المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: عدالة
للعالمين |
الناشر:
دار الكتاب الحديث |
الفهرس
في اليوم الثالث،
صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (زيد بن علي) [1] .. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع
المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها
فسيتحمل مسؤولية خرقه)
بمجرد أن فتحت أبواب
الزنازن أسرع المساجين إلى ساحة السجن حيث سبقهم زيد بن علي .. والبسمة على شفتيه
.. والسرور باد على وجهه.
كان يرفع يديه إلى
السماء، وهو يردد ما ردده زيد بن على من قبله:( اللَهُـمَّ إني أسألك سُلُوّاً عن
الدنيا[2]، وبغضاً لها ولأهلها، فإنَّ خَـيْـرَها
زَهِيْدٌ، وشرَّها عتيدٌ، وجَمْعَها يَنْفَدُ، وصَفْوَها يَرْنَقُ ، وجديدَها
يَخْلَقُ، وخيرَها يَنْكَدُ، وما فات منها حَسْرَةٌ، وما أُصِيْبَ منها فِتْنَةٌ،
إلا من نالته منك عِصْمَةٌ، أسألك اللَهُـمَّ العِصْمَةَ منها، ولاتجعلنا ممن رضي
بها، واطمأن إليها، فإِنها مَنْ أمنها خانَتْهُ، ومن اطمأن إليها فَجَعَتْهُ، فلم
يُقِمْ في الذي كان فيه منها، ولم يَظْعَنْ به عنها)
ثم قال ـ بعد أن رأى
الجمع قد التف حوله ـ : يسرني أن أقف اليوم بينكم في أشرف موقف أقفه في حياتي ..
موقف وقفه من قبلي إمام من أئمة الدين، ورجل من آل بيت سيد المرسلين .. كان رجلا
ممتلئا بالغيرة .. عز عليه أن يرى الجور يضرب أطنابه، والاستبداد يذيق الرعية
الأمرين .. فقام وناضل في سبيل الله بكل ما أتيح له من وسائل إلى أن قضى شهيدا على
صلبان المستبدين .. لتتحقق بذلك نبوءة رسول الله r له بالشهادة[3].
لقد كان يخاطب
أصحابه في تلك الأيام العصيبة قائلا: (واللـه ما أبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنة
نبيه أن تأجج لي نار، ثم قُذفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه، واللـه
لاينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم
السلام.. يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة اللّه عليكم هذه يدي مع أيديكم
على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتاب اللّه، ونقسم بينكم فيئكم بالسوية، فاسألوني
عن معالم دينكم، فإن لم أنبئكم عن كل ما سألتم عنه فولوا من شئتم ممن علمتم أنه
أعلم مني، واللـه ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي ولا انتهكت محرماً منذ أن
عرفت أن اللّه يؤاخذني به).. ثم قال: (اللـهم لك خرجت، وإياك أردت، ورضوانك طلبت،
ولعدوك نصبت، فانتصر لنفسك ولدينك ولكتابك ولنبيك ولأهل بيتك ولأوليائك من
المؤمنين، اللـهم هذا الجهد مني وأنت المستعان)
وكان يخاطبهم قائلا
: ( أوصيكم أن تتخذوا كتاب اللّه قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم
وكرهتم، وأن تتهموا أنفسكم ورأيكم في ما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاء لمن
استشفى به، ونور لمن اهتدى به، ونجاة لمن تبعه، من عمل به رَشَد، ومن حكم به عدل،
ومن خاصم به فَلَج، ومن خالفه كفر، فيه نبأ من قبلكم، وخبر معادكم، وإليه منتهى
أمركم)
وكان يخاطبهم قائلا
: ( أيها الناس، أفضل العبادة الورع، وأكرم الزاد التقوى، فتورعوا في دنياكم،
وتزودوا لآخرتكم)
وقد كتب في رسالته
التي وجهها إلى علماء الأمة: (فو الذي بإذنه دَعَوْتُكم، وبأمره نصحتُ لكم، ما
ألتمس أَثَرَةً على مؤمن، ولا ظلماً لِمُعَاهِد، ولوددت أني قد حميتكم مَرَاتع
الهَلَكَة، وهديتكم من الضلالة، ولو كنت أوْقِدُ ناراً فأقذفُ بنفسي فيها، لا
يقربني ذلك من سخط اللّه، زهداً في هذه الحياة الدنيا، ورغبة مني في نجاتكم،
وخلاصكم، فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والمَوْفُوْرين حظاً ونصيباً)
وكتب فيها : (إنما
تصلح الأمور على أيدي العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة
الظالمين الجائرين)
وكتب فيها مُخاطباً
علماء السوء أولئك الذين وضعوا أيديهم في أيدي الظلمة: (أمكنتم الظلمة من الظلم،
وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة، فهذا حالكم.. فيا علماء
السوء، محوتم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً، فَنَدَّ واللـه نَدِيْدَ
البعير الشَّارِد، هربا منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكت دماء القائمين بدعوة الحق من
ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسِنَّة، وصُفِّدوا
في الحديد، وخَلص إليهم الذل، واستشعروا الكرب، وتسربلوا الأحزان، يتنفسون الصعداء
ويتشاكون الجهد)
وكتب يحثهم على
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (قد ميزكم اللّه تعالى حق تمييز، ووسمكم سِمَة
لاتخفى على ذي لب، وذلك حين قال لكم: ﴿
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة:71)، فبدأ
بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.. واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هينها
وشديدها)
وكان مما رواه فوق
ذلك عن آبائه عن رسول الله r أنه قال: (إن أفضل الشهداء رجل قام إلى
إمام جائر فأمره بتقوى اللّه ونهاه عن معصية اللّه، وجاهده مقبلا غير مدبر، فقتل
وهو كذلك)
قال الجمع: عرفنا ما
دعا إليه سميك، وما استرخص نفسه في سبيله .. فما الذي تدعو إليه أنت؟
قال: أنا داعية
الرفق .. فلا يمكن للعدل أن يزين الأرض والمستبدون يقمعون الرعية، ويتشددون عليها،
ولا يرعون لها أي حرمة.
قلنا: فما الذي جعلك
تدعو إلى الرفق دون غيره من أركان العدالة؟
قال: إن سؤالكم هذا
قد يحيلكم على حياتي التي لا أحب أن أتحدث عنها .. ولكني مع ذلك سأحدثكم عما
يقتضيه المقام منها .. فلعل في حياتي ما يقنعكم بهذه الوجهة التي توجهت إليها،
والتي أقدم اليوم روحي في سبيلها.
في البدء كنت أنتمي
لطائفة من طوائف اليهود .. وقد كنت أرى الإرهاق الكبير الذي يصيب أفراد تلك
الطائفة، وهي تمارس طقوسها التعبدية الكثيرة .. والتي لم أكن أرى فيها إلا نوعا من
الجهد الضائع الذي لا مبرر له.
سأضرب لكم مثالا على
ذلك بالشعائر المرتبطة بالطهارة [4] .. فالشريعة اليهودية تنص على عدة مصادر
أساسية للنجاسة الشعائرية أهمها أجساد الموتى كما في سفر (العدد: 19/11 وما
يليها).. ومنها ما ورد في (سفر اللاويين ـ الإصحاحان 12، 13)..
وهذه المصادر تنص
على أن الأشخاص الذين يتصلون بالأشياء النجسة قد ينقلون نجاستهم إلى الآخرين..
وتنص على أن الأشياء المقدَّسة التي تنجس، مثل القرابين التي تُقدَّم من ذبائح
وحبوب، يجب أن تُحرَق.. وأنه ينبغي على الأشخاص غير الطاهرين ألا يلمسوا الأشياء
المقدَّسة، وألا يدخلوا الهيكل أو ملحقاته.
ويبلغ التشدد قمته
فيما يتصل بالتطهر المرتبط بأعلى درجات النجاسة التي هي (ملامسة جثث الموتى) ..
فهذا النوع من الطهارة يتتطلب رش الماء المخلوط برماد بقرة صغيرة حمراء.. ومثل هذه
البقرة بالمواصفات التي ذكرها اليهود تكاد تكون مستحيلة الوجود؟
قلنا: حدثنا عن قصة
هذه البقرة.. والسر الذي يحمله التطهر بها.
قال: من المسلم به
عند اليهود أن جثة الميت هي أهم مصدر من مصادر النجاسة بالنسبة للكهنة، فأي كاهن
يلامس جثة يهودي أو يتصل بها، حتى ولو بشكل غير مباشر (كأن يسير على مقبرة أو حتى
يوجد في مستشفى أو منزل يضم جثة) فإنها تنجسه، على عكس جثث الأغيار فهي لا تسبِّب
أية نجاسة لأنها لا قداسة لها.
وإن دنس اليهودي،
فهو يظل كذلك دائماً، إلا إذا تم تطهيره بالطريقة التي وردت في سفر العدد (الإصحاح
19)، والتي تم شرحها في التلمود، وهي طريقة استخدام رماد البقرة الحمراء الصغيرة.
وكان هذا الأمر يحدث
في الماضي حتى القرن السادس، حين فُقد رماد آخر بقرة حمراء طاهرة. ومنذ ذلك الحين،
واليهود جميعاً غير طاهرين، والأغيار على كل حال جميعاً مدَّنسون، ولا يوجد سبيل
أمامهم للتطهر. ولأن أرض الهيكل (الموجودة في منطقة المسجد الأقصى) لا تزال طاهرة،
فإن دخول أي يهودي إليها يُعَد خطيئة وأمراً محظوراً عليه وبالتالي الصلاة فيه.
