المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: عدالة
للعالمين |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
في اليوم الرابع،
صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (عبد القادر
عودة) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع المساجين بتوديعه
والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.
ما هي إلا لحظات حتى
اجتمع جميع المساجين حول رجل كان ممتلئا قوة وعزيمة وحماسة، وكأنه لم يكن ينتظر في
ذلك اليوم تلك المشنقة التي شنق فيها إخوانه.
ما إن اجتمعت الجموع
حوله حتى قال بنبرة ممتلئة بالقوة والحنان: لقد حدثكم أخي زيد عن الرفق الذي جاءت
به الشريعة .. وأنا سأحدثكم عن الحزم الذي جاءت به .. فلا يمكن أن تستقيم موازين
العدالة من غير أن يجتمع هذان الركنان: الحزم والرفق ..
ومع أن الحزم قد
يوحي بالقوة والشدة .. إلا أنكم ستكتشفون من خلال ما سأذكره لكم أن الحزم الذي
جاءت به شريعة الإسلام هو الحزم الوحيد الذي يقتصر على وضع الشدة في موضعها دون أن
يتجاوز به موضعها.
الحزم في الإسلام
كالعملية الجراحية المحدودة التي لا يقصد منها إلا استئصال الشر ..
لن أطيل عليكم ..
فهذه المقصلة تنتظرني ..
ولهذا، فإني أبادر،
فأقول بأن ما جاء به الإسلام في مجال الحزم يتوزع على أربعة أنواع كبرى: الحدود،
والجنايات، والتعزيرات، والتأديبات..
ولكل واحد من هذه
الأنواع أحكامه الخاصة به.. والتي يسرني أن أعرفكم بها، وأن أجيبكم على الشبهات
التي تثار حولها.
قلنا: فحدثنا عن
النوع الأول .. حدثنا عن الحدود[2].
قال: الحدود في
الشريعة هي العقوبات المقررة على سبع جرائم، هي: الزنا .. والقذف .. والشرب..
والسرقة .. والحرابة .. والردة .. والبغي.
قلنا: فلنبدأ بأول
المعاقبين .. بالواقعين في الزنا[3] .. لم نظرت إليهم
الشريعة باعتبارهم مجرمين .. فراحت تنفذ فيهم أقسى العقوبات؟
قال: لعلكم قد سمعتم
من إخواني الذين سبقوني بأن الإسلام دين الفطرة؟
قلنا: أجل .. وما
علاقة ذلك بالعقوبة التي قررها الإسلام للزناة؟
قال: ألا ترون أن
الفطرة التي فطر عليها جسد الإنسان تأبى إلا أن تعاقبه بأشد العقوبات بسبب وقوعه
في هذا الانحراف؟
قال رجل منا: أجل ..
بل لم تعاقب الفطرة أحدا كما عاقبت الزناة .. إنهم في كل حين يصيبهم من الأدواء ما
لا يصيب غيرهم من الناس ..
لقد قرأت في بعض
الجرائد[4]
أن هناك 34 مليون مصاب بالأيدز في العالم .. وأن 19 مليون شخص توفوا بسبب المرض
منذ اكتشافه قبل 20 عاما .. وأن 24.5 مليون مصاب جنوب الصحراء الأفريقية ..
ومليوني شخص ماتوا العام الماضي من 2.8 مليون بسبب المرض ..
وقرأت أن هناك 3
بليون دولار قيمة الأدوية التي تحتاجها القارة الأفريقية وحدها سنويا لأجل أدوية
السيدا.
وقرأت أن 50 % من
المواطنين ممن هم في سن الخامسة عشر يهددهم الموت بسبب هذا المرض.
وقرأت[5]
أن 2,2 مليون أمريكي مصاب بالأيدز .. وأن 7 مليون يعتقدون أنهم على خطر كبير من
الإصابة بهذا المرض .. والأفضع من ذلك كله أن 1 إلى 3 من المصابين لا يمانعون -بل
سيقولون إنهم راغبون - في نقل جرثومة الإيدز إلى أصدقائهم .
قال آخر: ليت الأمر
اقتصر على السيدا[6]
.. لقد ظهر قبله مرض الزهري ( السفليس) الخطير .. ظهر عام 1944م أثناء الحرب
الإيطالية الفرنسية عندما انتشر في الجنود خاصة الزنا، وسماه الإيطاليون حينها
(الداء الفرنسي)، ومثل ذلك فعل الإنجليز والألمان والنمساويون لأنه انتشر بينهم
بواسطة الجنود الفرنسيين، أما الفرنسيون فقد أسموه الداء الإيطالي.
وفي العصور الحديثة
ظهر مرض الهربس كوباء، وهو مرض جنسي واسع الانتشار، ويبلغ معدل الإصابة به السنوية
في الولايات المتحدة نصف مليون حالة.
وفي عام 1979 م
ولأول مرة ظهر داء مرض فقدان المناعة المكتسب في الولايات المتحدة، والمعروف باسم
الإيدز، وانتشر بسرعة رهيبة في الشاذين جنسيا.
قال آخر: لقد اعتبرت
المراجع الطبية الأمراض الجنسية أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم.. ولقد تم
التغلب على كثير من الأمراض المعدية، ورغم ذلك ظهرت الأمراض الجنسية بصورة وبائية
مفزعة وخطيرة.
يقول مرجع مرك
الطبي:( إن الأمراض الجنسية هي أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم، ويزداد في
كل عام عدد المصابين بها، وذلك منذ عقدين من الزمن تقريبا، وتقدر منظمة الصحة
العالمية عدد الذين يصابون بالسيلان بأكثر من 250 مليون شخص سنويا.. كما تقدر عدد
المصابين بالزهري بـ 50 مليون شخص سنويا.. ويقدر مركز أتلانتا لمكافحة الأمراض
المعدية في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة عدد المصابين بالسيلان في الولايات
المتحدة بـ 3 ملايين شخص سنويا وعدد المصابين بالزهر بـ 400 ألف شخص سنويا)
وقد انتشرت أمراض
مختلفة ومتنوعة بسبب انتشار الفاحشة وشيوعها وانتشار الشذوذ الجنسي وخاصة في
الغرب.
قال آخر: لقد نقلت مجلة Medicine
Digest
تقريرا من فلوريدا بالولايات المتحدة قام به فريق من أخصائي أمراض النساء والولادة
جاء فيه:( أن هناك زيادة بنسبة 800 بالمائة في الحالات المشتبهة لسرطان عنق الرحم
للفتيات البالغ أعمارهن من 15 سنة إلى 22 سنة وذلك في خلال أربع سنوات، ويرجع
الباحثون هذه الزيادة الرهيبة إلى الزيادة المضطرة في الممارسات الجنسية دون
تمييز)
ابتسم عبد القادر،
وقال: صدق رسول الله r .. فقد أخبر البشرية عن كل ذلك، نصحها
غاية النصح، ولكنها أبت إلا أن تسمع لدعاة الشياطين الذين راحوا ينحرفون بفطرتها
..
لقد قال r مخاطبا العالم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا : (لم تظهر
الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت
في أسلافهم الذين مضوا) [7]
ثم وقف، وقال: هل
رأيتم أحدا من الناس راح يلوم الفطرة التي عاقبت الزناة بهذه العقوبات وغيرها؟
قلنا: مجنون من يفعل
ذلك .. البشر عادة لا يلومون إلا على شيء يكتسبونه .. أما ما يحصل لهم مما هو خارج
إرادتهم فلا نرى أحدا يعاتب فيه أو يلوم .. بسبب بسيط، وهو أنه لا يجد من يكيل له
هذا اللوم.
قال: فلماذا إذن
يطرحون الشبهات على العقوبة التي وضعها الإسلام ليردع بها نوازع النفس الشريرة.
قلنا: لأن البشر
ينظرون إلى تشريعات الإسلام باعتبارها تشريعات بشرية .. ولو نظروا إليها على أنها
تشريعات قدرية ما وجهوا لها أدنى عتاب.
قال: أرأيتم لو أن
أجيال البشرية الطويلة التي تلظت بنيرات تلك العقوبات القدرية سمعت بتلك الروادع
التشريعية، وهابت منها، ولم تنظر إليها باحتقار، وراحت تنفذها في حياتها .. هل
سيصيب البشرية ما أصابها؟
قال رجل منا: لقد
قرأت بأن المنطقة الإسلامية هي أكثر المناطق معافاة في العالم من هذا النوع من
الأمراض.
قال: أرأيتم لو أن
رجلا أصيب بمرض من هذه الأمراض .. وعانى بسببه الأمرين .. عرض عليه أن يجلد ظهره
بدل أن يصاب بما أصيب به .. هل سترونه سيقبل؟
قلنا: وكيف لا يقبل
.. بل سيشتري تلك الجلدات بكل ما أوتي من مال؟
قال: فأنتم إذن
تقرون العقوبة التي وضعها الشرع رادعا عن الزنا؟
قلنا: لم نسمع بها
.. فكيف نقر شيئا لم نسمع به؟
قال: لقد نظر
الإسلام إلى الزنا باعتباره جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها.. نظر إليها على أنها
عدوان على الخلق والشرف والكرامة .. وأنها مقوض لنظام الأسر والبيوت .. وأنها مروج
للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات.. وأنها
بالتالي سبيل من السبل التي تنحرف بكيان الامة ..
ولهذا كله، فإنه وضع
لها من العقوبات ما يملأ النفس رهبة منها ..
بدأ ذلك بالطبع
بمخاطبة إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر .. فراح يبين لهم تعارض الوقوع في هذه
الفاحشة مع إيمانهم بالله ومع سعادتهم التي يطلبونها في اليوم الآخر:
قال r يبين ذلك:( لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن)[8]
وقال:( ما من ذنب
بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له)[9]
وقال : ( إذا زنى
الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)[10]
وقال : (من زنى أو
شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه)[11]
وسئل رسول الله r: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:( أن تجعل لله ندا وهو
خلقك)، قلت: إن ذلك لعظيم، قيل: ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ،
قلت ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك) ، وتلا هذه الآية:﴿ وَالَّذِينَ
لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَانًا (69)﴾ (الفرقان) [12]
وقال : (ثلاثة لا
يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ،
وملك كذاب، وعائل - أي فقير – مستكبر)[13]
وقال : (لا ينظر
الله يوم القيامة إلى الشيخ الزاني ولا إلى العجوز الزانية)[14]
وقال : (أربعة
يبغضهم الله : البياع الحلاف ، والفقير المختال ، والشيخ الزاني ، والإمام الجائر)[15]
وقال : (تفتح أبواب
السماء نصف الليل فينادي مناد هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى ؟ هل من
مكروب فيفرج عنه ؟ فلا يبقى مسلم يدعو دعوة إلا استجاب الله عز وجل له إلا زانية
تسعى بفرجها أو عشارا)[16]
وقال : (إن الزناة
تشتعل وجوههم نارا)[17]
وقال : (الزنا يورث
الفقر)[18]
وقال : ( إذا ظهر
الزنا ظهر الفقر والمسكنة)[19]
وقال : (ما ظهر في
قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله)[20]
وقال : (لا تزال
أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب)[21]
وقال : (رأيت الليلة
رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ـ فذكر الحديث إلى أن قال: ـ فانطلقنا إلى
نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نار، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى
كادوا أن يخرجوا وإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساء عراة .. )، وفي آخر
الحديث : ( وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة
والزواني)
[22]
وفي رواية : (
فانطلقنا إلى مثل التنور ، قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات ، قال:
فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا
أتاهم ذلك اللهب ضوضوا - أي صاحوا)
وقال : ( بينما أنا
نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا ، فقالا: اصعد ، فقلت: إني لا
أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، فإذا أنا بأصوات
شديدة ، فقلت: ما هذه الأصوات ؟ قالوا هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي فإذا أنا
بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت من هؤلاء ؟
قيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم أشد شيء
انتفاخا وأنتن ريحا وأسوأ منظرا ، فقلت: من هؤلاء ؟ فقال: هؤلاء قتلى الكفار ، ثم
انطلق بي فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض ، قلت: من
هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني ، ثم انطلق بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن
الحيات ، قلت ما بال هؤلاء ؟ قيل هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن ، ثم انطلق بي فإذا
أنا بغلمان يلعبون بين نهرين ، قلت: من هؤلاء ؟ قيل: هؤلاء ذراري المؤمنين ثم شرف
بي شرفا فإذا أنا بثلاثة يشربون من خمر لهم ، قلت: من هؤلاء ؟ قال هؤلاء جعفر وزيد
وابن رواحة ثم شرف بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة ، قلت من هؤلاء ؟ قال هذا
إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينتظرونك)[23]
وقال : (إن السموات
السبع والأرضين السبع ليلعن الشيخ الزاني وإن فروج الزناة ليؤذي أهل النار نتن
ريحها)[24]
وقال : ( إن الناس
يرسل عليهم يوم القيامة ريح منتنة، فيتأذى منها كل بر وفاجر حتى إذا بلغت منهم كل
مبلغ ناداهم مناد يسمعهم الصوت ويقول لهم : هل تدرون هذه الريح التي قد آذتكم ؟
فيقولون: لا ندري والله ألا إنها قد بلغت منا كل مبلغ ، فيقال: ألا إنها ريح فروج
الزناة الذين لقوا الله بزناهم ولم يتوبوا منه ثم ينصرف بهم)[25]
وقال : (المقيم على
الزنا كعابد وثن)[26]
وقال : ( لما عرج بي مررت برجال تقرض جلودهم بمقاريض من
نار ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: الذين يتزينون للزينة ، قال: ثم مررت بجب
منتن الريح فسمعت فيه أصواتا شديدة ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: نساء كن
يتزين للزينة ويفعلن ما لا يحل لهن)[27]
لم تكتف الشرعية
بهذا الترهيب من الزنا .. بل ورد فيها ما يوفر للمجتمع الإسلامي كل أسباب الطهارة:
فقد ورد التأكيد على
تحريم النظر إلى الأجنبيات، قال تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ (النور:30)، وقال رسول الله r : ( النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف
الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه)[28]
وأمر الله تعالى
النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم
فتنة، قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً ﴾ (الأحزاب:59)، وقال :﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31)
ونهى الرسول r عن الخلوة .. فقال: ( ما اجتمع رجل وامرأة
إلا وكان الشيطان ثالثهما)[29]
وحرم أن يمس الرجل
امرأة لا تحل له .. فقال: ( لأن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به خير لك من أن تمس
امرأة لا تحل لك)
بالإضافة إلى كل هذا
دعت الشريعة إلى حظر إثارة الغريزة بأي وسيلة من الوسائل، حتى لا تنحرف عن المنهج المرسوم:
فنهى عن الاختلاط، والرقص، والصور المثيرة، والغناء الفاحش، النظر المريب، وكل ما
من شأنه أن يثير الغريزة أو يدعو إلى الفحش حتى لا تتسرب عوامل الضعف في البيت،
والانحلال في الأسرة.
وحض r الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها
الشرعى بالزواج .. فقال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)[30]،
أى قاطع للشهوة.
ورخص للرجل أن يتزوج
بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل .
وأمر أولياء الأمور
أن لا يغالوا فى مهور بناتهم .. قال رسول الله r : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه
إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير)[31]
بعد ذلك كله ..
اعتبر الزنا جريمة فانونية تستحق أقصى العقوبة، لأنه وخيم العاقبة، ومفض إلى
الكثير من الشرور والجرائم[32]:
فالعلاقات الخليعة
والاتصال الجنسي غير المشروع، يهدد المجتمع بالفناء والانقراض، فهو سبب مباشر في
انتشار الامراض الخطيرة التي تفتك بالابدان، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى
الأبناء، وأبناء الأبناء .. وهو أحد أسباب جريمة القتل، إذ أن الغيرة طبيعية في
الانسان، وقلما يرضى الرجل الكريم، أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي، بل إن
الرجل لا يجد وسيلة يغسل بها العار الذي يلحقه ويلحق أهله إلا الدم.
والزنا ـ بعد ذلك ـ
يفسد نظام البيت، ويهز كيان الاسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الأولاد لسوء
التربية مما يتسبب عنه: التشرد، والانحراف والجريمة.
وبالزنا تضيع النسب،
وتصير الأموال لغير أربابها المستحقين لها عند التوارث.
وبالزنا الذي قد
ينتج عنه الحمل، يقوم الرجل بتربية غير ابنه.
وفوق ذلك كله، فإن
الزنا علاقة مؤقتة، لاتبعة وراءها .. وهو بالتالي عملية حيوانية بحتة، ينأى عنها
الانسان الشريف.
لأجل هذا كله جاءت
العقوبات التي تردع النفوس التي لا تردع إلا بالألم ..
ولم تأت هذه العقوبة
هكذا مفتوحة يلبي فيها أصحاب النفوس العدوانية ما تطلبه نفوسهم من عدوان .. بل
جاءت محاطة بكثير من القيود لتجعل منها رادعا وعلاجا، لا عقوبة وانتقاما:
فقد اشترطت الشريعة
لثبوت هذه الجريمة شهادة أربعة شهود عدول .. يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة
ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا
ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها، ولكنها ترصدها على شيوعها على الملأ من
الناس، بحيث لا يبغى بين الناس من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
ثم إن الشريعة بعد
ذلك دعت إلى درء الحدود بالشبهات .. كما قال رسول الله r : ( ادرءوا الحدود بالشبهات)[33]
ثم إن الشريعة فرضت
عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة، ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا
منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته، قال الله تعالى :﴿
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (النور:4)
ثم بعد ذلك كله رغبت
الشريعة فى التستر على عورات المسلمين، وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت
قد وقعت .. لقد قال رسول الله r لرجل جاء يشهد: (لو سترته بثوبك كان خيراً
لك)
[34]
.. وقد قرر الله تعالى ذلك، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾
(النور:19)
بعد هذا كله .. وبكل
هذه الضوابط .. شرع الإسلام اللجوء إلى الألم كوسيلة من وسائل العلاج .. باعتباره
آخر العلاج .. فآخر العلاج الكي.
قلنا: فحدثنا عن هذا
الألم الذي عاقب به الإسلام الزناة.
قال: لقد وضعت
الشريعة الحكيمة للزناة ثلاث عقوبات هي: الجلد .. التغريب.. الرجم.
وقد خصت الشريعة
العقوبتين الأوليين بالزاني غير المحصن، أما الرجم فهو عقوبة الزاني المحصن، فإذا
كان الزانيان غير محصنين جلدا وغربا، وإن كانا محصنين رجما، وإن كان أحدهما محصناً
والثاني غير محصن رجم الأول، وجلد الثاني وغرب.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الأولى .. عقوبة الجلد.
قال: لقد نص على هذه
العقوبة قوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النور: 2) .. والآية تنص على أن عقوبة
الزاني مائة جلدة.
قال رجل منا: ألا
ترى أن هذه العقوبة شديدة، ولا تتناسب مع الرحمة التي تزعم أنها صفة الإسلام
الأساسية، وأن ما فيه مما قد يبدو شديدا هو في حقيقته رحمة؟
قال: بل هذه العقوبة
الرادعة هي الرحمة بعينها .. لقد عرف الشارع نوع النفس التي توقع صاحبها في مثل
هذه الجرائم .. إنها نفس شهوانية لا هم لها إلا تتبع شهواتها وأهوائها ولو على
حساب طهارة المجتمع ..
ولهذا حارب الإسلام
الدوافع التي تدعو للجريمة، بالدوافع التي تصرف عن الجريمة:
فالدافع الذي يدعو
الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الوحيد
الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم، ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا
تذوق مس العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق مس العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟!
فالشريعة حينما وضعت
عقوبة الجلد للزنا لم تضعها اعتباطاً، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان
وفهم لنفسيته وعقليته، والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا دفعت العوامل
النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا تغلبت العوامل
الداعية على العوامل الصارفة وارتكب الزاني جريمته مرة كان فيما يصيبه من ألم
العقوبة وعذابها ما ينسيه اللذة ويحمله على عدم التفكير فيها.
قلنا: هل ترى أن مثل
هذه العقوبة يمكن أن تطبق في عصرنا؟
قال: ما دمنا بشرا
.. وما دامت النوازع البشرية المنحطة فينا .. فيمكن أن تطبق .. لن يحول بين
الإنسان وتطبيقها إلا تلك الأهواء والشهوات التي تريد لأهوائه أن تتحرر من أي
رادع.
ومع ذلك .. فقد رأيت
من خلال صحبتي لرجال القانون أن أغلب شراح القوانين اليوم يفكرون في العودة إلى
تقرير عقوبة الجلد، ويسعون في وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ.
وقد اقترح فعلاً في
فرنسا ـ في فترة ما ـ تقرير عقوبة الجلد على أعمال التعدي الشديد التي تقع على
الأشخاص، وذكر تأييداً لهذا اقتراح أن العادات قد تطورت تطوراً مخيفاً، وأن طبقات
العامة أصبحت تلجأ إلى القوة والعنف لحسم المنازعات، وأن الإجرام تغير مظهره عن ذي
قبل، فأصبح أكثر شدة وأعظم حدة، وأن لا وسيلة لتوطيد الأمن إلا بإعادة العقوبات
البدنية وأفضلها عقوبة الجلد.
وقد رأى هؤلاء أن
يقصر هذا النوع من العقوبات على المجرمين الذين لا يتأثرون بغيرها من أنواع
العقوبات، سواء كانوا أحداثاً أم بالغين.. ومنهم من يرى تخصيص عقوبة الجلد لجرائم
السكر، وجرائم هتك العرض، وجرائم النهب والسرقة، وكسر الأسوار، وإتلاف المزروعات،
وقتل المواشي .. وكل الجرائم التي تدل على القسوة وعدم المبالاة.
واحتجوا لذلك بأنه
ما دام قد ثبت بشكل قاطع أن عقوبة الجلد تفوق غيرها من العقوبات في تأديب
المسجونين وحفظ النظام بينهم وهم طائفة فاسدة، فيجب أن يكون الجلد عقوبة أساسية في
القانون ووسيلة من وسائل التأديب والإصلاح لغير المسجونين.
نعم، لقد عارض بعض
شراح القوانين هذا .. ونظروا في معارضتهم لاعتبارين: أولهما: النفور من الألم
البدني.. وثانيهما: إنقاص الاحترام الواجب نحو شخص الإنسان.
لكن غيرهم ـ من
الذين رأوا ضرورة مثل هذه العقوبات ـ يردون على هؤلاء بأن عقوبة الجلد تمتاز بأنها
موجهة إلى حساسية الجاني المادية، وأن الخوف من ألم الجلد هو أول ما يخافه
المجرمون، فيجب الاستفادة من ذلك في إرهابهم .. أما إنقاص الاحترام الإنساني ففكرة
لا محل لها في العقاب، ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه.
قال رجل منا: صدقت
في هذا .. وقد رأيت من خلال اطلاعي على قوانين العقوبات في بعض دول العالم في
فترات قريبة .. أن عقوبة الجلد وإن كانت ألغيت من أكثر قوانينها الجنائية إلا أنها
لا تزال عقوبة معترفاً بها في قوانين بعض الدول، ففي إنجلترا يعتبر الجلد إحدى
العقوبات الأساسية في القانون الجنائي، وفي الولايات المتحدة يعاقب المسجونون
بالجلد, وفي قانوني الجيش والبوليس في مصر وإنجلترا لا يزال الجلد عقوبة أساسية ..
وهكذا الأمر في كثير من الدول.
وفي أثناء الحرب
العالمية الثانية رجعت معظم بلاد العالم إلى عقوبة الجلد وطبقتها على المدنيين في
جرائم التموين والتسعير وغيرها.. بل رأيت من قوانين العالم ما يقرر عقوبة الجلد في
القوانين العسكرية.
قال عبد القادر: ألا
ترون أن في اضطرار أكثر بلاد العالم إلى تطبيق عقوبة الجلد على المدنيين أثناء
الحرب لشهادة قيمة لهذه العقوبة، واعترافاً من القائمين على القوانين الوضعية بأن
عقوبة الحبس تعجز عن حمل الناس على طاعة القانون.
ثم ألا ترون أن
العالم حين يقرر عقوبة الجلد في القوانين العسكرية يعترف بأن هذه العقوبة ضرورية
لحفظ النظام بين الجند وحملهم على طاعة القانون؟
ثم ألا ترون أن
المدنيين في أنحاء العالم اليوم أشد حاجة من الجند إلى هذه العقوبة بعد أن أصبحوا
لا يحرصون على النظام، ولا يعترفون بالطاعة للقوانين؟
ثم ألا ترون من
العجب أن ترى القوانين ضرورة طاعة الجند للنظام، ثم لا يرونه للمدنيين, وكأن
المدنيين ليسوا من الأمة، أو ليسوا هم الذين يمدون الجيش بالجنود؟
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الثانية .. تلك التي سميتها عقوبة التغريب[35].
قال: لقد ورد النص
على هذه العقوبة في قوله r : ( خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن
سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام[36] ، والثيب بالثيب
جلد مائة والرجم)[37]
لكن الفقهاء بناء
على أن الآية اقتصرت على الجلد دون التغريب اختلفوا .. فمنهم من ذهب إلى أنه حد من
الحدود .. ومنهم من ذهب إلى أنه تعزير من التعزيرات[38]،
ولذلك فإن للإمام أن ينظر المصلحة في ذلك، فإن رآها في التغريب فعله، وإن لم يرها
تركه ..
قال رجل منا: أي
مصلحة يمكنها أن يجدها الإنسان، وهو يغرب عن أهله ووطنه؟
قال: في أحيان كثيرة
لا يراجع الإنسان نفسه وسلوكه إلا بعد أن يغترب .. فالغربة تصقل من الشخصية ما
انحرف منها .. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى :﴿ إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ (النساء:97)
وأشار رسول الله r إلى هذا في حديث الذي قتل مائة نفس .. فقد نصحه العالم
الصالح بأن يغترب عن بلده، لأنها بلد تشجعه على الجريمة .. ولا يمكن أن يصفو في
وسط يدعوه إلى الجريمة.
بناء على هذا، فقد
ذكر الفقهاء غرضين شريفين للتغريب: أحدهما نفسي والثاني اجتماعي.
أما النفسي، فهو التمهيد
لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن, وذلك يقتضي إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة, أما
بقاؤه بين ظهراني الجماعة، فإنه يحيي ذكرى الجريمة، ويحول دون نسيانها بسهولة.
وأما الاجتماعي، فإن في إبعاد
المجرم عن مسرح الجريمة[39] ما يجنبه مضايقات
كثيرة لابد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقان إلى حد قطع الرزق، وقد
لا تزيد على حد المهانة والتحقير، فالإبعاد يهيئ للجاني أن يحيا من جديد حياة
كريمة.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الثالثة .. عقوبة الرجم.
قال: لم يرد النص
على هذه العقوبة في القرآن الكريم .. وإنما ورد النص عليها في السنة .. ففي الحديث
قال رسول الله r : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة:
كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس)[40],
وقد أثر عن الرسول r أنه أمر برجم ماعز والغامدية وصاحبة
العسيف[41]،
فالرجم سنة فعلية وسنة قولية في وقت واحد.. وقد أجمعت الأمة عليها.
التفت إلي، وقال: لم
تجمع هذه الأمة فقط .. بل أجمعت أمة أخرى كانت قريبة من هذه الأمة ..
لقد ورد في الكتاب
المقدس لهذه الأمة، وفي (سفر التثنية 22:22) هذه المادة القانونية:( إذا وجد رجل
مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، يرجما،
فتنزع الشر من إسرائيل)
نعم .. هناك من يقول
بنسخ هذا .. ولكن الكتاب المقدس لا يقول بنسخه .. لقد جاء في (سفر التثنية
27:26):( ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها ويقول جميع الشعب آمين)
حتى ( إنجيل لوقا
16:17) يصرح بأن هذا الحكم ليس منسوخا .. ففيه :( ولكن زوال السماء والارض أيسر من
أن تسقط نقطة واحدة من الناموس)
لقد ورد في أسانيدنا
الصحة المعتمدة ما يبين ثبات الحكم .. وما يبين في نفس الوقت سر نسخه وهجره:
لقد روي في الحديث
الصحيح أن اليهود أتوا النبي r برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: (ما
تجدون في كتابكم؟)، فقال: تسخم وجوههما ويخزيان، فقال r : (كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة
فاتلوها إن كنتم صادقين)، فجاءوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع
يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح.. فقالوا: يا محمد، إن فيها
الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله r فرجما[42].
وروي أن النبي r مر على يهودي محمم مجلود فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد
الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم.. فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل
التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قال: لا. ولولا أنك أنشدتني
بهذا لم أخبرك بحد الرجم.. ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه،
وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف
والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.. فقال النبي r:( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا
أماتوه)، فأمر به فرجم، فأنزل الله عزوجل :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ)(المائدة: من الآية41) يقولون: (ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد
فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا)، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة:
من الآية44)، وقوله تعالى:﴿ وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(المائدة:
من الآية45)، ، وقوله تعالى:﴿
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية47)، قال: (هي في الكفار كلها)[43]
قال رجل منا: ألا
ترى أن هذه العقوبة شديدة، ولا تتناسب مع الرحمة التي تزعم أنها صفة الإسلام
الأساسية؟
قال: لقد راعت هذه
العقوبة نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن .. ولكنها شددت
في عقوبة المحصن لأجل كونه محصنا[44] ..
فالإحصان ـ في أصله
ـ صارف عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل تفكيره فيه على قوة
اشتهائه للذة المحرمة وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة, فوجب أن توضع له
عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة
وذكر معها العقوبة المقررة تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على
التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
بالإضافة إلى أن
الزاني المحصن مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين، وليس للمثل السيئ في
الشريعة حق البقاء.
بالإضافة إلى ذلك،
فإن الشريعة تقوم على الفضيلة المطلقة، وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من
التلوث والاختلاط، وهي توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته، ولا يستجيب لها إلا من
طريق الحلال وهو الزواج، وأوجبت عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه
للفتنة أو يحملها ما لا تطيق, فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوات
فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخيره في الزواج الذي
أدى به إلى الجريمة.
أما إذا تزوج، فأحصن
فقد حرصت الشريعة أن لا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج
أبدياً حتى لا يقع في الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن
تجعل العصمة في يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض
والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كل وقت وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة
على أن يعدل بينهن .. وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه كل
باب للحرام, فكان عدلاً بعد أن انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة من ناحية العقل
والطبع أن تنقطع المعاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة
التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
سكت قليلا، ثم قال:
ألا ترون أن هذه العقوبة فطرية في النفوس درى الناس بها أو لم يدروا؟
قلنا: كيف؟
قال: ألا ترون
الجماهير الكثيرة من الناس يتمردون على القوانين التي تستهين بالأعراض، فتكتفي ـ
في أحسن أحوالها ـ بمعاقبة الزناة بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصناً، فإذا لم
يكن أحدهما محصناً، فلا عقاب ما لم يكن إكراها.
الناس متمردون
بفطرتهم على هذه القوانين .. فلذلك تجدهم يقتصون من الزاني محصناً وغير محصن
بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصاحبها من العذاب، فهم
يغرقون الزاني ويحرقونه ويقطعون أوصاله ويهشمون عظامه ويمثلون به أبشع تمثيل,
وأقلهم جرأة على القتل يكتفي بالسم يدسه لمن أوجب عليه زناه .. ولو أحصينا جرائم
القتل التي تقع بسبب الزنا لبلغت نصف جرائم القتل جميعاً، فإذا كان هذا هو الواقع
فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم؟
إن الأخذ بها لن
يكون إلا اعترافاً بالواقع، والاعتراف بالواقع شجاعة وفضيلة، ولا أظننا بالرغم مما
وصلنا إليه من تدهور نكره الإقرار بالحق أو نخشى الاعتراف بالواقع المحسوس.
قال رجل منا: ولكن
المستبشع ليس القتل وحده .. ولكن القتل بهذا الأسلوب .. إن النفس ترتعش لهوله.
قال: هذا ما أراده
الشارع .. أراد للنفس أن ترتعش .. لأنه لا يمكن لها أن ترتدع إذا لم ترتعش ..
ومع ذلك، فإن الرجم
ـ في حقيقته ـ هو القتل لا غير .. وقوانين العالم كلها تبيح القتل عقوبة لبعض
الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقاً، أو ضرباً بالفأس أو صعقاً بالكهرباء أو رجماً
بالحجارة أو رمياً بالرصاص، فكل هؤلاء يقتل ولكن وسائل القتل هي التي فيها
الاختلاف، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة والرمي بالرصاص، ومن كان يظن أن
الموت في كل الأحوال فهو في ظنه على خطأ مبين؛ لأن الرصاص قد لا يصيب مقتلاً من
القتيل فيتأخر موته؛ ولأن الحجارة قد تصيب المقتل وتسرع بالموت أكثر مما يسرع به
الرصاص، فرماة الرصاص عددهم محدود وطلقاتهم معدودة، أما رماة الحجارة فعددهم غير
محدود، وعليهم أن يرموا الزاني حتى يموت، ومن استطاع أن يتصور مائة أو مئات يقذفون
شخصاً في مقاتله بالأحجار استطاع أن يتصور أنه يموت بأسهل وأسرع مما يموت قتيل
الرصاص.
وقد دلت التجارب على
أن حبل المشنقة لا يزهق الروح في بعض الأحوال, وأنه لا يزهقها بالسرعة اللازمة في
كثير من الأحوال .. كما دلت التجارب على أن ضرب الفأس الواحدة قد لا يكفي لقطع
الرقبة ليس هو أسهل الطرق للموت، كذلك فإن التسميم بالغاز أو الصعق بالكهرباء يبطئ
بالموت أحياناً أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص.
بالإضافة إلى هذا
كله، فإن التفكير في هذه المسألة بالذات تفكير لا يتفق مع طبيعة العقاب, فالموت
إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وأكثر الناس اليوم إذا اتجه
تفكيرهم للموت فكروا فيما يصحبه من ألم وعذاب، فهم لا يخافون الموت في ذاته، وإنما
يخافون العذاب الذي يصحب الموت، وإذا كان العذاب لا قيمة له مع المحكوم عليه
بالموت فإن قيمته يجب أن تظل محفوظة للزجر والتخويف، وليس من مصلحة المجتمع في شئ
أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لينة لا يؤلم ولا تدعو للخوف، وقد بلغت آية الزنا
الغاية في إبراز هذا المعنى حيث جاء فيها:﴿ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا
رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ (النور: من الآية2)، وحيث جاء فيها :﴿
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النور: من
الآية2)، ذلك أن الرأفة بالمجرمين تشجيع على الإجرام، والعذاب الذي يصحب العقوبة
هو الذي يؤدب من أجرم ويزجر من لم يجرم.
سكت قليلا، ثم قال:
هذه هي العقوبات التي وضعتها الشريعة لردع الزناة .. ولاشك أنكم رأيتم أنها عقوبات
لم توضع ارتجالا .. وإنما هي عقوبة مبنية على معرفة دقيقة بتكوين الإنسان وعقليته
.. ومبنية على تقدير دقيق لغرائزه وميوله وعواطفه .. وأنها فوق ذلك كله وضعت لتحفظ
مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهي عقوبات علمية تشريعية؛ لأنها شرعت لمحاربة
الجريمة، وهذه ميزة تمتاز بها العقوبات التي وضعتها الشريعة لجرائم الحدود وجرائم
القصاص والدية, ولا تكاد هذه الميزة توجد في عقوبة من العقوبات التي تطبقها
القوانين الوضعية.
قال رجل منا: إن
القوانين لا تثبت فاعليتها إلا بالواقع .. فهل أثبت الواقع فاعلية هذه العقوبات؟
قال عبد القادر: أجل
.. لقد أثبتها .. لا لقرن واحد .. بل لقرون طويلة .. كان الإسلام فيها هو السائد
في جميع المجتمعات الإسلامية ..
ولا تزال إلى الآن
آثار طيبة كثيرة لتلك الروادع الشرعية .. ويمكن لأي شخص أن يجري مقارنة بين عدد
جرائم الزنا في المجتمعات الإسلامية خاصة المحافظة منها مع المجتمعات الغربية ..
وسيرى في ذلك ما يكفيه ليتبين قيمة التشريعات التي وضعها الإسلام.
انظروا .. فإنه
بالرغم من أن بلاد الإسلام كلها تقريباً أخذت بقوانين الغرب ونظمه حتى فيما يتصل
بالأعراض والأخلاق .. إلا أنه مع ذلك لا زال المسلمون ينفرون من جريمة الزنا
ويستفظعونها، ويحتقرون مرتكبيها، ويستقلون كل عقوبة مهما عظمت عليهم، بينما الغرب
لا يحفل بهذه الجريمة، ولا يهتم بالأخلاق والأعراض على العموم.
