرد: (لقد عسّر المنتصرون على الشعوب
المغلوبة دخول الإسلام حتى لا يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم
يدخل في الإسلام)[39]
ويبين لنا توماس أرنولد أن خراج مصر
كان على عهد عثمان اثنا عشر مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة
ملايين، ومثله كان في خراسان، فلم يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة،
ولهذا السبب عزل عمر بن عبد العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ،
وكتب: (إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً)[40]
قال الرجل: فما السر إذن في دخول
الناس في الإسلام، وتركهم لعقائدهم التي ولدوا عليها؟
قال عمار: هو ما ذكرته لك من سلطان
الحجة والبرهان .. وسلطان السماحة والخلق الطيب الذي رباهم عليه الإسلام .. لقد
شهد بهذا كل منصف تحدث عن هذا ..
يقول المستشرق دوزي: (إن تسامح
ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه
اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة)[41]
ويقول غوستاف لوبون في كتابه (حضارة
العرب): (إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين
أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ
العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن
للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان
الأخرى)[42]
ويقول: (وما جهله المؤرخون من حلم
العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة
اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء
متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم)[43]
ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول:
(وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب
هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا
عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان
الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم،
وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها)[44]
ويقول روبرتسون في كتابه (تاريخ
شارلكن): (لكنا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة
بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار،
وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب)[45]
ويقول آدم متز: (ولما كان الشرع
الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين
محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان
رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من
كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك
مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به)[46]
ويقول: (أما في الأندلس، فعندنا من
مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا
يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل)[47]
قال رجل آخر: دعنا من هذه الأحاديث
.. فنحسب أن كل منصف عرف المسلمين وقرأ تاريخهم لا ينكر ما تذكره.. فنحن نرى
الألفة لا تزال تنشر ظلالها بين المسلمين وغيرهم في بلاد الإسلام .. ولو كان لهم
في تاريخهم ما يثير الأحقاد والضغائن لظهر ذلك.
دعنا من هذا .. وأجبنا لم
فرض الإسلام حد الردة[48] مع كونه يقر للمخالف بكل ما ذكرته؟
قال عمار: قبل أن أجيبك، أحب أن أبين
لك أن معنى الحرية الدينية في الإسلام يختلف عن معناها في المفهوم الغربي .. ذلك
أن الغرب يتصور الدين مجرد إيمان تحيط به مجموعة طقوس .. وهو لذلك لا علاقة له
بدنيا الناس ولا القوانين التي تحكمهم .. بل ولا الحياة التي يعيشونها[49].
أما الدين في المفهوم الإسلامي فهو
تصور يشمل الحقائق جميعا .. وتنطلق منه جميع مناهج الحياة ..
والردة بهذا المفهوم لا تعني أن
الشخص تمرد على حقائق الإيمان فقط .. بل تعني فوق ذلك أنه تمرد على جميع قوانين
الدولة والنظام الذي يحكمها .. لأنه إذا كان من حق الإنسان أن يخرج على كل أمر أو
نهي ديني، فيكون من حقه أن يخرج على كل أوامر الدولة وقوانينها..
هذا هو السبب في اعتبار الردة جريمة
يعاقب عليها القانون الإسلامي..
فالقانون الإسلامي لا يطلب من المرتد
أن أن يغير ما في قلبه من الإيمان والكفر؛ فهذا أمر لا يستطيع البشر الاطلاع عليه
اطلاعاً مباشراً، ولا يستطيع أحد أن يجبر أحداً على اعتقاد معين حقاً كان أو
باطلاً؛ ولذلك يقال للرسول r :﴿ إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ (القصص: 56)،
ويقال له :﴿ فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِم
بِمُسَيْطِرٍ ﴾ (الغاشية: 21 – 22)
ولذلك فإن الاستدلال بمثل هذه النصوص
على إباحة الردة استدلال خطأ؛ لأن هذه النصوص لا تتكلم عن حرية التعبير عن الكفر،
وإنما تتحدث عن وجود الكفر في القلب.. ومنع التعبير عن الكفر والتصريح به غير منع
وجوده في القلب.
والتفريق بين هذين أمر متفق عليه بين
كل العقلاء، ولا يمكن إلا أن يراعى حتى في القوانين الوضعية.. فالقانون لا يعاقب
إنساناً على اعتقاده بأن إنساناً آخر سارق مثلاً، وإنما يعاقبه على إعلانه عن هذا
الاعتقاد لما يترتب عليه من ضرر بالمتهم.. ولو أن مسلماً رأى أخاً له يزني وتأكد
من هذا الأمر فلا يجوز له أن يصرح به، بل إن تصريحه به يعد ذنباً يعاقب عليه إذا
لم يشهد معه ثلاثة مثل شهادته.
وكذلك الأمر بالنسبة للردة.. فالمسلم
إذا ارتد وكتم ردته في قلبه بحيث لم يطلع عليه إلا الله فإن الله هو الذي يحاسبه،
أما في الدنيا فيعامل معاملة المسلم.. وأما إذا أعلن ردته فإنه يعاقب لما قد يترتب
على ردته من عواقب سيئة عليه وعلى غيره.