قلنا: فلم لا يضحي
اليهود، إذن، ببقرة حمراء ويستخدمون رمادها في عملية التطهير؟
ابتسم، وقال: هنا
نجد موقفا موقفا محرجا ودائريا، إذ أنه لا يمكن أن يُضحي بالبقرة إلا الكهنة
الطاهرون، ولكنهم بدون رمادها يظلون نجسين، ولا يوجد مخرج من هذه الورطة الدائرية.
وللخروج من هذا
الدور اقترحت إحدى المجلات العلمية الدينية في إسرائيل أن تُعزَل امرأة يهودية
حامل من إحدى الأسر الكهنوتية داخل منزل يُبنى على أعمدة حتى يُعزَل المنزل نفسه عن
أي جثث يهودية قد تكون موجودة تحته، ويقوم رجال آليون بتوليدها، ثم يقومون بعد ذلك
على تنشئة الطفل بعيداً عن كل البشر، حتى يصل سنه الثالثة عشرة. ساعتها، يمكنه أن
يصبح كاهناً طاهراً فيُضحي بالبقرة الحمراء، وتُحَل المشكلة.
وقد اقترح آخرون
القيام ببعض الحفائر حول بقايا الهيكل، فقد يُعثَر على زجاجة تضم بقايا رماد
البقرة الحمراء، وتُحل بذلك المعضلة. ولكن مجلة تايم نشرت في عدد 16 أكتوبر 1989
أنه تقرَّر أن يبدأ الكهنة في تطهير أجسادهم، وأن ممثلي الحاخامية الأساسية في
إسرائيل قضوا أسبوعين في أوربا يبحثون عن جنين بقرة حمراء ليُزرَع في إحدى أبقار
مزرعة في إسرائيل.
بالإضافة إلى هذا
التشدد المستحيل تطبيقه هناك تشددات أخرى كثيرة ..
منها مثلا أن على
النساء المتهودات أن يأخذن حماماً طقوسياً وهن عاريات تحت عيون ثلاثة حاخامات..
وهو أمر يرفضه كل ذي طبع سليم.
ومنها مثلا الشرائع
الكثيرة المرتبطة بالحيض والنفاس ونحوهما ..
ومنها التشددات
المرتبطة بالحياة الاجتماعية .. والتي تسببت في انتشار البغاء بكثرة بين الجماعات
اليهودية.
ففي الشريعة
اليهودية لا يُسمَح للمرأة بأن تتزوج مرة أخرى إلا بعد حصولها على (جيط) وهي شهادة
شرعية تصدرها المحاكم الحاخامية.. ولكن الحصول على مثل هذه الشهادة كان أمراً في
غاية الصعوبة، الأمر الذي أدَّى إلى وجود عدد كبير من المطلقات والأرامل ممَّن لا
يحق لهن الزواج.. وقد بلغ عددهن 25 ألفاً في بولندا (بعد الحرب العالمية الأولى)
بعدها انتقلت إلى
المسيحية .. وقد كان أول ما فاجأني فيها تلك التصورات عن تحمل الإنسان للخطيئة
التي لم يفعلها .. وفاجأني فوق ذلك تصورهم
أن تلك الخطيئة, كانت عظيمة جداً لدرجة أنها لا يمكن أن تُغفر بالوسائل العادية..
وكانت عظيمة جدا لدرجة أن الله تعالى لم يجد طريقة ليغفرها .. وكانت عظيمة جداً
لدرجة أن الله لم يكن بمقدوره أن يقول بكل بساطة ((لقد غفرت لكم جميعاً)
ووجدتهم يعتقدون أن
هذه الخطيئة كانت عظيمة جداً لدرجة أنها لم ينفع معها التضحية بشخص عادي فانٍ لم
يقترف أي سيئة، بل أنه كان من الضروري أن يقدّم الله تعالى ابنه الوحيد (المولود
له) على أنه القربان الوحيد القادر على تكفير خطيئة البشرية.!!
لقد كانت الطريقة
الوحيدة الممكنة في المفهوم المسيحي حتى يغفر الله للبشرية هذا الذنب المروّع هي
أن يُسلّم ابنه لكي يضربوه ويبصقوا عليه ويجلدوه ويعرّوه ويطعنوه ويذلّوه ويعلّقوه
على الصليب وأخيراً قتله.
ورأيتهم يعتقدون أن
هذا هو الأسلوب الوحيد الذي وجده الله أخيرا لكي يغفر ويسامح البشر الذين يحبهم ,
ولذلك ضحى بابنه الوحيد من أجل أن يغفر الخطيئة العظيمة للببشر.
بعد أن رأيت هذا ..
وبعد أن قرأت في (يوحنا 3 : 16) قوله:( لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ
الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ)
وقرأت في (1 كورنثوس
15: 3) قوله:( المَسيحَ ماتَ مِنْ أجلِ خَطايانا)
وقرأت في ( رومية 5:
6 ) :( ماتَ المَسيحُ مِنْ أجلِ الخاطِئينَ)
بعد أن قرأت هذا
وغيره انصرفت عن المسيحية .. وسرت إلى بلاد كثيرة .. وطفت على مذاهب كثيرة .. رأيت
فيها جميعا ما ملأني بالغثاء ..
بعدها سرت إلى
الإسلام .. وقد كان أول ما طرق سمعي منه قوله تعالى بعد تقرير أحكام الطهارة:﴿
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)﴾
(المائدة)
بعد أن سمعت هذه
الآية الكريمة امتلأ قلبي شوقا للتعرف على الإسلام ..وعلى شريعة الإسلام.
لن أطيل الحديث
عليكم .. سأدخل مباشرة في الموضوع من غير مقدمات.
لقد وجدت أن السمة
البارزة التي تجمع كل تشريعات الإسلام وتنظيماته تنطلق من اليسر ورفع الحرج.
فالله تعالى يقول :﴿
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ (البقرة:
185)، ويقول :﴿ يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ
ضَعِيفًا ﴾ (النساء: 28)، ويقول :﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾
(الأعلى:8)، ويقول :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ﴾ (الشرح)، ويقول :﴿ سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ
عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ (الطلاق: 7)، ويقول :﴿ مَا يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (المائدة:6)، ويقول:﴿
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ ﴾
(التوبة: 91)، ويقول :﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا
فَرَضَ اللهُ ﴾ (الأحزاب: 38)، ويقول :﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى
حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا
دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)﴾ (النور)
لاشك أنكم ترون في
هذه الآيات ما يدل على أن اليسر والرفق ورفع الحرج خاصية من خواص الإسلام، وميزة
من مزاياه ..
ولهذا وصف رسول الله
r بأنه جاء بدين اليسر الذي يرفع الأغلال
التي طوقت أهل الأديان السابقة، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾ (الأعراف)
وقد وردت النصوص
الكثيرة الدالة على أن خلق رسول الله r الأعظم كان هو الرفق والأناة والحلم .. وكان أبغض ما يبغضه الانف والعجلة والتشدد
..
ففي الحديث قال رسول
الله r :( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)[5]
وقال r :( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء
إلا شانه)[6]
وقال :( من
يحرم الرفق يحرم الخير كله)[7]
وقال :( من أعطى حظه
من الرفق فقد أعطى حظه من الخير، ومن حرم
حظه من الرفق حرم حظه من الخير)[8]
وقال :( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا)[9]
وقال :( إنما بعثتم
ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين)[10]
وقالت عائشة ـ رضي الله
عنها ـ تخبر عن حاله:( ما خير رسول الله r بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن
إثما)[11]
وقال رسول الله r للأشج :(إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم
والأناة)[12]
قلنا: عرفنا هذا ..
فما أدلته؟
قال: أنا مثلكم لا
تقنعني الشعارات ولا الدعاوى .. فلذلك رحت أستقرئ جميع شريعة الإسلام بحثا عن مدى
صدق تلك الدعاوى.
قلنا: فماذا وجدت؟
قال: لقد وجدتها
كلها تنسجم مع تلك الدعاوى .. لقد رأيتها جميعا تنطلق من اليسر والرفق لتملأ حياة
المسلمين بما تقتضيه الفطرة السليمة من رفع الضيق والحرج.
قلنا: فهلا حدثتنا
عما وجدت.
قال: لولا أن تلك
المشنقة تنتظرني لكنت فصلت لكم الحديث في هذا تفصيلا .. ولكن بما أنها لا تسمح لي
بغير هذا الوقت المختصر .. فسأختصر لكم ما وجدت .. وفيه دلالة على غيره.
لقد رأيت أن جميع
تشريعات الإسلام يمكن تقسيمها إلى قسمين كبيرين: تكاليف، وتنظيمات.
قلنا: ما الفرق
بينهما؟
قال: التكاليف هو
تلك الأوامر الإلهية التي ورد النص عليها ابتداء .. فتجب على كل مكلف، أو تجب على
بعض المكلفين، أو تدخل ضمن دائرة المستحبات التي يستحب أن تفعل.
قلنا: والتنظيمات؟
قال: هي ما عدا
التكاليف .. وهي تشمل تنظيم حياة الناس بذكر ما يباح لهم وما يحظر عليهم ..
قلنا: فحدثنا عن
تجليات الرفق في التكاليف الشرعية.
قال: سأكتفي بذكر
أربع تجليات تكفي لإقناعكم بأن شريعة الإسلام شريعة رحمة ورفق ويسر .. وأن المراد
من التكاليف الشرعية ليس التضييق على الناس، ولا إيقاعهم في الحرج، وإنما المراد
منها تهذيبهم وتربيتهم والسمو بهم وبمجتمعاتهم.
قلنا: فحدثنا عن
التجلي الأول من تجليات الرفق في التكاليف الشرعية.