قال رجل منا: نحن
نبحث عن العدالة .. فما مدى عدالة هذه العقوبة؟
قال: ليس هناك عقوبة
في الدنيا ترتبط بهذا أعدل من هذه العقوبة ..
إنها عادلة مع
المجرم لأنها لا تظلمه، ولا تهضمه حقه، ولا تحمله ما لا يطيق في سبيل الجماعة ..
وكيف تظلمه وقد بنيت على أساس قدرته واشتقت من طبيعته ونفسيته؟
وهي عادلة مع
الجماعة؛ لأن عدالتها بالنسبة للأفراد هي العدالة لمجموعهم، ولأنها تحفظ للمجتمع
حقه ولا تضحي به في سبيل الأفراد، والعقوبة التي تحابي الأفراد على حساب الجماعة
إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معاً؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال
الأمن، ثم توهين النظام وانحلال المجتمع، وإذا دب الانحلال في مجتمع فلا خير فيه
ولا بقاء له.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعت لردع القاذفين[45].
قال: لقد اعتبرت
الشريعة القذف من الكبائر العظيمة، ولذلك عالجته من نواح مختلفة ..
لقد عرفت أنه ناتج
عن أمراض النفوس من الغل والحسد والحقد .. وغيرها، فلذلك وضعت البرامج الطويلة
التي تخلص النفوس من هذه الأمراض.
وعرفت أنه ناتج عن
الغفلة والفراغ .. فلذلك راحت تملأ وقت المسلم بكل ما ينفعه في دينه ودنياه،
معتبرة ما عداه من اللغو الذي يتنزه عنه المؤمنون.
وعرفت أنه ناتج عن
المجالس اللاهية .. فأبدلتها بمجالس العلم والذكر.
وبعد ذلك كله نشرت
وعيا في المجتمع بأن حرمة عرض المسلم تعدل حرمة دمه .. قال رسول الله r : ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)[46]..
وجاء في خطبة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا،
في شهركم هذا، في بلدكم هذا)[47]
بعد ذلك اعتبرت
الكلام في الأعراض كبيرة من الكبائر .. ففي الحديث الشريف قال رسول الله r : ( الكبائر أولهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها
، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وفرار يوم الزحف ، ورمي المحصنات ، والانتقال
إلى الأعراب بعد هجرته)[48]
وكتب رسول الله r إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والديات، وبعث به عمرو
بن حزم ـ رضي الله عنه ـ وكان في الكتاب: (وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة
الإشراك بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق ، والفرار في سبيل الله يوم الزحف ،
وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة وتعلم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم)[49]
وأخبرت بالعقاب
الشديد الذي ينال من يقع في أعراض المسلمين في الدنيا أو في الآخرة .. ففي الحديث
قال رسول الله r:( من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد
يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)[50]
وقال: (أيما عبد أو
امرأة قال أو قالت لوليدتها يا زانية ولم تطلع منها على زنا جلدتها وليدتها يوم
القيامة)[51]
وقال : ( سباب
المسلم فسق وقتاله كفر)[52]
وقال: ( المتسابان
ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم)[53]
وقال: (سباب المسلم
كالمشرف على الهلكة)[54]
وقال: ( إن من أكبر
الكبائر أن يلعن الرجل والديه) ، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال:
(يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)[55]
وقال: ( من حلف على
يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم
القيامة ، وليس على رجل نذر فيما لا يملك ، ولعن المؤمن كقتله)[56]
وقال له رجل: يا
رسول الله الرجل يشتمني وهو دوني أعلي منه بأس أن أنتصر منه؟ قال: (المتسابان
شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)[57]
وعن جابر بن سليم ـ
رضي الله عنه ـ قال : رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه،
قلت : من هذا ؟ قالوا لي رسول الله r قلت : عليك السلام يا رسول الله ، قال لا
تقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الموتى أو الميت ، قل السلام عليك ، قال : قلت
أنت رسول الله ؟ قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإذا
أصابك عام سنة - أي قحط - فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفراء وفلاة فضلت
راحلتك فدعوته ردها عليك ، قال : قلت اعهد إلي ، قال : لا تسبن أحدا ، فما سببت
بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة ، قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن
تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق
فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة - أي الكبر واحتقار
الغير - وإن الله لا يحب المخيلة[58] ، وإن امرؤ شتمك أو
عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه)[59]
وفي رواية : ( وإن
امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه ودعه يكون وباله عليه وأجره لك
، فلا تسبن شيئا) قال : ( فما سببت بعده دابة ولا إنسانا)[60]
وعن سلمة بن الأكوع
ـ رضي الله عنه ـ قال : (كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى بابا من الكبائر)[61]
بعد هذا كله وغيره
شرعت عقوبتين لحماية الأعراض من أن تصبح لعبة بيد العابثين: أما أولاهما، فعقوبة
حسية تتمثل في الجلد .. وأما الثانية، فعقوبة معنوية تتمثل في رفع أهليته للشهادة.
وقد نص على هاتين
العقوبتين في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
(النور: 4)
والشريعة العادلة
الحكيمة لم تضع هذا الحكم هكذا جزافا .. بل أحاطته بجملة من الضوابط تحميه من
تصرفات الأهواء، وتقلبات الأمزجة:
فشرطت في القاذف[62]
الأهلية التي تجعله محاسبا على أفعاله مؤاخذا بها.
وشرطت في المقذوف[63]
أن يكون له من الحرمة التي اكتسبها بسلوكه ما يقي ألسنة الناس عنه[64].
ثم لم تقر الحد إلا
بعد ثبوته: إما بإقرار القاذف نفسه، أو بشهادة رجلين عدلين.
ووضعت الأحكام
الخاصة بتتكرار القذف لشخص واحد[65].
ووضعت الأحكام
الخاصة بقذف الجماعة[66].
وميزت ما كان من
القذف حقا لله لا يجوز التنازل عنه .. وبين ما كان منه حقا للإنسان يمكنه أن
يتنازل عنه[67].
ثم أعطت للقاذف
الفرصة في أن يسقط الحد عنه .. وذلك بإحضاره لأربعة شهود ينفون عنه صفة القذف
الموجبة للحد، ويثبتون صدور الزنا بشهادتهم.
وأعطت في الأخير
القاذف الفرصة في أن يمسح آثار قذفه بالتوبة النصوح، وعدم العود إلى الخوض في
أعراض الناس[68].
قلنا: فحدثنا عن سر
العقوبتين اللتين عاقبت بهما الشريعة القاذفين .. لم عوقب القاذف بالجلد؟ .. ولم
عوقب بمنعه من حق الشهادة؟ .. ولم لم يكتف بتأديبه بالسجن؟
قال: لقد لاحظت
الشريعة العادلة الحكيمة أن من أهم البواعث التي تدعو القاذف للافتراء والاختلاق:
الحسد والمنافسة والانتقام .. ولاحظت أنها جميعاً تؤول إلى غرض واحد يرمي إليه كل
قاذف، وهو إيلام المقذوف وتحقيره.
ولهذا عالجت الشريعة
القاذف بمحاربة دوافع الجريمة لديه ..
وبما أن القاذف يرمي
إلى إيلام المقذوف إيلاماً نفسياً، ليتمتع هو بذلك الألم .. فكان جزاؤه الجلد ليؤلمه إيلاماً بدنياً .. لأن
الإيلام البدني هو الذي يقابل الإيلام النفسي؛ لأنه أشد منه وقعاً على النفس والحس
معاً، إذ أن الإيلام النفسي هو بعض ما ينطوي عليه الإيلام البدني.
وبما أن القاذف يرمي
من وراء قذفه إلى تحقير المقذوف, وهذا التحقير فردي؛ لأن مصدره فرد واحد هو القاذف,
فكان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها، وأن يكون هذا التحقير العام بعض العقوبة التي
تصيبه، فتسقط عدالته ولا تقبل له شهادة أبداً، ويوصم وصمة أبدية بأنه من الفاسقين.
وهكذا حاربت الشريعة
الإسلامية الدوافع النفسية الداعية إلى الجريمة بالعوامل النفسية المضادة التي
تستطيع وحدها التغلب على الدوافع الداعية للجريمة وصرف الإنسان عن الجريمة، فإذا
فكر شخص أن يقذف آخر ليؤلم نفسه ويحقر شخصه ذكر العقوبة التي تؤلم النفس والبدن،
وذكر التحقير الذي تفرضه عليه الجماعة، فصرفه ذلك عن الجريمة.
وإن تغلبت العوامل
الداعية إلى الجريمة مرة على العوامل الصارفة عنها فارتكب الجريمة, كان فيما يصيب
بدنه ونفسه من ألم العقوبة، وفيما يلحق شخصه من تحقير الجماعة ما يصرفه نهائياً عن
العودة لارتكاب الجريمة، بل ما يصرفه نهائياً عن التفكير فيها.
سكت قليلا، ثم قال:
أما ما ذكرتم من السجن وغيره .. وهو ما مارسته القوانين الحديثة، فهي تعاقب على
القذف بالحبس أو بالغرامة أو بهما معاً .. فهي عقوبات غير رادعة، ولذلك ازدادت
جرائم القذف والسب زيادة عظيمة، وأصبح الناس وعلى الأخص رجال الأحزاب يتبادلون
القذف والسب كما لو كانوا يتقارضون المدح والثناء، كل يحاول تحقير الآخر وتشويهه
بالحق أو بالباطل، وكل يريد أن يهدم أخاه ليخلوا له الجو ينطلق فيه, وسيظلون كذلك
حتى يمزقوا أعراضهم ويقطعوا أرحامهم ويهدموا أنفسهم بأيديهم، ولكنهم سيتركون أسوأ
مثل يحتذى لمن بعدهم.
ولو أن أحكام
الشريعة الإسلامية طبقت على هؤلاء بدلاً من القانون لما جرؤ أحدهم على أن يكذب على
أخيه كذبة واحدة؛ لأنها تؤدي به إلى الجلد، وتنتهي بإبعاده عن الحياة العامة, فلا
قيادة ولا رئاسة ولا أمر ولا نهي، ذلك أن من كذب سقطت شهادته، ومن سقطت شهادته
سقطت عدالته, ومن سقطت عدالته سقطت عنه قيادته ورئاسته، ولأن الأمر والنهي من حق
المتيقن، ولا يكون أبداً للفاسقين.
قال رجل منا: ألا
ترى أن فكرة الجلد نفسها فكرة قديمة .. فالبشر تطوروا كثيرا؟
ابتسم عبد القادر،
وقال: نعم الحياة تطورت .. ولكن طبيعة الناس لم تتطور .. إن طبيعة الإنسان واحدة
في جميع العصور .. لا تتغير ولا تتبدل، ولو تغيرت مظاهره الحياة وتبدلت وسائلها ..
هي طبيعتهم إذا تقدموا وطبيعتهم إذا تأخروا .. هم في جميع عصورهم يرجون الثواب
ويحرصون على الوصول إليه .. وهم في جميع عصورهم يخشون العقاب ولا يرضونه لأنفسهم.
ولهذا، فإن الحكيم
هو الذي يستغل طبيعة البشر في سياستهم وتوجههم .. وقد فعلت الشريعة الحكيمة ذلك،
فاستغلت طبيعة البشر، فأقامت أحكامها على أساس ما في خلائقهم الأصلية من رجاء
وخوف, ومن قوة وضعف, فجاءت أحكاماً صالحة لكل مكان وزمان؛ لأن طبائع البشر واحدة
في كل مكان؛ ولأنها لا تتغير بتغير الأزمان. وذلك هو السر في صلاحية الشريعة
للقديم والحديث, وهو السر في صلاحيتها للمستقبل القريب والبعيد.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعت لردع السكارى.
قال: لقد اعتبرت
الشريعة السكر من الكبائر العظيمة، ولذلك عالجته من نواح مختلفة ..
لقد بينت ـ أولا ـ
أن الخمر، وإن كان فيها بعض المنافع الظاهرة .. هي في حقيقتها تحتوي على مضار
كثيرة.. مضار لا تقارن بمنافعها .. قال تعالى :﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) (البقرة: من الآية219) .. أي أن في تعاطيهما
ذنبا كبيرا، لما فيهما من الأضرار والمفاسد المادية والدينية، وأن فيهما كذلك بعض
منافع للناس .. وهي منافع مادية لا تتجاوز الربح بالاتجار فيها[69]
، وكسب المال دون عناء في الميسر.. ومع ذلك فإن الاثم أرجح من المنافع فيهما،
بعد ذلك نهى الله
عزوجل المؤمنين أن يصلوا لله وهم في حالة سكر .. لأنه لا تستقيم الصلاة إلا في
حالة حضور عقلي كامل .. قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
)(النساء: من الآية43) .. وبما أن الصلاة تستغرق جميع أوقات يوم المسلم .. فإن ذلك
سيضعه في حرج كبير ..
بعد ذلك .. وبعد أن
حضرت النفوس لتجنب هذه الآفة الخطيرة جاء التحريم المطلق .. التحريم الذي عبر عنه
بالاجتناب، وهو أبلغ صيغ التحريم .. قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) (المائدة)
انظروا كيف وصف الله
تعالى الخمر، ومن معها من الآثام ـ من الميسر والأنصاب والأزلام ـ بكونها رجسا
خبيثة مستقذرة عند أولي الالباب.. وبكونها من عمل الشيطان وتزيينه ووسوسته..
وبدورها في إيقاع العداوة والبغضاء.
كل هذه الأسباب هي
الداعية إلى التحريم ..
فالله يتلطف بعباده،
ويخبرهم أنه لم يحرم عليهم الخمر لكونها شرابا يجدون فيه لذة ونشوة .. ولكنه حرمه
لكل ما فيه من تلك الآثام والمضار التي لم
تزدها الأيام إلا تأكيدا.
ويدل لذلك أن الله
تعالى وعد المؤمنين بخمر في الآخرة .. خمر طاهرة ليس فيها شيء من الإثم .. قال
تعالى يصف نعيم أهل الجنة:﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ
فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) (الطور)، أي: يتعاطون فيها كأسا من الخمر لا يتكلمون
عنها بكلام لاغ ولا هَذَيَان ولا إثم ولا
فُحْش، كما يتكلم السكيرون من أهل الدنيا.
وقال في آية أخرى
يصفها :﴿ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ
عَنْهَا يُنزفُونَ (الصافات : 46 – 47)، وقال:﴿ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا
وَلا يُنزفُونَ) (الواقعة: 19)
انظروا كيف نزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر
الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر
أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هَذَيَانا وفُحشا،
وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها ..
وكان ذلك كله علاجا
لما تمليه الشياطين على نفس الإنسان من حب الخمر وعشقها والتفاني فيها والإدمان
عليها.
ولم تكتف الشريعة
بتحريم الخمر، بل حرمت كل الوسائل المؤدية إليها، فقد ( لعن رسول الله الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها
ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)[70]
وفي حديث آخر : (
لعن رسول الله r في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها
وحاملها والمحمولة له وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له[71]
.
وفي حديث آخر: (إن
الله حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه)[72]
وفي حديث آخر: ( لعن
الله اليهود ثلاثا إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، إن الله إذا
حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)[73].
وفي حديث آخر: (من
باع الخمر فليشقص الخنازير[74])[75]
وفي حديث آخر: (
أتاني جبريل u فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها
ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها)[76]
ومن ذلك تحريمه الخمر قليلها وكثيرها[77]، من عنب كانت أو من
غيره[78]
..
قال رسول الله r :( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)[79]
وروي أن رجلا من
اليمن سأل رسول الله r عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له
(المزر)، فقال رسول الله r :( أمسكر هو؟)، قال:
نعم، فقال r:( كل مسكر حرام...إن على الله عهدا لمن
يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخيال قالوا: يا رسول الله: وما طينة الخيال؟ قال:
(عرق أهل النار)[80]
وقال:( إن من العنب
خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير
خمرا)[81]
وسئل رسول الله r، فقيل له: يا رسول الله: أفتنا في شرابين كنا نصنعهما
باليمن (البتع) ـ وهو من العسل حين يشتد[82] ـ والمزر ـ وهو من
الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد ـ قال الراوي: وكان رسول الله r قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، فقال: (كل
مسكر حرام)[83]
وبما أن
النفوس لا تردع بشيء كما تردع بالترهيبات، فقد وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله r تبين أنواع العقوبات التي ينالها من
نازعنه نفسه لشربها:
فمن ذلك بيان تعارض شرب الخمر مع الإيمان .. فالإيمان يقتضي أن تكون اللطائف جميعا في
منتهى قوتها، وعنفوانها، فلا يعبد الله بعقل نائم، ولا بجسد متهالك:
قال r : (من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع
الإنسان القميص من رأسه)[84]
وقال: (من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يشرب الخمر ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على
مائدة يشرب عليها الخمر)[85]
ومن ذلك إخباره عن بعد شارب الخمر عن الله وملائكة الله .. قال r : ( ثلاثة لا تقربهم الملائكة الجنب
والسكران والمتضمخ بالخلوق)[86]
ومن ذلك إخباره عن عدم قبول الله لأعمال شارب الخمر:
قال r : (من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعا
، وإن مات فيها مات كافرا ، فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض)[87]
وقال: (ثلاثة لا
يقبل الله لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه
فيضع يده في أيديهم ، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى ، والسكران حتى يصحو)[88]
وقال: (من شرب الخمر
فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه ،
فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب
الله عليه ، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار
فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة
الخبال ، قال : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عصارة أهل النار)[89]
وقال: ( لا يشرب
الخمر رجل من أمتي فتقبل له صلاة أربعين صباحا)[90]
وقال: (كل مخمر خمر
وكل مسكر حرام ، ومن شرب مسكرا نجست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه ، فإن
عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال يا
رسول الله ؟ قال صديد أهل النار ، ومن سقى صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا
على الله أن يسقيه من طينة الخبال)[91]
وقال: (من شرب الخمر
لم يرض الله عنه أربعين ليلة فإن مات مات كافرا وإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد
كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟
قال صديد أهل النار)[92]
وقال: (من شرب الخمر
سخط الله عليه أربعين صباحا وما يدريه لعل منيته تكون في تلك الليالي ، فإن عاد
سخط الله عليه أربعين صباحا وما يدريه لعل منيته تكون في تلك الليالي ، فإن عاد
سخط الله عليه أربعين صباحا فهذه شرون ومائة ليلة ، فإن عاد فهو في ردغة الخبال ،
قيل : وما ردغة الخبال ؛ قال : عرق أهل النار وصديدهم)[93]
وقال: (من شرب الخمر
لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم تقبل له صلاة
أربعين صباحا ، فإن تاب تاب الله عليه ؛ فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ،
فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، فإن تاب لم يتب
الله عليه وسقاه من نهر الخبال)[94]
ومن ذلك إخباره r أن الخمر مفتاح للآثام:
قال r : (اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر)[95]
وقال: ( الخمر جماع
الإثم ، والنساء حبائل الشيطان ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة)[96]
وعن أبي الدرداء ـ
رضي الله عنه ـ قال : (أوصاني خليلي r أن لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وإن حرقت
، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ، ولا تشرب
الخمر فإنها مفتاح كل شر)[97]
وحكى: ( أن ملكا من
ملوك بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل
لحم خنزير أو يقتلوه ، فاختار الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أرادوه
منه)
[98]
وقال: (اجتنبوا أم
الخبائث ، فإنه كان رجل ممن كان قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة فأرسلت
إليه خادما: إنا ندعوك لشهادة، فدخل فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى إذا أفضى
إلى امرأة وضيئة جالسة، وعندها غلام وباطية فيها خمر فقالت: إنا لم ندعك لشهادة،
ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام، أوتقع علي، أو تشرب كأسا من الخمر، فإن أبيت صحت بك
وفضحتك ، فلما رأى أنه لا بد له من ذلك قال: اسقيني كأسا من الخمر، فسقته كأسا من
الخمر، فقال: زيديني، فلم يزل حتى وقع عليها وقتل النفس ؛ فاجتنبوا الخمر فإنه
والله لا يجتمع إيمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدا ليوشكن أحدهما يخرج صاحبه)[99]
ومن ذلك تبيين العقوبات الدنيوية التي يمكن أن تحل بالمدمنين على الخمر المستحلين لها
.. قال رسول الله r: (يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب
ولعب ولهو، فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس
فيقولون: خسف الليلة ببني فلان وخسف الليلة بدار فلان خواص ، ولترسلن عليهم حجارة
من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور ، ولترسلن عليهم الريح
العقيم التي أهلكت عادا على قبائل فيها وعلى دور بشربهم الخمر ولبسهم الحرير
واتخاذهم القينات وأكلهم الربا وقطيعتهم الرحم)[100]
وقال: (إذا فعلت
أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ، قيل وما هن يا رسول الله ؟ قال : إذا كان
المغنم دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجته ، وعق أمه ،
وبر صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ،
وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القينات ، والمعازف
، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا)[101]
وقال:( والذي نفسي
بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحون قردة وخنازير باستحلالهم
المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير)[102]
وقال: (يشرب ناس من
أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم
الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير)[103]
وقال: (في هذه الأمة
خسف ومسخ وقذف ، قال رجل من المسلمين : يا رسول الله متى ذلك ؟ قال: (إذا ظهرت
القينات أو القيان والمعازف وشربت الخمور)[104]
: (إذا استحلت أمتي
خمسا فعليهم الدمار : إذا ظهر التلاعن وشربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القيان
واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء)[105]
ومن ذلك إخباره r أن من شرب الخمر في الدنيا لن يشربها في
الآخرة:
قال r: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا
فمات وهو يدمنها لم يشربها في الآخرة)[106]
وقال: (من شرب الخمر
في الدنيا ولم يتب لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة)[107]
وقال: (من شرب الخمر
في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة)[108]
ومن ذلك إخباره عن أنواع العقوبات التي ينالها من شرب الخمر:
قال r:( من شرب الخمر أتى عطشان يوم القيامة ، ألا فكل مسكر
خمر وكل خمر حرام ، وإياكم والغبيراء)[109]
وقال: (ثلاثة لا
يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر ، ومن مات مدمن الخمر
سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة، قيل : وما نهر الغوطة ؟ قال: نهر يجري من فروج
المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم[110].
وقال: ( لا يدخل
الجنة مدمن خمر ، ولا مؤمن بسحر ، ولا قاطع رحم)[111]
وقال: (أربع حق على
الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال
اليتيم بغير حق ، والعاق لوالديه)[112]
وقال: (لا يلج حائط
القدس مدمن خمر ، ولا العاق ، ولا المنان عطاءه)[113]
وقال: (مدمن الخمر
إن مات لقي الله كعابد وثن)[114]
وقال: ( من لقي الله
مدمن خمر لقيه كعابد وثن)[115]
وقال: ( لا يدخل
الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان)[116]
وقال: (ثلاثة قد حرم
الله تبارك وتعالى عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والديوث الذي يقر في أهله
الخبث)[117]
وقال: ( يراح ريح
الجنة من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر)[118]
وقال: (ثلاثة لا
يدخلون الجنة أبدا ، الديوث ، والرجلة من النساء ، ومدمن الخمر ، قالوا: يا رسول
الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث ؟ قال : الذي لا يبالي من دخل على أهله
.. قالوا: فما الرجلة من النساء ؟ قال : التي تشبه بالرجال[119].
وقال: (ما من أحد
يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها
عليه الجنة فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية)[120]
وقال: (من شرب الخمر
سقاه الله من حميم جهنم)[121]
وقال: ( كل مسكر
حرام، وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)، قالوا: يا
رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)[122]
وقال: (إن الله
بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات[123]
.. وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم
جهنم معذبا أو مغفورا له ، ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها من
حظيرة القدس)[124]
وقال: (من ترك الخمر
وهو يقدر عليه إلا سقيته منه من حظيرة القدس ، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه إلا
كسوته إياه في حظيرة القدس)[125]
وقال: ( من سره أن
يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في
الآخرة فليتركه في الدنيا)[126]
وقال: ( من شرب حسوة
من خمر لم يقبل الله منه ثلاثة أيام صرفا ولا عدلا ، ومن شرب كأسا لم يقبل الله
صلاته أربعين صباحا ، والمدمن الخمر حق على الله أن يسقيه من نهر الخبال ، قيل يا
رسول الله وما نهر الخبال ؟ قال صديد أهل النار)[127]
وقال: ( من مات من
أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ، ومن مات من أمتي وهو يتحلى
الذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة)[128]
وقال: (من فارق
الدنيا وهو سكران دخل القبر سكران وبعث سكران وأمر به إلى النار سكران إلى جبل
يقال له سكران فيه عين يجري منها القيح والدم وهو طعامهم وشرابهم ما دامت السموات
والأرض)[129]
وقال: (من ترك
الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة
أربع مرات سكرا كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال
؟ قال : عصارة أهل جهنم)[130]
وقال: (من ترك
الصلاة سكران مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها)[131]
بعد كل هذه
التوجيهات وغيرها .. وبعد هذه التربوية النبوية العميقة لأجيال الأمة جاءت الشريعة
بالعقوبة التي تردع النفوس التي لا يردعها إلا الألم.. وهي عقوبة مضبوطة بالضوابط
الشرعية كسائر العقوبات حتى لا يستغلها المتعسفون[132] .. وهي عقوبة لا
تمس غير المسلمين المواطنين في بلاد الإسلام[133] باعتبارها من
الدين الذي جاء الإسلام بتحريره من كل إكراه.
قلنا: فما هذه
العقوبة؟
قال: لم تحد الشريعة
لذلك حدا دقيقا مضبوطا .. تاركة ذلك للإمام العادل .. فيمكنه أن يجلده أربعين ..
ويمكنه أن يجلده ثمانين .. ويمكنه أن يضيف
لذلك ما يرى فيه تحقيق مصلحة الردع[134].
بل قد ورد في النصوص
من التشديدا على من يعود لشرب الخمر ما يفتح المجال واسعا أمام ولي الأمر ليقضي
على هذه الآفة[135]:
فمن ذلك قوله r : (من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)[136]
وقوله: (إذا شربوا
الخمر فاجلدوهم ، ثم إن شربوا فاجلدوهم ، ثم إن شربوا فاجلدوهم ، ثم إن شربوا
فاقتلوهم)[137]
وقوله: (إذا سكر
فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ، ثم إن سكر فاجلدوه ، ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه)[138]
لست أدري كيف صحت:
القتل .. هنا أيضا!؟
نظر إلي مبتسما،
وقال: شريعة الله لا تحكم بالقتل لأجل القتل .. هي شريعة حياة لا شريعة موت ..
ولكنها تردع بالقتل، فمن النفوس من لا يقهر نوازعها الشريرة إلا القتل أو التهديد
بالقتل .. لقد قال الله تعالى يبين ذلك:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179) .. انظروا كيف ختم
الآية بـ :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ليبين أن الهدف من التشريعات هو الردع
أكثر منه التنفيذ.
سكت قليلا، ثم قال:
لقد استوى الكتاب المقدس مع القرآن الكريم في تحريم الخمر .. ففيه:( وَقَالَ
الرَّبُّ لِهَارُونَ: خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ
عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضاً
دَهْرِيّاً فِي أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ
وَبَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ وَلِتَعْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ
الْفَرَائِضِ الَّتِي كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ بِهَا بِيَدِ مُوسَى) (لاويين 10: 8-11
)
وفيه ( مِنْ كُلِّ
مَا يَخْرُجُ مِنْ جَفْنَةِ الْخَمْرِ لاَ تَأْكُلْ, وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ
تَشْرَبْ, وَكُلَّ نَجِسٍ لاَ تَأْكُلْ. لِتَحْذَرْ مِنْ كُلِّ مَا
أَوْصَيْتُهَا)( قضاة 13: 14)
وفيه ( لَيْسَ
لِلْمُلُوكِ يَا لَمُوئِيلُ لَيْسَ لِلْمُلُوكِ أَنْ يَشْرَبُوا خَمْراً وَلاَ
لِلْعُظَمَاءِ الْمُسْكِرُ. لِئَلاَّ يَشْرَبُوا وَيَنْسُوُا الْمَفْرُوضَ
وَيُغَيِّرُوا حُجَّةَ كُلِّ بَنِي الْمَذَلَّةِ. أَعْطُوا مُسْكِراً لِهَالِكٍ
وَخَمْراً لِمُرِّي النَّفْسِ. يَشْرَبُ وَيَنْسَى فَقْرَهُ وَلاَ يَذْكُرُ
تَعَبَهُ بَعْدُ) (الأمثال31: 4-7 )
ولكن بولس .. بولس
الرسول .. نسخ كل ذلك، وراح يقول لكل قارئ للكتاب المقدس ناصحا له:( اعطوا مسكرا
لهالك و خمرا لمريئ النفس يشرب وينسى فقره ولايذكر تعبه9 (الامثال6:31).. وقال ناصحا أحد رعاياه
المتحولين حديثا إلى المسيحية، ويدعى تيموثاس ـ قائلا: (لاتكن فيما بعد شراب ماء
بل استعمل خمرا قليلا من أجل معدتك و اسقامك الكثيرة) ( رسالة بولس الى ثيموثاوس
23:5 )
قارنوا هذه النصيحة
الغالية بما قاله ابن القيم، وهو يصف أضرار الخمر التي دعت الشريعة إلى تحريمها ..
قال:( فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل ويكثر اللغو على شربها بل لا
يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو وتنزف في نفسها وتنزف المال وتصدع الرأس .. وهي كريهة
المذاق .. وهي رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر
الله وعن الصلاة .. وتدعو إلى الزنا وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات
المحارم .. وتذهب الغيرة .. وتورث الخزى والندامة والفضيحة .. وتلحق شاربها بأنقص
نوع الإنسان وهم المجانين .. وتسلبة أحسن الأسماء والسمات .. وتكسوه أقبح الأسماء
والصفات .. وتسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه .. ومؤاخاة
الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياما له ولم يلزمه مؤنته .. وتهتك
الأستار .. وتظهر الأسرار .. وتدل على العورات .. وتهون ارتكاب القبائح والمآثم ..
وتخرج من القلب تعظيم المحارم .. ومدمنها كعابد وثن .. وكم أهاجت من حرب .. وأفقرت
من غنى .. وأذلت من عزيز .. ووضعت من شريف .. وسلبت من نعمة .. وجلبت من نقمة ..
وفسخت من مودة .. ونسجت من عداوة .. وكم فرقت بين رجل وزوجته فذهبت بقلبه وراحت
بلبه .. وكم أورثت من حسرة .. وأجرت من عبرة .. وكم أغلقت في وجه شاربها بابا من
الخير وفتحت له بابا من الشر .. وكم أوقعت في بلية وعجلت من منيته .. وكم أورثت من
خزية وجرت على شاربها من محبة وجرت عليه من سفلة .. فهي جماع الإثم ومفتاح الشر ..
وسلابة النعم .. وجلابة النقم .. ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر
الجنة في جوف عبد لكفى)[139]
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعت لردع اللصوص.
قال: لقد نظرت
الشريعة إلى السرقة[140]
وأخواتها من الاختلاس[141]
.. والجحود[142]
.. والحرابة[143]
.. والغصب[144]
.. والنّبش[145]
.. والنّشل[146]
.. والنّهب[147]
.. وغيرها .. على أنها اعتداء على الأموال .. التي اعتبرت حفظها لأهلها مقصدا من مقاصد
الدين.
ولذلك عالجت الظاهرة
بجملة معالجات:
بدأت بالحث على الكسب الحلال، واعتبرته من الفرائض التي يؤجر فاعلها:
قال رسول الله r : (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب به إلى
الجبل فيحتطب ثم يأتي فيحمله على ظهره فيأكل خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله
عليه)[148]
وقال: ( طلب الحلال
واجب على كل مسلم)[149]
وقال: ( طلب الحلال
فريضة بعد الفرائض)[150]
وقال: (من أكل طيبا
وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة ، قالوا يا رسول الله : إن هذا في أمتك
اليوم كثير ، قال: وسيكون في قرون بعدي)[151]
وقال: (أربع إذا كن
فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خلق ، وعفة في
طعمة)[152]
وقال: ( طوبى لمن
طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره)[153]
ثم عمقت ذلك بالترهيب من الحرام .. باعتبار أن آكل الحرام لن ينال أي بركة، ولن ينزل عليه من الله أي خير..
حتى دعاؤه لا يستجاب، وعمله لا يقبل:
قال رسول الله r:( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا
مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ (المؤمنون:51)، وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172)، ثم
ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام
ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)[154]
وقال لسعد: ( يا سعد
أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة .. والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام
في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى
به)[155]
وقال: (إنه لا دين
لمن لا أمانة له ولا صلاة ولا زكاة ، إنه من أصاب مالا من حرام فلبس جلبابا يعني
قميصا لم تقبل صلاته حتى ينحي ذلك الجلباب عنه ؛ إن الله تبارك وتعالى أكرم وأجل
من أن يقبل عمل رجل أو صلاته وعليه جلباب من حرام)[156]
وقال:( من اشترى
ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه)[157]
ثم قطعت الطريق على من يريد أن يحتال باستعمال الحرام في الخير
والإحسان، فأخبرت أن ذلك لن يقبل منه:
قال رسول الله r: ( من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر
وكان إصره عليه)[158]
وقال: ( من كسب مالا
حراما فأعتق منه ووصل منه رحمه كان ذلك إصرا عليه)[159]
وقال: (إن الله قسم
بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ،
ولا يعطي الدين إلا لمن يحب ، ومن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا
يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ، قالوا: وما
بوائقه يا رسول الله ؟ قال: (غشه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق منه فيقبل
منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظفره إلا كان زاده إلى النار، إن
الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو
الخبيث)[160]
ثم ملأت القلوب رعبا من الحرام عندما ربطته بعذاب الله الشديد:
قال تعالى:﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10)
وعندما سئل r عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: الفم والفرج ، وسئل
عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق[161].
وقال r:( ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن
عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ،
وعن علمه ماذا عمل فيه)[162]
وقال: (الدنيا خضرة
حلوة ، من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته ،
ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان ، ورب
متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة، يقول الله تعالى :﴿
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ (الاسراء: من الآية97)[163]
وقال: ( لا يدخل
الجنة لحم ودم نبتا من سحت والنار أولى به)[164]
وقال: ( لا يربو لحم
نبت من سحت[165]
إلا كانت النار أولى به)[166]
بعد ذلك اعتبرت كل من شارك في الحرام آكلا له .. قال رسول الله r:( من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد
اشترك في عارها وإثمها)[167]
بعد كل
ذلك شرعت الشريعة الحكيمة العقوبة الشديدة التي تردع النفوس التي لا يردعها إلا الألم .. وقد وضعت من الضوابط التي تحفظ
ذلك ما يقيها من كل استعمال سيء.. وهي ضوابط دقيقة ترتبط بالسّارق .. وبالمسروق
منه .. وبالمال المسروق .. وبجميع
الملابسات المرتبطة بالجريمة .. حتى يؤدي هذا الحكم الغرض الذي قصد منه.
فاشترطت في السارق أن يكون بالغا ..
وأن يكون عاقلا[168]..
وأن يكون عالما
بتحريم السّرقة[169] .. وأنّه يأخذ
مالاً مملوكاً لغيره دون علم مالكه وإرادته[170] ..
وأن تنصرف نيّته إلى
تملّكه[171]
..
وأن يكون مختاراً
فيما فعل[172]
..
وألاّ يكون مضطرّاً
إلى الأخذ[173]
..
وأن تنتفي الجزئيّة
بينه وبين المسروق منه[174] ..
وألاّ تكون عنده
شبهة في استحقاقه ما أخذ[175].
وقد روي أن رقيقا
لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر
كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم.. ثم قال: والله لأغرمنك
غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من
أربعمائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم.
ويروى أن عمر بن
الخطاب، بعد أن أمر كثير بن الصلت بقطع أيدي الذين سرقوا، أرسل وراءه من يأتيه
بهم، فجاء بهم، فقال لعبد الرحمن بن حاطب: (أما لولا أني أظنكم تستعملونهم
وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذ تركتهم لأغر
منك غرامة توجعك)
واشترطت
الشريعة في المسروق منه أن أن يكون معلوماً[176]
..
وأن تكون يده صحيحةً
على المال المسروق[177] ..
وأن يكون معصوم
المال[178]..
واشترطت
في المال المسروق أن يكون متقوّماً[179]
..
وأن يبلغ نصاباً[180]
..
وأن يكون مالا
محترماً شرعاً[181]..
وأن يكون أخذه على
جهة الاختفاء والاستتار..