ومن هذه العواقب استعمال الردة وسيلة
لمحاربة الدين، ومن ثَم الدولة التي يقوم عليها هذا الدين، كما تعالى عن بعض الكفار،
فقال :﴿ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (آل عمران: 72)
ومنها أن الإنسان قد تخطر بباله
شبهات تشككه في دينه؛ فإذا ما صرح بها وعرفها الناس عنه، ربما كان من الصعب عليه
أن يتنازل عنها.. أما إذا ما كتمها في قلبه، أو بدأ يناقش بعض إخوانه فيها مناقشة
علمية، فقد يرجع عنها. وقد جربنا هذا كثيراً.
ومنها أن التصريح بالخروج من الدين
لا تقف حدود ضرره على المرتد وحده، بل إن هذا قد يؤثر في كل من له صلة به ولا سيما
الزوجة أو الزوج والأولاد.
فتجريم إعلان الردة هو في الحالة
الأولى حماية للأمة، وفي الحالة الثانية حماية للفرد، وفي الحالة الثالثة حماية
لمن حوله ممن قد يتأثر به.
قال الرجل: فالإسلام إذن يبيح
للإنسان أن يعتقد ما يشاء .. ولكنه لا يبيح له أن يتحدث عما يعقتده .. ألا
ترى في هذا كبتا لحرية التعبير؟
ابتسم عمار، وقال: لا .. الشريعة
الإسلامية أباحت حرية التعبير وجعلتها حقاً لكل إنسان، بل جعلت القول واجباً على
الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام وفي كل ما تعتبره الشريعة
منكراً؛ فالله تعالى يقول:﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل
عمران: 104)، ويقول:﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنكَرِ﴾ (الحج: 41)، ويقول الرسول r: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)[50] ، ويقول:
(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [51]، ويقول: :( الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة)،
قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ،
والمؤمنين ، وعامتهم)[52]
وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد
أنه الحق ويدافع بلسانه وقلمه عن عقيدته فإن حرية التعبير ليست مطلقة، بل هي مقيدة بأن لا يكون ما يكتب أو يقال
خارجاً عن حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة أو مخالفاً لنصوص الشريعة.
وقد قررت الشريعة حرية القول من يوم
نزولها، وقيدت في الوقت نفسه هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة
الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمد r وهو رسول الله الذي جاء معلناً للحرية مبشراً بها وداعياً إليها،
ليكون قوله وعمله مثلاً يحتذى، وليعلم الناس انه لا يمكن أن يعفى أحد من هذه
القيود إذا كان رسول الله أول من قيد بها مع ما وصفه به ربه من قوله:﴿
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).
لقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته
للناس وأن يدعو الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وبالرسالة، وأن يحاج الكفار
والمكذبين ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ولكن الله جل شأنه لم يترك لرسوله حرية القول
على إطلاقها؛ فرسم له طريقة العودة، وبين له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن
يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يعرض عن
الجاهلين، وأن لا يجهر بالسوء من القول، وأن لا يسب الذين يدعون من دون الله، فرسم
الله لرسوله حدود حرية القول، وبين لنا أن الحرية ليست مطلقة وإنما هي حرية مقيدة
بعدم العدوان وعدم إساءة الاستعمال.
وحرية القول في الحدود التي وضعتها
الشريعة تعود دون شك على الأفراد والامم بالنفع والتقدم، وتؤدي إلى نمو الإخاء
والحب والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع كلمة أولي الأمر على الحق دون غيره،
وتجعلهم في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية، وهذا كله ينقص
العالم اليوم، أو يبحث عنه العالم فلا يهتدي إليه.
ونستطيع أن نبين مدى صلاحية نظرية
الشريعة في هذا إذا علمنا أن المشرعين الوضعيين بعد تجاربهم الطويلة ينقسمون اليوم
قسمين: قسم يرى حرية القول دون قيد إلا فيما يمس النظام العام، وهؤلاء لا يعيرون
الأخلاق أي اهتمام، وتطبيق رأيهم يؤدي دائماً إلى التباغض والتنابذ والتحزب ثم
القلاقل والثورات وعدم الاستقرار.. وقسم يرى تقييد حرية الرأي في كل ما يخالف رأي
الحاكمين ونظرتهم للحياة، وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلى كبت الآراء الحرة وإبعاد
العناصر الصالحة عن الحكم، ويؤدي في النهاية إلى الاستبداد ثم القلاقل والثورات.
ونظرية الشريعة الإسلامية تجمع بين
هاتين النظريتين اللتين تأخذ بهما دول العالم، ذلك أن نظرية الشريعة تجمع بين
الحرية والتقييد، وهي لا تسلم بالحرية على إطلاقها، ولا بالتقييد على إطلاقه؛
فالقاعدة الأساسية في الشريعة هي حرية القول، والقيود على هذه الحرية ليست إلا
فيما يمس الأخلاق أو الآداب أو النظام، والواقع أن هذه القيود قصد منها حماية
الأخلاق والآداب والنظام، ولكن هذه الحماية لا تتيسر إلا بتقييد حرية القول، فإذا
منع القائل من الخوض فيما يمس هذه الأشياء فقد منع من الاعتداء ولم يحرم من أي حق
لأن الاعتداء لا يمكن أن يكون حقاً.
ويمكننا بعد ذلك أن نقول: إن الشريعة
الإسلامية تبيح لكل إنسان أن يقول ما يشاء دون عدوان؛ فلا يكون شتاماً ولا عياباً
ولا قاذفاً ولا كاذباً، وأن يدعو إلى رأيه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل
بالتي هي أحسن، وأن لا يجهر بالسوء من القول، ولا يبدأ به، وأن يعرض عن الجاهلين.