قال: أول تجل من
تجليات الرفق في التكاليف الشرعية هو أنها جميعا متعلقة بالقدرة والاستطاعة، فهي
تسقط مع العجز .. قال تعالى :﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا
إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا
مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ
مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾ (البقرة)
تأملوا جيدا هذه
الآية الكريمة إنها المفتاح الذي يدلنا على رحمة الله بعباده في هذا الباب .. فهو لا
يكلفهم إلا بما يطيقون .. ولا يحاسبهم إلا بما يعملون .. ثم إنه فوق ذلك كله يغفر
لهم خطاياهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
وقد روي في سبب
نزولها ما يدل على عناية الله بعباده .. ففي الحديث أنه لَمَّا نَزَلَ عَلَى
رَسُول الله r قوله تعالى:﴿ للهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ﴾ (البقرة: 283) اشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى
أصْحَابِ رَسُول الله r ، فَأتَوا رَسُول الله r ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا: أيْ رسولَ
الله ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاةَ والجِهَادَ والصِّيامَ
والصَّدَقَةَ ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الآيَةُ وَلا نُطيقُها، فقَالَ
رَسُول الله r:( أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ
أَهْلُ الكتَابَينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا
سَمِعنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ)، فَلَمَّا
اقْتَرَأَهَا القومُ ، وَذَلَّتْ بِهَا ألْسنَتُهُمْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى في
إثرِهَا :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
﴾ (البقرة: 285)، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ َأنزَلَ الله - عز وجل –
:﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا ﴾ (البقرة: 286 ) قَالَ : نَعَمْ ﴿ رَبَّنَا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾
قَالَ : نَعَمْ :﴿ رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه ﴾
قَالَ : نَعَمْ ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ
مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قَالَ : نَعَمْ[13] .
لم يرد تقرير هذا في
تلك الآية فقط .. بل ورد في آيات كثيرة من القرآن الكريم .. وفي محال مختلفة ..
يقول تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
(الأعراف: 42)، ويقول :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)﴾ (الأنعام)،
ويقول :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)﴾
(المؤمنون)، ويقول :﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا
إِلاَّ مَا آتَاهَا ﴾ (الطلاق:7)
هذه الآيات جميعا
تخاطب الإنسان، وتقول له: إن ربك لا يريد منك شيئا فوق طاقتك .. إنه لا يريد منك
إلا ما تستطيعه، وتقدر عليه، وهو في نفس الوقت في مصلحتك.
وبمثل هذا وردت
تعاليم النبي r ، فقد كان يبرز ـ بأقواله وسلوكه ودعوته ـ
لأمته أهم خاصية من خواص هذا الدين، وهي فطرته وحنيفيته وسماحته:
قيل له: يا رسول
الله.. أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة)[14]
وعندما أرسل معاذ بن
جبل وأبي موسى الأشعري قال لهما: (يسرًا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفر)[15]
وقال:( إن الدين يسر
ولن يشاد ا لدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)[16]
وقال: (إن الله لم
يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا)[17]
وقال:( إن خير دينكم
أيسره، إن خير دينكم أيسره)[18]
أما عن سلوكه المطبق لهذا التعاليم فأكثر من أن يحصى:
ومن ذلك أنه r صلى التراويح ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة
فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح
قال: (قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم،
فتعجزوا عنها)[19]
ومن ذلك أنه قال:(
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) [20]
ومن ذلك أنه r كان يخفف الصلاة ويتجوز فيها – وهي قرة عينه– رفقا بحال
المؤمنين ومراعاة لضعفهم وانشغال بالهم ودفعا لكل ما يدخل المشقة عليهم، ففي
الحديث قال رسول الله r :( إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أو
أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه)[21]
وكان r ينهى أصحابه أن يخالفوا هذه التعاليم، فينقلوا الدين من
بساطته وفطريته وسماحته ويسره إلى ما وقعت فيه الأديان الأخرى من التشدد والغلو.
ومما يروى في ذلك أن
معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي r، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلي ليلة مع النبي r، ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل
فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول
الله فلأخبرنه، فأتي رسول الله r فقال: يا رسول الله: إنا أصحاب نواضح –
وهي الإبل التي يستقي عليها – نعمل بالنهار، وإن معاذا صلى معك العشاء، ثم أتى
فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله r على معاذ فقال: (يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ
بكذا) وفي رواية: (سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى والضحى)[22]
وجاء رجل إلى رسول
الله r فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل
فلان مما يطيل بنا، يقول راوي الحديث: فما رأيت النبي r غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال:
(أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف
وذا الحاجة)[23]
وحدثت عائشة قالت:
كان رسول الله r إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا:
إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب
حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)[24]
ودخل r مرة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا
الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال r :( حلوه ليصل أحكم نشاطه فإذا فتر فليرقد)[25]
وعن عقبة بن عامر أن
أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي r :( إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا
فلتركب) وفي رواية: (إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب)[26]
وعن عبد الله بن
عمرو قال: قال لي رسول الله r :( يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم تصوم
النهار وتقوم الليل؟)، فقلت: بلي يا رسول الله، قال: (فلا تفعل، صم وأفطر وثم ونم
فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقا،
وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام
الدهر كله)، فشددت فشدد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: (فصم صيام نبي
الله داود - عليه السلام - ولا تزد عليه)، قلت: وما كان صيام نبي الله داود - عليه
السلام-؟ قال: (نصف الدهر)، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة
النبي r)[27]
وحينما نهي r عن الوصال في الصيام قال له رجل من المسلمين: فإنك
تواصل يا رسول الله؟ قال: (وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين)، فلما أبوا أن
ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل
لهم حين أبوا أن ينتهوا، وفي الرواية الأخرى قيل: إنك تواصل؟ قال: (إني أبيت
يطعمني ربي ويسقين، فاكلفوا من العمل ما تطيقون)[28]
قلنا: عرفنا التجلي
الأول .. فحدثنا عن الثاني.
قال: لقد علم الله
من عباده الصالحين حبهم للخير وإسراعهم إليه، ولو على حساب طاقتهم، فلذلك فتح لهم
من أبواب الخير ما لا يعد ولا يحصى .. فمن لم يطق عملا عمل غيره.
لقد قال الله تعالى
يقرر هذا :﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
(البقرة :215)، وقال :﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ﴾
(البقرة :197)، وقال :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾
(الزلزلة : 7 )، وقال :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾
(الجاثية : 15)
وفي الحديث عن أبي
ذر قال: قلت : يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال : (الإيمان بالله والجهاد في
سبيله)، قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : (
أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا)، قلت : فإن لم أفعل؟ قال : ( تعين صانعا أو تصنع
لأخرق ) . قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال : ( تكف شرك عن
الناس ؛ فإنها صدقة منك على نفسك)[29]
وعنه قال:( يصبح على
كل سلامى من أحدكم صدقة : فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ،
وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزىء من ذلك
ركعتان يركعهما من الضحى)[30]
وعنه قال: قال لي
النبي r : ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى
أخاك بوجه طليق)[31]
وقال r :( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن
أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوىء أعمالها النخاعة تكون في المسجد
لا تدفن)[32]
وجاءه بعض الفقراء،
فقالوا: يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما
نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال:( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به : إن
بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر
بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا : يا رسول الله
، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان
عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)[33]
وقال: ( كل سلامى من
الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل
في دابته ، فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ،
وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)[34]
وقال: (إنه خلق كل
إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمئة مفصل ، فمن كبر الله ، وحمد الله ، وهلل الله
، وسبح الله ، واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة ، أو عظما عن
طريق الناس ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، عدد الستين والثلاثمئة فإنه يمسي
يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)[35]
وقال:( من غدا إلى
المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح)[36]
وقال: ( يا نساء
المسلمات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) [37]
وقال:(الإيمان بضع
وسبعون أو بضع وستون شعبة : فأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) [38]
وقال: ( بينما رجل
يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ، ثم خرج فإذا كلب يلهث
يأكل الثرى(2) من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان
قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب ، فشكر
الله له ، فغفر له ) قالوا : يا رسول الله ، إن لنا في البهائم أجرا ؟ فقال : ( في
كل كبد رطبة أجر)[39]
وقال:( لقد رأيت
رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)[40] ، وفي رواية: ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر
طريق ، فقال : والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ، فأدخل الجنة)
وقال:( من توضأ
فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة
ثلاثة أيام ، ومن مس الحصا فقد لغا)[41]
وقال:( إذا توضأ
العبد المسلم ، أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع
الماء ، أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها
يداه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه
مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب)[42]
وقال:( الصلوات
الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت
الكبائر) [43]
وقال: (ألا أدلكم
على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا : بلى ، يا رسول الله ، قال
: ( إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد
الصلاة فذلكم الرباط)[44]
وقال: ( إذا مرض
العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا)[45]
وقال:( كل معروف
صدقة)[46]
وقال:( ما من مسلم
يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا
كان له صدقة)[47] ، وفي رواية: ( فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل
منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)، وفي رواية:( لا
يغرس مسلم غرسا ، ولا يزرع زرعا ، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء ، إلا كانت له
صدقة)
وقال:( أربعون خصلة
: أعلاها منيحة العنز[48]، ما من عامل يعمل بخصلة منها ؛ رجاء
ثوابها وتصديق موعودها ، إلا أدخله الله بها الجنة)[49]
وقال:( اتقوا النار
ولو بشق تمرة)[50]
وقال:( ما منكم من
أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ،
وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه
، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) [51]
وقال:( إن الله
ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة ، فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة ، فيحمده عليها)[52]
وقال:( على كل مسلم
صدقة ) قال : أرأيت إن لم يجد ؟ قال : ( يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ) قال : أرأيت
إن لم يستطع ؟ قال : ( يعين ذا الحاجة الملهوف) قال : أرأيت إن لم يستطع ، قال : (
يأمر بالمعروف أو الخير)، قال : أرأيت إن لم يفعل ؟ قال : ( يمسك عن الشر ، فإنها
صدقة) [53]
قلنا: حدثتنا عن
التجلي الثاني للرفق في التكاليف الشرعية .. فحدثنا عن التجلي الثالث.