وانطلاقا من هذا نص
الفقهاء على أن حد السرقة لا يشمل الخائن، ولا المنتهب، ولا المختلس، .. وإن وجب
التعزير بدل ذلك، قال رسول الله r:( ليس على خائن[182]،
ولا منتهب[183]،
ولا مختلس[184]
قطع)[185]
لقد ذكر ابن القيم
علة ذلك، فقال:( وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب،
والغاصب، فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب
الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك،
فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق،
بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس،
فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما
المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط
يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس
كالسارق، بل هو بالخائن أشبه.. وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله
غالبا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن
الاحتراز منه غالبا، فهو كالمنتهب، وأما الغاصب فالامر منه ظاهر، وهو أولى بعدم
القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل
والعقوبة بأخذ المال)
وفوق ذلك
كله، فقد نص الفقهاء على أنه يندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط به
الحد، ففي الحديث أن النبي r أتي بلص اعترف، ولم يوجد معه متاع، فقال
له رسول الله r: (ما إخالك[186]
سرقت)؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا[187]..
وقال عطاء: (كان من
قضى[188]
يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا.. وسمى[189] أبا بكر وعمر ـ
رضي الله عنهما ـ
وروي أن أبا الدرداء
أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا.. فقالت: لا. فخلى سبيلها.
وعن عمر أنه أتي
برجل سرق فسأله:( أسرقت؟ قل: لا)، فقال: لا .. فتركه.
قلنا: فما هذا الألم
الذي شرعته الشريعة لذلك .. ووضعت له كل هذه الضوابط؟
قال: لقد عبر القرآن
الكريم عن ذلك في قوله تعالى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) (المائدة:38) .. فهذه الآية تنص على أن كلا من السارق والسارقة اللذين
توفرت فيهما صفات الجريمة يعاقبان بقطع اليد[190].
لست أدري كيف صحت من
غير أن أشعر: تقطع يده!؟ .. إن ذلك لشديد.
نظر إلي، والبسمة
على شفتيه، وقال: ولكن الكتاب المقدس يصرح به، بل يصرح بما هو فوقه .. ليس في
السرقة وحدها .. بل في السرقة وغيرها ..
ألم تقرأ ما ورد في
(تثنيه 25 /11-12):( اذا تخاصم رجلان بعضهما بعضا، رجل وأخوه، وتقدمت امرأة أحدهما
لكي تخلّص رجلها من يد ضاربه ومدّت يدها وأمسكت بعورته فاقطع يدها ولا تشفق عينك)؟
ألم تقرأ ما ورد في
( سفر الخروج 22 /2):( إن وجد السارق وهو ينقب فضرب ومات فليس له دم)؟
ألم تقرأ ما ورد في
( تثنيه24 /7):( إذا وجد رجل قد سرق نفسا من إخوته بني إسرائيل واسترقه وباعه يموت
ذلك السارق فتنزع الشر من وسطك)؟
ألم تقرأ ما ورد في
( زكريا :5):( فقال لي هذه هي اللعنة الخارجة على وجه كل الارض. لأن كل سارق يباد
من هنا بحسبها، وكل حالف يباد من هناك بحسبها)؟
ألم تقرأ ما ورد في
( زكريا5 /3):( أني أخرجها يقول رب الجنود فتدخل بيت السارق وبيت الحالف باسمي
زورا وتبيت في وسط بيته وتفنيه مع خشبه وحجارته)؟
فهذا أمر الله لموسى
وغيره من الأنبياء فلماذا لا يطبقه من يقدس الكتاب المقدس .. قد يقولون: إن النص
منسوخ.. يحق لهم ذلك .. ولكن أين النص الذي يدل على النسخ .. ؟
قال رجل منا: دعنا
من الكتاب المقدس .. نحن في عصر تجاوز كل المقدسات .. لقد وصل خبراء القانون إلى
وضع شرائع لها من القوة ما يكفي لردع كل المجرمين[191].
ابتسم عبد القادر،
وقال: صدقت .. لقد استطاعت الحضارة الحديثة أن توفر كليات كثيرة تصنع المجرمين ..
يدخل فيها المجرم تلميذا في المدرسة الابتدائية ليخرج منها صاحب شهادة عالية.
قال الرجل: أراك
تتهكم؟
قال عبد القادر: أنا
لا أقول إلا الحقيقة .. هل ترى من المعقول أن تضع المريض بجنب مرضى كثيرين، كل منهم
مصاب بمرض من الأمراض المعدية .. ثم ترجو له الشفاء بعد ذلك؟
قال الرجل: ولكنه
يخضع في السجن لتوجيهات؟
قال عبد القادر:
التوجيهات التي يلتقاها من زملائه لا تقاومها أي توجيهات ولا توازيها.
لقد علمتنا الشريعة
أن نضع من حدثته نفسه بالإجرام في مصحات صحية لا في مصحات مرضية .. لينال من صحة
الأصحاء لا لينال من مرض المرضى[192].
قال الرجل: ولكن
لماذا القطع بالذات!؟
قال عبد القادر: لقد
لاحظت الشريعة الدافع النفسي للجريمة .. فلذلك راحت تدفعه .. وتستعمل الألم وسيلة
من وسائل دفعه:
لقد لاحظت أن السارق
حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه
عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع
في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح
من عناء الكد والعمل، أو ليأمن على مستقبله.
فالدافع الذي يدفع
إلى السرقة يرجع إلى هذه الاعتبارات: وهو زيادة الكسب، أو زيادة الثراء ..
وقد حاربت الشريعة
هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع .. لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى
نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة عل أي كان, ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء,
وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور, ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة
العمل والتخوف الشديد على المستقبل.
ولهذا، فإن الشريعة
بتقديرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل
نفسية مضادة تصرف عن الجريمة, فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان
الجريمة مرة أخرى كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل
النفسية الصارمة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية[193].
قال الرجل: ولكن ..
مع ذلك .. فإن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية الحديثة ..
إن هذا بالنسبة لها شيء في غاية البشاعة.
قال عبد القادر:
وماذا عند الإنسانية الحديثة من حلول؟
وهل ترى هذه
الإنسانية من الحكمة أن تقابل السارق بالمكافأة على جريمته, وأن تشجعه على السير
في غوايته؟
وهل تنصحنا أن نعيش
في خوف واضطراب, وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص؟
وهل الإنسانية تعني
أن ننسى طبائع البشر, ونتجاهل تجارب الأمم, ونلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل
إليها تفكيرنا لنأخذ بما يقوله من لا يجد لأقواله دليلاً إلا التهويل والتضليل؟
بعد ذلك .. لماذا
توجب هذه الإنسانية الرحيمة الأشغال الشاقة المؤبدة على بعض جرائم السرقة، وتوجب
الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة في بعض آخر؟
فكيف ترضى هذه
الإنسانية الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه في السجن كما يوضع الحيوان في قفصه، أو
الميت في قبره طول هذه المدة محروماً من حريته بعيداً عن أهله وذويه؟
وأيهما أقسى: قطع يد
المحكوم عليه وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا
الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته ورجولته؟
ثم إن هذه الإنسانية
نفسها تبيح عقوبة الإعدام، وهي تؤدي إلى إزهاق الروح وفناء الجسد، أما عقوبة القطع
فهي تؤدي إلى فناء جزء من الجسد فقط, فمن رضي بعقوبة الإعدام ـ وأنتم بها راضون ـ
وجب أن يرضى بعقوبة القطع؛ لأنها جزء من كل، ومن لم يستفظع عقوبة الإعدام فليس له
أن يستفظع عقوبة القطع بأي حال.
ثم بعد ذلك كله ..
فإن الشريعة الإسلامية حين قررت عقوبة القطع ـ بتلك الضوابط الكثيرة ـ لم تكن
قاسية, فهي الشريعة الوحيدة في العالم التي لا تعرف القسوة، وما يراه البعض قسوة
إنما هو القوة والحسم اللذان تمتاز بهما الشريعة يتمثلان في العقوبة كما في
العقيدة وفي العبادات وفي الحقوق وفي الواجبات.
سكت قليلا، ثم قال:
أتدرون غلاوة اليد التي أمر الله بقطعها بسبب هذه الجريمة؟
قال بعضنا: لو كانت
غالية ما أمر بقطعها.
قال عبد القادر: لا
.. بل هي غالية في الشريعة غاية الغلاوة .. وقد استغرب بعض المتمردين هذا، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض مالنا إلا السكوت له
ونستجير بمولانا من العار
وقد رد على هذا بعض
أهل الله، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها
ذل الخيانة فانظر حكمة الباري
قال رجل منا: صدق في
هذا .. ولكن الذي يستغرب هو أنه ـ مع تشدد الشريعة في الحفاظ على الحقوق ـ لم تركت
الكثير ممن لم تتوفر فيهم شروط الحد مهملين من أي عقوبة؟
قال عبد القادر: لا
.. الشريعة لم تمهل أي مجرم .. ولكنها قسمت الجرائم إلى قسمين: خفيفة وغليظة ..
أما الغليظة، فوضعت
لها الحدود .. وأما الخفيفة فوضعت لها التعازير ..
وبناء على هذا نص
الفقهاء على أن كل سرقة لم تتوفر فيها شروط إقامة الحد توجب التعزير، وقد قضى
الرسول r بمضاعفة الغرم على من سرق ما لاقطع فيه:
قضى بذلك في سارق الثمار المعلقة، وسارق الشاة من المرتع.
ففي الصورة الاولى،
أسقط القطع عن سارق الثمر والكثر[194]، وحكم أن من أصاب
شيئا منه بفمه وهو محتاج إليه فلا شئ عليه، ومن خرج منه بشئ فعليه غرامة مثليه،
والعقوبة، ومن سرق منه شيئا في جرينه، فعليه القطع إذا بلغت قيمة المسروق النصاب
الذي يقطع فيه.
وفي الصورة الثانية،
قضى في الشاة التي تؤخذ من مرتعها بثمنها مضاعفا وضرب نكال[195]
وقضى فيما يؤخذ من عطنه بالقطع، إذا بلغ النصاب الذي يقطع فيه سارقه[196].
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعتها الشريعة لردع المحاربين[197].
قال: لقد اعتبرت
الشريعة الحرابة وقطع الطريق وترويع الآمنين من أكبر الجرائم .. ولذلك أطلق القرآن
الكريم على المتورطين بارتكابها أقسى عبارة، فجعلهم محاربين لله ورسوله، وساعين في
الأرض بالفساد، وغلظ عقوبتهم تغليظا لم يجعله لجريمة أخرى.. قال الله تعالى:﴿
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ﴾ (المائدة: 32)
وقد ذكر المفسرون في
سبب نزول هذه الآية: أن العرنيين[198] قدموا المدينة
فأسلموا، واستوخموها[199]، وسقمت أجسامهم،
فأمرهم النبي r بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم
بلقاح[200]
ليشربوا من ألبانها وأبوالها[201]، فانطلقوا، فلما
صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام وساقوا الإبل.. فبعث النبي r في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم، فأمر بهم فقطع
أيديهم وأرجلهم وتسمل[202] أعينهم، وتركهم في
الحرة[203]
يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
قال أبو قلابة:
فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله
عزوجل الآية.
انظروا المأساة التي
فعلها المجرمون .. وانظروا هذا الجزاء الذي قابلوا به الإحسان ..
إن من ينظر إلى
هؤلاء بعين الرحمة .. فيطلب تخفيف العقوبة عنهم .. لا ينظر ـ في الحقيقة ـ إلا
بعين القسوة لأولئك الرعاة البسطاء الذين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم أطعموهم
وسقوهم وعالجوهم.
ولهذا فإن الشريعة
تشددت مع هؤلاء .. سواء في النظرة إليهم أو في عقوبهتهم.
أما في النظرة إليهم
.. فقد نفى رسول الله r نسبة هؤلاء المفسدين إلى الإسلام، وإلى
أمة الإسلام، فقال :( من حمل علينا السلاح فليس منا[204])[205]
واعتبر r هذا الفعل من الجاهلية، فقال:( من خرج على الطاعة،
وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية)[206]
ليس ذلك فقط .. بل
إنه تشدد في كل من يمد إليهم يد العون بأي طريق من الطرق حتى أن من الفقهاء من
اعتبر المعين محاربا[207].
وفي الحديث قال رسول
الله r :( من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة
لقي الله وهو مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)[208]
وقال r:( لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما، فإن اللعنة
تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)[209]
وقال:( من جرح ظهر
مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)[210]
وقال :( ظهر المؤمن
حمى إلا بحقه)
[211]
وقال:( لا يشهد
أحدكم قتيلا لعله أن يكون مظلوما فتصيبه السخطة)[212]
أما في عقوبتهم .. فقد أنزل عليهم أشد عقوبة ..
وهي عقوبة الألم التي لا تدفع النوازع الشريرة إلا بها.
قلنا: فما الألم
الذي عاقبت به الشريعة هؤلاء؟
قال: لقد كان من
عدالة الشريعة أنها وضعت فروقا بين جرائم المحاربين .. ولهذا، فإنها عاقبتهم على
أساسها[213]
..
لقد وضعت الشريعة
لاستئصال جريمة الحرابة أربع عقوبات هي: القتل.. والقتل مع الصلب.. والقطع..
والنفي.. وقد نص على هذه العقوبات في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَاء
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم
مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ﴾ (المائدة: 32)
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الأولى.
قال: العقوبة الأولى
هي القتل .. وهي تجب على قاطع الطريق
إذا قتل باعتبارها حدا لا قصاصا .. ولهذا، فإنها لا تسقط بعفو ولي المجني عليه.. وقد
وضعت الشريعة هذه العقوبة انطلاقا من المعرفة بطبيعة الإنسان، فالقاتل تدفعه إلى
القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقى هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما
يقتل نفسه أيضاً امتنع في الغالب عن القتل.
فالشريعة بذلك دفعت
العوامل النفسية الداعية للقتل بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي يمكن أن
تمنع من ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر الإنسان في قتل غيره ذكر أنه سيعاقب على فعله
بالقتل، فكان في ذلك ما يصرفه غالباً عن الجريمة.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الثانية.
قال: العقوبة
الثانية هي القتل مع الصلب[214] .. وقد وضعتها الشريعة عقوبة على قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال.. وهي تقابل
في عصرنا القتل رمياً بالرصاص، حيث يشد المحكوم عليه إلى خشبة على شكل الصليب، ثم
يطلق عليه الرصاص..
وقد شددت الشريعة في
هذه العقوبة لأنها عقوبة على جريمتين ـ القتل والسرقة معاً ـ كلتاهما اقترنت بالأخرى،
أو ارتكبت إحداهما وهي القتل لتسهيل الأخرى وهي أخذ المال.. ولذلك فإن هذه العقوبة
ـ أيضا ـ حد لا قصاص، فلا تسقط بعفو ولي المجني عليه.
وقد غلظت لأنه لما
كان الحصول على المال يشجع على ارتكاب الجريمة وجب أن تغلظ العقوبة، بحيث إذا فكر
الجاني في الجريمة وذكر العقوبة المغلظة وجد فيها ما يصرفه عن الجريمة المزدوجة.
وقد أحسنت الشريعة
في التفريق بين عقاب القتل وحده والقتل المقترن بأخذ المال؛ لأن الجريمتين
مختلفتان، وكلتاهما لا تساوي الأخرى، فوجب من ناحية المنطق والعقل أن تختلف عقوبة
إحداهما عن الأخرى.
قال رجل منا: لا أرى
أي فائدة في أي عقوبة أخرى مع عقوبة القتل، خاصة وأن الصلب مع القتل ليس إلا القتل
مصحوباً بالتهويل؛ فالصلب زيادة لا فائدة منها؟
ابتسم عبد القادر،
وقال: لكل عقوبة غرضان: تأديب الجاني، وزجر غيره، وإذا كان كل تأديب لغواً بعد
عقوبة القتل فكل عقوبة أخرى مهما صغرت لها أثرها في الزجر إذا صحبت عقوبة القتل،
والصلب حقيقة لا يؤثر على المحكوم عليه ـ خصوصاً إذا كان الصلب بعد الموت ـ ولكن
أثر الصلب على الجمهور شديد، بل قد يكون هو الشيء الوحيد الذي يجعل لعقوبة القتل
قيمتها بين الجمهور عامة، وبين قطاع الطرق خاصة، فالصلب له أثره الذي لا ينكر في
زجر الغير وكفه عن الجريمة.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الثالثة.
قال: العقوبة
الثالثة هي القطع .. وهي تجب على
قاطع الطريق إذا أخذ المال ولم يقتل .. وقد شدد فيها مقارنة بعقوبة السرقة الصغرى
.. فلذلك تتم بقطع يد المجرم اليمنى ورجله اليسرى دفعة واحدة؛ أي قطع يده ورجله من
خلاف.
وقد وضعت هذه
العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة السرقة إلا أنه لما كانت الجريمة
ترتكب عادة في الطرق وبعيداً عن العمران كان قاطع الطريق في أغلب الأمر على ثقة من
النجاح، وفي أمن من المطاردة، وهذا مما يقوي العوامل النفسية الداعية للجريمة
ويرجحها على العوامل الصارفة التي تبعثها في النفس عقوبة السرقة العادية، فوجب من
أجل ذلك تغليظ العقوبة حتى تتعادل العوامل النفسية التي تصرف عن الجريمة مع
العوامل النفسية التي تدعو إليها.
ولهذا، فإن عقوبة
قاطع الطريق هنا تساوي عقوبة السارق إذا سرق مرتين، وهي عقوبة لا شك في عدالتها،
لأن خطورة قاطع الطريق لا تقل خطورة عن ضعف خطورة السارق العادي، ولأن فرصة قاطع
الطريق في النجاح والإفلات قد تزيد على ضعف فرصة السارق العادي.
قال رجل منا: أنا
رجل لي علاقة بالقانون .. وقد رأيت أن الشريعة في هذا الجانب قد تسامحت مقارنة
بالقانون.. فالشريعة ـ كما ذكرت ـ ضاعفت
العقوبة المقررة للسرقة العادية وجعلتها عقوبة لقاطع الطريق بنيما القانون المصري
جعلها خمسة أمثال العقوبة المقررة للسرقة العادية على الأقل؛ لأنه يعاقب على
السرقة المصحوبة بظروف بسيطة بالحبس لمدة ثلاث سنوات، ويعاقب على السرقة التي تقع
في الطرقات العمومية بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الأشغال الشاقة المؤقتة، وعقوبة
الأشغال المؤقتة حدها خمسة عشر عاماً، فهي خمسة أمثال عقوبة الحبس من حيث عدد
السنوات.
فلماذا لا تسلك
الشريعة هذا المسلك المتشدد؟
قال: أجبني .. هل
ترى أن هذه القوانين المتشددة من السجن والأشغال الشاقة آتت أكلها؟
سكت الرجل قليلا، ثم
قال: صدقت في هذا .. وقد كنت أعمل في بعض المصالح التي لها علاقة بالسجون .. وقد
رأيت من خلال الإحصائيات[215] أن الواقع أثبت عدم جدوى هذا النوع من
العقوبات:
لقد دلت الإحصائية
رقم 44 من تقرير مصلحة السجون عن سنة 1938 - 1939 على أن 45 بالمائة من المحكوم
عليهم بالأشغال الشاقة عادوا إلى ارتكاب الجرائم بعد الإفراج عنهم بمدد تتراوح بين
خمسة عشر يوماً وسنة, بل إن هذه الإحصائية تدل على أن 43 بالمائة من المحكوم عليهم
بالإرسال لإصلاحية الرجال ما كادوا يخرجون من الإصلاحية حتى ارتكبوا جرائم أعادتهم
إليها, وأنهم ارتكبوا جرائمهم في مدة تتراوح بين 21 يوماً وسنة من تاريخ خروجهم من
الإصلاحية, والمفروض أن عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية من أكثر العقوبات ردعاً, وأن
المجرم لا يخرج منها إلا بعد أن تتوافر الأدلة على تركه الإجرام وميله إلى
الاستقامة.
ودلت الإحصائية رقم
47 من تقرير مصلحة السجون على أن حوالي ثلث الموجودين في إصلاحية الرجال دخلوها
للمرة الثانية والثالثة والرابعة..
ومما يدل على أثر
السجن بصفة عامة في نفوس المجرمين الإحصائية رقم 46 من تقرير مصلحة السجون لسنة
1938 - 1939, فهي تشير إلى أ نصف من في الإصلاحية تقريباً لهم سوابق في الإجرام من
خمس مرات إلى عشر, وأن حوالي الثلث لهم من عشر سوابق إلى خمس عشرة سابقة, وأن
الباقين تتراوح سوابقهم بين خمس عشرة سابقة وأربعين سابقة, فلو أن السجن يردع
المجرمين حقيقة لما عاد المجرم للإجرام خمس مرات وعشر مرات وأربعين مرة.
ومما يدل ـ أيضاً ـ
على أن عقوبة الحبس ليس لها أثر على المجرمين ازدياد جرائم العود سنة بعد أخرى,
فقد وصلت هذه الجرائم إلى 872 جناية في سنة 135 - 1936, ثم ارتفعت إلى 939 جناية
في سنة 1936 - 1937, ثم بلغت 1023 جناية في السنة التي تليها, وجنايات العود هذه
لا تقع إلا من المجرمين أرباب السوابق المتعددة.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة الرابعة التي شرعتها الشريعة لردع المحاربين.
قال عبد القادر:
العقوبة الرابعة هي النفي[216] .. وتجب على قاطع الطريق إذا أخاف الناس ولم يأخذ مالاً ولم يقتل..
وسر اختيار الشارع
لهذا النوع من العقوبة هو أن قاطع الطريق الذي يخيف الناس ولا يأخذ منهم مالاً ولا
يقتل منهم أحداً إنما يقصد الشهرة وبعد الصيت، فعوقب بالنفي الذي يؤدي إلى الخمول
وانقطاع الذكر.
بالإضافة إلى أنه
بتخويف الناس نفى الأمن عن الطريق وهو بعض الأرض، فعوقب بنفي الأمن عنه في كل
الأرض.
وفي كلا العلتين
تدفع العوامل النفسية التي تدعو للجريمة بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي
تصرف عن الجريمة.. فالمحارب إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر العقوبة فعلم
أنها تجر عليه الخمول .. وهو إذا فكر في الجريمة ليخيف الناس وينفي الأمن عنهم في
بعض الأرض ذكر العقوبة فعلم أنه سينفي عنه الأمن في كل الأرض، وحينئذ ترجح ـ في
أغلب الأحوال ـ العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية
إليها.
وعقوبة النفي ـ كما
هي في بعض المذاهب الفقهية[217] ـ تقابل عقوبة
الإرسال إلى الإصلاحية التي عرفتها أخيراً القوانين الوضعية، تلك العقوبة التي
تقوم على حبس المحكوم عليه في مكان خاص مدة غير محددة بشرط أن لا يحبس أكثر من مدة
معينة، انتظارا لتوبته وصلاحه .. وهذه العقوبة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة،
وهي من أحدث نظريات العقاب في القوانين الوضعية.
قال رجل منا: لقد
ذكرت لنا في كل حد من الحدود السوابقة الضوابط التي تضبط الحد من التعسف في تطبيقه.. فما ضوابط هذا الحد؟
قال: لقد اختلفت
نظرات الفقهاء لهذا .. فمنهم المتشدد الممعن في تشدده، ومنهم المتساهل الممعن في
تساهله ..
فمن المتشددين ابن
ابن حزم[218]
الذي ذكر شروط المحارب بقوله:( إن المحارب هو المكابر، المخيف لأهل الطريق، المفسد
في سبل الارض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا، سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة،
أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء، فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين
في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم
غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ
مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا)
ومنهم الفقيه
المعاصر سيد سابق الذي قال عند تعريفه للحرابة:( هي خروج طائفة مسلحة في دار
الإسلام، لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الاموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث
والنسل، متحدية بذلك الدين والاخلاق والنظام والقانون.
ولا فرق بين أن تكون
هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو الحربيين، مادام ذلك في دار
الإسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل الحرابة من المسلمين والذميين.
وكما تتحقق الحرابة
بخروج جماعة من الجماعات، فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الافراد، فلو كان لفرد من
الافراد فضل جبروت وبطش، ومزيد قوة وقدرة يغلب بها الجماعة على النفس والمال،
والعرض، فهو محارب وقاطع طريق.
ويدخل في مفهوم
الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الاطفال، وعصابة اللصوص
للسطو على البيوت، والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال
الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الامن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب.
وكلمة الحرابة
مأخوذة من الحرب، لان هذه الطائفة الخارجة على النظام تعتبر محاربة للجماعة من
جانب ومحاربة للتعاليم الاسلامية التي جاءت لتحقق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ
على حقوقها، من جانب آخر، فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يعتبر محاربة)
[219]
ومن المتساهلين من الفقهاء من اعتبر في شروط
الحرابة: الالتزام[220] .. والتّكليف[221] .. ووجود السّلاح معهم[222] .. والبعد عن العمران[223] .. والذّكورة[224] .. و المجاهرة[225]
..
قال الرجل: فماذا
يفعل الإمام الحاكم أمام هذا الخلاف؟ .. هل يفتي فيه بهواه؟
قال: لا .. هو ينظر
في الخلاف مع الخبراء والمستشارين ليتناول منه ما يصلح به الواقع الذي أمر
بإصلاحه.
قال الرجل: كيف؟ ..
وهو يرى أقوالا متناقضة.
قال: لا .. هي ليست
متناقضة .. لأن الذي تساهل لم يتساهل مطلقا .. وإنما أخرج العقوبة من كونها حدا
إلى كونها تعزيرا .. وفي التعزير للإمام السلطة بأن يختار منه ما يراه رادعا.
قلنا: فما نواحي
الرحمة التي تكتنف هذه العقوبة؟
قال: هما رحمتان ..
أما الأولى .. فهي أنه لا يحكم على أحد بكونه محاربا إلا إذا ثبت عنه ذلك بالدليل
القاطع النافي للشبهة[226].. فالشريعة تدرأ
الحدود بالشبهات.
والثانية .. هي أنها
أعطت فرصة للمحاربين للتراجع والتوبة[227] .. وفي ذلك الحين
تخفف عنهم العقوبات، ولا يبقى منها إلا ما يرتبط بحقوق العباد التي يمكن أن
يتصالحوا فيها فيما بينهم.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك، ويعقب به آية العقوبة :﴿
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:34)
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعتها الشريعة لردع البغاة[228].
قال: لقد عرفتم أن من
مقاصد الشريعة حفظ الأمن ورعاية العدالة وتوفير الاستقرار .. وكل ذلك لا يتم إلا
تحت نظام سياسي يسوس الرعية ويؤمها ويحفظ نظامها .. ولذلك كان حفظ هذا النظام
مقصدا من مقاصد الدين .. وكان البغي الذي هو تحطيم هذا النظام خرقا خطيرا لتلك
المقاصد الرفيعة التي لا تستقر الحياة إلا بها.
ولهذا بدأت الشريعة
في توفير هذه القناعات وتربية النفوس عليها بوضع نظام سياسي ممتلئ بالعدالة ..
نظام يعتمد على حاكم تقي ورع عالم خبير يملأ الأرض التي يليها عدلا وأمانة ورحمة..
فليس هناك شيء يقطع دابر البغي والبغاة مثل العدالة.
بعد ذلك حرمت
الشريعة نكث البيعة إلا في الضرورات القصوى[229] .. ففي الحديث قال
رسول الله r : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا
ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل
، ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير
ذلك ، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا ، فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها
لم يف)[230]
بعد ذلك حرمت البغي
.. وهو الخروج على الإمام ولو جائرا إلا للضرورة الشديدة، قال تعالى :﴿
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
(الشورى:42)
وفي الحديث قال رسول
الله r : (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا
يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد)[231]
وقال r : (ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في
الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)[232]
وقال : (ليس شيء مما
عصي الله به هو أعدل عقابا من البغي)[233]
بعد ذلك كله جاءت
العقوبات الرادعة لتخاطب النفوس التي لا يقهرها إلا الألم ..
قلنا: فما هذه
العقوبة؟
قال: لقد اعتبرت
الشريعة البغاة مفسدين في الأرض، ولهذا حكمت عليهم بالقتل، قال تعالى :﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾
(الحجرات: 9)
وفي الحديث قال رسول
الله r : ( أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا
عنقه)[234]
وقال r : ( سكون بعدي هنات[235] وهنات وهنات، فمن
أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)[236]
وقال : ( من أتاكم
وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)[237]
وقال : ( إذا بويع
لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)[238]
وقال : ( من خرج من
الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية[239]، ومن قاتل تحت
راية عمية[240]
يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على
أمتي يضرب برها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني
ولست منه)[241]
وقال : ( من خلع يدا
من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية)[242]
وقال : ( من رأى من
أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فانه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات
ميتة جاهلية)[243]
وقال : ( لم يكن نبي
قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم وينذرهم ما يعلمه
شرا لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء شديد وأمور
تنكرونها ، وتجئ فتن فيرقق بعضها بعضا وتجئ الفتن فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم
تنكشف وتجي الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ،
ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب
أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقه يده وثمرة قلبه فليطعمه ما استطاع فان
جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)[244]
وقال : (أذكركم الله
لا تبغوا على أمتى بعدي سيكون بعدي أمراء فأدوا طاعتهم فإن الأمير مثل المجن يتقى
به فإن أصلحوا أموركم بخير فلكم ولهم ، وإن أساءوا فيما أمروكم فهو عليهم وأنتم
منه براء ، إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)[245]
وقال : ( من عقر
بهيمة ذهب ربع أجره ، ومن حرق نخلا ذهب ربع أجره ، ومن غش شريكا ذهب ربع أجره ومن
عصى إمامه ذهب أجره كله)[246]
وقال : ( إذا خرج
عليكم خارج وأنتم مع رجل جميعا ويريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جمعهم فاقتلوه)[247]
وقال : ( إنه كائن
من بعدي سلطان فلا تذلوه ، فمن أراد أن يذله فقد خلق ربقة الاسلام من عنقه وليس
بمقبول منه حتى يسد ثلمته[248] التي ثلم وليس
بفاعل ثم يعود فيكون فيمن يعزه)[249]
وقال : ( إنه سيكون
بعدي سلطان فأعزوه فانه من أراد ذله ثغر ثغرة في الاسلام وليست له توبة إلا أن
يسدها وليس بساد لها إلى يوم القيامة)[250]
وقال : ( ستكون
أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع ، قالوا :
أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا[251].
وقال : ( تمسكوا
بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فان طاعتهم طاعة الله وإن معصيتهم معصية الله ، ون الله
إنما بعثني أدعوا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خلفني في ذلك فهو مني
وأنا منه ، ومن خالفني في ذلك فهو من الهالكين ، وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله
، ومن ولي من أمركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،
وسيليكم أمراء إن استرحموا لم يرحموا ، وإن سئلوا الحقوق لم يعطوا ، وإن أمروا
بالمعروف أنكروا وستخافونهم ويفترق ملأكم فيهم حتى لا يحملوكم على شئ إلا أحتملتم
عليه طوعا أو كرها فأدنى الحق عليكم أن لا تأخذوا منهم العطاء ولا تحضروهم في
الملا)[252]
وقال:( خيار أئمتكم
الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم
ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قيل : يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا
ما أقاموا فيكم الصلاة قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم
شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة)[253]
قال رجل منا:ألا ترى
أن هذه النصوص تنسف كل ما ذكرته وما ذكره أصحابك من دعوة الإسلام للعدالة ولو
بالنهوض في وجوه الحكام؟
قال: فرق كبير بين
طلب العدالة وبين الفتنة .. العدالة يمكن أن تطلب بطرق كثيرة .. ولكن العنف لا
يولد إلا الفتنة .. والفتنة تحرق الأخضر واليابس .. ولذلك حذرت الشريعة منها ..
وفي نفس الوقت لم تغفل واجب الأمر بالعدالة بالطرق التي شرعتها.
وهي بذلك قد جمعت
بين الحسنيين: حسنى العدالة، وحسنى الأمن .. ولا يمكن أن تتحقق العدالة من دون
أمن.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبات التي شرعت لردع المرتدين.
قال: لقد اعتبرت
الشريعة الردة[254]
جريمة من الجرائم الكبرى .. ذلك أنها تهدم الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي
.. وهو أساس الإيمان والسلوك الذي يقتضيه الإيمان .. فلذلك عالجت أمرها قبل
استفحاله من نواح مختلفة:
أولا .. شرعت الحرية
الدينية .. فللإنسان أن يختار الدين الذي يشاء .. ولا يحق لأحد أن يلزم أحدا
بالدين، ذلك أنه شأن بين العبد وربه ..
لقد عمق القرآن الكريم هذه الحقيقة في أذهان المؤمنين عندما قال لهم:﴿ لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة:256)
أنتم ترون أن الآية
صريحة بأنه لا إكراه ولا قهر في اعتناق الدين، وإنما ذلك متروك لعقل الإنسان
وتفكيره غير المأسور لتعصب أو هوى أو تقليد أو حظ نفس.
فمن شرح الله صدره
للإسلام دخله، ومن ختم على سمعه وبصره، ترك وشأنه دون قسر على الدين.
ولهذا اعتبر الإكراه
على الإسلام من الذنوب.. واعتبر المكره على الإسلام غير مسلم.. لأن الإسلام لا
يكون إلا عن قناعة.
لقد روي في سبب نزول
الآية السابقة أن المرأة التي كانت لا يعيش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن
تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا
( أي لا ندعهم يعتنقون اليهودية)، فنزلت الآية تنهاهم عن ذلك[255].
انظروا..
فرغم أن محاولات
الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين
يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين
اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات الاضطهاد
للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي
خيَّرت رعاي-اها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب الملكاني أقامت
المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض
القرآن الإكراه [256]..
لقد قال القرآن في
آية أخرى:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾(يونس)
ويذكر القرآن عن نوح
u، وهو نبي من الأنبياء العظام.. وقد أمر
القرآن بالاقتداء بالأنبياء:﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ
عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)
وقال:﴿
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر:41)
وقال:﴿وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الشورى:6)
وقال:﴿نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (قّ:45)
وقال:﴿
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)
وقال:﴿
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام:107)
وقد قصرت الآيات
دعوة الرسول والذين معه على البلاغ:﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا
الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة:99)..
﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ
عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ﴾ (الشورى: من الآية48)
ففي هذه الآيات
تصريح بأن دور محمد والذين معه مقصور على التبليغ لا أزيد من ذلك، وأنه أُرسل
مبلغاً، ولم يُرسل حفيظاً عليهم، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن
الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه.
ثانيا .. وضعت الضوابط الكثيرة التي تجعل العقوبة موضوعة في محلها الصحيح، وتؤدي
هدفها المناط منها:
وأول هذه
الضوابط هو أنه لا يقهر أحد على الإسلام .. فمن قهر على الإسلام .. ثم
عاد إلى دينه .. لا يقام عليه حد .. بسبب بسيط، وهو أنه لم يسلم أصلا .. لأن
الإسلام لا يمكن إلا أن يكون عن وعي واختيار[257].
ومن
الضوابط أن لا تتم هذه العقوبة إلا بين المسلمين .. فلا يحكم على المرتد
من غير المسلمين .. لأن كل من عدا المسلمين في نظر الإسلام ملة واحدة[258].
ومن
الضوابط أن يكون المرتد واعيا عاقلا بالغا .. كما قال r :( رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى
يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)[259]
فلذلك نص الفقهاء
على أن لغير البالغ أن يختار الدين الذي يشاء .. ولا يلزم بالإسلام بعد بلوغه إن
كان قد اختار غير الإسلام[260].
ومثل ذلك ردّة
المجنون .. فقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا صحّة لإسلام مجنونٍ ولا لردّته ..
ويترتّب على ذلك : أنّ أحكام الإسلام تبقى سائرةً عليه، ولو أعلن بين الناس ردته.
ومثل ذلك من فقد
عقله بسكر، لأنّ الرّدّة تبنى على الاعتقاد ، والسّكران غير معتقدٍ لما يقول[261].
ومن
الضوابط أن يكون ذكرا .. فقد ورد الشرع بالتخفيف على المرأة لضعفها[262].
ومن
الضوابط الاختيار .. فلذلك لا يعاقب من أكره على الخروج من الدين[263]
.. كما قال تعالى:﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
(النحل:106)
لقد نزلت هذه الآيات
في حق عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ ذلك أن المشركين أخذوه وأباه وأمه وغيرهم
فعذّبوهم، وقتلوا أباه وأمه، وأما عمار فوافقهم وكفر بمحمد r وقلبه كاره. فأتى عمارُ رسول الله r وهو يبكي فقال له r : كيف وجدت قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان
.. فجعل يمسح عينيه، ويقول: (إن عادوا فعُدْ لهم بما قلت)[264]
ومن
الضوابط أن لا يكفر الإنسان، أو يحكم عليه بالردة بسبب تقصيره في أي
سلوك من السلوكات التي أمر بها الدين.. فقد راعى الإسلام ما في الناس من تنوع ..