ولا جدال في أن من يفعل هذا يحمل الناس على أن يسمعوا قوله ويقدروا رأيه، فضلاً عن
بقاء علاقاته بغيره سليمة ثم بقاء الجماعة يداً واحدة تعمل للمصلحة العامة.
لقد وضع القرآن الكريم دستور القول
في الشريعة .. قال تعالى:﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
(النحل: 125)، وقال:﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وقال:﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان: 63)، وقال:﴿وَلاَ
تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108)، وقال:﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ (النساء: 148)، وقال:﴿تُجَادِلُوا
أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ﴾ (العنكبوت: 46)
قلنا: حدثتنا عن تحرير الإسلام للفكر
.. فحدثنا عن تحريره للحياة.
قال: لقد بدأ الإسلام تحريره لحياة
الإنسان بتحريره من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى غير الله..
قال الله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾ (آل
عمران)، وقال منكرا على المسيحيين :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)﴾ (التوبة)
وفي الحديث عن عدي بن حاتم، أنه دخل
على رسول الله r وفي عنقه صليب من فضة، فقرأ رسول الله r هذه الآية :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم.. فقال r
:( بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم
إياهم)[53]
قال رجل منا: ولكن الإسلام أوقع
الإنسان في عبودية الله .. ألا تعتبر العبودية لله مناقضة للحرية؟
قال عمار: لا .. العبودية لله تعني
أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان ولم يتصورها أبداً وهو يصارع ألوان
العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهانىء..
إن العبودية لله تحرر الإنسان من
قيود الظلم والامتهان والاستعباد والأصنام والآلهة المزورة .. وتحرره من قيود
النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية، وتفسح المجال لعنصر العقل لكي يتخذ
القرارات بشكل سليم وناضج بعيداً عن التأثيرات الكاذبة والأجواء المحمومة.. وهو ما
يتيح للإنسان شق طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة.
ولهذا، فإن الحرية في الحضارة
الغربية تبدأ في الظاهر من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال .. بخلاف
الحرية الرحيبة في الإسلام فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى
التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.
قال الرجل: ولكن العبودية لله لا
تسمح للانسان بممارسة أي حرية حيال الله تعالى، فلا حرية للعبد في التنصل من
التكاليف والمسؤوليات التي ألقيت على عاتقه .. ألم يقل القرآن :﴿ وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) ﴾ (الأحزاب)؟
قال عمار: أجل .. ذلك صحيح .. ولكن
المؤمن الذي اختار الله يمارس ذلك عن طواعية ورضا ومحبة .. وهو لا يطلب شيئا كما يطلب
رضوان الله .. فبدون رضا الله لا تتحقق العبودية مطلقاً.. ووبهذا المعنى تحتفظ
(الحرية) برونقها في المدرسة الإسلامية، بل يشعر المسلم بلذة كبيرة حينما يرى نفسه
وقد حافظ عليها وصانها من كل عملية تلاعب وتحريف.
ويمتاز مقياس (رضا الله) عن أي مقياس
آخر مهما كان شكله بميزات أساسية فهو مقياس من النظرة الروحية العامة إلى الحياة
والكون وليس مقياساً مرتجلاً.. كما أنّه يزيل كل تناقض من الصعيد العملي على عكس
كثير من المقاييس التي يقدمها فلاسفة الأخلاق كاللذة أو المنفعة ونحوهما من مفاهيم
غائمة أو غير محددة، فإن الناس في المجتمع الواحد يتناقضون في لذاتهم ومنافعهم،
كما تتناقض المجتمعات البشرية المختلفة في هذه المقاييس أيضاً فما كان فيه منفعة
فرد أو مجتمع، أو كان ملذاً لهما قد يكون مضراً بفرد أو بمجتمع آخر، وإيمان
الإنسانيّة بهذه المقاييس الخلقية الناقصة هو الذي جرّ عليها كثيراً من ألوان
البلاء والقى بها في دوامة من الصراع والنزاع.. وأما حين تأخذ الإنسانيّة بالمقياس
العملي الذي ينادي به الإسلام فسوف يزول كل لون من الوان الصراع والتناقض لأن رضى
الله تعالى لا يتناقض ولا يختلف.
بالإضافة إلى هذا .. فإن كل
حرية لابد أن تقيد بالمسؤولية ..
وقد رأيت من خلال تجوالي في المذاهب
والأفكار أن مفهوم المسؤولية في كثير من الأنظمة لا يتجاوز في كثير من الأحيان
مسؤولية الفرد تجاه القوانين المعمول بها.. بل حتى هذا النوع من المسؤولية غالباً
ما يفقد بريقه من خلال عمليات الانتهاك المتوالية لتلك القوانين والخروج عليها..
أما مسؤولية الإنسان المسلم فتختلف
جوهرياً عن تلك المسؤولية لأنها نابعة من باطن الإنسان ونافذة إلى أعماقه وماثلة
أمامه دائماً .. فالانسان المسلم مسؤول أمام جهة مطلقة عليا تراقبه وتشاهد عن كثب
كل تحركاته وسكناته، بل مطّلعة حتى على أفكاره وخلجات قلبه.. وهو بهذا كتاب مفتوح
أمام العين الإلهية ولا حيلة له ولا وسيلة سوى أداء التكليف والقيام بالواجب
الملقى على عاتقه دون تلكؤ أو تكاسل.