قال: التجلي الثالث
هو السماحة .. فالأحكام الشرعية من حيث عددها ونوعها تتيح للإنسان أن يعيش حياة
مستقرة طبيعية متوازنة لا يطغى فيها جانت على جانب.
ففي العبادات نجد أن الله تعالى
ـ تخفيفاً عنا ـ شرع لنا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأباح لنا الصلاة في أي مكان
أدركتنا فيه الصلاة، وفرض علينا صيام شهر واحد من أشهر السنة، وفرض الحج لمن
استطاع إليه سبيلاً مرة واحدة في العمر.
هذا عن كمها .. ومثل
ذلك عن نوعها .. ففي الطهارة ـ مثلا ـ أخبر r عن طهارة الماء، وأنه (لا ينجسه شيء إلا
ما غلب على ريحه وطعمه ولونه)[54]
وقال عن ماء البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته)[55]
وقال في قصة
الأعرابي الذي بال في المسجد فقام الناس ليقعوا:( دعوه وهريقوا على بوله سَجْلا من
ماء أو ذَنوبًا من ماء ، فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين)[56]
وقال عن القذارة إذا
تعلقت بالنعلين: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى
فليمسحه وليصل فيهما)[57]
هذا بعض ما يرتبط
بالطهارة[58] .. أما الصلاة .. فقد فرضها الله
خمس مرات في اليوم والليلة ، فلا تأخذ وقتًا طويلًا، ولا تشغل الإنسان عن أداء
أعماله اليومية ، وإنما هي لقاءات مع الله تعالى يجدد فيها المؤمن العهد مع ربه
على الطاعة والاستقامة والصلاح ، وقد فرضت في البداية خمسين صلاة عند المعراج
بالنبي r ، ثم صارت خمس صلوات بأجر خمسين صلاة فضلا
ورحمة.
ومع هذا العدد
المحدود، فقد يسر الله أداءها .. فشرع الجمع والقصر في الصلاة أثناء السفر أو
المطر أو المرض ، وذلك للظروف التي يمر بها الإنسان في هذه الحالات من قلة في
الماء أو البرد أو خوف من الطريق أو زيادة في المرض ، لذلك جعل الإسلام فيه الصلاة
بشكل آخر يتناسب مع هذه الظروف فأجاز له الجمع والقصر ، حيث قصرت الصلوات الرباعية
إلى ركعتين فقط .
ويتغير وضع الصلاة
وكيفيتها في حالة الخوف في الحرب أو هجوم سبع أو سيل أو نحوه ، ويسهل أمرها وتقصر،
وتسمى هذه الصلاة بصلاة الخوف، وقد نص عليها في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ
الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)﴾ (النساء)
ثم ذكر الله تعالى
أهميتها بتفصيل مع أن عادة القرآن الكريم في مثل هذا هو تركه لهدي رسول الله r الذي يتولى تعليمه لأمته .. وفي هذا دليل على ما يوليه
القرآن الكريم للتيسير من عناية.
بالإضافة إلى كل هذا
بين رسول الله r ما خصت به هذه الأمة من جواز الصلاة في أي
مكان من الأرض ، حيث لم تكن جائزة عند الأمم السابقة إلا في المعابد والصوامع ،
قال r :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب
مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل
، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى
قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)[59]
بالإضافة إلى هذا
رفعت الشريعة وجوب الصلاة عن الحائض والنفساء، ولا تقضيان بعد الطهر ، وهذا عناية
من الله تعالى بالمرأة لما تعانيه في فترة الحيض والنفاس من آلام يصعب معها الصلاة
، وقد تطول هذه المدة فيشق القضاء ، فجاءت الرحمة الربانية على المرأة بهذا
التيسير ، ولم يطلب منها قضاء تلك الصلوات الفائتة عنها بعد ذلك.
بالإضافة إلى شرع
سجود السهو لجبر الخلل الذي يحصل في الصلاة ، ولم يطلب الشارع إعادتها .
بالإضافة إلى فروع
آخر كثيرة لا أطيق إحصاءها الآن ..
وهكذا الأمر في الزكاة التي هي أخت الصلاة
.. فهي لم تفرض ـ برحمة الله ولطفه بعباده ـ على جميع الممتلكات والعقارات والأموال،
وإنما اقتصرت على بعض الأصناف مثل: بهيمة الأنعام ، والأثمان ، والزروع ، وعروض
التجارة.
ثم إن الشريعة
اشترطت في الأصناف التي تجب فيها الزكاة أن تبلغ النصاب ، وهي في الفضة مائتي درهم
، وفي الذهب عشرين مثقالا ، وسائمة الإبل عن خمس ، والبقر عن ثلاثين ، والغنم عن
أربعين ، والحبوب والزروع والثمار عن خمسة أوسق.
ومن يسر الإسلام في
أداء هذه الفريضة أنه لم يجعل دفع الزكاة إلا مرة واحدة في السنة ، وذلك بعد أن
يحول عليه الحول.
ومن ذلك أن مقدار
المال الواجب دفعه للزكاة قليل جدًّا بالنسبة للمال الذي يوجب فيه الزكاة ، بحيث
لا يؤثر فيه كثيرا ، ولا يتأثر بذلك صاحبه.
هذا فضلا عن كيفية
تعامل الإسلام مع زكاة الزروع ، حيث أوجب العشر في التي تسقى بماء المطر ، ونصف
العشر بالتي تسقى بالنضح والآبار ، لقوله r :( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا
العشر وما سقي بالنضح نصف العشر)[60]
وفي الصيام نجد هذا التيسير
والاعتدال على أتم وجوهه .. فهو لم يفرض إلا في شهر واحد من السنة وهو شهر رمضان،
وقد ذكر القرآن الكريم بعض الأحكام المرتبطة به، وكلها تدل على عناية الله بعباده
في رفع الحرج عنهم، وتيسير التكاليف عليهم، قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾ (البقرة)
انظروا التيسيرات
الكثيرة التي حف الله بها هذا التكليف..
وانظروا إلى اهتمام القرآن الكريم بعدها ببيان تفاصيلها، مع أنه عادته
الاقتصار في ذكر الأحكام على العلل دون تفاصيل الفروع.
لقد خص برحمته وقت الصيام
بوقت يبتدئ من الفجر إلى غروب الشمس .. ولا يجوز الزيادة في هذا الوقت ، ومن أجل
ذلك نهي عن صوم الوصال، وهو وصل صيام يومين أو ثلاثة متتاليات ، لما في ذلك من
مشقة وعنت على النفس ، وخطورة على الإنسان ، يقول r :( لا وصال )[61]
يعني في الصوم .
وورد في السنة النص
على أن من أفطر خطأً أو ناسيًا فإنه يكمل صومه ، ولا حرج عليه ، فإنما أطعمه الله
وسقاه، يقول r :( من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه
فإنما أطعمه الله وسقاه)[62]
ومثل ذلك نجده في
الحج .. فهو ـ مع كونه ركنا من أركان الإسلام ـ إلا أنه لا يجب إلا على المستطيع ..
ومرة واحدة في العمر .. قال تعالى :﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ (البقرة: 185 )
وفي الحديث أن رسول
الله r خطب رسول الله r فقال: ( أيها الناس قد فرض الله عليكم
الحج فحجوا ، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال: ذروني ما
تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم
بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)[63]
ثم إن الحاج في حجه
مخير بين أمور كثيرة .. فهو مخير بين المناسك الثلاثة: التمتع ، والقران ،
والإفراد.
ومخير في الترتيب
بين الأعمال الثلاثة يوم العيد ، الرمي والحلق والطواف .. قال رجل للنبي r: زرت قبل أن أرمي ، قال: لا حرج . قال آخر: حلقت قبل أن
أذبح قال: لا حرج . قال آخر: ذبحت قبل أن أرمي ، قال: لا حرج[64].
يقول بعض رواه
الحديث [65]: فما رأيته r سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعلوا ولا حرج[66].
وفوق هذا، فقد أتاح
الله تعالى برحمته لكل خلل في واجبات الحج من غير قصد أن يجبر بفدية ، وحجه صحيح
إذا كان القصور من هذا الوجه فقط .
هذا في العبادات ..
أما في المعاملات .. فقد بنتها الشريعة الحكيمة على السماحة واليسر .. وقد عبر عن ذلك رسول
الله r، فقال :( رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا
اشترى وإذا اقتضى )[67]
وقال :( من أقال
مسلما أقاله الله عثرته يوم القيامة)[68]
ومن أمثلة ذلك أن
الشريعة أجازت للمتبايعين الخيار في عدد من المواضع رفعا للحرج الذي قد يقع فيه
أحدهما ، ومن تلك المواضع خيار المجلس الذي عبر عنه r بقوله:( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما
بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب
البيع ، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)
ومن ذلك تحريم
الشريعة للربا وتشديدها فيه، لما فيه من الظلم والاستغلال، وإشاعة الأحقاد
والضغائن بين أبناء المجتمع الواحد، وقد شجعت الشريعة بدله على القرض الحسن، قال
تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾ (البقرة)
ومن ذلك تحريم
الشريعة لاحتكار الطعام والسلع واحتجازها في الوقت الذي تشتد فيه حاجة الناس ..