ففيهم الذكي والغبي، والضعيف والقوي، والقادر والعاجز، والعامل والعاطل، والمجد
والمقصر.
وهم يختلفون اختلافا
بينا في قواهم البدنية ومواهبهم النفسية والعقلية والروحية وتبعا لهذا الاختلاف
فمنهم من يقترب من الاسلام، ومنهم من يبتعد عنه حسب حال كل فرد وظروفه وبيئته.
لقد أخبر الله تعالى
عن هذا، فقال:﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)
(فاطر:32)
إلا أن هذا الابتعاد
عن الإسلام لا يخرج المقصر عن دائرته ما دام يدين له بالولاء، فإذا صدر من المسلم
لفظ يدل على الكفر لم يقصد إلى معناه، أو فعل ظاهره مكفر لم يرد به فاعله تغيير
إسلامه، لم يحكم عليه بالكفر.
لقد قرر رسول الله r ذلك، فقال:( من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل
قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على
المسلم)[265]
وقد حذر رسول الله r المسلمين من أن يقذف بعضهم بعضا بالكفر، لعظم خطر هذه
الجناية، فقال :( إذا كفر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما)[266]
ومن
الضوابط أن لا يكفر المسلم إلا بإنكاره لما علم من الدين بالضرورة ..
وهي كلها قضايا يسلم لها العقل والوجدان وكل كيان الإنسان ..
مثل إنكار وجود الله
ووحدانيته وخلقه للعالم . أو وإنكار وجود الملائكة .. أوإنكار نبوة محمد r، وأن القرآن وحي من الله .. أو إنكار البعث والجزاء ..
أو إنكار فرضية الصلاة والزكاة، والصيام والحج.
ومثل استباحة محرم
أجمع المسلمون على تحريمه، كاستباحة الخمر، والزنا، والربا، وأكل الخنزير،
واستحلال دماء المعصومين وأموالهم.
ومثل تحريم ما أجمع
المسلمون على حله .. كتحريم الطيبات التي أباحها الله لعباده.
ومثل سب النبي r أو الاستهزاء به[267]، أو سب أي نبي من
أنبياء الله[268].
ومثل سب الدين،
والطعن في مصادره[269].
ومثل إلقاء المصحف
في القاذورات، استهانة به واستخفافا بما جاء فيها.
ومثل الاستخفاف باسم
من أسماء الله، أو أمر من أوامره، أو نهي من نواهيه، أو وعد من وعوده، إلا أن يكون
حديث عهد بالاسلام، ولا يعرف أحكامه، ولا يعلم حدوده، فإنه إن أنكر منها جهلا به
لم يكفر.
ومن
الضوابط الإعلان، فلا يكفر المسلم إلا بما أعلنه .. ولذلك لا يدخل في
الكفر الوساوس التي تساور النفوس، لأنها مما لا يؤاخذ الله به .. ففي الحديث قال
رسول الله r :( إن الله عز وجل تجاوز لامتي عما حدثت
به أنفسها ما لم تعمل أو يتكلم به)[270]
وقال:( لا يزال
الناس يتساءلون حتى يقال: (هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟) فمن وجد من ذلك
شيئا، فليقل: آمنت بالله) [271]
وروي أن ناسا من
أصحاب النبي r سألوه، فقالوا: انا نجد في أنفسنا ما
يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم.. قال: (ذلك صريح
الايمان)
[272]
ومن
الضوابط الإشهار .. فلا يعاقب من ارتد بينه وبين نفسه، ولو أعلن به ..
ما لم يفش ذلك، ويلجأ به إلى الحاكم.
ومع ذلك كله فقد
تركت له فرصة مراجعة نفسه من غير تحديد أجل[273] .. ليظهر بعد ذلك تراجعه وتوبته حتى لو كان ذلك
نفاقا..
بل تركت له ـ بعد
ذلك ـ فرص أخرى كثيرة[274] ..
قال رجل منا:
فالشريعة تدعو بذلك إلى النفاق؟
قال: لا .. الشريعة
لم تعاقب المرتد لكونه ارتد .. ولكن لكونه قد يصير بردته داعية إلى الكفر
والانحلال، فينهار بذلك الأساس الذي بني عليه المجتمع الإسلامي ..
قلنا: كيف ذلك؟
قال: ساقرأ لكم آية
قد توضح لكم ذلك .. لقد قال الله تعالى يحكي عن أسلوب من أساليب اليهود في حربهم
للإسلام:﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران:72)
لقد ذكر المفسرون في
تفسير هذه الآية أن ( هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر
دينهم، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع
المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من
الناس: إنما رَدّهم إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا
قالوا:﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[275]
قال الرجل: فهمنا
الآية .. لكنا لم نفهم مرادك من إيرادها؟
قال: أرأيتم لو أن
لاعبا مشهورا في كرة القدم.. سلب ملايين من محبيه قلوبهم وعقولهم.. أغرته بعض
شبكات الإجرام بأن يظهر في إشهار لنوع قاتل من الغذاء، يجهل الناس ضرره، فخضع
للإغراء.. وراح يمثل دور المشتهي والآكل لذلك الغذاء.. هل ترى من الحكمة منعه؟
قال الرجل: بل حبسه،
والتشديد عليه.. فإن هذا الرجل سيقتل بهذا الأسلوب كل من يحبه.
قال: فهكذا حكم
المرتد.. فالعامي البسيط الذي يبقى ارتداده بينه وبين ربه لا يلتفت له أحد.. ولا
يعاقبه أحد.. ولكن المرتد المعقد الذي ينشر ارتداده بقلمه ولسانه، فيثير بذلك فتنة
خطيرة بين الناس حكم الشرع حكما رادعا.
وهو مع ذلك كله لا
يطبقه عليه إلا في حال إصراره.
فقد أعطى الإسلام
فرصة لهذا المرتد ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة، وتقوم عليه الحُجة.. ويكلف
العلماء في ذلك الحين بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة.
ولذلك لما حصلت
الردة في عهد أبي بكر أعذر المرتدين بكتبه ورسله، وحاول اقناعهم بالحسنى، ولم يجيش
الجيوش لحربهم إلا بعد أن أغار فريق منهم على المدينة، واعتدى فريق آخر على ولاته،
وتحزب فريق ثالث لحربه، وكان قواده الذين أرسلهم لحرب المرتدين دعاة هداية وإرشاد،
لم يبدأوا أحدا بقتال إلا بعد دعوته إلى الإسلام.
قلنا: إلى الآن لم
نعرف عقوبة المرتد .. فبم عاقبه الإسلام؟
قال: لقد شرع
الإسلام للمرتد عقوبتين رادعتين: أما أولاهما .. فمصادرة أمواله التي جناها بعد
ردته[276]،
وأما الثانية، فقتله ..
لست أدري كيف صحت
بدون أن أشعر: قتله!؟ .. إن هذا لعظيم.
التفت إلي مبتسما،
وقال: لكن الكتاب المقدس يصرح به، ويدعو إليه، ويعتبره من الشريعة التي يحرم نقضها
..
لقد ورد في (سفر
الخروج: 2 2 / 20 ) قال الرب:( مَنْ يُقَرِّبْ ذَبَائِحَ لِآلِهَةٍ غَيْرِ
الرَّبِّ وَحْدَهُ يهلك)
وفي نفس السفر
(الخروج 32 / 28-29) أن الرب أمر نبيه موسى u بقتل عبدة العجل من بني لاوي، فقتل منهم
23 ألف رجل:( فَأَطَاعَ اللاَّوِيُّونَ أَمْرَ مُوسَى. فَقُتِلَ مِنَ الشَّعْبِ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوَ ثَلاَثَةِ آلافِ رَجُلٍ. عِنْدَئِذٍ قَالَ مُوسَى
لِلاَّوِيِّينَ: (لَقَدْ كَرَّسْتُمُ الْيَوْمَ أَنْفُسَكُمْ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ،
وَقَدْ كَلَّفَ ذَلِكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قَتْلَ ابْنِهِ أَوْ أَخِيهِ، وَلِكِنْ
لِيُنْعِمْ عَلَيْكُمُ الرَّبُّ فِي هَذَا اليَوْمِ بِبَرَكَةٍ)
و في (سفر التثنية:
13 / 6- 8) قال الرب:( وَإِذَا أَضَلَّكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ
ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ، أَوْ زَوْجَتُكَ الْمَحْبُوبَةُ، أَوْ صَدِيقُكَ
الْحَمِيمُ قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَنَعْبُدْ آلِهَةً أُخْرَى غَرِيبَةً عَنْكَ
وَعَنْ آبَائِكَ مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الأُخْرَى الْمُحِيطَةِ بِكَ أَوِ
الْبَعِيدَةِ عَنْكَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاهَا، فَلاَ تَسْتَجِبْ
لَهُ وَلاَ تُصْغِ إِلَيْهِ، وَلاَ يُشْفِقْ قَلْبُكَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَتَرََّأفْ
بِهِ، وَلاَ تَتَسَتَّرْ عَلَيْهِ. بَلْ حَتْماً تَقْتُلُهُ. كُنْ أَنْتَ أَوَّلَ
قَاتِلِيهِ، ثُمَّ يَعْقُبُكَ بَقِيَّةُ الشَّعْبِ. ارْجُمْهُ بِالْحِجَارَةِ
حَتَّى يَمُوتَ..)
ونص نفس السفر على
أنه لو دعا نبي إلى عبادة غير الله يقتل وان كان ذا معجزات عظيمة:( إِذَا ظَهَرَ
بَيْنَكُمْ نَبِيٌّ أَوْ صَاحِبُ أَحْلاَمٍ، وَتَنَبَّأَ بِوُقُوعِ آيَةٍ أَوْ
أُعْجُوبَةٍ. فَتَحَقَّقَتْ تِلْكَ الآيَةُ أَوِ الأُعْجُوبَةُ الَّتِي تَنَبَّأَ
بِهَا، ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ نَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَعْرِفُوهَا
وَنَعْبُدْهَا. فَلاَ تُصْغُوا إِلَى كَلاَمِ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَوْ صَاحِبِ
الأَحْلاَمِ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُجَرِّبُكُمْ لِيَرَى إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَهُ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِكُمْ. . . أَمَّا
ذَلِكَ النَّبِيُّ أَوِ الْحَالِمُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ)(التثنية: 13 / 1 _ 5 )
وفي نفس السفر
(التثنية: 17 / 2 _ 7 ) نجد قول الرب:( إِذَا ارْتَكَبَ بَيْنَكُمْ، رَجُلٌ أَوِ
امْرَأَةٌ، مُقِيمٌ فِي إِحْدَى مُدُنِكُمُ الَّتِي يُوَرِّثُكُمْ إِيَّاهَا
الرَّبُّ إِلَهُكُمُ، الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مُتَعَدِّياً عَهْدَهُ،
فَغَوَى وَعَبَدَ آلِهَةً أُخْرَى وَسَجَدَ لَهَا أَوْ لِلشَّمْسِ أَوْ لِلْقَمَرِ
أَوْ لأَيٍّ مِنْ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ مِمَّا حَظَرْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَشَاعَ
خَبَرُهُ، فَسَمِعْتُمْ بِهِ، وَتَحَقَّقْتُمْ بَعْدَ فَحْصٍ دَقِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ
الرِّجْسَ اقْتُرِفَ فِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرِجُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ أَوْ تِلْكَ
الْمَرْأَةَ، الَّذِي ارْتَكَبَ ذَلِكَ الإِثْمَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ،
وَارْجُمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ)
ليس ذلك .. بل إن
الكتاب المقدس يعاقب على أشياء كثيرة بالقتل، ويعتبرها من الردة .. فالأكل من
ذبيحة السلامة على غير طهارة حكمها القتل (لاويين: 7/20)
ومثلها الأكل من
ذبيحة السلامة فى اليوم الثالث (لاويين 19/5)
ومثلها الأكل من
شحوم البهائم التى تقدم كقرابين (لاويين 7/25)
ومثلها شرب الدم
(لاويين 7/27)
ومثلها الذبح بعيدًا
عن باب خيمة الاجتماع (لاويين 17/3)
ومثلها اللواط
(لاويين 20/13) .. وإتيان البهائم (لاويين 20/15) .. وإتيان المرأة فى حيضها
(لاويين 20/18)
ومثلها العمل فى يوم
الكفارة (لاويين 23/30)
ومثلها الامتناع عن
صوم يوم الكفارة (لاويين 23/29)
ومثلها سب الوالدين
(لاويين 20/9)
وومثلها عمل السحر
أو العرافة (لاويين 20/27)
انظروا .. إن مثل
التشديدات لم يقل بها الإسلام .. ولم يرد شيء منها في القرآن ..
ليست التوراة وحدها
هي التي نصت على هذا الحد .. لقد جاء في سفر الملوك الأول (18 / 17 _ 40 ) أن إليا
ذبح في وادي قيشون 450 رجلاً من الذين كانوا يدعون نبوة البعل .. ففيه:( ثُمَّ
قَالَ إِيلِيَّا لِلشَّعْبِ: (أَنَا بَقِيتُ وَحْدِي نَبِيّاً لِلرَّبِّ،
وَأَنْبِيَاءُ الْبَعْلِ أَرْبَعُ مِئَةٍ وَخَمْسُونَ) .. ( فَقَالَ إِيلِيَّا:
اقْبِضُوا عَلَى أَنْبِيَاءِ الْبَعْلِ وَلاَ تَدَعُوا رَجُلاً مِنْهُمْ يُفْلِتُ
فَقَبَضُوا عَلَيْهِمْ، فَسَاقَهُمْ إِيلِيَّا إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ وَذَبَحَهُمْ
هُنَاكَ)
ليس الكتاب المقدس وحده الذي قال هذا .. لقد كتب القديس
(أوغستان) إلى الكونت (بونيفاس) يشير عليه باستعمال القوة لردع أهل البدع من
المسيحيين، وردهم إلى النصرانية، وقد مثلهم في كتابه ببغال تعض وترفس من يعالجها
من مرضها، والذي يعالجها مضطر إلى إيلامها؛ ليستطيع أن يضمد جراحها، ومثّلهم
بالطفل الصغير الذي لا تتيسر تربيته بغير الحوط والعقاب، وقال: إن القسوة العادلة
هي التي تأتيها كنيسة المسيح ضد الكافرين، لكن القسوة الظالمة هي التي يستعملها
الكافرون ضد كنيسة المسيح
ثم التفت إلى الجمع، وقال: ألا تعتبر أكثر الأنظمة العالمية.. أو
كل الأنظمة العالمية.. المساس بثوابتها، أو موالاة أعدائها خيانة عظمى.
قلنا: بلى.. ذلك صحيح.
قال: فهكذا الردة عن الإسلام.. فهي ليست مجرد موقف عقلي، بل هى
فوق ذلك ومع ذلك تغيير للولاء، وتبديل للهوية وتحويل للانتماء.
فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، فهو يخلع نفسه
من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها، وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها..
ولهذا ورد في الحديث الجمع بين الأمرين: التارك لدينه المفارق للجماعة [277]، فكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ، فكل
مرتد عن دينه لابد أن يكون مفارقا للجماعة.
سكت قليلا، ثم قال: ومهما يكن جرم المرتد، فإن المسلمين لا
يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو
قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك
فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة.
إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله
للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا تعلم عواقبها.. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره،
وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها
الاستعانة بأعداء الأمة عليها، وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى، وقد
يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس[278].
قلنا: حدثتنا عن
الحدود .. فحدثنا عن العقوبات التي وضعتها الشريعة لردع الجناة .. وقبل ذلك حدثنا
عن الفرق بين جرائم الحدود والجنايات[279].
قال: من أهم الفروق
التي ذكرها الفقهاء بينهما أن جرائم الحدود لا يجوز فيها العفو مطلقاً، سواء من
المجني عليه أو ولي الأمر أي الرئيس الأعلى للدولة، فإذا عفا أحدهما كان عفوه
لغواً لا أثر له على الجريمة ولا على العقوبة.. أما في جرائم القصاص فالعفو جائز
من المجني عليه، فإذا عفا ترتب على العفو أثره، فللمجني عليه أن يعفو عن القصاص
مقابل الدية، وله أن يعفو عن الدية أيضاً، فإذا عفا عن أحدهما أعفى منه الجاني..
وليس لرئيس الدولة الأعلى أن يعفو عن العقوبة في جرائم القصاص بصفته هذه، لأن
العفو عن هذا النوع من الجرائم مقرر للمجني عليه أو وليه، لكن إذا كان المجني عليه
قاصراً ولم يكن له أولياء كان الرئيس الأعلى للدولة وليه، إذ القاعدة الشرعية أن
السلطان ولي من لا ولي له، وفي هذه الحالة يجوز لرئيس الدولة العفو بصفته ولي
المجني عليه، لا بأي صفة أخرى، وبشرط ألا يكون العفو مجاناً [280]
.
هذا هو الفرق
الجوهري الأول .. أما الفرق الثاني، فهو أن جرائم الحدود إذا ثبتت وجب على القاضي
أن يحكم بعقوبتها المقررة لا ينقص منها شيئاً ولا يزيد عليها شيئاً، وليس له أن
يستبدل بالعقوبة المقررة عقوبة أخرى، ولا أن يوقف تنفيذ العقوبة، فسلطة القاضي في
جرائم الحدود قاصرة على النطق بالعقوبة المقررة للجريمة.
أما في جرائم القصاص
فللقاضي سلطة قاصرة على توقيع العقوبة المقررة إذا كانت الجريمة ثابتة قبل الجاني،
فإذا كانت العقوبة القصاص وعفا المجني عليه عن القصاص أو تعذر الحكم به لسبب شرعي
وجب على القاضي أن يحكم بالدية ما لم يعف المجني عليه عنها؛ فإذا عفا كان على
القاضي أن يحكم بعقوبة تعزير.. وله في التعازير - كما سترون- سلطة واسعة[281].
قلنا: فما أقسام
الجنايات التي عاقبت الشريعة عليها؟
قال: لقد عاقبت
الشريعة على جنايتين: القتل .. والجراح.
قلنا: فحدثنا عن
العقوبة التي وضعتها الشريعة لجناية القتل.
قال: لقد فرقت
الشريعة الحكيمة بين أنواع القتل .. وذكرت لكل نوع عقابه الخاص به .. وقد نص
القرآن الكريم على نوعين كبيرين، أما أولهما، فهو القتل العمد، وأما الثاني، فهو
القتل الخطأ[282].
وقد بنى الفقهاء على
هذا ـ ولضرورة التفريعات الفقهية التي رأوها ـ إلى تقسيم القتل بحسب القصد وعدمه
إلى قتل عمد[283]
.. وقتل شبه عمد[284] .. وقتل خطأ [285].. وغيرها من
الأقسام[286].
قلنا: فحدثنا عن القتل العمد .. ما ضوابطه ..
وما العقوبة التي وضعتها الشريعة له؟
قال: لقد نص القرآن
الكريم على هذا النوع من القتل في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾ (النساء)
وقد ذكر الفقهاء
بناء على أدلة كثيرة أنه ما احتوى على ثلاثة أركان: أولهما أن يكون القتيل آدمياً حياً معصوم الدم .. وأن يحدث القتل نتيجة لفعل الجاني .. وأن يقصد الجاني إحداث الوفاة.
قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.
قال: يقصدون بذلك أن
هذا الوصف لا ينطبق على من قتل غير الإنسان .. أو قتل الميت الذي فارق الحياة ..
أو قتل غير معصوم الدم عصمة مؤقتة غير دائمة، كالمرتد أو الحربي[287]
، أو المستأمن[288]
في دار الإسلام؛ لأن المستأمن لم تثبت له عصمة مطلقة دائمة، وإنما عصمته مؤقتة
أثناء إقامته في دار الإسلام، فهو في الأصل حربي، ودخل دار الإسلام لحاجة عارضة،
ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكان في عصمة دمه شبهة الإباحة بالعود إلى دار الحرب،
فلا يقتص من قاتله عمداً، وإنما يعزر، لافتئاته على مصلحة الحاكم.. ونصوا على لا
قصاص بقتل الباغي[289] لعدم عصمته ..
قلنا: فحدثنا عن الركن الثاني.
قال: نص الفقهاء على
أن الجريمة لا تعد قتلاً إلا إذا ارتكب الجاني فعلاً من شأنه إحداث الموت، فإن حدث
الموت بفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني، أو لم يكن فعله مما يحدث الموت، فلا يعد
الجاني قاتلاً.. وقد دعاهم هذا إلى البحث في أمرين: أما أولهما فأداة القتل ..
وأما الثانية فالأفعال المكونة للقتل العمد.
وبما أن أدوات القتل تختلف قوة وضعفاً
في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها، لذا حدد الفقهاء لكل منها حكماً وأثراً
معيناً، واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها ..
فبعضهم اشترط في في
أداة القتل العمد: أن تكون مما يقتل غالباً، ومما يعد للقتل، وهي كل آلة جارحة
أوطاعنة ذات حد لها مَوْر في الجسم، سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو النحاس، أو
الخشب المحدد أو الحجر المحدد، أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح، والإبرة
في مقتل، أو ما يعمل عمل هذه الأشياء في الجرح والطعن، كالنار والزجاج[290]
.. وغيرها.
وبعضهم[291]
اشترط أن تكون مما يقتل غالباً، سواء أكان القتل بمحدد[292]
أم بمثقّل[293].. فإن استعمل الجاني أداة لا تقتل غالباً كالضرب
بالسوط أو العصا الخفيفين، ولم يوال الضربات، ولم يكن الضرب في مقتل، أو المقتول
صغيراً أو ضعيفاً، ولم يكن حرأو برد معين على الهلاك، ولم يشتد الألم ويستمر إلى
الموت، كان القتل شبه عمد[294].
وبعضهم[295]
اشترط أن تكون آلة يقتل بها غالباً كالمحدد مثل السلاح، والمثقل مثل الحجر، أو ما
لا يقتل بها غالباً كالعصا والسوط ونحوهما، سواء قصد الجاني بالضرب قتل المجني
عليه، أو لم يقصد قتلاً، وإنما قصد مجرد الضرب، أو قصد قتل شخص معتقداً أنه ( زيد
) فإذا هو (عمرو): إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب..
هذا فيما يتعلق بأدوات
القتل .. أما الأفعال المكونة للقتل العمد .. فقد ذكروا الشروط الكثيرة الضابطة
لها، مما لا يمكن إحصاؤه.
قلنا: فحدثنا عن الركن الثالث.
قال: لقد نص الفقهاء[296]
على أن القتل العمد لا يتحقق إلا إذا قصد الجاني قتل المجني عليه[297]،
أو ضربه بفعل مزهق قصد الفعل العدوان بما يقتل غالباً .. فإن لم يتوافر القصد
الجنائي، فلا يعد الفعل قتلاً عمداً.. ولو قصد الجاني مجرد الاعتداء على المجني
عليه، دون إزهاق روحه، بما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد.
وبما أن هذا القصد
أو النية أمر باطني خفي لا يمكن الاطلاع عليه، فقد أناط الفقهاء حكم القتل العمد
بوصف ظاهر يمكن معرفته، وهو استعمال أداة القتل المناسبة؛ لأن الجاني غالباً يختار
الآلة المناسبة لتنفيذه قصده الجرمي.. فاستعمال الآلة القاتلة غالباً هو المظهر
الخارجي لنية الجاني، وهو الدليل المادي الذي لا يكذب في الغالب؛ لأنه من صنع الجاني،
لا من صنع غيره .. ولهذا اشترط الفقهاء أن تكون الآلة قاتلة غالباً؛ لأنها دليل
على قصد القتل عند الجاني[298].
قلنا: فحدثنا عن العقوبة التي وضعتها الشريعة للقتل العمد.
قال: لقد بدأت
الشريعة فملأت نفوسهم رهبة من القتل باعتباره من أكبر الجرائم، فقد قال رسول الله r: ( اجتنبوا السبع الموبقات) قيل: يا رسول
الله وما هن ؟ قال : (الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات
الغافلات المؤمنات)[299]
وسئل r: أي الذنب أعظم عند الله تعالى؟ فقال: (أن
تجعل لله ندا وهو خلقك) قيل: إن ذلك لعظيم ثم أي ؟ قال : (أن تقتل ولدك مخافة أن
يطعم معك)، قيل : ثم أي ؟ قال : (أن تزاني حليلة جارك)
[300]
وقال: ( الكبائر
الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس)[301]
وسئل عن الكبائر ،
فقال :( الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف)[302]
وقال: ( لن يزال
المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)[303]
وقال: (لزوال الدنيا
أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق .. ولو
أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم النار)[304]
وقال: ( لزوال
الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)[305]
وقال: ( قتل مؤمن
أعظم عند الله من زوال الدنيا)[306]
وطاف رسول الله r بالكعبة، ثم قال: (ما أطيبك وما أطيب ريحك ، ما أعظمك
وما أعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ماله
ودمه)[307]
وقال: ( لو أن أهل
السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)[308]
وقتل بالمدينة قتيل
على عهد رسول الله r لم يعلم من قتله ، فصعد النبي r المنبر، فقال : (أيها الناس يقتل قتيل وأنا فيكم ولا
يعلم من قتله ، لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ مؤمن لعذبهم الله إلا أن
يفعل ما يشاء)[309]
وقال: ( من أعان على
قتل مؤمن ولو شطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)[310]
وقال: ( من استطاع
منكم أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه كما يذبح دجاجة
كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال الله بينه وبينه ، ومن استطاع منكم أن لا يجعل
في بطنه إلا طيبا فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه)[311]
وقال: ( لا تقتل نفس
ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل)[312]
وقال: ( أول ما يقضى
بين الناس يوم القيامة في الدماء) [313]
وقال: ( أول ما
يحاسب عليه العبد الصلاة[314]، وأول ما يقضى بين
الناس في الدماء)[315]
وقال: (كل ذنب عسى
الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا)[316]
وروي أن ابن عباس ـ
رضي الله عنه ـ سأله سائل فقال : يا ابن عباس هل للقاتل من توبة؟ فقال ابن عباس
كالمتعجب من شأنه : ماذا تقول ؟ فأعاد عليه مسألته فقال : ماذا تقول مرتين أو
ثلاثا ؟ قال ابن عباس : سمعت نبيكم r يقول : (يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى
يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش فيقول المقتول
لرب العالمين : هذا قتلني فيقول الله للقاتل : تعست ويذهب به إلى النار)[317]
وقال: ( يجيء
المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما عند ذي العزة فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني
فيقول الله عز وجل : فيم قتلته ؟ قال قتلته لتكون العزة لفلان ، قيل هي لله)[318]
وقال: (إذا أصبح
إبليس بث جنوده فيقول : من خذل اليوم مسلما ألبسه التاج قال فيجيء هذا فيقول لم
أزل به حتى طلق امرأته فيقول يوشك أن يتزوج ؛ ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى عق
والديه ، فيقول يوشك أن يبرهما ؛ ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى أشرك فيقول أنت
أنت ؛ ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى قتل نفسا فيقول أنت أنت ويلبسه التاج)[319]
وقال: (من قتل مؤمنا
فاغتبط بقتله[320]
لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا[321])[322]
وقال: (يخرج عنق من
النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ،
ومن قتل نفسا بغير حق فينطوي عليهم فيقذفهم في جمر جهنم)[323]
وقال: (يخرج عنق من
النار يتكلم بلسان طلق ذلق له عينان يبصر بهما ولسان يتكلم به فيقول: إني أمرت بمن
جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبمن قتل نفسا بغير حق ، فينطلق بهم قبل سائر
الناس بخمسمائة عام)[324]
وبعد هذا كله، فإن
من الفقهاء من ذهب إلى أن القاتل لا يكفر عنه ذنبه حتى لو قتل به، ما دام لم يتب
إلى الله توبة نصوحا[325].
قلنا: وعينا هذا ..
فحدثنا عن الألم الذي عاقبت به الشريعة القتلة.
قال: لقد وضعت
الشريعة للقاتل العمد عقوبتان: أصلية .. وبدلية.
أما الأصلية، فهي القصاص[326]
.. وقد نص عليه قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ (البقرة: من الآية178)، وقوله
تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة:179)
ونص عليه قوله r : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق
للجماعة)[327]
وقال r : ( ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة
الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل)[328]
وقد تشددت فيه .. فلم تعتبر
الكفاءة في العدد .. ولهذا نصت الأدلة على قتل الجماعة بالواحد، سداً للذرائع، فلو
لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلاً، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سبباً للتخلص
من القصاص.
وقد روي أن امرأة من
صنعاء ـ في عهد عمر ـ غاب عنها زوجها، وترك عندها ابناً له من غيرها، فاتخذت
لنفسها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه
فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة، ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقطعوه
أعضاء، وألقوا به في بئر.. ثم ظهر الحادث وفشا بين الناس، فأخذ أمير اليمن خليل
المرأة فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن اقتلهم
جميعاً، وقال: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً)
وروي أنه أن قتل
نفراً: خمسة، أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال: (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم
به)
ومثل ذلك يقتل الواحد بالجماعة قصاصاً، بل تشددت في ذلك، فلم تشرع فيه إلا القصاص[329]؛ لأن الجماعة لو
قتلوا واحداً قتلوا به، فكذلك إذا قتلهم واحد، قتل بهم، كالواحد بالواحد..
ولم
تعتبر الكفاءة في الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلامة
الأعضاء.. فيقتل الرجل بالأنثى، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون،
والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، وسليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل.
ولم
تعتبر الكفاءة في الحرية والدين[330] .. وإنما اعتبروا مجرد الإنسانية كافية .. وذلك لأن آيات القصاص لم تفرق بين
نفس ونفس .. وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لما
بينهما من العداوة الدينية، وقد روي أن النبي r أقاد مؤمناً بكافر، وقال: (أنا أحق من وفى
بذمته)[331]
، ولأن العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر، والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة.
واشتدوا
في قتل الغيلة .. وهو القتل لأخذ المال، سواء أكان القتل
خفية، كما لو خدعه، فذهب به لمحل، فقتله فيه لأخذ المال، أم كان القتل ظاهراً على
وجه يتعذر معه الغوث[332].
قال رجل منا: كيف
تقول ذلك .. وقد ورد في القرآن هذه التفرقة .. ففيه :﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ (البقرة:
من الآية178)
قال عبد القادر: لقد
جاءت هذه الآية لترد على عادة كانت سائدة في بعض القبائل .. حيث أنهم كانوا يأبون
أن يقتلوا في عبدهم إلا حراً، وفي امرأتهم إلا رجلاً، فأبطل القرآن الكريم ما كان
من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره .. فليس في الآية دلالة على أنه لا
يقتل الحر بالعبد أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة.
قال الرجل: وما تقول
فيما ورد في الحديث : ( لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده)[333]؟
قال عبد القادر: إن
مراد النبي r من هذا ـ على حسب ما تدل الأدلة الكثيرة ـ
هو أنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي؛ لأن المراد بالكافر هو الحربي بدليل
جعل الحربي مقابلاً للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهداً مثله من الذميين
إجماعاً، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد في المعطوف؛ لأن
الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقاً، ويكون التقدير: (لا يقتل مسلم بكافر
حربي ولا ذو عهد بكافر حربي)؛ لأن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذمياً قتل به، فعلم أن
المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي.
ويدل لهذا أن يد
المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي .. فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة
دمه كحرمة دمه.
قلنا: عد بنا إلى
التشديدات التي وضعتها الشريعة لتردع عن هذه الجريمة.
قال: من
الشدة على الجاني أنها شددت العقوبة المالية عليه في حال العفو عنه .. وقد ورد التنصيص على قيمة هذه العقوبة في كتابه r الذي كتبه إلى أهل اليمن والذي ورد فيه
الفرائض والسنن والديات، وكان في كتابه (أن من اعتبط[334]
مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس: الدية
مئة من الإبل..)[335]
ومن التشديد على
الجاني أنها شرعت تعزير الجاني وإن عفي عنه[336] ..
قلنا: عرفنا
نواحي الشدة في هذه العقوبة، فهل هناك من
مجالات رفق؟
قال: أجل ..
فالشريعة الرحيمة تجمع بين الحزم والرحمة .. فمن نواحي الرحمة في
القصاص أن الشريعة لم تعتبره حدا[337].
ومنها أن الفقهاء
اشترطوا في القاتل الذي يقتص منه أن يكون بالغاً عاقلاً .. فلا قصاص ـ كما لا حد ـ
على الصبي أو المجنون؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة .. ولأنها لا
تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية.. ولأن هؤلاء ليس لهم قصد صحيح، فهم
كالقاتل خطأ.
ومنها أن الفقهاء
اشترطوا أن يكون قاصداً إزهاق روح المجني عليه[338]، فإن كان مخطئاً،
فلا قصاص عليه، لقول النبي r : ( العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول)[339]،
أي القتل العمد يوجب القود[340]، فالحديث شرط
العمد لوجوب القود.
ومنها أنهم اشترطوا
أن لا توجد أي شبهة في عدم إرادة القتل؛ لأن النبي r شرط العمد مطلقاً، ولا كمال مع وجود شبهة
انتفاء قصد القتل، كما في حالة تكرار الضرب بما لا يقتل عادة، لا يراد به القتل،
بل التأديب والتهذيب.
ومنها أنهم اشترطوا
في المقتول أن يكون معصوم الدم[341] .. فلا يقتل مسلم
ولا ذمي بالكافر الحربي، ولا بالمرتد، ولا بالزاني المحصن، ولا بالزنديق، ولا
بالباغي؛ لأن هؤلاء مباحو الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي، فكل
واحد منها سبب لإهدار الدم.
ومنها أنهم اشترطوا
ألا تكون هناك رابطة الأبوة والبنوة، فلا قصاص على أحد الوالدين[342]
(الأب والجد، والأم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا[343]،
لقوله r : ( لا يقاد الوالد بالولد)[344]
ومنها أنهم أجازوا
الشفاعة فيه إذا لم يكن المذنب مصراً، فإن كان مصراً فلا يجوز حتى يرتدع عن الذنب
والإصرار، وهذا بخلاف الحدود .. والتي قال فيها رسول الله r ـ شأن المرأة المخزومية السارقة ورد شفاعة
أسامة فيها : ( أتشفع في حد من حدود الله
؟)
أما في هذا المجال،
فقد قال رسول الله r : (اشفعوا تؤجروا)
ومن الرحمة فيه أنها
أجازت لأولياء القتيل العفو عن القاتل .. بل رغبتهم في ذلك بإعطائهم الدية عوضا
على عفوهم[345]
.. بل زادت في ذلك فاكتفت في حال تعدد الأولياء[346] بعفو أحدهم[347]..
ولكنها مع ذلك حمت الحق العام، فأجازت للسلطان أن يعاقب الجاني من العقوبات
التعزيرية ما يكف به شره عن الناس[348].
ومن الرحمة أنها
أجازت للقتيل أن يعفو عن قاتله[349] .. بل رغبت في ذلك
كما قال تعالى :﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ )(المائدة:
من الآية45)، أي المقتول يتصدق بدمه، في حال إصابته قبل موته.
ومن الرحمة أنها
أجازت الصلح على القصاص، وأسقطت به القصاص[350]، سواء أكان الصلح
بأكثر من الدية أم بمثلها أم بأقل منها .. وسوت في ذلك بين أن تكون الدية حالة أم
مؤجلة .. ومن جنس الدية، ومن خلاف جنسها بشرط قبول الجاني .. كما قال تعالى :﴿
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ (النساء: من الآية128)، وقال النبي r : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو
حرم حلالاً)[351]
وقال r يذكر الخيارات التي أعطتها الشريعة لأولياء المقتول : (
من قَتَل عمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية:
ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خَلِفة[352]، وما صولحوا عليه
فهو لهم)[353]
قلنا: حدثتنا عن عقوبة القتل العمد
.. فحدثنا عن عقوبة القتل الخطأ.
قال: لقد نص الله تعالى على هذه
العقوبة، فقال :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ
خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن
كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا ﴾ (النساء: 92)
فهذه الآية الكريمة تنص على عقوبتين
لمن قتل خطأ:
أما أولاهما، فترتبط بأهل القتيل من
تعويض الضرر الذي أصابهم .. وهي عقوبة مالية أوجبها الاسلام ـ مع كون القتل خطأ ـ
احتراما للنفس حتى لا يتسرب إلى ذهن أحد هوانها، وليحتاط الناس فيما يتصل بالنفوس
والدماء، ولتسد ذرائع الفساد، حتى لا يقتل أحد أحدا ويزعم أن القتل كان خطأ.