وانطلاقاً من عنصر المسؤولية يجد
المسلم نفسه مندفعاً لأداء التكليف الإلهي، والحرص على تقديم أعماله كافة بنفس صادق
وروح متفاعلة.. ويظل عنصر المسؤولية هو الدافع القوي نحو تحقيق الارادة الإلهية
وتطبيق الاحكام الإسلامية وتقليل مدى الخروج على تلك الاحكام وخفض مستوى انتهاك
الحقوق الإنسانيّة والاصطدام بمبدأ الحرية الذي يحظى بأهمية فائقة في الإسلام.
وعنصر المسؤولية يشير من جهة أخرى
إلى (حرية الإنسان) ويعبّر عن اختياره.. وهو ما يكشف عن مدى الاهتمام الذي يوليه
الإسلام للحرية.. فالمسؤولية التي لا تقترن بالحرية تصبح مجرّد لفظة فارغة لا قيمة
لها.. وبمعنى آخر لامعنى للمسؤولية دون توفر الحرية، فأنت يجب أن تكفل للشخص حرية
تحركه واتخاذ القرار المناسب في الظرف المناسب قبل أن تطلب منه أي شيء وقبل أن
تحاسبه على أي شيء.. وإلاّ فإنك تكون قد ارتكبت ظلماً فادحاً عندما تحاسب من لا
يمتلك الحرية، أو عندما تطلب منه أن يؤدي لك عملاً لا يملك حرية الحركة لأدائه.
ومن ذلك نفهم أن المسؤولية تعني ـ أولاً
ـ أنّ الإنسان كائن حرّ ـ وثانياً ـ التزامه وعقائديته.. فالجماعة البشرية التي
تتحمل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله..
وبهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه
وتعالى، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وانما تحكم بالحق وتؤدي إلى الله
تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده.. وهذا العامل يصبّ لا محالة في
عملية صيانة تلك الحرية وديمومتها.
قال رجل منا: وعينا هذا .. ولا نرى
أن أحدا يمكن أن يجادلك فيه إلا إذا كان يرى الإنسان هملا لا يعرف خلقا، ولا يقدر
حرمة .. ولكنا نريد أن نسألك عن الحريات التي أتاحها
الإسلام للإنسان لكي يعيش حياة طبيعية مستقرة لا يشعر فيها
بأي نوع من أنواع الحرج والكبت والأغلال.
قال عمار: حفظ الحريات مقصد من مقاصد
الشريعة الكبرى .. فلو نظرنا إلى الشريعة الإسلامية بهذا المنظار نجدها أتاحت كل
الحريات التي توفر للإنسان حياة طبيعية مستقرة ..
لا يمكنني أن أذكر لكم ـ هنا ـ أحكام
الشريعة بكل تفاصيلها وعلاقتها بهذا.. بل سأكتفي فقط بذكر أمثلة تقرب لكم هذا ..
وتدلكم على مجامعه[54]
..
أنتم تعلمون أن لحياة الإنسان جانبين: جانب مادي
.. وجانب معنوي .. وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ حرية كلا الجانبين ..
قلنا: فحدثنا عن الأول .. حدثنا عن
الحرية التي أتاحها الإسلام للإنسان في جانبه المادي.
قال: من
ذلك
أن الإسلام أتاح للإنسان كل ما يرتبط بحريته الشخصية .. فقد اعتبره قادراً على
التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه، في نفسه
وعرضه وماله، بشرط واحد هو ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره.
ففي حرمة ذات الإنسان ـ مثلا ـ عنى
الإسلام بتقرير كرامة الإنسان ، وعلو منزلته.. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره
، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾ (الإسراء)، وقال :﴿
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(30)﴾ (البقرة)، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكانة حتى
أنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله ،
قال تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا .. (32)﴾ (المائدة)
وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أياً كان
الشخص، رجلاً أو امراة، حاكماً أو محكوماً، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى
لون أو جنس أو دين.. حتى اللقيط في الطرقات و نحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته
وشخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركوه دون التقاطه
أثموا جميعاً أمام الله تعالى، وكان عليهم تبعة هلاكه.. هذا وكما حرص الإسلام على
احترام الإنسان حياً، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتاً، فمنع التمثيل بجثته،
وألزم تجهيزه ومواراته، ونهى عن الاختلاء والجلوس على القبور.
ومن ذلك ما جاء في
الشريعة من ضمانات لسلامة الفرد وأمنة في نفسه وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له
بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب والسجن
ونحوه، أو على النفس والضمير كالسب أو الشتم والازدراء والانتقاص وسوء الظن ونحوه،
ولهذا قرر الإسلام زواجر وعقوبات، تكفل حماية الإنسان ووقايته من كل ضرر أو اعتداء
يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية.
وكلما كان الاعتداء قوياً كان الزجر
أشد، ففي الاعتداء على النفس بالقتل وجب القصاص، كما قال تعالى :﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى .. (178)﴾
(البقرة) .. وإذا كان الاعتداء على الجوارح بالقطع وجب القصاص أيضاً كما قال
تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)﴾ (المائدة)، ومنع عمر بن الخطاب الولاة من أن يضربوا أحداً
إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما
ضربوا رعاياهم، بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحداً من الرعية، ووضع
عقوبة على من يخالف ذلك.
ومن ذلك ما جاء في
الشريعة من ضمانات لحرية التنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه..