قال r:( لا يحتكر إلا خاطئ)[69] ، وقال: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين
ليغليه عليهم فإن حقا على الله - تبارك وتعالى - أن يقعده بعظم من النار يوم
القيامة)[70]
ومن ذلك تشجيع
الشريعة على التيسير على المدين المعسر، رحمة بحاله وتقديرًا لظروفه القاسية ، قال
تعالى :﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)﴾ (البقرة)،
وقال r :( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم
القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)[71] ، وحدث r عن رجل من الأمم السابقة كان يتجاوز عن
المعسرين، فقال: (كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه
لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه)[72]
قلنا: حدثتنا عن
التجلي الثالث للرفق في التكاليف الشرعية .. فحدثنا عن التجلي الرابع.
قال: التجلي الرابع
هو تلك الرخص [73] الكثيرة المرتبطة بالتكاليف المختلفة..
قلنا: ما تعني
بالرخصة؟
قال: لقد راعت
الشريعة الحكيمة أصحاب الأعذار عند تطبيقهم للأحكام الشرعية .. فلذلك وضعت لهم من
الأحكام ما يناسب أحوالهم وأعذراهم.. وقد أخبر r عن فضل استعمال الرخص
الشرعية لمن صار محلا لها، فقال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى
معصيته)[74] ، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه)[75]
قلنا: فهلا ضربت لنا
أمثلة عنها.
قال: من أعظم أمثلة
ذلك ما ورد من الترخيص في التلفظ بالكفر لمن أكره عليه، قال تعالى :﴿ مَن
كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (النحل:106)
وقد ورد في الحديث
أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سب النبي وذكر آلهتهم بخير ثم
تركوه فلما أتى النبي r قال: ما وراءك شيء؟ قال : شر ما تركت حتى
نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال r : كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان،
فقال r : (إن عادوا فعد)، فنزلت الآية التي
قرأتها عليكم[76] .
وفي حديث آخر أن
النبي r لقي عمارا وهو يبكي فجعل يمسح عن عينيه
ويقول : (أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا، فإن عادوا فقل ذلك لهم)[77]
من ذلك ما ورد من
الرخص للمصلي في هيئة الصلاة .. قال r: (يصلي المريض قائما إن استطاع ؛ فإن لم
يستطع صلى قاعدا ، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه ؛ فإن لم
يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة ، فإن لم يستطع أن يصلي
على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجليه مما يلي القبلة)[78]
ومن ذلك ما ورد من
الترخيص في الإفطار في السفر أيام رمضان، وقصر الصلاة المفروضة في السفر، فتصلي
الصلاة الرباعية بركعتين فقط حال السفر، والمسح على الخفين في الوضوء، والتيمم
بالتراب إذا فُقد الماء للوضوء أو إذا كان المسلم مريضاً.. كما في قوله تعالى :﴿
وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن
الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ
صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ
عَفُوّاً غَفُوراً ﴾ (النساء : 43)
وفي الحديث عن أبي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ،
فَنَزَلْنَا مَنْزلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ
عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ)، فَكَانَتْ رُخْصَةً .. فَمِنَّا مَنْ
صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ:
(إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ) .. فَأَفْطِرُوا [79] ..
و عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي سَفَرٍ فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ
بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ
الْعَمَلِ، فَقَالَ رسول الله r فِي ذَلِكَ : (ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ
الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ)[80]
وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ
عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً
عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
r : (هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ
أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ)[81]
وعن عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r :( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ
أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟)، فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ . قَالَ: (فَلَا تَفْعَلْ ! صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ
لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ
لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ
حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)، قال
عبدالله : فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
أَجِدُ قُوَّةً.. قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَام، وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ)، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: (نِصْفَ الدَّهْرِ) .. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ
يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ r[82].
وعَنْ جَابِرٍ
قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي
رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي
رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ
تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى
النَّبِيِّ r أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (قَتَلُوهُ
قَتَلَهُمْ اللَّهُ!! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ
الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -
أَوْ يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ
سَائِرَ جَسَدِهِ)[83]
ومن ذلك تصحيح بعض
العقود الاستثنائية التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن
جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم.
ومن ذلك ما رخص الله
للمضظر بتناوله مما كان أصله الحرمة، قال تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)﴾ (البقرة)، وقال :﴿ حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾ (المائدة)
قلنا: حدثتنا عن
تجليات الرفق في التكليفات .. فحدثنا عن تجلياته فيما سميته بالتنظيمات.
قال: سأكتفي ـ هنا ـ
بمثل ما اكتفيت سابقا بذكر أربع تجليات تكفي لإقناعكم بأن شريعة الإسلام شريعة
رحمة ورفق ويسر .. وأن المراد من التنظيمات الشرعية ليس التضييق على الناس، ولا
إيقاعهم في الحرج، وإنما المراد منها تهذيبهم وتربيتهم والسمو بهم وبمجتمعاتهم.
قلنا: فحدثنا عن أول
هذه التجليات.
قال: أول التجليات
هو مرونة الشريعة .. فهي تعطينا ـ فيما يرتبط بحياتنا ـ الأصول والضوابط، وتكتفي
بها، لتترك لنا بعد ذلك حرية اختيار الطريقة المناسبة لتنفيذ الأوامر الإلهية[84].
ومن ذلك مثلا أن
الله تعالى أمرنا بالشورى، فقال :﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (38)﴾ (الشورى)
ولكن النص لم يحدد
لنا الأسلوب الذي نمارس به الشورى .. وذلك رحمة بالناس، لأن في تحديد شكل معين
لذلك يلتزم به الناس في كل زمان وفي كل مكان ما قد يتضرر به المجتمع إذا تغيرت
الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال .. ولهذا فإن المؤمنين يستطيعون في كل
عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم،
وتلائم موقعهم من التطور، دون أي قيد يلزمهم بشكل جامد.
ولأجل هذا[85] فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما
هو من قواعد أحكام المعاملات وما هو من شؤون الحياة الاجتماعية, فأفسح للنظر
والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولى حتى لا يكون على الناس في ذلك حرج ولا مشقة
:﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾
(البقرة:185)، وقد نصوا في هذا على أنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من
الفجور.
وهذا تاريخ التشريع
الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر كان يفتى في الموسم في القضية من القضايا برأي , ثم
تعرض عليه في الموسم التالي من العام القابل فيفتى برأي آخر .. فيقال له في ذلك ,
فيقول : ذاك على ما علمنا وهذا على ما نعلم.
كما يحدثنا أن
الشافعي وضع بالعراق مذهبه القديم , فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولا على حكم
البيئة , وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على
مقتضى القواعد الأساسية الكلية الأولى.
وفي عام المجاعة أمر
عمر بعدم القطع في السرقة, وجاءه رجل يشكو سرقة خدمه فأحضرهم فأقروا وذكروا أن
السبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس، فتركهم عمر قائلا:( إذا سرق خدمك
مرة ثانية قطعت يدك أنت) واعتبرها شبهة تدرأ الحد ، ولاحظ الظروف والملابسات.
سكت قليلا، ثم قال:
لقد شهد المنصفون من باحثي الغرب بهذه الخاصية العظيمة من خواص هذا الدين .. فهذا
توماس آرنولد يقول: ( وإن بساطة هذه التعاليم ووضوحها لهي على وجه التحقيق؛ من
أظهر القوى الفعالة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام)
ويقول الدكتور (إيزيكو
انسابا توحين) أحد علماء القانون: ( إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة
فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل خلال القرون ، ويبقى محتفظاً بكل ما لديه من
قوة الحياة والمرونة، فهو الذي أعطى العالم أرسخ الشرائع ثباتاً، وشريعته تفوق
كثيرًا الشرائع الأوربية)
ويقول (دافيد دي
سانتيلانا) : ( لما كان الشرع الإسلامي يستهدف منفعة المجموع، فهو بجوهره شريعة
تطورية غير جامدة خلافًا لشريعاتنا من بعض الوجوه. ثم إنها علم ما دامت تعتمد على
المنطق الجدلي.. وتستند إلى اللغة.. إنها ليست جامدة، ولا تستند إلى مجرد العرف
والعادة، ومدارسها الفقهية العظيمة تتفق كلها على هذا الرأي. فيقول أتباع المذهب
الحنفي أن القاعدة القانونية ليست بالشيء الجامد الذي لا يقبل التغيير. إنها لا
تشبه قواعد النحو والمنطق. ففيها يتمثل كل ما يحدث في المجتمع بصورة عامة)[86]
قلنا: عرفنا التجلي
الأول .. فحدثنا عن الثاني.
قال: التجلي الثاني
هو تلك المساحة الكبيرة التي يسميها علماء الشريعة: (منطقة الفراغ التشريعي)، أو
(العفو)، والتي عبر عنها رسول الله r، فقال: ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال،
وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو ! فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن
لينسى شيئاً)، وتلا :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ (مريم :
الآية 64)[87]
وقال r :( إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا
تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم ؛ من غير نسيان فلا
تبحثوا عنها)[88]
فالحدود التي قدرها
الشرع، والتي لا يجوز اعتداؤها .. مثل تحديد نصاب الزكاة، ومقدار الواجب منها،
وتحديد أنصبة الورثة في تركة الميت.. ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات
الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل
وغيرها .. فلا يجوز لأحد أن يسقط أو يلغي شيئًا من هذه الفرائض، أو يتساهل فيها،
ففرضيتها ثابتة في الشريعة ، لا تقبل نسخاً ولا تجميداً ولا تطويراً ولاتعديلاً،
ولا يجوز أن تضيع في مجتمع مسلم .. وكذلك المحرمات اليقينية، مثل : الشرك، والقتل،
وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، والزنا وشرب الخمر، والسرقة،
وأكل المال العام، وشهادة الزور، ونحوها.. فهذه كلها ثابتة لا تلين للعصور، ولا
يُتهاون فيها يوماً، فيفتي بحلها مجتهد، أو يرخص فيها حاكم[89].