وأما الثانية، فترتبط بالقاتل في
نفسه من حيث تهذيبه حتى لا يعود فيقع في مثل هذه الأخطاء الشنيعة، وهي مرتبة كما
ذكرها القرآن الكريم من عتق الرقيق، أو صيام شهرين متتابعين.
قال رجل منا: عرفنا العقوبة .. ولكنا
لم نعرف على من تطبق.
قال: لقد ذكرت لكم أنها تطبق على من
قتل خطأ.
قال الرجل: فكيف نفرق بين القاتل
المتعمد والقاتل المخطئ؟
قال: القاتل المخطئ هو أن يقوم بشيء
مباح، ولكنه يؤدي من حيث لم يقصد إلى القتل .. كأن يرمي صيدا، أو يقصد غرضا، فيصيب
إنسانا فيقتله .. أو كأن يحفر بئرا، فيتردى فيها إنسان، أو ينصب شبكة - حيث لا
يجوز - فيعلق بها رجل فيقتل[354].
قال الرجل: ألا ترى أن الشريعة تشددت
مع المخطئ مع كونه لم يقصد؟
قال: أجل .. هي تشددت في ذلك رعاية
لحرمة النفس البشرية حتى يأخذ كل إنسان حذره، فلا يتصرف تصرفا قد يؤدي ـ من حيث لم
يشعر ـ إلى أن يزهق دم بسببه.
قلنا: حدثتنا عن عقوبة القتل، فحدثنا
عن عقوبة الجراحات .. وما تريد بها؟
قال: يقصد بها الفقهاء الجنايات على
ما دون النفس . .وهي كل أذى يقع على جسم الإنسان من غيره فلا يودى بحياته، وهو
تعبير دقيق يتسع لكل أنوع الاعتداء والإيذاء التى يمكن تصورها؛ فيدخل فيه الجرح
والضرب والدفع والجذب والعصر والضغط وقص الشعر ونتفه وغير ذلك.
وهو ـ كما سبق ـ إما عمد ما تعمد فيه
الجانى الفعل بقصد العدوان كمن قذف أحدًا بحجر بقصد إصابته.. وإما خطأ، وهو ما
تعمد فيه الجانى الفعل دون قصد العدوان، كمن ألقى حجرًا من نافذة ليتخلص منه فأصاب
أحد المارة، أو ما وقع فيه الفعل نتجة تقصير الجانى دون قصد منه كمن انقلب على
نائم بجواره فكسر ضلوعه.
قلنا: فما العقوبات التي وضعتها
الشريعة في هذا الباب؟
قال: لقد فرقت الشريعة في هذا الباب،
كما فرقت في الباب السابق بين العمد والخطأ.
قلنا: فما عقوبة العمد؟
قال: العقوبة الأصلية للجناية على ما
دون النفس عمدًا هى القصاص[355]،
ولا يجب إلا إذا كان ذلك ممكنا، بحيث يكون مساويا لجراح
المجني عليه من غير زيادة ولا نقص.. فإذا كانت المماثلة والمساواة لا يتحققان إلا
بمجاوزة القدر، أو بمخاطرة، أو إضرار، فإنه لا يجب القصاص، وتجب الدية، لان الرسول
r رفع القود في المأمومة، والمنقلة،
والجائفة، وهذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف: مثل كسر عظم
الرقبة، والصلب، والفخذ، وما أشبه ذلك.
ومن جرح رجلا
جائفة فبرئ منها، أو قطع يده من نصف الساعد، فلا قصاص عليه، وليس له أن يقطع يده
من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة لنصف الساعد، ولو كسر عظم رجل
سوى السن، كضلع، أو قطع يدا شلاء أو قدما لا أصابع فيها، أو لسانا أخرس، أو قلع
عينا عمياء، أو قطع إصبعا زائدة، ففي ذلك كله حكومة عدل.
فإذا امتنع القصاص لهذه الأسباب
وغيرها حلت محله عقوبتان بدليتان الأولى الدية أو الأَرْش والثانية التعزير،
ويلاحظ الفرق بين عقوبات الجناية عمدًا على النفس والجناية عمدًا على ما دون
النفس، ففى النفس يعاقب بالكفارة عقوبة أصلية وبالصيام عقوبة بدلية وبالحرمان من
الميراث والوصية عقوبة تبعية، أما هنا فلا يعاقب بهذه العقوبات لأنها قاصرة على
القتل ومتعلقة به.
قلنا: فما عقوبة الخطأ؟
قال: اكتفت الشريعة في هذا النوع من
الجنايات بالدية أو الأرش.. والدية هي الكاملة، وتكون في الضرر الكبير، والأرش هو
الأقل من الدية.. ويكون في الضرر الصغير.
وقد تولى الفقه الإسلامي تفصيل ذلك
مما لا نطيق ذكره هنا.
قلنا: حدثتنا عن
الجنايات .. فحدثنا عن العقوبات التي سميتها بالتعزيرات.
قال: التعزيرات هي كل العقوبات التي
لم ترد بتقديرها النصوص، وقد ترك أمر البت فيها لولي الأمر العادل، وللخبراء..
والقصد منها تأديب الجاني وردعه، وردع المجتمع من الوقوع في مثل جريمته.
قلنا: فهل تضرب لنا أمثلة على
الجرائم التي يكون فيه التعزير؟
قال: لا يمكن إحصاء ذلك ..
فالمجتمعات تختلف في ذلك .. ومثل ذلك العصور .. ولكن ـ مع ذلك ـ هناك أمور ذكرها
الفقهاء .. قد تصلح لجميع المجتمعات الإسلامية ..
وقد قسموها إلى قسمين:
أولهما .. ما كان من الجرائم حقا لله
تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر، وترك الصلاة ، والربا، وطرح النجاسة ونحوها
في طريق الناس ونحوها.
وثانيها، ما كان على حق العباد، كمباشرة
الأجنبية من غير زنا، وسرقة ما دون النصاب، أو السرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة
والرشوة، أو القذف بغير الزنى من أنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، مثل أن يقول
الرجل لآخر: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب
الخمر، ونحوها..
وقد سئل علي عن قول الرجل للرجل: يا
فاسق، يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن التعزير، وليس فيهن حد.
ومن موجبات التعزير: الجناية التي لا
قصاص فيها أو النهب أو الغصب أو الاختلاس.
قلنا: فكيف يكون التعزير؟
قال: يختلف ذلك بحسب اختيار ولي
الأمر .. فقد يكون بالضرب، أو بالحبس أو بالتوبيخ، ونحوها بحسب ما يراه ولي الأمر
رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس.
قلنا: أمن العقوبات الحبس؟
قال: أجل .. فقد روي أنه r
حبس رجلاً في تهمة، ثم خلى عنه[356]
.. وهذا هو الحبس الاحتياطي.. وقد قال r: (لي الواجد يُحلَّ عِرْضه وعقوبته[357])[358] .. وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن، وتبعه في
ذلك عثمان، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ
قلنا: فكيف تنكر الشريعة الحبس إذن
ما دامت تعتمده؟
قال: لا .. الحبس الذي يريده الفقهاء
مختلف عن الحبس الذي نراه بين قومنا .. ومع ذلك فإن الشريعة تفضل في التعازير
عقوبة الجلد على عقوبة الحبس, ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبساً غير محدود
المدة حيث يبقى المجرم بعيداً عن الجماعة مكفوفاً شره وأذاه حتى يموت, ولا يحكم
هذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين.
قلنا: فلم لم تكتف الشريعة بالحبس
الذي تمارسه الآن كل شعوب الأرض.
أراد عبد القادر أن يجيب .. لكن رجلا
من الجمع رفع يده، وقال: إن أذنت لي، فسأجيب أنا عن هذا السؤال[359]..
أشار إليه عبد
القادر بأن يتحدث، فقال: إن أول جنايات السجون – بحسب خبرتي في هذا - هو ما تجنيه
على خزانة الدولة، فهي ترهقها بالخدمات المبذولة للمساجين، وترهقها أكثر من ذلك
بتعطيل الإنتاج ..
ومن جناياتها أن
المحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل, فوضعهم في
السجون هو تعطيل لقدراتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه
فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم وردع غيرهم.
وقد حاولت مصالح
السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل, ولكنها لم تستطع حتى الآن أن توجد
عملاً إلا لعدد قليل من المسجونين, أما الباقون فيكادون يقضون حياتهم في السجون
دون عمل؛ يأكلون ويتطببون ويلبسون على حساب الحكومة.
ومن جنايات السجون إفساد المسجونين ..
فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه, وبين المجرم المتخصص في
نوع من الإجرام، وبين المجرم العادي .. كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا مجرمين
حقيقيين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتباراً .. وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ
والإهمال .. واجتماع هؤلاء جميعاً في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم,
فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة, والمتخصص في
نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلمه عن زملائه, ويجد المجرمون الحقيقيون في نفوس
زملائهم السذج أرضاً خصبة يحسنون استغلالها دائماً, فلا يخرجون من السجن إلا وقد
تشبعت نفوسهم إجراماً.
لا تحسبوا أن ما
أذكره ظنونا أو رجما بالغيب ..
لقد دلت المشاهدات
على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة؛ كضبط قطعة سلاح معه، وكان
المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين, ويأنف أن يكون منهم, فإذا خرج من
السجن حبب إليه الإجرام واحترفه، بل صار يتباهى به ..
وقد أدى هذا ببعض من
أعرفهم من القضاة أن يشفقوا من الحكم بالحبس في الجرائم الاعتبارية التي لا يتمثل
فيها روح الإجرام الحقيقي, كما أنهم قد يوقفون تنفيذ العقوبة في الجرائم الحقيقية
إذا كان المجرم مبتدئاً, لأنهم يخشون أن يدخل الجاني السجن بريئاً من الإجرام أو
مبتدئاً فيه، فيخرج من السجن ممتلئاً إجراما، فقيها في أساليبه.
ولهذا، فإن السجن
الذي يقال عنه أنه إصلاح وتهذيب ليس هو في الحقيقة إلا معهد للإفساد وتلقين
لأساليب الإجرام.
لقد شعرت بعض
الحكومات بهذا .. ولذلك فقد حاولت أن تصلح من هذا العيب .. وذلك بتقسيم السجون على
أساس نوع العقوبة، وأسنان المحكوم عليهم.
وقد رأيت أن هذا
التقسيم لم يجد شيئا .. لسبب بسيط .. وهو أنه يجمع بين ذوي العقوبة الواحدة في
محبس واحد, وبعضهم قد يكون مبتدئاً لا يعلم كثيراً عن الإجرام، والبعض من عتاة
المجرمين, واختلاط هؤلاء من نفس العيب الذي يراد علاجه .. أما جمع الشبان في محبس
واحد والكهول في محبس واحد فلن يكون علاجاً؛ لأن الإحصائيات تدل على أن أكثر
المجرمين من الشبان.
ومن جنايات السجون انعدام قوة الردع
.. ذلك أن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة, ولكن الواقع قد أثبت
أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين, فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة
- وهي أقصى أنواع الحبس - لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم, ولو
كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة.
ومن جنايات السجون قتل الشعور
المسئولية .. ذلك أن الكثير من المسجونين يقضون في السجن مدداً طويلة نوعاً ما ..
وهم ينعمون خلالها بالتعطل من العمل، ويكفون خلالها مئونة أنفسهم من مطعم وملبس
وعلاج .. والمشاهد أن هؤلاء يكرهون أن يلقى بهم خارج السجن ليواجهوا حياة العمل
والكد من جديد, وأنهم يموت فيهم كل شعور بالمسئولية نحو أسرهم، بل نحو أنفسهم, فلا
يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه, ولا حباً في الجريمة ولا حرصاً
عليها وإنما حباً في العودة إلى السجن وحرصاً على حياة البطالة.
ومن جنايات السجون ازدياد سلطة
المجرمين .. فمن المجرمين من يستغل ـ بعد مغادرته السجن ـ جريمته السابقة لإخافة
الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم, ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم
دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال.
لقد أصبح سلطان
هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين يزاحم سلطان الحكومات، بل أصبح المجرمون في
الواقع أصحاب الكلمة النافذة والأمر المطاع.. ومن الوقائع التي أعرفها ويعرفها
غيري من رجال القانون أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة
ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا
التوجيه.. وقد أدى هذا إلى زيادة المجرمين الشبان الذين يتطلعون بدافع من طموحهم
إلى نيل كل مركز ممتاز, كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع, فبعد أن كانت الجريمة
عاراً أصبحت مدعاة للتباهي والتفاخر .. وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلاً مهاناً
أصبح عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان.
ومن جنايات السجون انخفاض المستوى
الصحي والأخلاقي .. فعقوبة الحبس تقتضي ـ أحيانا كثيرة ـ وضع عدد كبير من الرجال
الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرياتهم ومن
الاتصال بزوجاتهم, ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاماً بعد عام والمحابس لا تزيد,
فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشراً في غرف السجون كما يحشر السردين في علبته,
وبحيث أصبحت السجون تضم بين جدرانها عدداً يتراوح بين ثلاثة وأربعة أمثال العدد
المقرر لها من الناحية الصحية.. وقد أدى ازدحام السجون وعدم توافر الوسائل الصحية
بها وحرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض السرية والجلدية
والصدرية, وغيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين.
لقد تحولت السجون
بهذا إلى أداة لنشر الأمراض بين المسجونين, ولإفساد أخلاقهم وتضييع رجولتهم, ولا
يقتصر شر السجون على هذا, بل إنها تؤدي إلى فساد الأخلاق في خارجها, لأن وضع
الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال وبناتهم وأخواتهم إلى الحاجة
وإلى الفتنة ووضعهن وجهاً لوجه أمام الشيطان.
سكت قليلا، ثم قال:
ومن جنايات السجون ازدياد الجرائم .. لقد دلت الإحصائيات التي لا تكذب على أن الجرائم تزداد
عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل.
قال ذلك، ثم نظر إلى
عبد القادر، وقال: اعذرني على هذه المقاطعة ..
قال عبد القادر:
بارك الله فيك .. لقد كفيتني الإجابة عن هذا السؤال .. وما ذكرته يدعو البشرية
للنظر في هذه الشريعة العادلة لتقتبس منها من سنن الهدى ما يردع الشياطين الذين
يتربعون على عروشها.
قلنا: فحدثنا عن النوع الأخير من
أنواع العقوبات التي جاءت بها الشريعة .. ذلك الذي سميته التأديبات.
قال:
هي كل الوسائل التي أباحت الشريعة
استعمالها بقصد التأديب والتربية مما يمكن أن يردع النفوس عن غيها .. وذلك لأن من
النفوس من لا يردعها إلا هذا النوع من العقوبات ، فلذلك كان في استعمالها من
الرحمة ما كان في تجرع الدواء المرير ، والعملية الجراحية ، والكي، وغير ذلك.
ومع ذلك، فقد اعتبرت الشريعة هذا
النوع من العقوبات هو آخر ما يلجأ إليه المربي[360].
قال: أربعة:
الحرمان، والتهديد، والهجر، والضرب.
قلنا: فحدثنا عن الأول .. حدثنا عن
الحرمان.
قال: مثال ذلك أن يحرم الولد ولده من
نفقة من النفقات ، أو جائزة من الجوائز بسبب تقصيره أو خطئه ، وهو في مقابل إثابته
إن أحسن.
وقد ذكر الفقهاء أن للوالد أن يعاقب
ولده ببعض الكماليات التي يمكن استغناء الولد عنها ، ولكنه ليس له أن يحرمه من
النفقات الضرورية التي قد تؤثر في صحته أو في حياته ، كحرمانه من الطعام الصحي، أو
من شراء ما يلزمه لدراسته.
والأدلة على هذه المسألة هو ما نص
عليه الشرع من وجوب النفقة من الوالد على ولده مطلقا من غير اعتبار للطاعة أو
عدمها.
وقد رد الفقهاء على من زعم بأن
النفقة تسقط من الزوج على زوجته في حال نشوزها، واستدلوا لذلك بأن الله تعالى بين
ما على الناشز فقال :﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾
(النساء:34)، فأخبر أنه ليس على الناشز إلا الهجر والضرب , ولم يسقط عز وجل نفقتها
ولا كسوتها.
وفي الحديث عن حكيم بن معاوية
القشيري قال: قلت : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال: (أن تطعمها إذا
طعمت وتكسوها إذا اكتسيت , ولا تضرب الوجه , ولا تقبح , ولا تهجر إلا في البيت)[361]
، فعم رسول الله r كل النساء ولم يخص ناشزا من غيرها , ولا صغيرة ولا كبيرة , ولا
أمة مبوأة بيتا من غيرها.
وروي عن ابن عمر قال : كتب عمر ابن
الخطاب إلى أمراء الأجناد : أن انظروا إلى
من طالت غيبته أن يبعثوا بنفقة أو يرجعوا - وذكر باقي الخبر , فلم يستثن
عمر امرأة من امرأة، وقال شعبة : سألت الحكم بن عتيبة عن امرأة خرجت من بيت زوجها
غاضبة هل لها نفقة ؟ قال : نعم.
زيادة على أنه r أشار في خطبته في حجة الوداع إلى هذا إشارة صريحة حين قال:
(فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه , فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح
ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)[362]،
فإنه r ذكر الرزق والكسوة بعد الضرب، وهو لا يكون إلا بعد نشوزها ومعصيتها
لزوجها، فكأنه r قال : لا يمنعكم تأديبكم لهن من إعطائهن حقهن في النفقة والكسوة ،
وفي ذكر رسول الله r الكسوة في هذا الموضع إشارة إلى مدى تأثير ذلك في رفع النشوز عن
الزوجة وإعادة الأسرة إلى جو السلام العائلي، وهو معروف مجرب واقعيا.
قلنا: فحدثنا عن العقوبة الثانية.
قال: هي التهديد، وهو أسلوب من
الأساليب الرادعة عن الخطأ ، وهو مقدم على تنفيذ العقوبة ، وإليه الإشارة بقوله
تعالى على لسان إبراهيم u :﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ (الانبياء:57)، فهذا وعيد من إبراهيم u
بتحطيم أصنام المشركين.
ومنه قول سليمان u
عن الهدهد :﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ (النمل:21)
ومنه تهديدات الله تعالى في القرآن
الكريم كقوله تعالى :﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ (الأحزاب:30) ، وقوله :﴿ وَلَوْلا أَنْ
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرا﴾ (الاسراء:74 ـ 75)، أى لولا تثبيتنا لك لقد كدت تركن
إليهم بعض الشيء، ولو فعلت لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، أى ضاعفنا
لك العذاب في الدنيا والآخرة ، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا
بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ (الحاقة:45 ـ
46) ، أي لو أتى بشيء من عند نفسه لأخذنا منه بيمينه وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه.
ويدل عليه أيضا قوله r : (ليتنهين رجال عن ترك الجماعة أو
لأحرقن بيوتهم)[363]،
ففي هذا الحديث تهديد من رسول الله r بحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة ، ومع ذلك لم ينفذه r
.
وقد عد الغزالي من مراتب تغيير
المنكر اللجوء إلى أسلوب التهديد والتخويف ( كقوله: دع عنك هذا أو لأكسرن رأسك أو
لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه)[364]
وقدم هذه المرتبة على مباشرة الضرب
وتنفيذه ، قال :(وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه)
وذكر من الأدب في هذه المرتبة أن لا
يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله لأنهبن دارك أو لأضربن ولدك أو لأسبـين
زوجتك وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو
كذب.
وذكر جواز الكذب في هذا ، بأن ( يزيد
في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه)
وبين أن هذا ليس ذلك من الكذب
المحذور ، لأن المبالغة في مثل ذلك معتادة ، وهي من جنس مبالغة الرجل في إصلاحه
بـين شخصين وتأليفه بـين الضرتين، فقد ورد الشرع بجواز الكذب في هذا الباب، لأن
القصد به إصلاح ذلك الشخص.
قلنا: فحدثنا عن التأديب الثالث.
قال: هو الهجر .. وهو ما أشار إليه
قوله تعالى :﴿ وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (التوبة:118)
ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله
تعالى بنجاح أسلوب الهجر الذي استعمله رسول الله r مع هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن عن غزوة تبوك في جملة من تخلف
كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ولا نفاقاً، وهم
الذين أشار إليهم قوله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
(التوبة:106)
ويشير إلى هذا الأسلوب كذلك قوله
تعالى في تأديب الناشز :﴿
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ (النساء: من الآية34)
فقد جعل الله تعالى الهجر وسيلة من
وسائل الإصلاح في هذين الموطنين:
أما في الموطن
الأول ،
فالهجر لأجل الفسوق والانحراف ، وهو هجر مؤقت له غاياته التي تحدد مدته وكيفيته ،
ولا يدخل فيما ورد النهي عنه من هجران المسلم فوق ثلاث، وهذا محل اتفاق من العلماء
:
ومن الغايات التي ذكرها العلماء لهذا
النوع ، ما ذكره الشاطبي بعد أن ما ورد الآثار الكثيرة عن السلف الصالح من هجر
المبتدع زجرا له وتحجيما للبدعة :( وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين
تعودان بالهدم على الإسلام : أحدهما : التفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير ،
فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس ، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره ، فيؤدي
ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم . والثانية : أنه إذا وقر
من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على انتشار الابتداع في كل شيء ، وعلى كل
حال فتحيا البدع وتموت السنن ، وهو هدم الإسلام بعينه) [365]
زيادة على أن الخوض في الجدل مع
المبتدع ـ الذي لا يجدي معه الحوار العلمي ـ قد يرسخ بدعته في نفسه ويزيدها شدة ،
ويشير إلى هذا قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنعام:68)، فالله تعالى نهى عن الخوض معهم فيما هم فيه
من الباطل ، وهو نهي مؤقت حتى يخوضوا في حديث غيره، في كلام آخر غير ما كانوا فيه
من التكذيب.
ومثل هذا ما جاء في الآية الأخرى ،
قال تعالى :﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا
سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ
اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾
(النساء:140)، فقد جعل الله تعالى الجالس المشارك في مرتبة المستهزئ ، لأن الجلوس
قد يكون نوعا من الإقرار، ولهذا قال r :( من كان يؤمن
باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)[366]
لأن الجلوس عليها إقرار على الاثم.
أما الموطن
الثاني
، فهو هجر لغاية استصلاح أمر دنيوي ، وهو حق محض للعبد ، وفي مثل هذا ورد النص
بجواز هجر المسلم بما دون ثلاث ليال ، كما قال r :( لا تناجشوا ولا
تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، ولا يحل لمسلم أن
يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)[367]
ومن هذا النوع من الهجر هجر الوالد
لولده ، والزوج لزوجته ، وهو ليس محدودا بالثلاث ، فقد هجر النبي r
نساءه شهرا ، قال الخطابي :( فأما هجران الوالد ولده والزوج لزوجه ، ومن كان في
معناهما فلا يضيق أكثر من ثلاث ، وقد هجر رسول الله r نساءه شهراً)[368]
وقد أشار القرآن الكريم إلى آداب
الهجر بتسميته هجرا جميلا ، فقال تعالى آمرا رسوله r بالصبر، على ما يقوله سفهاء قومه :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ﴾ (المزمل:10)
ومن الهجر الجميل أن يعدل معه ، فلا
يؤديه اختلافه معه إلى أن يسلبه حقه ولو في الرأي ، فليس من العدل رد الحق لكون
صاحبه على خطأ أو باطل ؛ قال معاذ :( اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً
أو قال : فاجراً)، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول الحق ؟ قال : (على الحق نور)
قلنا: فحدثنا عن التأديب الرابع.
قال: هو الضرب .. وهو آخر أسلوب قد
يضطر إلى استعماله المربي في حال عدم نجاح كل الأساليب السابقة ، ابتداء من
الموعظة ، ويشير إليه من القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ وَاللَّاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ (النساء: من الآية34)، فقد جعل الله
تعالى الضرب وسيلة من وسائل التأديب تختص بصنف معين من النساء وفي أحوال معينة من
النشوز.
ويشير إليه إشارة غير مباشرة قوله
تعالى :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ (صّ:44)
وبشير إليه فيما يخص أساليب تربية
الأولاد قوله r :( مروا أولادكم
بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)[369]،
فقد أذن r في استعمال هذه الأسلوب في تربية الأولاد ، ولكن بعد ثلاث سنين
تجرب فيها جميع الوسائل الأخرى.
ونستشف من هذا الحديث الشريف أن
الضرب من أجل تعويد الطفل الصلاة لا يصح قبل سن العاشرة ، ويحسن أن يكون التأديب
بغير الضرب قبل هذه السن.
وقد نص الفقهاء على أن هذا النوع من
التأديب يجوز ـ في حال الضرورة ـ من كل ولي على الصبي سواء كان أبا , أو جدا , أو
وصيا , أو قيما من قبل القاضي.
ونص الفقهاء كذلك على أن قوله r :( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع
سنين , واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين) لا ينحصر في الأمر بالصلاة بل يشمل ترك
الطهارة والصوم وكل الواجبات الأخرى.
وقد حد الشرع حدودا وضوابط لهذا
الضرب الشرعي ، منها اجتناب المقاتل .. وهي الأماكن
الخطرة الحساسة التي قد تؤدي إصابتها إلى ضرر خطير.
ومن الأماكن التي نص عليها الفقهاء
على الخصوص (الوجه) لورود الأدلة
الكثيرة الآمرة باتقاء الوجه ، قال r : (إذا ضرب أحدكم
فليتق الوجه)[370]
، بل قد ورد النص على النهي عن ضرب الوجه في القتال نفسه الذي لا تراعى فيه ـ في
العادة ـ مثل هذه الأمور ، قال r :( إذا قاتل أحدكم
فليجتنب الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)[371]
بل نص الفقهاء على أن هذه الحرمة
ترتبط بجنس الإنسان مطلقا بغض النظر عن كونه مسلما أو كافرا ، قال العراقي:( ظاهر
قوله ( أخاه ) اختصاص ذلك بالمسلم وقد يقال إنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له
ويؤيده أنه ورد غير مقيد بأحد وذلك في صحيح البخاري وغيره)[372]
وقال القرطبي :( يعني بالأخوة هنا ,
والله أعلم أخوة الآدمية فإن الناس كلهم بنو آدم ودل على ذلك قوله r :( فإن الله خلق آدم على صورته) أي على
صورة وجه المضروب , فكأن اللاطم في وجه أحد ولد آدم لطم وجه أبيه آدم وعلى هذا
فيحرم لطم الوجه من المسلم والكافر ولو أراد الأخوة الدينية لما كان للتعليل بخلق
آدم على صورته معنى لا يقال فالكافر مأمور بقتله وضربه في أي عضو كان إذ المقصود
إتلافه والمبالغة في الانتقام منه ولا شك في أن ضرب الوجه أبلغ في الانتقام
والعقوبة فلا يمنع وإنما مقصود الحديث إكرام وجه المؤمن لحرمته ; لأنا نقول : مسلم
أنا مأمورون بقتل الكافر والمبالغة في الانتقام منه لكن إذا تمكنا من اجتناب وجهه
اجتنبناه لشرف هذا العضو ; ولأن الشرع قد نزل هذا الوجه منزلة وجه أبينا ويقبح لطم
الرجل وجها شبه وجه أبي اللاطم وليس كذلك كسائر الأعضاء ; لأنها كلها تابعة للوجه)[373]
ومنها (الرأس) .. فقد نص
الفقهاء على أن من المقاتل التي يحرم الضرب عليها الرأس [374]
، قال الجصاص : (وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله)[375]،
واستدل لذلك بأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه , وإنما أمر
باجتناب الوجه لهذه العلة، ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب
للحد . والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر
الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه ; لأن الموضحة
فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في
الرأس والوجه , فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما .
بعد هذا كله فإن الشريعة
اعتبرت الضرب كالكي آخر علاج يمكن استعماله ، فلذلك تصبح المبالغة فيه غير مجدية ،
بل قد تولد في الولد إصرارا على تصرفاته ، خاصة إن كان القصد من العقاب التشفي.
ولهذا كان من سنة رسول الله r
عدم استعمال هذه الوسيلة مطلقا ، قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله r
أحداً قط بيده ولا أمره ، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله)[376] ، وعن أنس قال : خدمت رسول الله r
عشر سنين ، فما قال لي قط : أف ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ، ولا لشيء لم
أفعله : ألا فعلت كذا)[377]
، وقال r :( إن الرفق لا
يكون في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه)[378]
أما بخصوص ضرب الزوجة[379]
.. والذي يشنع عليه الكثير من غير أن يفهموا المقصود منه .. فهو ليس في الشريعة
إلا رخصة محدودة بحدود كثيرة جدا ..
فهو – أولا - الوسيلة الأخيرة من
وسائل التأديب، ولا يلجأ إليها إلا في حال الضرورة، ومع من يصلح له ذلك من النساء،
فالحكم الشرعي في تأديب الزوجة عند نشوزها هو أن يبدأ بالموعظة أولا ثم بالهجران ،
فإن لم ينجعا فقد أباح الشرع من باب الرخصة اللجوء إلى هذه الوسيلة مع اعتبارها
غير محبذة في الشرع وقاصرة على حال الضرورة ومقيدة بقيود كثيرة وفي ظروف معينة.
وقد نص على هذه الوسيلة في قوله
تعالى :﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ .. (34) ﴾ (النساء)، والضرب في هذه الآية
هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة ، لأن المقصود
منه الصلاح لا غير ، وقد عبر r عن هذه الرخصة بقوله: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه
فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح)[380]
وقد فصل هذا الحديث وفسر بقوله r
في خطبته بحجة الوداع : (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون
منهن شيئا غير ذلك إلا أن ياتين بفاحشة مبينة[381] ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع ،واضربوهن ضربا
غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم
عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولايأذن في بيوتكم من
تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)[382]
ونلاحظ أن كل النصوص التي رخصت في
الضرب حثت على الإحسان للزوجة واحترامها واعتبار العلاقة بها علاقة في الله وبكلمة
الله ، ثم قصرت إباحة الضرب على المعصية وقيدت المعصية على الأمر الكبير الخطير
الذي تأنف منه الطباع ، وهو أن تدخل المرأة الأجانب لبيت زوجها من غير إذنه[383]
، ثم قيدت الضرب بكونه غير مبرح ،وفسر بما لا يشين ولا يدمي، وفسرت وسيلته بالسواك
ونحوه .
أما الآية الوحيدة التي وردت فيها
هذه الرخصة ، فقد جعلت الضرب هو الوسيلة النهائية لامرأة لم يجد معها القول الرقيق
الواعظ ، ولا السلوك الذي يمس صميم مشاعر المرأة ، فلم يبق مع هذه المرأة التي لم
يستجب عقلها ولا قلبها إلا اللجوء إلى هذه الوسيلة كحل ضروري مؤقت ومحدد ، وقد
ختمت الآية بنهي وفاصلة وكلاهما توجيه شديد للرجل بعدم الظلم والتعدي :
أما النهي فقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ (النساء:34)
يقول القرطبي تفسيره: (أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل وهذا نهى عن ظلمهن بعد تقرير
الفضل عليهن والتمكين من أدبهن ، وقيل المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن)[384]
ثم جاءت الفاصلة القرآنية بقوله
تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ إشارة إلى
الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ، أي ( إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله
فيده بالقدرة فوق كل يد فلا يستعل أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الإتصاف
هنا بالعلو والكبر)[385]
ويجب أن يكون الضرب غير مبرح , وغير
مدم , وأن يتوقى فيه الوجه والأماكن المخوفة , لأن المقصود منه التأديب لا
الإتلاف.
زيادة على هذا ، فقد ورد في النصوص
ما ينفر عن الضرب ، ويعتبره نقصا في الرجل، لأن عجزه في الوسيلتين الأوليتين دليل
على هذا القصور ، فعن عائشة قالت: (ما ضرب رسول الله r شيئا قط بيده ولا امرأة
ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن
ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى)[386]
، فهذا بيان أن الضرب مخالف لسلوك القدوة، وهو ما يدعو أصحاب النفوس المترفعة
الباحثة عن الكمال إلى اجتنابه.
وقد حذر r من ذلك في حديث آخر موحيا أعظم الإيحاء بمبلغ كراهية استعمال هذه
الوسيلة ، فعنه r أنه ذكر النساء فوعظ فيهن ، ثم قال:( إلام يجلد أحدكم امرأته جلد
الأمة ـ أو جلد العبد ـ ولعله يضاجعها من آخر يومه)[387]
وفي حديث آخر ذكر فيه r
حقوق الزوجة على زوجها اعتبر r اجتناب ضربها من حقوقها عليه
فعن معاوية القشيري قال: أتيت رسول
الله r ،فقلت: ما تقول في
نسائنا؟ قال: (أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن)[388].
وفي حديث آخر تصريح بموضع الرخصة من
استعمال هذه الوسيلة، وبيان لنقص من يستعملها، وهو إشارة إلى أن استعمالها قصور
بشري لا وسيلة شرعية، فعن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله r
: لا تضربوا إماء الله ، فجاء عمر إلى رسول الله r ، فقال:ذئرن[389] النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن ، فأطاف بآل
رسول الله r نساء كثير يشكون أزواجهن،
فقال النبي r :(لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم)[390]
وفي حديث آخر يدعو r
على من يضرب زوجته مع أنه r لا يدعو إلا على من بالغ في الظلم والعتو والتجبر ، فعن علي t أن امرأة الوليد بن عقبة أتت النبي r
، فقالت: يا رسول الله إن الوليد يضربها ،فقال: قولي له قد أجارني ، قال علي t
: فلم تلبث إلا يسيرا حتى رجعت ، فقالت:ما زادني إلا ضربا ، فأخذ r
هدبة من ثوبه فدفعها إليها ، وقال :قولي له إن رسول الله r قد أجارني ، فلم تلبث إلا
يسيرا حتى رجعت ، فقالت: ما زادني إلا ضربا ، فرفع r يديه وقال: اللهم عليك الوليد أثم بي مرتين [391].
وللتحذير من استعمال هذه الوسيلة
أجازت سنة النبي r الفعلية التحذير من التزويج لمن لا يملك نفسه أمام عتوها ، فيضرب
زوجته، قالت فاطمة بنت قيس :قال لي رسول الله r إذا أحللت فآذنيني ،
فآذنته فخطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو الجهم وأسامة بن زيد ، فقال رسول الله r
: أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل ضراب للنساء[392].
ولهذه النصوص وغيرها، فإن إطلاق
القول بالإباحة خطأ عظيم، لأنه إما أن يكون تشجيعا للأزواج على استعمال هذه الوسيلة
، ولو في غير محلها، أو إساءة لدين الله تعالى، دين الرحمة والسماحة ، ليتخذ ذلك
الجهلة ذريعة لغرس الشبهات.
ولهذا فإن القول باعتبار الأصل في
الضرب التحريم هو الأولى، ليبقى للرخصة بعد ذلك محلها من قاعدة ( الضرورات تبيح
المحظورات)، وقد قال بنحو هذا عطاء ، فقد قال : (لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم
تطعه , ولكن يغضب عليها)، وقد علق على هذا ابن العربي بقوله : (هذا من فقه عطاء ,
فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر
إباحة , ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي r في حديث عبد الله بن زمعة : (إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه
, ولعله أن يضاجعها من يومه)، وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله
r استؤذن في ضرب النساء , فقال: اضربوا , ولن يضرب خياركم ، فأباح
وندب إلى الترك ، وإن في الهجر لغاية الأدب)[393]
ثم بين ما ذكرناه من محدودية هذه
الرخصة، فقال :( والذي عندي أن الرجال والنساء لا يستوون في ذلك ; فإن العبد يقرع
بالعصا والحر تكفيه الإشارة ; ومن النساء , بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب ,
فإذا علم ذلك الرجل فله أن يؤدب , وإن ترك فهو أفضل)[394]
***
ما وصل عبد القادر
عودة من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا
بيده، وساروا إلى مقصلة الإعدام ..
أراد بعضنا أن يتدخل
ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل ..
لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في
جيش العدالة الإلهية .. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد .. فـ :﴿ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا
لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)﴾ (الأحزاب)
قال ذلك، ثم سار
بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت روحه
إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد r .
([1]) أشير به إلى الأستاذ
الشهيد عبد القادر عودة (ت1374 هـ- 1954 م): وهو محام من علماء القانون والشريعة
بمصر، كان من زعماء جماعة (الإخوان المسلمين)، ولما أمر جمال عبد الناصر بتنظيم
(محكمة الشعب)، كتب عودة نقدا لتلك المحكمة، ومن جملة ما ذكره أن رئيسها جمال سالم
طلب من بعض المتهمين أن يقرؤوا له آيات من القرآن بالمقلوب! واتهم بالمشاركة في
حادث إطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر (1954)، وقد أعدم شنقا على أثر ذلك مع بضعة
متهمين آخرين.