فالتنقل حق إنساني طبيعي تقتضيه ظروف الحياة البشرية من الكسب والعمل وطلب الرزق
والعلم ونحوه، ذلك أن الحركة شأن الأحياء كلها، بل تعتبر قوام الحياة وضرورتها وقد
جاء تقرير (حرية التنقل ) بالكتاب والسنة والإجماع، ففي الكتاب قال تعالى :﴿
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)﴾ (الملك)
ولا يمنع الإنسان من التنقل إلا
لمصلحة راجحة ،كما فعل عمر في طاعون عمواس، حين منع الناس من السفر إلى بلاد الشام
الذي كان به هذا الوباء، ولم يفعل ذلك الا تطبيقاً لقول رسول الله r:
(إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وانتم بها فلا تخرجوا فرارا
منه)[55]
ولأجل تمكين الناس من التمتع بحرية
التنقل حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، وأنزل عقوبة
شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل والنهب والسرقة، قال تعالى :﴿
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)﴾ (المائدة)
ولتأكيد حسن استعمال الطرق وتأمينها
نهى النبي r صحابته عن الجلوس فيها، فقال: (إياكم والجلوس في الطرقات)، قالوا:
يا رسول الله، ما لنا بد في مجالسنا، قال: (فإن كان ذلك، فأعطوا الطريق حقها)،
قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟قال: (غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر)[56] ،
فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها من السفر والتنقل والمرور، وأي استعمال لغير هدفها
محظور لا سيما إذا أدي إلى الاعتداء على الآمنين.
ولأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه
مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا
ألم به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة ، ولو كان غنياً في موطنه.
ومن ذلك ما جاء في
الشريعة من ضمانات لحرية
المأوى والمسكن.. فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه، فله حرية ذلك، كما
أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى
مستوى لمعيشته.. ففي الحديث أن رسول الله r قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه
فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)[57] ،
وقد استدل الفقهاء بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على
حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب
واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، والدولة هي التي
تجمع هذه الأموال وتوزعها على المحتاجين ولا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم، لأن
هذا الحق يشترك فيه جميع الناس كاشتراكهم في الماء والنار فيضمن ذلك لكل فرد من
أفراد الدولة بغض النظر عن دينه.
فإذا ما ملك الإنسان مسكنا، فلا يجوز
لأحد أن يقتحم مأواه، أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو
حاكماً أعلى ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول :﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)﴾ (النور)
وإذا نهى عن دخول البيوت بغير إذن
أصحابها، فالاستيلاء عليها أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك
لمصلحة الجماعة، بعد ضمان البيت ضماناً عادلاً.. وهذه المصلحة قد تكون بتوسعة
مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك، وقد أجلى عمر أهل نجران، وعوضهم
بالكوفة..
ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم
الإسلام التجسس، قال تعالى :﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا .. (12)﴾
(الحجرات)، وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها :حفظ حرمة المسكن،
وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره.. بل وبالغ الإسلام في تقرير حرية
المسكن بأن أسقط القصاص والدية عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه ونحوه، ففي
الحديث قال رسول الله r :(من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه)[58]
، أي لاضمان على صاحب البيت.. فعين الإنسان – رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء
عليها وتغليظ الدية فيها –أهدرت ديتها هنا بسب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق
الغير.
ومن ذلك ما جاء في
الشريعة من ضمانات لحرية
التملك وحيازة
أي شيء، وقدرته على التصرف فيه، وانتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية، يستوي في ذلك التملك الفردي، والتملك الجماعي.
فقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك،
وجعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، ورتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه
لصاحبه، وصيانته له عن النهب والسرقة ،و الاختلاس ونحوه، ووضع عقوبات رادعة لمن
اعتدى عليه، ضمانا له لهذا الحق، و دفعا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع ..كما أن
الإسلام رتب على هذا الحق أيضا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو
الشراء والإجارة والرهن والهبة والوصية وغيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك
الفردي) مطلقاً من غير قيد، ولكنه وضع له قيوداً كي لا يصطدم بحقوق الآخرين[59]
، كمنع الربا والغش والرشوة والاحتكار ونحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة ..
و هذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل والمرأة قال الله تعالى :﴿ لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا
اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)﴾
(النساء)
ومثل ذلك أعطى الإسلام الجماعة حق
الانتفاع بالملكية الجماعية .. كالانتفاع بالمساجد والمستشفيات العامة والطرق
والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك.. وما ملك ملكاً عاماً يصرف في المصالح
العامة ،و ليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له
فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسؤول عن حسن إدارته وتوجيهه التوجيه الصحيح الذي
يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.
ومن ذلك ما جاء في
الشريعة من ضمانات لحرية
العمل..
فالعمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، وله شرف عظيم باعتباره
قوام الحياة ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده
إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة.