أما ما عدا هذه
الحدود والفرائض والمحرمات المنصوص عليها، فهي ـ كما سماها الهدي النبوي ـ :
(مسكوت عنها) رحمة بالبشر ..
وقد كلف الشرعُ
علماء المسلمين أن يستغلوا هذه النعمة العظمى من المشرع – سبحانه وتعالى – وذلك
بأن يملئوا هذا الفراغ التشريعي بكل جديد ونافع يتفق مع مقاصد الشريعة، وذلك من
خلال طرائق ومسالك عديدة أقرها الشرع؛ مثل القياس بقيوده وشروطه، والاستحسان،
والاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة ؛ وهي التي لم يجيء نص خاص من الشارع
باعتبارها ولا بإلغائها، واعتبار العرف بقيوده وشروطه .. وغيرها.
قلنا: عرفنا
التجلي الثاني .. فحدثنا عن الثالث.
قال: التجلي
الثالث هو ما يمكن تسميته بالتجاوز.
قلنا: ما تقصد
به؟
قال: من رحمة
هذه الشريعة ورفقها ويسرها أن الله تعالى تجاوز فيها عن كثير من الذين كانت تمسهم
عقوبات التكاليف وتشدداتها.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: لقد بحثت في تعامل
القوانين المختلفة مع المجرمين .. فرأيت أن أرحم شريعة بهم هي شريعة الإسلام.
قلنا: كيف ذلك .. ونحن لا نعلم إلا
خلافه.
قال: لقد رأيت من خلال دراستي لتاريخ
القوانين[90] أن الأفعال المحرمة كانت لا تعيَّن قبل تحريمها.. ولا يعلم بها
الناس قبل مؤاخذتهم عليها.. وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب، يترك
للقضاة اختيارها وتقديرها، فكان الشخص يأتي الفعل غير محرم من قبل، فيعاقب عليه
إذا رأى صاحب السلطان أن فعله يستحق العقاب، ولو لم يكن عوقب أحد من قبل على هذا
الفعل، ولو لم يكن الفعل أُعلن تحريمه من قبل.
وكانت العقوبات على الفعل الواحد
تختلف اختلافاً ظاهراً؛ لأن اختيار نوعها وتقدير كمها متروك للقاضي، فله أن يعاقب
بما شاء وكما يشاء دون قيد ولا شرط.
إن هذه المبادئ ترجع في أساسها جميعا
إلى نظرية (المسئولية المادية) التي كانت تسيطر على القوانين الوضعية، والتي تنظر
إلى الصلة المادية البحتة بين الجاني والجناية، وبين الجاني وغيره من أهله
والمتصلين به، ولا تحسب حساباً لملكات الجاني الذهنية، وقدرته على التفكير
والتمييز والاختيار، وتوجيه إرادته للفعل، ومدى اتصال ذلك كله بالفعل المحرم وأثره
عليه.
وقد ظلت هذه المبادئ سائدة في
القوانين الوضعية حتى جاءت الثورة الفرنسية فزعزعت هذه الأوضاع، وأخذت تحل محلها
من ذلك الحين مبادئ جديدة، تقوم على أساس العدالة وعلى جعل الإدراك والاختيار
أساساً للمسئولية، فأصبح الإنسان الحي وحده هو محل المسئولية الجنائية، وأصبحت
العقوبة شخصية لا تصيب إلا من أجرم ولا تتعداه إلى غيره، ورفعت المسئولية عن
الأطفال الذين لم يميزوا، ووضعت عقوبات بسيطة للأطفال المميزين، وارتفعت المسئولية
عن المكرَه وفاقد الإدراك، وأصبح من المبادئ الأساسية في القوانين أن لا جريمة ولا
عقوبة إلا بقانون، وأن لا عقوبة إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القوانين، وقيدت
حرية القضاة في اختيار العقوبة وتقديرها[91].
قلنا: فالثورة الفرنسية إذن هي التي
حققت العدل، ومحت الجور.
قال: لا .. لقد سبقها إلى ذلك
الإسلام .. فمن يعرف شيئاً قليلاً عن الشريعة الإسلامية يستطيع أن يقول وهو آمن من
الخطأ إن كل هذه المبادئ الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا في القرن
التاسع عشر والقرن العشرين، قد عرفتها الشريعة من يوم وجودها، وإنها من المبادئ
الأساسية التي تقوم عليها الشريعة.
فالشريعة لا تعرف محلاً للمسئولية
إلا الإنسان الحي المكلَّف، فإذا مات سقطت عنه التكاليف ولم يعد محلاً للمسئولية.
والشريعة تعفي الأطفال إلا إذا بلغوا
الحلم مما لا يعفى من الرجال، لقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ
الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (النور: 59)، ولقول الرسول r :( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يصحو،
وعن المجنون حتى يفيق)[92]
والشريعة لا تؤاخذ المكرَه ولا فاقد
الإدراك، لقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ (النحل:
106)، وقوله تعالى:﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ
عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ (البقرة: 173)،
ولقول الرسول r :(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
ومن القواعد الأساسية في الشريعة
الإسلامية:﴿ أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا
مَا سَعَى ﴾ (النجم: 38، 39)، فلا يسأل الإنسان
إلا عن جنايته، ولا يؤخذ بجناية غيره مهما كانت صلته به.
ومن القواعد الأساسية في الشريعة
الإسلامية أن كل ما لم يحرم فهو مرخص لا عقاب على إتيانه، فإذا حرم فالعقوبة من
وقت العلم بالتحريم، أما ما قبل ذلك فيدخل في قوله تعالى:﴿ عَفَا
اللّهُ عَمَّا سَلَف ﴾ (المائدة: 95)
وليس للقضاة في الشريعة الإسلامية أي
شئ من الحرية في اختيار العقوبة أو تقديرها في جرائم الحدود والقصاص، أما في
التعازير فلهم حرية مقيدة، لهم أن يختاروا العقوبة من بين عقوبات معينة، ولهم أن يقدروا
كمية العقوبة إن كانت ذات حدين بما يتناسب مع ظروف الجريمة والمجرم، ولكن ليس لهم
أن يعاقبوا بعقوبة لم يقررها أولو الأمر، ولا أن يرتفعوا بالعقوبة أو ينزلوا بها
عن الحدود التي وضعها أو يضعها أولو الأمر.
قال رجل من الجماعة: أنا قاض .. وقد
أعجبني حديثك هذا .. فهلا حدثتنا عن الأسس التي تقوم عليها نظرية المسئولية
الجنائية في الإسلام.
التفت إليه زيد، وقال: من المتفق
عليه في الفطر جميعا أن الأفعال إنما يؤمر بها أو ينهى عنها، لأن في إتيانها أو
تركها ضرراً بنظام الجماعة أو عقائدها أو بحياة أفرادها أو بأموالهم أو بأعراضهم
أو بمشاعرهم أو بغير ذلك من الاعتبارات التي تمس مصالح الأفراد أو مصالح الجماعة
ونظامها.
وانطلاقا من هذا شرع عقاب المخالف
لتلك الأوامر والنواهي، لأن النهي عن الفعل أو الأمر بإتيانه لا يكفي وحده لحمل
الناس على إتيان الفعل أو الانتهاء عنه، ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهي
أموراً ضائعة وضرباً من العبث، فالعقاب هو الذي يجعل للأمن والنهي مفهوماً ونتيجة
مرجوة، وهو الذي يزجر الناس عن الجرائم، ويمنع الفساد في الأرض، ويحمل الناس على
الابتعاد عما يضرهم، أو فعل ما فيه خيرهم وصلاحهم.
والعقوبات وإن شرعت للمصلحة العامة
فإنها ليست في ذاتها مصالح بل هي مفاسد، ولكن الشريعة أوجبتها لأنها تؤدي إلى
مصلحة الجماعة الحقيقية، وإلى صيانة هذه المصلحة.. وربما كانت الجرائم مصالح، ولكن
الشريعة نهت عنها؛ لا لكونها مصالح، بل لأدائها إلى المفاسد، فالزنا وشرب الخمر
والنصب واختلاس مال الغير وهجر الأسرة والانتفاع عن إخراج الزكاة - كل ذلك قد يكون
فيه مصلحة للأفراد، ولكنها مصالح ليس لها اعتبار في نظر الشارع، وقد نهى عنها؛ لا
لكونها مصالح، بل لأنها تؤدي إلى فساد الجماعة.
والأفعال التي هي مصلحة محضة أو
قليلة جداً، وأكثر الأفعال تختلط فيها المصالح والمفاسد، والإنسان بطبعه يؤثر ما
رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما ترجح مفسدته على مصلحته، ولكنه في اختياره ينظر
لنفسه لا للجماعة، فيؤثر ما فيه مصلحته ولو أضر بالجماعة، وينفر مما يراه مفسدة
عليه ولو كان فيه مصلحة الجماعة.. وقد شرعت العقوبات بما فيها من التهديد والوعيد
والزجر علاجاً لطبيعة الإنسان، فإن الإنسان إذا نظر إلى مصلحته الخاصة وما يترتب
عليها من العقوبات نفر منها بطبعه، لرجحان المفسدة على المصلحة.