له تصانيف كثيرة، منها
(الإسلام وأوضاعنا القانونية) و(الإسلام وأوضاعنا السياسية) و(التشريع الجنائي في
الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي)، و(المال والحكم في الإسلام)، و(الإسلام بين جهل
أبنائه وعجز علمائه)
وقد استفدنا كثيرا من
كتابه (التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي) في هذا الفصل.. فأكثر
ما نذكره من الحكم التشريعية مأخوذ من كلامه إما نقلا حرفيا، وإما بتصرف يقتضيه
المقام.
وقد آثرنا هذا الكتاب
على غيره باعتباره من أهم ما كتب في هذا الباب بشهادة الكثير.
([2]) الحدود ـ لغة ـ جمع حد، وهو الحاجز بين شيئين، وهي ـ اصطلاحا
ـ عقوبة مقررة لأجل حق الله .. فيخرج التعزير لعدم تقديره إذ أن تقديره مفوض لرأي
الحاكم.. ويخرج القصاص لأنه حق الآدمي.
وسميت عقوبات المعاصي
حدودا، لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها.
ويطلق الحد على نفس
المعصية ، كما في قوله تعالى:﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَقْرَبُوهَا)(البقرة: من الآية187)
([3]) عرف الفقهاء الزنى
باعتبارين:
عام: وهو يشمل
ما يوجب الحدّ وما لا يوجبه، وهو (وطء الرّجل المرأة في القبل في غير الملك
وشبهته)
وخاص، وهو ما
يوجب الحدّ: وقد عرفه الحنفية بهذا الاعتبار بأنه (وطء مكلّف طائع مشتهاةً حالاً
أو ماضياً في قبل خال من ملكه وشبهته في دار الإسلام ، أو تمكينه من ذلك ، أو
تمكينها)
وعرّفه المالكيّة :
بأنّه (وطء مكلّف مسلم فرج آدميّ لا ملك له فيه بلا شبهة تعمّداً)
وعرفه الشّافعيّة :
بأنه (إيلاج حشفة أو قدرها في فرج محرّم لعينه مشتهىً طبعاً بلا شبهة)
ويدل لهذا ما ورد في
الحديث عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها، دون أن أمسها،
فأنا هذا، فأقم علي ما شئت.. فقال عمر: سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي
r شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي r رجلا، فدعاه، فتلا عليه :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114)، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله
أله خاصة، أم للناس عامة؟..فقال: (للناس عامة) ( رواه مسلم وأبو داود والترمذي)..
ففي هذا الحديث لم يعتبر رسول الله r ما وقع فيه هذا الرجل من الزنا الذي يوجب الحد مع أنه r قال في حديث آخر : قال r : (لكل ابن آدم حظه من الزنا ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان
المنطق ، والأذنان زناهما الاستماع ، واليدان تزنيان ، فزناهما البطش ، والرجلان
تزنيان ، فزناهما المشي ، والفم يزني فزناه القبل) (رواه أبو داود)
([4]) البلاد بتاريخ 12 /5/1422.. وورد في مجلة المجتمع 16/4/1422
ما يخالف بعض هذه الأرقام ففيها أن 22 مليون شخص عبر العالم قتلهم الأيدز خلال
العشرين سنة الماضية .. وأن 5 ملايين شخص انتقل لهم المرض خلال السنة الماضية ..
وأن 25 مليون مصاب بالإيدز في أفريقيا..
([6]) انظر: الأمراض
الجنسية، الدكتور محمد علي البار،
والأمراض المنتقلة بالجنس: د. عبد اللطيف ياسين
القاهرة، والأمراض الجلدية: د. مأمون جلاد، روائع الطب الاسلامي : د محمد
نزار الدقر.
([32]) وكان من رحمة الله أن هذا التشريع لم يأت هكذا فجأة .. بل قدم له
بمقدمات كثيرة .. فقد بدأت عقوبة الزنا
أول الامر الايذاء بالتوبيخ والتعنيف، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء:16) .. ثم تدرج الحكم
من ذلك إلى الحبس في البيوت، كما قال تعالى :﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (النساء:15).. ثم استقر الأمر،
وجعل الله السبيل، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة ورجم الثيب حتى يموت، كما
قال r :( خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي
سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) (رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي)
وقد خالف في كون
الآيتين مرتبتان من مراتب تحريم الزنا بعض الفقهاء (سيد سابق)، فرأى أن الظاهر أن
آيتي النساء المتقدمتين تتحدثان عن حكم السحاق واللواط، وحكمهما يختلف عن حكم
الزنا المقرر في سورة النور.. فالآية الاولى في السحاق .. والثانية في اللواط.
ففسر الأولى بقوله:(
النساء اللاتي يأتين الفاحشة ـ وهي السحاق: الذي تفعله المرأة مع المرأة ـ
فاستشهدوا عليهن أربعة من رجالكم، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت بأن توضع المرأة
وحدها بعيدة عمن كانت تساحقها، حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا إلى الخروج
بالتوبة أو الزواج المغني عن المساحقة)
وفسر الثانية بقوله :(
والرجلان اللذان يأتيان الفاحشة - وهي اللواط - فآذوهما بعد ثبوت ذلك بالشهادة
أيضا، فإن تابا قبل إيذائهما بإقامة الحد عليهما، فإن ندما وأصلحا كل أعمالهما
وطهرا نفسيهما فأعرضوا عنهما بالكف عن إقامة الحد عليهما) (انظر: فقه السنة لسيد
سابق)
وهو فهم جليل من عالم
جليل .. وهو يقي الآية من التعطيل الذي يسببه اعتبارها منسوخة، أو حكما لم يقصد به
سوى التدرج.
ومع ذلك، فإنا نرى أنه
يمكن إعمال الآية .. ولو باعتبار الزنا .. وذلك بأن يتعامل ولي الأمر في تطبيق هذا
الحد بتدرج كالتدرج الذي ذكرته الآيات .. كمقدمة لتطبيق الحد بصورته الكاملة.. وفي
الأحكام الشرعية ما يتيح لولي الأمر مثل هذا التصرف.
([34]) رواه أبو داود والنسائي
وغيرهما.. وسبب قوله هذا ما حدث به محمد بن المنكدر : أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي
النبي r، وكان ماعز بن مالك يتيما في حجر هزال، فأصاب جارية من الحي، فقال
له هزال : (ائت النبي r، فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك)
([35]) التّغريب في اللّغة :
النّفي عن البلد والإبعاد عنها يقال: غرب الشّخص: ابتعد عن وطنه فهو غريب.. وهو
نفس المعنى الاصطلاحي.
([36]) اختلف الفقهاء في قبول
هذا الحديث، فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الحديث منسوخ أو غير مشهور، وإذا اعترفوا
بالتغريب فإنما يعترفون به على أنه تعزير لا حد يجوز الحكم به إذا رآه الإمام،
ومالك يرى التغريب حداً واجباً على الرجل دون المرأة، والشافعي وأحمد، يريان في
التغريب حداً يجب على كل زان غير محصن.
([38]) اختلف الفقهاء في
مشروعيّة التّغريب في الزّنى على قولين:
القول
الأول:
أنه عقوبة شرعية، وأنّ من حدّ الزّاني - إن كان بكراً - التّغريب لمدّة سنة لمسافة
قصر فأكثر، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، واستدلوا لذلك بما ذكرنا من
النصوص، بالإضافة إلى أنّ الخلفاء الرّاشدين جمعوا بين الجلد والتّغريب ، ولم يعرف
لهم مخالف، فكان كالإجماع.
القول
الثاني:
أنّه عقوبة تعزيريّة، وأنه ليس من الحدّ، ولكن يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد
والتّغريب ، إن رأى في ذلك مصلحة، وهو قول الحنفيّة، واعتبروا قوله r : ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) محمولا على التعزير،
لأنّه لو أخذ بظاهره لكان ناسخا للآية ، لأنّ فيه زيادة على نصّ الآية.
واستدلوا لذلك أيضا
بما روى عبد الرّزّاق قال : غرّب عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ ربيعة بن أميّة
بن خلف في الشّراب إلى خيبر ، فلحق بهرقل فتنصّر ، فقال عمر : لا أغرّب بعده
مسلماً.
ونرى أن القول الثاني
أقوى من الرؤية المقاصدية .. فللإمام أن ينظر المصلحة في هذا، فإن رآها في التغريب
عزره به، وإلا تركه.
([39]) اختلف الفقهاء في كيفية
تنفيذ عقوبة التغريب على قولين:
القول
الأول:
أنّ التّغريب هو النّفي من البلد الّذي حدث فيه الزّنى إلى بلد آخر ، دون حبس
المغرّب في البلد الّذي نفي إليه ، إلا أنّه يراقب لئلّا يرجع إلى بلدته، ، وهذا
فيمن زنى في وطنه ، وأمّا الغريب الّذي زنى بغير بلده ، فيغرّب إلى غير بلده، وهو
قول الشّافعيّة والحنابلة.
القول
الثاني:
يغرّب الزّاني عن البلد الّذي حدث فيه الزّنى إلى بلد آخر ، مع سجنه في البلد
الّذي غرّب إليه، هذا إن كان متوطّنا في البلد الّتي زنى فيها، وأمّا الغريب الّذي
زنى فور نزوله ببلد ، فإنّه يجلد ويسجن بها، لأنّ سجنه في المكان الّذي زنى فيه
تغريب له. وهو قول المالكيّة.
ونرى أن ذلك للإمام ..
فهو الذي يمكن أن يرى ما يصلح لكل شخص من الناس.
([44]) ذكر الفقهاء من شروط
الإحصان:
1 - التكليف: أي أن
يكون الواطئ عاقلا بالغا .. فلو كان مجنونا أو صغيرا فإنه لا يحد، ولكن يعزر.
2 - الحرية: فلو كان
عبدا أو أمة فلارجم عليهما، لقول الله تعالى في حد الإماء :﴿ فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ )(النساء: من الآية25)، والرجم لا يتجزأ.
3 - الوطء في نكاح
صحيح: أي أن يكون الواطئ قد سبق له أن تزوج زواجا صحيحا، ووطأ فيه ولو لم ينزل..
فإن كان الوطء في نكاح فاسد فإنه لا يحصل به الاحصان .. ولا يلزم بقاء الزواج
لبقاء صفة الاحصان، فلو تزوج مرة زواجا صحيحا، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة
الزوجية، ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم.. ومثل ذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت
فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة.
([45]) أصل القذف ـ في اللغة ـ
الرمي بالحجارة وغيرها، ومنه قول الله تعالى لأم موسى u:﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِّ ﴾ (طـه: من الآية39) لكن الاصطلاح خصصه بالرمي بالفاحشة.
([58]) وذلك ـ طبعا ـ خاص بمن
يدخله الخيلاء من إسبال الإزار، وهو مذهب جماهير العلماء .. وقد ذكرنا المسألة
بتفصيل في رسالة (النبي الإنسان)
([62]) اشترط الفقهاء في القاذف
ثلاثة شروط، وهي: العقل والبلوغ والاختيار .. لأن هذه الثلاثة هي أصل التكليف، ولا
تكليف بدونها .. فإذا قذف المجنون أو الصبي أو المكره فلا حد على واحد منهم، لقول
رسول الله r :(رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم،
وعن المجنون حتى يفيق)، وقوله :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)،
لكنه إذا كان الصبي مراهقا بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيرا مناسبا.
([63]) اشترط الفقهاء في
المقذوف هي:
العقل، لأن الحد
إنما شرع للزجر عن الإذية بالضرر الواقع على المقذوف، ولا مضرة على من فقد العقل
فلا يحد قاذفه..
البلوغ، وهو قول
جمهور الفقهاء، وقالوا بتعزير القاذف، وخالف في ذلك مالك، وهو ما نراه راجحا، قال
ابن العربي: (والمسألة محتملة الشك.. لكن مالك غلب عرض المقذوف وغيره راعى حماية
ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه، فلزم الحد)
الاسلام: فلو كان
المقذوف من غير المسلمين لم يقر الحد على قاذفه عند جمهور العلماء، ويعزر بدل ذلك.
الحرية: وهو قول
جمهور العلماء لما فهموه من قوله r :( من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون
كما قال)( رواه البخاري ومسلم)، وخالف في ذلك ابن حزم، فرأى أن قاذف العبد يقام
عليه الحد، وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية.. وهو الراجح الذي نراه،
والذي تدل عليه النصوص التي تسوي بين المؤمنين، قال ابن حزم:( وأما قولهم لا حرمة
للعبد ولا للأمة فكلام سخيف. والمؤمن له حرمة عظيمة .. ورب عبد جلف خير من خليفة
قرشي عند الله تعالى)
العفة: وهي
العفة عن الفاحشة التي رمي بها سواء أكان عفيفا عن غيرها أم لا، حتى أن من زنا في
أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف، فإنه لا حد عليه..وإن كان
هذا القذف يستوجب التعزير لأنه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه.
([64]) نرى أن هذا هو الشرط
الوحيد الذي يحمي القاذف من العقوبة .. ولكن الذي نص عليه الفقهاء، وذكرناه في
شروط المقذوف، مرتبط بالحد الشرعي، ومن عداهم يرتبط بالتعزير .. وكلاهما عقوبة ..
بل قد يكون التعزير أعظم من الحد كما سنرى.
([65]) نص الفقهاء على أنه إذا
قذف القاذف شخصا واحدا أكثر من مرة، فعليه حد واحد إذا لم يكن قد حد لواحد منها،
فإن كان قد حد لواحد منها ثم عاد إلى القذف، حد مرة ثانية، فإن عاد مرة ثالثة
وهكذا يحد لكل قذف.
([66]) اختلف الفقهاء فيمن قذف
جماعة ورماهم بالزنا على ثلاثة أقوال:
القول
الأول:
يحد حدا واحدا، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد والثوري، واستدلوا لذلك بحديث أنس
وغيره: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سمحاء، فرفع ذلك إلى النبي r ، فلاعن بينهما ولم يحد شريكا.
القول
الثاني:
عليه لكل واحد حدا، وهو قول الشافعي والليث، واستدل لذلك بأنه حق للآدميين، وأنه
لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد.
القول
الثالث:
التفريق بين أن يجمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم: يا زناة، أو يقول: لكل
واحد: يا زاني، ففي الصورة الاولى يحد حدا واحدا، وفي الثانية حد لكل واحد منهم..
واستدل القائل بهذا بأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف، كان أوجب أن يتعدد
الحد.
ونرى أن الأرجح في هذا
هو القول الثالث .. للاعتبار الذي ذكروه .. أما حديث أنس الذي استدل به أصحاب
القول الأول، فلا دلالة فيه على ما ذكروا لأن للعان أحكامه الخاصة.
([67]) اختلف الفقهاء في اعتبار
الحد حقا من حقوق الله، فلا يسقط بحال من الأحوال، أو هو حق من حقوق الآدميين يمكن
أن يتنازلوا عنه على قولين:
القول
الأول:
أنه حق من حقوق الله، ولذلك، فإنه إذا بلغ الحاكم، وجب عليه إقامته، وإن لم يطلب
ذلك المقذوف، ولا يسقط بعفوه، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو
قول أبي حنيفة.
القول
الثاني:
أنه حق من حقوق الآدميين، ولذلك، فإن الامام لا يقيمه إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط
بعفوه، ويورث عنه ويسقط بعفو وارثه، ولا تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف،
وهو قول الشافعي.
ونرى أن الأرجح في هذا
وغيره أن يوكل أمر إقامة الحد إلى الإمام، فإن رأى المصلحة في حده، بأن يردع ذلك
غيره، فله أن يحده، وإن رأى أن التوبة كافية، وأن المجتمع لا يحتاج إلى مزيد ردع،
فله أن يترك إقامته.
وترك الأمر للحاكم خير
من تركه للمقذوف، لأن المقذوف قد يضغط عليه من طرف أي جهة من الجهات، فيتنازل عن
حقه .. ويضيع بذلك الغرض الذي أراده الشارع من هذه الأحكام.
([68]) اختلف الفقهاء فيما لو
تاب القاذف وحسنت توبته، هل يعدل في شهادته أم لا على قولين:
القول
الأول:
يعدل، وتقبل شهادته إذا تاب توبة نصرحا، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، والليث،
وعطاء، وسفيان بن عيينة، والشعبي، والقاسم، وسالم، والزهري.. واستدلوا لذلك بقول
عمر ـ رضي الله عنه ـ لبعض من حدهم في قذف: إن تبت قبلت شهادتك.
القول
الثاني:
لا يعدل، ولا تقبل شهادته ولو تاب توبة نصرحا، وهو قول الأوزاعي، والثوري، والحسن،
وسعيد بن المسيب، وشريح، وابراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وهو مذهب الأحناف.
وسر اختلافهم يرجع إلى
اختلافهم في الاستثناء الوارد في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)﴾ (النور) ، هل يراد منه الأمرين
جميعا، أم أنه راجع إلى الحكم بالفسق فقط.
([69]) من المنافع المتوهمة
التي ذكرها المفسرون، والتي أثبت العلم الحديث بطلانها أنها تقوي الضعيف، وتهضم
الطعام، وتعين على الباه، وتسلي المحزون، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، وتنعش
الحرارة الغريزية، وتزيد في الهمة والاستعلاء.
ولذلك فإن المنفعة
الوحيدة التي تحمل عليها الآية هي الاتجار المادي، فقد كانوا يتغالون فيها إذا
جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في شرائها عدوه فضيلة له
ومكرمة فكانت أرباحهم تكثر بسبب ذلك.
([74]) قال الخطابي : معنى هذا توكيد
التحريم والتغليظ فيه ، يقول من استحل بيع الخمر فليستحل أكل الخنازير فإنهما في
الحرمة والإثم سواء ، فإذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر.
([77]) اختلف الفقهاء في تحريم
القليل من الأنبذة على قولين:
القول
الأول:
تحريم قليلها، وكثيرها، وهو قول جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، للأدلة التي
سقناها وغيرها.
القول
الثاني:
ما كان من الأنبذة من غير العنب، فإنه يحرم الكثير المسكر منه، أما القليل الذي لا
يسكر، فإنه حلال، وهو مذهب فقهاء العراق، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن
أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين، وأبي
حنيفة.
وقد تمسكوا لمذهبهم
بظاهر قوله تعالى:﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) (النحل:67)، قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين، لما سماه
الله رزقا حسنا (هناك شبهة في هذا ذكرنا الإجابة عنها في رسالة (معجزات علمية).
واستدلوا لذلك كذلك
بحديث رووه قال فيه رسول الله r :( حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها)
وبحديث آخر رووه قال
فيه رسول الله r :( إني كنت نهيتكم عن الشراب في الاوعية، فاشربوا فيما بدا لكم
ولا تسكروا) رواها الطحاوي.
وروي عن ابن مسعود أنه
قال: (شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم)
واستدلوا لذلك أيضا أن
القرآن نص على أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة
والبغضاء، وهذه العلة توجد في القدر المسكر، لافيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك
القدر هو الحرام، إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها.
([78]) تشمل الخمر كل السوائل
المعدة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، ليتحول النشا أو السكر الذي تحتويه إلى
غول بواسطة بعض كائنات حية لها قدرة على إفراز مواد خاصة يعد وجودها ضروريا في
عملية التخمر.
وهذا هو تعريف الطب
للخمر .. فكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما
كان مسكرا من أي نوع من الأنواع فهو خمر شرعا، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان
من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الأشياء.
([94]) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وتتمة الحديث:
قيل لابن عمر راويه يا أبا عبد الرحمن: وما نهر الخبال ؟ قال نهر من صديد أهل
النار .
([104]) رواه الترمذي من رواية عبد القدوس وقد وثق وقال:
غريب وقد روى الأعمش عن عبد الرحمن بن لنسكيه مرسلا.
([123]) يعني البرابط، أي
العيدان جمع بربط بفتح الموحدتين وهو العود والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في
الجاهلية.
([132]) من الشروط التي ذكرها
الفقهاء لإقامة الحد على شارب الخمر:
العقل: لانه
مناط التكليف، فلا يحد المجنون بشرب الخمر، ويلحق به المعتوه.
البلوغ: فإذا شرب
الصبي، فإنه لايقام عليه الحد، لانه غير مكلف.
الاختيار: فإن
شربها مكرها فلاحد عليه، سواء أكان هذا الاكراه بالتهديد بالقتل، أو بالضرب
المبرح، أو بإتلاف المال كله.. ويدخل في الإكراه الاضطرار، فمن لم يجد ماء، وعطش
عطشا شديدا يخشى عليه منه التلف، ووجد خمرا، فله أن يشربها.. ومثل ذلك من أصابه
الجوع الشديد الذي يخشى عليه منه الهلاك، لأن الخمر حينئذ ضرورة يتوقف عليها
الحياة، والضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (البقرة:173)، وقد روي أن عبد الله بن حذافة أسره
الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكل الخنزير،
ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، ثم أخرجوه خشية موته، فقال: والله لقد
كان الله أحله لي، فإني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الاسلام.
العلم: وذلك بأن
يعلم بأن ما يتناوله مسكر، فلو تناول خمرا مع جهله بأنها خمر، فإنه يعذر بجهله، ولا
يقام عليه الحد.. لكن لو نبهه أحد، فتمادى في شربه، فإنه لا يكون معذورا، لارتفاع
الجهالة عنه، فيستوجب الحد.. وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمرا بين
الفقهاء، فإنه لايقام عليه الحد، لأن الاختلاف شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.. ومثل
ذلك من تناول النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، الذي أجمع الفقهاء
على تحريمه إذا كان جاهلا بالتحريم، لكونه بدار الحرب أو قريب عهد بالاسلام، بخلاف
من كان مقيما بدار الاسلام، وليس قريب عهد بالدخول في الاسلام، فإنه يقام عليه
الحد، لأن هذا مما علم من الدين بالضرورة.
([133]) اختلف الفقهاء في هذا
على قولين:
القول
الأول:
لا يشترط الاسلام في عقوبة شارب الخمر، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين
يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مواطنون، ومثلهم الكتابيون الذين
يقيمون مع المسلمين بعقد أمان إقامة موقوتة مثل الأجانب، هؤلاء يقام عليهم الحد
إذا شربوا الخمر في دار الاسلام، وهو قول الجمهور، لأن لهم ما لنا وعليهم ما
علينا.. ولأن الخمر محرمة في دينهم، كما سبقت سنرى ذلك، ولآثارها السيئة وضررها
البالغ في الحياة العامة والخاصة.. بالإضافة إلى أن الإسلام يريد صيانة المجتمع الذي
تظله راية الاسلام، ويحتفظ به نظيفا قويا متماسكا، لا يتطرق إليه الضعف من أي
جانب، لامن ناحية المسلمين، ولا من ناحية غير المسلمين.
القول
الثاني:
أن الخمر، وإن كانت غير مال عند المسلمين لتحريم الاسلام لها، إلا أنها مال له
قيمة عند أهل الكتاب، وأن من أهرقها من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها، وإن شربها
مباح عندهم، وعلى هذا فلا عقوبة على من يشربها منهم، وهو قول الحنفية، واستدلوا
لذلك بأنا أمرنا بتركهم وما يدينون.
وعلى فرض تحريمها في
كتبهم، فإننا نتركهم، لانهم لا يدينون بهذا التحريم، ومعاملتنا لهم تكون بمقتضى ما
يعتقدون، لا بمقتضي الحق من حيث هو.
ونرى رجحان هذا القول
إلا إذا رضي هؤلاء بأن يعاملوا في هذا كما يعامل المسلمون، فلهم ذلك.. بالإضافة
إلى أنهم يتحملون ـ في حال شربهم الخمر ـ كل مسؤولياتهم المرتبطة بالانتهاكات
المتعلقة بها.
([134]) اختلف الفقهاء في مقدار
حد شارب الخمر على الأقوال التالية:
القول
الأول:
ثمانون جلدة، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة، ومن تبعهم، لإجماع الصحابة، فإنه
روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن ابن عوف: (اجعله - كأخف
الحدود – ثمانين)، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام.
وروي أن عليا ـ رضي
الله عنه ـ قال في المشورة: (إذا سكر: هذى، وإذا هذى: افترى، فحدوده حد المفترى)
(روى ذلك الجوزجاني، والدارقطني وغيرهم)
القول
الثاني:
أربعون جلدة، وهو قول الشافعي، لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: (جلد
رسول الله r أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة وهذا أحب إلي)
(رواه مسلم)
وعن أنس قال: أتي رسول
الله r برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتي به أبو
بكر، فصنع مثل ذلك، ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود، فقال ابن عوف:( أقل
بالحدود ثمانون)، فضربه عمر .. وفعل الرسول r حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل
النبي r وأبي بكر وعلي، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعله
إذا رآه الامام.
ويرجح هذا أن عمر كان
يجلد الرجل القوي المنهمك في الشراب ثمانين، ويجلد الرجل الضعيف الذي وقعت منه
الزلة أربعين.
([135]) نص الفقهاء على أن الأمر
بقتل الشارب إذا تكرر ذلك منه فهو منسوخ، ولا نرى ذلك .. بل نرى أن للإمام أن يسلك
في الردع إذا تهاون الناس بالخمر ما يحقق الغرض الشرعي من منعها، ولو اضطر إلى سن
قانون يعدم المدمنين.
لأن الغرض الشرعي من
قوانين العقوبات ليس تنفيذها، وإنما ردع الناس بها .. ومن الناس من لا يردعه إلا
القتل.
وعلى هذا نرى حمل ما
ورد في النصوص من هذا الباب .. فقد قالها رسول الله r باعتباره ولي الأمر، لا باعتباره مشرعا.
نقول هذا تفاديا للقول
بالنسخ .. لأن النسخ في حال وجوده يحتاج إلى دليل يدل عليه، وليس هنا أي دليل.
([140]) السرقة: لغة: أخذ الشّيء من الغير خفيةً، يقال : سرق منه
مالاً ، وسرقه مالاً يسرقه سرقاً وسرقةً : أخذ ماله خفيةً ، فهو سارق، ويقال : سرق
أو استرق السّمع والنّظر : سمع أو نظر مستخفياً.
وهي اصطلاحا: أخذ العاقل البالغ نصاباً محرزاً ، أو ما
قيمته نصاب ، ملكاً للغير ، لا شبهة له فيه ، على وجه الخفية.. وزاد المالكيّة :
أخذ مكلّف طفلاً حرّاً لا يعقل لصغره.
([141]) المختلس : هو الّذي يأخذ المال جهرةً معتمداً على
السّرعة في الهرب، والفرق بين السّرقة والاختلاس هو أنّ الأولى عمادها الخفية،
والاختلاس يعتمد المجاهرة، وقد ورد في الحديث:( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس
قطع)
([142]) الجحود : هو الإنكار ، ولا يكون إلاّ على علم من
الجاحد به، والجاحد أو الخائن : هو الّذي يؤتمن على شيء بطريق العاريّة أو الوديعة
فيأخذه ويدّعي ضياعه ، أو ينكر أنّه كان عنده وديعةً أو عاريّةً.
والفرق بين السّرقة والخيانة
يرجع إلى قصور في الحرز عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة.
وقد اختلف الفقهاء
فيها على قولين:
القول
الأول:
لا يقطع من جحدها، وهو قول الجمهور، لأن القرآن والسنة أوجبا القطع على السارق،
والجاحد للعارية ليس بسارق.
القول
الثاني:
يقطع جاحدها، وهو قول أحمد وإسحاق، وزفر، والظاهرية، واستدلوا لذلك بما رواه أحمد،
ومسلم، والنسائي عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر
النبي r بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم النبي r فيها، فقال له النبي r :( يا أسامة، لاأراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل)، ثم قام
النبي r خطيبا، فقال: (إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف
تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت
يدها)، فقطع يد المخزومية.
وهو ما نراه راجحا، قال
ابن القيم منتصرا له:( فإدخاله r جاحد العارية في اسم السارق كإدخاله سائر أنواع المنكرات في
الخمر، وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه) .. وقال:( والحكمة والمصلحة ظاهرة
جدا، فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولاغنى لهم عنها، وهي
واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا، ولا يمكن الغير كل وقت
أن يشهد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا، ولافرق في
المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها،
وهذا بخلاف جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه)
([143]) الحرابة : هي البروز لأخذ مال أو لقتل أو لإرعاب
على سبيل المجاهرة مكابرةً اعتماداً على القوّة مع البعد عن الغوث، وتسمّى قطع
الطّريق ، والسّرقة الكبرى.
ويفرّق بينها وبين
السّرقة بأنّ الحرابة هي البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرةً اعتماداً على
الشّوكة مع البعد عن الغوث ، أمّا السّرقة فهي أخذ المال خفيةً.. وسنتحدث عنها
بتفصيل عند ذكر حدها.
([144]) الغصب:لغة: أخذ الشّيء ظلماً مجاهرةً، واصطلاحا: هو
الاستيلاء على حقّ الغير عدواناً.
والفرق بين الغصب
والسّرقة أنّ الأوّل يتحقّق بالمجاهرة ، في حين يشترط في السّرقة أن يكون الأخذ
سرّاً من حرز مثله.
([145]) النّبّاش : هو الّذي يسرق أكفان الموتى بعد دفنهم
في قبورهم، وقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:
القول
الأول:
أن عقوبته قطع يده، وهو قول الجمهور، واستدلوا لذلك بأنه سارق حقيقة، والقبر حرز.
القول
الثاني:
أن عقوبته التعزير، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والأوزاعي، والثوري، واستدلوا لذلك
بأنه نباش، وليس سارقا، فلا يأخذ حكم السارق، ولأنه أخذ مالا غير مملوك لأحد، لأن
الميت لا يملك، ولأنه أخذ من غير حرز.
وهذا ما نراه راجحا،
لأنه لا يصيب الأحياء أي ضرر من نبش الموتى.. ولكن ذلك لا ينفي أن يعزره الحاكم
بما يراه رادعا.
([146]) النّشّال : هو المختلس الخفيف اليد من اللّصوص ،
يشقّ ثوب الرّجل ويسلّ ما فيه على غفلة من صاحبه، ويعبّر عنه بالطّرّار ـ من طررته
طرّاً : إذا شققته ـ
والفرق بين النّشل أو
الطّرّ وبين السّرقة يتمثّل في تمام الحرز، ولهذا اختلف الفقهاء فيه على قولين:
القول
الأول:
يقطع مطلقا سواء أوضع يده داخل الكم وأخرج المال أو شق الكم فسقط المال فأخذه، وهو
قول مالك، والاوزاعي وأبي ثور، ويعقوب، والحسن، وابن المنذر.
القول
الثاني:
: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى
داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وإسحق.
ونرى أن الأرجح في
المسألة هو أنها من المسائل التي ترجع لولي الأمر، فإن رأى مصلحة الردع تتحقق
بالقطع فعله، وإلا فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
([147]) النهب: هو الغارة، والغنيمة، والشّيء المنهوب وهو
الغلبة على المال والقهر.. قال الأزهريّ : والنّهب : ما انتهب من المال بلا عوض ،
يقال : أنهب فلان ماله : إذا أباحه لمن أخذه ، ولا يكون نهباً حتّى تنتهبه الجماعة
، فيأخذ كلّ واحد شيئاً ، وهي النّهبة.
ومن هذا يظهر أنّ
الفرق بين النّهب والسّرقة يعود إلى شبه الخفية ، وهو لا يتوافر في النّهب، ولهذا
ورد في الحديث : ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع)
([168]) هذا إن كان المجنون
مطبقاً ، فأمّا إن كان غير مطبق وجب الحدّ إن سرق في حال الإفاقة ، ولا يجب إن سرق
في حال الجنون.. وقد ألحق الفقهاء المعتوه بالمجنون ، لأنّ العته نوع جنون فيمنع
أداء الحقوق.
أمّا من يسرق وهو
سكران ، فقد اختلف فيه الفقهاء، فبعضهم يرى أنّ عقله غير حاضر ، فلا يؤاخذ بشيء
مطلقاً إلاّ حدّ السّكر، سواء أكان متعدّياً بسكره أم كان غير متعدّ به.
غير أنّ جمهور الفقهاء
يفرّق بين حالتين : إذا كان السّكران قد تعدّى بسكره ، فإنّ حدّ السّرقة يقام عليه
، سدّاً للذّرائع ، حتّى لا يقصد من يريد ارتكاب جريمة إلى الشّرب درءاً لإقامة
الحدّ عليه، أمّا إذا لم يكن متعدّياً بالسّكر فيدرأ عنه الحدّ ، لقيام عذره
وانتفاء قصده.
([169]) نص الفقهاء على أنه لا
يقام الحدّ على السّارق إلاّ إذا كان يعلم بتحريم الفعل الّذي اقترفه ، فالجهالة
بالتّحريم ممّن يعذر بالجهل شبهة تدرأ الحدّ، وقد روي عن عمر وعثمان ـ رضي الله
عنهما ـ قولهما: (لا حدّ إلاّ على من علمه)، أمّا عدم العلم بالعقوبة فلا يعدّ من
الشّبهات الّتي تدرأ الحدّ.
([170]) ولأجل هذا لا يقام الحدّ
على من أخذ مالاً وهو يعتقد أنّه مال مباح أو متروك.. ولا يقام الحدّ على المؤجّر
الّذي يأخذ العين الّتي آجرها ، ولا على المودع الّذي يأخذ الوديعة دون رضا
الوديع.
([171]) ولهذا لا يقام حدّ
السّرقة على من أخذ مالاً مملوكاً لغيره دون أن يقصد تملّكه ، كأن أخذه ليستعمله
ثمّ يردّه ، أو أخذه على سبيل الدّعابة ، أو أخذه لمجرّد الاطّلاع عليه ، أو أخذه
معتقداً أنّ مالكه يرضى بأخذه ، ما دامت القرائن تدلّ على ذلك ، ومن القرائن الّتي
تدلّ على نيّة التّملّك ، إخراج المال من الحرز لغير ما سبق ، بحيث يعتبر سارقاً
لتوافر قصد التّملّك حينئذ ولو أتلفه بمجرّد إخراجه - أمّا لو أتلف داخل الحرز فلا
تظهر نيّة التّملّك ، ولهذا لا يقام عليه الحدّ.
([172]) لا يقام الحدّ على
السّارق إلاّ إذا كان مختاراً فيما أقدم عليه ، فإن كان مكرهاً انعدم القصد وسقط
الحدّ عند من يرى أنّ السّرقة تباح بالإكراه ، لأنّ الإكراه شبهة ، والحدود تدرأ
بالشّبهات لقوله r : ( إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه)،
وخالف في ذلك بعض الفقهاء، فرأى أنّ الإكراه الّذي يرفع الإثم ولا يترتّب عليه أثر
هو ما يكون في جانب الأقوال ، وأمّا الإكراه على الأفعال، فلا يرفع الإثم.
([173]) فقد نص الفقهاء على أن
الاضطرار شبهة تدرأ الحدّ ، والضّرورة تبيح للآدميّ أن يتناول من مال الغير بقدر
الحاجة ليدفع الهلاك عن نفسه ، فمن سرق ليردّ جوعاً أو عطشاً مهلكاً فلا عقاب
عليه، لقوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية173)، وقوله r : ( لا قطع في زمن المجاع)
ولهذا أجمع الفقهاء
على أنّه لا قطع بالسّرقة عام المجاعة ، قال ابن القيّم:( وهذه شبهة قويّة تدرأ
الحدّ عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشّبه الّتي يذكرها كثير من الفقهاء ، لا
سيّما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسدّ به رمقه، وعام المجاعة
يكثر فيه المحاويج والمضطرّون ، ولا يتميّز المستغني منهم والسّارق لغير حاجة من
غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحدّ بمن لا يجب عليه فدرئ)
وقد حدّد النّبيّ r المقدار الّذي يكفي حاجة المضطرّ بقوله : (كل ولا تحمل ، واشرب
ولا تحمل) ، وذلك في رده على من سأل: أرأيت إن احتجّنا إلى الطّعام والشّراب؟
ونص الفقهاء كذلك على
أن الحاجة وهي أقلّ من الضّرورة تصلح شبهةً لدرء الحدّ ، ولكنّها لا تمنع الضّمان
والتّعزير.
([174]) يقصد الفقهاء بهذا انتفاء القرابة بين السّارق والمسروق منه .. فقد
يكون السّارق أصلاً للمسروق منه ، أو فرعاً له .. وقد تقوم بينهما صلة قرابة أخرى
، وقد تربط بينهما رابطة الزّوجيّة.
أما سرقة الأصل من الفرع، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى
أنّه لا قطع في سرقة الوالد من مال ولده وإن سفل ، لأنّ للسّارق شبهة حقّ في مال
المسروق منه فدرئ الحدّ، قال r لمن جاء يشتكي أباه الّذي يريد أن يجتاح ماله:( أنت ومالك لأبيك)،
واللّام هنا للإباحة لا للتّمليك.