ولأهمية العمل في الإسلام اعتبر
نوعاً من الجهاد في سبيل الله ،كما روي في الحديث عن كعب بن عجرة قال: مر على
النبي r رجل، فرأى أصحاب الرسول r من جلده ونشاطه، فقالوا :يا رسول الله ،لو كان هذا في سبيل الله،
فقال رسول الله r: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن خرج
يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعضها
فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)[60]
. وهكذا نجد كثيراً من نصوص الكتاب
والسنة تتحدث عن العمل وتحث عليه وتنوه بأعمال متنوعة كصناعة الحديد ونجارة السفن
،و فلاحة الأرض ،و نحو ذلك ،لأن العمل في ذاته وسيلة للبقاء، والبقاء – من حيث هو
– هدف مرحلي للغاية الكبرى، وهي عبادة الله، وابتغاء رضوانه ، وبقدر عظم الغاية
تكون منزلة الوسيلة، فأعظم الغايات هو رضوان الله تعالى، وبالتالي فإن أعظم وسيلة
إليها هي العمل والتضحية، وإنما نوه القرآن بالعمل والكسب للتنبيه على عظم فائدته
وأهميته للوجود الإنساني، وأنه أكبر نعم الله على الإنسان.
قلنا: حدثتنا عن الجانب الأول ..
فحدثنا عن الجانب الثاني .. حدثنا عن الحرية التي أتاحها الإسلام للإنسان في جانبه
المعنوي.
من ذلك ما ذكرنا سابقا من الضمانات
التي أتاحتها الشريعة للإنسان في اختيار الدين الذي يريده بيقين، والعقيدة التي
يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك .. فإن الإكراه يفسد اختيار
الإنسان، ويجعل المكره مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه .
ويترتب على حرية الاعتقاد كثير من
الحريات .. منها حرية إجراء الحوار والنقاش الديني، وذلك بتبادل الرأي والاستفسار
في المسائل الملتبسة التي لم تتضح للإنسان، وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى
الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -
يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة ورضى وطواعية ، بل إن إبراهيم u
حاور ربه في قضية (الإحياء والإماتة) ليزداد قلبه قناعة ويقيناً، وذلك فيما حكاه
القرآن لنا في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)﴾
(البقرة)
بل إن في حديث جبريل u
الذي استفسر فيه رسول الله r عن (الإسلام) و(الإيمان) و(الإحسان) و(علامات الساعة) دليل واضح
على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية، سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو
بينهم وبين أصحاب الأديان الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقائق وتصديقها، لا بقصد
إثارة الشبه والشكوك والخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة، لأنها لا تكشف الحقائق
التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.
ومنها حرية ممارسة الشعائر الدينية
،و ذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية، دون انتقاد أو استهزاء ، أو تخويف
أو تهديد،و لعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة من دواعي فخره
واعتزازه، و سماحته .. وقد سبق أن ذكرت لكم شواهد ذلك وأدلته.
ومن الحريات المعنوية
التي أتاحتها الشريعة الإسلامية حرية الرأي، فقد جوز
الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، والظواهر
المختلفة، ويحاول تجربتها بعقله، واستخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في
الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته ومدى قابليته للتفاعل
والتأثير ،ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر وطول التفكير.
وباستعراض التاريخ الإسلامي نجد أن
(حرية الرأي) طبقت تطبيقاً رائعاً منذ عصر النبوة .. فهذا الصحابي الجليل حباب بن
المنذر أبدى رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر ،على غير ما كان قد رآه
النبي r ، فأخذ النبي r برأيه.
ومن الحريات المعنوية
التي أتاحتها الشريعة الإسلامية حرية التعلم .. فطلب العلم
والمعرفة حق كفله الإسلام للفرد، ومنحه حرية السعي في تحصيله، ولم يقيد شيئاً منه،
مما تعلقت به مصلحة المسلمين ديناً ودنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، وسلوك
السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، وإنما
تتحقق به مضرة ومفسدة، فهذا منهي عنه، ومحرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر
والكهانة ،و نحو ذلك.
و لأهمية العلم والمعرفة في الحياة
نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي r بالقراءة، قال تعالى :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
(العلق)
ولما هاجر النبي r
إلى المدينة، ونصب عليه الكفار الحرب، وانتصر المسلمون، وأسروا
من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم تعليم القراءة والكتابة لعشرة
من صبيان المدينة و.
وهذا من فضائل الإسلام الكبرى، حيث
فتح للناس أبواب المعرفة، وحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وكره لهم القعود عن
العلم والتخلف عن قافلة الحضارة.
ومن أجل ذلك كان على الدولة
الإسلامية أن تيسر سبل التعليم للناس كافة، وتضمن لكل فرد حقه في ذلك، لأن هذا
الحق مضمون لكل فرد من رعاياها كسائر الحقوق الأخرى.
ومن الحريات المعنوية
التي أتاحتها الشريعة الإسلامية حرية الممارسات السياسية .. أي حق
الإنسان في اختيار سلطة الحكم، وانتخابها ومراقبة أدائها، ومحاسبتها، و نقدها،
وعزلها إذا انحرفت عن منهج الله وشرعه، وحولت ظهرها عن جادة الحق والصلاح.
كما أنه يحق له المشاركة في القيام
بأعباء السلطة ووظائفها الكثيرة، لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة، وليس حكرا
على أحد أو وقفا على فئة دون أخرى واختيار الإنسان للسلطة قد يتم بنفسه، أو من
ينوب عنه من أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى، الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير
من الأمور، كالقيام بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، إذ الحاكم يرجع في ذلك إلى أهل
الخبرة والاختصاص من ذوى العلم والرأي، كما أنهم يوجهون الحاكم في التصرفات ذات
الصفة العامة أو الدولية كإعلان الحرب، أو الهدنة ، أو إبرام معاهدة، أو تجميد
علاقات، أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة أو غير ذلك من التصرفات العامة،
التي لا يقطع فيها برأي الواحد.
***
ما وصل (عمار بن ياسر) من حديثه إلى
هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من
الجنود، ثم أخذوا بيد عمار، وساروا به إلى مقصلة الإعدام ..
أراد بعضنا أن يتدخل
ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل .. لا
أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذا الفضل الإلهي العظيم الذي سيجعلني ألتقي بالأحبة -
الذين عشت حياتي كلها أحلم بأن ألتقي بهم - إلا شيئا واحدا .. هو أن تعلموا أن
حريتكم في عبوديتكم لله .. وأن سعادتكم في لقائكم به .. وأنه مهما تمرغتم في
الشهوات والملذات .. فلن تجدوا لذة أعظم من لذة معرفته وإقامة ما تتطلبه عبوديته
..
فسيروا في الأرض ..
وبشروا البشرية بهذا .. فلن تنجو البشرية من عبودية الشياطين إلا بعبوديتها لله.
قال ذلك، ثم سار
بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت روحه
إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد r .
([1]) أشير به إلى أبي اليقظان
عمَّار بن ياسر العنسي ـ رضي الله عنه ـ (56ق.هـ - 37هـ)، أول صحابي من السابقين
إلى الإسلام أوذي هو وأبوه وأمه سُمَيَّة. كان الرسول r يمر بهم وهم يعذبون فيقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، قتل
أبو جهل أمه سمية فكانت أول شهيدة في الإسلام.
كان عمار بن ياسر من
أوائل من أظهر إسلامه بمكة، ومن أوائل من هاجر إلى المدينة. شارك في بناء مسجد
رسول الله r، شهد بدراً وأُحداً والمشاهد كلها مع رسول الله r قاتل المرتدين في اليمامة.
كان من المقربين من
علي ـ رضي الله عنه ـ واشترك معه في معاركه ضد البغاة، وقد نقل عنه أنه نزل إلى
ميدان لقتال في صفين، وهو شيخ في الرابعة والتسعين من عمره، وهو يقول: (اللهم أنك
تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقدف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللهم أنك تعلم
لو أني أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري
لفعلت، وأني لا أعلم اليوم عملاً أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم
ما هو أرضى منه لفعلته، والله لو ضربونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على
الحق وأنهم على الباطل)
وقد قاتل ـ رضي الله
عنه ـ حتى قُتل، وقد كان لمقتله أثراً كبيراً أزال الشبهة عند كثير من الناس، وكان
ذلك سبباً لرجوع جماعة إلى علي ـ رضي الله عنه ـ والتحاقهم به، ذلك أن الجميع قد
بلغهم قول رسول الله r : ( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعونهم إلى الجنة ويدعونه
إلى النار)
وقد وردت في فضل عمّار
أحاديث كثيرة، منها ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من أن عمار استأذن على رسول
الله r فعرف صوته فقال r : ( مرحباً بالطيّب ابن الطيب ائذنوا له )، وقال فيه r : ( عمّار جلدة بين عيني)، وقال فيه : ( كم ذي طمرين ،لا يؤبه له،
لو أقسم على الله لأبره، منهم عمار بن ياسر)، وقال فيه : ( لقد ملئ عمار إيماناً
من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه)، وقال فيه : ( إن الجنة تشتاق إلى
ثلاثة: علي وعمار وسلمان)، وقال فيه : (ابن سمية لم يخيّر بين أمرين قط إلا أختار
أرشدهما، فالزموا سمته)، وقال له بعد ذلك كله: (إنّك من أهل الجنّة)
وقد روي في استشهاده ـ
رضي الله عنه ـ عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا صفين مع علي فرأيت عمار بن
ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب النبي r يتبعونه كأنه علم لهم قال: وسمعته يومئذ يقول لهاشم بن عتبة بن
أبي وقاص : يا هاشم تفر من الجنة ! الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة محمدا
وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنهم على
الباطل.
وقال أبو البختري : قال عمار بن ياسر يوم صفين :
ائتوني بشربة . فأتي بشربة لبن فقال : إن رسول الله r قال : (آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن)، وشربها ثم قاتل حتى
قتل.. وكان عمره يومئذ أربعا وتسعين سنة وقيل : ثلاث وتسعون وقيل : إحدى وتسعون.
وروى عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : شهد خزيمة بن
ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا، وشهد صفين ولم يقاتل وقال: لا أقاتل حتى يقتل عمار
فأنظر من يقتله فإني سمعت رسول الله r يقول: (تقتله الفئة الباغية)، فلما قتل عمار قال خزيمة :( ظهرت لي
الضلالة)، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
ولما قتل عمار قال :
(ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم) (انظر: أسد الغابة)
([2]) مما جاء في وصف عمار
أنه كان آدم طويلا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين .. وكان لا يغير
شيبه، وقيل : كان أصلع في مقدم رأسه شعرات (أسد الغابة)
([3]) من التعاريف التي عرفت
بها الحرية:
-
هي قدرة فردية
واجتماعية على الفعل النفسي والاجتماعي.
-
هي التحرر من الذات
ومن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وهي حرية الروح في اتجاهها الشاق نحو الكشف.
-
هي حرية كل فرد في أن
يحقق ذاته تحقيقاً كاملاً.
-
هي القيمة الرمزية
لمجموع الحقوق القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي حفل بها النضال البشري.