وكذلك إذا ما فكر في الواجب وما
يجلبه عليه من المشاق، فقد يدعوه ذلك لتركه، لكنه إذا ذكر ما يترتب على الترك من
عقوبة حمله ذلك على إتيان الفعل، والصبر على المكروه والمشقة.. فالعقوبات مقررة
لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصلحة الجماعة، ولصرفهم عما يشتهون ما
دام أنه يؤدي إلى إفساد الجماعة.
قال الرجل: ولكن هناك ناساً يفعلون
الفعل لأنه مأمور به، وينتهون عنه لأنه منهي عنه، لا حذراً من العقوبة، ولا خوفاً
من النكال.
قال زيد: صدقت .. وهؤلاء هم الذين
تقوم جميع مؤسسات المجتمع الإسلامي بتكوينهم وتربيتهم .. ولكنهم مع ذلك قد يكون
قليلين جداً، والأحكام إنما تشرع للكثرة الغالبة، لا لمثل هذه القلة النادرة.
قال الرجل: عرفنا هذا .. وعرفنا وجه
ضرورة العقوبة .. وهو ما لا يمكن أن يخالفك فيه أحد من الناس .. ولكني أسألك عن
الأسس التي توفر للعقوبة هذا الدور الذي علق عليها، وهو حفظها لمصلحة الجماعة.
قال: بما أن الإسلام يعتقد أن
العقوبة ضرورة من الضرورات .. والضرورات عنده تقدر بقدرها .. فإنه وضع للعقوبات
أسسا مهمة تحفظ للعقوبة سلطة الردع، وفي نفس الوقت تحميها من التعسف والظلم.
منها أنه حد العقوبة بكونها تكفي
لتأديب الجاني وكفه عن معاودة الجريمة، وأن تكون بحيث يستطيع القاضي أن يختار نوع
العقوبة الملائمة لشخصية الجاني، وأن يقدر كمية العقوبة التي يراها كافية لتأديبه
وكف أذاه.. وهذا يقتضي تنوع العقوبات وتعددها للجريمة الواحدة، وجعل العقوبات ذات
حدين؛ ليستطيع القاضي أن يختار العقوبة الملائمة ويقدر كميتها من بين حدي العقوبة
الأدنى والأعلى[93].
ومنها أن تكون كافية لزجر الغير عن ارتكاب
الجريمة بحيث إذا فكر في الجريمة وعقوبتها وجد أن ما يعود عليه من ضرر العقوبة قد
يزيد على ما يعود عليه من نفع الجريمة. وهذا يقتضي أن تكون أنواع العقوبات وحدودها
العليا بحيث تنفر من الجريمة.
ومنها أن يكون هناك تناسبا بين
الجريمة والعقوبة، بحيث تكون العقوبة على قدر الجريمة، فلا يصح أن يكون عقاب قطع
الطريق كعقاب السرقة العادية، ولا يصح أن تكون عقوبة القتل العمد متساوية مع عقوبة
القتل الخطأ. ولقد عاقبت الشريعة مثلاً على السرقة بقطع اليد، ولكنها لم تعاقب على
القذف بقطع اللسان، ولا تعاقب على إتلاف الزنا بالخصاء، وعاقبت على القتل العمد
بالقصاص ولكنها لم تعاقب على إتلاف الأول بالقصاص.
ومنها أن تكون العقوبة عامة بحيث
تطبق العقوبة المقررة للجريمة على من ارتكبها، فلا يعفى منها أحد لمركزه أو شخصه
أو غير ذلك من الاعتبارات.
والعقوبة التي تتوفر فيها العناصر
السابقة هي العقوبة العادية، ولا يصح أن تقع إلا على من ارتكب الجريمة وهو مدرك
مختار، فإذا لم يكن الجاني مدركاً أو مختاراً فلا عقاب كقاعدة عامة، فالمجنون لا
يقتص منه إذا قتل غيره، ولا يجلد إذا زنا وهو غير محصن، وكذلك الصغير الذي لم
يميز.
ولكن امتناع العقوبة العادية لعدم
الإدراك أو الاختيار لا يمنع الجماعة من حماية نفسها بالوسائل التي تراها كافية أو
ملائمة.. فالصغير غير المميز إذا لم يكن الاقتصاص منه إذا قتل فإنه يمكن أن يوضع
في ملجأ، أو يرسل به لإحدى الإصلاحيات، والمجنون إذا لم يكن عقابه فإن من الممكن
حماية الجماعة من شره بوضعه في مستشفى، وهكذا إذا امتنع عقاب الجاني بالعقوبات
العادية، وكان من الضروري اتقاء شره وحماية الجماعة منه، فإن للجماعة أن تتخذ من
الوسائل ما تجمي به نفسها من شر الجاني ولو أنه غير مسئول ويمكن عقابه، كأن تضعه
في ملجأ أو مستشفى أو مدرسة إلى أمد محدود أو غير محدود بحيث لا يخرج منه إلا إذا
أمن شره أو صلح حاله.
وهذه الوسائل على اختلاف أنواعها
وآثارها تعتبرها الشريعة تعازير، فهي عقوبات ولكنها غير عادية أو هي عقوبات خاصة..
والمقصود منها أساساً هي حماية الجماعة، على أنه قد يقصد منها أيضاً التأديب
وإصلاح الجاني كما في حالة الصغار.
قلنا: عرفنا
التجلي الثالث .. فحدثنا عن الرابع.
قال: التجلي
الرابع هو ما يمكن تسميته بالانفتاح.
قلنا: ما تقصد
به؟
قال: من رحمة
هذه الشريعة ورفقها ويسرها أن الله تعالى لم يضيق فيها على النفس الإنسانية وعلى
المجتمع الإنساني ما تتطلبه أهواؤه المشروعة .. فلذلك أباح كل ما لا يؤذي النفس
والمجتمع من صنوف العادات واللهو .. فمن الضيق الكبير أن تمنع النفس أو يمنع
المجتمع ما تعوده من العادات إلا إذا كان
فيها أذى، فإن الشرع يبادر إلى تحريمه.
قلنا: فهلا
ضربت لنا أمثلة تقرر هذا، وتؤكده؟
قال: من أمثلة
ذلك ما روي في الحديث أن رسول الله r قال: (لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقالَ ذَرَة ن
كِبُر ) ، فقيل له: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، و نعله حسنة، فقال r :( إن الله جميل يحب الجمال ،
الكِبُر بطر الحق وغمط الناس)[94]
فالنبي r في هذا الحديث بين أن
الشريعة لا تحرم ما تشتهيه النفس من أنواع الجمال، ولكنها تحرم ما قد ينتج عن ذلك
من الكبر والغرور والظلم.
وهكذا هي في كل
القضايا لا تحرم ما تشتهيه النفس لأنها تشتهيه .. ولكنها تحرمه لما ينتج عنه من
النتائج التي تضر بالفرد أو بالمجتمع.
فالشعر ـ مثلا
ـ من الفنون التي اتفقت الطبائع البشرية عليها لم يحرمه الإسلام .. وإنما حرم ما
قد يستعمل منه لنهش الأعراض ونشر الرذائل، قال تعالى :﴿ وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء)
ومثل ذلك أنواع
الغناء والموسيقى .. فالإسلام ـ في نصوصه القطعية ـ لا يحرم منه إلا ما آذى النفس
والمجتمع بنشر الرذائل والانحراف دون ما عداه.
وقد روي في
الحديث عن
ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله r فقال: أهديتم
الفتاة قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغنى قالت: لا. فقال رسول الله r :( إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم
أتيناكم فحيانا وحياكم)[95]
انظروا .. إن
هذا الحديث يدل على رعايته r لأعراف الأقوام المختلفة ما لم تحو تلك الأعراف على
المقاصد التي جاءت الشريعة لتحقيقها.
***
ما وصل زيد بن علي
من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد
خبيب، وساروا به إلى مقصلة الإعدام ..
أراد بعضنا أن يتدخل
ليمنعهم .. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل ..
لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في
جيش العدالة الإلهية .. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد .. فـ :﴿ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا
لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)﴾ (الأحزاب)
قال ذلك، ثم سار
بخطا وقورة إلى المقصلة .. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت روحه
إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد r .
([1]) أشير به إلى الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب ـ رضي الله عنه وعن آبائه (79 - 122هـ، 698 - 740م) من أئمة المدرسة الزيدية.
قام بثورة ضد
الاستبداد الذي قام به النظام الأموي .. وكانت ثورته مرحلة من المراحل التي عجلت بسقوط
الدولة الأموية.. وسنشير إلى بعض مآثره فيها في ثنايا الفصل.
ولم يكتف المستبدون
بقتله، بل راحوا يمثلون بجثته، ويتلاعبون بها، وقد روي في ذلك أن أتباع الإمام زيد
أرادوا أن يُخفوا جسده الشريف حتى لا يصل إليه الأمويون، فعملوا تحت جنح الظلام
وحجزوا الماء في الساقية في بستان وحفروا القبر، ثم واروا الجثمان العظيم وأجروا
عليه الماء، وتفرقوا قبل طلوع الفجر.
وفي اليوم التالي
أُعلِنَ في الشوارع والأسواق عن جائزة مغرية لمن يدل على المكان الذي دفن فيه،
فدلهم بعض ضعفاء النفوس على موضع قبره، فنبشوه واستخرجوا منه الجثمان العظيم.
فَحُمل الجثمان على جمل وألقي به أمام قصر الإمارة، وهنالك فُصِل الرأس الشريف عن
الجسد.
فأما الرأس فبعث به
يوسف بن عمر الثقفي إلى الشام، وبعد أن وضع بين يدي هشام أمر أن يطاف به في
البلدان، لنشر الرعب والذعر في نفوس الجماهير، وقتل الحماس في النفوس الأبية، ومر
الرأس ببلدان كثيرة حتى وصل إلى المدينة المنورة، وأمام قبر رسول اللّه r، طُلب من أهل المدينة الحضور إلى المسجد وإعلان البراءة من علي بن
أبي طالب وزيد بن علي ـ رضي الله عنهم ـ ثم أخذ إلى مصر ونصب في الجامع الأعظم
أياماً، ومنه أخذ سراً ودفن هنالك.