أما سرقة الفرع من الأصل، فقد ذهب جمهور الفقهاء من
الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا قطع في سرقة الولد من مال أبيه وإن
علا ، لوجوب نفقة الولد في مال والده ، ولأنّه يرث ماله ، وله حقّ دخول بيته ،
وهذه كلّها شبهات تدرأ عنه الحدّ.. أمّا المالكيّة فإنّهم لا يرون في علاقة الابن
بأبيه شبهةً تدرأ عنه حدّ السّرقة ، ولذلك يوجبون إقامة الحدّ في سرقة الفروع من
الأصول.
أما سرقة الأقارب بعضهم من بعض، فقد ذهب جمهور الفقهاء
من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ سرقة الأقارب بعضهم من بعض ليست شبهةً
تدرأ الحدّ عن السّارق، ولهذا أوجبوا القطع على من سرق من مال أخيه أو أخته أو
عمّه أو عمّته أو خاله أو خالته ، أو ابن أو بنت أحدهم ، أو أمّه أو أخته من
الرّضاعة ، أو امرأة أبيه أو زوج أمّه ، أو ابن امرأته أو بنتها أو أمّها ، حيث لا
يباح الاطّلاع على الحرز ،ولا تردّ شهادة بعض هؤلاء للبعض الآخر.
ويرى الحنفيّة أنّه لا
قطع على من سرق من ذي رحم محرم ، كالأخ والأخت والعمّ والعمّة والخال والخالة ،
لأنّ دخول بعضهم على بعض دون إذن عادةً يعتبر شبهةً تسقط الحدّ ، ولأنّ قطع أحدهم
بسبب سرقته من الآخر يفضي إلى قطع الرّحم وهو حرام بناءً على قاعدة : ما أفضى إلى
الحرام فهو حرام.
أمّا من سرق من ذي رحم
غير محرم كابن العمّ أو بنت العمّ ، وابن العمّة أو بنت العمّة ، وابن الخال أو
بنت الخال ، وابن الخالة أو بنت الخالة ، فيقام عليه حدّ السّرقة لأنّهم لا يدخل
بعضهم على بعض عادةً ، فالحرز كامل في حقّهم.
أما السّرقة بين الأزواج، فقد اتّفق جمهور الفقهاء على
عدم إقامة الحدّ إذا سرق أحد الزّوجين من مال الآخر وكانت السّرقة من حرز قد
اشتركا في سكناه ، لاختلال شرط الحرز ، وللانبساط بينهما في الأموال عادةً ، ولأنّ
بينهما سبباً يوجب التّوارث بغير حجب.
أمّا إذا كانت السّرقة
من حرز لم يشتركا في سكناه ، أو اشتركا في سكناه ولكنّ أحدهما منع من الآخر مالاً
أو حجبه عنه ، فقد اختلف الفقهاء في حكم السّرقة منه فيرى الحنفيّة وهو قول عند
الشّافعيّة والرّواية الرّاجحة عند الحنابلة: أنّه لا قطع على واحد منهما .. أمّا
المالكيّة وهو الرّاجح عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية عند الحنابلة فإنّهم
يوجبون الحدّ على السّارق .. وهناك قول ثالث للشّافعيّة وهو : وجوب قطع الزّوج إذا
سرق من مال زوجته ما هو محرز عنه ولا تقطع الزّوجة إذا سرقت من مال زوجها ولو كان
محرزاً عنها ، لأنّ الزّوجة تستحقّ النّفقة على زوجها ، فصار لها شبهة تدرأ عنها الحدّ
، بخلاف الزّوج فلا تقوم به شبهة تدرأ عنه الحدّ إذا سرق من مالها المحرز عنه..
وقد ذكرنا المسألة بتفصيل في (الحقوق المعنوية للزوجة) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية
مقاصدية)
([175]) نص الفقهاء على أنه إذا
كان للسّارق شبهة ملك أو استحقاق في المال المسروق ، فلا يقام عليه الحدّ ، كما لو
كان شريكاً في المال المسروق ، أو سرق من بيت المال ، أو من مال موقوف عليه وعلى
غيره ، أو سرق من مال مدينه، أو ما شابه ذلك.. وفي كل هذه المسائل خلاف طويل بين
الفقهاء.
ونرى أن كل ما ذكروه شبه
معتبرة ما عدا السرقة من بيت المال، أو من المال الموقوف، فنرى أن الأمر فيهما
خطير، بسبب تساهل الكثير في ذلك.
([176]) اختلف الفقهاء في هذا
على قولين:
القول
الأول:
درء الحدّ عن السّارق إذا كان المسروق منه مجهولاً ، بأن ثبتت السّرقة ولم يعرف من
هو صاحب المال المسروق، غير أنّ هذا لا يمنع من حبس السّارق حتّى يحضر من له حقّ
الخصومة ويدّعي ملكيّة المال، وهو قول
الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، واستدلوا لذلك بأنّ إقامة الحدّ تتوقّف
على دعوى المالك أو من في حكمه ، ولا تتحقّق الدّعوى مع الجهالة.
القول
الثاني:
إقامة الحدّ على السّارق متى ثبتت السّرقة ، دون تفرقة بين ما إذا كان المسروق منه
معلوماً أو مجهولاً، وهو قول المالكيّة، واستدلوا لذلك بأنّ إقامة الحدّ لا تتوقّف
على خصومة المسروق منه.
ونرى أن هذا من
الشبهات التي يمكنها أن تدرأ الحد .. فقد يتطوع صاحب المال على السارق بأن يعفو
عنه، فلا يظهر نفسه.
([177]) وذلك بأن يكون مالكًا
له، أو وكيل المالك أو مضارباً أو مودعاً أو مستعيراً أو دائناً مرتهناً أو
مستأجراً أو عامل قراض أو قابضاً على سوم الشّراء ، لأنّ هؤلاء ينوبون مناب المالك
في حفظ المال وإحرازه ، وأيديهم كيده.
فأمّا إن كانت يد
المسروق منه غير صحيحة على المال المسروق ، كما لو سرق من غاصب أو سارق ، فقد
اختلف فيه الفقهاء على قولين:
القول
الأول:
التّفرقة بين السّارق من الغاصب والسّارق من السّارق، فقالوا بإقامة الحدّ على
السّارق من الغاصب، لأنّ يده يد ضمان ، فهي يد صحيحة ، وعدم إقامة الحدّ على
السّارق من السّارق لأنّ يده ليست يد ملك ولا يد أمانة ولا يد ضمان ، فلا تكون
يداً صحيحةً، وهو قول الحنفيّة.
القول
الثاني:
إقامة الحدّ على السّارق من الغاصب أو السّارق من السّارق، وهو قول المالكيّة، وهو
رأي مرجوح للشّافعيّة، لأنّه سرق مالاً محرزاً لا شبهة له فيه ، ذلك أنّ يد المالك
لهذا المال لا تزال باقيةً عليه رغم سرقته أو غصبه ، أمّا يد السّارق الأوّل ويد
الغاصب فليس لهما أيّ أثر.
القول
الثالث:
عدم إقامة الحدّ على السّارق من الغاصب ، ولا على السّارق من السّارق ، وهو قول
الحنابلة وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، لأنّهم يشترطون لتمام السّرقة أن يكون
المال المسروق بيد المالك أو نائبه ، ومن يأخذ من يد أخرى فكأنّه وجد مالاً ضائعاً
فأخذه.
ونرى أن هذا من
المسائل التي تترك للإمام .. ليرى فيها الأصلح.. فإن رأى الرعية استعانت بمثل هذا
تشدد.
([178]) وذلك بأن يكون مسلماً أو
ذمّيّاً ، فأمّا إذا كان مستأمناً أو حربيّاً فلا يقطع سارقه ، وذلك لقوله r في مال المسلم : ( لا يحلّ لامرئ من مال أخيه شيء إلاّ عن طيب نفس
منه)، ولهذا وجب إقامة الحدّ على سارق مال المسلم سواء أكان السّارق مسلماً أم
ذمّيّاً.
ومثل ذلك سرقة مال
الذّمّيّ، فقد اتّفق الفقهاء على إقامة الحدّ على الذّمّيّ الّذي يسرق مال ذمّيّ
آخر، لأنّ ماله معصوم إزاءه، ويرى جمهور الفقهاء إقامة الحدّ كذلك على المسلم إذا
سرق من مال الذّمّيّ ، لقوله r : ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا)
([179]) نص على هذا الشرط
الحنفية ويقصدون به كل مال له قيمة يضمنها من يتلفه : فلو سرق ما لا قيمة له في
نظر الشّرع، كالخنزير والخمر والميتة وآلات اللّهو والكتب المحرّمة والصّليب
والصّنم ، فلا قطع عليه.. وخالف في بعض ذلك أبو يوسف، فهو يرى إقامة الحدّ على من
سرق صليباً تبلغ قيمته نصاباً إذا كان في حرزه كما يرى إقامة الحدّ على من سرق
آنيةً فيها خمر ، إذا بلغت قيمة الإناء وحده نصاباً.
وقد اختلف الفقهاء هنا
في سرقة الولد الصغير غير المميز على قولين:
القول
الأول:
لا قطع على من سرقه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأنه ليس بمال ويعزر وإن كان
عليه حلي أو ثياب فلا يقطع أيضا، لأن ما عليه من الحلي تبع له، وليست مقصودة
بالأخذ .
القول
الثاني:
في سرقته القطع، وهو قول مالك، لأنه من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال
لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به.
ونرى أن للحاكم أن
يتشدد مع هؤلاء، بالقطع أو بغيره من التعزيرات، خاصة، وقد صار مما تعم به البلوى.
([180]) اختلف الفقهاء في نصاب
القطع على الأقوال التالية:
القول
الأول:
أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما
تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وهو قول الجمهور، واستدلوا لذلك بأن روي عن
عائشة ـرضي الله عنها ـ: (أن الرسول r كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا)، وفي رواية مرفوعا (لا
تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه)، وفي رواية
أخرى للنسائي مرفوعا: (لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن)، قيل لعائشة: ما ثمن
المجن؟ قالت: ربع دينار.. ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي r قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم .. وفي رواية: (قيمته ثلاثة دراهم)
القول
الثاني:
أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم، ولا قطع في أقل منها، وهو قول الحنفية،
واستدلوا لذلك بما رواه البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم.
القول
الثالث:
يثبت القطع بالقليل والكثير، وهو قول الحسن البصري وداود الظاهري، واستدلوا لذلك
بإطلاق الآية، وبما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله r قال: (لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع
يده)
وقد أجاب الجمهور عن
هذا الحديث بأن الاعمش راوي هذا الحديث فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب،
وهي كالمجن، وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه، والجمل كانوا يرون أن منه ما يساوي
دراهم.
ونرى أن الأرجح في
المسألة هو القول الأول لما ورد من النصوص الدالة على ذلك.
([181]) ولهذا نص الفقهاء على
أنه لا قطع على من سرق الخمر والخنزير حتى لو كان المالك لهما ذميا لأن الله حرم
ملكيتهما والانتفاع بهما بالنسبة للمسلم والذمي على السواء (يرى أبو حنيفة أنه
يباح للذمي الخمر والخنزير، وأن على متلفهما ضمان القيمة، ولكنه يتفق مع الفقهاء
في عدم قطع من سرقهما لعدم كمال المالية الذي هو شرط الحد)
وكذلك لا قطع على سارق
أدوات اللهو مثل: العود، والكمنج، والمزمار، لأنها آلات لا يجوز استعمالها عند
كثير من العلماء، فهي ليست مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وأما الذين يبيحون
استعمالها فهم يتفقون مع من يحرمها في عدم قطع يد سارقها لوجود شبهة، والشبهات
مسقطة للحدود.
([190]) نص الفقهاء على أنه إذا
عاد، فسرق ثانيا تقطع رجله .. ثم اختلفوا فيما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله
على قولين:
القول
الأول:
يعزر ويحبس، وهو قول أبي حنيفة.
القول
الثاني:
تقطع يده اليسرى، ثم إذا عاد إلى السرقة تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق يعزر ويحبس،
وهو قول الشافعي وغيره.
([191]) عبر عبد القادر عودة في
كتابه (التشريع الجنائي في الإسلام) عن عجز القوانين الحديثة عن ردع اللصوص بقوله
: ( تجعل القوانين الحبس عقوبة للسرقة، وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على
العموم والسرقة على الخصوص, والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس
السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين
السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس, وما حاجته إلى الكسب في الحبس وهو موفر
الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب وكان لديه أوسع
الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء, واستطاع
أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه, فإن وصل
في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد, وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر
شيئاً ولم تفته منفعة ذات بال.
أما عقوبة القطع فتحول
بين السارق وبين العمل, أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً, ففرصة
زيادة الكسب مقطوعة بضياعها على كل حال, ونقص الكسب على حد ضئيل أو انقطاعه هو
المرجح في أغلب الأحوال, ولن يستطيع أن يخدع الناس, أو يحملها على الثقة به
والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه,
فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع,
وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس, وفي طبيعة الناس كلهم لا السارق وحده أن
لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه
الخسارة)
([197]) وتسمّى قطع الطّريق عند
أكثر الفقهاء، وهي لغة: من الحرب الّتي هي
نقيض السّلم: يقال : حاربه محاربة ، وحرابا ، أو من الحرب ـ بفتح الرّاء ـ وهو
السّلب، يقال : حرب فلانا ماله أي سلبه فهو محروب وحريب.
وهي ـ اصطلاحا ـ البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعاب على
سبيل المجاهرة مكابرة ، اعتمادا على القوّة مع البعد عن الغوث.
وعرف ابن الهمام
المحاربين بأنهم ( الخارجون بلا تأويل بمنعة وبلا منعة يأخذون أموال النَّاس
ويقتلونهم ويخيفون الطريق )
وعرفهم ابن عبد البر
بقوله: ( كل من قطع السبل وأخافها وسعى في الأرض فسادًا بأخذ المال ، واستباحة
الدماء ، وهتك ما حرم الله هتكه من المحارم فهو محارب)
وعرفهم النووي بقوله:(
هو مسلم ، مكلف ، له شوكة ، لا مختلسون يتعرضون لآخِر قافلة يعتمدون الهرب ،
والذين يغلبون شرذمة بقوتهم قطاع في حقهم لا لقافلة عظيمة , وحيث يلحق الغوث ليسوا
بقطاع )
وعرفها من المعاصرين
سيد سابق بقوله :( هي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام، لإحداث الفوضى، وسفك
الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدية بذلك الدين
والأخلاق والنظام والقانون)
([204]) ليس منا: أي ليس على
طريقتنا وهدينا، فإن طريقته نصر المسلم والقتال دونه، لا ترويعه وإخافته وقتاله..
وهو لا يعني تكفير المحارب إذا لم يبد منه ما يدل على كفره.
([207]) اختلف الفقهاء في حكم من
يعين المحاربين بجاهه أو بتكثير السّواد أو بتقديم أيّ عون لهم مع عدم مباشرة
المحاربة على قولين:
القول
الأول:
أنّ حكمه حكم المباشر، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، واستدلوا لذلك
بأنّهم متمالئون وقطع الطّريق يحصل بالكلّ ، ولأنّ من عادة القطّاع أن يباشر البعض
، ويدفع عنهم البعض الآخر ، فلو لم يلحق الرّدء بالمباشر في سبب وجوب الحدّ لأدّى
ذلك إلى انفتاح باب قطع الطّريق.
القول
الثاني:
لا يحدّ المعين، وإنّما يعزّر كسائر الجرائم الّتي لا حدّ فيها، وهو قول الشّافعيّة.
ونرى الأرجح في هذا أن
يتشدد الإمام في القوانين الرادعة، ثم يتعامل في التنفيذ مع كل حالة بحسب ما
تقتضيه، فأحوال المعينين مختلفة، ومن الخطأ أن يعاملوا معاملة واحدة.
([213]) اختلف الفقهاء في كون
هذه العقوبات على التّخيير أم على التّنويع على قولين:
القول
الأول:
أنّها على التنويع، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة، فمن قتل
وأخذ المال ، قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى،
ومن أخاف الطّريق ، ولم يقتل ، ولم يأخذ مالا نفي من الأرض.. والنّفي في هذه
الحالة ـ عند الشّافعيّة ـ تعزير وليس حدّا ، فيجوز التّعزير بغيره ويجوز تركه إن
رأى الإمام المصلحة في ذلك .. واستدلوا لذلك بأن ابن عبّاس فسر الآية فقال :
(المعنى أن يقتّلوا إن قتلوا، أو يصلّبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال، أو
تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن اقتصروا على أخذ المال ، أو ينفوا من الأرض ، إن
أرعبوا ، ولم يأخذوا شيئا ولم يقتلوا) .. وحملوا كلمة (أو) على التّنويع لا
التّخيير ، كما في قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى
تَهْتَدُوا ﴾ (البقرة: من الآية135) أي قالت اليهود: كونوا هودا، وقالت
النّصارى: كونوا نصارى، ولم يقع تخييرهم بين اليهوديّة ، والنّصرانيّة.
واستدلوا لذلك ـ أيضا
ـ بأنّه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التّخيير في مطلق المحارب لأنّ الجزاء على
قدر الجناية ، يزداد بزيادة الجناية ، وينقص بنقصانها بمقتضى العقل والسّمع أيضا
قال تعالى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (الشورى:
من الآية40)، فالتّخيير في جزاء الجناية القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة ،
وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء الجناية القاصرة خلاف المعهود في الشّرع.
زيادة على أن إجماع
الأمّة على أنّ قطّاع الطّرق إذا قتلوا وأخذوا المال ، لا يكون جزاؤهم المعقول
النّفي وحده ، وهذا يدلّ على أنّه لا يمكن العمل بظاهر التّخيير.
القول
الثاني:
أنّ التّخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التّخيير إنّما يجري على ظاهره إذا
كان سبب الوجوب واحدا كما في كفّارة اليمين وكفّارة جزاء الصّيد ، أمّا إذا كان
السّبب مختلفا ، فإنّه يخرج التّخيير عن ظاهره ويكون الغرض بيان الحكم لكلّ واحد
في نفسه.
وبما أن قطع الطّريق
متنوّع ، وبين أنواعه تفاوت في الجريمة ، فقد يكون بأخذ المال فقط ، وقد يكون
بالقتل لا غير ، وقد يكون بالجمع بين الأمرين ، وقد يكون بالتّخويف فحسب ، ولهذا
كان سبب العقاب مختلفا.. فتحمل الآية على هذا على بيان حكم كلّ نوع فيقتّلون
ويصلّبون إن قتلوا وأخذوا المال ، وتقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال
لا غير ، وينفون من الأرض ، إن أخافوا الطّريق ، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.
واستدلوا لهذا بأنّ
اللّه تعالى بدأ بالأغلظ فالأغلظ والمعهود من القرآن فيما أريد به التّخيير
البداءة بالأخفّ ككفّارة اليمين ، وما أريد به التّرتيب يبدأ فيه بالأغلظ فالأغلظ
ككفّارة الظّهار ، والقتل.
القول
الثالث:
إن أخذ قبل قتل نفس أو أخذ شيء حبس بعد التّعزير حتّى يتوب ، وإن أخذ مالا معصوما
بمقدار النّصاب قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن قتل معصوما ولم يأخذ مالا قتل، وهو
قول أبي حنيفة، أمّا إن قتل النّفس وأخذ المال ، وهو المحارب الخاصّ فالإمام مخيّر
في أمور ثلاثة: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثمّ قتلهم ، وإن شاء قتلهم فقط
، وإن شاء صلبهم ، والمراد بالصّلب هنا طعنه وتركه حتّى يموت ولا يترك أكثر من
ثلاثة أيّام.
ولا يجوز عنده إفراد
القطع في هذه الحالة بل لا بدّ من انضمام القتل أو الصّلب إليه ، لأنّ الجناية قتل
وأخذ مال ، والقتل وحده فيه القتل ، وأخذ المال وحده فيه القطع ، ففيهما مع
الإخاقة لا يعقل القطع وحده.
القول
الرابع:
التّفصيل بحسب الأحوال المختلفة، فإن قتل فلا بدّ من قتله ، إلاّ إن رأى الإمام
أنّ في إبقائه مصلحة أعظم من قتله، وليس له تخيير في قطعه ، ولا نفيه ، وإنّما
التّخيير في قتله أو صلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل لا تخيير في نفيه ، وإنّما
التّخيير في قتله ، أو صلبه ، أو قطعه من خلاف ، وإن أخاف السّبيل فقط فالإمام
مخيّر بين قتله ، أو صلبه ، أو قطعه ، باعتبار المصلحة .. هذا في حقّ الرّجال.
أمّا المرأة فلا تصلب
، ولا تنفى ، وإنّما حدّها : القطع من خلاف ، أو القتل المجرّد، وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد ، والحسن وعطاء
بن أبي رباح، وهو مذهب المالكية، واستدلّوا لذلك بظاهر الآية ، فإنّ اللّه تعالى
ذكر هذه العقوبات بكلمة (أو) وهي موضوعة للتّخيير.
([214]) اختلف الفقهاء في كيفية
إقامة هذه العقوبة: فذهب بعضهم إلى أنه يصلب حيّا ، ويقتل مصلوبا (الحنفيّة
والمالكيّة).. وذهب آخرون إلى أنه يترك
مصلوبا ثلاثة أيّام بعد موته (الحنفيّة) ..
وذهب آخرون إلى أنه ترك ذلك للإمام (المالكيّة) .. وذهب آخرون إلى أنه يصلب حيّا للتّشهير به، ثمّ
ينزل فيقتل (الشّافعيّة) .. وذهب آخرون
إلى أنه يصلب بعد القتل ، لأنّ اللّه تعالى قدّم القتل على الصّلب لفظا
(الشّافعيّة في المعتمد والحنابلة)
ونرى رجحان هذا القول
لأن الغرض من الصلب هو التنفير والردع لا إيلام الجاني، ويدل لهذا قوله r : (إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا
القتلة)
وبناء على هذا يقتل
المحارب، ثمّ يغسّل ، ويكفّن ، ويصلّى عليه ، ثمّ يصلب ، ويترك مصلوبا ثلاثة أيّام
بلياليها ولا يجوز الزّيادة عليها.
([215]) هذه الإحصائيات منقولة من كتاب (التشريع الجنائي في الإسلام)،
وللزمن دوره ـ كما نعلم ـ في هذا .. ونحن ننبه هنا إلى أنا لم نذكر الأرقام هنا
لغرض الأرقام .. وإنما ذكرنا لتوضيح الفكرة .. ولهذا لم نعتمد الأسس العلمية التي
تجرى في الإحصائيات عادة.
([216]) اختلف الفقهاء في المراد
بالنّفي ففسره أبو حنيفة على أنه حبسه
حتّى تظهر توبته أو يموت.. وفسره مالك على أنّه إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد ،
وحبسه فيه .. وفسره الشّافعيّ بالحبس أو غيره كالتّغريب .. وفسره الحنابلة بأن
يشرّدوا فلا يتركوا في بلد يستقرّون فيه.
وقد اختلف الفقهاء في
تنفيذ هذه العقوبة في المرأة فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها تغرّب، واشترطوا
لذلك أن يخرج معها محرمها، فإن لم يخرج معها محرمها فعند أحمد رواية أنّها تغرّب
إلى دون مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظوها، وعند الشّافعيّة يؤخّر التّغريب ..
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا تغريب على المرأة ولا صلب .. وهو ما نراه راجحا لما
ورد في النصوص من المعاملات الخاصة للمرأة بسبب ضعفها.
([217]) وهو الذي رجحه عبد
القادر عودة، وهو أن النفي يكون من بلد إلى بلد داخل حدود دار الإسلام، على أن
لاتقل المسافة بين البلدين عن مسافة القصر، وعلى أن يحبس الجاني في البلد الذي
ينفى إليه، وليس للحبس أمد معين بل هو متوقف على ظهور توبة المحكوم عليه وصلاحه
فإن ظهرت أطلق سراحه.
واستدل لهذا الترجيح
بأن العقوبة يجب أن يكون لها معنى؛ لأن نقل قاطع الطريق من بلد إلى آخر لا معنى له
إذا بقى مطلق السراح، ولا يمنعه أن يفعل ما فعله من قبل، فلكي يكون للنفي معناه
يجب أن يحبس.
([218]) ويشاركه في ذلك
المالكية، لان كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور،
يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة.
([220]) نص أكثر الفقهاء على
أنّه يشترط في المحارب أن يكون ملتزما بأحكام الشّريعة .. وذلك يتحقق بأن يكون
مسلما ، أو ذمّيّا ، أو مرتدّا .. ولهذا فإنه لا يحدّ الحربيّ ، ولا المعاهد ، ولا
المستأمن.
واستدلوا لهذا بقوله
تعالى :﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:34)، وهؤلاء تقبل توبتهم قبل القدرة ،
وبعدها ، لقوله تعالى :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ ﴾ (لأنفال:38)، وقوله r : ( الإسلام يجبّ ما كان قبله)
أمّا الذّمّيّ فقد
التزم أحكام الشّريعة، ولهذا، فإن له ما لنا ، وعليه ما علينا..
ونرى أن الأرجح في هذا
هو التشديد في هذا الباب، وبذلك يشمل حد الحرابة كل من تسول له نفسه بإذية الآمنين
مهما كان دينه وانتماؤه، وقد نص على هذا الترجيح سيد سابق في قوله :( ولا فرق بين
أن تكون هذه الطائفة ـ أي المحاربين ـ من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو
الحربيين، مادام ذلك في دار الاسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل
الحرابة من المسلمين والذميين)
([221]) اتفق الفقهاء على أن
البلوغ والعقل شرطان في عقوبة الحرابة، لأنّهما شرطا التّكليف الّذي هو شرط في
إقامة الحدود.. واختلفوا في حدّ من اشترك مع الصّبيّ والمجنون في قطع الطّريق على
قولين:
القول
الأول:
أنّ الحدّ لا يسقط عنهم وعليهم الحدّ، وهو قول الجمهور، وقد نصّ على ذلك الحنابلة،
وهو مقتضى كلام الشّافعيّة والمالكيّة، واستدلوا لذلك بأنها شبهة اختصّ بها واحد
فلم يسقط الحدّ عن الباقين، كما لو اشتركوا في الزّنى بامرأة.
القول
الثاني:
إذا كان في القطّاع صبيّ أو مجنون أو ذو رحم محرم من أحد المارّة فلا حدّ على أحد
منهم ، باشر العقلاء الفعل أم لم يباشروا، وهو قول الحنفيّة، واستدلوا لذلك بأنّها
جناية واحدة قامت بالكلّ ، فإن لم يقع فعل بعضهم موجبا للحدّ ، كان فعل الباقين
بعض العلّة فلم يثبت به الحكم.
ونرى أن الأرجح في هذا
هو القول الأول .. حتى لا يستغل الصبيان والمجانين لدرء الحدود .. بالإضافة إلى أن
حد الحرابة مبني على الشدة، وهذا من التساهل الذي قد يشجع المحاربين.
([222]) اختلف الفقهاء في
اشتراط السّلاح في المحارب على قولين:
القول
الأول:
يشترط أن يكون مع المحارب سلاح مهما كان نوعه، حتى لو كان حجارة أو عصيّا، فإن
تعرّضوا للنّاس بالعصيّ والحجارة فهم محاربون، أمّا إذا لم يحملوا شيئا فليسوا
بمحاربين، وهو قول الحنفيّة والحنابلة.
القول الثاني: لا يشترط
حمل السّلاح، بل يكفي القهر والغلبة وأخذ المال ولو باللّكز والضّرب بجمع الكفّ،
وهو قول المالكيّة والشّافعيّة.
ونرى رجحان هذا القول،
لأن اللكز والضرب سلاح من الأسلحة المعتبرة .. بل قد يكون ضرره أكثر من كثير من
الأسلحة.
([223]) اختلف الفقهاء في هذا الشرط
على قولين:
القول
الأول:
لا يشترط البعد عن العمران، وإنّما يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة ،
فقد يكون للبعد عن العمران أو السّلطان، وقد يكون لضعف أهل العمران ، أو لضعف
السّلطان.. فإن دخل قوم بيتا وشهروا السّلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم
قطّاع طرق في حقّهم، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة
وكثير من أصحاب أحمد، واستدلّوا لذلك بعموم آية المحاربة ، ولأنّ ذلك إذا وجد في
العمران والأمصار والقرى كان أعظم خوفا وأكثر ضررا ، فكان أولى بحدّ الحرابة.
القول
الثاني:
اشتراط البعد عن العمران، فإن حصل منهم الإرعاب وأخذ المال في القرى والأمصار
فليسوا بمحاربين، وهو قول الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة، ، واستدلوا لذلك بأنّ
الواجب يسمّى حدّ قطّاع الطّرق ، وقطع الطّريق إنّما هو في الصّحراء ، ولأنّ من في
القرى والأمصار يلحقه الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ، ويكونون مختلسين وهو ليس
بقاطع ، ولا حدّ عليه.
ونرى رجحان القول
الأول لأن مبنى الحرابة على التشديد، ولا فرق في التشديد بين العمران وغيره .. بل
قد تكون الحرابة في العمران أكثر خطرا منها في البنيان.
([224]) اختلف الفقهاء في
اشتراط الذكورة في المحاربين على قولين:
القول
الأول:
لا يشترط في المحارب الذّكورة، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، واستدلوا
لذلك بأنه لا تأثير للأنوثة على الحرابة، فقد يكون للمرأة من القوّة والتّدبير ما
للرّجل فيجري عليها ما يجري على الرّجل من أحكام الحرابة.
القول
الثاني:
يشترط في المحارب الذّكورة، وهو قول الحنفيّة، واستدلوا لذلك بأنّ ركن الحرابة هو
: الخروج على وجه المحاربة والمغالبة، ولا يتحقّق ذلك في النّساء عادة لرقّة
قلوبهنّ وضعف بنيتهنّ ، فلا يكنّ من أهل الحرابة.
ولهذا لا يقتلن في دار
الحرب ، ولا يحدّ كذلك من يشاركهنّ في القطع من الرّجال ـ عند أبي حنيفة ومحمّد ـ
سواء باشروا الجريمة أم لم يباشروا.
وقال أبو يوسف : إذا
باشرت المرأة القتال وأخذ المال ، يحدّ الرّجال الّذين يشاركونها ، لأنّ امتناع
وجوب الحدّ على المرأة ليس لعدم الأهليّة ، لأنّها من أهل التّكليف ، بل لعدم
المحاربة عادة ، وهذا لم يوجد في الرّجال الّذين يشاركونها ، فلا يمتنع وجوب الحدّ
عليهم.
ونرى أن
الأرجح
في المسألة هو التشديد في هذا الباب من ناحية القوانين حتى تردع كل من تحدثه نفسه
بهذه الجريمة .. أما في التطبيق فيتساهل فيه .. ونرى أن من التساهل التعامل مع
المرأة بحسب ما يقتضيه ضعفها الفطري.
([225]) يراد بالمجاهرة أن يأخذ
قطّاع الطّريق المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سرّاق ، وإن اختطفوا وهربوا فهم
منتهبون ولا قطع عليهم .. ومثل ذلك إن خرج الواحد ، والاثنان على آخر قافلة ،
فاستلبوا منها شيئا ، فليسوا بمحاربين لأنّهم لا يعتمدون على قوّة ومنعة، وإن
تعرّضوا لعدد يسير فقهروهم ، فهم قطّاع طرق.
([226]) نص الفقهاء على أنّ
جريمة الحرابة تثبت قضاء بالإقرار ، أو بشهادة عدلين، أو بشهادة الرّفقة في الحرابة،
فإذا شهد على المحارب اثنان من المقطوع عليهم لغيرهما ولم يتعرّضا لأنفسهما في
الشّهادة قبلت شهادتهما ، وليس على القاضي البحث عن كونهما من المقطوع عليهم ، وإن
بحث لم يلزمهم الإجابة ، أمّا إذا تعرّضوا لأنفسهما بأن يقولا: قطعوا علينا
الطّريق ، ونهبوا أموالنا لم يقبلا ، لا في حقّهما ولا في حقّ غيرهما للعداوة..
ونص المالكية على أنه تقبل شهادتهم في هذه الحالة ، وتقبل عنده في الحرابة شهادة
السّماع، حتّى لو شهد اثنان عند الحاكم على رجل اشتهر بالحرابة أنّه هو المشتهر
بالحرابة تثبت الحرابة بشهادتهما وإن لم يعايناه.
([227]) نص الفقهاء على أن حدّ
الحرابة يسقط عن المحاربين بالتّوبة قبل القدرة عليهم .. وذلك لقوله تعالى :﴿
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:34)
ولكن هذه التوبة لا
أثر لها إلا فيما يرتب بحق اللّه ، وهو تحتّم القتل ، والصّلب ، والقطع من خلاف ،
والنّفي، أمّا حقوق الآدميّين فلا تسقط بالتّوبة، فيغرمون ما أخذوه من المال ـ عند
الجمهور ـ إن كان المال قائما ، ويقتصّ منهم إذا قتلوا ، ولا يسقط إلاّ بعفو
مستحقّ الحقّ في مال أو قصاص.
([228]) البغي ـ لغة ـ الظلم والاعتداء، و ـ اصطلاحا ـ عرف البغاة بأنّهم (الخارجون من المسلمين
عن طاعة الإمام الحقّ بتأويلٍ ، ولهم شوكة)، ويعتبر بمنزلة البغي: (الامتناع من
أداء الحقّ الواجب الّذي يطلبه الإمام ، كالزّكاة)
ويطلق الفقهاء على من
سوى البغاة اسم (أهل العدل) وهم الثّابتون
على موالاة الإمام.
([239]) ميتة جاهلية: أي مات على
صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم. شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 481، وليس المراد
أنه يموت كافرا، بل يموت عاصيا.
([240]) عمية: هي فعيله ، من
العماء : الضلالة ، كالقتال في العصبية والاهواء ، وحكى بعضم فيها ضم العين، ومنه
حديث الزبير (لئلا نموت ميتة عمية) أي ميتة فتنة وجهالة. (النهاية (3 / 304)
([248]) ثلمته
: الثلمة في الحائط وغيره : الخلل ، والجمع ثلم مثل غرفة وغرف ، وثلمت الاناء ثلما
- من باب ضرب - كسرته
من حافته فانثلم وتثلم هو (المصباح المنير (1 / 116)
([252]) رواه الهيثم بن كليب الشاشي،
وابن منده والطبراني في الكبير والبغوي وابن عساكر، وفيه محمد بن سعيد الشامي
متروك.
([254]) الرّدّة لغةً: الرّجوع عن الشّيء.. واصطلاحا: كفر المسلم بقولٍ صريحٍ أو لفظٍ يقتضيه
أو فعلٍ يتضمّنه.
([255]) رواه أبو داود والنسائي
وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن
البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك، انظر: ابن كثير:1/310.
([257]) نص الفقهاء على أن من
أكره على الإسلام، فأسلم ثمّ ارتدّ قبل أن يوجد منه ما يدلّ على الإسلام طوعاً ،
مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه ، فإن كان ممّن لا يجوز إكراههم على
الإسلام - وهم أهل الذّمّة والمستأمنون - فلا يعتبر مرتدّاً ، ولا يجوز قتله ولا
إجباره على الإسلام، لعدم صحّة إسلامه ابتداءً.
([258]) اختلف الفقهاء في كون حد
الردة قاصرا على المسلمين الخارجين عن الاسلام، أم أنها تتناول غير المسلمين إذا
تركوا دينهم إلى غيره من الأديان الكافرة على قولين:
القول
الأول:
أن الكافر إذا انتقل من دينه إلى دين آخر من أديان الكفر، فإنه يقر على دينه الذي
انتقل إليه، ولا يتعرض له، لأنه انتقل من دين باطل إلى دين يماثله في البطلان،
والكفر كله ملة واحدة، بخلاف ما إذا انتقل من الاسلام إلى غيره من الاديان، فإنه
انتقال من الهدى ودين الحق إلى الضلال والكفر..
واستدلوا لذلك بقوله
تعالى :﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85) .. وبقوله r :( من خالف دينه دين الاسلام فاضربوا عنقه) (أخرجه الطبراني عن
ابن عباس مرفوعا)
القول
الثاني:
لا يقبل منه بعد انتقاله إلا الاسلام أو القتل، وهو قول للشافعية.
القول
الثالث:
أنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أقر، وإن انتقل إلى أنقص من دينه لم
يقر، وهو رواية عن أحمد، فإذا انتقل اليهودي إلى النصرانية أقر، لأن اليهودية مثل
النصرانية، من حيث كونهما دينين سماويين في الأصل، دخلهما التحريف ونسخهما
الإسلام.. وكذلك يقر المجوسي إذا انتقل إلى اليهودية أو النصرانية لأنه انتقال إلى
ما هو أعلى.. وإذا جاز الانتقال إلى الدين المماثل، فالانتقال إلى ما هو أعلى أحق
وأولى.. وإذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى المجوسية لم يقر، لانه انتقال إلى ما
هو أنقص.