-
هي قدرة الإنسان على
فعل الشيء أوتركه بإرادته الذاتية وهي ملكة خاصة يتمتع بها كل إنسان عاقل ويصدر
بها أفعاله، بعيداً عن سيطرة الآخرين لأنه ليس مملوكاً لأحد لا في نفسه ولا في
بلده ولا في قومه ولا في أمته.
وعرفها الشهيد آية
الله محمد باقر الصدر، فقال :( إنّ الحرية في المفهوم الاسلامي ثورة، وهي ليست
ثورة على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب، بل على جذورها النفسية والفكرية)،
وهذا هو المعنى الذي نتناوله هنا في هذا الفصل .. وقد أشار إليه قبله القشيري في
قوله :( أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة
صحته سقوط التمييز عن قبله بين الاشياء)، وابن عربي في قوله (إنها عبودية محققة
لله فلا يكون عبداً لغير الله الذي خلقه ليعبده فوفى بما خلق له فقيل نعم العبد
انّه اواب. أي رجع إلى العبودية التي خلق لها لأنه خلق محتاجاً إلى كل ما في
الوجود).
([4]) من المراجع التي رجعنا إليها في هذا الفصل : الحرية في ميزان الإسلام،
للدكتور عدنان علي رضا النحوي.. و(الحرية في الإسلام أصالتها وأصولها)، للدكتور أحمد الريسوني،
أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة – جامعة محمد الخامس – الرباط.. و(الحرية
في الإسلام.. مرتكزاتها ومعالمها)، لعبدالرحمن العلوي.. و(الحرية في الإسلام:
المفهوم .. والملامح .. والأبعاد)، د. جابر قميحة) .. وغيرها.
([6]) هذه الفتاة هي (ليوناستالر) البلغارية الأصل والمسماة تشيتسولينا (الوطن
العربي : العدد 223 ـ 749 ـ الجمعة 28/6/1991م) نقلا عن (الحرية في ميزان الإسلام، للدكتور عدنان علي رضا النحوي)، وما
ذكرناه هنا هو كلامه بتصرف.
([10]) النصوص التي سنسوقها
منقولة من كتب الدكتور منقذ محمود السقار، دكتوراه في مقارنة الأديان ـ جامعة أم
القرى.. وهو خير من كتب في هذا المجال جزاه الله خيرا.
([17]) تاريخ الطبري (4/449)،
وننبه هنا إلى أن الصيغة التي أوردها ابن القيم للعهدة العمرية لا تصح، وقد نبه
العلماء على ضعف سندها، ففي رواتها يحيى بن عقبة، وقد قال فيه ابن معين : ليس بشئ.
وفي رواية : كذاب خبيث عدو الله. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم :
يفتعل الحديث.
([18]) سميت كذلك لأن اليهود كانوا
يلقون في مكانها القذر قبل أن تطهره
هيلانة أم الامبرطور قسطنطين، وتتخذه كنيسة..
([19]) تاريخ ابن خلدون
(2/266). وقد نقل هذه الحادثة بإعجاب المستشرق درمنغم في كتابه "The live of Mohamet" فقال: "وفاض القرآن والحديث بالتوجيهات إلى التسامح،
ولقد طبق الفاتحون المسلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة، عندما دخل عمر القدس أصدر
أمره للمسلمين أن لا يسببوا أي إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق
للصلاة في كنيسة القيامة امتنع، وعلل امتناعه بخشيته أن يتخذ المسلمون من صلاته في
الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة"، ومثله فعل ب سميث في كتابه:
"محمد والمحمدية". نقلاً عن التسامح والعدوانية، صالح الحصين، ص
(120-121)
([48]) انظر إجابة أخرى على
هذه الشبهة في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة، وقد رجعنا في جوابنا
على هذه الشبهة هنا إلى مقال بعنوان (من الحرية الدينية إلى الدولة العلمانية) ،
أ.د. جعفر شيخ إدريس.
([49]) الحرية بهذا المعنى
الغربي ناتجة عن اعتقاد بدأ يشيع في الغرب بعد القرن الثامن عشر فحواه أن المعتقدات
الدينية لا تقوم على أساس علمي، وإنما هي مشاعر قلبية، فلا يحق لإنسان أن يجبر
الآخرين على أن تكون مشاعرهم وعواطفهم كمشاعره. والدين يختلف في هذا عن العلوم
التجريبية التي تستند دعاواها إلى أدلة علمية حسية أو عقلية (انظر: المقال السابق
الذي أشرنا إليه)
([52]) رواه أحمد ومسلم وأبو
داود والنسائي وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والبغوي، والبارودي وابن قانع وأبو
نعيم والبيهقي عن تميم الداري والترمذي وحسنه النسائي والدارقطني عن أبي هريرة
وأحمد ، والطبراني عن ابن عباس وابن عساكر عن ثوبان.
([59]) من القيود المهمة التي
وضعها الإسلام للملكية الفردية:
1. مداومة الشخص على
استثمار المال، لأن في تعطيله إضراراً بصاحبه ،و بنماء ثروة المجتمع.
2. أداء زكاته إذا بلغ
نصاباً،لأن الزكاة حق المال،و كذلك إنفاقه في سبيل الله.
3. اجتناب الطرق
المحرمة للحصول عليه ،كالربا ،و الغش والاحتكار ونحوه.
4. عدم الإسراف في
بذله أو التقتير..