وأما الجسد فصلب في
كُنَاسة الكوفة عارياً، فجاءت العنكبوت تنسج الخيوط على عورته لتسترها، وكانوا
كلما أزاحوا تلك الخيوط جاءت لتنسج غيرها.
ولم يكتفوا بذلك، بل
عمل الطغاة على التخلص من الجسد الشريف، فعملوا على إنزاله وإحراقه ، وذرّ رماده
في الفرات ، وقد قال يوسف بن عمر الثقفي في ذلك قولته المشهورة: (والله يا أهل
الكوفة لأدعنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم)
وقد قال الشاعر مؤرخا
لذلك:
لم يكفهم
قتله حتى تعاقبه نبش وصلب وإحراق وتغريق
وقد كان بالإضافة إلى
دوره الجهادي ضد الاستبداد فقيها عالما، ومما خلفه من كتب ورسائل: مجموع الإمام
زيد ويشتمل على المجموع الفقهي والحديثي (مسند الإمام زيد)، وتفسير غريب القرآن،
ومناسك الحج والعمرة، ومجموع رسائل وكتب الإمام زيد، منها (رسالة الإيمان)،
و(رسالة الصفوة)، و(رسالة مدح القلة وذم الكثرة)، و(رسالة تثبيت الوصية)، و(رسالة
تثبيت الإمامة)، و(رسالة إلى علماء الأمة)، وهي الرسالة التي وجهها إلى العلماء
يدعوهم فيها إلى القيام بمسئولياتهم وتأييده في ثورته.. وغيرها.
([2]) الدنيا المرادة هنا هي دنيا أهل الغفلة لا دنيا العارفين
المؤمنين، والتي وعدها الله المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(النحل:97)
([3]) ورد في النصوص التي يتداولها الزيدية بأسانيدهم الصحيحة إخبار
رسول الله r باستشهاده، ومنها أن النبي r نظر يوماً إلى زيد بن حارثة فبكى، وقال: (المقتول في اللّه
المصلوب من أمتي المظلوم من أهل بيتي سمي هذا)، وأشار إلى زيد بن حارثة، ثم قال:
(أدن مني يا زيد زادك اسمك عندي حباً فإنك سمي الحبيب من ولدي (زيد)
ورُوي عن أبي جعفر
محمد بن علي، عن النبي r أنه قال للحسين: (يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يتخطى هو
وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين، يدخلون الجنة أجمعين بغير حساب)
ويروى أن أبا حمزة
الثمالي دخل ذات يوم على زين العابدين فقال له زين العابدين: يا أبا حمزة ألا أخبرك
عن رؤيا رأيتها؟ قال: بلى يا ابن رسول اللّه. قال: رأيت كَأَنَّ رسول اللّه r أدخلني جنةً وزوجني بحورية لم أر أحسن منها، ثم قال لي: (يا علي
بن الحسين، سَمّ المولود زيداً، فيهنيك زيدٌ)
ويروى أن والده (زين
العابدين) لما سمع بولادة ابنٍ له من الجارية السندية قام فصلى ركعتين شكراً لله،
ثم أخذ المصحف مستفتحاً لاختيار اسم مولوده، فخرج في أول السطر قول اللّه تعالى: ﴿
وَفَضَّلَ اللّه المُجَاهِدِيْنَ عَلَى القَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً﴾
(النساء:95)، فأطبق المصحف، ثم قام وصلى ركعات، ثم فتح المصحف، فخرج في أول السطر:
﴿ وَلاَتَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللّه أَمْوَاتاً
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ﴾ (آل عمران: 169)، ثم قام
وركع، ثم أخذ المصحف وفتحه فخرج في أول سطر: ﴿ إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنْ
المُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللّه فَيَقْتُلُوْنَ وَيُقْتَلُوْنَ وَعْداً
عَلَيْهِ حَقّاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللّه فَاسْتَبْشِرُوْا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ
الفَوْزُ العَظِيْمُ ﴾ (التوبة:111)، وبعد ذلك أطبق المصحف وضرب بإحدى يديه
على الأخرى، وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، عُزِّيت في هذا المولود، إنه (زيد)
..أما واللـه ما أجد من ولد الحسين في يوم القيامة أعظم منه وسيلة، ولا أصحاباً
آثر عند اللّه من أصحابه)
([58]) استفدنا عند ذكر الأمثلة الواردة هنا من كتاب (اليسر والسماحة في
الإسلام) إعداد (أ د . فالح بن محمد الصغير) كلية أصول الدين - جامعة الإمام.
([73])الرخصة في اللغة معناها
اليسر والسهولة. وفي الاصطلاح الشرعي:
عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم، أو مَا
أُرْخِصَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا، كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء صيام
رمضان عن المسافر.
([76]) رواه عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.
([90]) انظر: التشريع الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة، وسنرى
المزيد من التفاصيل عن هذا في الفصل التالي (الحزم)
([91])عرفت القوانين الوضعية أكثر من نظرية فيما يتعلق بالمسئولية الجنائية،
فقبل الثورة الفرنسية كانت المسئولية الجنائية قائمة على أساس النظرية المادية،
ومقتضاها العقاب على أي فعل أياً كان مرتكبه، وبغض النظر عن صفته وحالته، وقد أدت
هذه النظرية إلى عقاب الإنسان والحيوان والجماد، وأدت إلى عقاب الأحياء والأموات
والأطفال والمجانين.
وبعد الثورة الفرنسية
قامت المسئولية الجنائية على أساس من فلسفة الاختيار، ويسمى هذا المذهب بالمذهب التقليدي، وخلاصته أنه لا يصح أن يسأل
جنائياً إلا من يتمتع بالإدراك والاختيار، وأن الإنسان وحده هو الذي تتوفر فيه
هاتان الصفتان، وأن الإنسان بعد سن معينة يستطيع أن يميز بين الخير والشر ويختار
بينهما، ومثل هذا الشخص هو الذي توجه إليه أوامر الشارع ونواهيه، فإذا خالف الشارع
مع قدرته على الإدراك والاختيار كان من العدل أن يعاقب جزاء على مخالفتة أمر
الشارع. فأساس المسئولية هو الإدراك والاختيار، والعقوبة مفروضة ضماناً لتنفيذ أمر
الشارع، وجزاء عادلاً على مخالفته.
وبعد أن ساد المذهب
التقليدي زمناً ظهر المذهب الوضعي، وهو
قائم على فلسفة الجبر، وخلاصته أن المجرم لا يأتي الجريمة مختاراً، وإنما يأتيها
مدفوعاً إليها بعوامل لا قبل له بها ترجع إلى الوراثة والبيئة والتعليم والتركيب
الجثماني، وإذا كان الجاني لا خيار له في ارتكاب الجريمة فقد امتنع عقابه طبقاً
للمذهب التقليدي، ولكن يمكن عقابه إذا اعتبرت العقوبة وسيلة من وسائل الدفاع عن
الجماعة وحمايتها، وعلى أساس هذا المذهب يعاقب الإنسان سواء كان مختاراً أو غير
مختار، مدركاً أو غير مدرك، عاقلاً أو مجنوناً، وإنما تختلف العقوبة التي تصيب كل
جان باختلاف سنه وعقليته، وقد أخذت بعض القوانين بهذا المذهب ومنها القانون
السوفيتي الصادر في سنة 1926، ولكن أكثر الدول لم تأخذ به.
ثم ظهر بعد ذلك مذهب
آخر قصد منه التوفيق بين المذهبين السابقين، ويسمى مذهب
الاختيار النسبي، ويرى أصحابه الإبقاء على المذهب التقليدي، لأن
الإنسان مهما كان اختياره محدوداً فإن لإرادته دخلاً في الجريمة، ولكن المذهب
الجديد يضيف إلى المذهب القديم فكره أخرى، وهي أن للمشرع أن يحمي الجماعة من إجرام
الأشخاص الذين يمتنع عقابهم لانعدام إدراكهم أو اختيارهم، بأن يتخذ معهم إجراءات
خاصة مناسبة لحالتهم.. وهذا المذهب هو الذي يسود القوانين الوضعية اليوم(انظر:
القانون الجنائي لعلي بدوي ص330، 335)
وقد عبر عبد القادر
عودة عن علاقة هذا المذهب الأخير بالشريعة الإسلامية، فقال: (وهذا المذهب يؤدي إلى
نفس النتائج التي يؤدي إليها مذهب الشريعة الإسلامية، ولا يفترق عنه إلا في أن
نظرية الشريعة أدق منطقاً وأفضل صياغة، فهي تجعل العقوبة ضرورة اجتماعية ووسيلة
لحماية الجماعة، وتفرق في تطبيق وسائل حماية الجماعة بين الشخص المختار المدرك
وبين فاقد الإدراك أو الاختيار، أما المذهب القانوني فأساس العقوبة فيه مخالفة أمر
الشارع وتحقيق العدالة، وهذا الأساس مأخوذ عن المذهب التقليدي، وهو أساس يتعارض
منطقياً مع معاقبة غير المسئول، أو إتخاذ أي إجراء ضده، إذ لا يمكن أن يقال إن
فاقد الإدراك والاختيار خالف أمر الشارع، وإذا لم يكن قد خالف أمر الشارع فليس من
العدالة في شئ أن يؤاخذ بأي وجه من وجوه المؤاخذة) (انظر: التشريع الجنائي في
الإسلام)