ونرى أن الأرجح في هذا
هو القول الأول .. لأنه ليس من مقاصد الإسلام التدخل في الحرية الدينية لغير
المسلمين، زيادة على أن تحول غير المسلم من دين إلى دين دليل على اهتمامه وبحثه،
وذلك قد يوصله في الأخير إلى الإسلام.
([260]) فلهذا إذا اختار الإنسان
دينا قبل البلوغ، فإن الحد لا يقام عليه بسببه، قال الشّافعيّ في الأمّ :( فمن
أقرّ بالإيمان قبل البلوغ وإن كان عاقلاً ، ثمّ ارتدّ قبل البلوغ أو بعده ، ثمّ لم
يتب بعد البلوغ ، فلا يقتل ، لأنّ إيمانه لم يكن وهو بالغ ، ويؤمر بالإيمان ،
ويجهد عليه بلا قتلٍ)
([261]) هذا ما ذهب إليه
الحنفيّة وهو قول للشّافعيّة، وذهب أحمد في أظهر الرّوايتين عنه ، والشّافعيّة في
المذهب إلى وقوع ردّة السّكران ، وحجّتهم : أنّ الصّحابة أقاموا حدّ القذف على
السّكران ، وأنّه يقع طلاقه ، فتقع ردّته ، وأنّه مكلّف ، وأنّ عقله لا يزول كلّيّاً
، فهو أشبه بالنّاعس منه بالنّائم أو المجنون.
([262]) اختلف الفقهاء في المرأة
إذا ارتدت، هل يقام عليها الحد أم لا على قولين:
القول
الأول:
إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، ولكن تحبس، وتخرج كل يوم فتستتاب، ويعرض عليها
الاسلام، وهكذا حتى تعود إلى الاسلام، أو تموت، وهو قول الحنفية، لأن النبي r نهى عن قتل النساء.
القول
الثاني:
إن عقوبة المرأة المرتدة كعقوبة الرجل المرتد، وهو قول الجمهور، لان آثار الردة
وأضرارها من المرأة كآثارها وأضرارها من الرجل، ولما روي أن النبي r قال له لما أرسله إلى اليمن: (أيما رجل ارتد عن
الاسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الاسلام فادعها،
فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها)
وأخرج البيهقي،
والدارقطني، أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها (أم قرفة) كفرت بعد إسلامها، فلم
تتب، فقتلها.
وأما حديث النهي عن
قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب، لأجل ضعفهن وعدم مشاركتهن في القتال.
ولهذا كان سبب النهي
عن قتلهن أن النبي r رأى امرأة مقتولة، فقال: (ما كانت هذه لتقاتل)، ثم نهى عن قتلهن.
بالإضافة إلى أن
المرأة تشارك الرجل في الحدود كلها دون استثناء، فكما يقام عليها حد الرجم إذا
كانت محصنة، فكذلك يقام عليها حد الردة، ولافرق.
ونرى أن الأرجح في
المسألة تخفيف الحكم على المرأة إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك .. تغليبا لما ورد في
الشريعة من الأمر بالرفق وأن رسول الله r ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .. بالإضافة إلى الفتنة التي
قد تنجر عن قتل المرأة.
([263]) قسم العلماء الإكراه إلى
قسمين:
مُلجئ: وضابطه
أن يُهدَّد بالقتل، أو بما لا يطيقه، مع توقع حصول ذلك الفعل.
غير مُلجئ: وضابطه
أن يُهدَّد الإنسان بما لا يؤدي إلى هلاكه، أو يكون المُهدِّد (بالكسر) ليس عنده
قدرة ولا سلطة على ذلك، والأخذ بالرخصة من أجل الإكراه في الدين جائز بهذا الشرط.
([264]) اعتبر بعضهم هذا من
التناقضات الواردة في الشريعة، فقال في شريط مسجل :( القرآن مرة ينهى عن النفاق
ومرات أخرى يقر النفاق، فنهى عن النفاق في سورة النساء يقول :﴿ بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(139)﴾ (النساء:138-139)،
وأقر النفاق في النحل بقوله :﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَن شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
(النحل:106)، يعني في تصريح لكل إنسان أن يكذب إذا وقع في الأسر أو في أي مأزق ..
هذه نزلت في عمار بن ياسر الذي اعترف بالأصنام وكفر بالله وبمحمد, وقال: إن الذي
ينكر الله وينافق الكافرين, وهو تحت الإكراه محلل له وليس عليه أي ذنب أو عقوبة,
حاشا لله أن ينكر الإنسان إيمانه تحت الضغظ والإكراه)
وهذا اعتراض باد
بطلانه .. فالآيتان مختلفتان تماما، فكل واحدة منهما تتكلم عن أمر مستقل ؛ فالآية
الأولى تتكلم عن النفاق, وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والآية الثانية تتكلم عن
المكره على الكفر، أي إبطان الإسلام وإظهار الكفر ، وشتان بين المعنيين، فإبطان
الكفر وإظهار الإيمان لا يجوز في ملة من الملل ؛ لأنه كذب وتزوير وغش، وأما إبطان
الإيمان وإظهار الكفر في حال الإكراه الملجئ ، من باب الحفظ على نفس المسلم ، فهذا
من محاسن الشريعة.
وفي الكتاب المقدس ما
يدل على جواز هذا للاضطرار.
([267]) اتفق الفقهاء على أن كلّ
من ألحق به r عيباً أو نقصاً ، في نفسه ، أو نسبه ، أو دينه ، أو خصلةٍ من
خصاله ، أو ازدراه ، أو عرّض به ، أو لعنه، أو شتمه ، أو عابه ، أو قذفه ، أو
استخفّ به ، كل ذلك ردة لا شك فيها.
لكنهم اختلفوا هل يقتل
ردّةً أم حدّاً على قولين:
القول
الأول:
إنّ سابّ النّبيّ r يعتبر مرتدّاً ، كأيّ مرتدٍّ ، لأنّه بدّل دينه فيستتاب ، وتقبل
توبته، وهو قول الحنفيّة والحنابلة.
القول
الثاني:
أنّ سبّ النّبيّ r ردّة وزيادة، وهو قول الشّافعيّة - فيما ينقله السّبكيّ - وحجّتهم
أنّ السّابّ كفر أوّلاً ، فهو مرتدّ ، وأنّه سبّ النّبيّ r فاجتمعت على قتله علّتان، كلّ منهما توجب قتله.
القول
الثالث: بأنّ سابّ النّبيّ r لا يستتاب إلاّ أن يكون كافراً فيسلم، وهو قول المالكيّة.
ونرى أن الأرجح في
المسألة أن يوكل الأمر إلى الإمام، فإن رأى أن في إقامة الحد عليه مصلحة عامة تمنع
من تكراره، فله ذلك، ويتأكد ذلك إن تلاعب المتلاعبون بسبب النبي r .. ثم المسارعة بالتوبة ظاهرا ..
وإن رأى أن ذلك فلتة
يمكن تداركها .. فله عدم التعجيل بالعقوبة.. مع وضع الروادع المناسبة لعدم
تكرارها.
([268]) اتفق الفقهاء على أن من
سب أي نبي من الأنبياء الذين هم محلّ اتّفاقٍ على نبوّتهم يكون كمن سبّ نبيّنا r، وسابّه كافر ، فكذا كلّ
نبيٍّ مقطوعٍ بنبوّته .. أما إن كان نبيّاً غير مقطوعٍ بنبوّته ، فمن سبّه زجر ،
وأدّب ونكل به ، لكن لا يقتل.
([269]) طبعا .. المراد هنا
المصادر المتفق عليها لا المختلف فيها .. ومثل ذلك السنة المراد به السنة الصحيحة
التي هي محل اتفاق لا التي اختلف في صحتها.
([273]) هذا ما نراه راجحا في
المسألة لعدم ورود الأدلة الناصة على ذلك .. وقد اختلف في المسألة على الأقوال
التالية:
القول
الأول:
أنّ استتابة المرتدّ غير واجبةٍ، بل مستحبّة كما يستحبّ الإمهال ، إن طلب المرتدّ
ذلك ، فيمهل ثلاثة أيّامٍ، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ - في قولٍ - وأحمد في
روايةٍ والحسن البصريّ.
القول
الثاني:
تجب الاستتابة ويمهل ثلاثة أيّامٍ، وهو قول مالك وهو المذهب عند الحنابلة ، وعند
الشّافعيّ في أظهر الأقوال ، لما روي أن رجلا قدم إلى عمر رضي الله عنه من الشام،
فقال (هل من مغربة خبر)، قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه. فقال عمر: فما فعلتم به؟
قال: قربناه فضربنا عنقه قال: هلا حبستموه في بيت ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا،
واستتبتموه لعله يتوب و يراجع أمر الله: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ
بلغني: اللهم إني أبرأ إليك من دمه.
القول
الثالث:
تجب الاستتابة وتكون في الحال فلا يمهل، لما ورد أنّ امرأةً يقال لها أمّ رومان
ارتدّت فأمر النّبيّ r أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلاّ قتلت .. ولما رواه أبو
داود: أن معاذا قدم اليمن على أبي موسى الاشعري، وقد وجد عنده رجلا موثقا، فقال:
ماهذا؟ قال: رجل كان يهوديا فأسلم، ثم رجع إلى دينه (دين اليهود) فتهود، فقال: لا
أجلس حتى يقتل.. ذلك قضاء رسول الله r ، وتكرر ذلك ثلاث مرات فأمر به فقتل، وكان أبو موسى قد استتابه.
القول
الرابع:
تجب الاستتابة من غير تحديد أجل وهو قول علي والنخعي .. قال الشوكاني: (واختلف
القائلون بالاستتابة: هل يكتفي بالمرة؟ أو لابد من ثلاث، وهل الثلاث في مجلس واحد
أو في ثلاثة أيام، ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ أنه
يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا)
والقول الأخير هو الذي
نراه راجحا، وهو يعطي بالتالي فرصة طويلة للمرتد ليراجع نفسه، أو ليكف بث الشبهات
عن الناس.
([274]) اختلف الفقهاء فيمن
تكرّرت ردّته وتوبته هل يقبل منه ذلك أم لا على قولين:
القول
الأول:
تقبل توبته ، وهو قول الحنفية والشّافعيّة، لقوله تعالى :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (لأنفال:38)، وقول النّبيّ r :( أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن إله إلاّ اللّه وأنّ
محمّداً رسول اللّه ، ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة ،فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي
دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه)
القول
الثاني: توبة من تكرّرت ردّته لا تقبل، وهو قولٍ عند
الحنفيّة ورواية عند الحنابلة، لقوله تعالى :﴿ )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء:137)،
ولأنّ تكرار الرّدّة ، دليل على فساد العقيدة ، وقلّة المبالاة.
ونرى أن الأرجح هو
القول الأول تغليبا للرفق الذي هو أصل من أصول هذا الباب، كما أنه أصل من أصول
الشريعة.
([275]) قال ابن عباس في
تفسيرها: (قالت طائفة من أهل الكتاب: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا،
وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا)
([276]) اختلف الفقهاء في مدى
المصادرة على الأقوال التالية:
القول
الأول:
أن المصادرة تشمل كل مال المرتد، وهو قول مالك والشافعي والرأي الراجح في مذهب
أحمد.
القول
الثاني: أن مال المرتد الذي اكتسبه بعد الردة هو الذي
يصادر، أما ماله الذي اكتسبه قبل الردة فهو من حق ورثته المسلمين، وهو قول الحنفية،
وقول في مذهب أحمد.
القول
الثالث:
أن المال المكتسب بعد الردة لا يصادر إن كان للمرتد من يرثه من أهل دينه الذي
اختاره، وهي رواية غير مشهورة في مذهب عن أحمد.
ونرى رجحان القول
الثالث بناء على أن العقوبة الشرعية لا تصح إلا بدليل شرعي قوي .. والأصل في الناس
أنهم معصومون في أموالهم.
([278]) انظر: شبهات المشككين.. وقد ذكرنا المسألة في رسالة (ثمار من شجرة
النبوة) من زاوية غير هذه الزاوية.. وقد اقتبسنا بعض ما ذكرناه هناك للضرورة.
([279]) الجناية ـ لغة ـ الذّنب والجرم ، وهي ـ شرعا
ـ اسم لفعل محرّم حلّ بمال أو نفس، لكن الفقهاء خصّوها بما حلّ بنفس وأطراف ،
والغصب والسّرقة بما حلّ بمال.
ويريدون بها كذلك كلّ
فعل محرّم حلّ بمال ، كالغصب ، والسّرقة ، والإتلاف .. ويريدون بها كذلك كل ما تحدثه البهائم ،
وتسمّى : جناية البهيمة ، والجناية عليها .. كما أطلقها بعض الفقهاء على كلّ فعل
ثبتت حرمته بسبب الإحرام أو الحرم، فقالوا : جنايات الإحرام ، والمراد بها كلّ فعل
ليس للمحرم أو الحاجّ أن يفعله، وعبّر عنها جمهور الفقهاء بممنوعات الإحرام أو
محظوراته ، أو محرّمات الإحرام ،والحرم.
ونريد بها ـ هنا ـ خصوصا
ما يرتبط بما حلّ بنفس وأطراف.
([280]) وفي جرائم التعازير
لولي الأمر - أي رئيس الدولة الأعلى - حق العفو عن الجريمة، وحق العفو عن العقوبة،
فإذا عفا كان لعفوه أثره بشرط أن لا يمس عفوه حقوق المجني عليه الشخصية. وليس
للمجني عليه أن يعفو في التعازير إلا عما يمس حقوقه الشخصية المحضة. ولما كانت
الجرائم تمس الجماعة فإن عفو المجني عليه من العقوبة أو الجريمة لا يكون نافذاً
وإن أدى في الواقع إلى تخفيف العقوبة على الجاني، لأن للقاضي سلطة واسعة في جرائم
التعازير من حيث تقدير الظروف المخففة، وتخفيف العقوبة.
([281]) أما جرائم التعازير
فللقاضي فيها سلطة واسعة في اختيار نوع العقوبة ومقدارها، فله أن يختار عقوبة
شديدة أو خفيفة بحسب ظروف الجريمة والمجرم، وله أن ينزل بالعقوبة إلى أدنى
درجاتها، وله أن يرتفع بها إلى حدها الأقصى، وله أن يأمر بتنفيذ العقوبة أو إيقاف
تنفيذها..
([282]) اعتمدنا هذا التقسيم
باعتباره هو التقسيم القرآني للقتل، بالإضافة إلى أنه تقسيم علمي منطقي بسيط، وقد
انتقد ابن حزم كل ما زاد على هذه التقسيمات، فقال:( القتل قسمان عمد وخطأ: برهان ذلك الآيتان اللتان ذكرنا آنفا، فلم يجعل
عزو جل في القتل قسما ثالثا، وادعى قوم أن ههنا قسما ثالثا وهو عمد الخطأ، وهو قول
فاسد لأنه لم يصح في ذلك نص أصلا، وقد بينا سقوط تلك الآثار في كتاب الإيصال
والحمد لله رب العالمين)
([283]) اختلف الفقهاء في تعريف
القتل العمد على
القول
الأول:
أنّه قصد الفعل والشّخص بما يقتل قطعاً أو غالباً، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة
والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة.
القول
الثاني: أن يتعمّد ضرب المقتول في أيّ موضع من جسده
بآلة تفرّق الأجزاء كالسّيف ، واللّيطة، والمروة والنّار، وهو قول عند أبي حنيفة،
واستدلوا لذلك بأنّ العمد فعل القلب ، لأنّه القصد ، ولا يوقف عليه إلاّ بدليله ،
وهو مباشرة الآلة الموجبة للقتل عادةً.
([284]) عرّفه أبو حنيفة : بأنّه
تعمّد شخص ضرب آخر بما ليس بسلاح، ولا ما جرى مجرى السّلاح .. وعرّفه الشّافعيّة
والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة : بأنّه قصد ضرب الشّخص عدواناً بما لا
يقتل غالباً ، كالسّوط والعصا .. ولم يعرّفه المالكيّة لأنّ القتل عندهم عمد وخطأ
فقط.
([286]) يزيد الحنفيّة على هذا
ما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب .. ويعتبر بعض فقهاء الحنابلة ما أجري مجرى
الخطأ والقتل بسبب قسماً واحداً ، فالقتل عند بعض الحنابلة أربعة أقسام .. أمّا
المالكيّة فالقتل عندهم نوعان فقط: عمد، وخطأ، وليس هناك ما يسمى ( شبه العمد )
فقد أنكره مالك، وقال: (ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا
يعمل به عندنا) وجعله من قسم العمد.
([287]) الحربي: هو الذي ينتمي
لدولة محاربة، أو هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرابة، والإجماع على أنه مهدر
الدم والمال، أي مباح الدم والمال.
([289]) الباغي: هو أحد البغاة
الخارجين على الإمام يبغون خلعه، وكان له منعة وشوكة، معتمدين على تأويل سائغ لنص
شرعي، وقد سبق ذكر العقوبة المرتبطة به.
وقد اختلف الفقهاء في
مدى عصمة الباغي على قولين:
القول
الأول:
أن عصمة البغاة محدودة بوقت بغيهم، وهو قول الجمهور، فأساس العصمة عندهم هو
الإسلام أو الأمان.. فيعدّ المسلم والذمي والمستأمن والمهادن معصوماً، إما بسبب
الإسلام بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب، أو بسبب الأمان بالنسبة لغير المسلم
المعاهد، فلا تباح دماؤهم ولا أموالهم، ويعاقب قاتلهم على القتل العمد، إلا أنه لا
يقتل المسلم بالكافر عندهم، ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب.
القول
الثاني:
أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي، وهو قول الحنفية، فأساس العصمة
عندهم الوجود في دار الإسلام، فيعد المسلم والذمي والمستأمن معصوم الدم بسبب وجوده
في دار الإسلام. أما الحربي أو المسلم في دار الحرب، فليس معصوماً، ولا عقاب على
قاتله، لكونه في دار الحرب.
([290]) هذا بعض ما ذكره الحنفية
من شروط .. انظر: البدائع: 233/7 .. وقد نصوا على أن أداة القتل شبه العمد هي كل
آلة تقتل غالباً، ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة كالخشبة الكبيرة، والحجر الثقيل،
ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه، فإن قصد به الإتلاف فهو عمد، واستدلوا لذلك
بقوله r : ( ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا، فيه مئة
من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها) (رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي)
أما التغريق في الماء
القليل وموت الغريق، فليس عمداً ولا شبه عمد، باتفاق الحنفية.
([292]) المحدد: هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين
ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص ونحاس وذهب وفضة، أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب
له حد قاطع. والمحدد لا ينظر فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل، بدليل ما لو قطع
شحمة أذنه أو أنملته فمات، كان عمداً.
([293]) المثقل: هو ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن، كالعصا
والحجر، فإن كان المثقل مما يقتل غالباً، أي يغلب على الظن حصول الموت به عند
استعماله، كان القتل عمداً موجباً للقصاص. وإن كان المثقل مما لا يقتل غالباً، كان
القتل شبه عمد موجباً للدية.
([294]) واستدلوا لذلك بما استدل
به الحنفية وهو قوله r : ( ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا والحجر مائة من
الإبل)، فالحديث محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط، وقرن به الحجر،
فدل على أنه أراد ما يشبههما.
واستدلوا بأن جارية
وُجدت، وقد رُضَّ رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا، أفلان أو فلان، حتى
سمي يهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله r برض رأسه بالحجارة.
([296]) وهو قول الحنفية
والشافعية والحنابلة.. أما المالكية، فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان،
ولم يشترطوا في القصاص قصد القتل، فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه، أو تعمد
الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل، فهو قاتل عمداً، إذا لم يرتكب الفعل على
وجه اللعب أو التأديب، فيكون حينئذ خطأ.
وبذلك يتسع مذهب
المالكية لما يسمى عند القانونيين بالقصد الاحتمالي في جريمة القتل العمد: وهو كون
الجاني مسؤولاً عن كل ما يتوقع حدوثه، مما هو ممكن الوقوع. بل إن هذا المذهب يتسع
لأكثر من القصد الاحتمالي، فيشمل كل ما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع، أو ممتنع
الوقوع؛ لأن القتل العمد عندهم: هو كل فعل قصد به مجرد العدوان، ولو لم يقصد به
القتل.
([297]) اختلف الفقهاء في تحديد
القصد على قولين:
القول
الأول:
لا فرق بين القصد المحدود وغير المحدود، فسواء قصد الجاني قتل شخص معين، أو ضرب
جماعة ولو لم يقصد شخصاً معيناً من الجماعة، فهو قاتل عمد، وهو قول الحنفية
والحنابلة.
القول
الثاني:
التفريق بين نوعي القصد، وهو قول الشافعية والمالكية، فإن قصد معيناً فهو قتل عمد،
وإن قصد غير معين فهو قتل شبه عمد عند الشافعية، وخطأ عند المالكية.
([298]) ذكر الفقهاء الضوابط
الكثيرة المرتبطة بالآلات .. ونرى أن هذا مما يعسر حصره .. وللتطورات التقنية دخل
في ذلك .. ولهذا نرى أن يترك هذا الأمر لأهل التحري من الخبراء.
([309]) رواه البيهقي، رواه
الطبراني بلفظ: (لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعا
على وجوههم في النار)
([311]) رواه الطبراني بسند
رواته ثقات، ورواه البيهقي مرفوعا هكذا وموقوفا ، وقال الصحيح وقفه أي ومع ذلك له
حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي.
([314]) ذكر العلماء أن هذا لا
ينافي أن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، لأن أول ما يحاسب الإنسان
عليه من حقوق الله الصلاة لأنها آكد حقوقه ، وأول ما يحاسب عليه من حقوق الآدميين
القتل لأنه أشد حقوقهم.
([325]) اختلف الفقهاء في كون
القصاص يكفر إثم القتل أم لا على قولين:
القول
الأول:
القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل، وهو قول الجمهور، واستدلوا لذلك
بما روى مسلم أن رسول الله r قال : (من أصاب شيئاً من ذلك ـ أي المعاصي كالزنا والسرقة والقتل
ـ فعوقب به فهو كفارة له) .. ورويت أحاديث أخرى في هذا المعنى، منها ما رواه الترمذي
وصححه الحاكم : ( من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثني
العقوبة على عبده في الآخرة)، وهو عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه (من أصاب ذنباً
أقيم عليه حد ذلك الذنب، فهو كفارة له) وللطبراني : ( ما عوقب رجل على ذنب إلا
جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب) (نيل الأوطار: 50/7، 53)، وهذا عام لم
يخصص قتلاً من غيره. قال النووي: ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في
الآخرة.
القول
الثاني:
القصاص أو العفو لا يكفر إثم القتل، وهو قول الحنفية،، لأن المقتول المظلوم لا
منفعة له في القصاص، وإنما القصاص منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل.
ونرى أن الأرجح في هذا
هو توقف الأمر على التوبة .. ونرى أن في نشر مثل هذا الترجيح سدا للذريعة لأنه قد
لا يردع البعض بالقصاص بينما يردع بالعقاب الإلهي الشديد، فتهوين الأمر عليه بما
ذكره أصحاب القول الأول قد يشجع على القتل.
([326]) القصاص لغة: تتبع الأثر، واستعمل في
معنى العقوبة؛ لأن المقتص يتبع أثر جناية الجاني، فيجرحه مثلها. وهو أيضاً
المماثلة، ومن هذا المعنى أخذت عقوبة (القصاص) شرعاً، أي مجازاة الجاني بمثل فعله، وهو القتل.
([329]) هذا مذهب الحنفية
والمالكية، وذهب الشافعية إلى أنه لا يقتل القاتل إلا بواحد، سواء اتفق أولياء
الدم على طلب القصاص، أو لم يتفقوا؛ لأن المماثلة مشروطة في القصاص، ولا مماثلة
بين الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة، وإنما يقتل الواحد
بالواحد، وتجب الديات للباقين.. واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص
لايوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق.
وبناء عليه، إن قتل
الواحد جماعة على الترتيب، قتل بأولهم، إن لم يعف لسبق حقه، وإن قتلهم معاً دفعة
واحدة، كأن جرحهم أو هدم عليهم جداراً، فماتوا في وقت واحد، أو أشكل أمر المعية
والترتيب، فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوباً، وللباقين من المستحقين
الديات، لتعذر القصاص عليه، كما لو مات الجاني مثلاً.
ونص الحنابلة على أنه
إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم، وإن أراد أحدهم القود،
والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطي الباقون الدية من مال الجاني، سواء قتلهم
دفعة واحدة أو دفعتين، وذلك لقوله r : (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل)
(رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة)، ولفظ الترمذي: (إما أن يعفو، وإما أن يقتل)، وفي
رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي: (فهو بالخيار بين إحدى
ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو) قال ابن عباس: (فالعفو أن يقبل في العمد
الدية والاتباع بالمعروف) أي الدية.
([330]) خالف في ذلك الجمهور
(غير الحنفية)، فاشترطوا أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل في الإسلام والحرية، فلا
يقتل قصاصاً مسلم بكافر، ولا حر بعبد، واستدلوا لذلك بما ورد في الحديث: (لا يقتل
مسلم بكافر)( رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود والبخاري)، وقوله: (المسلمون
تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مؤمن بكافر) (رواه أحمد والنسائي
وأبو داود) وقوله : ( لا يقتل حر بعبد)( رواه الدارقطني والبيهقي)
([331]) رواه الدارقطني، وروي
مرسلاً عند محمد بن الحسن، والشافعي وعبد الرزاق وأبي داود من طريق البيلماني.
([332]) اختلف الفقهاء في هذا
النوع من القتل على قولين:
القول
الأول:
هذا القتل كبقية أنواع القتل الأخرى في القصاص والعفو عنه، واشتراط التكافؤ بين
القاتل والمقتول، وهو قول الجمهور.
القول
الثاني:
يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة، لا قصاصاً، وهو قول المالكية، وبما أن هذا القتل
يعاقب عليه فاعله بسبب الحرابة والفساد، لا للقصاص، لا يشترط فيه شرط التكافؤ،
فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالكافر ولا عفو فيه، ولا صلح، وصلح ولي القتيل مردود،
والحكم فيه إلى الإمام.
ونرى قوة المالكية في
هذا لما يقتضيه الردع من التشدد.
([334]) اعتبط: هو القتل بغير
سبب موجب. وأصله من اعتبط الناقة: إذا ذبحها من غير مرض ولا داء. فمن قتل مؤمناً
كذلك، وقامت عليه البينة بالقتل وجب عليه القود إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية
أو يقع منهم العفو.
([335]) رواه النسائي ومالك،
وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولاً، قال ابن عبد البر:
وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرته عن
الإسناد؛ لأنه أشبه المتواتر، في مجيئه في أحاديث كثيرة.
([336]) اختلف الفقهاء في هذا
على قولين:
القول
الأول:
يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه، والعقوبة هي جلد مئة، وحبس سنة، وهو قول
المالكية، عملاً بأثر عن عمر.
القول
الثاني:
لا يجب التعزير، وإنما يفوض الأمر للحاكم، يفعل ما يراه مناسباً للمصلحة، وهو قول
الجمهور، فيؤدب بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها.. ويمكن أن يكون التعزير عند
الحنفية والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة.
([337]) من الفروق التي ذكرها
بعض الفقهاء (الحنفية) بين بين الحدود والقصاص: أن القصاص يورث، والحد لا يورث..
القصاص يصح العفو عنه، والحد لا يعفى عنه.. التقادم لا يمنع قبول الشهادة بالقتل،
بخلاف الحد ما عدا القذف، فإن التقادم يمنع الشهادة. والتقادم في الشرب بذهاب
الريح، وفي حد غيره بمضي شهر.. تجوز الشفاعة في القصاص، ولا تجوز في الحد بعد
الوصول للحاكم، أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده، فتجوز الشفاعة فيه لإطلاق سراح
المتهم .. لا بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم، أما الحد ما عدا
القذف والسرقة، فلا يشترط فيه الادعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه، وإنما يصح
الحسبة فيه.. يثبت القصاص بإشارة الأخرس أو كتابته، أما الحد فلا يثبت بهما،
لاشتمالهما على الشبهة.. يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود،
وهذا عند متقدمي الحنفية، وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقاً سداً للذريعة
أمام قضاة السوء، سواء في القصاص والحدود أم في الأموال وغيرها.. (الأشباه
والنظائر لابن نجيم)
([340]) القود: القصاص، وسمي
بذلك؛ لأن الجاني المقتص منه كانوا في الغالب يقودونه بشيء يربط به أو بيده،
كالحبل وغيره (رد المحتار: 376/5)
([341]) ذكرنا أن العصمة عند
الحنفية تكون بالإسلام والإقامة في دار الإسلام، فمن أسلم في دار الحرب، وبقي
مقيماً فيها، لا يقتص من قاتله هناك؛ لأن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة،
وبالإسلام حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لأن هذه تحصل بالإقامة في دار الإسلام.
وأما العصمة عند
الجمهور، فتكون بالإيمان (الإسلام) أو الأمان بعقد الذمة أو الهدنة، فمن قتل
مسلماً في دار الحرب عامداً عالماً بإسلامه، فعليه القود، سواء أكان قد هاجر أم لم
يهاجر إلى دار الإسلام.
([342]) بينما يقتص من الولد
بقتل والده، لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل، وعلة التفرقة بين
الأب والابن في هذا الحكم: هو قوة المحبة التي بين الأب والابن، إلا أن محبة الأب
غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه، فتكون محبته له أصيلة لا لنفسه،
فتقتضيه بالطبيعة الحرص على حياته. أما محبة الولد لأبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار
المنفعة؛ لأن ماله له بعد وفاة أبيه، فلا يحرص عادة على حياته، فتكون محبته لنفسه،
فقد يقتله.
([343]) استثنى المالكية من هذا
أن يتحقق أن الأب أراد قتل ابنه، وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه، كأن يضجعه
فيذبحه، أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه، فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين.. فلو
ضربه بقصد التأديب، أو في حالة غضب، أو رماه بسيف أو عصا، فقتله لا يقتل به.
([344]) رواه الترمذي والنسائي
وابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وفي بعض أسانيده طعن، وصحح البيهقي والحاكم بعض طرقه.
وروي عن آخرين وهم ابن عباس وسراقة بن مالك وعمرو بن شعيب عن أبيه عند جده.. وقال
ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى
بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته
تكلفاً.
([345]) اختلف في حق العافي في
أخذ الدية على قولين:
القول
الأول: ليس للعافي حينئذ حق في أخذ الدية إلا من طريق
الصلح، أي الاتفاق مع الجاني لدفع الدية برضاه وهو قول الحنفية والمالكية، لأن
موجب العمد عندهم هو القود عيناً، ولكن وجوب القود لا ينافي أن للولي العفو
مجاناً، أوأخذ الدية برضا الجاني.
القول
الثاني:
للولي الحق المطلق في العفو، فإن عفا عن القصاص سقط، وإن عفا على الدية، وجبت على
الجاني ولو بغير رضاه، وهو قول الشافعية والحنابلة، لما روى البيهقي عن مجاهد
وغيره: كان في شرع موسى عليه السلام تحتم القصاص جزماً، وفي شرع عيسى عليه السلام
الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة وخيرها بين الأمرين .. ولما في الإلزام
بأحدهما من المشقة .. ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه.
ونرى أن الأرجح في
المسألة هو القول الثاني مع ضرورة التحري ، لأن القاتل قد يكون اتفق مع أولياء
القتيل على أن يقتل قتيلهم ويرضيهم بالدية بدل ذلك.
([346]) أولياء الدم: هم الورثة
على ترتيب الإرث والحجب حتى الزوجان، في رأي الحنفية والشافعية والحنابلة، وقال
المالكية: أولياء الدم: هم الذكور العصبة دون البنات والأخوات والزوجين.. ونرى صحة
القول الأول، لأن الشريعة لم تفرق في هذا بين الذكر والأنثى.
([347]) واستدل الفقهاء لذلك بأن
القصاص لا يتجزأ، وهو شيء واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، ويبقى للآخرين
حصتهم من الدية .. واستدلوا له بما روي عن جماعة من الصحابة، وهم عمر وابن مسعود
وابن عباس: أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية..
ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية، ولا يأخذ شيئاً إذا عفا مجاناً.
لكن سقوط القصاص عند
المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساوياً لدرجة الباقين أو
أعلى درجة، أوا ستحقاقاً، فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الاستحقاق كإخوة
لأم مع إخوة لأب، لم يعتبر عفوه.
ولاشك في قوة قول
المالكية في هذا واعتباره.
([348]) اختلف الفقهاء في هذا
على قولين:
القول
الأول:
أن للسلطان حقا في عقوبته تعزيراً؛ وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا لذلك بأن
القصاص فيه حقان: حق الله (أو حق المجتمع أو الحق العام)، وحق المجني عليه.. وحدد
المالكية نوع التعزير فقالوا: إذا عفا ولي الدم عن القاتل عمداً، يبقى للسلطان حق
فيه، فيجلده مئة، ويسجنه سنة.
القول
الثاني:
إذا عفي عن القاتل مطلقاً، صح العفو، ولم تلزمه عقوبة أخرى، وهو قول الشافعية
والحنابلة.
ونرى رجحان القول
الأول لأن المصلحة العامة تقتضيه .. قال الماوردي: الأظهر أن لولي الأمر أن يعزر
مع العفو عن الحدود؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة.
([349]) اختلف الفقهاء في آثار
هذا على قولين:
القول
الأول:
لا قصاص في هذه الحالة ولا دية .. فيسقط القصاص عن القاتل، ولا تجب الدية لورثة
المقتول من بعده، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا لذلك بأن المقتول
أسقط حقه باختياره، كما قال تعالى :﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ )(المائدة: من الآية45)، أي المقتول يتصدق بدمه، في حال إصابته
قبل موته.
القول
الثاني:
التفصيل، وهو قول المالكية .. وملخصه أنه لو قال المقتول لقاتله: إن قتلتني
أبرأتك، أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله: أبرأتك من دمي، فلا يبرأ القاتل، بل
للولي القود؛ لأنه أسقط حقاً قبل وجوبه.. أما لو أبرأه بعد إنفاذ مقتله، أو قال
له: إن مت فقد أبرأتك، فإنه يبرأ؛ لأنه أسقط شيئاً بعد وجوبه.. أما عفو المقتول
خطأ عن الدية، فينفذ في المذاهب من ثلث ماله.
ونرى قوة قول المالكية
في هذا لما لها من تأثير في الردع ..
([350]) نص الفقهاء على أن حكم
الصلح هو حكم العفو، فمن يملك العفو يملك الصلح، وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط القصاص،
وإذا تعدد الأولياء، وصالح أحدهم الجاني على مال، سقط القصاص، وبقي حق الآخرين في
المال، وإذا بادر أحد الأولياء بقتل الجاني بعد الصلح، فهو قاتل له عمداً، لكنه لا
قصاص عليه عند الحنفية ما عدا زفر، وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة.
([352]) الحقة: هي الناقة التي
طعنت في السنة الرابعة، والجذعة: هي التي طعنت في الخامسة، والخلفة: هي الحامل.
([357]) اللي: المطل، والواجد:
الغني، يحل: يجوز وصفه بكونه ظالماً، وعرضه: شكايته، وعقوبته: حبس. وقد استدل
بالحديث على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادراً على القضاء تأديباً
له وتشديداً عليه، لا إذا لم يكن قادراً (نيل الأوطار: 240/5)
([359]) نقلت هذه الجنايات ـ
بتصرف ـ من كتاب (التشريع الجنائي في الإسلام) لعبد القادر عودة.. والإحصائيات
المذكورة فيه إحصائيات مرتبطة بزمن المؤلف، ولاشك أنها الآن أعمق وأخطر.
([360]) انظر التفاصيل المرتبطة
بهذا في (الأساليب الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
([374]) أما ماورد من قول علي t للجلاد :« اضرب الرأس » ، ولقول أبي بكر t:« اضرب الرأس فإن الشيطان فيه » أخرجه ابن أبي شيبة ، ففيه ضعف
وانقطاع.
([379]) انظر الأساليب التي حثت
عليها الشريعة لحل الخلافات الزوجية في (العلاج الشرعي للخلافات الزوجية) من سلسلة
(فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
([381]) قال القرطبي :( قوله
بفاحشة مبينة يريد لايدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم وليس المراد بذلك الزنى
فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد)