الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: عدالة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

ثانيا ـ النظام

1 ـ السياسة

الدستور:

الخليفة:

الرعية:

التنظيمات:

2 ـ الاقتصاد

القيم:

1 ـ التصورات:

2 ـ السلوكات:

الحركة:

3 ـ الاجتماع

التآلف:

التكافل:

التناصر:

التناصح:

4 ـ التعليم

5 ـ الحسبة

المحتسب:

المحتسب عليه:

المحتسب فيه:

الاحتساب:

6 ـ القضاء

الأمانة:

الحرية:

العدالة:

1 ـ الإثبات:

2 ـ الحكم:

الرحمة:

7 ـ الدفاع

القوة:

الأمانة:

ثانيا ـ النظام

في اليوم الثاني، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (الحسين بن علي)[1].. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع المساجين بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن .. ومن يخترقها، فسيتحمل مسؤولية خرقه.

ما إن قال ذلك .. وما إن فتحت أبواب الزنازن .. حتى أسرع جميع المساجين إلى ساحة السجن حيث وجدوا الحسين بن علي جالسا على عرشه ينتظرهم.

كان فتى ممتلئا وقارا وهيبة وجمالا ..

قال لنا بصوت قوي جليل ممتلئ بالحنان والرحمة: أيها الإخوان الكرام .. أنا اليوم في أسعد أيام حياتي .. لقد كانت أمنيتي الغالية منذ صباي أن يرزقني الله موتة كريمة عزيزة كموتة ذلك الأبي الشهم النبيل حفيد رسول الله r الحسين بن علي ..

لقد كان يمثل لي ـ كما يمثل للملايين في الأجيال الطويلة المختلفة ـ الصوت الصارخ في البرية ضد الطغاة والمجرمين والمستبدين ..

لقد  كان دوره البطولي العظيم في وقعة الطف[2] إحياء للدين .. وإماتة لبدعة خطيرة كان يمكن أن تقوض النظام الإسلامي لتحوله نظاما كسرويا أو قصرويا ..

لقد استشهد الحسين ليقول للناس: إن دين الله ليس في المساجد فقط .. بل إنه في كل محل .. في محال السياسة والاقتصاد والتعليم والاجتماع والحسبة والقضاء والدفاع .. وكل المؤسسات.

فدين الله دين الحياة .. بجميع تفاصيلها ..

هذا ما نادى به الحسين، وهو يخرج معارضا الاستبداد والطغيان .. ليحيي سنة التضحية بالنفس من أجل المبادئ.. ويميت أول وأخطر بدعة أرادت أن تنحرف بالإسلام عن مسار العدالة الذي شرعه الله لعباده.

قال رجل منا: ولكن الحسين قتل .. وقد سمعت البعض يعتبر ما قام به محاولة تمرّد فاشلة.

قال الحسين: دعهم يقولون ما يشاءون .. فإنهم لا يرددون سوى ما ردده أولئك الطغاة وأذنابهم وأعوانهم.

قال الرجل: وما تقول أنت؟

قال الحسين: أنا لا أقول .. بل التاريخ والحقائق هي التي تقول .. لقد كان الحسين هو المنتصر الحقيقي في تلك المعركة .. وكانت المبادئ التي نادى بها الحسين هي المنتصرة ..

لقد خرج الحسين في ذلك الحين ليحفظ دين جده من أن يتلاعب به الصبية الذين يحملون عقول أهل الجاهية، وقيم أهل الجاهية ..

ولا زال الحسين بخروجه ذلك رمزا لكل الرجال الأبطال الذين يرفضون أن يحنوا رؤوسهم لأي طاغية.

قال رجل منا: دعنا من الحديث عن الحسين بن علي .. وحدثنا عنك.

قال: أنا أحقر من أن أضيع أوقاتكم بالحديث عن نفسي .. ولذلك أسمحوا لي أن تكون كلماتي الأخيرة التي أقولها في هذه الدنيا هي الكلمات التي خرج الحسين من أجلها ..

لقد قام الحسين وأصحابه .. واسترخصوا نفوسهم في ذات الله، من أجل أن يبقى للنظام الذي جاء به محمد r نقاءه وصفاءه وطهارته ..

لقد جاء المستبدون بعقول الجاهلية .. وأرادوا أن يحولوا من الإسلام دينا يدع لقيصر ما له وما ليس له .. لكن الحسين وإخوانه في كل زمان كانوا يقفون في وجه هذا الفهم الخاطئ للدين .. فالدين ليس قيما رفيعة فقط يمكن لأي شخص أن يقوم بها بمفرده ..

لا .. إنه فوق ذلك كله نظام .. نظام يشمل جميع المؤسسات: السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية، والإصلاحية، والقضائية، والعسكرية .. وغيرها من المؤسسات.

1 ـ السياسة

قال رجل منا: فحدثنا عن النظام السياسي في الإسلام ..

قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام سياسي)

قال آخر: بلى .. هناك نظام سياسي .. وهو نظام ملكي .. تتوارثه العائلات الكبرى .. كان من بينها بنو أمية.. ثم بنو العباس .. ثم بنو عثمان .. وكان من بينها بنو الأحمر، وبنو الأصفر ..

قال آخر: لا .. هو نظام يعتمد العصبية والقوة .. فمن كانت له العصبة والقوة كانت له شرعية الحكم.. ومن لم تكن له كان باغيا خارجيا ظالما.

قال آخر: هناك نظام سياسي .. ولكنه يعتمد على وجود القرشيين .. لأنه لا يمكن أن يقوم إلا بوجودهم .. وهذا يستدعي وجود النسابين حتى يميز القرشي عن غيره.

أشار إليهم الحسين أن يسكتوا .. بعد أن سكتوا قال: أنتم ترددون تلك الأفكار التي أشاعها من قتل الحسين، أو من لم يهتز له عرق لقتله ..

إن النظام السياسي في الإسلام يختلف عن كل ما ذكرتم .. إنه نظام لا ينشأ إلا للعدل .. ولتحقيق العدل ..

إنه نظام ينطلق من أن العباد عباد الله .. ولا يحق لأحد أن يحكمهم إلا ربهم الذي خلقهم .. :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ (الأنعام: من الآية57) .. :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص:70) .. :﴿ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88)

وربهم الذي خلقهم أنزل عليهم بفضله وكرمه ورحمته ما يدلهم على مراضيه ليجعلوه دستور حياتهم الذي عليه تقام، وبه تستقر، فلا يحق لأحد أن يتجاوزه أو يقدم رأيه عليه، قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ﴾ (المائدة)

وهو نظام ينطلق من وجود الخليفة الصالح الحفيظ العليم الذي يكون قدوة لرعيته في تطبيقها لأحكام ربها، قال تعالى :﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)

وهو نظان ينطلق من وجود رعية حكيمة واعية تطيع أميرها إن أطاع الله وتعينه على ذلك .. وتخالفه إن عصى الله وتردعه عن ذلك .. فهي تتخذه إماما إن صلى بها كما أمر الله .. وهي لا ترضى به إماما إن خالف ما وصف لها من صلاة.

وهو نظام ينطلق من وجود برامج تنظيمية تيسر تحقيق العدالة التي أمر الله بها، وجعل الهدف الأكبر لسياسة العباد.

قال رجل منا: ألا ترى أن ما ذكرته مجرد مبادئ عامة في السياسة .. أما السياسة في حقيقتها فهي أعظم من ذلك، وأشد تعقيدا[3].

ابتسم الحسين، وقال: لقد خلق الله الحياة بسيطة .. فلا يصح أن نعقدها.

قال الرجل: ولكن المعقد يبقى معقدا .. ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يجعله بسيطا .. وإلا حوله عن أصله الذي خلقه الله عليه.

قال الحسين: لقد خلق الله كل شيء على الفطرة .. والفطرة ليس فيها ما تذكره من التعقيدات ..

التعقيد يأتي من الذين يريدون أن يتلاعبوا بالحقائق .. ليغشوا الرعية ويسرقوها.

لقد ردد جميع أحفاد الطغاة ما تذكره ليقولوا للرعية المسكينة: الأمر أعقد من أن تفهميه .. فلذلك ليس عليك إلا أن تطيعي.

قال الرجل: أنا لم أستند للطغاة في قولي هذا .. لقد استندت إلى علماء كبار .. علماء يرتدون من العمائم ما لا تستطيع أنت ولا أحد في الدينا أن يرتدي مثلها .. لقد وفقني الله فدرست على يد شيخ منهم .. هو من كبار شيوخ الأزهر .. كان اسمه (علي عبد الرازق) .. لقد كتب كتابا في ذلك الحين لم يؤلف مثله من قبل ومن بعد .. سماه (الإسلام وأصول الحكم ) ..

أذكر أنه كتب كتابه هذا سنة ( 1925 م ) في تلك السنين التي ألغي فيها نظام الخلافة في تركيا .. وكان كتابه ذلك من أعظم هداياه لهم.

قال: أعرف ذلك الرجل .. لقد كان رجلا صادقا .. ولكنه كان مسكينا .. زار ذات مرة تلك البلاد التي تغرب منها الشمس، فرأى ما فيها من بهرج  .. فعمي عن البهرج الذي فيها عن الحيات التي تسكنها وتوجهها[4].

ومع ذلك .. فقد كان له ناصحون كثيرون[5] .. ولعله انتصح لهم.

قال الرجل: لم يكن ذلك الرجل وحده .. لقد قرأت في بعض المصادر المهمة أن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي .. ولذلك ليس على أي طرف من الأطراف أن يفرض قناعته على غيره.

ابتسم الحسين، وقال: أعلم أن لك تأثرا بالمستشرقين .. فأجبني عما أسألك عنه.

أرأيت لو أن شخصا قال لك: إن في المسيحية نظريتين في الألوهية: إحداهما تقول (الآب والابن وروح القدس)، والثانية تقول ( لا إله إلا الله) .. فهل تصدق هذا؟

قال: حسب معلوماتي .. فإن المسيحيين متفقون في الآب والابن ورح القدس .. ويختلفون في طبيعة المسيح .. ويختلفون في ..

قال الحسين: دعني من اختلافهم .. أسألك عن اتفاقهم في كلمة  (الآب والابن وروح القدس)،

قال: هم متفقون فيها.

قال الحسين: وآريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 ـ 336 م) لقد كان مخالفا لهذا .. وقد كان له ألوف الأتباع ممن عرفوا بالآريوسيين ... وقد بقي مذهبهم التوحيدي حيا لفترات زمنية طويلة ...

قال: هم مع ذلك محدود .. وقد أكلهم الدهر .. ولا يصح اعتبار مذهبهم خرقا للمسيحية.

قال الحسين: وما تقول في يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت، الذي نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، و كان من أتباع لوسيان الأنطاكي، وقد كان من أصدقاء آريوس.

قال: أنت تتحدث عن تواريخ بائدة لا ندري صحة ما نقل منها، فكيف تريد أن تخرق بها الإجماع المسيحي[6]؟

قال الحسين: وكيف تريد أن تخرق أنت برجل واحد وقف الكل ضده الإجماع الإسلامي بوجود نظام سياسي.

قال رجل منا: دعنا من هذا .. النظريات لا تثبت هكذا .. النظريات تثبت بأدلتها .. وبالحقائق التي تنطوي عليها..

أنت تقول: إن هناك نظاما سياسيا في الإسلام .. ونحن لا نصدقك .. ولا نكذبك .. ولكنا نسألك عن الأسس التي يقوم عليها هذا النظام .. فإن كانت هذه الأسس صحيحة قويمة لها ما يدل عليها من النصوص أو من الواقع سلمنا لك بها .. وإلا فلن يجدي إجماع الملايين على وجود شيء لم نره بأعيننا أو لم نلمسه بأدينا.

قال الحسين: يقوم النظام السياسي في الإسلام على أربعة أركان كبرى .. هي: الدستور، والإمام، والتنظيمات التي يختارها الإمام، والرعية التي تحدد موقفها من الإمام.

سأذكرها لكم باختصار .. أما تفاصيلها، فتجدونها في المطولات التي كتبها فقهاء المسلمين في الأزمان الطويلة.

الدستور:

قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.

قال: أرأيتم الآلات الكثيرة التي يتزاحم الناس عليها ابتغاء ما فيها من رفاه.

قلنا: ما بها؟

قال: ألستم تجدون معها من الدفاتر ما يوضح غرضها، ووجوه استعمالها، وأساليبه .. وكيفية تصحيح ما يقع لها من أعطاب .. وكيفية تجنب تلك الأعطاب قبل حصولها؟

قلنا: أجل .. وذلك من المحاسن لا من المساوئ.

قال: أرأيتم لو أن مؤسسة ما اخترعت جهازا معقدا غاية التعقيد .. وله من الاستعمالات ما لا يمكن حصره .. وكان فيه في نفس الوقت من الاستعداد للعطب ما يجعله يتأثر لأبسط المؤثرات .. ؟

قلنا: إن مثل هذا الجهاز قد لا يحتاج دفترا فقط .. إنه يحتاج فوق ذلك إلى تدريب خاص لمن يمتلكه.

قال: من يقوم بذلك التدريب .. ومن يعين عليه؟

قلنا: الجهة المصنعة هي الجهة المسؤولة عن ذلك.

قال: ولو قصرت الجهة؟

قلنا: تقصيرها لا يغتفر .. بل تكون إساءتها بالتقصير في هذا ناسخة لمحاسنها في صناعته.

قال: فهكذا الأمر مع صنعة الله .. الإنسان .. بنيان الله الفريد العجيب .. إنه آلة معقدة .. بل هو أعقد الآلات.. ولو جمعنا جميع عقول آلات الدنيا ..  فلن تعدل عقل مجنون من مجانين بني آدم ..

قلنا: نسلم لك بهذا .. فما تريد منه؟

قال: هل ترون الله الرحمن الرحيم الذي خلق هذه الآلة العجيبة .. وأمدها بكل ما تحتاجه .. البسيط والمعقد .. يمكن أن يقصر في هذا، في الوقت الذي لا تقصر فيه أبسط المؤسسات وأحقرها؟

سكتنا، فقال: ولهذا .. فنحن المسلمين نعتقد أن الله تعالى برحمته أرسل إلى البشرية .. في كل فترة من فتراتها .. وفي كل أمة من أممها ما يدلها على الطريق الصحيح الذي تعبد به ربها، وتمارس به حياتها:

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾ (البقرة)

وقال تعالى عن تقصير بني إسرائيل ـ باعتبارهم نموذجا لرسالة من رسالات الله ـ فيما أنزل إليهم من كتاب:﴿  ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾ (آل عمران)

وقال يصفهم :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)﴾ (المائدة)

وعلى هذا النهج والسنة الإلهية أنزل القرآن الكريم ليؤدي الوظيفة التي أدتها سائر الدساتير الإلهية، قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)﴾ (المائدة)

وقد سمى الله تعالى كل خلاف للمنهج الذي اختاره لعباده جاهلية، فقال :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾ (المائدة)

ضحك أحدنا بصوت عال، وقال: هل ترى أن الله ينزل من علياء عرشه .. ليحكم هذه الذرات التائهة المسماة (بشرية) ؟

ابتسم الحسين، وقال: أليس الله هو الذي خلق النمل والنحل والبعوض ووحيدات الخلية، وأمدها بالفطرة السليمة التي تتيح لها أن تحيا الحياة السليمة؟

قد لا تقول بعض الديانات المحرفة بهذا .. أما تصورنا نحن المسلمين، فيقوم على هذا، فالله هو القيوم الذي يقوم به كل شيء من الخلق والأمر .. قال الله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)

لقد أخبرنا ربنا أن حركات النحل التي تتحركها لتصنع ذلك الشفاء الرباني العجيب لا تتحركها إلا انطلاقا من الوحي الإلهي، قال تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)﴾ (النحل)

فإذا كان النحل البسيط يحتاج إلى الله في حركاته .. فكيف نستغني نحن عنه؟

قال رجل منا قد يكون مسيحيا، أو له علاقة بالمسيحية: لقد عرفت الله، وعرفت أنه أرفع من أن ينزل إلى عرش قيصر ليحكم بدل قيصر .. فلذلك قال لنا الكلمة: ( دعوا ما لقيصر لقصير، وما لله لله)

قال الحسين: أما لقيصر لله، أم ليس لله؟

قال الرجل: ما تقصد؟

قال: أليس البشر الذين يحكمهم قيصر عباد لله .. خلقهم الله وصورهم ووهبهم من أفضالهم ما وهبهم؟

قال الرجل: صحيح ما تقول.

قال: فهم لله .. وليسوا لقيصر.

قال الرجل: ولكن قيصر هو الذي يحكمهم.

قال: أرأيت لو أن رجلا سطا على بيتك .. وجلسك على عرشك .. وراح يأمرك وينهاك أكنت تعتقد أن طاعته واجبة عليك لا مناص لك منها؟

قال الرجل: لا .. طاعتي له جريمة .. فكيف أرضى لمن سطا علي أن يتملكني.

قال: فكذلك قيصر .. وكذلك كل القياصرة .. لقد خلقنا الله أحرارا، فرحنا نبيع حريتنا للمستبدين ليحرقونا بنيرانهم .. ثم ننسب ذلك كله لله.

قلنا: فما موقف الإسلا من هذا؟

قال[7]: الإسلام ـ انطلاقا من عقيدته في الله[8] ـ يرى الحياة وحدة لا تتجزأ .. ويرى الإنسان كيانا واحدا لا ينفصم .. ويرى أن الله هو رب الحياة كلها، ورب الإنسان كله، فلا يقبل قيصر شريكا لله، فلله ما في السموات وما في الأرض، ومن في السموات ومن في الأرض، وقيصر وما لقيصر، كله لله! فلا يجوز أن يستولي على جزء من الحياة، ويوجهها بعيدا عن هدى الله.

إن الإسلام يأبى إلا أن يوجه الحياة كلها بأحكامه ووصاياه، وأن يصبغها بصبغته، وهي صبغة الله :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ (البقرة: من الآية138) ، ويضفي عليها من روحه الصافية، وهي روح ربانية الغاية، أخلاقية المنزع، إنسانية المضمون.

ولا يقبل الإسلام إلا أن يصحب الإنسان ـ بتوجيهه وتشريعه ـ في رحلة الحياة منذ أن يولد، وإلى أن يموت، بل قبل أن يولد، وبعد أن يموت.

ولا يرضى الإسلام أن يكون في الحياة فضلة لا عمدة، وأن يكون له منها الهامش لا الصلب، وأن يكون لغيره القيادة، وعليه الطاعة والاتباع!

إن طبيعة الإسلام أن يكون قائدا لا مقودا، وسيدا لا مسودا، لأنه كلمة الله، وكلمة الله هي العليا، ولهذا فهو يعلو ولا يعلى.

التفت إلى الرجل، وقال: إن القياصرة المستبدين وأعوانهم من المفكرين يريدون من الإسلام أن يكون تابعا لهم، يأتمر بأمرهم، وينتهي بنهيهم، لا أن يأخذ موقعه الطبيعي والمنطقي والتاريخي، آمرا ناهيا، حاكما هاديا.

إنهم قد يباركونه إذا بقي محصورا في الموالد والمآتم .. في دنيا الدراويش والمجاذيب .. في عالم الخرافة والأساطير .. أما أن يتحرك ويحرك، ويوجه الشباب، ويقود الجماهير، ويفجر الطاقات، ويضيء العقول، ويلهب المشاعر، ويصنع الأبطال، ويربي الرجال، ويضبط مسيرة المجتمع بالحق، ويقيم بين الناس الموازين القسط، ويوجه التشريع والثقافة والتربية والإعلام، ويعلم الناس أن يدعوا إلى الخير، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ويقاوموا الانحراف والفساد، فهذا ما لا يرضون عنه بحال.

إنهم يريدون من الإسلام أن يقنع بركن أو زاوية له في بعض جوانب الحياة، لا يتجاوزها ولا يتعداها، ويتصورون بعد هذا أن ذلك تفضل منهم عليه، لأنهم ـ باستبدادهم وجبروتهم ـ يتصورون أن الأصل أن تكون الحياة كلها لهم بلا مزاحم أو شريك!

ولهذا .. فإن على الإسلام ـ حسب تصورهم ـ أن يقنع بالحديث الديني في الإذاعة أو في التلفاز .. وأن يقنع بالصفحة الدينية في الصحيفة يوم الجمعة.. وأن يقنع بحصة التربية الدينية في برامج التعليم العام.. وأن يقنع بقانون الأحوال الشخصية في قوانين الدولة..وأن يقنع بالمسجد في مؤسسات المجتمع.. وأن يقنع بوزارة الأوقاف في أجهزة الحكومة.

هم يتصورون ـ باستبدادهم وجبروتهم ـ أن عليه أن يقنع بذلك، ولا يمد عينيه إلى ما هو أكثر من ذلك، بل عليه أن يزجى من الشكر أجزله للعلمانية، التي أتاحت له أن يطل برأسه من هذه النوافذ، أو تلك الزوايا!

قال رجل منا: فالإسلام يصطدم بسبب هذا بالعلمانية إذن؟

قال الحسين: إن أرادت العلمانية النهوض بأوطاننا، والعمل بأقصى طاقاتنا لتنميتها تنمية شاملة، واستخدام أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا في العالم المعاصر، والاستفادة من كل جديد نافع، وكل قديم صالح، والوقوف في وجه الجمود والتحجر في العلم، والفكر، والأدب، والصناعة، وتجديد الحياة، مادية ومعنوية، بكل ما يرقى بها وينميها ويطورها.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

وإن آمنت العلمانية بضرورة الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن حاجة الأمة إلى زكاة الأنفس، وصلاح الضمائر، واستقامة الأخلاق حاجة أساسية، كحاجتها إلى الغذاء اليومي .. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

وإن شعرت العلمانية بالاعتزاز بالإسلام، باعتباره دين الأغلبية في أوطاننا، واحترمت أهل سائر الأديان معتقدة أن الإسلام للمواطنين منهم ثقافة وحضارة، وإن لم يكن دينا وعقيدة.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

وإن دعت العلمانية إلى إقامة نظام سياسي يحقق الشورى، التي أقام عليها الإسلام قاعدة الحكومة الإسلامية، وعلى إقرار كل الضمانات، التي هيأتها الديمقراطية الحديثة للمحافظة على حق الشعوب في اختبار حكامها ومراقبتهم ومحاسبتهم، وتغييرهم إن أساءوا، من دساتير مكتوبة مفصلة، وانتخابات حرة نزيهة، وصحافة لا تستطيع الحكومة إغلاقها، ومعارضة قادرة على أن تنصح وتنقد، بلا خوف من الحاكم وأعوانه.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

وإن عملت العلمانية على إقامة نظام اقتصادي يحقق زيادة الإنتاج، وعدالة التوزيع، وترشيد الاستهلاك، وسلامة التداول، وحماية الضعفاء من الأقوياء، وحقوق الفقراء لدى الأغنياء .. ودعت إلى تكافل اجتماعي يجعل الأمة كالبنيان المرصوص.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

إن أصرت العلمانية على ضرورة توفير الأمن لكل إنسان، بحيث لا يخاف على نفسه أو أهله وماله، أو أي حرمة من حرماته، وتوفير الحرية له، دينية أو سياسية أو فكرية أو مدنية، بما لا يهدم القيم السائدة، والأصول العامة المتفق عليها في مجتمعنا.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

وإن شعرت العلمانية بضرورة تحرير أوطاننا من كل تبعية أجنبية، غربية كانت أم شرقية، عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو ثقافية.. فالإسلام يتفق معها في ذلك أتم الاتفاق.

إن دعت العلمانية إلى رفض (الدولة الدينية) بالمفهوم، الذي عرفه الغرب في العصور الوسطى .. الدولة التي تعادي العلم باسم الدين، وتقف مع الطغيان ضد الحرية، ومع الملوك ضد الشعوب، وتزعم أنها تمثل في الأرض سلطان الله في السماء .. فالإسلام يتفق معها في كل ذلك أتم الاتفاق.

قلنا: نراك ذكرت وجوه الاتفاق .. فما وجوه الاختلاف؟

قال الحسين: أربعة وجوه .. هي أبرز نقاظ الاختلاف بين دستور الإسلام ودستور العلمانية.

قلنا: فما أولها؟

قال: أول اختلاف بين دستور الإسلام ودستور العلمانية هو العقيدة.

قال رجل منا: إن ما تقوله ينطلق من نظرة خاطئة .. فليس كل العلمانيين ملاحدة[9] .. والعلمانية  ـ في عمومها ـ لا تجحد الجانب العقدي في الإسلام، ولا تنكر على الناس أن يؤمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر، انطلاقا من مبدأ مسلم به عندها، وهو تقرير الحرية الدينية لكل إنسان، فهذا حق من حقوقه، أقرته المواثيق الدولية، ومضت عليه الدساتير الحديثة.

قال الحسين: إن شأن العقيدة في الإسلام أخطر من أن يكون مجرد شيء مسموح به، وليس محظورا كالمخدرات والسموم وغيرها من الممنوعات.

إن الإسلام يريد أن تكون عقيدته روح الحياة، وجوهر الوجود، وملهم أبناء المجتمع، وأن تكون أساس التكوين النفسي والفكري لأفراد الأمة.

إنه يريد أن تكون عقيدته محور التربية والثقافة، والفن والأعلام، والتشريع والتقاليد في المجتمع كله.

إنه يغرس في نفس الطفل، منذ نعومة أظفاره، عقيدة التوحيد، التي تحرر الإنسان من العبودية لكل ما سوى الله، من العبودية للطبيعة، والعبودية للحيوان، والعبودية للجن، والعبودية للبشر، والعبودية للحجر، والعبودية لهوى النفس، والعبودية لأي طاغوت عبده الناس من دون الله. وإفراد الله تعالى بالعبادة له، والاستعانة به، وحده لا شريك له، كما تعلم ذلك سورة الفاتحة، التي يقرأها المسلم في كل صلاة :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ (الفاتحة:5)

بل إن المسلم منذ يولد له طفل، ذكرا أو أنثى، مطالب أن يؤذن في أذنه اليمنى، أي يسمعه كلمة التكبير (الله أكبر.. الله أكبر)، وكلمة التوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وكلمة الرسالة: (وأشهد أن محمدا رسول الله)، وإن لم يكن المولود يعي ذلك، ولكن لذلك إيحاؤه ودلالته في المستقبل، حين يعلم أن أول كلمة طرقت سمعه، هي كلمة التوحيد.

كما يعلم أن آخر كلمة يسمعها المسلم، وهو على فراش الموت هي كلمة التوحيد أيضا.

فهو يستقبل الحياة بالتوحيد، ويودع الحياة بالتوحيد، وهو ما بين الاستقبال والوداع يعيش لرسالة التوحيد، ملتزما بها، وداعيا إليها.

إن التوحيد ـ الذي هو جوهر الإسلام ـ ليس مجرد كلمة تقال، أو شهادة تعلن، إنه اتجاه فكري، ونفسي وخلقي، وعملي، يفرض على المسلم: ألا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليا، ولا يبتغي غير الله حكما.

 

وهو ـ بهذا ـ أساس الحرية الحقيقية، إذ لا حرية لمجتمع اتخذ بعضه بعضا أربابا من دون الله، سواء كان هؤلاء الأرباب من رجال الملك، مثل فرعون، الذي قال للناس :﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ (النازعـات: من الآية24))، أم من رجال الدين، الذين حرموا على الناس ما شاءوا، وحللوا لهم ما شاءوا، دون إذن من الله تعالى. كما قال القرآن عن أهل الكتاب :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (التوبة:31)

لقد روى في تفسيرها عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : يا رسول الله ماعبدوهم.. فقال رسول الله r : (بلى! إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال .. فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم)[10]

وما قاله رسول الله r عن رجال الدين يصدق على رجال الدنيا الذين تسمونهم (العلمانيين) .. وهم في الحقيقة لا علاقة لهم بالعلم .. ولا بالعالم[11] .. فسواء أعلن هؤلاء المؤلهون هذه الربوبية للبشر بألسنتهم وأقوالهم، أم أعلنوها بممارساتهم وأعمالهم، فالنتيجة واحدة، وهو استعباد البشر للبشر.

ولهذا كانت رسائل النبي r إلى قيصر وغيره من ملوك الأرض، تختم بهذه الآية الكريمة :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ (آل عمران: من الآية64)

وعرف ذلك المسلمون الأوائل، فقال ربعي بن عامر ـ رضي الله عنه ـ لرستم قائد الفرس: (إن الله ابتعثنا، لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. )

والتوحيد ـ كذلك ـ أساس الإخاء الحقيقي بين البشر، فالأرباب لا يؤاخون العبيد، إنما يتآخى العباد أمام رب العباد.. وقد كان من دعاء النبي r دبر كل صلاة : (اللهم ربنا، ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الله، وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة)[12]

وبهذا وضع الأخوة في المرتبة التالية للشهادتين، لأنها ثمرة لهما.

والتوحيد ـ كذلك ـ أساس المساواة الحقيقية بين البشر، فإن المتألهين في الأرض، لا يتساوون بمن يؤلهونهم، وينحنون لهم خاشعين.. أما عقيدة التوحيد، فتسوي بين الناس جميعا، باعتبار عبوديتهم لرب واحد، إلى جوار بنوتهم لأب واحد، وقد أعلن النبي r ذلك في حجة الوداع، على رؤوس الأشهاد، وقال: (أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود، إلا بالتقوى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات: من الآية13)[13] .. حتى النبي r نفسه، لم يرفع نفسه عن مرتبة العبودية قيد شعرة، فهو عبد الله ورسوله ليس إلها، ولا نصف إله، ولا ثلث إله، بل خاطبه الله تعالى بقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ (الكهف: من الآية110) .. بل إنه حذر أمته من الغلو، الذي سقط في هوته أصحاب الأديان السابقة، فقال: )لا تطروني، كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله)[14]

هذه العقيدة ـ عقيدة التوحيد ـ وما تفرع عنها من الإيمان بتنزيه الله تعالى عن كل نقص، ووصفه بكل كمال، ومن الإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، يجب أن تكن الملهم الأول، والموجه الأول، للحياة الإسلامية.

فالمجتمع المسلم، مجتمع عقيدة وفكر، وليس مجتمعا سائبا، وعقيدته وفكرته هي الإسلام، فيجب أن تصبغ الحياة به:﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ (البقرة:138)

إن وضع العقيدة الإسلامية في المجتمع المسلم، يجب ألا تكون دون وضع العقيدة الماركسية في المجتمع الشيوعي، فهو يراها أساس فلسفته الثقافية، والاجتماعية، والسياسية.

ولا يقبل في مجتمع مسلم، أن يكون الإسلام ـ وهو في قلب داره وعز سلطانه ـ مجرد شيء مأذون فيه، لا غبار على من آمن به، كما لا حرج على من تركه. فالدين لله والوطن للجميع، كما قالوا!

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط ما يختلف فيه الإسلام مع العلمانية في هذا المجال.. إن الإسلام يلغي كل رابطة مهما يكن قربها وقوتها، إذا تعارضت مع رابطة الإيمان، حتى رابطة الأبوة والبنوة والأخوة، يقول تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة:23)، وقال :﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (المجادلة:22)

ويجعل القرآن القدوة للمؤمنين في هذا بإبراهيم u الذي برئ من أبيه، حين تبين له أنه عدو الله تعالى، ومثله موقفه هو والذين آمنوا معه، من قومهم حين كفروا بالله وحادوه .. قال تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ (الممتحنة:4)

ولهذا، فإن ولاء المؤمن لأي شيء ينطلق من ولائه لله ورسوله وجماعة المؤمنين .. قال تعالى :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ (المائدة:55)

ولهذا .. فإن كل المسلمين بهذا الاعتبار مهما نأت أوطانهم إخوة لا تفرق بينهم الحدود ولا المسافات ولا الأقطار ولا الدول ولا الاتجاهات ولا المذاهب .. قال تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ (الحجرات: من الآية10)

وهو يتناقض في هذا مع العلمانية التي لا تقيم للرابطة الدينية أي وزن، بل تقدم عليها رابطة الدم والعنصر، ورابطة التراب والطين، وأي رابطة أخرى.

سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط ما تختلف فيه العلمانية مع الإسلام في هذه المجال .. هناك شيء آخر .. وهو خطير جدا .. ومهم جدا ..

إن أولى أولويات الإيمان بالله التسليم لهم، والطاعة المطلقة له .. ولرسوله r الذي يمثل بأقواله وأفعاله ما أراده الله من عباده .. قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ﴾ (الأحزاب:36)

وقال :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (النور:51)

وقال :﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ (النساء:65)

ولهذا، فإن العقيدة الإسلامية تفرض على المسلم أن يكيف حياته، وفقا للأحكام التي تجسدها، وأن يتجلى أثرها في سلوكه وعلاقاته كلها، سواء كان حاكما أم محكوما.

وهذا يخالف العلمانية التي تريد من العقيدة أن تظل حبيسة الضمير، لا تخوض معترك الحياة، ولا تؤثر في أهدافها ومناهجها، فإن سمح لها بالظهور، فليكن بين جدران المسجد، لا تخرج عنها، على أن يكون المسجد نفسه تحت سلطانها.

وبهذا نرى المسلم الذي يعيش تحت سلطان العلمانية، يعاني من التناقض بين العقيدة، التي يؤمن بها، والواقع الذي يفرض عليه، فعقيدته تشرق، وواقعه يغرب .. عقيدته تحرم، والعلمانية تبيح .. عقيدته تلزم، والعمانية تعارض .. وهكذا.

قلنا: عرفنا نقطة الاختلاف الأولى .. فما نقطة الاختلاف الثانية؟

قال: العبادة .. العبادة هي النقطة الثانية التي يختلف فيها الإسلام مع العلمانية.

قال رجل منا: كيف تقول ذلك؟ .. لقد صاحبت العلمانيين، وهم لا يقولون ذلك .. فهم يرون انطلاقا من فهمهم للحرية الدينية أن على الإنسان يعبد كيف يشاء ومن يشاء أو أن يتخلى عن العبادة أصلا.

قال الحسين: هي تقول ذلك لأن العبادة في تصورها شيء هامشي لا قيمة له .. وهي لذلك لا تبالي به ما دام لا يصادم مصالحها ..

وهي لذلك لا تجعل للعبادة أهميتها، باعتبارها غاية الحياة، والمهمة الأولى للإنسان، كما قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ (الذريات:56)

وهي لذلك لا تقيم نظامها التربوي والثقافي والإعلامي على غرس هذا المعنى، وتثبيته، وتعهده، حتى يؤتي أكله.

وهي لذلك لا تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية تنظيما، ييسر على المسلم أداء عبادته، بغير عوائق، ولا ضغوط، بحيث لا تتعارض أنظمة العمل والدراسة وغيرها، ومواقيتها مع مواقيت العبادة المفروضة.

وهي لذلك لا تجعل للالتزام بفرائض العبادات، أو إهمالها، مكانا في تقديم الناس وتأخيرهم، وخصوصا عند الترشيح لمناصب القيادة، وجلائل الأعمال، على أساس مقولة خاطئة: هي التفرقة بين السلوك الشخصي والسلوك الاجتماعي للإنسان، وهو ما لا يقول به الإسلام.

وهي لذلك لا لا ترى المجاهرة بترك العبادات، التي هي أركان الإسلام العملية، شيئا يوجب المحاسبة أو المؤاخذة، بله العقوبة، التي أجمع عليها فقهاء الإسلام، فيمن يصر على ترك الصلاة أو منع الزكاة، أو إفطار رمضان، حتى أنهم اتفقوا على تكفير من ترك شيئا منها، استخفافا بحرمتها، أو إنكارا لفرضيتها، لإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وهي لذلك لا لا تعتبر الزكاة ـ التي هي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام ـ جزءا من نظامها المالي والاقتصادي والاجتماعي، تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء بوساطة العاملين عليها، بل تعتبرها عبادة شخصية، من شاء أداها، وعليه عبء الضرائب الوضعية كاملا، ومن شاء أعرض عنها، ولا حرج عليه، ولا ملامة!

قلنا: عرفنا هذا.. فما نقطة الاختلاف الثالثة؟

قال: الأخلاق .. الأخلاق هي النقطة الثالثة التي يختلف فيها الإسلام مع العلمانية.

قال رجل منا: كيف تعتبر ذلك نقطة اختلاف .. ولم أر في العلمانية إلا تشجيعها للأخلاق .. بل اعتبارها قوام المجتمعات، وعماد النهضات، وأن الإنسان هو محور التقدم، وصانع التنمية، ومنشئ الحضارة.

قال الحسين: ومع ذلك، فهي تختلف مع الإسلام في تحديد أخلاق كثيرة .. فالإسلام له رؤيته فيها .. وللعلمانية رؤيتها.

قلنا: اضرب لنا مثالا على ذلك.

قال: لعل أهم مثال على ذلك ما وضعه الإسلام من أخلاق تنظم العلاقة بين الجنسين[15] .. فالأخلاق الإسلامية تتميز في هذا عن أخلاقيات الحضارة الغربية، التي يتبع سننها العلمانيون، شبرا بشبر، وذراعا بذراع.

فالإسلام ـ وإن كان لا يصادر هذه الغريزة ولا يعطلها، أو يعتبرها في ذاتها قذارة ورجسا ـ يصر على تصريفها في نطاق الزواج المشروع، الذي به يجد كل من الزوجين السكينة والمودة والرحمة، وبهذا تتكون الأسرة، التي هي نواة المجتمع الراقي.

ويحرم الإسلام أي اتصال جنسي، خارج هذه الدائرة، ويعتبره من الزنى أو الشذوذ، الذي يجلب سخط الله تعالى، ويشيع الانحلال والفساد في المجتمع، قال تعالى :﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾ (الاسراء:32)

كما يحرم الإسلام كل الوسائل، التي تيسر وقوع الفاحشة، أو تغرس بها، أو تجرئ عليها، ولهذا يربي المؤمنين والمؤمنات على العفاف، والإحصان، وغض البصر، كما يوجب على المسلمة التزام الحشمة، والوقار في الزي والكلام والمشي والحركة، قال تعالى :﴿ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(الأحزاب: من الآية32)

والإسلام يغلق ـ بقوة ـ الأبواب، التي تهب منها رياح الفتنة، من الأغنية الخليعة، والصورة المثيرة، والقصة المكشوفة، والأزياء المغرية، ويقاوم كل ألوان التبرج والإثارة، والخلوة غير المشروعة، ويجتهد في حل مشكلات الزواج، وإزاحة العوائق من طريقه، حتى يستغني الناس بالحلال عن الحرام.

وهذه الأحكام وغيرها لا ترحب بها العلمانية المستغربة، ولا ترى أن تقيد المجتمع، الذي تحكمه بقيودها .. بل هي ترى مقابل ذلك أن تدع الحبل على الغارب للجنسين، ليتصرفا كما يحلو لهما، بناء على أن ذلك يدخل في نطاق الحرية الشخصية.

الخليفة:

قلنا: حدثتنا عن الركن الأول من الأركان التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي .. فحدثنا عن الركن الثاني.

قال: ألا ترون السماء .. وأقمارها وكواكبها ونجومها ومجراتها؟

قلنا: بلى .. وما علاقتها بهذا؟

قال: ألا ترون كيف نظم الله الكون .. فالقمر تابع للكوكب .. والكوكب تابع للنجم .. والنجم سائر مع المجرة يتحرك وفق حركاتها .. فلا يشذ عنها ولا ينحرف.

قلنا: بلى .. فما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال: إن الحركات المنتظمة تستدعي نقطة مركزية أو محورا .. ولا يمكن أن تنظم الحركات من دون ذلك.

قلنا: أتقصد أن الركن الثاني هو تلك النقطة المركزية؟

قال: أجل .. فلا يكفي الدستور وحده لأكثر الناس .. فلذلك هم يحتاجون إلى من ينظم حياتهم وحركاتهم.

قال رجل منا: ذلك متفق عليه عند البشر جميعا .. وقد قال الشاعر قديما:

لا يصلح الناس الفوضى لا سراة لهم
 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا
  

والبيت لا يبتني إلا على عمد
 

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
  

فما ميزة النظام الإسلامي في هذا؟

قال: ميزة الإسلام في هذا أنه وضع القوانين التي تتيح لشخص ما أو لجماعة ما هذه الوظيفة الخطيرة التي تتوقف عليها حياة الناس.

قلنا: فما هذه الضوابط؟

قال: لقد ذكر القرآن الكريم ضابطين عظيمين لذلك، تندرج ضمنهما سائر الضوابط، وذلك في قوله تعالى على لسان يوسف u :﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)

لقد ذكر الله في هذه الآية الكريمة ضابطين عظيمين، أما أولهما، فالحفظ، وأما الثاني، فالعلم.

أما الحفظ، فيتمثل في جميع الأخلاق التي تجعل من وكلت إليه هذه المهمة لا يسعى لحظ نفسه .. بل يسعى لحفظ ما وكل به من شؤون الرعية ..

وأما العلم .. فيتمثل في جميع القدرات والخبرات التي تمكنه من أداء وظيفته .. فلا يمكن أن تؤدى وظيفة من وظائف الوجود بالجهل .. فالجاهل لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟

لقد فصل الفقهاء هاتين الصفتين، فذكروا من صفات الخليفة[16] الذي يقوم بهذه الوظيفة الخطيرة[17] الإخلاص الملهم للصواب، والمجبر للخطأ، والمحقق للثواب في كلا الأمرين، والمحقق في نفس الوقت للتجرد من الصراعات النفسية والمؤثرات العاطفية والمصلحة الشخصية.

وذكروا التوكل المعين على خوض التجربة قبل بدئها وعلى تحمل آثارها بعد تمامها.

وذكروا الذكاء المحقق للإحاطة بالقرار وآثاره واحتمالاته وبدائله؛ بدقة ذهنية واستشفاف مستقبلي يستوفي حق التفكير في القرار بأسرع وقت ممكن بحيث لا يصل صاحب التفكير إلى مرحلة الاستغراق النظري المضل والمحير.

وذكروا الخبرة المستخلصة من تجارب الماضي المشابهة للتجربة القائمة لتحقيق كل عناصر الصحة والصواب بأسهل الأساليب، وتحقيق أكبر العوامل المنبهة للتجربة إلى المزالق والثغرات التي دفع ثمنها أصحاب التجارب السابقة حتى لا يتضاعف الثمن وتتضاءل الحصيلة.

وذكروا العزم الذي يجعل صاحب القرار منطلقاً بقراره بأقصى الاطمئنان الشرعي والحركي والنفسي... اطمئناناً يملؤه ويتعداه منه إلى جميع المحيطين به، فيطمئنوا كما اطمأن اطمئناناً واثقاً، بغير غرور يعمي عن الحقيقة، وبغير تردد يضيع الهدف ويحير المشاركين له في الموقف.

وذكروا القوة الشخصية التي يأخذ بها فرصته الكاملة في اتخاذ قراره، ويتنبه بها إلى المحاولات الطبيعية المصاحبة لكل قرار جديد، والتي يحاول فيها أصحابها نقد أو رفض القرار من المحيطين بصاحب القرار عندما يكون حوله المخلص غير الذكي والذكي الفاقد للخبرة؛ حيث سيتمثل كل فقد لأي عنصر من عناصر الإخلاص والذكاء والخبرة في محاولة معاكسة لصاحب القرار...

وذكروا القوة الشخصية التى ينشئ بها واقعاً جديداً، ويدخل بها في مرحلة جديدة، ويحدث بها متغيرات جديدة بقرار واحد يتطلب رجلاً قوياً وزعيماً سياسياً.

وذكروا صدق الإيمان الذي يجعله يتعرف على المصالح بكل كيانه ومواهبه.

وذكروا الصبر الذى يتحمل به المناوأة من المختلفين معه داخل كيانه السياسي، والمتربصين به خارج كيانه، والضاغطين عليه من العقول غير الفاهمة، والحاقدين عليه من النفوس غير السوية.. الصبر الإيجابي الذي يحقق المطالب المرحلية بلا بطء الخائف، ولا تهور المتحمس.

وذكروا الألفة التي تعين علي الأطمئنان لقراره، وتخفف من وطأة الخطأ إذا حدث، وتعين علي تحمل المعاناة المترتبة علي الخطأ.

وذكروا الحب الذي يجعل الجميع يبذل كل ما في وسعه؛ لإنجاح قرار يحبون صاحبه، كما قال r : ( خير أمرائكم من تحبونهم )[18]

وذكروا الربانية التي تحمي الخليفة من أي تناقض بين الحق المطلق وإنسانيته.

وذكروا البصيرة التي تحميه من غيبة الغاية عن تصوره.

وذكروا العلم الذي يحمي الزعيم من الغفلة بالواقع وطبيعة الأمور.

بهذا وغيره كثير يمكن للخليفة أن يسوس الناس سياسة رشيدة.

ضحك بعض الحاضرين، وقال: فأين مثل هذا الرجل .. إنه كالدرة اليتيمة.

ابتسم الحسين، وقال: جل جناب الحق أن يخلي الأرض من أصحاب القدرات المختلفة.

قال الرجل: فما الذي يحول بينهم وبين الوصول إلى المناصب التي هم أهل لها؟

قال الحسين: أصحاب النفوس والأهواء هم الذين يحولون بينهم وبينها .. لقد ذكر الله ذلك فقال حاكيا عن بني إسرائيل وعنصريتهم التي حالت بينهم وبين قبول الحاكم الذي رضيه الله لهم .. قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)﴾ (البقرة)

ومع ذلك لم يقبلوا إلى أن رأوا المعجزة التي تدلهم على أنه الحاكم الذي رضيه الله لهم.

ولم يكن الأمر قاصرا على بني إسرائيل .. فأكثر الأمم واجهت أنبيائها الذين هم أشرف الناس وأقدر الناس على تحمل مثل هذه المسؤوليات بالتكذيب والاحتقار لسبب بسيط كهذا السبب الذي أورده القرشيون في رفضهم لمحمد r .. قال تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾ (الزخرف)

وقد رد الله عليهم هذا المنطق، فقال :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾ (الزخرف)

قال رجل من القوم يظهر أن له علاقة بالفقهاء : لقد نسيت أهم شرط من شروط الخليفة.

قال الحسين: وما هو؟

قال الرجل: النسب القرشي .. لابد أن يكون الخليفة قرشيا .. أبوه قرشي .. وجده قرشي .. وهكذا إلى أن يصل نسبه إلى جد قريش الأعلى ..

لقد وردت النصوص الكثيرة بهذا .. وعلى هذا نص جميع الفقهاء ..

لقد ورد في الحديث قوله r : (: ( الناس تبع لقريش في الخير والشر)[19] .. وقال r :( قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم)[20] .. وقال r : (يكون من بعدي اثنا عشر أمير كلهم من قريش)[21].. وقال:( الائمة من قريش أبرارها امراء أبرارها ، وفجارها أمراء فجارها ، وإن أمرت عليكم قريش حبشيا مجدعا فاسمعوا له وأطيعوا ما لم يخير أحدكم بين إسلامه وضرب عنقه فإن خير بين إسلامه وضرب عنقه فليتقدم عنه)[22]

قال الحسين: صدق رسول الله r .. وليس الشأن فيما قال .. ولكن الشأن في أن نفهم ما قال.

قال الرجل: ما قال واضح .. ولا يحتاج إلى أي تعسف تأويل.

قال الحسين: اصبر علي .. وسأقرب لك معنى ما قال .. أجبني: هل قول رسول الله r هذا أمر مقصود لذاته، بحيث لا تصلح ولاية غير القرشي بحال من الأحوال؟

قال الرجل: نعم .. لعل رسول الله r قصد هذا.

قال الحسين: لا .. لم يقصده .. لقد أخبر الله تعالى أن الخلافة يمكن لا تكون في غير القرشيين .. بل يمكن أن تكون في غير العرب أصلا .. قال تعالى :﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ  ﴾ (صّ: من الآية26)

قال الرجل: ذاك شرع من قبلنا .. ولكل أمة شريعتها.

قال الحسين: وفي شريعتنا ـ أيضا ـ يمكن أن يكون الأمر كذلك .. ألم تسمع قوله r : (: ( إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)[23]، وقوله r:( اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)[24]، وقوله r: ( يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله)[25]؟

قال الرجل: يمكن أن يصح ذلك عن طريق الغلبة والاستيلاء .. فتصح خلافته بهذا الاعتبار.

قال الحسين: لم يذكر رسول الله r ذلك .. فكيف تزعم أنه أراد ذلك؟

قال الرجل: لأني لو لم أقل ذلك سأتعارض مع الأحاديث التي تخص هذا الأمر في القرشيين.

قال الحسين: لا .. يستحيل أن يتعارض كلام رسول الله r بعضه مع بعض.

قال الرجل: فكيف تحمل ما ورد في اختصاص هذا الأمر بالقرشيين؟

قال الحسين: لقد أخبر رسول الله r عن عصره في هذا .. فقد كان للعرب في ذلك الحين تبعية للقرشيين .. ومنهم من لم يتمكن منه الإسلام تمكنا يجعله يتخلى عن هذا النوع من العصبيات .. فلذلك ذكر لهم من باب المصلحة أن يكون الأمر في القرشيين.

قال الرجل: لكأني بك تتحدث عن العرب دون غيرهم .. مع أن الإسلام جاء للأمم جميعا.

قال الحسين: في ذلك الحين صارت السلطة للعرب .. وكانت قريش أقوى العرب .. فلذلك كان الحكم فيها .. لقد أخبر رسول الله r عن هذا عندما قال: ( كان هذا الأمر في حمير، فنزعه الله منهم وجعله في قريش وسيعود إليهم)[26]

 وهذا يدل على أن الأمر قد لا يبقى في قريش ..

بل ورد ما يدل على ذلك .. ففي الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا في بيت رجل من الأنصار، فجاء النبي r حتى وقف، فأخذ بعضادة الباب، فقال : ( الأئمة من قريش ، ولهم عليكم حق ، ولكم مثل ذلك ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)[27]، وفي رواية:( الائمة من قريش، ولهم عليكم حق ولكم مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا وإن استحكموا عدلوا، وإن عاهدوا وفوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)[28]

وفي حديث آخر قال r: ( أما بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله فإذا عصيتموة بعث عليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب)[29]

بل إني أفهم فوق ذلك من الحديث أمرا آخر له أهميته في سياسة الناس وفي شروط الخليفة..

قال الرجل: ما هو؟

قال الحسين: من خلال خبرتي في الناس عرفت أن كل شعب من الشعوب أو طائفة من الطوائف قد تمكن في بعض أحيانها من بعض الصفات .. فلذلك تصير وكأنها خلق فيها .. ومن هذا الباب قال r: ( الملك في قريش، والقضاء في الأنصار ، والأذان في الحبشة ، والأمانة في الأزد)[30]  .. فقد أخبر رسول الله r في هذ الحديث عن بعض المواهب التي وهبت للشعوب والقبائل المختلفة .. وذلك مرتبط بوقت دون وقت .. وبحال دون حال.

قال الرجل: لم أفهم ذلك .. اضرب لي مثالا يقرب لي ذلك.

قال الحسين: ألا ترى أن بعض الدول في عصرنا تشتهر بصناعة من الصناعات تصير مرجعا فيها .. فلذلك إن قلدت صناعة تلك الدولة .. لم نعتبر إلا الصناعة الأصلية .. ولم نبحث فيما نشتريه منها إلا عن الدولة المصنعة .. فاسم الدولة قد يدلنا على مدى براعة صناعتها.

قال الرجل: صدقت في هذا .. فقد فهمت من الحديث ما لم أكن أفهمه .. بل ما كان يعذنبي فهمه له .. فقد كان يتعارض هذا في ذهني مع ما ورد في النصوص من أن أمر وراثة الأرض لله فهو يولي من يشاء ويعزل من يشاء.

وقد رأيتنا في إصرارنا على هذا نشبه إصرار الإسرائيليين على بقاء النبوة في بني إسرائيل دون من سواهم من الأمم.

قام رجل منا، وقال: حدثتنا عن شروط الخليفة .. ولم تحدثنا عمن له سلطة توليته.

قال الحسين: ذلك ما سنتحدث عنه في الركن الثالث من أركان النظام السياسي في الإسلام.

الرعية:

قلنا: فما الركن الثالث من أركان النظام السياسي الإسلامي؟

قال: الرعية .. الرعية هم الذين يتشكل منهم نظام السياسة في الإسلام.

قلنا: وفي غير الإسلام .. فلا يمكن أن يكون هناك نظام من غير رعية.

قال: لا أقصد بالرعية الشعب المجرد عن حرية الرأي، وقوة الإرادة، ونفاذ العزيمة .. بل أقصد الشعب الممتلئ بالحرية والوعي والقدرة على أن تكون له إرادته الحرة التي يهابها الحاكم، ويحسب لها حسابها .. بل لا يمكن للحاكم أن يحكم الرعية من دونها.

قلنا: تقصد الانتخاب؟

قال: لا أقصد الانتخاب وحده .. بل أقصد كل ما يربط الرعية براعيها حتى عزله إن أرادت.

قلنا: أفي الإمكان ذلك؟

قال: أجل .. بل يجب على الرعية أن تعمل على عزل راعيها إن أساء ..

قلنا: نرى أن للرعية شأنا في النظام الإسلامي .. فما هو؟ .. وما منطلقاته؟

قال: للرعية في النظام السياسي الإسلام أربع مسؤوليات[31]: البيعة لمن توفرت فيه الأهلية .. والطاعة في المعروف.. والمعصية في المنكر .. وعزل من لم تتوفر فيه الأهلية.

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: تبدأ علاقة الرعية براعيها في النظام السياسي الإسلامي بالبيعة[32] .. فلا يمكن للحاكم أن يصير حاكما قبل أن يبايع.

لقد طبق رسول الله r ـ باعتباره أول حاكم للمسلمين ـ ذلك على نفسه .. فكان بين الحين والآخر يدعو إلى البيعة ويجددها .. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك .. قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح:10)، فَيَدُه سبحانه في الثّواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطّاعة.

هذه الآية الكريمة تتحدث عن بيعة الرّضوان بالحديبية، وقد أنزل اللّه تعالى فيمن بايعه فيها قوله تعالى :﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ (الفتح:18)

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: (كنّا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشّجرة وهي سمرة)، وقال: (بايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت)[33]

وقبل ذلك .. وفي بيعة العقبة الأولى بايع المسلمون الرّسول r على ما يسميه الفقهاء (بيعة النّساء)[34] قبل أن تفرض عليهم الحرب..  فعن عبادة بن الصّامت ـ رضي الله عنه ـ وكان شهد بدراً ، وهو أحد النّقباء ليلة العقبة ، أنّ رسول اللّه r قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئاً ، ولا تَسْرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفّى منكم فأجره على اللّه ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره اللّه ، فهو إلى اللّه ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)، فبايعناه على ذلك.

وقد بايعوه r بعد ذلك مرات على حسب الأحوال .. بل بايعه النساء .. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الممتحنة:12)

 قالت أمّ عطيّة ـ رضي الله عنها ـ تصف بيعة من بيعات للنساء له r : لمّا قدم رسول اللّه r المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثمّ أرسل إلينا عمر بن الخطّاب فقام على الباب ، فسلّم ، فرددن عليه السّلام ، فقال : أنا رسول رسول اللّه r إليكنّ : أن لا تشركن باللّه شيئاً فقلن : نعم. فمدّ يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثمّ قال : اللّهمّ اشهد[35] .

هذه نماذج عن بعض بيعات المؤمنين لرسول الله r .. وهي دليل على أن من سنة الحاكم الراشد أن يبادر كل حين طالبا بيعة رعيته على حسب الأحوال المختلفة.

قال رجل منا: ما الحاجة للبيعة كل مرة .. ألا يكفي الحاكم أن يبايع مرة واحدة؟

قال الحسين: لا يكفي الحاكم الراشد أن يبايع مرة واحدة .. فهو قد يحكم رعيته في ظرف معين .. ثم تجد ظروف أخرى، وقد يضع لها الحاكم من البرامج ما يتناسب معها .. ولذلك يحتاج أن يأخذ رأيهم كل حين حتى يقفوا مع ما يريد أو يخالفوه ..

قال الرجل: إذن ما أسرع أن يعزل هذا الحاكم في رعية لا تعرف إلا أهواءها.

قال الحسين: لا يستطيع الحاكم أن يحكم رعية لا تثق فيه ولا تتقبله وليس لها من العزم ما تستطيع به أن تنفذ ما يطلبه منها مما تقتضيه السياسة.

قال الرجل: ولكن اجتماع الرعية كل حين لمثل هذا لا يمكن ..

قال الحسين: لقد رتب النظام الإسلامي لهذا من يسمون بـ (أهل الحلّ والعقد) .. وهم أهل الشّوكة من العلماء والرّؤساء ووجوه النّاس الّذين يحصل بهم تمكن الإمام من ولايته[36].

وقد اشترط الفقهاء في هؤلاء أمورا .. منها العدالة الجامعة لشروطها الواجبة في الشّهادات من الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة.

ومنها العلم الّذي يوصل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة على الشّروط المعتبرة فيها.

ومنها الرّأي والحكمة المؤدّيان إلى اختيار من هو أصلح للإمامة.

ومنها أن يكون من ذوي الشّوكة الّذين يتّبعهم النّاس ، ويصدرون عن رأيهم ، ليحصل بهم مقصود الولاية.

ومنها الإخلاص والنّصيحة للمسلمين.

قال رجل من الحاضرين: لقد قرأت في كتاب فقهي في هذا الباب ذكر عدد من تنعقد بهم الإمامة من أهل الحلّ والعقد[37] .. فذكر بعضهم أنها لا تنعقد إلاّ بأكثريّة أهل الحلّ والعقد من كلّ بلدٍ ، ليكون الرّضى به عامّاً ، والتّسليم لإمامته إجماعاً .. في حين ذهب آخرون إلى أن أقلّ من تنعقد به منهم خمسة ، يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة .. وسكت آخرون عن ذكر العدد.. فكيف يمكن أن يطبق هذا مع هذا الخلاف الواقع.

قال الحسين: هذا ليس خلافا فقهيا .. للخلاف الفقهي أصوله وأدلته الشرعية التي تستند للمصادر الأصلية.

قال الرجل: فما تسمي هذا؟

قال الحسين: ما ذكرته هو أشبه شيء بالمقترحات .. هؤلاء يقترحون حلولا معينة ولا يفتون .. ومثل هذا كثير مما ورد في تلك الكتب .. فهو بهذا الباب ألصق.

قال الرجل: وقد قرأت في هذا الكتاب في ذكر كيفية البيعة: أن يقول كلّ من أهل الحلّ والعقد المبايعين لمن يبايعونه بالخلافة : قد بايعناك على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة.

قال الحسين: هذا مثل ذاك .. كلها أوصاف لهيئات ليس لها حق الإلزام .. فيمكن للأمة أن تختار في كل حين أسلوبها الخاص في المبايعة.

قلنا: عرفنا المسؤولية الأولى .. فما الثانية؟

قال: المسؤولية الثانية هي الطاعة في المعروف .. فالرعية التي بايعت الإمام ينبغي أن تخلص لبيعتها .. فتنفذ ما تقتضيه من طاعته ما دام يطيع الله .. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ (الفتح:10)

وأمر بالوفاء بالعقود[38]، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: من الآية1)

وأثنى الله على المؤمنين بصدق الوفاء ببيعاتهم وعهودهم، فقال :﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ (الأحزاب:23)

وقد ورد في السنة الحث على الوفاء بما تتطلبه البيعة، وورد فيها في نفس الوقت تهديد من نقض بيعته من غير موجب:

قال رسول الله r : (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)[39]

وقال : (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان)[40]

وقال في الحديث القدسي: (يقول الله - تعالى - ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره)[41]

وقال : ( من خلع يدا من طاعة الله لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)[42]

وقال : (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر)[43]

قلنا: عرفنا المسؤولية الثانية .. فما الثالثة؟

قال: المسؤولية الثالثة هي المعصية في المنكر.. فقد عرفنا أن الله هو الحاكم الأعلى للمسلمين .. وما الخلفاء إلا نواب .. ولا يصح أن يعصى الحاكم الأعلى بطاعة النائب الأدنى.

وقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على هذا .. منها ما روي عن علي t قال: بعث النبي r  سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي r أن تطيعوني قالوا: بلى قال: فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال: أوقدوا نارا فأوقدوها فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون فررنا إلى النبي r من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي r  فقال: ( لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف)[44] .. فهذا الأمير أمر أصحابه بما يجلب المضرة لهم ، وينفي مصالحهم، فأمرهم r بمعصيته في ذلك، بل أخبر أنهم لو أطاعوه فدخلوا النار ما خرجوا منها.

وقال r يذكر قاعدة ذلك:( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)[45]، وقال : ( لا طاعة لبشر في معصية الله)[46]

قلنا: عرفنا المسؤولية الثالثة.. فما الرابعة؟

قال: المسؤولية الرابعة هي عزل الوالي إن أساء ..

قاطعه الرجل الذي له علاقة بالفقهاء، وقال: كيف تقول ذلك .. وقد ورد في الحديث عن أبي هنيدة وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال : سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله r، فقال : يا نبي الله ، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ، ويمنعونا حقنا ، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه[47] ، ثم سأله ، فقال رسول الله r:( اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا ، وعليكم ما حملتم)[48]

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله r:( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها) قالوا : يا رسول الله ، كيف تأمر من أدرك منا ذلك ؟ قال:(تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم)[49]

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله r:(من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني)[50]

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال:( من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية) [51]

وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله r يقول:(من أهان السلطان أهانه الله)[52]

قال الحسين: صدق رسول الله r في كل ذلك .. وليس الشأن فيما قال، ولكن الشأن في أن نفهم ما قال.

قال الرجل: فما الفهم الصحيح الذي تراه لهذا؟

قال الحسين: لقد أمرنا رسول الله r أن نطيع الولاة .. لأنه لا يمكن أن تنتظم أمور حياتنا من غير ذلك ..

وهذه الطاعة قد يعترضها أحيانا ما يشوشها .. وهذا لا حرج فيه .. فالحاكم بشر .. وقد يخطئ وقد يصيب .. ولو أن كل حاكم أخطأ خطأ بسيطا عزل وأهين لما قامت للولاية سوق .. ولصرنا نطلب من الله أن يرسل لنا أنبياء ليحكمونا.

ومن هذا الباب ما حدث به عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا النبي r ، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان[53].

بالإضافة إلى أن الحقوق قد تلتبس .. فالبعض يتصور ما ليس له بحق حقا .. وطاعة ذلك تؤدي إلى محالة إلى سيطرة الأهواء  .. وسيطرة الأهواء لا تؤدي إلا إلى الفتنة.

بالإضافة إلى أن للأوضاع المختلفة تأثيرها في تصرفات الحاكم .. وقد أشار رسول الله r إلى ذلك في قوله:( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) [54]

وهذا كله لا يعني عدم الوقوف في وجه الحاكم إن أخطأ .. بل قد ذكر الفقهاء العدول أن على الأمة أن تفعل ذلك بكل ما أوتيت من قوى[55] .. بل قد دعا خلفاء الأمة العدول إلى ذلك ..

فقد روي أنه بعد موت رسول الله r اختار المسلمون أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ خليفة عليهم، فكانت أول خطبة قالها : ( أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)

وعندما ولي عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر المسلمين بعد أبي بكر خطب، فقال: (لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه)، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟! فقال عمر: (لا، القتل أنكل لمن بعده)

التنظيمات:

قلنا: حدثتنا عن الركن الثالث من الأركان التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي .. فحدثنا عن الركن الرابع.

قال: أرأيتم لو أن رساما رسم على لوحته صورة لحديقة زينها بأجمل الزهور والألوان، ونسقها تنسيقا بديعا .. لكنه تلاعب بالألوان .. فجعل أوراق الأشجار سوداء .. وجعل المياه حمراء .. وجعل الشمس خضراء؟

قلنا: لا شك أن هذا رسام هازل.

قال: لا .. هو رسام جاد .. ولكنه أراد أن يبدع .. وقد رأى أن كل الرسامين يرسمون الأوراق خضراء، فراح يحولها إلى سوداء.

قلنا: فهذا مجنون إذن.

قال: لم ترون جنونه؟

قلنا: لأن الإبداع لا يكون بالتلاعب بحقائق الأشياء ..

قال: ففيم يكون إذن؟

قلنا: في تنسيقه واختياراته والإيحاءات التي تعبر عنها صوره.

قال رجل منا: ما تريد بكل هذا؟

قال: أريد أن أبين لكم العلاقة بين التنظيمات والدستور .. فالدستور  الإلهي دوره أن يبين فطر الأشياء وحقائقها حتى لا يتلاعب الساسة بها .. وأما التنظيمات، فدورها أن تجعل صورة الحياة جميلة حية ممتلئة بالسعادة.

قلنا: فما علاقة هذا بالنظام السياسي الإسلامي؟

قال: كما أن الإسلام تشدد في دستوره الذي يحفظ حقائق الأشياء، فإنه في مقابل ذلك تفتح تفتحا تاما على كل ما يخدم الحياة من تنظيمات .. فالحياة لا تستقيم إلا بالتنظيمات الصالحة التي تيسر للرعية حياتها.

قلنا: فهل تضرب لنا أمثلة تقرب لنا ذلك؟

قال: هل سمعتم بالدواوين[56] ؟

قال رجل منا: وكيف لا نعرفها؟ .. لقد روي أن عمر بن الخطّاب هو أول من اقتبسها .. وقد روي في ذلك أنه لمّا قدم عليه أبو هريرة رضي بمالٍ من البحرين ، فقال له عمر : ماذا جئت به ؟ فقال : خمسمائة ألف درهمٍ.. فاستكثره عمر ، فقال: أتدري ما تقول؟ قال : نعم ، مائة ألفٍ خمس مرّاتٍ ، فقال عمر : أطيّب هو؟ فقال : لا أدري ، فصعد عمر المنبر ، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس قد جاءنا مال كثير ، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً ، وإن شئتم عددنا لكم عدّاً، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديواناً لهم، فدوّن أنت لهم ديواناً.

وروي أن سبب وضعه أنّ عمر بعث بعثاً ، وكان عنده الهرمزان ، فقال لعمر : هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال فإن تخلّف منهم رجل وآجل بمكانه ، فمن أين يعلم صاحبك به ، فأثبت لهم ديواناً ، فسأله عن الدّيوان حتّى فسّره له.

قال آخر: إن هذا يدل على أن الدواوين ليست من النظام السياسي الإسلامي .. وأنها بذلك بدعة دخلت الدين .. وأن الحضارة الإسلامية كانت بالتالي عالة على غيرها من الحضارات .. وأن ..

قاطعه آخر، وقال: ومما يدل على هذا أن أعمال الدواوين كانت بأيدى أبناء البلاد المفتوحة وبألسنتهم .. فقد كتب ديوان الشام باليونانية أو الرومية كما يسميها المسلمون، وديوان مصر بها أيضا وبالقبطية، وديوان العراق بالفارسية، وديوان إفريقية بالبربرية، وظل الأمر على هذا الحال حتى كان عهد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان ، فصدرت الأوامر بنقل هذه الدواوين جميعها إلى العربية، وهو ما عرف بتعريب الدواوين.

قال الحسين: حسبكما .. فليس الأمر كما تقولون .. الدواوين لا وطن لها .. وليس لها علاقة بالسياسة .. الدواوين سجلات .. ويمكنك أن تكتب في السجلات كفرا كما يمكن أن تكتب إيمانا .. وهي وسيلة يمكن أن تستخدمها في الخير كما يمكنك أن تستخدمها في الشر.

قال رجل آخر: ولكنا نعلم أن المسلمين اهتموا بتدوين الدواوين وتنظيمها .. وسجلوا ذلك في كتب الفقه السياسي .. وقد رأيت الفقهاء يضعون شروط أهل كل ديوان .. فمن الشروط التي أوردها الماورديّ لديوان الجيش: البلوغ، وعلل ذلك بأنّ الصّبيّ من جملة الذّراريّ والأتباع ، فكان عطاؤه جارياً في عطاء الذّراريّ.. والحرّيّة، وعلل ذلك بأنّ المملوك تابع لسيّده ، فكان داخلاً في عطائه .. والإسلام، وعلل ذلك بأنّ الجندي يدفع عن الملّة باعتقاده ويوثق بنصحه واجتهاده.. والسّلامة من الآفات المانعة من القتال.. وأن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال.. وأن يتجرّد عن كلّ عملٍ.

ومثل هذا ذكر شروط ذوي الولايات ، كالولاة والقضاء والعلماء والسّعاة على المال جمعاً وحفظاً وقسمةً ونحو ذلك ، وأئمّة الصّلاة والمؤذّنين.

ومثلهم ذوو الحاجات .. كما قال عمر : (ليس أحد أحقّ بهذا المال من أحدٍ ، إنّما هو الرّجل وسابقته ، والرّجل وغناؤه ، والرّجل وبلاؤه ، والرّجل وحاجته)

قال آخر: بل قد رأيتهم يختلفون في هذا كما يختلفون في سائر أبواب الفقه.. ومن أمثلة ذلك أن أبا بكرٍ الصّدّيق وعليّ كانا يريان التّسوية بين أهل الدّيوان في العطاء، ولا يريان التّفضيل بالسّابقة ، وإلى هذا ذهب الشّافعيّ ومالك من الفقهاء.

وعلى خلافهما سار عمر بن الخطّاب وعثمان .. فقد كانا يريان التّفضيل بالسّابقة في الإسلام ، وزاد عمر التّفضيل بالقرابة من رسول اللّه r مع السّابقة في الإسلام.. وأخذ بقولهما من الفقهاء أبو حنيفة وأحمد وفقهاء العراق.

وقد روي أن عمر ناظر أبا بكرٍ حين سوّى بين النّاس فقال: (أتسوّي بين من هاجر الهجرتين وصلّى إلى القبلتين، ومن أسلم عام الفتح خوف السّيف؟) فقال له أبو بكرٍ : إنّما عملوا للّه وأجورهم على اللّه ، وإنّما الدّنيا دار بلاغٍ ، فقال عمر : لا أجعل من قاتل رسول اللّه r كمن قاتل معه.

قال آخر: ولم يقتصر الأمر على ذلك .. لقد وقع الخلاف في عدد الدواوين:

فقد بدأ عمر بديوان الجند، ويعرف أيضا بديوان الجيش أو العطاء، واختص بتدوين أسماء الجند وأوصافهم وأنسابهم وما يخصهم من العطاء .. وقد وصل ديوان الجند إلى أقصى مراحل تطوره فى أيام الخلافة الفاطمية، حيث صار يضم ثلاثة دواوين ، هى الجند والرواتب والإقطاع.

ثم ظهر ديوان الخراج، وقد نشأ فى عهد الخليفة عمربن الخطاب بعد أن اتسعت فى عهده رقعة الدولة الإسلامية وكثرت الأموال ، وغدت مهمته الإشراف على جباية الأموال وتدوين ما يرد منها إلى بيت المال وأوجه الإنفاق العام، وأضحى له - مع الاتساع- فرع فى كل ولاية.

ولما كان عهد بنى أمية، ونشطت حركة الفتوح ، وامتدت أطراف الدولة ، قامت عدد من الدواوين الجديدة، كان فى مقدمتها ديوان الخاتم الذى أنشأه معاوية ضمانا لسرية أمور الدولة، حتى أصبح ديوان الخاتم يعد أهم دواوين الدولة الإسلامية، وكانت مهمته تشمل أوامر الخليفة ورسائله وحزمها بخيط ولصقه بالشمع ثم ختمه بخاتم الخليفة حتى لا يجرو أحد على فضه سوى المرسل إليه.

وقد كمل عمل هذا الديوان ديوان الرسائل الذى عرف أيضا بديوان الإنشاء، ويشرف على الرسائل الواردة من الولايات إلى الخليفة، أو من هذا إلى عماله فى الأمصار، وازدادت أهمية هذا الديوان تدريجيا حتى صار الكثيرون يتنافسون للعمل فيه ، وبلغ قيمة ازدهاره فى مصر زمن الفاطميين والأيوبيين والمماليك ، ومن بين أعظم من شغلوا رئاسته القاضى الفاضل والقلقشندى.

وبعد ذلك تعددت الدواوين فى الدولة الإسلامية بتطور عهودها، فظهر ديوان البريد، وقد قال فيه أبو جعفر المنصور:( ما كان أحوجنى إلى أن يكون على بابى أربعة نفر: هم أركان الملك، ولايصح الملك إلا بهم.. أما أحدهم فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم، والآخرصاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى، والثالث صاحب خراج لا يظلم الرعية، والرابع ـ وعض على أصبعه السبابة ثلاث مرات وقال: ـ صاحب بريد يكتب إلى بخبر هؤلاء على الصحة)

وإلى جانب هؤلاء جميعا ظهر ديوان الطراز، وديوان التوقيع ، وديوان الجهبذة، وديوان البر والصدقات ، وديوان الزمام ، وغيرها.

قال الحسين: بورك فيكم .. فإن لكم ثقافة محترمة في هذا الباب.

قال رجل منا: لسنا ندري إلى الآن علاقة هذا بما نحن فيه.

قال الحسين: لقد سمعتكم تتحدثون أن الخلفاء أبدعوا في تدوين الدواوين وتنظيمها ..

قال الرجل: وقد أخذوا هذا من الأمم من حولهم.

قال الحسين: لا حرج في ذلك .. فهذا ليس من الدين .. أو قل: هو من التطبيق الذي أتاحه الله لعقولنا من الدين.

قال الرجل: ما تعني؟

قال الحسين: لقد أمرنا بإتقان الأعمال .. قال رسول الله r يقرر ذلك ويدعو إليه:( إن الله يحب إذا عمل أحدكم العمل أن يتقنه)[57]

 واعتبر رسول الله r الإحسان أصلا من أصول الدين وقمة من قممه، فقال : (إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)[58]

ولذلك .. فإن جميع التنظيمات الصالحة التي تيسر تحقيق العدالة واجبة من جهة دخولها في الإحسان الذي أمرنا الله به .. بل كتبه علينا في كل شيء.

ولذلك .. فإن النظام السياسي في الإسلام يطلب من ولي الأمر البحث عن كل إبداع في هذا الباب .. ويطلب منه أن يستخدم جميع الوسائل التي تيسر عليه تحقيق العدالة التي لا ينتظم شأن الرعية إلا بها.

قال الفقيه: لقد رأيت الفقهاء يضعون الكثير من المسائل المرتبطة بهذا في مصدر مهم من مصادر الشريعة يسمونه (المصلحة المرسلة) .. وقد شاع لدى البعض أن الإمام مالك وحده هو الآخذ بها كدليل من أدلة الأحكام الشرعية، وأضاف البعض إليه الإمام أحمد.

لكني بالبحث الدقيق ثبت لي أن جميع الأئمة الأربعة وغيرهم أخذوا بها .. وإن كان ذلك تحت مسميات أخرى.. فالعبرة بالمعنى قبل المبنى.

فالإمام الشافعي ـ مثلا ـ عالجها تحت باب القياس .. وهو نظر ثاقب لأن المصلحة قياس معنى، وإن لم تكن قياس لفظ.

والإمام أبو حنيفة عالجها تحت باب الاستحسان والعرف.. والمصلحة ـ بلا شك ـ قريبة من الاستحسان..

ولأجل هذا أنا أرى أن المصلحة دليل شرعي مسلم به من جميع الفقهاء.

ولا ينبغي للفقهاء إلا أن يتفقوا على هذا .. فقد وردت الأدلة الكثيرة تنص على أن الغاية من جميع الفروع هو تحقيق المصالح .. فقد دلنا الشارع على سبيل الإشارة، حين بين لنا الأحكام وكشف في بعضها عن المصالح التي تتحقق من ورائها.. فكأنه سبحانه. بذلك يدل على أن وراء كل حكمة مصلحة، وكأنه بذلك يدلنا على أن نقيس على المصالح، فبعد أحكام الصيام نجد قول الله تعالى :﴿ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة: من الآية185)

وبعد أحكام الوضوء نجد قول الله تعالى :﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة: من الآية6)

وعن الصلاة يقول تعالى:﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت: من الآية45)

وفي تحويل القبلة يقول تعالى:﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(البقرة: من الآية150)

وفي القصاص يقول تعالى:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179)

وهكذا نجد النصوص الكثيرة تدل على أن المصالح هي المقصودة من كل التشريعات.

بل إني وجدت الصدر الأول من الحكام العدول قد يتركون تنفيذ بعض الأحكام التي نصت عليها النصوص إذا لم تتوفر أسبابها الكافية رعاية للمصلحة:

ومن ذلك ما فعله عمر من إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم في عصره مع أنه ورد في مصارف الزكاة التنصيص عليه كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)  (التوبة:60)

وسبب ذلك أن عمر رأى أن الإسلام قد عز، ودانت له أكبر إمبراطوريتين في العالم، ولم يعد بحاجة إلى تأليف القلب أو إلى المؤلفة قلوبهم، وإذا كان النص يدور حول علته وجودا وعدما، فإن إعمال النص نفسه يقتضي الكف عن إعطاء هذا الفريق من الناس بعد أن عز الإسلام وعزت دولته!

ومثل ذلك اجتهاده في قتل الجماعة بالواحد .. ففعله ذلك لا يناقض قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:178)، وقوله :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45 بل هو تطبيق من تطبيقاته ..

فالنفس تعني (الجنس) ولا تعني (المفرد)، والباء في النفس التالية هي باء السببية.. وعلى ذلك فإن النص يعني أن كل نفس شاركت في القتل تقتل بالنفس التي قتلت أي بسبب هذه النفس المقتولة.

وقد فهم ذلك الوضعيون أخيرا حين جعلوا جزاء القتل لكل من ساهم فيه، وجعلوا مجرد الوقوف في الطريق العام لملاحظته دون اشتراك مادي في الجريمة تجعل صاحبها فاعلا أصليا يستحق نفس العقوبة.. وما دون ذلك جعلوه شريكا له نفس عقوبة الفاعل الأصلي.

ومثل ذلك اجتهاده في توقيف حد السرقة عام المجاعة .. وليس في ذلك مصادمة للنصوص، ولا تعطيلا لحد من حدود الله.. ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط النص غير منطبقة إذ يوجد شبهة قوية تحول دون تطبيق الحد أو تدرؤه، وهو الذي سمع رسول الله r يقول:(ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)[59]، وسمعه يقول: (لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)

وقد روي أن صاحب بستان جاءه يشكو سرقة خادمه لثمار البستان، فلما حقق القضية وجد أن صاحب البستان لا يعطي خادمه ما يكفيه.. فقال له عمر: لو سرقت بعد ذلك لقطعت يدك أنت..

هذا الفقه السليم لإقامة الحدود الإسلامية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمادة شبهة كبيرة تدرأ الحد.. ووجد أن شروط النص لا تنطبق.. وليس معنى ذلك تقديم المصلحة على النص.. إنما هو اجتهاد داخل النص نفسه للبحث في توافر شروط الجريمة وشروط العقوبة..

قام رجل منا، وقال: فمن هذا الباب ـ إذن ـ تأثر الفقه الإسلامي بالتشريع الروماني[60]؟

ابتسم الحسين، وقال: لقد علمنا ربنا أن لا نقر شيئا، ولا ننكره إلا بدليل، فقال:﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)، وقال :﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111) .. فما أدلتك على هذا؟

قال: لقد اتفق على هذا أكثر المستشرقين[61] ..

ابتسم الحسين، وقال: لقد اتفق كل المدمنين على المخدرات على أن للمخدرات نشوة لا تعدلها نشوة .. فهل تقرهم على إجماعهم؟

قلت: كيف أقرهم وهم ضحايا الإدمان؟

قال الحسين: لكل إدمانه الخاص .. فلذلك لا يصح أن نعتبر آراء الرجال ـ مهما كانت ـ دليلا ..

قال الرجل: من الأدلة التي أوردوها هو أنه كان في الشام مدارس للقانون الروماني عند الفتح الإسلامي في قيصرية وفي بيروت، وكان هناك محاكم تسير في نظامها وأحكامها حسب القانون الروماني، واستمرت هذه المحاكم في البلاد بعد الإسلام زمنا.. وطبيعي أن قوما لم يأخذوا من المدنية بحظ وافر إذا فتحوا بلادا ممدنة نظروا ماذا يفعلون، وبم يحكمون، ثم اقتبسوا عن أحكامهم.

بالإضافة إلى هذا، فإن المقارنة بين بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الروماني تقنعنا بهذا، بل إن هناك قواعد نقلت من القانون بنصها مثل: (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) ..

بالإضافة إلى أن كلمتي الفقه والفقيه استعملتا وفاقا لمعنى الكلمة المستعملة عند الرومان، فهم يستعملون كلمة (Juris)، وهي تدل على الفهم والمعرفة والحكمة.

بالإضافة إلى هذا .. فإنه من المحتمل أن يكون الفقه الإسلامي قد استفاد من القانون الروماني إما مباشرة أو عن طريق التلمود .. لأن التلمود أخذ كثيرا من القانون الروماني، واتصال المسلمين باليهود مكنهم من الأخذ ببعض أقوال التلمود[62].

ابتسم الحسين، وقال: لقد سمعت لأدلتك بكل صدق وإخلاص .. فاسمح لي أن أبين لك ما أراه من صواب .. لا بحسب كوني مسلما .. ولكن بحسب كوني باحثا عن الحقيقة.

لقد انطلت علي في يوم من الأيام هذه الشبهة وغيرها .. لكن الحقائق الكثيرة التي رأيتها في الإسلام جعلتني أراجع نفسي، وأتراجع عن تلك الأفكار التي لم يكن لها إلا هدف واحد هو تحويل الإسلام مسخا مركبا لا حقيقة له ولا أساس.

لقد كان من أول ما فند عندي هذه الشبهة هو أني رأيت المسلمين ـ منذ بدأ الإسلام ـ يعتقدون أن الله خاطب بالشريعة الإسلامية جميع البشر، بما أتى به محمد r من أوامر ونواه وتخييرات .. ورأيتهم يعدون كل من لا يؤمن بالشريعة الإسلامية كافرا، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)

ورأيتهم يعتقدون أن أي حكم يخالف حكم الإسلام هو من أحكام الكفر، يحرم عليهم أخذه.. كما قال تعالى:﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44)

 فلا يتأتى لمن يحمل مثل هذا الاعتقاد أن يأخذ أي حكم من غير الإسلام، ولا سيما في صدر الإسلام، العصر الذي كان المسلمون فيه يحملون رسالة الإسلام واثقين بأن ما عندهم من تشريع إلهي هو الصالح، وأن ما سواه هو الضلال والفساد، فكيف يتخلون عما حملته هذه الرسالة ويأخذون غيره[63]؟

كان هذا أول ما صد عني رياح هذه الشبهة ..

ثم أني نظرت في قولهم بأن المسلمين كانوا أقل حضارة من غيرهم، وبالتالي كان من الطبيعي أن يأخذوا من أحكامهم وأنظمتهم .. فوجدت أنه مغالطة كبيرة، فضلا عن تعبيره عن نظرة ازدراء إلى المسلمين الذين خرجوا من الجزيرة وهم يحملون معهم حضارة تغاير كل المغايرة الحضارات التي عرفتها الأمم المفتوحة.

لقد رأيت أن المسلمين خرجوا هادفين إلى إدخال جميع تلك الأمم في حضارتهم تلك، وهم يعتزون بها، ويرونها حياة الهداية والنور، ويزدرون ما سواها من الحضارات، ويرون فيها الضلال والظلمات.. وكانوا هم الأقوى حضاريا بدليل أن أهل تلك البلاد لم يلبثوا أن تحولوا عن طريقة عيشهم وأفكارهم وأديانهم بقوة تأثير الدين الإسلامي، لا بقوة السيف، وانصهروا في الحضارة الإسلامية، ليكونوا جزءا من الأمة الإسلامية العالمية.

ثم إني بحثت واجتهدت في بحثي، فلم أجد أحدا عن المسلمين سواء من الفقهاء أو غيرهم قد أشار أي إشارة إلى القانون الروماني، لا على سبيل النقد، ولا على سبيل التأييد، ولا على سبيل الاقتباس، مما يدل على أنه لم يكن محل بحث أبدا .. لأن المسلمين في الوقت الذي ترجموا فيه كتب الفلسفة، لم يفكروا في ترجمة جملة من التشريع الروماني، فضلا عن أن يترجموا كتابا، مما يدل على أن ذلك التشريع قد ألغي في البلاد منذ فتحها.

ثم إني بحثت فيما زعمه المستشرقون من أنه كان في بلاد الشام مدارس للتشريع الروماني ومحاكم تحكم بالقانون الروماني، فوجدت الأمر على عكس ذلك .. لقد وجدت ـ على حسب ما تدل الوثائق الكثيرة ـ أن الشام كانت غاصة بالمجتهدين والفقهاء والقضاة والحكام، فكان من الطبيعي أن يقع هذا التأثير - على فرض حصوله - على هؤلاء الأشخاص، ولكن التراث المنقول بغزارة إلى يومنا هذا يخلو من أي إشارة إلى ذلك التأثر.. لأن جميع ما ورد في النصوص الفقهية يستند إلى الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.

وحتى الإمام الأوزاعي[64] الذي رجح بعض المستشرقين أن يكون متأثرا بالتشريع الروماني لمجرد إقامته في بيروت, موطن أكبر مدارس التشريع الروماني- دون أن يكون لديهم أي مستند على زعمهم هذا - دونت آراؤه في كثير من كتب الفقه المعتبرة، ويتبين من قراءتها بشكل واضح بعد الأوزاعي عن القانون الروماني بعد الأرض عن السماء [65].

قال ذلك، ثم التفت إلى الرجل، وقال: أما كلمة (فقه) و(فقيه)، قد وردت في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف قبل عهد الفتوحات، وقبل أن يكون للمسلمين أي اتصال حضاري بتلك الشعوب.. فالله تعالى يقول:﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، والنبي r يقول:( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)[66]

وأما قاعدة (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) .. فقد وردت في الحديث قبل عهد الفتوحات.. ففي الحديث عن الأشعث بن قيس أنه قال: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله r، فقال رسول الله r :( شاهداك أو يمينه) [67] ..

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله r قال في خطبته: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)[68]

وعن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله r قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)[69]

قال الرجل: وما تقول في الأمثلة التي ذكرها (أندريه ميكيل)؟

قال: أما الخراج الذي سماه ضريبة عقارية، ومثلها العشور والجزية، فهي أحكام شرعية استنبطت من القرآن والسنة وإجماع الصحابة.. وليس عليك إلا أن تطالعها من مصادرها لترى حقيقة استمدادها.

ومن ذلك ما حدث به أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب t يقول: اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه، ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قرأت آيات من كتاب الله، سمعت الله يقول:) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (الحشر:8)، والله ما هو لهؤلاء وحدهم.

ثم تلا:) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الحشر:9) والله ما هو لهؤلاء وحدهم.

ثم تلا:) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ( (الحشر:10)، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي أو منع حتى راع بعدن )

وقد جاء في رواية أخرى قوله عن الآية السابقة:( هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش ـ إن شاء الله ـ لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه )

لقد كان هذا مقدمة لأحكام اقتصادية كثيرة لا زالت تزخر بها دواوين الفقهاء.

قال الرجل: وما تقول في استمداد الفقهاء من التلمود؟

قال الحسين: أقول فيه ما قال علماؤنا في استمداد القرآن من الكتاب المقدس[70] ..

قال الرجل: ذلك حديث طويل قد ينصرف بنا عما نحن فيه .. وإن تك صادقا، فسيقيض الله لك من يعلمك علومه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2 ـ الاقتصاد

قال رجل منا: حدثتنا عن النظام السياسي .. فحدثنا عن النظام الاقتصادي ..

قال آخر: لم أسمع أن هناك (نظاما اقتصاديا) له صلة بالإسلام.

قال آخر: (اقتصاد إسلامي)!؟ .. لم أسمع بهذا من قبل.

قال آخر: بلى .. سمعت بهذا .. ولو أني لم أره ..

قال آخر: بلى .. لقد رأيته بأم عيني .. بل دخلت محلاته  .. وهي محلات مزخرفة ممتلئة بكل زينة .. لقد كتب على بابها بالبنط العريض (بنوك إسلامية) .. ولكني لم أرها تبيع إلا السيارات الفاخرة التي تنتجها الدول العظمى.

قال آخر: لو كان في الإسلام نظام اقتصادي ، فهو نظام فاشل .. وأكبر دليل على فشله هو أن بلاد المسلمين من أغنى أرض الله بالثروات، ومع ذلك ينام أهلها تحت وطأة الفقر والجوع.

أشار إليهم الحسين أن يسكتوا .. فلما سكتوا أخذ يرتل بجلال قوله تعالى :﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ﴾ (البقرة: من الآية275)

ثم التفت إلى الجمع، وقال: هذه الآية الكريمة تختصر جميع النظام الاقتصادي الإسلامي ..

قلنا: كيف؟ .. ولا نراها إلا تحل البيع .. وتحرم الربا .. والاقتصاد أخطر من أن ينحصر في البيع والربا.

قال: إن هذه الآية العظيمة تدلنا على أمرين:

أما أولهما، فهو التصرفات المباحة .. والتي يشكل البيع واحدا منها .. وهو يمثل كل حركة للمال والجهد.

وأما الثاني، فهو كابح لتلك التصرفات والحركات حتى لا تنجرف إلى الربا وإخوان الربا.

إن مثل ذلك مثل سيارة تزود بكل ما يتيح لها الحركة الحرة في كل اتجاه .. ولكنها في نفس الوقت تحمى بفرامل تقيها العثرات .. ولا يمكن لأي سيارة في الدنيا أن تستغني عن مثل هذه الفرامل.

قلنا: من العجب أن يختصر الاقتصاد[71] بتفاصيله في هذا.

قال: سأشرح لكم ذلك .. وسترون عظمة الاقتصاد الذي شرعه الله لعباده ..

إن الاقتصاد حسبما تنص عليه تلك الآية يتكون من معنيين: من القيم الاقتصادية .. ومن الحركة الاقتصادية.

القيم:

قلنا: فحدثنا عن القيم وعلاقتها بالاقتصاد الإسلامي.

قال: هناك قيمتان كبيرتان تنطلق منهما جميع القيم التي جاء الإسلام لمراعاتها في هذا الباب.. أما إحداهما، فعقدية تتعلق بالتصورات والأفكار .. وأما الثانية، فأخلاقية متعلقة بالسلوك والآدب.

1 ـ التصورات:

قلنا: حدثنا عن أولاهما .. تلك التي التي ترتبط بالعقيدة والتصورات.

قال: ينطلق الإسلام في كل مواقفه وتنظيماته من الإيمان بالله .. ولذلك فإن أول ما تفعله العقيدة في المؤمن أن تسلب منه ملكيته لماله، كما تسلب منه قبل ذلك ملكيته لكل شيء ..

فالله في تصور المؤمن هو المالك الحقيقي للأشياء .. قال تعالى:﴿  لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120) .. وقال:﴿ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (يونس:55) .. وقال:﴿  أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:107) .. وقال :﴿  إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (التوبة:116)

والله واحد في ملكه لا شريك له .. قال تعالى:﴿  وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الاسراء:111)

وانطلاقا من هذا، فإن القرآن الكريم يملأ وجدان المؤمن بأن المال مال لله .. وأن المؤمن ليس له من حظ في هذا المال سوى أنه مستخلف أو وكيل فيه، قال تعالى:﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ )(النور: من الآية33) .. انظروا كيف نسب الله تعالى المال لنفسه .. وكأنه يقول للعبد: أنت مخطئ في تصورك أن هذا المال مالك.. إنما هو مال الله.

وقال تعالى مقررا علاقة الإنسان بالمال :﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ (الحديد:7)

قاطعه رجل منا، وقال: فالإسلام يتفق في ذلك مع العقيدة المسيحية إذن .. فقد حدث أصحاب الأناجيل - متى ومرقص ولوقا - عن المسيح: أن شاباً غنياً أراد أن يتبع المسيح، ويدخل في دينه، فقال له المسيح: ( بع أملاكك، ثم اعط ثمنها للفقراء، وتعال اتبعني)، فلما ثقل ذلك على الشاب قال المسيح: (يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات) أقول لكم أيضاً: ( إن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غيى ملكوت الله )

قال آخر: والإسلام بذلك يختلف اختلافا جذريا عن جميع المذاهب الاقتصادية .. فكلها من رأسمالية وشيوعية وغيرها تجعل الاقتصاد محور الحياة وتجعل من المال (إله ) الأفراد والجماعة.

قال الحسين: الإسلام يتفق مع هذا وذاك ..

قلنا: كيف ذلك؟ .. ونحن نرى أنهما يسيران في خطين متوازيين ..

قال: الإسلام .. رسالة الله وازنت بينهما .. لتحقق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: عندما يعتقد الإنسان أن المال ماله .. وأنه أوتيه بجهده وقوته سوف يؤديه ذلك لا محالة إلى الطغيان ..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)﴾ (العلق) .. ففي هذه الآية يخبر تعالى أن من طبيعة الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله.

ولهذا توعد الله بالويل من اختصر همته في حياته في جمع المال وعده، قال تعالى :﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)﴾ (الهمزة)

وقد ضرب الله المثل للتفاني في حب المال بقارون، فقال يحكي قصته باعتباره نموذجا لهذا الصنف من الناس ومن المذاهب والأفكار:﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)﴾ (القصص)

اعذروني إن كنت قد قرأت لكم هذه الآيات بطولها .. فأنا لا أراها مجرد قصة لرجل من بني إسرائيل .. بل أراها أعظم من ذلك بكثير إنها تمثل دستور المسلمين الاقتصادي ..

وقارون بالنسبة لي ليس مجرد شخص .. إنه يتمثل في أنظمة كاملة .. أنظمة ممتلئة بالكبر والجشع والأنانية ..

ومصير قارون بالنسبة لي هو المصير النهائي الذي ستؤول إليه تلك الأنظمة .. فتلك الأنظمة التي استكبرت فوق الأرض ليس لها من مصير سوى أن تخسف بها تنال الأرض لتنال جزاء كبريائها .. ولهذا ختم الله تعالى قصة قارون بقوله :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ (القصص)

انظروا كيف وصفت هذه الآية العابدين للمال من دون الله .. لقد وصفتهم بالعلو والاستكبار .. كما وصفتهم بالفساد .. وكلاهما نتيحتان حتميتان لكل من اتخذ المال إلها من دون الله.

قال رجل منا: فالمال ممقوت إذن بسبب كل ما ذكرت.

قال الحسين: نعم .. المال إن جعل صاحبه مثل قارون فهو مال ممقوت .. هو ممقوت كما يمقت المرض، وكما تمقت الزلازل وجميع المصائب .. وكيف لا يمقت، وهو يؤدي بصاحبه إلى تلك النتيجة الخطيرة التي آل إليها أمر قارون .. وغيره .. في جميع أحقاب التاريخ.

لقد حذر الله المؤمنين من أن يشتغلوا بأموال قارون عن الوظيفة التي خلقوا لها .. قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ (المنافقون:9) .. وقال :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (لأنفال:28) .. وقال :﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15) .. وقال :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) .. وقال :﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾ (التكاثر)

قال رجل منا: فكيف تزعم أن الإسلام جمع بين الأمرين .. بين حب المال وبغضه .. ووازن بين الزهد والحرص.. زهد المسيح وحرص المذاهب المادية.

قال الحسين: الإسلام حذر من حب المال لأجل المال، أو من أجل المصالح الدنيا التي يتطلبها الترف .. لأن هذا الحب سيؤدي بصاحبه لا محالة إلى الشح، وإلى استخدام المال استخداما خاطئا .. وليس هناك ما يضر أي أمة من الأمم مثل هذين .. مثل الشح ومثل الاستخدام السيء للمال.

ولهذا .. فإن الله تعالى أخبر أن الأمم تهلك بانتشار ثقافة المترفين فيها، فقال :﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ (الاسراء:16)

وفي الحديث قال رسول الله r مخبرا عن عواقب الشح : (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)[72]

2 ـ السلوكات:

قال رجل منا: أراك عبرت بنا إلى الركن الثاني من أركان القيم .. وهو الركن المرتبط بالأخلاق والسلوك.

قال الحسين: أجل .. فالأخلاق تنبع من التصورات والأفكار .. ولهذا فإن الأخلاق في الإسلام ليست مجرد ظواهر سلوكية قد تصدر من نفس متكلفة .. بل هي آثار لمعان عميقة يمتلئ بها الوجدان جميعا.

قلنا: فحدثنا عن القيم الأخلاقية التي دعا الإسلام أن يسلكها المسلم في تعامله مع المال.

قال: جميع القيم الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام في هذا الجانب ترتبط بتحصين المسلم وتحصين اقتصاد المسلمين من عدوين لدودين: الطغيان، والفساد.

قلنا: فما الطغيان؟ وما نتاجه؟

قال: أرأيتم لو أن رجلا كان له مال كثير .. وكان مفرقا في مواضع مختلفة .. وقد كان له لذلك وكلاء في كل محل من المحلات .. ثم إن بعضهم تمرد عليه، وراح يعبث بماله ويتلاعب به[73]؟

قلنا: هذا لص متمرد طاغية.

قال: لم؟

قلنا: لأنه تصرف فيما لا يملكه بغير حق.

قال: فهكذا الأمر بالنسبة لله تعالى .. ولله المثل الأعلى .. فكل إنسان تمرد على ربه .. واعتقد أن المال ماله، وأنه لا يحق لأحد أن يتحكم فيه فقد طغا وبغا وظلم ..

لقد ضرب الله المثل لهذا بحضارة من حضارات الطغيان .. هي حضارة ثمود .. كانت هذه الحضارة تمارس كل الانحرافات الاقتصادية .. وكان من أهمها الطغيان .. والذي تجلى بصورته الفاضحة في تطفيفهم للمكاييل والموازين.

وقد أخبر القرآن الكريم عن النفس الذي ينبع منها هذا السلوك عند ذكره لمخاطبة نبيهم صالح u لهم .. وكان من تلك المخاطبات قوله لهم :﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾ (هود)

وعندما سمعت ثمود هذا منه استغربت .. فلم تكن تتصور ـ لطغيانها ـ أن هناك من يشكك في ملكيتها التامة لمالها .. وحريتها التامة في التصرف فيه .. قال تعالى حاكيا قولهم:﴿ يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)﴾ (هود)

حينذاك أجابهم صالح u بقوله :﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)﴾ (هود)

فردوا عليه :﴿ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)﴾ (هود)

فأجابهم بهدوئه وسلامه :﴿ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93)﴾ (هود)

اعذروني إن كنت قد نقلت لكم الحوار بطوله .. ففي هذا الحوار يتجلى موقف المؤمن من ماله، وهو موقف المسالم المتواضع الممتلئ بمعاني العدالة .. وفي نفس الوقت يتجلى الموقف الثاني موقف الباغي الطاغي الظالم الذي يرى أن له الحرية المطلقة في ماله يملكه كيف يشاء .. ويتصرف فيه كيف يشاء.

ومثل هذا الحوار هذا الحوار .. قال تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)﴾ (الكهف)

قلنا: عرفنا الطغيان .. فما الفساد؟

قال: الطغيان يؤدي لا محالة إلى الفساد.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: أرأيتم لو أن شخصا أكل من الطعام أضعاف ما يتحمله جهازه الهضمي .. وداوم على ذلك مدة .. ألا يؤدي ذلك لا محالة إلى فساد هذا الجهاز؟

قلنا: لا شك في ذلك .. وذلك ليس مختصا بالجهاز الهضمي .. فكل من حمل شيئا ما لا يحتمل فسد.

قال: فهكذا تعاملنا مع أموالنا .. إن نظرنا إليها نظرة الطغاة المتمردين.. فإننا لا شك سنقع في كل الموبقات .. موبقات الكسب الحرام .. وموبقات الإنفاق الخبيث.

قلنا: فما موبقات الكسب الحرام؟

قال: كثيرة .. ذكرتها النصوص المقدسة .. وحذرت منها .. وفصلتها كتبنا الفقهية تفصيلا شديدا .. وهي ـ لذلك الدعامة التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي.

منها الربا[74] .. وقد تشدد الإسلام في حرمته .. بل اعتبر أكلة الربا محاربين لله تعالى .. قال تعالى :﴿ )الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (البقرة:275)

بل إن القرآن الكريم أخبرنا أن الربا كان محرما في الشرائع السابقة .. قال تعالى يعدد معاصي الإسرائيليين، وكونها السبب فيما حصل في شريعتهم من تشديد[75] :﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:161)

قال رجل منا: أنا إلى الآن لا أزال مستغربا من كل هذا التشديد في الربا .. أليس الربا مكسبا من المكاسب المحترمة؟

قال الحسين: لا .. الربا ليس إلا تعبير عن الجشع والطغيان .. فمالك المال المرابي لا يتعب نفسه في فلاحة ولا صناعة ولا تجارة .. بل يكتفي بأن يرسل ماله ليمتص جهود الناس وعرقهم، وهو ضامن ـ مع ذلك كله ـ لربحه ضمانا تاما..

وهذا يؤدي لا محالة إلى دفع فئة من الأمة إلى الكسل والبطالة وتمكنهم من زيادة ثروتهم بدون جهد أو عناء .. وذاك يؤدي بالضرورة إلى انتشار ظاهرة التضخم في المجتمع وتوسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء .

وذاك يؤدي إلى تنمية الضغائن والأحقاد بين الناس لعدم اقتناع المقترض بما أخذ منه مهما كانت حاجته ورغبته فيه ..

قلنا: فاذكر لنا عللا أخرى من العلل التي يسببها الطغيان والفساد.

قال: كل معاملة تحوي غررا[76] .. أو جهالة[77] .. أو غبنا[78] .. أو تدليسا[79] .. أو غشا[80] .. أو خلابة[81] ..  وكل أكل لأموال للناس بالاحتيال والنصب.

لقد مر رسول الله r على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال r : ( أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ! من غشنا فليس منا)[82]

وعن أبي ذرٍ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ) قال: فقرأها رسول الله r ثلاث مراتٍ. قال أبو ذرٍ: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال : ( المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)[83]

وعن أبي سباع قال : اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله r ، فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره، فقال: اشتريت ؟ قلت نعم.. قال: أبين لك ما فيها؟ قلت وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة ، قال: أردت بها سفرا أو أردت لحما؟ قلت: أردت بها الحج ، قال: ارتجعها ، فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله؟ تفسد علي، قال : إني سمعت رسول الله r يقول: (لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه)[84]

وفي حديث آخر قال r : (المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه)[85]

وفي حديث آخر قال r:(المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم ، والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم)[86]

وفي حديث آخر عن جرير ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعت رسول الله r على السمع والطاعة ، وأن أنصح لكل مسلم ..  وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال : ما الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر[87].

قلنا: زدنا.

قال: كل حبس للسلع عن الناس من أجل التلاعب بأسعارها حرام .. وقد سماه الشرع احتكارا[88] .. ففي الحديث قال رسول الله r : ( من احتكر فهو خاطئ)[89] .. وقال r : ( من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمّة اللّه)[90] .. وقال r : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس)[91] .. وقال r : (من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه، وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه)[92]

بل إن من المفسرين من حمل قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ (الحج: من الآية25) على الاحتكار .. مستندين ذلك لما ورد في الحديث من قوله r : (احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه)[93]

الحركة:

قلنا: حدثتنا عن القيم .. فحدثنا عن الحركة، وعلاقتها بالاقتصاد الإسلامي.

قال: كما أن الشريعة كبحت جماح المسلم من أن يطلب المال من غير حله أو يضعه في غير محله .. فإنها أطلقت له العنان في العمل الحلال الذي يعمر الأرض، ويلؤها بالبركات[94] ..

بل إن رسول الله r يعتبر العامل المكتسب مجاهدا في سبيل الله .. لا يقل أجره عن أي مجاهد .. ففي الحديث أن بعض الصحابة رأى شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله r عليهم بقوله: ( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )[95]

بل صرح r بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله )[96]

وسر ذلك هو أن الجهاد الذي هو حمل السلاح لا يكون في الشريعة إلا لطارئ، وهو أشبه بالحراحة التي يقوم بها الطبيب لنزع علة معينة، أما الجهاد الذي هو حمل الفأس والضرب في الأرض، فإنه لعمارة الدنيا التي أمرنا بعمارتها، فلا يليق أن نملأ الدنيا التي هي دار الضيافة الإلهية بالجهاد المدمر، ولا نملؤها بالجهاد المعمر.

لقد دعا هذا عمر صاحب رسول الله r لأن يقول قولته المشهورة:( لأن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغى من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله ; لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله :﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (المزمل: من الآية20)

انظروا كيف قرن الله تعالى في هذه الآية بين الجهاد والضرب في الأرض[97].. بل قدم الضرب في الأرض على الجهاد، فلا يمكن للمجاهد أن يجاهد لولا وجود من يضرب في الأرض.

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن كل منتفع بعمل العامل يصب في أجره، فقد قال قال r في إحياء الأرض:( ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به جرا )[98]

وقال r في أجر من أحيا أرضا ميتة:(  من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة )[99]

وقال r في غرس الغرس:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )[100]، وقال r:( ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)[101]، وقال r:( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه[102] أحد إلا كان له صدقة )[103]

بل إن رسول الله r دعا للعمل، ولو لم يبق أي أمل في الحياة .. ففي الحديث قال r:( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة[104]، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها )[105]

 

3 ـ الاجتماع

قال رجل منا: حدثتنا عن النظام الاقتصادي .. فحدثنا عن النظام الاجتماعي في الإسلام ..

قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام اجتماعي)

قال آخر: بلى .. سمعت أن هناك نظاما اجتماعيا في الإسلام .. وقد سمعت أنه نظام ذكوري .. يجعل الرجل جبارا متسلطا على المرأة .. ويجعل المرأة عبدا ذليلا مهانا للرجل.

قال آخر: وقد سمعت أنه نظام يقوم على العصبيات والقبليات والعرقيات.

قال آخر: وقد سمعت أنه نظام يقوم على طبقات مختلفة .. تبدأ برجال الدين .. ثم برجال الدنيا .. وفي أسفل الهرم الدهماء والعامة.

قاطعهم الحسين، وقال: ائذنوا لي أن أحدثكم بالحقائق .. فما أيسر لأسماعكم أن تسمع ما تشاء .. وما أيسر لأي قائل أن يقول ما يشاء .. والعبرة ليس بما نسمع .. ولا بما نقول .. وإنما العبرة بالحقيقة .. الحقيقة هي وحدها التي تحررنا من كل الشبهات والأهواء ..

قلنا: قد ذكرنا لك ما سمعنا .. فحدثنا بما تراه من الحقائق.

قال: لقد بحثت في النظام الاجتماعي في الإسلام بحسب مصادره الأصلية .. وبحسب ما بقي فيه من بقية صالحة تتوزع في أقطار مختلفة من بلاد المسلمين .. وبحسب ما رواه المؤرخون الثقاة الذين أرخوا للسياسة كما أرخوا للاجتماع ..

وقد وجدت من خلال هذه البحوث جميعا أن بنيان المجتمع الإسلامي يقوم على أربعة أعمدة كبرى: هي التآلف، والتكافل، والتناصر، والتناصح [106] .

التآلف:

قلنا: فحدثنا عن أولها .. ذلك الذي سميته التآلف.

قال: لقد عبر رسول الله r عن هذا الركن من أركان النظام الاجتماعي، فقال : (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) .. بل بين المنزلة الرفيعة التي أنزلها الله من اتصف بهذا الركن العظيم، فقال : (إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)

وعبر عنه قبل ذلك قوله تعالى ـ وهو يقرر الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية ـ :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾  (الحجرات:13)

وعبر عنه بعد ذلك قوله تعالى ـ وهو يقرر الرابطة الوحيدة التي لا يصح أن يربط غيرها بين المؤمنين ـ:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)

قلنا: سمعنا النصوص .. فما معانيها؟ .. وكيف حولها الفقهاء إلى ممارسات واقعية؟

قال: ليس الفقهاء هم الذين حولوها .. بل هي التي جعل الله فيها من القوة واليسر ما حولت به جميع أنظمة الجاهلية إلى نظام السلام الذي جاء به الإسلام.

الفقهاء فهموا النصوص .. ونزلوها على الوقائع المختلفة فقط .. هذا دورهم .. أما النصوص من كلام الله وسنة رسول الله فهي التي قامت بتقويم النفوس وتربيتها على المنهج الذي أراده الله لها.

قلنا: فحدثنا عن هذه النصوص .. وكيف أطاقت أن تنشر الإلفة بين المؤمنين؟

لقد ورد في النصوص ما يسمى بحقوق المسلم .. والمراد منها جميعا تلك اللحمات التي كانت تصل بنيان المجتمع الإسلامي بعضه ببعض .. والتي عبر عنها رسول الله r بقوله : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[107]  .. وعبر عنها، فقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)[108]

وقد جمع العلماء من النصوص الكثير من تلك اللحمات التي تصل بين المسلمين .. بل صنفوا في ذلك المصنفات.. سأذكر لكم بعض ما ذكروا لتعلموا من خلاله أنه لا يوجد دين في الأرض وضع من أسرار الألفة الاجتماعية ما وضعه الإسلام.

من ذلك ما عبر عنه الغزالي بقوله : ( أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك)

لقد وردت النصوص الكثيرة التي لا يزال المسلمون يحفظونها عن ظهر قلب تقرر هذا .. ففي الحديث قال رسول الله r : (حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض وأتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)[109]

وفي حديث آخر قال r :( أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لمدبرهم، وأن تحب تائبهم)

وقال r : (  حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه: وإذا دعاك فأجبه ، وإذا أستنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده ، وإذا مات فأتبعه)[110]

وقال:( للمسلم على المسلم ست بالمعروف : يسلم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، ويشمته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويتبع جنازته ويحب له ما يحب لنفسه)[111]

وقال:( للمؤمن على المؤمن ست خصال : يعوده إذا مرض ، ويشهده إذا مات ، ويجيبه إذا دعاه ، ويسلم إذا لقيه ، ويشمته إذا عطس ، وينصح له إذا غاب أو شهد)[112]

ومن ذلك أن لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول .. بأي صنف من صنوف الأذى.

لقد وردت النصوص الكثيرة تدل على ذلك .. قال r : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)[113]

وقال : ( من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه؛ من عرضه أو من شيءٍ، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ؛ إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)[114]

وقال : ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه ، فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة) فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ فقال : ( وإن قضيبا من أراك)[115]

وقال : ( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار )[116]

وقال: ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما )[117]

وقال: (من مر في شيء من مساجدنا ، أو أسواقنا ، ومعه نبل فليمسك ، أو ليقبض على نصالها بكفه ؛ أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء)[118]

وقال r في حديث طويل يأمر فيه بجملة من الفضائل:( فإن لم تقدر فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك)[119]

وقال:( لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه)[120]

وقال:( إن الله يكره أذى المؤمنين)[121]

وقال مرة لأصحابه : ( أتدرون من المسلم؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، قالوا: فمن المؤمن؟ قال: (من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم)، قالوا: فمن المهاجر؟ قال: (من هجر السوء واجتنبه)[122]

وقال لهم مرة : ( أتدرون من المفلس ؟ ) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار)[123]

وقال لهم مرة:( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، أي شهر هذا ؟) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال:( أليس ذا الحجة ؟) قلنا : بلى . قال :( فأي بلد هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : ( أليس البلدة ؟ ) قلنا : بلى . قال : ( فأي يوم هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : ( أليس يوم النحر ؟ ) قلنا : بلى . قال : ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ) ، ثم قال : ( إلا هل بلغت ، ألا هل بلغت ؟ ) قلنا : نعم . قال : ( اللهم اشهد )[124]

وقال له رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال:( أن تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك)[125]

ومن ذلك أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه:

لقد وردت في تقرير ذلك والتربية عليه النصوص المقدسة الكثيرة: قال رسول الله r : (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا ، ولا يبغ بعضكم على بعض)[126]

وقال: (ما نقصت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)[127]

وقال : ( التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله ، والعفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله ، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله )[128]

وقال:( طوبى لمن تواضع في غير منقصة ، وذل نفسه في غير مسألة ، وأنفق مالا جمعه في غير معصية ، ورحم أهل الذل والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة .. طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره .. طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله)[129]

وقال : ( إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة)[130]

وقال : (من يتواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين ، ومن يتكبر على الله درجة يضعه درجة حتى يجعله في أسفل سافلين)[131]

وقال : ( من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله ، ومن ارتفع عليه وضعه الله)[132]

وقال : ( إياكم والكبر فإن الكبر يكون في الرجل ، وإن عليه العباءة)[133]

وقال : (إن من التواضع لله الرضا بالدون من شرف المجالس)[134]

وقال : ( تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عباد الله، وتخرجوا من الكبر)[135]

وقال : (صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه عليه أخوه المسلم)[136]

وقال : ( عليكم بالتواضع فإن التواضع في القلب ولا يؤذين مسلم مسلما، فلرب متضعف في أطمار لو أقسم على الله لأبره)[137]

وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك فإن تواضع قيل للملك : ارفع حكمته ، وإذا تكبر قيل للملك : ضع حكمته)[138]

وقال : ( من تواضع لله رفعه الله ، ومن اقتصد أغناه الله ، ومن ذكر الله أحبه الله)[139]

وقال : ( من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه ضعيف وفي أنفس الناس عظيم ، ومن تكبر وضعه الله فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير)[140]

وقال : ( قال الله تعالى من لان لخلقي وتواضع لي ولم يتكبر في أرضي رفعته حتى أجعله في عليين)[141]

وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة موكل بها ملك ، فإن تواضع رفعه الله ، وإن ارتفع قمعه الله ، والكبرياء رداء الله فمن نازع الله قمعه)[142]

وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه سلسلتان ، سلسلة في السماء السابعة وسلسلة في الأرض السابعة ، فإن تواضع رفعه الله بالسلسلة إلى السماء السابعة ، وإذا تجبر وضعه الله بالسلسلة إلى الأرض السابعة)[143]

وقال : (من رفع رأسه في الدنيا قمعه الله يوم القيامة ، ومن تواضع في الدنيا بعث الله إليه ملكا يوم القيامة فانتشطه من بين الجمع فقال : أيها العبد الصالح ، يقول الله - عز وجل - : إلي فإنك ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)[144]

ومن ذلك أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض، ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض .. لقد وردت النصوص الكثيرة تقرر ذلك، وتربي عليه قلوب المؤمنين:

قال r : ( لا يدخل الجنة نمام[145])[146]

ومر r بقبرين يعذبان، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ـ أي أمر شاق عليهما لو فعلاه ـ بلى إنه كبير ـ أي من كبائر الذنوب ـ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله)[147]

وقال : (النميمة والشتيمة والحمية في النار)[148]

وقال : ( النميمة والحقد في النار .. لا يجتمعان في قلب مسلم) [149] 

وقال : (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه)، ثم تلا رسول الله r قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ (الأحزاب:58)[150]

وقال : (خيار عباد الله الذين إذا رءوا ذكر الله ، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العنت)[151]

وقال : ( الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون للبرآء العيب يحشرهم الله في وجوه الكلاب)[152]

وقال : ( إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة ، الملتمسون للبرآء العيب)[153]

وقال : ( ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا بلى إن شئت يا رسول الله ، قال : شراركم الذي ينزل وحده ، ويجلد عبده ، ويمنع رفده ، أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله ، قال : من يبغض الناس ويبغضونه.. قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله ، قال : الذين لا يقيلون عثرة ، ولا يقبلون معذرة ، ولا يغفرون ذنبا .. قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ، قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)[154]

وقال : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)[155]

التكافل:

قلنا: فحدثنا عن ثانيها .. ذلك الذي سميته التكافل[156].

قال: التكافل هو إعانة الأخ لأخيه إعانة تخرجه من العوز إلى الغنى.. وهو ركن أساسي لأن حياة الإنسان لا تقوم إلا بحياة هذا الجسد وصحته، وتوفر ما يلزمه وما يقتضيه بقاؤه، وذلك كله يقتضي توفر ما يلزم من قوت ومأوى ونحو ذلك.

وهذا الواجب لا يتحقق إلا بتوفر التربية التي تشعر الفرد بمسؤوليته على الجماعة..

ويشير إلى هذ من القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر:9)

ففي هذه الآية إخبار عن الإيثار الذي تحلى به الأنصار لما قدم المهاجرون إليهم، بعد أن تركوا في بلادهم كل ما يلزم لنفقتهم، فوجدوا لهم إخوانا لهم اقتسموا معهم زادهم، بل آثروهم على أنفسهم.

وقد حفظت لنا كتب الحديث بعض ما فعله الأنصار مع المهاجرين، فعن أنَس t قال: قال المهاجرون:( يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال r:( لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم)[157]

وظلوا هكذا حتى بعد أن فتح الله على المؤمنين، وقد روي أن النبي r دعا الأنصار أن يقطع لهم البحرين، فقالوا:( لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها)، قال:( إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة)[158]

بل روي أكثر من ذلك، فعن أبي هريرة t قال: قالت الأنصار:( اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل)، فقال:( لا)، فقالوا:( أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟)  قالوا:( سمعنا وأطعنا)[159]

بل روي أكثر من ذلك، فقد كان الأنصار من حرصهم على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين أنه ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.

وكان المهاجرون في قمة الاستغناء، كما كان إخوانهم الأنصار فيقم البذل، فقد روي أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله r بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن:( إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها)، فقال عبد الرحمن:( بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟؟)

فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدُوَ..ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي r:( مَهْيَمْ؟)، قال:( تزوجتُ)، قال:( كم سقتَ إليها)، قال:( نواة من ذهب!)[160]

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة أخرى جميلة، فقال تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (الانسان:8 ـ 9)

ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤلاء المحاويج من المؤمنين غيرهم بالطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه، ثم هم لا يطلبون على ذلك جزاء ولا شكورا.

التناصر:

قلنا: فحدثنا عن ثالثها .. ذلك الذي سميته التناصر.

قال: التناصر هو نصرة الأخ لأخيه في مواقف الشدة والحاجة، لأن الأمن ركن أساسي في الحياة لا يقل عن ركن الغذاء، ولذلك جمع الله تعالى بينهما في قوله :﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (النحل:112)، وقال تعالى في ذكر نعمه على قريش:﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (قريش:4)

لأن أسباب الهلاك لا تصيب الإنسان من جهة الجوع وحده، بل تصيبه أيضا من الأعداء الذين يتربصون به، بل إن هذا الجانب أكثر ضررا بالإنسان من جانب الجوع.

وقد أشار إلى هذا الركن قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ   (لأنفال:72)

ففي هذه الآية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا، فلا يصح أن ينعم المسلم بالأمن في الوقت الذي يصاب إخوانه بكل أنواع البلاء.

وقد قال r وهو يحض على رعاية هذا الركن:( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)، وقال r:(  انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالما؟)، قال:( تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)[161]

ولأجل تحقيق هذا الركن شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، قال تعالى في تبرير الأمر بالجهاد مع كونه إزهاقا للأرواح التي جاءت الشريعة لحفظها:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً( (النساء:75)

وقد ورد هذا التبرير في مواضع مختلفة، وكلها تنطلق من أن الغرض من القتال في الإسلام ليس المقصود منه التوسع ولا الاستعمار والسيطرة، وإنما المقصد منه نصرة المستضعفين، قال تعالى:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( (الحج:39)، وقال تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190)، وقالتعالى:﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( (البقرة:217)

التناصح:

قلنا: فحدثنا عن رابعها .. ذلك الذي سميته التناصح.

قال: هذا ركن من الأركان الأساسية التي يقوم عليها بنيان المجتمع في الإسلام .. وهو أساسي لأن الإنسان ليس جسدا فقط يحتاج إلى غذاء قد يكفي أمره التكافل، أو حماية قد يكفي أمرها التناصر، ولكنه روح وعقل يحتاج إلى تعليم وتوجيه وتربية ونصح، وكل ذلك يستدعي وجود هذا الركن.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الركن في قوله تعالى:﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( (البلد:17)، وقالتعالى:﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر:3)

وإلى هذا الركن الإشارة بقول لقمان u في وصيته لابنه:﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (لقمان:17)

وقد اعتبر القرآن الكريم هذا الركن خاصة من خصائص هذه الأمة، فقال تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: من الآية110)

واعتبر أداء هذا الركن من علامات المؤمنين الصادقين، فقال تعالى:﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (آل عمران:114)، وقال تعالى:﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة:71)، وقال تعالى:﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (التوبة:112)

بل اعتبره من صفات الرسول r الأساسية، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف:157)

واعتبره بعد ذلك من علامات صحة التمكين في الأرض، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج:41)

وقد اعتبر r هذا التناصح ركنا من أركان الدين، فقال r:( الدين النصيحة) ثلاثا، قلنا لمن؟ قال:( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[162]، فقد اعتبر r الدين نصيحة، ثم عد من النصيحة النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.

وقد ورد في الإسلام الآداب الكثيرة التي تجمع بين الألفة والنصيحة .. فلا يحصل الصراع بينهما، ومن ذلك أن تكون النصيحة في سر لا يطلع عليه أحد، لأن ما كان على الملأ فهو توبـيخ وفضيحة وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة، قال الشافعي:( من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه)، وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني فيما بـيني وبـينه فنعم وإن قرّ عني بـين الملأ فلا.

قال الغزالي:( فالفرق بـين التوبـيخ والنصيحة بالإِسرار والإِعلان كما أن الفرق بـين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإِغضاء. فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإِغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن)[163]

4 ـ التعليم

قال رجل منا: حدثتنا عن النظام الاجتماعي .. فحدثنا عن النظام التعليمي ..

قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام تعليمي)

قال آخر: بلى .. هناك نظام تعليمي .. وهو نظام تقليدي .. يعتمد على تحفيظ المعارف الدينية.

قال آخر: نعم .. نعم .. لقد عرفته .. إن دوره هو تكوين الفقهاء المتزمتين والقضاة الجائرين ..

قاطعهم الحسين، وقال: اصبروا .. ما بالكم تسارعون للشبهات .. إن الحقائق التي نطقت بها كل الأدلة تبين أن النظام التعليمي الذي جاء به الإسلام من أول يوم كان أكمل نظام وأعدل نظام وأحق نظام[164] ..

لقد عبر القرآن الكريم في أول الآيات نزولا عن أركان هذا النظام، فقال :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾ (العلق)

إن هذه الآية الكريمة تلخص المنهج الذي قام عليه النظام التعليمي الإسلامي .. فقد قام على ربط المعارف والعلوم المتنوعة بالله وبالنظام الذي رضيه الله لعباده.

قال رجل منا: وما علاقة العلوم بالله، وبالنظام الذي وضعه الله.

قال الحسين: إن العلوم التي تنشأ بعيدة عن الله وعن النظام الذي اختاره الله لعباده تنشأ ممتلئة بالمحق .. فلذلك لن تنتج إلا الهلاك والدمار.. ولعلكم رأيتم ما أثمرته العلوم في عصرنا من أنواع الدمار.

قال الرجل: ورأينا ما أثمرته من أنوع البناء والعمران.

قال الحسين: إن البناء الذي بنته هذه الحضارة الزائفة يمكن أن تخربه في أي لحظة .. فهي تمتلك من أنواع الجنون ما يقضي على كل ما بنته.

قال الرجل: فكلامك هذا لا يعني إلا أن الإسلام لا يتبنى في نظامه التعليمي ما تبنته هذه الحضارة من الاهتمام بالعمران والصناعات ..

قال الحسين: لا .. هو يتبنى كل ذلك .. بل هو يدعو إلى كل ذلك .. ولكنه يربطه بالله .. ويربطه بالأخلاق والقيم الرفيعة .. فالعلم الذي لا يربطك بالله، ولا يجعلك نافعا لعباد الله لا بركة فيه.

ولهذا نرى في النصوص المقدسة تقييد العلم المبارك بالنافع .. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)

فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية.. كتلك الحقائق التي توصل إليها علماء عصرنا.. وقد كانت تلك العلوم تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض.. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها.. فالعلم وحده إن لم يصحبه التوجيه الأخلاقي سيكون وبالا على أصحابه..

ولهذا فإن النظام التعليمي الإسلام ارتبط بالأخلاق وقيد العلم بها .. واعتبر انتفاع صاحبها بعلومه منوطا بمدى أخلاقيتها ومدى صدقه في تلقيها وفي تبليغها:

فالرسول r كان يقول في دعائه:( اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع)[165]

وكان يقول r:( كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به)[166] وفي رواية مرفوعا:( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)

وأخبر r أنه «  يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه[167] فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه)[168]،

 وضرب r للذي لا يعمل بعلمه مثلا، فقال:(  مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها)[169]

قال الرجل: ولكن لم حصر الإسلام العلوم في العلوم الدينية؟

ابتسم الحسين، وقال: لأن كل العلوم في الإسلام علوم دينية .. فالمسلم وهو يدرس الكون يتعرف من خلاله على المكون .. وعندما يبحث في الكون عن الأدوات التي تيسر عليه الحياة يبحث في الحقيقة عن فضل الله الذي خبأه له في مكوناته.

ولذلك فإن المسلم لا ينحجب بالعلم عن الله .. بل يزداد له معرفة .. ويزداد به اتصالا.

 

 

 

 

5 ـ الحسبة

قال رجل منا: فحدثنا عن نظام الحسبة[170] في الإسلام ..

قال آخر: نظام الحسبة! .. ما نظام الحسبة؟

قال آخر: لقد سمعت به .. إنه لا يختلف كثيرا عن نظام الشرطة عندنا ..

قال آخر: ليته كان كذلك .. لقد سمعت أنه نظام ليس له من قصد إلا التدخل في شؤون الناس الداخلية.

قال آخر: فهو نظام قمع إذن.

قال آخر: أجل .. لقد سمعت بأن المستبدين أنشأوه ليضربوا الرعية بعضها ببعض.

بعد أن ألقى أصحابي المساجين ما عندهم من الشبهات قام الحسين، وقال: مهلا .. مهلا .. فلا ينبغي أن نتحدث في شيء لم نؤت علمه.

قال رجل منا: فعلمنا علمه.

قال: نظام الحسبة نظام لم ينشئه المستبدون ولا الظلمة .. بل هو نظام أنشأه رسول الله r .. أنشأه بأمر من الله تعالى ليحفظ للمجتمع الإسلامي صفاءه وطهارته ونقاءه ..

لقد نص القرآن الكريم على هذا النظام في قوله تعالى ـ وهو يدعو الأمة المسلمة إلى أن تتخذ منها طائفة صالحة لا هم لها إلا أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ـ :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (آل عمران:104) .. فهذه الآية الكريمة ر ..

ونص عليه، وهو يعدد أوصاف المسلمين الأساسية، قال تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة:71)

ونص عليه، وهو يبين مصدر خيرية هذه الأمة ورساليتها، قال تعالى:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)

ونص عليه، وهو يبين شروط التمكين، وصفات الممكن لهم، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)

ونص عليه بعد ذلك، وهو يبين أسرار الانحطاط الذي وقعت فيه المجتمعات والأمم، قال تعالى :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ﴾ (المائدة) .. فاللعنة التي حصلت لبني إسرائيل لا تعني الجانب الغيبي فقط .. بل لها حظ كبير في عالم الشهادة ..

وبعد ذلك كله .. وتحقيقا لأمر الله تعالى .. جاءت الأوامر الكثيرة من رسول الله r تأمر الأمة بأن تتحمل مسؤولية إصلاح كل خلل يقع فيها:

ففي الحديث قال رسول الله r : ( ما من رجل ينعش بلسانه حقا، فعمل به بعده إلا جرى عليه أجره إلى يوم القيامة ، ثم وفاه ثوابه يوم القيامة)[171]

وقال r :( الجهاد أربع : الامر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، والصدق في مواطن الصبر ، وشنآن الفاسق)[172]

وقال:( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ، حتى تكون العامة تستطيع تغير على الخاصة ، فإذا لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة)[173]

وقال:( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه)[174]

وقال:( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)[175]

وقال:( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فان لم يستطع فبلسانه ، فان لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الايمان)[176]

وقال:( والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم)[177]

وقال:( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فانه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ، ذلك ان يكون اكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعظكم على بعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم)[178]

وقال:( ما من نبي بعث الله في أمة من قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقدون بأمره ، ثم إنها تخلف منهم من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يأمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل)[179]

وقال:( مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقال الذين في أعلاها لا ندعهم يصعدون فيؤذونا ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فان يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)[180]

وقال:( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله تعالى فيه مقال ، فلا يقول : يا رب خشيت الناس ، فيقول : فاياي كنت أحق أن تخشى)[181]

وقال:( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله ثم لا يغيروه إلا عمهم الله منه بعقاب)[182]

وقال:( إذا عملت الخطيئة في الارض ، كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)[183]

وقال:( من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها فكأنما حضرها)[184]

وقال:( إذا خفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها ، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة)[185]

وقال:( إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم فقد تودع منهم)[186]

وقال:( إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يسأله : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس)[187]

وقال:( إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)[188]

وقال:( إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضيف حقه من القوي وهو غير متعتع)[189]

وقال:( إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه)[190]

وقال:( لا يقدس الله أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم)[191]

وقال:( إن أحدكم مرآة أخيه ، فإذا رأي به أذى فليمطه عنه)[192]

وقال:( إن من أمتي قوما يعطون مثل أجور أولهم ، ينكرون المنكر)[193]

وقال:( الآمر بالمعروف كفاعله)[194]

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تمتلئ بها دواوين الإسلام ..

لقد نشرت هذه النصوص المقدسة في المسلمين وعيا عاما بضرورة الإصلاح وضرورة التعاون مع المصلحين..

وكان هذا الوعي هو المقدمة والأساس الذي انبنى عليه بعد ذلك كله ذلك النظام الذي تعارف الناس على تسميته (نظام الحسبة)

قال رجل منا: لم اختاروا له هذا الاسم؟

قال: لقد لاحظ الفقهاء الذين اختاروا هذه التسمية عدة معان .. كلها لها علاقة بهذه الوظيفة الخطيرة من وظائف الدين:

أما أولها، وأهمها[195]، فهو أن المحتسب يعتبر نفسه موظفا عند الله تعالى، فلذلك هو لا ينتظر أجره إلا من الله تعالى.

وأما ثانيها، فهو الكفاية[196]، والمحتسب لا يعتمد في كل أعماله إلا على الله تعالى وحده لا شريك له.

وأما ثالثها، فهو الإنكار[197]، والمحتسب إنسان صاحب موقف، فلهذا تجده لا يرضى عن أي منكر يراه مفعولا، أو أي معروف يراه متروكا.

وأما رابعها، فهو التدبير[198].. والمحتسب يقوم بتدبير خاص، وهو تدبير تطبيق ما تقتضيه العدالة والحقيقة والسلام، ليصبح طابع المجتمع الذي يعيش فيه.

وأما خامسها، فهو الاختبار[199].. والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها، ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التحري والنظر في المآلات.

قال رجل منا: دعنا من الأسماء .. وحدثنا عن المسمى ..

قال: عن أي شيء تريدون أن أحدثكم؟

قلنا: حدثنا عن مدى واقعية هذا النظام أولا .. هل تحقق هذا النظام في أي فترة من فترات التاريخ الإسلامي .. أم أنه ظل مجرد في دفاتر الفقهاء؟

قال: بل كان واقعا ملموسا في جميع فترات التاريخ الإسلامي ابتداء من عهد رسول الله r إلى يومنا هذا:

ففي عهد رسول الله r كان رسول الله r هو المثل الأعلى للمحتسب الذي لا يتوانى في الإصلاح ما أطاق[200]، وقد روي أنه مر مرة على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال منكرا عليه: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال r : ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غشنا فليس منا)[201]

وبعد فتح مكة استعمل الرسول r سعد بن العاص على سوق مكة .. واستعمل عمر بن الخطاب على سوق المدينة ..

واستمرَّ هذا الأمر معمولاً به في عهد الخلفاء الراشدين حتى إن عمر كان يتجول في الأسواق ويضرب على أيدي المارقين على النظام والمغتصبين لحقوق الأبرياء.

واستمرت الحسبة بعدهم في جميع العصور الإسلامية ..

قال رجل منا: كيف تقول ذلك .. وقد بلي المسلمون في فترات كثيرة من تاريخهم بحكام مستبدين ظلمة.

قال: لقد استطاع نظام الحسبة وغيره من الأنظمة التي جاء بها الإسلام أن تخفف من غلواء المستبدين .. فجعلهم استبدادهم محصورا محدودا لا يمتد لما يمتد إليه استبداد الدولة المعاصرة.

سأضرب لكم أمثلة عن المحتسبين وأدوارهم التي كانوا يقومون بها في جميع الحواظر الإسلامية في جميع الفترات التي كان الإسلام هو الحكم الفصل فيها:

لقد ذكر المؤرخون أنه كان للمحتسب معاونون من أهل الحرف والصناعات المختلفة، وكان يتخذ رسلاً وغلمانًا وأعوانًا بين يديه بقدر الحاجة، ويشترط فيهم الفقه والصيانة والنهضة والشهامة، وكان يؤدبهم ويهذبهم ويعرفهم كيف يتصرفون بين يديه، وكيف يخرجون في طلب الغرماء، وكان يعين لكل طائفةٍ من الصناع عريفًا.. وكان هذا العريف مشهود له بالثقة والأمانة، ويشترط فيه أن يكون على درايةٍ تامة بأمور الحرفة التي يشرف عليها، وكانت وظيفته تتمثل في إطلاع المحتسب على أخبار أهل صنعته ويدله على مواضع الغش والتدليس الذي يلجأ إليه أحيانًا أصحاب الحرفة، كما كان للمحتسب نوابًا في سائر المدن والأقاليم التابعة له يتولون أعمال الحسبة فيها، وكان له سلطة تنفيذية مفوضة، وهو ما عرف بالتعذير، كالردع بالقضاء والتوبيخ بالقول أو الضرب بالسوط أو الدرة والتشهير أو التجريس بأن يلبس المشهر به طرطورًا منقوشًا بالخرق الملونة، ومكبلاً بالودع والأجراس، وكان يُطاف به في الشوارع وهو راكبًا جملاً ويدق الجرس وهو يقول:( قد كذبت وها أنا أُعاقب، وكل من يقول الكذب فجزاؤه العقاب)

وذكروا أن عمل المحتسب الأساسي كان هو الإشراف على السلع المعروضة في الأسواق، والنظر في الموازين والمكاييل وصحتها ونسبها ومراقبة الأسعار، ومراقبة طوائف أصحاب الحرف على اختلافهم، كما تضمَّنت الحسبة كل ما يتعلق بالمعنى الديني والأخلاقي، كصلاة الجمعة والمحافظة على صلاة الجماعة، وأداء الزكاة وردع أهل البدع، والمحافظة على الأخلاق العامة، والمنع من المضايقة في الطرقات كمنع تعرض الرجال للنساء، ومراقبة الخانات وشاربي الخمر وتبرج النساء والدعارة، ومن اختصاصه أيضًا ما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وفي المكاييل والموازين، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة.

ووذكروا أن وظيفة المحتسب ارتبطت بالسلطة القضائية لدرجة أنه كان يتولى أمرهما أحيانًا شخص واحد، وكان عمل المحتسب يلزمه السرعة في الإنجاز والبت في المخالفات التي تتعلق بالآداب العامة والأسواق والمعاملات التجارية وآداب الطريق، حتى لا تتوقف مصالح الناس وتضيع أمورهم ويتعطل سير الأعمال العامة، وكان ينبغي عليه أن يكون ملازمًا للأسواق يركب إليها في كل وقتٍ ويدور على السوقة والباعة ويكشف الدكاكين والطرقات ويتفقد الموازين والأرطال ويتفقد معايشهم وأطعمتهم وما يغشونه ويفعل ذلك في النهار والليل وفي أوقات مختلفة؛ وذلك على غفلةٍ منهم، ويختم في الليل حوانيت من لا يتمكن من الكشف عليها بالنهار، ويكون معه أمين عارف يعتمد على قوله، ومع ذلك فكان لا يعتمد إلا على ما يظهر له ويباشره بنفسه ولا يهمل كشف الأسواق.

وذكروا أنه كان للمحتسب للإشراف الدائم على الأسواق بمراقبة الأفران وباعة الحليب وشوائي السمك والجزارين وغيرهم، كما كان يقوم إبعاد الأسواق التي يُباع فيها العطارة مثلاً عن الأسواق التي يستخدم فيها نار بكثرة حتى لا تفسد العطارة، كما كان يقوم بمراقبة عملية البيع والشراء داخلها لضبط الحياة التجارية ومنع التجار من التلاعب بالأسعار ضمانًا لحفظ الأمن وحماية السوق من كل أشكال العبث والفوضى والتكتل الذي يُراد به إرغام المشتري على الشراء بالسعر المفروض.

وذكروا أن المحتسب كان يقوم بمراقبة أصحاب المهن مهما كان نوع المهنة، وأنه كان يستخدم أساليب بارعة في كشف طرق الغش التي يلجأ بعض أصحاب المتاجر والصناعات إليها، وكان المحتسب يقر المعلم والطبيب والمهندس، كل منهم في عمله، إذا حسنت طريقته، ويمنع إذا قصَّر أو أساء، ويعاقب التجار المخالفين، ومَن أهم أدواره في ضبط حركة الأسواق.

وذكروا أن المحتسب كان يراقب الموازين والمكاييل والأذرع حتى لا تضر بالمشتري، كما كان يأمر أصحاب الموازين بمسحها وتنظيفها من الأدهان والأوساخ في كل ساعةٍ فإنها ربما تحمل شيئًا في ثقبها فيضر بها، وربما يجمد فيها قطرًا من الدهن فيظهر في الوزن؛ كما كان يجدد النظر في المكاييل ويراعي ما يطففون به المكاييل، فللتجار حيل يحصل بها التطفيف، فكان المحتسب يدس صبيا ليشتري من التاجر الذي يشك في ميزانه أو مكياله ثم يختبر الوزن، فإن وجد نقصًا قاس على ذلك حاله مع الناس وإن لم يتب بعد الضرب والتجريس نُفي من البلد.

وكان المحتسب ومعاونوه يقومون على تنظيم أسواق الحبوب والسيطرة على الأسعار في أوقات الأزمات، فكان يحرم على العلافين والطحانين احتكار الغلة، أو خلط رديء الغلة بجيدها ولا قديمها بجديدها، وإذا دعت الحاجة إلى غسل الغلة جففت بعد غسلها تجفيفًا بليغًا ثم بيعت منفردة، وكان يلزم الطحانين بغربلة الغلة من التراب وتنقيتها من الطين وتنظيفها من الغبار قبل طحنها، وكان يراقب مناخل الدقيق في كل ثلاثة أشهر أو أقل ويختبر الدقيق فإنهم ربما خلطوا فيه دقيق الحمص أو الفول حتى يزيده زهره وهذا غش.

كما كان المحتسب يراقب أصحاب السفن والمراكب ويمنع أربابها من تحميلها فوق العادة؛ خوفًا من غرقها، وكذلك يمنعهم من السير في هبوب الرياح واشتدادها وإذا حملوا معهم الرجال والنساء حجزوا بينهم بحائل، وإذا اتسعت السفن نُصب للنساء مخارج للبراز لئلا يتبرجن عند الحاجة.

وكان المحتسب يلزم القائمين على صناعة الخبز بمراعاة النظافة العامة، وإذا ما عثُر المحتسب على خبزٍ ناقص الوزن أو لطيف الصنعة قليل الطبخ أو به اعوجاج أو أثر حرق أو غير ذلك من أوجه الفساد، كان يأمر بالخبز أن يُكسَر ويقوم برمي الشيء الفاسد، وكان المحتسب يمنع الخبازين أن يغشوا الخبز بالكركم والزعفران وما يجري مجراهما فإنهما يوردان وجه الخبز ومنهم مَن يغشه بالحمص والفول، ويلزمهم ألا يخبزوه حتى يخمر لأن الفطير يثقل في الميزان والمَعِدة، وألا يخرجوا من بيت النار حتى ينضج نضجًا جيدًا، وأن ينشر على وجهه الكمون الأبيض والكمون الأسود والسمسم والينسون، وكان يأمر كل صاحب مخبز أن يصنع لنفسه ختم ينقش فيه اسمه ويطبع على خبزه ليتميز خبز كل واحد بطابعه حتى يستطيع المحتسب أن يُقيم الحجةَ على الفاسد منهم.

وكان يلزم القائمين على صناعة الخبز بغسل معاجنهم كل يومٍ وألا يعملوا قبل الفجر لما في هذا الوقت من قلةِ التحفظ لحدثان القيام من النوم وعليهم الاغتسال في أكثر الأوقات وغسل رؤوسهم ولاسيما في فصل الصيف، وكذلك أواني مائهم، كما يأمرهم المحتسب أن لا يعجن العجان بقدميه ولا بركبته ولا بمرفقيه لأنه ربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه وبدنه، ولا يعجن إلا وعليه عباءة ضيقة الأكمام، ويكون مُلثمًا أيضًا لأنه ربما عطس، أو تكلمَّ فقطَّر شيئًا من بُصاقه أو مخاطه في العجين، ويشد لئلا يسقط منه شيء في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان معه مذبة يطرد عنه الذباب، كذلك فقد حذَّر المحتسب من استخدام المياه المالحة أثناء عجن الدقيق لأن هذه المياه تجعل الخبز ذا مرارة، أما الماء الصالح  للعجين فهو الماء العذب.

كما كان المحتسب يتفقد الأفران آخر النهار ولا يُمكِّن أحدًا من صُناع الخبز من المبيت في ملابس العجين، ولا مكان فرش العجين، ويأمرهم بنشرها على الحبال بعد نفضها وغسلها في كل وقت، كما يأمرهم بكنس بيت النار ومسحه من الداخل بخرقةٍ نظيفةٍ، وخاصة في الأفران التي كان أصحابها يستخدمونها لشواء أنواع الأسماك المختلفة إلى جانب استخدامها في الخبز، كما كان يأمر القائمين على صناعة الخبز بتفريغ الماء المتبقي في الأواني بعد العجن؛ لأنه لو بقي تغيرت رائحته ثم يغسلها من الغد، كما يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم ويجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان وإصلاح المداخن ولم يقتصر دوره الرقابي على الأفران العامة بل كان يراقب الأفران بالمنازل.

ومن أدوار المحتسب الرقابية مراقبة الجزارين وعدم تمكينهم من الذبح أمام دكاكينهم حتى لا يؤذوا المارة، ولكن إذا كانت دكاكينهم متسعة فيمكنهم من الذبح بداخلها، وإن لم يتوفر ذلك فعليهم الذبح في المجازر خارج البلد ثم تنقل إلى دكاكينهم بعد عرضها عليه، ليفحصها ويُسلَّم بطاقة مكتوبًا عليها السعر الذي يجب أن يُباع به اللحم ويلزم الجزار أن يلصق هذه البطاقة على اللحم بحيث يتمكَّن الجميع من رؤيتها وقراءتها، وكان يحذر عليهم ذبح البهائم المريضة، وإذا تغيَّر لون اللحم ألا يبيعونه مع اللحم الجديد، كما يلزمهم المحتسب بعدم ذبح البهائم الجربة حتى تُعالج مما أصابها والحوامل، وعليهم ألا ينفخوا ذبيحتهم عند سلخها لئلا ينفخ فيها من به بخر فيتغير طيب اللحم، وعلى الجزارين إذا فرغوا من البيع أن يأخذوا ملحًا مسحوقًا وينثر على القرمة التي يُقطَّع اللحم عليها لئلا يدود في زمن الحر ويأمره بأن يغطيها ببرش وفوقه أبلوحة فارغة مثقلة بالحجارة لئلا يلحسها الكلاب أو يدب عليها شيء من هوام الأرض (مثل الحيات وكل ذي سم يقتل) أو الحشرات، وكان المحتسب إذا شكَّ في الحيوان هل هو ميتة أو مذبوح كان يختبره بالماء فإن طفح فهو ميتة وإن رسب فهو حلال، وكذلك يختبر البيض والعصافير.

وكان المحتسب يأمر الطباخين بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوام الأرض بعد غسلها بالماء الحار، كما يلزم اللبانين بتغطية أوانيهم أيضًا، وأن يكون المكان مبيضًا مبلطًا، وأن يجعل ليفة في فم المحلب حتى يمنع الوسخ ويلزمهم في كل يوم بغسل المواعين بالليف الجديد والماء النظيف لئلا يسارع إليه الفساد في زمن الحر، ولا يستعمل إلا اللبن الحليب الدسم بخيره، ولا يكون مكشوطًا، فإنه لا طعم له.

وكان المحتسب يخوف الصيادلة وينذرهم بالعقوبة والتعذير، ويشرف عقاقيرهم، وكان يشترط عليهم ألا يطبخوا الأشربة إلا من السكر الطيب النقي ، وأن يقرر عليهم ما هو دستور الطب، كما يحذر الصيادلة وخاصة الذين يفترشون في الرحاب وأفواه الطرق ومجتمعات العوام والأسواق من أن يخلطوا عقارًا بعقار إلا بوجود الأمين عليهم فيذهبون إليه وكل دواء على انفراد فيخلطونه أمامه، ويحلفهم ألا يزيدونه بغيره وألا يعجنوه إلا بالعسل الطيب، كما يتفقد الأشربة عليهم، كما كان المحتسب لا يُمكِّن أحدًا من بيع العقاقير وأصناف العطر إلا من له خبرة ومعرفة وتجربة، ومع ذلك يكون ثقةً أمينًا في دينه وعنده خوف من ربه، فإن العقاقير إنما تشترى من العطارين مفردة ثم تركب غالبًا لأنه قد يشتري الجاهل عقارًا معتمدًا على أنه الدواء الذي يريده، ثم يشتريه منه جاهل آخر فيستعمله في الدواء متيقنًا منفعته، فيحدث له عكس مطلوبه ويتضرر به، وهي أضر على الناس من غيرها؛ لأن العقاقير مختلفة الطبائع والأدوية على قدر أمزجتها فإذا أضيفت إليها غيرها أحرقها فحينئذ يعتبر المحتسب على العطارين ما يغشونه من العقاقير، وأدى غش الصيادلة إلى إخضاعهم في كثير من الأحيان إلى إشراف الدولة التي كانت تقوم بامتحانهم ومنح الصالح منهم تصريحًا بمزاولة المهنة ونفي الآخرين.

كما كان الأطباء في العالم الإسلامي يخضعون لرقابة الدولة، وفقًا للائحة خاصة تنظم أسلوب تعاملهم مع الناس، وكان على المحتسب مراقبة الأطباء والمعلمين لأن للطبيب إقدامًا على النفوس يفضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم، كما أن للمعلمين من الطرائق التي ينشأ عليها الصغار ويصعب نقلهم عنها بعد الكبر، فيقر المحتسب منهم من توفَّر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما يفسد به النفوس.

وبالنسبة لأطباء العيون كان المحتسب يمتحنهم بكتاب حنين بن إسحاق، فقد ألف عشرة مقالات في العين، فمَن وجده قيمًا فيما امتحنه به عارفًا بتشريح طبقات العين، وما يُصيبها من أمراض، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس، أما كحالوا الطرقات فلا يُوثق بأكثرهم إذ لا دينَ لهم، ويصدهم عن التهجم على أعين الناس ولا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة عينيه، ولا يثق بأكحالهم، فيحلفهم المحتسب ألا يغشوا في أدويتهم إذ لا يمكنه منعهم من الجلوس لمعالجة أعين الناس.

أما الجراحين فكان المحتسب يمتحنهم بكتاب جالينوس في الجراحات والمراهم، ويشترط معرفتهم بالتشريح وأعضاء الإنسان، وما فيه من العضل والعروق والشرايين والأعصاب، كما كان يمتحن الفصادين والحجامين، وهل هم يعرفون العروق المفصودة وما جاورها من العضل والشرايين أم لا.

أما المجبرون (أطباء العظام) فكان المحتسب لا يجيز لأحد منهم أن يتصدى للجبر إلا بعد أن يعرف المقالة الساسة في كتاب قوانين الجبر وأن يعلم عدد عظام الآدمي، وهي مائتا عظمة وثمانية وأربعون، وصورة كل عظم منها وشكلها وقدره حتى إذا انكسر منها شيء أو انخلع رده إلى موضعه على هيئته التي كان عليها فيمتحنهم المحتسب على ذلك.

أما .. الفلاحون .. فكان المحتسب ..

قاطعه رجل منا، وقال: دعنا من التواريخ .. وحدثنا عن الحقائق .. فلا يهمنا من طبقها أو من قصر فيها .. نحن نبحث هنا عن العدالة .. وعن وسائل تحقيقها .. ولا يهمنا التاريخ .. فالتاريخ لا يحيي فينا إلا الجدل.

ابتسم الحسين، وقال: بورك فيك .. هذا ما كنت أريد أن أقوله لك .. فالعاقل لا يشغله التاريخ عن الحقائق .. فعم تريدون أن أحدثكم.

قال الرجل: بما أن هذا النظام مرتبط بالفقهاء .. فحدثنا عما قاله الفقهاء فيه .. عن الشروط والأركان التي تعود الفقهاء أن يضبطوا بها أحاديثهم.

قال: لقد اعتبر الفقهاء لهذا النظام أربعة أركان: أما أولهما، فهو القائم بعملية الاحتساب، أو المحتسب، وأما الثاني، فالمحتسب عليه، وأما الثالث، فالمحتسب فيه، وأما الرابع، فنفس عملية الاحتساب.

المحتسب:

قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.. حدثنا عن المحتسب[202].

قال: المحتسب في الشريعة صنفان:

أما أحدهما، فيمارسها لوجه الله، متطوعا بها، لا ينال عليها أجرا، ولا يحتاج فيها إلى ترخيص.

وأما الثاني، فموظف يعهد ولي الأمر إليه بها، لما يتوسم فيه من خلال .. فهو يمارسها لذلك وظيفة كما يمارس غيره وظائفهم .. ويرتزق منها كما يرتزق غيره من الموظفين[203] .. هو لأجل ذلك له من السلطة ما ليس للمتطوع بها .. وله من الشروط ما ليس له[204].

قال رجل منا: فهو عون من أعوان القضاء إذن؟

قال: إن كان القصد من القضاء هو تحقيق العدالة والسلام .. فهما متفقان .. هما متفقان في الهدف .. وإن كانا يختلفان في الوسيلة .. فللمحتسب بعض مسؤولية القاضي[205] .. وله بعض المسؤوليات الخاصة به، والتي يقصر عنها القاضي، أو يزيد عليها[206] .

قلنا: فحدثنا عن القدرات التي تمكنه من هذه الولاية.

قال: لقد ذكر الفقهاء ست قدرات: الأهلية .. والإسلام .. والعدالة .. والإذن .. والعلم .. والقدرة.

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: أولها أن تكون له أهلية التكليف.. وهو أن يكون بالغا عاقلا[207] .. لأن غير المكلف لا يلزمه أمر .. وهذا لا يعني أنه ليس على من لم تتوفر فيه شروط التكليف أن لا يحتسب .. بل له ذلك .. ولكن لا يمكن أن يوظف في هذه الولاية الخطيرة.

ولهذا ذكر الفقهاء أنه للصبي المراهق للبلوغ المميز ـ وإن لم يكن مكلفاً ـ  إنكار المنكر، وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف، لأن هذه قربة، وهو من أهلها، كالصلاة والإمامة وسائر القربات، وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف.

قلنا: فحدثنا عن الثاني.

قال: الشرط الثاني الذي ذكره الفقهاء للمحتسب هو الإسلام .. وسبب هذا الشرط أن المحتسب قائم بنصرة للدين .. ولا يمكن أن ينصره جاحد لأصل الدين.

ومع ذلك، فإن لغير المسلم أن يحتسب فيما لا يتعلق بقضايا الدين .. كالاحتساب في قضايا الغش ونحوها[208].

قلنا: فحدثنا عن الثالث.

قال: الشرط الثالث من شروط المحتسب ـ حسبما ذكر الفقهاء ـ هو العدالة[209] .. فقد نصوا على أنه لا ينبغي أن يوظف في هذه الولاية الخطيرة إلا من كان عدلا راشد .. لما ورد في النصوص من التحذير من مخالفة الفعال للأقوال، كما قال تعالى حاكيا عن بني إسرائيل معاتبا لهم :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)﴾ (البقرة)

وقال إخبارا عن شعيب u:﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ (هود: 88)

وقال معاتبا المسلمين:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)﴾ (الصف)

وفي الحديث قال رسول الله r : ( مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)[210]

وقال: ( مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض من نار. قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟)[211]

وقال: ( يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)[212]

وقال: ( إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)[213]

ومع ذلك، فقد نص الفقهاء على أن هذا ليس على الإطلاق، فقد ورد في الحديث قوله r :( مروا الناس بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تتناهوا عنه كله)[214]

وذلك أنه لو لم يعظ الناس إلا معصوم أو محفوظ لتعطل الأمر والنهي مع كونه دعامة الدين، وقد قيل في هذا:

إذا لم يعظ الناس من هو مذنب
 

فمن يعظ العاصين بعد محمد
  

وقيل للحسن البصري : إن فلانا لا يعظ، ويقول أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن : وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.

وقد ذكر الغزالي القياس الذي يمكن أن يستدل به على اشتراط العدالة، فقال : ( وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح، زكاة عن نصاب الصلاح، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره؟ ومتى يستقيم الظل والعود أعوج؟)

ثم علق على ذلك بقوله : ( وكل ما ذكروه خيالات .. وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب، وبرهانه هو أن نقول: هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطياً معصوماً عن المعاصي كلها؟ فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع، ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم، والأنبياء ـ عليهم السلام ـ قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا)[215]

وقد ألزم مخالفي ذلك[216] إلزاما حسنا، فقال: ( من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب؟ ويقول يجب على الانتهاء والنهي، فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني؟ وإذا كان النهي واجباً علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي؟ إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب، فإذا شرب فإذا شرب سقط النهي)[217]

ولكن مع هذا، فقد ذكر أن ليس لمن لم تتوفر فيه شروط العدالة أن يحتسب بالجلوس واعظا في مجالس الوعظ والإرشاد.. فذلك مذموم فيه، لا يليق به .. قال الغزالي : (من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه، فليس عليه الحسبة بالوعظ؛ إذ لا فائدة في وعظه، فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام)

قلنا: فحدثنا عن الرابع.

قال: الشرط الرابع من شروط المحتسب ـ كما ذكر الفقهاء ـ هو الإذن .. أن يأذن الحاكم وأجهزته للمحتسب بأن يمارس احتسابه.

قال رجل منا: ما بالك ارتددت على كل ما ذكرته .. فرحت تمحوه؟

قال: ما تقول؟

قال الرجل: إذا انتظرت الرعية إذن الحاكم لها بالإصلاح .. فلن يأذن لها أبدا .. ولن يصلح حالها أبدا.

قال: هذا الشرط ليس عاما .. هذا الشرط خاص بمن يتولى هذه الوظيفة عاملا لا متطوعا .. فالعامل المتفرغ لها لابد له من رزق وحقوق لا يمكن أن يضمنها له غير الحاكم .. ولذلك كان للحاكم ولأجهزته أن تختار لهذه الوظيفة أقدر الناس عليها علما وسلوكا.

بالإضافة إلى هذا .. فإن في بعض مراتب الحسبة ـ كما سنرى ـ تدخل فيما يسميه الناس حريات شخصية، وهو تدخل قد يتخذ أحيانا طابع الشدة والحزم، وهو يقتضي ذلك .. لأن إباحة هذا النوع من الاحتساب لكل أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى ووقوع الاقتتال بين الناس بحجة الحسبة، وباشتراط الإذن تندفع هذه الأضرار فيلزم الإذن لأن دفع الضرر واجب وما يستلزمه هذا الدفع يكون مشروعا[218].

ومع هذا التوجيه المقبول فقد نص الفقهاء على جواز تغيير المنكر من المتطوع، إذا أمن الفتنة، وإن استلزم التغيير اتخاذ الأعوان واستعمال القوة ومباشرة التعزير كلما كان ذلك ضروريا ولا يحتمل التأخير حتى يتحصل الإذن.

وقد رد الغزالي على من عمموا اشترط الإذن بحجة أن في الحسبة إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، بقوله : ( إن آحاد المسلمين يستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف، إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهر ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي، وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي)[219]

واستدل لهذا بالروايات الكثيرة التي تذكر إنكار السلف الصالح من العلماء والصالحين على الحكام وغيرهم من غير حاجة إلى أي إذن[220] ..

ومن ذلك ما رواه من أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد، فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة، فقال له مروان: اترك ذلك يا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. قال لنا رسول الله r : ( من رأى منكم منكراً فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)

وقد علق الغزالي على هذا بقوله : ( فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها، فكيف يحتاج إلى إذنهم؟)

ومثل ذلك روى أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله، فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له: انظر ما تصنع؟ من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من العبد، حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه؟ وقد قال الله تعالى :﴿ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ (الحج: من الآية25) .. من جعل لك هذا؟

قلنا: فحدثنا عن الخامس.

قال: الشرط الخامس من شروط المحتسب ـ كما ذكر الفقهاء ـ هو العلم.. فلا يمكن أن يحتسب من ليس له من العلم ما يستطيع أن يعرف به المنكر فينهى عنه، ويعرف به المعروف فيأمر به حسب الموازين الشرعية.

ومع أن هذا الشرط بديهي، فقد جاء في النصوص ما يدل عليه .. ففي الحديث : (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه)[221]

قال رجل منا: إن هذا الشرط سيقلل عدد المحتسبين لا محالة.

قال: ولو .. فلا خير في محتسب جاهل .. إنه بجهله يريد أن ينفع فيضر، ويريد أن ينصح فيفضح، ويريد أن ينشر الخير .. فلا ينشر بجهله إلا الشر.

لقد أشار رسول الله r إلى ضرورة العلم في كل وظائف الدين في حديث الذي قتل مائة نفس .. أسمعتم به؟

قلنا: حدثنا به.

قال: لقد حدث رسول الله r ، فقال : (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهبٍ، فأتاه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفساً، فهل له من توبةٍ ؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجلٍ عالمٍ فقال: إنه قتل مائة نفسٍ فهل له من توبةٍ ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدميٍ فجعلوه بينهم - أي حكماً - فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)[222]

قلنا: فما العلوم التي يشترط للمحتسب أن يتعلمها؟

قال: يشترط أن يتعلم العلوم التي لها علاقة بما يحتسب فيه .. وما أيسر ذلك وما أسهله ..

قلنا: كيف؟

قال: من تعلم الوضوء يمكنه أن يحتسب، فيصحح وضوء من أخطأ .. ومن أحسن الصلاة احتسب فيها .. ومن أحسن أي حرفة يمكنه أن يحتسب فيها.

لقد ذكر الفقهاء هذا .. فذكروا أن على المحتسب المحترف أن يعرف الصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي يباشرها الناس .. لأن ذلك من صلب وظيفته .. فعمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن والحرف ليتأكد من عدم غش أصحابها واحتيالهم وإضرارهم بالناس.. ومن البديهي أن ذلك لا يتأتى للمحتسب إلا إذا كان عارفا بهذه الصنائع والحرف.

بل ذهب الفقهاء إلى أن المحتسب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية كالكحال (طبيب العيون) ليتأكد من صلاحيته لهذه المهنة، وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا الجانب من العلم، قال الفقيه عبد الرحمن بن نصر الشيزري: (وأما الكحالون فيمتحنهم المحتسب... فمن وجده فيما امتحنه عارفا بتشريح عدد طبقات العين السبعة.. وكان خبيرا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس)

كما صرح الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالأوزان ونحوها فمن أقوالهم (لما كانت هذه - أي القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم - أصول المعاملات وبها اعتبار المبيعات لزم المحتسب معرفتها وتحقيق كميتها لتقع المعاملة بها من غير غبن على الوجه الشرعي)

ويمكن للمحتسب أن يستعين في جميع هذا بذوي الخبرة بهذه الأشياء سواء كان هؤلاء الخبراء من أعوانه الدائمين أو من غيرهم، فيستشيرهم فيما يحتسب فيه من شؤون هذه المهن والحرف والصنائع ويأخذ بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاة.

قلنا: فحدثنا عن السادس.

قال: الشرط السادس من شروط المحتسب ـ كما ذكر الفقهاء ـ هو القدرة.. فالشريعة قد اعتبرت الشريعة القدرة أو الاستطاعة شرطا في أداء الكثير من الأحكام الشرعية إما بنصوص خاصة ،أو بحجج عامة، كقوله تعالى :﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا ﴾ (البقرة: من الآية286)، وقوله :﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ (الطلاق: من الآية7)، وقوله :﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ (البقرة: من الآية195) إلى التهلكة(

قال رجل منا: إن اشتراط هذا الشرط سيلغي الحسبة إلغاء تاما .. فما أسهل على الكسول أن يتذرع بذريعة العجز، ليرفع عن نفسه ثقل هذا التكليف.

قال: صدقت .. ولذلك وضع الفقهاء الضوابط التي تضبط هذا .. فقد قسموا العجز إلى ثلاثة أنواع:

أولها العجز الحسي، وهو أن تعتري المكلف آفة تمنعه عن الإصلاح باليد أو باللسان أو بالانتقال إلى محل الفساد لإصلاحه، وذلك يسقط عنه وجوب الحسبة، وعليه تفسر الآيات التي ذكرتها، ولكنه يبقى ـ مع ذلك ـ مطالبا بحسبة القلب، وهي تغيره عند رؤية المنكر ..

وأما الثاني، فهو خوف المكروه، وقد وضع له الفقهاء ضابطان .. أما أولهما، فهو طريق العلم به، وذلك إما أن يكون عن تحقق أو عن شك وتوهم، وقد اشترط الفقهاء أن يكون ناتجا عن علم أو ظن غالب، ولا يكفي فيه مجرد الشك أو التوهم .. وأما ثانيهما، فهو تحديد المكروه .. وقد ذكروا أن العبرة فيه باعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج، أما من فسد مزاجه، وخرج عن حد الاعتدال، فلا عبرة بتحديده؛ فإن (الجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه، والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه)

وأما الثالث، فهو العجز عن التأثير، وقد اعتبره الفقهاء مستدلين بأن مقصد الشارع من الأمر بالصلاح هو حصول الصلاح ؛ فإن تيقن المصلح عدم جدوى إصلاحه رخص له في السكوت.

ومراد الفقهاء بحصول المقاصد لا يعني حصولها في الحين ، فإن ذلك لا يمكن كل حين ، وقد قص الله تعالى علينا في القرآن الكريم دعوات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ و إلحاحهم مع صدود أقوامهم و تكبرهم.

وبناء على ذكر الفقهاء من اعتبار القسمين الأخيرين أربعة أحوال:

الأولى، أن يجتمع كلا القسمين، بأن يعلم أنه لا ينفع تغييره، ومع ذلك يناله مكروه، وهذا لا تجب عليه الحسبة، بل تحرم في بعض المواضع، لأنه زج بنفسه إلى التهلكة في غير مصلحة شرعية.. ومع ذلك، نص الفقهاء على أنه يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر، لأن في ذلك تكثيرا لسواد العاصين، وربما جره الحضور إلى الانغماس في المعصية، ومثل ذلك لا تجب عليه الهجرة إلى موضع آخر إلا إذا كان يرهق إلى الفساد، أو يحمل على مساعدة الظلمة من الحكام وغيرهم، وحينذاك تلزمه الهجرة إن قدر عليها، فإن الإكراه لا يكون عذرا بحق من يقدر على الهروب منه.

والثانية أن ينتفي كلا المعنيين ،بأن يعلم بأنه يمكن أن يؤثر في إزالة المنكر بقوله أو بفعله، ومع ذلك لا يناله مكروه،وهذه هي (القدرة المطلقة)، ولا عذر لصاحبها في ترك الحسبة .

والثالثة أن يعلم أنه لا يفيد بحسبته ولا يستطيع التأثير في المنكر بالإزالة، ومع ذلك لا يخاف مكروها، وهذا لا تجب عليه الحسبة لعدم جدواها،ولكنها تستحب لإظهار شعائر الإسلام،وتذكير الناس بأمر الدين.

والرابعة أن يعلم أنه يصاب بمكروه نتيجة احتسابه، ولكن المنكر يبطل بفعله، وهو بذلك متردد بين عدم الوجوب لأن المكلف هنا في حكم العاجز، وعدم الحرمة لأن حسبته قربة، وكثير من الفقهاء يرون نتيجة لذلك أنه مستحب بدليل ما ورد في فضل قول كلمة الحق عند السلطان الجائر، فهي قد لا تؤثر في إصلاح السلطان، ومع ذلك قد ينتج عنها أذية كبيرة للداعية، فكيف إذا أيقن تأثير إصلاحه ، فإن الاستحباب حينئذ يشتد.

قلنا: عرفنا شروط المحتسب، فما آدابه؟

قال: لقد ذكر الفقهاء الكثير من الآداب التي على المحتسب أن يتصف بها:

منها أن عليه أن يقصد باحتسابه وجه الله تعالى وطلب رضاه ولا يقصد بحسبته الرياء والسمعة والجاه والمنزلة عند الناس .. فالأعمال بنياتها، وقد قال تعالى يبين تأثير النية الطيبة في تحقيق المقاصد :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ﴾ (النساء:35)

وقد ورد في أخبار بني إسرائيل ما يدل على هذا، فقد حدثوا أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك! تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك! فقال: إن هذا من عبادتي، قال: إني لا أتركك أن تقطعها، فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها! فقال العابد: لا بد لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك، فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك، ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس! قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها! فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها، وما ذكره أكثر منفعة، فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال: هيهات، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك؟ فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك، وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.

ومنها أن على المحتسب أن يلزم الصبر والحلم، لأن الغالب لحوق الأذى والمضايقات بالمحتسب، فإن لم يكن صبورا حليما كان ضرره أكبر من نفعه، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وفاته ما كان مرجوا من احتسابه.

ويشير إلى هذا قوله تعالى على لسان لقمان u وهو يعظ ابنه:﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾ (لقمان)

فقد أمر ابنه بالصبر بعد أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومثل ذلك ما ورد في سورة العصر كما قال تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ (العصر)

فقد أمر الله تعالى بالتواصي بالصبر بعد أمره بالتواصي بالحق .. وكأنه يشير إلى البلاء الذي قد يعرض لمن يوصي بالحق.

ومن الآداب التي ذكرها الفقهاء .. وشددوا عليها .. أن يكون المحتسب رقيقا رفيقا في أمره ونهيه بعيدا عن الفظاظة.. وهو ما أمرت به النصوص الكثيرة .. وقد قال تعالى واصفا تأثير الرفق الذي كان عليه رسول الله r :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

ومن الآداب التي ذكروها أن على المحتسب أن يقلل علاقاته مع الناس حتى لا يكثر خوفه من انقطاعها، وأن يقطع طمعه من الخلائق حتى تزول منه معاني الملق والمداهنة، وأن لا يقبل هداياهم فضلا عن رشاواهم التي هي حرام وسحت، وأن يلزم أعوانه بما ألتزمه من الأخلاق والآداب، فإذا علم أن أحدا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع معه التحذير.

المحتسب عليه:

قلنا: حدثتنا عن الركن الأول .. فحدثنا عن الركن الثاني.. حدثنا عن المحتسب عليه[223].

قال: كما نص الفقهاء على عمومية المحتسبين، فقد نصوا على عمومية من يحتسب عليهم .. وذلك بناء على أن النصوص المقدسة عبرت عن الحسبة بكونها نهيا عن المنكر، وأمرا بالمعروف .. فالمنكر هو المنهى عنه حتى لو وقع من غير مكلف .. ولهذا فإن الشرط الوحيد الذي ذكره الفقهاء للمحتسب عليهم هو مجرد الإنسانية، قال الغزالي معبرا عن ذلك : ( وشرطه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً[224]، ولا يشترط كونه مكلفاً، إذ أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ)

وليس الغرض من ذلك هو صفاء صورة المجتمع الإسلامي الظاهرة فقط، وإنما الغرض منه تربية المجتمع الإسلامي بجميع أفراده على الغيرة من أن تنتهك محارم الله فيه حتى ولو كان ذلك من صبي لم يكلف، أو مجنون لا يعقل، يقول الغزالي:( وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس، بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه)، وفي هذا الإنكار احترام لإنسانية  الصبي والمجنون، وصيانة له من التدنس بالمعصية ،ولو لم يكن مكلفا.

وما دام الشرط الوحيد للمحتسب عليه هو (الإنسانية)، فإن الإصلاح الذي يمارسه المحتسب يشمل كل أفراد المجتمع بدءا بالأقارب وانتهاء بأعلى جهاز في الدولة، يقول الغزالي مبينا شمولية الإصلاح في هذا الجانب:( فتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد، والعبد على المولى، والزوجة على الزوج، والتلميذ على الأستاذ، والرعية على الوالي كما تثبت للوالد على الولد، والسيد على العبد، والزوج على الزوجة، والأستاذ على التلميذ، والسلطان على الرعية)

والفرق الوحيد بين حسبة الأدنى على الأعلى، وحسبة الأعلى على الأدنى هو في مراعاة مراتب النهي، حفظا للحرمات، وإعطاء للولايات الشرعية حقها من الاحترام:

فللولد أن ينكر على والده، ولكن في المرتبتين الأوليين فقط:التعريف، ثم النصح باللطف، وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد أو بمباشرة الضرب.

ونفس الأمر ينطبق على الزوجة مع زوجها، وذلك لأن مقصد الشارع هو حفظ قيام بناء المجتمع على ما هو عليه، فإذا ما أدى إنكار المنكر أو الأمر بالمعروف إلى تهد يم هذا البناء وجب السكوت؛ لأن المضرة المنجرة عن الإنكار أكبر من المصلحة المتوقعة منه.

والأمر بالنسبة للولاة أشد، فليس للرعية معهم إلا التعريف والنصح، وقد برر الغزالي ذلك بقوله : (فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر، من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته، وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر، فقد تعارض فيه محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه، وذلك مما لا يمكن ضبطه.. وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف، لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه، وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال: يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه)

وقد نص الفقهاء هنا على أمرين مهمين لا تتم الحسبة بصورتها الشرعية الكاملة إلا بتحققهما:

أما أولهما، فهو وجوب التنقل للمخاطبين، فالمحتسب ليس مدرسا ينتظر مجيء تلاميذه، وإنما هو داعية يبحث عن مجال لدعوته وإصلاحه، يقول الغزالي:( اعلم أن كل قاعد في بيته - أينما كان - فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي؟ ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق، وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه - فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين.. أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم.

وكل عامي عرف شوط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم. ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق: لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله r، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء. وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. وكذا كل من تيقن أن في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت، بل يلزمه الخروج، فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه، وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السواد المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه وبغيره فيعلمه فرضه، وهذا الشغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه)[225]

وأما الثاني، فهو انتهاج الأساليب المناسبة لكل صنف من الناس، وذلك لأن البشر مختلفو المشارب والتصورات، ومختلفو الطبائع والعادات، ولا يمكن أن يخاطبوا خطابا واحدا، ولهذا يراعي المحتسب مخاطبة كل صنف بما يصلح له.

المحتسب فيه:

قلنا: حدثتنا عن الركن الثاني .. فحدثنا عن الركن الثالث.. حدثنا عن المحتسب فيه.

قال: لقد ذكر الفقهاء للمحتسب فيه أربعة شروط: هي كونه منكرا .. موجودا في الحال .. ظاهرا للمحتسب بغير تجسس .. معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد.

قلنا: فحدثنا عن الشرط الأول.

قال: الشرط الأول أن يكون المحتسب فيه منكرا[226]قد أتي، أو معروفا[227] قد ترك.. وقد عبر الله عن الجامع لذلك بكونه خيرا، فقال :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (آل عمران:104) فالخير يشمل كلّ شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة .. ويندرج تحته التّرغيب في فعل ما ينبغي، وهو الأمر بالمعروف.. ويندرج تحته التّرغيب في ترك ما لا ينبغي، وهو النّهي عن المنكر.

قال رجل منا: فحدثنا عن المعروفات والمنكرات .. فلا يمكن أن نعرف دور المحتسب إلا من خلال معرفتها.

قال: المعروفات في عرف الشرع هي ما أمر الله به .. إما على سبيل الوجوب كالصّلوات الخمس، وبرّ الوالدين ، وصلة الرّحم ، وحسن الصّحبة مع الأهل وغيرهم ..  أو على سبيل النّدب كالنّوافل، وصدقات التّطوّع وغيرها.

وقد قسمها العلماء من خلال استقراء أحكام الشريعة إلى ثلاثة أقسام: قسم فيه حقّ اللّه تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر .. وقسم فيه حقّ العبد فقط كالدّيون والأثمان ..  وقسم اختلط فيه حقّ اللّه وحقّ العبد كحدّ القذف.

وفرقوا بين ما كان حقّا محضا للعبد وبين حقّ اللّه أنّ حقّ العبد المحض لو أسقطه لسقط ، وإلاّ فما من حقّ للعبد إلاّ وفيه حقّ للّه تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه فيوجد حقّ اللّه تعالى دون حقّ العبد ، ولا يوجد حقّ العبد إلاّ وفيه حقّ اللّه تعالى ، وإنّما يعرف ذلك بصحّة الإسقاط ، فكلّ ما للعبد إسقاطه فهو الّذي يقصد به حقّ العبد ، وكلّ ما ليس له إسقاطه فهو الّذي يقصد بأنّه حقّ اللّه تعالى.

قلنا: حدثنا عن حقوق العباد .. فنحن نبحث عن العدالة .. ولا تتحقق العدالة إلا بتحقيق حقوق العباد ..

قال: لقد ذكر الفقهاء لحقوق العباد التي على المحتسب أن يسعى لتحقيقها قسمان: عام وخاص.

أما العام، فذكروا من أمثلته البلد إذا تعطّل شربه ، أو استهدم سوره.. فإن على المحتسب أن ينظر في ذلك كلّه على حسب ما يجب ، لأنّ هذا حقّ مصروف إلى سهم المصالح وهو في بيت المال ، فإن كان في بيت المال مال لم يتوجّه عليهم فيه ضرر أمر بإصلاح شربهم ، وبناء سورهم ، لأنّها حقوق تلزم بيت المال دونهم.

فأمّا إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم ، وإصلاح شربهم ، وعمارة مساجدهم وجوامعهم ، ومراعاة بني السّبيل فيهم متوجّها إلى كافّة ذوي المكنة منهم ، ولا يتعيّن أحدهم في الأمر به .. فإن شرع ذوو المكنة في عملهم وفي مراعاة بني السّبيل ، وباشروا القيام به ، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به ، ولا يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السّبيل ، ولا في بناء ما كان مهدوما .. ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من المسترمّ والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلاّ باستئذان وليّ الأمر دون المحتسب ، ليأذن لهم في هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته ، هذا في السّور والجوامع ، وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها.

فأمّا إذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم وعمارة ما استرمّ ، فإن كان المقام في البلد ممكنا وكان الشّرب ، وإن فسد أو قلّ مقنعا تركهم وإيّاه ، وإن تعذّر المقام فيه لتعطّل شربه واندحاض سوره نظر ، فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله لم يجز لوليّ الأمر أن يفسح في الانتقال عنه ، وكان حكمه حكم النّوازل إذا حدثت في قيام كافّة ذوي المكنة به ، وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السّلطان وترغيب أهل المكنة في عمله ، وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخفّ ، ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته ، لأنّ السّلطان أحقّ أن يقوم بعمارته ، وإن أعوزه المال فيقول لهم المحتسب ما دام عجز السّلطان عنه : أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما يصرف في مصالحه الّتي يمكن معها دوام استيطانه.

فإن أجابوا إلى التزام ذلك كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار ويقول : ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه ، ومن أعوزه المال أعان بالعمل حتّى إذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعيّن اجتماعها بضمان كلّ واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا ، شرع المحتسب حينئذ في عمل المصلحة ، وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به ، وإن عمّت هذه المصلحة لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتّى يستأذن السّلطان فيها ، لئلاّ يصير بالتّفرّد مفتاتا عليه ، إذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته ، وإن قلّت وشقّ استئذان السّلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه جاز شروعه فيها من غير استئذان.

وأمّا الخاصّ، فذكروا الكثير من أمثلتها مع تفاصيلها الفهقية الكثيرة:

فمنها ما يتعلّق بالجيران مثل أن يتعدّى رجل في حدّ لجاره ، أو في حريم لداره ، أو في وضع أجذاع على جداره، وقد نص الفقهاء في هذا على أنه لا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار ، لأنّه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به ، فإن خاصمه إلى المحتسب نظر فيه ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر ، وأخذ المتعدّي بإزالة تعدّيه ، وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال.

ومنها ما يتعلّق بأرباب المهن والصّناعات .. وقد فصلوا في هذا تفصيلا طويلا، وقسموهم إلى ثلاثة أصناف:

أولهم من يراعى عمله في الوفور والتّقصير .. وذلك كالطّبيب والمعلّمين ، لأنّ للطّبيب إقداما على النّفوس يفضي التّقصير فيه إلى تلف أو سقم ، وللمعلّمين من الطّرائق الّتي ينشأ الصّغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته ، ويمنع من قصّر وأساء.

وثانيهم  من يراعى حاله في الأمانة والخيانة .. وذلك مثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصّبّاغين ، لأنّهم ربّما هربوا بأموال النّاس ، فيراعي أهل الثّقة والأمانة منهم فيقرّهم ، ويبعد من ظهرت خيانته.

وثالثهم من يراعى عمله في الجودة والرّداءة ممّا يتعلّق بفساد العمل ورداءته وإن لم يكن فيه مستعديا ، وذلك إمّا في عمل مخصوص اعتاد الصّانع فيه الفساد والتّدليس ، فإذا استعداه الخصم قابل عليه بالإنكار والزّجر ، فإن تعلّق بذلك غرم روعي حال الغرم ، فإن افتقر إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه لافتقاره إلى اجتهاد حكميّ ، وكان القاضي بالنّظر فيه أحقّ ، وإن لم يفتقر إلى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الّذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع ، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتّأديب على فعله ، لأنّه أخذ بالتّناصف وزجر عن التّعدّي.

ولم يكتف الفقهاء بهذا، بل حاولوا أن يجمعوا جميع الحرف والصناعات التي كانت موجودة في عهودهم، لبينوا كيفية الاحتساب فيها:

ومما ذكروا من ذلك أن على المحتسب أن ينظر في المكان الذي تكون فيه الحرفة، فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة لا ضرر فيه على الآخرين، فلا يكون مكان الخباز في سوق الأقمشة مثلا، وان يكون المكان بذاته صالحا لمباشرة المهنة أو الصنعة وصلاحه من جهة نظافته وسعته وتهويته.

ومنها أن على المحتسب أن ينظر في أدوات الحرفة أو الصنعة، بحيث تكون صالحة للاستعمال، وقد وضع الفقهاء مقاييس لصلاح كل أداة، فالإمام الشيزري ـ مثلا ـ يقول في مقلى الزلابية: (ينبغي أن يكون مقلى الزلابية من النحاس الأحمر الجيد..)..  ثم يبين الشيزري كيفية اعداده للاستعمال فيقول: ( ويحرق فيه النخالة ثم يدلكه بورق السلق إذا برد ثم يعاد إلى النار ويجعل فيه قليل من عسل ويوقد عليه حتى يحترق العسل، ثم يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف ثم يغسل ويستعمل فإنه ينقى من وسخه وزنجاره)

ومنها أن على المحتسب أن ينظر في مقاييس الوزن أو الكيل أو الذرع حتى يتأكد من سلامة هذه المقاييس وصحتها.

ومنها أن على المحتسب أن ينظر في جهة المصنوع أو المبيع، بحيث يكون خاليا من الغش والتدليس، فلا تخلط الحنطة بالتراب ولا الطحين بغيره من المواد الرديئة، وان توضع العلامات المميزة لكل نوع إذا اتحد الجنس، فتنقط لحوم المعز - كما قال الفقهاء - بنقط الزعفران حتى تعرف وتميز من غيرها، وان تبقى أذناب المعز معلقة على لحومها الى آخر البيع.

ومنها أن على المحتسب أن ينظر فيمن يباشر الصنعة والحرفة، ليلاحظ مدى أهليتهم للحرف التي ارتبطوا به.

ومما ذكره الفقهاء في هذا الباب أن على المحتسب أن يحتسب على أصحاب المواشي الذين يستعملونها فيما لا تطيق الدّوام عليه، فينكره عليهم ويمنعهم منه.

وذكروا أن على المحتسب أن يمنع أرباب السّفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها ، وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الرّيح ، وإذا حمل فيها الرّجال والنّساء حجز بينهم بحائل ..  وإذا كان في أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النّساء راعى المحتسب سيرته وأمانته فإذا تحقّق منه أقرّه على معاملتهنّ.. وإن بنى قوم في طريق سابلا منع منه ، وإن اتّسع له الطّريق ، ويأخذهم بهدم ما بنوه، ولو كان المبنيّ مسجدا ، لأنّ مرافق الطّريق للسّلوك لا للأبنية ، ويجتهد المحتسب ، وإذا وضع النّاس الأمتعة وآلات الأبنية في مسالك الشّوارع والأسواق ارتفاعا لينقلوه حالا بعد حال مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة، ومنعوا منه إن استضرّوا به.

وهكذا نصوا في إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه، فيقرّ ما لا يضرّ ويمنع ما ضرّ ، ويجتهد رأيه فيما ضرّ لا يضرّ ، لأنّه من الاجتهاد العرفيّ دون الشّرعيّ.

وغير ذلك كثير مما أفردت له المصنفات.

قلنا: حدثتنا عن الشرط الأول .. فحدثنا عن الشرط الثاني.

قال: أن يكون موجودا في الحال ..

قلنا: ما يعني الفقهاء بذلك؟

قال: يعنون بذلك ن يكون الفاعل قد فعل المنكر .. وأنه مصر على فعله مستمر عليه.

وقد ذكروا هذا احترازا من أمرين قد يسيئان للحسبة، ولدورها الإصلاحي:

أما الأول، فاحتراز عن الحسبة على من فرغ من المعصية .. وهو لا ينوي أن يعود إليها.

وأما الثاني، فاحتراز عن المعصية التي لم تحصل بعد، ولكنها يمكن أن تحصل، كمن يعلم بقرينة الحال أنّه عازم على شرب الخمر في ليلة من الليالي، فلا حسبة على هذا إلاّ بالوعظ .. وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضا، لأن فيه إساءة ظنّ بالمسلم ، وربّما صدّق في قوله ، وربّما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق ..

لقد فصل هذا العزّ بن عبد السّلام تفصيلا حسنا ذكر فيه أنّ الزّواجر نوعان: أحدهما : ما هو زاجر عن الإصرار على ذنب حاضر، أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها وهو ما قصد به دفع المفسدة الموجودة ويسقط باندفاعها.

وأما النّوع الثّاني، فما يقع زاجرا عن مثل ذنب ماض منصرم أو عن مثل مفسدة ماضية منصرمة ولا يسقط إلاّ بالاستيفاء وهو ضربان: أحدهما : ما يجب إعلام مستحقّه ليبرأ منه أو يستوفيه ، وذلك كالقصاص في النّفوس والأطراف وكحدّ القذف ، فإنّه يلزم من وجب عليه أن يعرف مستحقّه ليستوفيه أو يعفو عنه .. الضّرب الثّاني : ما الأولى بالمتسبّب إليه ستره كحدّ الزّنى والخمر والسّرقة.

ثمّ قال: ( وأمّا الشّهود على هذه الجرائم ، فإن تعلّق بها حقوق العباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرّفوا بها أربابها وإن كانت زواجرها حقّا محضا للّه فإن كانت المصلحة في إقامة الشّهادة بها ، فيشهدوا بها مثل أن يطّلعوا من إنسان على تكرّر الزّنى والسّرقة والإدمان على شرب الخمور، فالأولى أن يشهدوا عليه دفعا لهذه المفاسد ، وإن كانت المصلحة في السّتر عليه مثل زلّة من هذه الزّلّات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثمّ يقلع عنها ويتوب منها، فالأولى أن لا يشهدوا لقوله r لهزّال: (يا هزّال لو سترته بردائك كان خيرا لك)، وحديث : (وأقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وحديث : (من ستر على مسلم ستره اللّه في الدّنيا والآخرة)

قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن الشرط الثالث.

قال: أن يكون المنكر ظاهرا للمحتسب بغير تجسّس.

قلنا: ما يعني الفقهاء بذلك؟

قال: لقد أراد الفقهاء من هذا الشرط المستنبط من أحكام الشريعة وقاية الحريات الشخصية التي أتاحها الله لعباده.. فلا ينبغي للمحتسب أن يكتم على أنفاس الناس بسوء ظنه بهم.

ولهذا .. فإن الفقهاء نصوا على أن للمحتسب أن يحتسب فيما لو توفرت الأمارات المعرّفة .. فالأمارة المعرّفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها، أمّا طلبها فلا رخصة فيه، لأن الشريعة تتعامل مع النّاس على الظّواهر من غير بحث عن الأمور الباطنة .. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ مقررا ذلك: (إنّ أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللّه r، وإنّ الوحي قد انقطع، وإنّما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمّنّاه وقرّبناه وليس إلينا من سريرته شيء ، اللّه يحاسب سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدّقه وإن قال إنّ سريرته حسنة)

وقد نص على هذا الشرط قوله تعالى :﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ (الحجرات: من الآية12).. أي خذوا ما ظهر ، ولا تتّبعوا عورات المسلمين.

وفي الحديث الشريف قال رسول الله r : (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا ويشير إلى صدره بحسب امريءٍ من الشر ان يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[228]

وقال r:( إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)[229]

وعن ابن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ أنه أتي برجلٍ فقيل له: هذا فلانٌ تقطر لحيته خمراً، فقال: (إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيءٌ، نأخذ به)[230]

قال رجل منا: ألا ترى أن هذه التشريعات توفر بيئة صالحة للانحراف؟

قال: لقد وضعت التشريعات الإسلامية هذا الاحتمال، فلذلك راحت تصنف الناس صنفين:

أما الصنف الأول .. فمستور لا يعرف بشيء من المعاصي ، فهذا إذا وقعت منه هفوة أو زلّة، فإنّه لا يجوز كشفها وهتكها ولا التّحدّث بها ، وفي ذلك قال اللّه تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ (النور:19)، والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتّهم به وهو بريء منه.

وأما الصنف الثّاني .. فيمثله من كان مشتهرا بالمعاصي، معلنا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له ، فهذا هو الفاجر المعلن، ومثل هذا نص الفقهاء على أنه لا بأس بالبحث عن أمره ليقام عليه من أحكام الشريعة ما يزجره عن غيه.

لقد نص الفقيه السياسي الإسلامي الماورديّ على كيفية التعامل مع هذا الصنف، فقال: (ليس للمحتسب أن يبحث عمّا لم يظهر من المحرّمات ، فإن غلب على الظّنّ استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان :

أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك ، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.

والضّرب الثّاني : ما قصر عن هذه الرّتبة فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار كان له أن ينكر ذلك من خارج الدّار، وليس له أن يدخلها، لأنّ المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن)

قال الرجل: ما يريد بغلبة الظن؟

قال: فرقت الشريعة بين الظنون .. وما يعمل به منها .. وما لا يعمل.

وفي هذا الباب قسموا الظن إلى قسمين:

أما الأول، فمذموم نهى الشّارع عن اتّباعه، وأن يبنى عليه ما لا يجوز بناؤه عليه ، مثل أن يظنّ بإنسان أنّه سرق أو قطع الطّريق أو قتل نفسا أو أخذ مالا أو ثلب عرضا ، فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجّة شرعيّة يستند إليها ظنّه ، وأراد أن يشهد عليه بذلك بناء على هذا الظّنّ فهذا هو الإثم .. وقد وردت النصوص المقدسة بذمه والتحذير منها.. قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )(الحجرات: من الآية12)، وقال رسول الله r : (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)[231]

وأما الثاني، فمحمود أجمع المسلمون على وجوب اتّباعه لأنّ معظم المصالح مبنيّة على الظّنون المضبوطة بالضّوابط الشّرعيّة وإنّ ترك العمل بهذا النّوع يؤدّي إلى تعطيل مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة.

وقد ضربوا لهذا القسم أمثلة: منها أنه لو رأى إنسانا يسلب ثياب إنسان لوجب عليه الإنكار عليه بناء على الظّنّ المستفاد من ظاهر يد المسلوب.

ومنها أنه لو رأى رجلا يجرّ امرأة إلى منزله يزعم أنّها زوجته وهي تنكر ذلك ، فإنّه يجب الإنكار عليه لأنّ الأصل عدم ما ادّعاه.

ومنها أنه لو رأى إنسانا يقتل إنسانا يزعم أنّه محارب دخل البلاد ليفسد فيها، وهو يكذّبه في ذلك ، لوجب عليه الإنكار.

ففي هذه الحالات وأمثالها يعمل بالظّنون، فإن أصاب من قام بها فقد أدّى ما أوجب اللّه عليه إذا قصد بذلك وجه اللّه تعالى ، وإن لم يصب كان معذورا ولا إثم عليه في فعله.

وبناء على هذا نص الفقهاء أن على المحتسب أن يطوف في الأسواق، وأن يتفحّص أحوال أهلها من غير أن يخبره أحد بخيانتهم، ولا يكون هذا من قبيل التّجسّس المنهيّ عنه، بل هو من صميم عمله الّذي ينبغي أن لا يشغله عنه شاغل.

قلنا: وعينا هذا .. فحدثنا عن الشّرط الرّابع.

قال: أن يكون المنكر معلوما بغير اجتهاد.

قلنا: ما يقصد الفقهاء بهذا؟

قال: لقد قسم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى قسمين:

أما أولهما، فهي الأحكام القطعية التي لم يخالف فيها أحد من العلماء، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة .. وذلك كالواجبات الظّاهرة من الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ  .. أو من المحرّمات المشهورة كالزّنى ، والقتل ، والسّرقة، وشرب الخمر ، وقطع الطّريق ، والغصب ، والرّبا ، وما أشبه ذلك ..

وأما الثاني، فهو ما كان في دقائق الأفعال والأقوال ممّا لا يقف على العلم به سوى العلماء ، مثل فروع العبادات والمعاملات وغير ذلك من الأحكام ، ومن هذا القسم ما أجمع عليه العلماء .. وهذا لا خلاف في تعلّق الحسبة فيه لأهل العلم، وليس للعوامّ مدخل فيه .. ومنه ما اختلف فيه العلماء ممّا يتعلّق بالاجتهاد ، فكلّ ما هو محلّ الاجتهاد فلا حسبة فيه.

لقد عبّر صاحب الفواكه الدّواني عن هذا الشّرط بقوله:( أن يكون المنكر مجمعا على تحريمه ، أو يكون مدرك عدم التّحريم فيه ضعيفا)

وقال الغزالي ضاربا الأمثلة على ذلك : (فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية. ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد)

الاحتساب:

قلنا: حدثتنا عن الركن الثالث .. فحدثنا عن الركن الرابع.. حدثنا عن الاحتساب[232].

قال: لقد نص رسول الله r على الكيفية التي يتم بها الاحتساب، وبين مراتبها، فقال : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فان لم يستطع فبلسانه ، فان لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الايمان)[233]

ففي هذا الحديث ذكر رسول الله r ثلاث مراتب للحسبة: الحسبة باليد، والحسبة بالقول، والحسبة بالقلب.

قال رجل منا: أليس من العجب أن يبدأ نبيكم بالحسبة باليد .. أليس الأصل أن يبدأها بالقول؟

ابتسم الحسين، وقال: أرأيت لو أن ظالما أمسك شيخا كبيرا أو ولدا صغيرا وأخذ يضربه .. ثم جئت أنت ورحت تقدم له محاضرة في الرحمة .. في الوقت الذي لم يتوقف فيه الظالم عن ظلمه .. أكان ذلك باعتبار الفطرة السليمة حسنا؟

قلنا: لا .. الأولى في هذا أن يكف يده أولا عن ذلك الظلم .. ثم بعد ذلك لا بأس أن ينهاه بالمواعظ.

قال: فهذا ما أراده رسول الله r .. فلا ينبغي أن يترك المعتدي متماديا في اعتدائه .. ثم لا يجد من المجتمع إلا كلمات قد تؤثر في الظالم وقد لا تؤثر.

ومع ذلك .. فإن المجتمع الإسلامي مجتمع ينشر قيم الفضيلة بكل الوسائل والأساليب، وبذلك يكون التغيير بالقول مقدما على التغيير باليد.

قلنا: فحدثنا عما ذكر الفقهاء لتطبيق هذه المراتب.

قال: لقد ذكر الفقهاء للحسبة بالقول ثلاث مراتب: التعريف، والموعظة، والقول الغليظ.

قلنا: فلم اعتبروا التعريف أول المراتب؟

قال: لأن هناك من يقدم على المنكر جاهلا لا قاصدا .. ولذلك، فإنه إذا عرف أنه منكر تركه .. ومثل هذا يكتفى بأن ينتهج معه أسلوب التعليم والتعريف ..

لقد ورد في السنة المطهرة ما يدل على هذه المرتبة .. ففي الحديث أن أعرابيا بال في المسجد، فقام أصحاب رسول الله r ليقعوا فيه.. لكن رسول الله r أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة .. ولذلك عالجه بما يناسب حاله .. فعالج جهله بالتعليم ..

وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل ..

لذلك بدأ رسول الله r بمعالجة حاله، ونهى الصحابة أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)

 ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله r بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله r:(  اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)[234]

وقريب من هذا ما حدث به معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله r إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله r فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ـ أو كما قال رسول الله r ـ قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان قال: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم، قال: قلت ومنا رجال يخطون قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)[235]

لقد كان سلوك رسول الله r مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها :( ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)

وبناء على هذا نص الفقهاء أن على المحتسب أن يبدأ بإرشاد المحتسب عليه وتعليمه قبل أن ينكر عليه ..

قلنا: فحدثنا عن المرتبة الثانية من مراتب التغيير بالقول.

قال: المرتبة الثانية هي الموعظة .. ويريد بها الفقهاء في هذا الموضع استعمال كل أساليب التأثير التي تجعل المنكر عليه مقتنعا تماما بخطئه .. وذلك يختلف باختلاف المخاطبين[236].

ومما ورد في السنة مما يدل على هذا، ويقربه ما روي أن شابا جاء إلى رسول الله r يستأذنه r في الزنا بكل جرأة وصراحة، فهمَّ بعض الصحابة أن يوقعوا به؛ فنهاهم وأدناه، وقال له r بكل هدوء:( أترضاه لأمك ؟!)، قال الشاب: لا، قال رسول الله r :(فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، ثم قال:( أترضاه لأختك ؟!)، فقال الشاب: لا، فقال r :( فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)[237]  .. وهكذا بقي رسول الله r مع الشاب إلى أن اقتنع بأن من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم الزنا ..

ومن أساليب التأثير التي ذكرها الفقهاء، والتي قد تنفع أصنافا كثيرة من الناس (ذكر تأثير المعاصي الدنيوي)، قال الغزالي ـ عند ذكره لأنواع المواعظ التي يستعملها المحتسب ـ: ( أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة، ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله، فينبغي أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر)

ومن هذا الباب ذكر المضار النفسية والصحية والاجتماعية التي تنجر عن الوقوع في الذنوب المختلفة.. فلذلك من التأثير ما ليس للكثير من المواعظ المرتبطة بالآخرة .. لأنها تقتضي درجة معينة من الإيمان قد يقصر عنها من وقع في الخطايا أو من يهم بالخطايا[238].

قلنا: فحدثنا عن المرتبة الثانية من مراتب التغيير بالقول.

قال: المرتبة الثانية هي القول الغليظ .. ويريد بها الفقهاء في هذا الموضع استعمال التعابير القولية الشديدة مع المنكر عليه، ولا يلجأ إلى هذا الأسلوب إلا للضرورة الشديدة، ووفق الضوابط الشرعية، لأن الأصل في تعامل المسلم مع الآخرين هو الرفق واللين والكلمة الطيبة.

ويشير إلى هذه المرتبة من القرآن الكريم قوله تعالى على لسان إبراهيم u :﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ (الانبياء:67)، فقد غلظ إبراهيم u القول على قومه في قوله:﴿ أُفٍّ لَكُمْ ﴾ و(أف) صوت دال على التضجر ، فإذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، فإبراهيم u أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادة الأصنام بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف منهم، ويدخل في هذا النوع كل الحركات والأصوات التي يكون لها نفس دور القول الغليظ.

وغلظ عليهم القول في قوله :﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ أي افلا تستعملون عقولكم ، فكأنه رماهم بالبلادة والبلاهة والغباء ، وهي من الأقوال التي يتأذى بها سامعها.

وقد ذكر القرآن الكريم استعمال الأنبياء لهذا الأسلوب في بعض مراحل دعواتهم، فقال عن رسول الله r :﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ (يونس:16)

ومما يشير إليه من الحديث ما روي عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: سابَبْتُ رجلاً، فعيرته بأمه (قال له: يابن السوداء)، فقال رسول الله r :(يا أبا ذر.. أعيرته بأمه، إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفتموهم فأعينوهم)[239] .. فقد اشتد رسول الله r في خطاب أبي ذر مع عظيم صحبته وصدق إيمانه لعظم ما صدر منه ، خشية أن تعود أخلاق الجاهلية لذلك الجيل الذي رباه رسول الله r.

قلنا: لقد ذكرت أن لهذه المرتبة ضواط .. فما هي؟

قال: الأصل في القول الغليظ الحرمة .. وذلك لأن النصوص المقدسة وصفت رسول الله r والثلة الطيبة معه بكونهم هينين لينين .. قال تعالى مخبرا عن رسول الله r :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾  (آل عمران: من الآية159)، فقد اعتبر القرآن الكريم لين رسول الله r ورحمته هي السبب في اجتماع الصحابة عليه ، ثم بين أنه لو كان سيء الكلام غليظ القلب لانفضوا عنه وتركوه، ولكن اللّه جمعهم عليه، وألان جانبه لهم تأليفا لقلوبهم.

ومما يدل على كون الأصل في هذا الأسلوب هو الحرمة قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ (الأحزاب:58) ففي هذه الآية تحريم صريح لإذية المؤمنين، والقول الغليظ نوع من أنواع الإذية ، قال القرطبي :( وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام)

ومن الأدلة على ذلك من السنة النبوية الأحاديث الكثيرة الناهية عن سب المؤمنين ، لأن السب نوع من أنواع القول الغليظ، ومنها قوله r:( سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر) [240] ، فقد قرن الرسول r بين السب والقتل ، واعتبره من الفسوق ، وفي ذلك دليل على كونه من الكبائر.

وقال r :( لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر، إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ) [241]

بل إن الرسول r حرم إذية من استوجب الحد ، فأقام عليه الحد ونهى عن سبه، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال أتي النبي r برجل قد شرب قال: اضربوه، فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم:( أخزاك اللَّه)، قال :( لا تقولوا هذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان) [242] وفي هذا دليل على أن القول الغليظ قد يكون أشد على النفس من العقاب الحسي نفسه.

ومثل ذلك قوله r:( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه) [243] ،  فقد اعتبر r سلامة المسلمين من أذى اللسان من علامات الإسلام.

بناء على هذا، فإن هذه الوسيلة لا يلجأ إليها إلا للضرورة .. فالضرورة أول ضوابطها ..

ومن ضوابطها أن لا تستعمل إلا في محلها .. ومحلها هو من لا تصلحه إلا الشدة .. فتعتمد هذه المرتبة كوسيلة من وسائل الإصلاح، لا كحظ من حظوظ النفس، قال الغزالي:( ولا يعدل إليه إلا عند العجز عن المنع باللطف، أو حين تظهر مبادئ  الإسرار والاستهزاء بالوعظ والنصح) [244] 

ومن ضوابطها أن لا تستعمل إلا بعد استنفاذ كل الأساليب التي يمكن أن تؤدي الغرض، فإن لم تستنفذ أو ظن عدم فلاحها، فحينذاك يمكن اللجوء إلى هذا الأسلوب مع رعاية الشروط الأخرى.. ولهذا ، فإن تأفف إبراهيم u على قومه وإسماعهم ما أ سمعهم لم يحصل إلا بعد أن استنفذ كل أساليب الدعوة والإرشاد، فوعظهم وحاورهم وأقام عليهم الحجج الملموسة.

ومن ضوابطها أن لا تمارس إلا قدر الحاجة .. لأن كل ضرورة مرتبطة بقدر معين لا تتجاوزه ، فإن تجاوزته صار القدر المتجاوز حراما، كما قال تعالى :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾  (البقرة: من الآية173) في ثلا ث مواضع من القرآن الكريم.

وقال بعد ذكر بعض المحرمات :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة: من الآية3) يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية غير مائل إلى الاثم ، فإن الله غفور رحيم، فاعتبر الزيادة إثما.

ومن مظاهر الاقتصار على قدر الحاجة ، ما ذكره الغزالي من اشتراط التزام الصدق ، قال:( أن لا ينطق إلا بالصدق مقتصرا على قدر الحاجة ،فإن تطويل اللسان بالكذب أو فوق الحاجة ربما يزيد من ترسيخ المنكر) [245] 

ومن الأمثلة التي ذكرها الغزالي  على ذلك:( يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ألا تخاف الله)

ومن ضوابطها أن لا يكون القول الغليظ سبا بذيئا .. وذلك بذكر الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ:( إن الله حيـي كريم يعفو ويكنو، كنى باللمس عن الجماع)، فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست بفاحشة.

قال الغزالي:( وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيـير، وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض. وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبـينهما درجات يتردد فيها، وليس يختص هذا بالوقاع، بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول، والغائط أولى من لفظ التغوّظ والخراء وغيرهما، فإن هذا أيضاً مما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه، فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش) [246] 

وقد ورد في الحديث النهي عن هذا وتحريمه بل قرنه بالظلم .. قال r : (إياكم والظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش! فإن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش، وإياكم والشح! فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بقطع الرحم فقطعوا) [247]

وفي حديث آخر قال r : ( إن اللّه تعالى لا يحب الفاحش المتفحش ولا الصياح في الأسواق) [248] ، ففي هذا الحديث ذم لكل ما يرتبط بالفحش طبعا أو تطبعا وما يجر إليه من الصراخ في الشوارع والطرق ومجامع الناس.

قلنا: حدثتنا عن مراتب الاحتساب بالقول .. فحدثنا عن مراتب الاحتساب بالفعل.

قال: لقد ذكر الفقهاء لذلك أربع مراتب: التهديد، والإزالة، والمباشرة، والاستعانة.

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: يبدأ التغيير باليد بالتهديد .. وهو أسلوب من الأساليب الرادعة عن الخطأ ، وهو مقدم على تنفيذ العقوبة ، وإليه الإشارة بقوله r على لسان إبراهيم u :﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ (الانبياء:57)، فهذا وعيد من إبراهيم u بتحطيم أصنام المشركين.

ومثله قول سليمان u عن الهدهد :﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ (النمل:21)

ومثلها تهديدات الله تعالى في القرآن الكريم كقوله :﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ (الأحزاب:30) ، وقوله :﴿ وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾ (الاسراء:74 ـ 75)، أى لولا تثبيتنا لك لقد كدت تركن إليهم بعض الشيء، ولو فعلت لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، أى ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ، وقال :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ (الحاقة:45 ـ 46) ، أي لو أتى بشيء من عند نفسه لأخذنا منه بيمينه وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه.

ويشير إليه من السنة قوله r :( ليتنهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم)[249]، ففي هذا الحديث تهديد من رسول الله r بحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة ، ومع ذلك لم ينفذه r .

وقد ذر الفقهاء من الأدب في هذه المرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله لأنهبن دارك، أو لأضربن ولدك أو لأسبـين زوجتك وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو كذب.

وذكر الفقهاء جواز الكذب في هذا، بأن (يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه)

وبينوا أن هذا ليس ذلك من الكذب المحذور ، لأن المبالغة في مثل ذلك معتادة ، وهي من جنس مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين، فقد ورد الشرع بجواز الكذب في هذا الباب، لأن القصد به إصلاح ذلك الشخص.

ومع هذه الأدلة المجوزة لاستعمال التهديد كأسلوب من أساليب تقويم الاعوجاج إلا أنه يظل مرتبة من المراتب لا يلجأ إليه إلا بعد استنفاذ ما سبقه من المراتب.

قلنا: هذه الأولى .. فما الثانية؟

قال: الإزالة ..

قلنا: ما يريد الفقهاء منها؟

قال: إزالة المنكر .. فلا ينبغي للمحتسب أن يرى منكرا أمامه، ثم يتركه ..

قلنا: تعني المصادرة.

قال: قد تكون المصادرة أحد أنواع الإزالة .. وقد يكون الإتلاف .. وأشياء أخرى كثيرة نص عليها الفقهاء بحسب المحال.

قلنا: إن ذلك قد يسيء كثيرا للناس.

قال: لقد وضع الفقهاء من الضوابط ما يحمي هذا من تجاوز حده .. بل أوجبت الشريعة الضمان على من تجاوز حده من المحتسبين، فراح يتعسف في استعمال ما أعطي من السلطات[250].

قلنا: هذه الثانية.. فما الثالثة؟

قال: هو ما عبر عن الفقهاء بقولهم : (مباشرة الضرب من غير إشهار سلاح)

قال رجل منا: الضرب !؟ .. إن هذا لا يليق.

قال: صدقت .. هو لا يليق .. ولا ينبغي للعاقل أن يلجأ إليه.

قال الرجل: فأنت تخالف الفقهاء إذن في اعتباره مرتبة من المراتب؟ 

قال: قد كنت في نفسي أخالفهم .. لكني لما قرأت كلاما للغزالي .. هو مجرد مثال ذكره .. اقتنعت اقتناعا تاما.. لقد قال الغزالي عند ذكره لهذه المرتبة : ( كما لو قبض فاسق مثلاً على امرأة، وكان يضرب بمزمار معه، وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع، فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك إن لم تخل عنها .. فله أن يرمى وينبغي أن لا يقصد المقتل، بل الساق والفخذ، وما أشبهه ويراعي فيه التدريج)

عندما قرأت هذا اقتنعت .. لأني أعرف أن من النفوس نفوسا لها من الغلظة ما ليس للحجر .. وليس لهذه النفوس من رادع إلا الشدة ..

وبما أن الشريعة جاءت تخاطب الناس جميعا صلبهم ولينهم .. فقد اقتضتها الضرورة أن تبيح هذه الوسيلة، وتضبطها بالضوابط التي تحميها من إساءة التصرف فيها.

قلنا: فما الضوابط التي ذكرها الفقهاء لهذا؟

قال: أولها اجتناب المقاتل .. وهي الأماكن الخطرة الحساسة التي قد تؤدي إصابتها إلى ضرر خطير ، قال القرطبي واصفا هذا النوع من الضرب : ( هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب)[251]

ومنها اتقاء الوجه لورود الأدلة الكثيرة الآمرة باتقاء الوجه ، قال r :( إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)[252]، قال الصنعاني :( الحديث دليل على أنه لا يحل ضرب الوجه في حد ولا غيره)[253]

بل قد ورد النص على النهي عن ضرب الوجه في القتال نفسه الذي لا تراعى فيه ـ في العادة ـ مثل هذه الأمور ، قال r :(إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)[254] ، قال النووي تعليقا على هذا الحديث : (قال العلماء: هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه ; لأنه لطيف يجمع المحاسن وأعضاؤه نفيسة لطيفة وأكثر الإدراك بها فقد يبطلها ضرب الوجه وقد ينقصها وقد يشين الوجه والشين فيه فاحش فإنه بارز ظاهر لا يمكن ستره ومتى ضربه لا يسلم من شين غالبا »

وقد نص الفقهاء على أنه يدخل في ذلك ضرب الإمام أو مأذونه في الحدود والتعازير ..

بل نص الفقهاء على أن هذه الحرمة ترتبط بجنس الإنسان مطلقا بغض النظر عن كونه مسلما أو كافرا ، قال العراقي :« ظاهر قوله ( أخاه ) اختصاص ذلك بالمسلم، وقد يقال إنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ويؤيده أنه ورد غير مقيد بأحد وذلك في صحيح البخاري وغيره)[255]

ومنها اتقاء الرأس، نص الفقهاء على أن من المقاتل التي يحرم الضرب عليها الرأس[256]، قال الجصاص:( وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله)[257]

قلنا: هذه الثالثة .. فما الرابعة؟

قال: الاستعانة ..

قلنا: الاستعانة على ماذا؟ .. ولماذا؟

قال: إذا عجز المحتسب أن يغير المنكر بنفسه .. فقد نص الفقهاء على أن عليه أن يستعين بغيره من المحتسبين، أو بالشرطة .. أو حتى بعامة الناس .. فهذا من البر والتقوى اللتين أمرنا بالتعاون فيهما .. قال تعالى :﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ (المائدة: من الآية2)

لقد نص الغزالي على هذه المرتبة، فقال : ( إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث.. وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب. والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف. ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه)

قال رجل منا: أليس هذا إرهابا؟

قال: لا .. لقد وضع الفقهاء من الضوابط الكثيرة ما تحمي هذا من أن يصير إرهابا .. ولولا أن هذه المقصلة تنتظرني لفصلت لكم ما ذكروا .. وعساكم تسمعون من رفاقي ما تقر به عيونكم وتعلمون به عدالة الشريعة التي أنزلنا علينا ربنا.

 

 

 

 

 

 

 

6 ـ القضاء

قال رجل منا: حدثتنا عن نظام الحسبة .. فحدثنا عن النظام القضائي في الإسلام[258].

قال آخر: تقصد القضاء الشرعي[259] .. ذلك الذي يقوم بالتزويج والتطليق.

قال آخر: لا .. ليته كان كذلك فقط .. لقد كان في كثير من فترات التاريخ يمثل السلطة المستبدة .. ليقمع كل المعارضين .. ويزج بهم في زنانزنهم.

قال آخر: وقد كان القضاة ـ على حسب ما سمعت ـ يتقاضون أجورهم من الأغنياء والإقطاعيين .. فلذلك كانوا سيفا مسلطا على الفقراء والمستضعفين ..

قال آخر: وفوق ذلك كله سمعت أن لهؤلاء القضاة من النصوص المقدسة ما يحتمون به، ويلجأون إليه، ويفرضون على الرعية المستضعفة طاعتها بسببه.

بعد أن ألقى كل واحد من المساجين ما لديه من الشبهات حول القضاء في الإسلام وقف الحسين، وقال: يؤسفني أن أقول لكم بأن كل ما تقولونه أوهام سربها المستكبرون ليقفوا حجابا بين المستضعفين وبين القيم الرفيعة التي تمثلت في القضاء الذي جاء به الإسلام .. سواء في نصوصه المقدسة .. أو عبر تاريخه الطويل.

قلنا: وما هذه القيم؟

قال: أربعة أعمدة كبرى .. لا يكون القضاء عادلا إلا بتحققها جميعا.

قلنا: فما هي؟

قال: الأمانة .. والحرية .. والعدالة .. والرحمة.

قلنا: فما وجه كونها أركانا؟

قال: الأمانة تحمي القضاء من الخيانة والخونة .. والحرية تحمي القضاء من المستبدين والظلمة .. والعدالة تحمي القضاء من الجور والظلم .. والرحمة تحمي القضاء من الغلظة والقسوة.

الأمانة:

قلنا: فحدثنا عن الأولى .. حدثنا عن الأمانة .. كيف حمى الإسلام القضاء من الخيانة، ومن الخونة.

قال: هل ترون في أي من بلاد من بلاد الدنيا من يتهرب من ولاية القضاء؟

قلنا: لا .. بل نراهم متزاحمين على طلبه.

قال: لم؟

قلنا: للمكاسب الكثيرة التي يحصل عليها القضاة .. بالإضافة إلى الجاه العريض الذي يتاح لهم في المجتمع.

قال: ألا يخاف هؤلاء من الجور أو الظلم في أحكامهم؟

قلنا: هم يحكمون بناء على ما لديهم من قوانين .. ولا يهمهم عدلت تلك القوانين أو جارت.

قال: فتلك أول الخيانة؟

قلنا: كيف؟

قال: أول الخيانة ـ بحسب ما علمنا ديننا ـ أن يدخل المرء شيئا من غير أن يحتسب أجره من الله فيه .. ومن غير أن يستعين بالله عليه.. ومن غير أن يستعيذ بالله من شره.

قلنا: فكيف أنبت الإسلام شجرة هذا في نفوس أتباعه؟

قال: لقد ورد في النصوص المقدسة الكثيرة عن نبينا r التنفير من تولي القضاء لمن لم يكن له من القوة والأمانة ما يكفي لتوليه:

ففي الحديث قال رسول الله r: ( من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس، فقد ذبح بغير سكين[260])[261]

وفي حديث آخر قسم رسول الله r القضاة، فقال: (القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)[262]

وقال r : (ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة واحدة قط)[263]

وقال: (يدعى القاضي العدل يوم القيامة، فيبقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)[264]

وقال: (من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا ، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة)[265]

وقال: (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله به مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة)[266]

وقال: ( من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده)[267]

وقال: (من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك فيسدده)[268]

وقال: ( من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة، وإن غلب جوره عدله فله النار)[269]

وقال: (إن  الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان)[270]

وقال: (يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف للحساب على شفير جهنم فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا)[271]

وقال: (لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا أوقفه الله على جسر جهنم فزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج لا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم لا يبلغ قعره سبعين خريفا)[272]

وقال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)[273]

وقال: (من ولي من أمر الناس شيئا ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذي الحاجة أغلق الله - تبارك وتعالى - أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها)[274]

وقال:( ليس من قاض ولا وال إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل على الصراط، ثم تنشر صحيفة سيرته فتقرأ على رءوس الخلائق فإن كان عدلا نجاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الجسر انتفاضة فصار بين كل عضو من أعضائه مسيرة كذا وكذا ثم ينخرق به الجسر إلى جهنم)

وقال لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم)[275]

وقال لعبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ : ( يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)[276]

لقد أثرت هذه النصوص المرهبة في نفوس المسلمين تأثيرا شديدا، فصاروا يتهربون من هذه الولاية التي يقبل عليها الناس في كل بلاد الدنيا .. خوفا من أن يقعوا في جور يحاسبون عليه يوم القيامة.

وقد روي من ذلك أن عثمان قال لابن عمر: اذهب فكن قاضيا، قال : أو أوتعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال : اذهب فاقض بين الناس ، قال : تعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال : عزمت عليك إلا ذهبت فقضيت ، قال : لا تعجل أسمعت رسول الله r يقول : من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ ؟ قال نعم ، قال فإني أعوذ بالله أن أكون قاضيا ، قال : وما يمنعك وقد كان أبوك يقضي ؟ قال لأني سمعت رسول الله r يقول : من كان قاضيا فقضى بالجهل كان من أهل النار ، ومن كان قاضيا فقضى بالجور كان من أهل النار ، ومن كان قاضيا فقضى بحق أو بعدل سأل التفلت كفافا فما أرجو منه بعد ذلك؟)[277]  

وقال مكحول : لو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ولم أختر القضاء .

وقال أيوب السختياني : إني وجدت أعلم الناس أشدهم هربا منه.

ودعا مالك بن المنذر محمد بن واسع ليجعله على قضاء البصرة ، فأبى فعاوده وقال: لتجلس وإلا جلدتك ، فقال: إن تفعل فأنت سلطان ، وإن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة .

وقيل لسفيان الثوري إن شريحا قد استقضي ، فقال أي رجل قد أفسدوه .

وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه : ينبغي للقاضي أن يكون يوما في القضاء ويوما في البكاء على نفسه.

ومما يروى في هذا أن قاضيا قدم إلى بلد، فجاء رجل له عقل ودين، فقال له: أيها القاضي أبلغك قول النبي r : (من قدم للقضاء فقد ذبح بغير سكين؟) قال: نعم. قال: فبلغك أن أمور المسلمين ضائعة في بلدنا فجئت تحيزها؟ قال: لا. قال: أفأكرهك السلطان على ذلك؟ قال: لا. قال: فاشهد أني لا أطأ لك مجلسا ولا أؤدي عندك شهادة أبدا.

قلنا: عرفنا هذا .. فما غيره؟

قال: لقد تشدد الفقهاء في الشروط التي لا يقبل القاضي إلا على أساسها[278] .. وأهمها أن يكون له من القدرة العلمية .. والفطنة .. والخبرة .. ما يتيح له أن يتحرى الحق، ويحكم به.

وفوق ذلك يبقى القاضي دائما معرضا للعزل[279] في حال وجود من هو أولى منه، أو في حال عروض أي شيء يحول بينه وبين هذه الوظيفة الخطيرة ..

لقد عزل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شرحبيل بن حسنة عن القضاء فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني قال: لا ولكن وجدت من هو مثلك في الصلاح وأقوى منك في العمل، فقال: يا أمير المؤمنين إن عزلك عيب فأخبر الناس بعذري ففعل عمر ذلك.

قلنا: عرفنا هذا .. فما غيره؟

قال: ألا تندهشون من كثرة المحامين؟

قلنا: نحن نعتبر ذلك من دلائل الحضارة .. فللمتهم الحق في أن يدافع عن نفسه، وله الحق في أن يوكل من يدافع عنه.

قال: له الحق في أن يدافع عن نفسه بالحق لا بالباطل .. فهل ترون كل هؤلاء المحامين لا يدافعون عن المستضعفين؟

قال رجل منا: هم يدافعون عمن يدفع لهم .. ولا يهمهم هل هو مستضعف أم مستكبر .. بل إنهم أميل إلى المستكبر منهم إلى المستضعف .. فللمستكبر من القوة والمال والنفوذ ما يجعلهم ينجذبون إليه.

قال: لكن شريعة العدل التي أنزلها الله على نبيه r تحرم كل ذلك .. هي تعتبر هذا من الإعانة على الظلم، ومن التشجيع عليه .. فلذلك تحصر المحاماة في الدفاع عن أهل الحق لا عن أهل الباطل.

لقد وردت النصوص المقدسة تذكر ذلك وتشدد عليه:

ففي الحديث قال رسول الله r : (من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع)[280]

وقال رسول الله r : (من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله)[281]

وقال : (مثل الذي يعين قومه على الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذنبه[282])[283]

وقال:( أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في غضب الله حتى ينزع ، وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال)[284]

وقال:( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في ملكه ، ومن أعان على خصومة لا يعلم أحق أو باطل فهو في سخط الله حتى ينزع ، ومن مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو كشاهد زور ، ومن تحلم كاذبا كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة ، وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر)[285]

وقال: ( من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله ، ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام)[286]

قلنا: عرفنا هذا .. فما غيره؟

قال: ألا ترون أن من أكبر أسباب جور القضاة هو ما ينالونه من منافع بسبب وظيفتهم؟

قلنا: بلى .. فمنها منافع مادية .. ومنها منافع معنوية.

قال: فقد حرمت شريعة العدل الإلهية أن ينال القاضي ومن معه ممن تولوا هذه المسؤولية الخطيرة أي منافع ما عدا تلك المنافع التي ينالونها كأجر مرتب على وظيفتهم[287]  ..

لقد اعتبرت الشريعة ذلك رشوة .. فحرمته .. وتشددت في تحريمه[288].

لقد نص على هذه الحرمة قوله تعالى :﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة:188)، أي لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام ـ أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم ـ ليقتطعوا لكم حقاً لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم.

وفي الحديث قال رسول الله r : (لعن الله الراشي والمرتشي[289] في الحكم)[290]

وقال r : ( من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الربا)[291]

وقال: (الراشي والمرتشي في النار)[292]

وقال: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)[293]

وقال: (من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو بما كرهوا جيء به مغلولة يداه فإن عدل ولم يرتش ولم يحف فك الله عنه وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام)[294]

وفي حديث آخر أن رسول الله r (لعن الراشي والمرتشي في الحكم والرائش الذي يسعى بينهما)[295]

ومما يروى من تأثير هذه التعاليم في المسلمين أن نصرانياً جاء الإمام أبا عمر الأوزاعي ـ وكان يسكن ببيروت ـ فقال: إن والي بعلبك ظلمني بمظلمة، وأريد أن تكتب إليه وأتاه بقلة عسل، فقال الأوزاعي: إن شئت رددت القلة وكتبت لك إليه، وإن شئت أخذت القلة فكتب له إلى الوالي أن ضع عن هذا النصراني من خراجه.. فأخذ القلة والكتاب ومضى إلى الوالي، فأعطاه الكتاب فوضع عنه ثلاثين درهماً بشفاعة الإمام.

قال رجل منا: إن ما ذكرته من التشديدات والترهيبات سوف يصرف خيار الناس عن تولي هذه المسؤولية الخطيرة .. فكيف حلت الشريعة هذه المعضلة؟

قال: كما أن الشريعة توعدت قضاة السوء ورهبتهم من الجور والظلم، فإنها ـ كذلك ـ وعدت القضاة العادلين بالأجور الجزيلة، والتي تجعلهم يقبلون على القضاء برغبة صادقة ..

فقد جعل النبيّ r القضاء العادل من النّعم التي يباح الحسد[296] عليها فقد جاء في الحديث الشريف قوله r : (لا حسد إلا في اثنتين[297]: رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها ويعلمها)[298]

وفي حديث آخر قال r : (إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)[299]

وقال r : (أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ)[300]

وغيرها من النصوص .. وهي كافية لأن تملأ قلوب الصادقين رغبة في تولي هذا المنصب بعد اكتمل أدواته..

بالإضافة إلى هذا، فإن الشريعة الإسلامية زرعت في قلوب المسلمين الشعور بتحمل مسؤولياتهم عن دينهم وعن العدل الذي جاء لتحقيقه .. فلذلك نص الفقهاء بإجماع على أنه لا يجوز لشخص أطاق منصبا أن يتركه إلا إذا وجد من يكفيه أو وجد من هو أكفأ منه له .. أما أن يتركه شاغرا مع قدرته عليه، فتلك معصية لا تقل عن طاعة التورع عنه[301].

لقد أشار إلى هذا قوله تعالى على لسان يوسفu  :﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ (يوسف: من الآية55) .. لقد رأى يوسف u نفسه ملزما بإنقاذ الخلق من المجاعة التي تتربص بهم .. ورأى نفسه الكفء الوحيد لذلك المنصب .. فراح يطلبه لنفسه ذاكرا الأوصاف التي استحق بها طلب ذلك المنصب.

بل إن من الفقهاء من أجاز لمن هذه نيته أن يتوسل بما أوتي من وسائل لتولي هذا المنصب ليحمي العباد من الجور والظلم[302].

وبعد ذلك كله .. فقد اعتبرت الشريعة أن لولي الأمر الحق في أن يجبر من قدر على هذه الوظيفة[303]، ثم تورع عنها، لأنه لا يمكن لولي الأمر أن يؤدي وظيفته من دون معونة القادرين الخبراء.

الحرية:

قلنا: حدثتنا عن الأمانة .. وكيف حمت الشريعة القضاء من الخيانة .. فحدثنا عن الحرية .. وكيف حمت الشريعة القضاء من التبعية للطغاة والمستبدين؟

قال: أول ما فعلت الشريعة لذلك هو أنها نصت على جميع الأحكام المرتبطة بالقضاء .. ولذلك لم يبق للقاضي من دور سوى أن ينفذ ما قررته الشريعة ..

روي أن جعد بن هبيرة قال لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : يا أمير المؤمنين، يأتيك الرجلان، أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك فتقضي لهذا على هذا! .. قال: فلهزه علي وقال: إن هذا شيء لو كان لي لفعلت، ولكن إنما ذاك شيء لله.

قلنا: ذلك ليس خاصا بالإسلام .. ففي جميع محاكم العالم لا يمكن للقاضي أن يقضي إلا بما سنته الدولة من قوانين.

قال: ومن هي الدولة؟

قلنا: هي الشعب .. ومن يمثل الشعب.

قال: فإن كان من يمثل الشعب مستبدا ظالما؟

قلنا: ستمثل القوانين استبداده وظلمه.

قال: ولهذا .. فإن الله سبحانه برحمته بعباده ولطفه بهم لم يترك هذا الباب لتقلبات الأيام .. وتغيرات الدول .. وأمزجة الحكام ..

ففي الوقت الذي كان فيه لويس الخامس عشر يقول: (أنا الدولة والدولة أنا) كان قضاة المسلمين يقفون بكبرياء أمام أي حاكم يريد أن ينحرف بالعدالة إلى ما تتطلبه أهواؤه.

لقد روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ ضاعت منه درع فوجدها عند نصراني. فأقبل به إلى القاضي شريح يخاصمه، وقال علي: هذه الدرع درعي ولم أبع ولم أهب .. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين .. فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فالتفت شريح إلى على وقال: يا أمير المؤمنين، ألك بينة؟

فابتسم علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة.

فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى خطوات ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك وأنت منطلق إلى صفين.

قال علي: أما إذ أسلمت فهي لك.

وروي أن الأشعث بن قيس دخل على القاضي شريح في مجلس الحكومة، فقال شريح: مرحبا وأهلا وسهلا بشيخنا وسيدنا ، وأجلسه معه ، فبينما هو جالس معه إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك، فقال: بل أكلمه في مجلسي فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك، فقام امتثالا لأمر القضاء.

وروي أن رجلا جاء أبا يوسف يدعي أن له بستانا في يد الخليفة، فأحضر الخليفة إلى مجلس القضاء، وطلب من المدعي البينة، فقال: غصبه المهدي مني ولا بينة لدي وليحلف الخليفة ، فقال أمير المؤمنين: البستان لي اشتراه لي المهدي ولم أجد به عقدا، فوجه القاضي أبو يوسف إلى الخليفة اليمين ثلاث مرات، فلم يحلف الخليفة، فقضى بالبستان للرجل.

وروي أن الخليفة أبا جعفر المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة يقول: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد ، وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر ، فلست أخرجها من يده إلا ببينة ، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق ، فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها والله عدلا وصار قضاتي تردني إلى الحق.

وروي أن الناصر أراد أن يبنى قصراً لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي فطلب شراءه فقالوا: إنه لا يباع إلا بإذن القاضي، نسأله بيعه ـ وكان القاضي حينذاك المنذر بن سعيد البلوطى[304] ـ فقال القاضي: لا إلا بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام، أو وهن البناء، أو غبطة الثمن .. فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي فأباه، وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما، وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء، وعز ذلك على الخليفة، وقال له: ما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت بقول الله تعالى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ (الكهف:79) .. لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام، وبقيت للأيتام الأرض، فالآن اشترها بما تراه لها من الثمن، قال الخليفة: أنا أولى أن أنقاد إلى الحق فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا.

سكت قليلا، ثم قال: مما يدلكم على استقلال القضاء في الإسلام زيادة على ما ذكرنا ما ذكره الفقهاء من أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه .. بل هو كسائر الناس في أحكام الشهادة وغيرها[305].

لقد علم رسول الله r القضاة ذلك بفعاله قبل أن يعلمهم إياها بقوله .. فقد كان مع نبوته ووحي الله إليه يقول: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)، فقد ذكر النبي r أنه لايقضي إلا بما يسمع، لا بما يعلم .

وفي قضية الحضرمي والكندي قال r : (شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذلك)[306]

وروت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي r بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل على فريضة، فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي r فأعطاهم الأرش[307]، ثم قال: (إني خاطب الناس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم .. أرضيتم؟) قالوا : نعم ، فصعد النبي r المنبر فخطب، وذكر القصة ، وقال :(أرضيتم؟) قالوا : لا .. فهم بهم المهاجرون ، فنزل النبي r فأعطاهم ، ثم صعد فخطب الناس ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم[308]..

انظروا كيف أن النبي r لم يأخذ بعلمه في هذه القصة .. انظروا كيف عاد فأعطاهم، ولم يعاملهم بحسب إقرارهم الأول.

ومما يروى من التزام تلاميذ النبي r بهذا أن أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه فوجد عنده خمرا، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاثة، قال الله تعالى :﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ (الحجرات: من الآية12)، وقد تجسست، وقال الله تعالى :﴿ِ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾(البقرة: من الآية189)، وقد تسورت علي، وقد قال الله تعالى :﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ﴾ (النور: من الآية27)، وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم والله يا أمير المؤمنين لئن عفوت عني لا أعود إلى مثلها أبداً، فعفا عنه وخرج وتركه.

العدالة:

قلنا: عرفنا استقلال القضاء الإسلامي عن التبعية لأي سلطة غير سلطة الشريعة .. فحدثنا عن عدالته[309].

قال: لا تتم العدالة في القضاء إلا بسريانها في جميع أركان القضايا.

قلنا: وما أركان القضايا؟

قال: هما اثنان: الإثبات والحكم.. إثبات التهمة على من ارتكبها.. والحكم عليهم بعدها.

1 ـ الإثبات:

قلنا: فحدثنا عن العدالة التي جاءت بها شريعة الإسلام فيما يتعلق بالإثبات؟

قال: لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية البراهين والأدلة هي المعيار الذي به يتم تمييز الحق من الباطل .. فلهذا، فإن كل ادعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجا إلى دليل، ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان، قال تعالى :﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111) إن كنتم صادقين ( (20)، وقال :﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(النور: من الآية13)

وقد ورد في الحديث قوله r : (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) [310]

وقد عبر الفقهاء عن ضرورة الدليل لإثبات الدعاوى، فقالوا : (إن الدليل فدية الحق، ولولا الإثبات لضاعت الحقوق ، وهتكت الأنفس)، وقالوا : (الشهادة سبب إحياء الحقوق، وهي بمنزلة الروح للحقوق)

قال رجل منا: ليس الشأن في اعتبار الدليل .. ولكن الشأن في ماهية الدليل ..

لقد مارست كثير من الشعوب دجلا كثيرا سمته دليلا:

فكان منها القناعة الشخصية .. والتي تعتمد على القوة.. لقد كان كل شخص يقضي لنفسه بنفسه، وينتقم لنفسه من خصمه بدون دليل ولا برهان، وإنما لمجرد القوة الشخصية، فيستعين الشخص بأقاربه، وقد تهب القبيلة لنجدته سواء كان ظالما أو مظلوما كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم    في النائبات على ما قال برهانا

وكان منها ما يسمونه طريقة الامتحان الإلهي .. وذلك بأن يعطوا المتهم السم، أو يلقونه في النهر، أو يصبون عليه الزيت أو الماء المغلي، أو يعرض لبعض الثعابين ، فإن لم تؤثر عليه هذه المحاولات ثبتت براءته، وإلا ثبت عليه الجرم.. وقد بقي هذا معمولا به في انكلترا حتى القرن الثالث عشر.

وكان منها غير ذلك .. فما المنهج الذي اعتمده الإسلام في هذا؟

قال: منهج الإسلام في هذا يرتبط أول ما يرتبط بالإيمان بالله ..

قلنا: وما علاقة هذا بالإيمان بالله؟

قال: أنتم تعلمون أن القضايا تبدأ بالسماع[311] .. سماع الدعاوى التي تتوفر شروطها[312] ..

قلنا: ذلك صحيح ..

قال: الإسلام بدأ من هذا .. فنهى عن الكذب، وشدد فيه، واعتبره علامة من علامات النفاق، بل اعتبره مضادا للإيمان .. وانتشار مثل هذه القيم في المجتمع سيحفظه لا محالة من كثير من الدعاوى الكاذبة.

لقد ورد في الحديث قوله r : (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)[313]

وقال r : ( عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة ؛ وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار)[314]

وسئل رسول الله r، فقيل له: يا رسول الله ما عمل الجنة ؟ قال : (إذا صدق العبد بر، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة)، وقال يا رسول الله ما عمل النار ؟ قال: (الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار)[315]

وقال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فقالا لي : الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة )[316]

وقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)[317]

وقال: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) [318]

وقال : (لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقا)[319]

وقال : (لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء وإن كان محقا)[320]

وقال : (يطبع المرء على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)[321]

وقيل: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم .. قيل له أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال : نعم .. قيل له أيكون المؤمن كذابا ؟ قال : لا[322] .

وقال : (لا يجتمع الكفر والإيمان في قلب امرئ ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعا ، ولا تجتمع الأمانة والخيانة جميعا)[323]

وقال : (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب)[324]

وقال : (ألا إن الكذب يسود الوجه والنميمة عذاب القبر )[325]

وقال : (بر الوالدين يزيد في العمر ، والكذب ينقص الرزق ، والدعاء يرد القضاء)[326]

وقال : (إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به)[327]

وقال : (من قال لصبي تعال هاك أعطيك ثم لم يعطه فهي كذبة )[328]

وقال : (ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له)[329]

وقال : (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل - أي فقير – مستكبر)[330]

وقال:( ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزاني ، والإمام ـ أو قال والملك ـ الكذاب، والعائل المزهو[331])[332]

وحدثت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله r من الكذب ما اطلع على أحد من ذلك بشيء فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة[333].

وعن أسماء بنت يزيد ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذبا؟ قال: إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذيبة[334] .

وعن عبد الله بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: دعتني أمي يوما ورسول الله r قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك ، فقال لها رسول الله r: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا ، فقال لها رسول الله r: أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة[335].

قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟

قال: أنتم تعلمون أن الإقرار[336] سيد الأدلة[337] .. وأنه يختصر الكثير من الجهد المبذول في التحري .. وأنه يقي القضاء من أن يقع في مهاوي الأخطاء.

قلنا: نعلم ذلك.. ولكن ما أصعب أن نجد المتهم الذي يقر بما فعله.

قال: الإسلام نشر نوعا من الوعي في المجتمع الإسلامي يجعل تحقيق هذا سهلا ميسورا .. لقد نشر ذلك بواسطة الإيمان بالله واليوم الآخر .. لقد علم النفوس أن تصبر على ألم الدنيا لأنها لا يمكن أن تصبر على ألم الآخرة.

لقد كان رسول الله r يقول للخصوم إذا أتوه:( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها)[338]

عندما قال مرة هذا الكلام بكى الخصمان وقال كل واحد منهما لصاحبه: حقي لك، فقال رسول الله r : ( أما إذا فعلتما ذلك فاقتسماه وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا)

ولاشك أنكم سمعتم بقصة ماعز والغامدية .. وفيهما الدليل على ما يمكن للإيمان أن يفعله في هذا الجانب.

قلنا: عرفنا هذا .. فما غيره؟

قال: أنتم تعلمون أن الشهادة هي أهم وسائل الإثبات[339] .. تلك التي عرفوها بقولهم (إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة لإثبات حق على الغير)

قلنا: أجل ..

قال: ولكن الشهود قد ينكلون ويكتمون، وقد يكذبون ويرجفون.

قلنا: وهذا أصعب ما يعترض الشهادة.

قال: لقد وضع الإسلام حله .. فربى النفوس على أنها إن سكتت عن المنكر، فهي شريكة فيه .. فأداء الشهادة واجب[340] .. قال تعالى :﴿  وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ (الطلاق: من الآية2)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)، وقال :﴿ وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )(البقرة: من الآية282) ، وقال :﴿ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية283)

وفي الحديث قال رسول الله r : ( من كتم شهادة إذ دعي إليها كان كمن شهد بالزور)[341]

قلنا: عرفنا هذا، فما غيره؟

قال: لقد اعتبرت الشريعة الكذب في الشهادة من أكبر الكبائر ..

ففي الحديث عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا جلوسا عند رسول الله r فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس - فقال: (ألا وقول الزور وشهادة الزور) ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت[342].

وقال: ( الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس)[343]

وقال : ( لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار)[344]

وقال : (إن الطير لتضرب بمناقيرها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة ، وما يتكلم به شاهد الزور ولا يفارق قدماه الأرض حتى يقذف به في النار)[345]

وروي أن رسول الله r صلى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما، فقال : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات)، ثم قرأ :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ (الحج: من الآية30)[346]

 قام رجل منا، وقال: إن كان هذا فقط ما يستعمله القاضي من أساليب الاستدلال على القضايا، فما أسهل أن يتلاعب المحتالون .. فيزوروا ما شاء لهم أن يزوروا من غير رادع ولا زاجر.

قال: لا .. ليس ذلك فقط .. لقد أتاحت الشريعة للقاضي أن يستعمل من الأساليب العادلة ما يراه مناسبا للتعرف على القضايا .. ولهذا، فقد نص الفقهاء على أن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره .. ومن الخطأ تخصيصها بالشاهدين ، أو الأربعة ، أو غير ذلك[347].

وقد ورد في الحديث ما يدل على هذا .. فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: أردت السفر إلى خيبر، فأتيت النبي r، فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال : (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإذا طلب منك آية ، فضع يدك على ترقوته)[348] ، فهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة ، وإقامة لها مقام الشاهد.

وقد نص الفقهاء كلهم بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم: كيف تحملوا الشهادة؟ وأين تحملوها؟ ..

ومثل ذلك ما إذا ارتاب بالدعوى سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان، ونظر في الحال: هل يقتضي صحة ذلك؟ ..

ومثل ذلك إذا ارتاب بمن القول قوله كالأمين والمدعى عليه وجب عليه أن يستكشف الحال ، ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال .

وقد ورد في التراث الفقهي الإسلامي الكثير من الأخبار التي تبين ثراء الطرق التي استعملها قضاة الإسلام في التحري عن الحق[349]:

وممن روي عنه ذلك القاضي الكبير شريح .. قال الشعبي يحدث عنه: شهدت شريحا - وجاءته امرأة تخاصم رجلا - فأرسلت عينيها وبكت .. فقلت : يا أبا أمية، ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة؟ فقال : يا شعبي ، إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.

ومنهم إياس بن معاوية[350] .. حدث روح قال: استودع رجلا من أمناء الناس مالا ، ثم رجع فطلبه فجحده ، فأتى إياسا فأخبره، فقال له إياس : انصرف واكتم أمرك ، ولا تعلمه أنك أتيتني، ثم عد إلي بعد يومين، فدعا إياس المودع، فقال : قد حضر مال كثير ، وأريد أن أسلمه إليك ، أفحصين منزلك ؟ قال : نعم، قال : فأعد له موضعا وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس ، فقال : انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك ، وإن جحدك فقل له : إني أخبر القاضي، فأتى الرجل صاحبه فقال : مالي ، وإلا أتيت القاضي ، وشكوت إليه ، وأخبرته بأمري ، فدفع إليه ماله ، فرجع الرجل إلى إياس ، فقال : قد أعطاني المال وجاء الأمين إلى إياس لموعده ، فزجره وانتهره ، وقال: لا تقربني يا خائن .

وحدث يزيد بن هارون قال: تقلد بواسط رجل ثقة ، فأودع رجل بعض شهوده كيسا مختوما ، وذكر أن فيه ألف دينار، فلما طالت غيبة الرجل فتق الشاهد الكيس من أسفله وأخذ الدنانير ، وجعل مكانها دراهم ، وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبه ، فطلب وديعته ، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير ، فلما فتحه وشاهد الحال رجع إليه ، فقال : إني أودعتك دنانير ، والذي دفعت إلي دراهم ، فقال : هو كيسك بخاتمك فاستعدى عليه القاضي ، فأمر بإحضار المودع ، فلما صارا بين يديه قال له القاضي: منذ كم أودعك هذا الكيس؟ فقال : منذ خمس عشرة سنة ، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها ، فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين أو ثلاث ، فأمره بدفع الدنانير إليه ، وأسقطه ونادى عليه.

وروي أن رجلا استودع لغيره مالا ، فجحده ، فرفعه إلى إياس ، فسأله فأنكر؟ فقال للمدعي : أين دفعت إليه؟ فقال : في مكان في البرية ، فقال : وما كان هناك ، قال : شجرة ، قال : اذهب إليها فلعلك دفنت المال عندها ونسيت ، فتذكر إذا رأيت الشجرة ؛ فمضى ، وقال للخصم : اجلس حتى يرجع صاحبك ، وإياس يقضي وينظر إليه ساعة بعد ساعة، ثم قال له : يا هذا ، أترى صاحبك قد بلغ مكان الشجرة؟ قال : لا ، قال : يا عدو الله ، إنك خائن، قال : أقلني ، قال : لا أقالك الله، وأمر أن يحتفظ به حتى جاء الرجل ، فقال له إياس : اذهب معه فخذ حقك.

وقال إبراهيم بن مرزوق البصري : جاء رجلان إلى إياس بن معاوية ؛ يختصمان في قطيفتين : إحداهما حمراء ؛ والأخرى خضراء ؛ فقال أحدهما : دخلت الحوض لأغتسل ، ووضعت قطيفتي ، ثم جاء هذا ، فوضع قطيفته تحت قطيفتي ، ثم دخل فاغتسل ، فخرج قبلي ، وأخذ قطيفتي فمضى بها ؛ ثم خرجت فتبعته ، فزعم أنها قطيفته ؛ فقال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : ائتوني بمشط ؛ فأتي بمشط ، فسرح رأس هذا ، ورأس هذا ، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر ، ومن رأس الآخر صوف أخضر ؛ فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر ، وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر.

وحدث عبد الله بن مصعب أن معاوية بن قرة شهد عند ابنه إياس بن معاوية - مع رجال عدلهم - على رجل بأربعة آلاف درهم ، فقال المشهود عليه : يا أبا وائلة ، تثبت في أمري ، فوالله ما أشهدتهم إلا على ألفين .. فسأل إياس أباه والشهود : أكان في الصحيفة التي شهدوا عليها فضل؟ قالوا: نعم ، كان الكتاب في أولها والطية في وسطها ، وباقي الصحيفة أبيض .. قال : أفكان المشهود له يلقاكم أحيانا ، فيذكركم شهادتكم بأربعة آلاف درهم ؟ قالوا : نعم ، كان لا يزال يلقانا ، فيقول : اذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم ، فصرفهم ، ودعا المشهود له .. فقال : يا عدو الله ، تغفلت قوما صالحين مغفلين ، فأشهدتهم على صحيفة جعلت طيتها في وسطها ، وتركت فيها بياضا في أسفلها ، فلما ختموا الطية قطعت الكتاب الذي فيه حقك ألفا درهم ، وكتبت في البياض أربعة آلاف فصارت الطية في آخر الكتاب ، ثم كنت تلقاهم فتلقنهم ، وتذكرهم أنها أربعة آلاف ، فأقر بذلك ، وسأله الستر عليه ، فحكم له بألفين وستر عليه.

وقال رجل لإياس بن معاوية : علمني القضاء فقال : إن القضاء لا يعلم ، إنما القضاء فهم ، ولكن قل : علمني من العلم.

ومنهم القاضي أبو حازم .. حدث مكرم بن أحمد قال: كنت في مجلس القاضي أبي حازم فتقدم رجل شيخ ومعه غلام حدث ، فادعى الشيخ عليه ألف دينار دينا ، فقال : ما تقول ؟ قال : نعم .. فقال القاضي للشيخ: ما تريد ؟ قال: حبسه ؟ قال : لا ، فقال الشيخ : إن رأى القاضي أن يحبسه فهو أرجى لحصول مالي، فتفرس أبو حازم فيهما ساعة، ثم قال : تلازما حتى أنظر في أمركما في مجلس آخر ، فقلت له : لم أخرت حبسه؟ فقال : ويحك ، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجوه الخصوم وجه المحق من المبطل ، وقد صارت لي بذلك دراية لا تكاد تخطئ ، وقد وقع إلي أن سماحة هذا بالإقرار عين كذبه، ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة ، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة ، وقلة اختلافهما ، وسكون طباعهما مع عظم المال؟ وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع حتى يقر مثل هذا طوعا عجلا ، منشرح الصدر على هذا المال ، قال : فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار ، فأذن له ، فلما دخل قال : أصلح الله القاضي ، إني بليت بولد لي حدث يتلف كل مال يظفر به من مالي في القيان عند فلان فإذا منعته احتال بحيل تضطرني إلى التزام الغرم عنه ، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينار حالا ، وبلغني أنه تقدم إلى القاضي ليقر له فيحبسه، وأقع مع أمه فيما ينكد عيشنا إلى أن أقضي عنه، فلما سمعت بذلك بادرت إلى القاضي لأشرح له أمره ، فتبسم القاضي ، وقال لي : كيف رأيت ؟ فقلت : هذا من فضل الله على القاضي ، فقال : علي بالغلام والشيخ ، فأرهب أبو حازم الشيخ ، ووعظ الغلام، فأقرا ، فأخذ الرجل ابنه وانصرفا .

سكت قليلا، ثم قال: وغيرها من الروايات الكثيرة ..

قال رجل منا: ولكن ما تذكره مواهب شخصية .. ولا يمكن تعميمها.

قال: نعم .. للمواهب دور كبير فيها .. ولكن علماء المسلمين مع ذلك ذكروا الفصول المطولة عنها .. والتي أتاحت للقضاة وأعوانهم[351] أن يتعرفوا على الحق .. ويتثبتوا منه.

وكان عمدتهم ذلك ما ورد في النصوص من الأمر بالتثبت كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ (الحجرات:6)

وكان عمدتهم في استعمال المختلفة في التحري ما حدث به رسول الله r عن سليمان u قال: بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى[352].

وأشار إلى هذا قوله تعالى :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)﴾ (الأنبياء)

وقد روى المفسرون في تفسيرها: (الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم)

ومما يدل على اهتمام القضاة بهذا واستفادتهم منه ما حدث به حميد؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، قال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال الحسن: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا :﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (ص:26)، وقال :﴿ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ (المائدة:44)، وقال :﴿ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ﴾ (المائدة:44)

2 ـ الحكم:

قلنا: عرفنا عدالة الإثبات، فحدثنا عن عدالة الحكم.

قال: تتجلى العدالة في الحكم من خلال مظاهر كثيرة ذكرها الفقهاء .. سأذكر لكم بعضها .. وهي تدل على غيرها:

أولها علانية مجلس القضاء .. فقد ذكر الفقهاء أن على القاضي أن يأذن لغير المتخاصمين ، أن يحضروا مجلس القضاء، ويسمعوا ويشاهدوا كل ما يدور فيه ، من دعوى ، ودفاع ، وسماع شهود ونحو ذلك مما يلزم لنظر الدعوى والفصل فيها[353].

ومما يدل على هذا من المصادر الأصلية أن أقضية الرسول r وأقضية خلفائه الراشدين من بعده كلها كانت تتم في المسجد[354] .. وهو مكان عام يؤمه ويقصده كل مسلم.

ومثل ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من أنه كان يقضي في السوق .. وقال الإمام البخاري: ( وقضي يحيى بن يعمر في الطريق ، وقضى الشعبي على باب داره ) .. وقال الإمام الشافعي:( أحب أن يقضي القاضي في موضع بارز للناس لا يكون دونه حجاب وأن يكون متوسطا للمصر)

بل إن الفقهاء نصوا على استحباب دعوة العلماء وأهل الفضل لحضور مجلس القضاء .. وقد روي عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه كان إذا جلس في المسجد ، وجاءه الخصمان قال لأحدهما: اذهب فادع عليا ، وقال للآخر : اذهب فادع طلحة والزبير ، ونفرا من أصحاب النبي r، ثم يقول لهما : تكلما ثم يقبل على القوم، فيقول: ما تقولون ؟ فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه ، وإلا نظرا فيه فيقومان وقد سلما.

وكان شريح إذا جلس للقضاء ينادي مناد من جانبه: (يا معشر القوم اعلموا أن المظلوم ينتظر النصر ، وأن الظالم ينتظر العقوبة ، فتقدموا رحمكم الله) .. وهذا دليل على أن المحاكمة كانت تتم علانية أمام جميع الناس.

قلنا: عرفنا هذا .. ونحن نعرف أهميته .. فما غيره؟

قال: المسارعة بالفصل في النزاع والنطق بالحكم إذا توفرت شروطه .. وعدم الإمهال الطويل للخصوم إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك.. وقد كان هذا سنة رسول الله r في القضاء .. حيث كان يقضي بين الخصوم في مجلس المخاصمة، ولم يكن يرجئهم إلى وقت آخر كما قضى بين الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة[355]، وكما قضى بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد بالصلح بينهما بالنصف في دين[356].

وهكذا كان القضاء في عهد خلفائه الراشدين فقد جاء في رسالة عمر إلى بعض ولاته:( أما بعد فإني كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيرا، فالزم خصالا يسلم دينك ، وتأخذ بأفضل حظك عليك، إذا حضر الخصمان فالبينة العدول، والأيمان القاطعة، أدن الضعيف حتى يجترئ وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء)[357]

وقد ذكر الفقهاء سر المسارعة في هذا، فقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:( بقي علينا إكمال القول في مقصد التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها وهو مقصد من السمو بمكانه ، فإن الإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعينه بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهوره يثير مفاسد كثيرة، منها: حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقه ، وذلك إضرار به ، ومنها إقرار غير المستحق على الانتفاع بشيء ليس له وهو ظالم للمحق، ومنها استمرار المنازعة بين المحق والمحقوق وفي ذلك فساد حصول الاضطراب في الأمة ، فإن كان في الحق شبهة للخصمين ولم يتضح المحق، من المحقوق ففي الإبطاء مفسدة بقاء التردد في تعيين صاحب الحق وقد يمتد التنازع بينهما في ترويج كل شبهته، وفي كلا الحالين تحصل مفسدة تعريض الأخوة الإسلامية للوهن والانخرام ، ومنها تطرق التهمة إلى الحاكم في تريثه بأنه يرد إملال المحق حتى يسأم متابعة حقه، فيتركه فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمة فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس، وزوال حرمته من النفوس مفسدة عظيمة)[358]

قال رجل منا: لقد ذكرت أن المصلحة قد تقتضي تأخير النطق بالحكم.

قال: لقد ذكر فقهاؤنا هذا .. واعتبروا لذلك مصالح:

منها أن يعطيهما القاضي بالتأخير فرصة للصلح .. وقد أمر الله تعالى بالصلح ورغب فيه في مواطن كثيرة، قال تعال :﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ (النساء: من الآية128)

وأرشد إليه r في الأمور عامة وفي المنازعات خاصة، ولذا لما تنازع عنده رجلان في مواريث لهما قال لهما:( اذهبا فاقتسما، ثم توخيا إلى الحق ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه)[359]

ويتأكد الصلح إذا كانت المنازعات بين قرابة أو بين أهل فضل .. وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ في ذلك قوله:(ردوا الخصوم لعلهم أن يصلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن)، وقال : (ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن)

ومن المصالح المعتبرة في التأخير زيادة التحري، خاصة في القضايا التي فيها، لبس أو كانت الدعوى في أمور درست وتقادمت وتشابهت، فإن القاضي يحاول في الصلح، فإن أبياه، فلا يعجل في الحكم، بل يؤخرهما إلى البيان، فإن عجل الحكم قبل البيان لم يصح الحكم، قال ابن قدامة (وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم، وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح، فإن أبيا أخرهما إلى البيان، فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه)[360]

وقد اشترط العلماء في أمر القاضي بالصلح ألا يتبين له وجه الحكم، فعلى هذا فمتى تبين له الظالم من المظلوم لم يسعه من الله إلا فصل القضاء، قال أبو عبيد : ( إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم، فليس له أن يحملهما على الصلح، ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة)[361]

وقال ابن القيم: ( والصلح الجائر هو الظلم بعينه، وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح، بل يصلح صلحا ظالما جائرا، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف من حق أحدهما .. وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضي به القادر صاحب الجاه، ويكون له فيه الحظ ، ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف، ويظن أنه قد أصلح ، ولا يمكن المظلوم من أخذ حقه وهذا ظلم، بل يمكن المظلوم من استيفاء حقه، ثم يطلب إليه برضاه أن يترك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه ولا يشتبه بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوهما)[362]

ومن المصالح المعتبرة في التأخير إمهال مدعي البينة الغائبة حتى يحضر بينته، فمما جاء في رسالة عمر ـ رضي الله عنه ـ في القضاء:( واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه ، فإنه أثبت للحجة وأبلغ في العذر، فإن أحضر بينة إلى ذلك الأجل أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء)

وقد علق على هذا ابن القيم بقوله : (هذا من تمام العدل، فإن المدعي قد تكون حجته أو بينته غائبة ، فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه ، فإذا سأل أمدا تحضر فيه حجته أجيب إليه ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام ، بل بحسب الحاجة فإن ظهر عناده ومدافعته للحكم لم يضرب له أمدا ، بل يفصل الحكومة ، فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل ، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم)[363]

قلنا: عرفنا هذا .. وعرفنا أهميته .. فما غيره؟

قال: التسوية بين الخصوم في الأحكام .. فلا تميز فئة من الناس بأحكام خاصة بها .. فالناس ـ في نظر الإسلام ـ مهما علت مقاماتهم، أو سمت منازلهم، فهم أمام شرع الله متساوون، لا امتياز لأحد على أحد.

وهذا ما تنص عليه النصوص المقدسة الكثيرة .. والتي يتخذها القضاة قانونهم الذي يحكمون من خلاله .. قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)، وقال:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾  (المائدة:8)

وفي الحديث أن أن امرأة من بني مخزوم سرقت حليا وقطيفة، فبعث قومها أسامة بن زيد بن حارثة ليشفع فيها، فرده الرسول r قائلا: ( يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)

وقد أشار r في جوابه لأسامة بن زيد إلى أن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة، فقال: ( إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)[364]

وقد توارث هذه السنة ورثة رسول الله r من أولي الأمر من المسلمين .. فكانوا لا يفرقون في أحكامهم بين شريف ووضيع .. وقد كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في رسالته لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول : ( آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك)

وقد طبق ذلك في سلوكه وقضاياه .. فقد نفذ حد الشرب في قدامة بن مظعون الجمحي، وكان صهر عمر بن الخطاب على أخته[365]، وكان حينها أميرا على البحرين.

وعندما أعرابي على رداء جبلة بن الأيهم، وهو يطوف حول الكعبة، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه، فلطم الأعرابي المسلم، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب، فقضى بلطم الأمير على الملأ.

وهكذا كان أولياء الأمر في كثير من فترات التاريخ الإسلامي ..

ففي عهد الدولة العباسية، ادعى جماعة ضد الخليفة المنصور، أمام القاضي محمد بن عمران الطلحي، فأرسل القاضي إلى الخليفة يستدعيه، فاستجاب الخليفة وحضر مجلس القضاء، وأجلسه القاضي مع الخصوم، وبعد سماع أقوال طرفي القضية حكم القاضي ضد الخليفة، وبعد انصراف الناس وعودة الخليفة إلى دار الخلافة استدعى القاضي الطلحي، فذهب وهو يخشى غضب السلطان، ولما مثل بين يديه قال له المنصور: جزاك الله عن دينك ونبيك وعن حسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء[366].

وقد ذكر الفقهاء الكثير من الفروع التي تجعل من المساواة أمرا عمليا، لا مجرد مثل أخلاقية تخضع لأمزجة القضاة..

فذكروا أن على القاضي أن يساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر والمخاطبة ، قال ابن القيم:( إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه.. وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان إحداهما : طمعه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه ، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر محجته)[367]

وذكروا أن على القاضي أن يمتنع من النظر في دعوى أقاربه ، لتأمين حياده تجاه الخصوم. قال الفقهاء: ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له كوالده وولده وزوجته ولا على عدوه.

وذكروا أنه يحرم على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ليتضح للقاضي تحرير الدعوى.

وذكروا أنه يحرم على القاضي أن يضيف أحد الخصمين أو يستضيفه لئلا يكون إعانة على خصمه وكسر قلبه ، ومثل ذلك حرمت الشريعة على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته أو ممن كانت له حكومة مطلقا؛ لأن قبولها ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته. كل ذلك لقاعدة سد الذرائع المعتبرة في الشريعة.

وذكروا أنه يكره للقاضي أن يبيع أو يشتري بنفسه، ولكن يجعل له وكيلا لا يعرف به خشية المحاباة وحفاظا على الحياد المطلوب.

وغيرها من الفروع الكثيرة التي تحاول أن تجعل من المساواة أمام القضاء أمرا عمليا حقيقيا لا مجرد مثل وخيالات[368].

قلنا: عرفنا هذا .. وعرفنا أهميته .. فما غيره؟

قال: لقد حثت الشريعة القضاة على أن يتعاملوا في أحكامهم مع الظواهر لا البواطن .. فلا يحاكمون الناس إلا بما بدر منهم ..

لقد نص الفقهاء على أن القضاء يقع وفق الإثبات المظهر للواقعة والحق أمام القاضي، فإذا كان الإثبات صحيحا في الظاهر والباطن ومطابقا للواقع وصادقا في نفس الأمر، فإنه يؤثر في المدعى به ظاهرا وباطنا، فيحكم للمدعى بالشيء ظاهرا، ويحل له أخذه واستعماله واستغلاله وتملكه والاستفادة منه باطنا فيما بينه وبين الله، أي ينفذ الحكم في الدنيا والآخرة.

أما إذا كان الإثبات غير مطابق للواقع، وكان ظاهره يخالف باطنه، فإن حكم الحاكم المبني على الإثبات لا يحل حلالا، ولا يحرم حراما، ولا يغير الشيء عما هو عليه في الواقع ونفس الأمر، وإنما ينفذ في الظاهر فقط عند من لا يعلم الحقيقة والباطن، وتترك البواطن لله، وترتبط بالحساب والعقاب الأخروي.

وقد كنت ذكرت لكم قوله r:( إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها)، وفي لفظ (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)[369] .. وقال r:( من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)[370]

قلنا: عرفنا هذا .. وعرفنا أهميته .. فما غيره؟

قال: ما ذكره الفقهاء من أن على القاضي أن يبين دليله الذي اعتمد عليه في أحكامه .. لينظر فيه هل هو موافق للشريعة أم مخالف لها .. فلا يصح الحكم في الإسلام إلا بشرع الله .. قال تعالى :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)، وقال :﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ (النساء:65)

وقال r لمعاذ لما بعثه قاضيا إلى اليمن:(كيف تقضي؟) قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد قال : فبسنة رسول الله قال : فإن لم تجد قال : (اجتهد رأي ولا آلو)[371]

فإن لم يجد القاضي نصا صريحا في القضية التي يريد أن يحكم فيها اجتهد وفق القواعد العامة ، والأصول الجامعة، في الشريعة الإسلامية ووفق قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة تحقيق العدل ووفق الأحكام الفقهية الاجتهادية في الفقه الإسلامي المبنية على الدليل.

ونص الفقهاء على أن على القاضي أن يبين علة الحكم الذي حكم به، والحكمة منه، مستندين في ذلك إلى فعله r .. فقد كان r يعلل للأحكام التي يحكم بها، فقد قضى بحضانة ابنة حمزة لخالتها وقال مبينا علة ذلك:( الخالة بمنزلة الأم)[372]

قلنا: عرفنا هذا .. فما غيره؟

قال: ما أمرت به الشريعة من ضرورة التنفيذ الجبري للأحكام القضائية .. فمقاصد الشريعة الإسلامية من القضاء ـ وهي إظهار الحق، وقمع الباطل، ورد الحقوق لأصحابها، وردع الظالم، ونصرة المظلوم، ورفع مظلمته ـ لا تتحقق إلا بذلك.

ولأجل هذا كفل نظام القضاء في الإسلام تنفيذ الحكم بعد صدوره .. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ في كتابه لأبي موسى الأشعري:( فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له)

وقد علق ابن القيم على ذلك بقوله : (ولاية الحق نفوذه فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلا له عن ولايته ، فهو بمنزلة الوالي العادل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فإذا عزل عن ولايته لم ينفع، ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم ولا ينفع تكلمه به إن لم يكون له قوة تنفيذه ، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه ومدح الله سبحانه أولي القوة في تنفيذ أمره والبصائر في دينه فقال :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ (صّ:45)، فالمراد الأيدي هنا: القوة على تنفيذ أمر الله، والمراد بالأبصار: البصائر في دينه)[373]

بل نص الفقهاء على ضرورة التشديد في التنفيذ، قال ابن عقيل : ( جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية : أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام)

قلنا: عرفنا هذا، وعرفنا أهميته .. فهل هناك غيره؟

قال: لقد نهت الشريعة القاضي أن يقضي، وهو في حالة نفسية مشوشة لئلا يؤثر ذلك على أحكامه، ففي الحديث قال r : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)[374]، وسر ذلك هو أن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم ، ويحول بينه وبين استيفاء النظر ، ويعمي عليه طريق العلم والقصد.

ومثل هذا كل ما يمكن أن يعرض له من هم مزعج وخوف مقلق وجوع وظمأ الشديد وشغل للقلب مانع من الفهم.

الرحمة:

قلنا: عرفنا ما وضعته الشريعة من أحكام تخدم العدالة .. فما وضعت من الأحكام التي تخدم الرحمة.

قال: الرحمة في ديننا أصل أصوله .. فلا حظ لقاسي القلب في هذا الدين ..

قلنا: فما تجليات الرحمة في هذا؟

قال: كثيرة جدا .. سأقتصر لكم على بعض مجامعها.

منها أن الشريعة وضعت جهازا مقابلا للقضاء وساميا عليه سمته ديوان المظالم[375] .. وهو من مفاخر القضاء الإسلامي، فقد وضع هذا الجهاز لكل ما يعجز عنه القضاة من قضايا، كأن تكون القضية متصلة بكبار القوم أصحاب السلطة والنفوذ، فلا يستطيع القاضي فرض نفوذه والحكم ضدهم، فيكلف والي المظالم بأخذ الحق منهم لصاحبه، ولذلك فوالي المظالم لابد أن يكون على درجة عظيمة من الهيبة والتقوى، وسعة العلم.

وقد تطور ديوان المظالم بعد إنشائه، فأحيانًا كان الخلفاء أنفسهم يقومون بمهمة والي المظالم، ومما يروى في ذلك أن الخليفة العباسي المأمون جلس للمظالم يومًا، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، فدخلت عليه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال لها: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك. فأخبرته أن ابنه قد اغتصب منها أرضها، فحدد لها موعدًا تأتي فيه، ويحضر خصمها أمامها.

فلما كان اليوم المحدد، أحْضرَ الخَصْمَ، فأجلسها وجلس الخصوم، وظلت المرأة تتحدث بصوت عالٍ، فقال لها الفضل (وزير المأمون): على رِسْلِكِ (أي مهلاً)، إنه ابن أمير المؤمنين. فقال له المأمون: دعها فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه. ثم قضى لها بردِّ ضَيْعَتِها، وحبس ابنه.

وهكذا كان لجهاز المظالم أثر كبير في رفع الظلم وانتشار العدل، وتطبيق الشريعة على الجميع، مهما كانت منزلتهم.

ومنها أن للمحكوم عليه حق الاستئناف سواء عند نفس القاضي الذي حكم عليه، أو عند غيره.

وقد نص الفقهاء في هذا على أن القاضي إذا أصدر حكما في قضية، ثم ظهر له أن هذا الحكم خطأ يتعين نقضه، قام هو بنقضه .. وكما أن للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقض حكم نفسه فإن لغيره من القضاة أن ينقضوا أحكام غيرهم إذا رفعت إليهم هذه الأحكام أو نظروها من تلقاء أنفسهم، كما لو نظر القاضي الجديد أحكام سلفه.

 إلا أن الفقهاء مع هذا ـ وسدا للذريعة ـ أحاطوا هذا بجملة من الضوابط والقواعد التي تنظمه حتى لا يكون مسرحا للفوضى فتنتقض الأحكام دون مبرر يقضى بذلك.

ومن هذه القواعد أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، سواء كان مصدر الاجتهاد الثاني هو نفس القاضي الأول أو كان غيره ، وذلك بهدف استقرار الأحكام ووثوق الناس بها وإنهاء الخصومات وقطع الطريق على حكام السوء الذين قد يتذرعون بالاجتهاد لنقض أحكامهم أو لنقض أحكام غيرهم لأغراض غير مشروعة .

ومنها أن السوابق القضائية لا تقيد القاضي ولا تلزمه، فإذا قضى القاضي في مسألة اجتهادية بحكم معين فإنه لا يتقيد به في القضايا المماثلة للقضية الأولى، فله أن يحكم فيها بحكم جديد إذا تغير اجتهاده في هذه القضايا، وبالتالي لا يجوز له أن ينقض حكمه القديم بحجة حكمه الجديد .

ومنها أن الحكم المخالف للنص أو الإجماع ينقض، فإذا حكم القاضي بحكم يخالف نص القرآن أو السنة أو الإجماع فإن هذا الحكم يستحق النقض.

ومنها أن التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض، لأن القاعدة- كما يقول القرافى ـ أن التهمة تقدح في التصرفات إجماعا من حيث الجملة وهي- أي التهمة- مختلفة المراتب فأعلى رتب التهمة معتبر إجماعا مثل حكم القاضي لنفسه فإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء، وأدنى رتب التهم مردود إجماعا إذ لا تأثير له في سلامة حكم لجيرانه وأهل بلدنه مثلا . والوسط من التهم مختلف فيه هل يلحق بالأول فينقض الحكم به ، أم يلحق بالثاني فلا يؤثر في الحكم ولا ينقض به .. وأصل ذلك جميعا قوله r: (لا تتقبل شهادة خصم ولا ظنين)[376] أي متهم .

ومنها الحفاظ على حقوق المتهم المحكوم عليه .. فلا يعاقب فوق العقوبة التي حددها له الشارع.

ومما يدل على هذا ما ورد في الحديث من أن رجلاً كان يلقب حماراً وكان يهدى لرسول الله r العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى رسول الله r ، فقال: أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد النبي r أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجيء به إلى رسول الله r وقد شرب الخمر، فقال رجل: (اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله r )، فقال رسول الله r : ( دعوه فإنه يحب الله ورسوله)[377]

ومثل ذلك ما رود في حديث المرأة التائبة والتي أقام عليها رسول الله r الحد .. فإنه بعد موتها صلى عليها، فقال له عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال r: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز و جل؟)[378]

 

7 ـ الدفاع

قال رجل منا: حدثتنا عن النظام القضائي .. فحدثنا عن نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام ..

قال آخر: لم أسمع أن في الإسلام شيئا اسمه (نظام دفاع)

قال آخر: بلى .. هناك مثل هذا النظام.. وهو نظام يعتمد الأسلحة التقليدية .. والحرب التقليدية.

قال آخر: أجل .. أعرفه .. إنه نظام يعتمد على الكر والفر .. والخداع والمكر.

قال آخر: وهو نظام يعتمد على اللصوصية التي كان يمارسها العرب في جاهليتهم.. ولكن بفارق بسيط وهو أن العرب كانوا يغزوا بعضهم بعضا، فحولهم الإسلام إلى غزو الدول القريبة منهم.

قاطعهم الحسين، وقال: رويدكم .. فلا ينبغي أن نردد كل ما يقال .. لقد جعل الله لنا من المدارك ما نميز به الخبيث من الطيب .. والباطل من الحق ..

تأملوا جيدا فيما سبق أن ذكرته لكم .. هل يمكن لدين يحمل كل تلك المعاني الجميلة .. وكل تلك الأهداف النبيلة أن يصير لصا مجرما سفاحا ..

قال رجل منا: صدقت .. فحدثنا ما تقول الحقائق عن نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام.

قال: نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام يقوم على ركنين أساسيين كبيرين كلاهما جاء به القرآن وكلاهما مارسه رسول الله r في حياته ودعا إليه.

أما أولهما، فهو الأمانة .. وأما الثاني، فهو القوة ..

وقد جمعهما الله في قول ابنة الرجل الصالح وهي تثني على موسى u - بعدما استطاع أن يستخلص حقها وحق أختها من قومها المستكبرين -:﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾ (القصص)

انظروا إلى هذه العبارة ما أجمعها .. إنها تجمع الشروط التي تحمي الأمة كما حمى موسى u ابنتي الرجل الصالح.. فقوة الدولة وحدها لا تكفي .. كما أن أمانتها المجردة من القوة وحدها لا تكفي ..

لقد أشار عمر إلى أهمية هذين الركنين، فقال :( أشكو إلى الله جَلَد الفاجر، وعجز الثقة)

وعندما دخل على لفيف من الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير ، فقال : (أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي ، فأستعين بهم على أمور المسلمين)، وقد كان سعيد مثالا للقوة والأمانة.

ولهذا .. فإن رسول الله r نبه أبا ذر إلى شرط القوة لأداء الأمانة، فقال :( يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)[379]

القوة:

قلنا: ما تريد بالقوة؟

قال: القوة تعنى امتلاك جميع الأسباب التي تجعل الغير لا يطمع فيك .. وهي ليست ـ في منظور الإسلام ـ مقتصرة على القوة الجسدية وحدها .. فقد تكون قويا في جسدك .. ولكنك ضعيف في نفسك .. وذلك مما يطمع أعداءك فيك.

ولهذا ورد الأمر بالقوة والاستعداد لها من غير تحديد لنوع ذلك الاستعداد، ولا لنوع تلك القوة، قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ .. (60)﴾ (الأنفال)

وأخبر r عن فضل قوة المؤمن من غير تحديد لنوعها، فقال :( المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)[380]

فالقوة في المفهوم الإسلام هي القدرة على مواجهة جميع الصعاب مهما كان نوعها أو مصدرها .. وهي تتحقق في السلم كما تتحقق في الحرب .. بل لا يمكن أن ينجح في الحرب من لم ينجح في السلم ..

ولهذا فإن قوة الدولة هي الحصن الذي يحميها .. قبل أن تحميها جيوشها وأسلحتها.

الأمانة:

قلنا: فحدثنا عن الأمانة .. وما وجه علاقتها بنظام الدفاع؟

قال: الأمانة هي عدم الظلم وعدم الخيانة .. فمن أعطاه الله قوة .. فلا ينبغي أن يتكبر بها على عباد الله، فيظلمهم أو يسلبهم حقوقهم أو يستولي على ما آتاهم الله من فضله.

ولهذا أخبر r أن هلاك الأمة مرتبط بضياع الأمانة وضياع أهلها، فقال :( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)[381]

وأخبر رسول الله r أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، فقال :( إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام لآل قطع سلكه فتتابع)[382]  أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي.

***

ما وصل الحسين بن علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد خبيب، وساروا به إلى مقصلة الإعدام ..

بعد أن وضع الحبل على عنقه التفت إلينا بابتسامة، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل .. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في جيش العدالة الإلهية .. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد .. فـ :﴿ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)﴾ (الأحزاب)

قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد r .

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى أبي عبد الله الحُسَيْن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ (4 - 61هـ )، سبط رسول الله r، وسيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي r .. أمه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بنت رسول الله r ، وهو ثاني أولادها ..

ولد بالمدينة المنورة في الخامس من شعبان في السنة الرابعة للهجرة، وقد سماه النبي r الحسين، وعقَّ عنه يوم سابعه بكبش، وحلق شعره وأمر أن يُتصدَّق بزنة شعره فضة.. وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: ¸لما ولد الحسن جاء رسول الله r فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: سميته حربًا، قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين قال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت سميته حربًا، قال: بل هو حسين (رواه أحمد بإسناد حسن، وقد ورد ما يخالف هذه الرواية، ففي بعض المصادر أن علياً قال: لم أكن لأسبق رسول الله r في تسميته، وأن النبي r سماه حسيناً كما سمّى أخاه من قبل حسناً)

كان ـ رضي الله عنه ـ فاضلاً كثير الصوم والصلاة والحج والصدقة وأفعال الخير، وقد حجَّ ـ كما قبل ـ خمسًا وعشرين حجةً وهو يمشي على رجليه. وحدَّث عن جده، وأبويه، وصهره عمر، وطائفة، وحدث عنه ولداه عليُّ وفاطمة، وخلق كثير. وقد أوتي مَلَكَة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء، وأخذ نفسه بسمت الوقار في رعاية أسرته ورعاية الناس عامة فهابه الناس.. وقد تداول الناس الروايات الكثيرة عن علمه الغزير وفصاحته الموهوبة وشجاعته المتوارثة ووفائه وفروسيته..

وقد ردت في فضله المناقب الكثيرة عن رسول الله r، منها قوله: ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ) (رواه الترمذي بإسناد صححه وحسنه)، ومنها ما روى حذيفة: (إن ملكًا هبط إلى النبي r لم يهبط إلى الأرض قطّ قبل هذه الليلة، استأذن ربه، عز وجل، أن يُسلِّم على النبي r ويبشره أن الحسين سيّد شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء الجنة) (رواه أحمد والترمذي)، ومنها : (إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا)(البخاري)، ومنها ( حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسيناً، الحسن و الحسين من الأسباط)، ومنها من أحبهما - أي الحسن والحسين - فقد أحبني)، وغيرها.

ومع كل هذه المناقب .. فقد شاء الله لبعض الأشقياء من الطغاة أن يقدموا على قتله مع أهل بيته في الواقعة المشهورة بكربلاء في يوم الجمعة في العاشر من المحرم منها عام 61هـ .

وقد ذكرنا الحادثة بتفصيل في الرسالة الموسومة بـ (حوار مع الطغاة) في الفصل الذي خصصناه للطاغية (يزيد)

([2]) تحدثنا عن أحداث الواقعة في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة، فصل (الصاعد)

([3])   من القائلين بهذا علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) .. ذلك أنه قال عن نظام الحكم زمن النبي r: (إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس)

([4])  يذكر بعضهم أن علي عبد الرازق ذهب قبل تأليفه إلى بريطانيا، وأقام فيها عامين .. ومن أجل هذا وغيره ذهب فضيلة الشيخ ( محمد بخيت ) رحمه الله إلى أن الكتاب ليس من تأليف (على عبد الرازق)، ورجح الدكتور (ضياء الدين الريس) بأن مؤلف الكتاب الحقيقي هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل، وهو (مرجليوث) ومن هنا أطلق عليه الأستاذ أنور الجندي ( حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث )

([5])  صدرت كتب عديدة ترد على الكتاب وتفضح مؤامراته وحوكم مؤلف الكتاب أمام هيئة كبار العلماء بالأزهر، فأصدرت حكمها في 22 من المحرم سنة 1344 هـ الموافق 12 أغسطس 1925 م وهو يقضي بإخراج الشيخ على عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) من زمرة العلماء.

وقد صدرت منذ صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر بن عاشور والشيخ رشيد رضا، بالإضافة إلى كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس..انظر ( الاتجاهات الوطنية ) ( 2 / 85 - 95 )

 

([6])  سنرى الأدلة الكثيرة على عدم إجماع المسيحيين على التثليث في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

([7])  استفدنا في الحوار مع العلمانية في هذا المحل من كتاب (العلمانية وجها لوجه) للشيخ يوسف القرضاوي.

([8])  انظر رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

([9])  ينقسم العلمانيون إلى تيارين:

أولا: تيار مادى ملحد، طمح إلى تحرير الحياة -كل الحياة- من الإيمان الديني .. وقد كانت الماركسية أبرز إفرازات هذا التيار.

ثانيا: تيار مؤمن بوجود خالق للكون والإنسان، لكنه يقف بنطاق عمل هذا الخالق عند مجرد الخلق، فيحرر الدولة والسياسة والاجتماع من سلطان الدين ، مع بقإء الإيمان الدينى علاقة خاصة وفردية بين الإنسان وبين الله..  

ومن فلاسفة هذا التيار هوبر (1588/1679م)، ولوك (1632/1716م) وليبيز (1646/1716م)، وليسينج (1729/1871م) ، ورسو (1712/1778م)

([10])  رواه الترمذي.

([11])  الترجمة الصحيحة للعلمانية SECULARISM هو: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين.. وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE

([12])  رواه أحمد وأبو داود.

([13]) رواه الطبراني في الكبير.

([14])  رواه البخاري ومسلم.

([15])  ذكرنا مقارنة مفصلة بين الإسلام وسائر الأديان والمذاهب تتعلق بهذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([16])  يطلق على الحاكم العام للأمة الإسلامية في الاصطلاح الشرعي لقب (الخليفة) .. ولخلافة في اللّغة : مصدر خلف يخلف خلافةً : أي : بقي بعده أو قام مقامه ، وكلّ من يخلف شخصاً آخر يسمّى خليفةً ، لذلك سمّي من يخلف الرّسول r في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً ، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً.

أمّا في الاصطلاح الشّرعيّ : فقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله : (هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ ، في مصالحهم الأخرويّة ، والدّنيويّة الرّاجعة إليها) .. ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله : فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا.

([17])  تحدث فقهاء الفقه السياسي على شروط الإمامة .. واختلفوا في عدها .. وكان لعصرهم وفهومهم للنصوص تأثيرها في ذلك ..

وسنسوق هنا بعض ما ذكروا اختصارا .. فمن الشروط التي ذكرها الباقلاني: القرشية والعلم الذي يصلح معه أن يكون قاضياً ، البصيرة في الحرب والسياسة ، الصلابة بحيث لا تلحقه رقة في إقامة الحدود وضرب الرقاب والأبشار.

ومن الشروط التي ذكرها أبو الحسن الماوردي: العدالة ، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد ، وسلامة الحواس ، وسلامة الأعضاء ، و الرأي المفضي إلى سياسة الرعية ، والشجاعة ، والقرشية.

وذكر أبو يعلى: القرشية، وشروط تولية القضاء ، والبصر بأمور الحرب والسياسة و إقامة الحدود ، والعلم.

وذكر عبد القاهر البغدادي : العلم المؤدي إلى الاجتهاد ، والعدالة ، وأقلها قبول شهادته تحملاً وأداءً ، والقرشية ، والاهتداء إِلى أوجه السياسة وحسن التدبير.

وذكر أبو حامد الغزالي: البلوغ ، العقل ، الحرية ، الذكورية ، النسب القرشي ، سلامة حاستي السمع والبصر ، النجدة ، الكفاية ، العلم ، الورع.

كما أن من الفقهاء من أجاز إمامة الجاهل والفاسق بالعمل أو المعتقد، وإمامة الاستيلاء والقهر والغصب انعقاداً واستدامة .. وعلى رأس هؤلاء أبو يعلى الحنبلي الذي نسب هذا الرأي للإِمام أحمد بن حنبل.

([18])  رواه

([19])  رواه أحمد ومسلم.

([20])  رواه أحمد.

([21])  رواه الترمذي.

([22])  رواه الحاكم والبيهقي.

([23])  رواه مسلم.

([24])  رواه البخاري.

([25])   رواه أحمد والترمذي والحاكم.

([26])  رواه أحمد والطبراني.

([27])  رواه البخاري ومسلم.

([28])  رواه أحمد والنسائي.

([29])  رواه أحمد

([30])  رواه أحمد والترمذي.

([31])  سنرى مسؤوليات أخرى للرعية في فصل (المسؤولية) من هذه الرسالة.

([32])  للبيعة في اللّغة معان ، فتطلق على : المبايعة على الطّاعة.. وتطلق على الصّفقة من صفقات البيع، ويقال: بايعته، وهي من البيع والبيعة جميعاً والتّبايع مثله.. قال اللّه تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ (الفتح: من الآية10)، وهو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة.. كأنّ كلّاً منهما باع ما عنده لصاحبه ، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره.

وهي اصطلاحاً ، كما عرّفها ابن خلدون في مقدّمته : (العهد على الطّاعة ، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط والمكره ، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد ، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ، وصارت البيعة تقترن بالمصافحة بالأيدي)

([33])  رواه مسلم.

([34])   وهي المذكورة في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الممتحنة:12)

وروى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه r يمتحنّ بقول اللّه تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ﴾ إلى آخر الآية ، قالت عائشة: ( فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرّ بالمحنة)

وكان رسول اللّه r إذا أقررن بذلك من قولهنّ، قال لهنّ : انطلقن فقد بايعتكنّ، ولا واللّه ما مسّت يد رسول اللّه r يد امرأة قطّ ، غير أنّه بايعهنّ بالكلام.

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : واللّه ما أخذ رسول اللّه r على النّساء قطّ إلاّ بما أمره اللّه عزّ وجلّ ، وما مسّت كفّ رسول اللّه r كفّ امرأة قطّ ، وكان يقول لهنّ إذا أخذ عليهنّ قد بايعتكنّ كلاماً)

([35])  رواه ابن حبان في صحيحه.

([36])  ينقسم أهل الحل والعقد إلى قسمين:

أهل الاختيار هم الّذين وكّل إليهم اختيار الإمام، وهم جماعة من أهل الحلّ والعقد ، وقد يكونون جميع أهل الحلّ والعقد، وقد يكونون بعضاً منهم.

أهل الشّورى، والصّفة البارزة فيهم هي العلم .. كما أن الصّفة البارزة في أهل الحلّ والعقد هي الشّوكة.

وقد ورد أنّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كان إذا حزبه أمر استدعى عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ ومعاذ بن جبلٍ وأبيّ بن كعبٍ وزيد بن ثابتٍ ، وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكرٍ ، فاستشارهم في حين كان من بين الّذين تولّوا بيعة أبي بكرٍ من أهل الحلّ والعقد بشير بن سعدٍ ، ولم يكن بشير من أهل الفتوى من الصّحابة ، ولكنّه كان مسموع الكلمة في قومه - الخزرج – ويقال: إنّه أوّل من بايع أبا بكرٍ الصّدّيق يوم السّقيفة من الأنصار.

([37])  اتّفق الفقهاء على أنّ الإمامة تنعقد بإجماع أهل الحلّ والعقد على المبايعة ، وبمبايعة جمهور أهل الحلّ والعقد من كلّ بلد ، وذهب بعض الفقهاء إلى أنّها لا تنعقد بأقلّ من ذلك ، ليتمّ الرّضا به والتّسليم لإمامته.

قال أبو يعلى : أمّا انعقاد الإمامة باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد ، قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : الإمام الّذي يجتمع قول أهل الحلّ والعقد عليه ، كلّهم يقول هذا إمام.. قال أبو يعلى : وظاهر هذا أنّها تنعقد بجماعتهم.. وقيل : تنعقد بأقلّ من ذلك.

وممّن قال بعدم انعقادها إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد المالكيّة والحنابلة، وقال المعتزلة بانعقادها بخمسة ، وقال الشّافعيّة بانعقادها بالأربعة والثّلاثة والاثنين ، وقال الحنفيّة بانعقادها بواحد.

([38])   تعامل الفقهاء مع الولاية باعتبارها عقدا من العقود الشرعية: ولذلك، فإن البيعة ـ عندهم ـ هي عبارة عن عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار ، وهو عقد بين طرفين أحدهما أهل الحلّ والعقد.. وثانيهما الشّخص الّذي أدّاهم اجتهادهم إلى اختياره ممّن قد استوفوا شرائط الإمامة ليكون إماماً لهم.

فإذا اجتمع أهل الحلّ والعقد للاختيار ، وتصفّحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها ، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم في تلك الشّروط ، ومن يسرع النّاس إلى طاعته ولا يتوقّفون عن بيعته.

فإذا تعيّن لهم من بين الجماعة من أدّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه ، فإن أجاب إليها بايعوه عليها ، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة ، فلزم كافّة الأمة الدّخول في بيعته والانقياد لطاعته ، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يحبر عليها ، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقّيها.

([39])  رواه البخاري ومسلم.

([40])  رواه البخاري ومسلم.

([41])  رواه البخاري.

([42])  رواه مسلم.

([43])  رواه مسلم.

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري ومسلم.

(1) رواه ابن حبان وابن أبي شيبة وأحمد والطيالسي.

([47])  إعراض رسول الله r له دلالة عظيمة في هذا الباب .. وكأنه r قد غضب أن تصل أمته إلى هذه الدرجة التي يكون فيها مثل هؤلاء الولاة ..

([48])   رواه مسلم.

([49])  رواه البخاري ومسلم.

([50])   رواه البخاري ومسلم.

([51])   رواه البخاري ومسلم.

([52])   رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن.

([53])  رواه البخاري.

([54])   رواه البخاري ومسلم.

([55])  ذكرنا أمثلة عن ذلك في فصل (مسؤولية) من هذه الرسالة.

([56])   الدواوين: لغة: جمع ديوان، ، ويطلق على مجتمع الصّحف ، وعلى الكتاب الّذي يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة ، وعلى جريدة الحساب ، ثمّ أطلق على الحساب ، ثمّ على موضع الحساب ، وفي تاج العروس : معاني الدّيوان خمسة : الكتبة ومحلّهم ، والدّفتر، وكلّ كتابٍ ، ومجموع الشّعر.

 وقد عرفها الماوردى فى الأحكام السلطانية بقوله: الديوان موضوع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال ، ثم أطلقت الكلمة أيضا من باب المجاز على المكان الذى تحفظ فيه السجلات ويجرى العمل بها.

([57])   رواه أبو يعلى والعسكري، وابن أبي خيثمة والبغوي وابن قانع وروي بلفظ: (أن يحكمه)

([58])  رواه مسلم.

([59]) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي من طريق الزهري، عن عروة عن عائشة بلفظ: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة)، أما بهذا اللفظ، فقد رواه البيهقي في (المعرفة)

([60]) هذه شبهة يعرضها معظم المستشرقين، وينتصرون لها، وكأنها حقيقة لا شك فيها .. وسنحاول أن نذكر بعض ما ذكره علماؤنا في الرد عليها.

 

([61]) على خلاف بينهم في درجات هذا التأثر .. فمنهم فريق من أمثال (جولد تسيهر) و(فون كريمر) و(شيلدون آموس) يذهبون إلى القول بأن الشريعة الإسلامية مستمدة من القانون الروماني، فهذا القانون هو المصدر الذي أقام فقهاء المسلمين على أساس من قواعده الكيان القانوني للشريعة الإسلامية.. وفي ذلك يقول (شيلدون آموس): ( إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلا وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية)، ويقول :( إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي) (محمود حمدي زقزوق - الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري – 107)

ويحاول (آدم متز) أن يفصم عروة الارتباط الوثيق بين المحدثين، بوصفهم متمسكين بالنصوص الدينية، والفقهاء الذين حاولوا - حسب رأيه - التحرر من تلك النصوص والاستمداد من التشريعات السابقة للإسلام. فيقول:( الواقع أنه ظهر في هذا الميدان الفقهي ما ظهر في غيره من الميادين، وأهم ما حدث هو تسرب آراء في التشريع - مما كان قبل عهد الإسلام – إلى الفقه الإسلامي، كما أحييت من جديد بعض النظريات اليونانية والرومانية القديمة. وكان يمثلها الفقهاء، ويخالفهم أصحاب الحديث المتمسكون بالسنة القديمة والذين يقيسون الحياة بمقياس نصوص الوحي والسنة النبوية. ولم يشأ هؤلاء المتمسكون بالقديم أن ينزلوا عن مكانتهم بسهولة) (الحضارة الإسلامية:1 /387-388)

ويورد (دافيد سانتلانا) تعريفا للفقه لدى المذهب الحنفي، وهو (معرفة النفس ما لها وما عليها بحيث يصل بها إلى معرفة طريق الحق في الحياة الدنيا ويهيؤها للحياة الأخرى)، ثم يقول: (ويجمل بنا أن نورد ما قاله فقهاء القانون الروماني عن صناعتهم تلك، (الفقه الروماني هو علم الأمور الإنسانية والإلهية) (المرجع السابق،ص 415)، ليصل من خلال هذه المقارنة إلى القول بتأثر الفقهاء الكبير بالتشريع الروماني. ويستدل بتعامل المسلمين بالنقود المضروبة قبل الإسلام ليقول: (وهنا ندرك كم كان تأثير الأفكار الإغريقية عميقا ونفوذها بعيد الغور)

ويقول (أندريه ميكيل): (اضطرت دولة الإسلام إلى الأخذ بمعطيات الواقع والتراث، وخاصة النظام الضريبي للأنظمة التي سبقتها. ولم تكن الضريبة العقارية والعشرية والجزية من المفاجآت لسكان بيزنطة وطيسفون القدماء)( الإسلام وحضارته، ص 108)

([62]) انظر: فجر الإسلام،  ص 246.

([63])  الشخصية الإسلامية، لتقي الدين النبهاني:1 /405 .

([64])  الإمام الأوزاعي: (88-157هـ) هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الاوزاعي، من قبيلة الأوزاع، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد،وأحد الكتاب المترسلين. ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع،وسكن بيروت وتوفي بها.وعرض عليه القضاء فامتنع.كان عظيم الشأن بالشام، وكان أمره فيهم أعزمن السلطان. ويقدر ما سئل عنه سبعين ألف مسألة أجاب عليها كلها. وكانت الفتيا تدور بالأندلس على رأيه، إلى زمن الحكم بن هشام (انظر: الأعلام، للزركلي)

([65])   انظر: فجر الإسلام، ص 247.

([66])  رواه البخاري ومسلم.

([67])  رواه البخاري.

([68])  رواه الترمذي والدارقطني بسند ضعيف.

([69])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([70])  انظر الرد على هذه الشبهة بتفصيل في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([71])  الاقتصاد في اللغة: مأخوذ من القصد، وهو استقامة  الطريق والعدل، والقصد في الشيء خلاف الإفراط ؛ وهو ما بين الإسراف والتقتير.. أما في الاصطلاح، فقد عرفه بعضهم بأنه الأحكام والقواعد الشرعية التي تنظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته.

([72])   رواه مسلم.

([73])  هذا المثل مقتبس من قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم:28) أي: هل يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء ﴿  تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال..

قال أبو مِجْلَز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له.

 

([74])  أكثر الفقهاء على أن الربا نوعان:

ربا النسيئة: وهو ربا الجاهلية . وصورته أن يقترض  الإنسان مبلغاً من المال على أن يعيد بعد فترة من الزمن المبلغ  نفسه وزيادة عليه مقابل التأجيل وكلما تأخر عن تسديد المال زاد عليه المبلغ.

ربا الفضل: وهو الزيادة في مبادلة مال بمال من جنسه، وصورته أن يبيع  1000جرام من الذهب القديم مثلا للصائغ مقابل 900 جرام من الذهب الجديد في نفس المجلس.

ومن المعاملات المعاصرة التي قد يدخل فيها الربا:

التأمين التجاري : هو من عقود المعارضات المالية المشتملة على الربا .. فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن ( الشركة ) يدفع ذلك للمستأمن بعد مدّة فيكون ربا نسيئة، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسيئة فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.

وهو بالإضافة إلى ذلك يشتمل على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئاً، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي وما يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده .. وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر .

بطاقة الائتمان: هي البطاقة الصادرة من بنك أو غيره، وهي تخول حاملها الحصول على حاجياته من السلع أو الخدمات ديناً .. ويدخل الربا في بطاقات الائتمان حينما يفرض مصدرها غرامات مالية على التأخر في السداد أو على تأجيل أو تقسيط المسحوبات المستحقة على البطاقة، وهذه الغرامات تعتبر من ربا النسيئة المحرم.

الودائع المصرفية: هي النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى المصارف على أن تتعهد بردها عند الطلب أو بالشروط المتفق عليها..وحقيقة الودائع إنّما هي قروض للمصرف يتصرف فيها ويرد بدلها عند الاقتضاء فأي فوائد مالية يأخذها المودع من البنك تعتبر ربا.

وهذا ما أجمعت عليه كثير من المجامع الفقهية في العالم الإسلامي ( قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في ربيع الثاني 1406هـ في الؤتمر الثاني  .. وانظر: كتاب ( الربا في المعاملات المالية المعاصرة ) د . عبد الله السعيدي)

([75]) الآية السابقة التي تشير إلى هذا هي قوله تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)﴾ (هود)

([76])   الغرر في اللّغة اسم مصدر من التّغرير ، وهو الخطر ، والخدعة ، وتعريض المرء نفسه أو ماله للهلكة.. واصطلح الفقهاء على أنه ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا.

والغرر الّذي يتضمّن خديعةً أو تدليساً حرام ومنهيّ عنه ، ومنه النّهي عن بيع الغرر ففي الحديث نهى رسول الله r  عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر.

قال النّوويّ : النّهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ، يدلّ فيه مسائل كثيرة غير منحصرة ، وقال : وبيع ما فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز عنه ولا تدعو إليه الحاجة باطل.

([77]) الجهالة لغةً : أن تفعل فعلاً بغير علم .. واصطلاحاً : هي الجهل المتعلّق بخارج عن الإنسان كمبيع ومشترًى وإجارة وإعارة وغيرها.

وفرّق القرافيّ بين الغرر والجهالة فقال: (أصل الغرر هو الّذي لا يدرى هل يحصل أم لا؟ كالطّير في الهواء والسّمك في الماء ، وأمّا ما علم حصوله وجهلت صفته فهو الجهول، كبيعه ما في كمّه ، فهو يحصل قطعاً ، لكن لا يدرى أي شيء هو ؟ فالغرر والمجهول كلّ واحد منهما أعمّ من الآخر من وجه وأخصّ من وجه فيوجد كلّ واحد منهما مع الآخر وبدونه أمّا وجود الغرر بدون الجهالة: فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه، وهو غرر ، لأنّه لا يدرى هل يحصل أم لا؟

والجهالة بدون الغرر : كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت، مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر ، وعدم معرفته يقتضي الجهالة به .. وأمّا اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق ، المجهول الصّفة قبل الإباق..

([78]) الغبن لغة : النّقصان ، يقال : غبنه في البيع والشّراء غبناً أي : نقصه ، وغبن رأيه غبناً : قلّت فطنته وذكاؤه .

أما اصطلاحا، فقد قسّم الفقهاء الغبن إلى فاحش ويسير ، والحدّ الفاصل بينهما - كما يقول صاحب الكلّيّات- هو الدّخول تحت التّقويم في الجملة من بعض المقوّمين ، فالفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين ، واليسير ما يدخل تحت تقويم بعض المقوّمين.

([79]) التّدليس: هو كتم عيب السّلعة .. قال الأزهريّ : سمعت أعرابيّاً يقول : ليس لي في الأمر ولس ولا دلس أي : لا خيانة ولا خديعة ..

([80])الغشّ: لغة نقيض النّصح، يقال : غشّ صاحبه : إذا زيّن له غير المصلحة، وأظهر له غير ما أضمر ، ولبن مغشوش: أي مخلوط بالماء.

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الغشّ حرام سواء أكان بالقول أم بالفعل ، وسواء أكان بكتمان العيب في المعقود عليه أو الثّمن أم بالكذب والخديعة ، وسواء أكان في المعاملات أم في غيرها من المشورة والنّصيحة .

([81]) الخِلابة بالكسر : المخادعة ، وقيل : الخديعة باللّسان ، وقد ورد في الحديث عن النّبيّ r أنّه قال لرجل كان يخدع في البيوع :( إذا بايعت فقل : لا خلابة)، والخلابة نوع من الغشّ .

([82])  رواه مسلم.

([83])  رواه مسلم.

([84])  رواه الحاكم وصححه والبيهقي وكذا ابن ماجه باختصار القصة إلا أنه قال عن واثلة: سمعت رسول الله r يقول : (من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله ، أو لم تزل الملائكة تلعنه)

([85])  رواه أحمد وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم وقال صحيح على شرطهما.

([86])  رواه أبو الشيخ ابن حبان.

([87])  رواه أبو داود والنسائي.

([88])  الاحتكار لغةً : حبس الطّعام إرادة الغلاء ، والاسم منه : الحكرة، واصطلاحا: عرّفه الحنفيّة بأنّه : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء.

وعرّفه المالكيّة بأنّه رصد الأسواق انتظاراً لارتفاع الأثمان .. وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اشتراء القوت وقت الغلاء ، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتّضييق.. وعرّفه الحنابلة.

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الاحتكار بالقيود الّتي اعتبرها كلّ منهم محظور ، لما فيه من الإضرار بالنّاس ، والتّضييق عليهم.

وقد اختلف الفقهاء فيما يجري فيه الاحتكار على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل : أنّه لا احتكار إلاّ في القوت خاصّةً، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة والحنابلة.

القول الثّاني: أنّ الاحتكار يجري في كلّ ما يحتاجه النّاس ، ويتضرّرون من حبسه ، من قوت وإدام ولباس وغير ذلك، وهو ما ذهب إليه المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة.

القول الثّالث: أنّه لا احتكار إلاّ في القوت والثّياب خاصّةً، وهو قول لمحمّد بن الحسن.

ونرى أن القول الثاني هو الأرجح باعتبار ما ورد من الأدلة المطلقة كقوله r ـ في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد ـ: (لا يحتكر إلاّ خاطئ ) .. ولا يحمل المطلق على المقيد هنا .. لأن المقيد هو مثال لا قيد.

([89])  رواه مسلم وأبو داود.

([90])  رواه أحمد.

([91])  رواه ابن ماجه.

([92])  رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى.

([93])  رواه أبو داود.

([94])   انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)

([95])  رواه الطبراني في الكبير.

([96])  رواه الحاكم.

([97] )  قال القرطبي:« سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله»، القرطبي: 19/55.

([98])  رواه الطبراني في الكبير.

([99])  رواه أحمد والترمذي وابن حبان ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

([100])  رواه أحمد والترمذي.

([101])  رواه أحمد.

([102])  ولا يرزؤه: أي لا ينقصه ويأخذ منه.

([103])  رواه مسلم.

([104])  الفسيل: صغار النخل وهي الودي والجمع فسلان مثل رغيف ورغفان الواحدة فسيلة وهي التي تقطع من الأم أو تقلع من الأرض فتغرس. المصباح 2/647.

([105])  رواه أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب وابن منيع وابن أبي عمر.

([106])   ذكرنا هذه الأركان في الرسالة السابقة (سلام للعالمين).. ونعيد هنا ما يقتضيه المقام منها، بالإضافة إلى بعض التفاصيل التي لم نذكرها هناك.

([107])  رواه البخاري ومسلم.

([108])  رواه البخاري ومسلم.

([109])  رواه البخاري ومسلم.

([110])  رواه مسلم.

([111])  رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

([112])  رواه الترمذي والنسائي.

([113])   رواه البخاري ومسلم.

([114])   رواه البخاري.

([115])  رواه مسلم .

([116])  رواه البخاري ومسلم.

([117])  رواه البخاري .

([118])   رواه البخاري ومسلم.

([119])  رواه البخاري ومسلم.

([120])   رواه ابن المبارك في الزهد من رواية حمزة بن عبيد مرسلا بسند ضعيف وفي البر و الصلة له من زيادات الحسين المروزى حمزة بن عبد الله بن أبي سمى وهو الصواب.

([121])   رواه ابن المبارك في الزهد من رواية عكرمة بن خالد مرسلا بإسناد جيد.

([122])   رواه الطبراني و الحاكم وصححه.

([123])  رواه مسلم .

([124])  رواه البخاري ومسلم.

([125])  رواه أحمد.

([126])  رواه البخاري في الأدب، وأبو نعيم، وابن ماجة.

([127])  رواه مسلم.

([128])  رواه ابن أبي الدنيا.

([129])  رواه الطبراني بسند حسن صحيح.

([130])  رواه الخرائطي.

([131])  رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم.

([132])  رواه الطبراني.

([133])   رواه الطبراني.

([134])  رواه الطبراني والبيهقي.

([135])  رواه أبو نعيم.

([136])  رواه الطبراني وابن عساكر.

([137])  رواه الطبراني.

([138])  رواه الطبراني بسند حسن.

([139])  رواه ابن النجار.

([140])  رواه أبو نعيم.

([141])  رواه أبو نعيم.

([142])  رواه ابن صصرى.

([143])  رواه الخرائطي والحسن بن سفيان وابن لال والديلمي.

([144])  رواه ابن عساكر.

([145])  وفي رواية : (قتات) وهو النمام .. وقيل : النمام الذي يكون مع جمع يتحدثون حديثا، فينم عليهم ، والقتات: الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون ثم ينم.

([146])  رواه البخاري ومسلم.

([147])  رواه البخاري ومسلم.

([148])  رواه الطبراني.

([149])  رواه الطبراني.

([150])  رواه الطبراني.

([151])  رواه أحمد، وفي رواية لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا : ( المفسدون بين الأحبة)

([152])  رواه أبو الشيخ.

([153])  رواه الترمذي .

([154])  رواه الطبراني وغيره.

([155])  رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.

([156])  خصصنا فصلا خاصا لهذا الركن في هذه الرسالة بعنوان (التكافل)

([157])  رواه أحمد.

([158])  رواه البخاري.

([159])  رواه البخاري.

([160])  رواه البخاري.

([161])  رواه البخاري وأحمد.

([162])  رواه مسلم.

([163])  الإحياء: 2/182.

([164])   راجع التفاصيل المختلفة المرتبطة بالنظام التعليمي الإسلامي في الرسائل التالية: (النبي الإنسان)، (النبي الهادي)، (ثمار من شجرة النبوة) .. وغيرها.. ولذلك سنختصر الكلام عليه هنا.

([165])  رواه مسلم وغيره.

([166])  رواه الطبراني.

([167])  أقتابه: الأقتاب: الأمعاء، واحدها: قتب بالكسر، وقيل: هي جمع قتب، وقتب جمع، وهي المعي. النهاية (4/11)

([168])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([169])  رواه البزار وغيره.

([170])  الحسبة: لغة: اسم من الاحتساب ومن معانيها : الأجر ، وحسن التدبير والنظر ، ومنه قولهم : فلان حسن الحسبة في الأمر إذا كان حسن التدبير له .. واصطلاحا: عرفها جمهور الفقهاء بأنها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.

([171])  رواه أحمد.

([172])  رواه أبو نعيم.

([173])  رواه أحمد والطبراني في الكبير.

([174])  رواه أحمد.

([175])  رواه البزار والطبراني في الكبير.

([176])  رواه مسلم.

([177])  رواه أحمد والترمذي.

([178])  رواه أبو داود والترمذي.

([179])  رواه مسلم.

([180])  رواه أحمد والبخاري والترمذي.

([181])  رواه أحمد وابن ماجة.

([182])  رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.

([183])  رواه أبو داود والبيهقي في الشعب.

([184])  رواه البيهقي في الشعب.

([185])  رواه الطبراني في الأوسط.

([186])  رواه أحمد والطبراني والحاكم.

([187])  رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان.

([188])  رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

([189])  رواه ابن ماجة والبيهقي، وفي رواية (كيف يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها وهو غير متعتع)

([190])  رواه الطبراني في الكبير.

([191])  رواه ابن ماجة وابن حبان.

([192])  رواه الترمذي.

([193])  رواه أحمد.

([194])  رواه يعقوب بن سفيان في مشيخته.

([195])  وهو مأخوذ من العد و الحساب، فتقول:حَسَبْت الشيء أحسبه حساباً وحسباناً:إذا عددته. ومنه قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ﴾ (الأنعام: 96) وقال تعالى: (وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ (الإسراء: 12)

ويدل لهذا ما ورد في الحديث من قوله r : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)، وقوله r وقوله r: ( من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين..)، وفي الحديث أن النبي r بعث برسالة لابنته التي توفي ولدها يقول فيها: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجلٍ مسمّى، فلتصبر ولتحتسب)

([196])  كما يقال: احتسب بكذا: اكتفى به. ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران: 173)، وقوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾ (النساء:6)

([197])  يقال احتسب عليه: أي أنكر عليه. وتسمية الإنكار بالاحتساب من قبيل تسمية المسُبب بالسبب؛ لأن الإنكار على صاحب المنكر سبب للأمر بإزالته، وهو الاحتساب.

([198])  يقال: فلان حسن الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير له والنظر فيه.

([199])  يقال: النساء يحسبن ما عند الرجال، أي يختبرن ما عندهم من تصرفات.

([200])  خصصنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا برسالة (النبي الهادي) من هذه السلسلة.

([201])  رواه مسلم.

([202])  المحتسب هو من يقوم بالاحتساب ، وقد شاع عند الفقهاء إطلاق هذا الاسم على من يعينه ولي الأمر للقيام بالحسبة، وأطلقوا عليه أيضا اسم والي الحسبة، أما من يقوم بها من دون تعيين ولي الأمر فقد أطلقوا عليه اسم (المتطوع)

([203])  نص الفقهاء على أن لولي الأمر أن يرتب للمحتسب ما يكفيه من الرزق .. ونصوا ـ كذلك ـ على لا يجوز للمحتسب ولا لأحد من أعوانه أخذ المال من النّاس لأجل الاحتساب ، لأنّه من قبيل الرّشوة ، وهي حرام شرعا ، لأنّ ما أخذه المحتسب ينظر فيه ، إن أخذه ليسامح في منكر ، أو يداهن فيه ، أو يقصّر في معروف ، فهو أحد أنواع الرّشوة وأنّها حرام وإذا جعل لمن ولي في السّوق شيء من أهل السّوق فيما يشترونه سامحهم في الفساد بما له معهم فيه من النّصيب.

أمّا إذا لم يكن لهم رزق من بيت المال أو كان لا يكفيهم فإنّه ربّما يرخّص لهم بقدر ما يكفيهم ، لأنّهم يعملون لهم ، فيأخذون كفايتهم ، أمّا الزّيادة على الكفاية فلا تجوز ، لأنّه مال مأخوذ من المسلم قهرا وغلبة بغير رضاه.

([204])  فرق الفقهاء بين المحتسب والمتطوع في أمور، منها:

1. الاحتساب فرض متعين على المحتسب بحكم الولاية أي بحكم تعيينه محتسبا، أما فرضه على غيره فهو من فروض الكفاية، ومن ثم لا يجوز للمحتسب أن يتشاغل عما عين له من أمور الحسبة بخلاف المتطوع.

2. أن المحتسب عين للاستعداء اليه وطلب العون منه عند الحاجة، ومن ثم تلزمه اجابة من طلب ذلك منه بخلاف المتطوع إذ لا يلزمه من ذلك شيء.

3. أن على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة حتى يتمكن من إزالتها، كما أن عليه أن يبحث عما ترك من المعروف الظاهر حتى يأمر بإقامته، أما المتطوع فلا يلزمه ذلك.

4. أن للمحتسب أن يستعين على أداء مهمته بالأعوان، فيتخذ له من الأعوان والمساعدين بقدر ما يحتاج لأداء مهمته التي عين لها، وليس للمتطوع ذلك.

5. أن للمحتسب أن يعزر على المنكرات الظاهرة، ولا يتجاوزها الى إقامة الحدود وليس للمتطوع ذلك.

6. أن للمحتسب أن يأخذ على عمله أجرا من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك.

7. أن للمحتسب أن يجتهد في المسائل المبنية على العرف، فيقر منها ما يراه صالحا للاقرار، وينكر منها ما يراه مستحقا للانكار، وليس للمتطوع ذلك.

([205])  من وجوه الاتفاق ـ التي ذكرها الفقهاء ـ بين ولايتي الحسبة والقضاء أن كلا الولايتين تتفقان في جواز الاستعداء إلى المحتسب والادعاء أمامه في حقوق الآدميين في دعاوى خاصة هي المتعلقة ببخس أو تطفيف في كيل أو وزن، أو متعلقة بغش أو تدليس في بيع أو ثمن أو متعلقة بمطل أو تأخير لدين مستحق الأداء مع القدرة على الوفاء. وإنما جاز للمحتسب أن ينظر في هذه الدعاوى دون غيرها لأنها كما قالوا (تتعلق بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته واختصاصها بمعروف بين هو مندوب إلى إقامته)

وللمحتسب كما للقاضي أن يلزم المدعى عليه بأداء الحق الواجب عليه إلى مستحقه في الدعاوى التي له حق النظر فيها إذا ثبتت تلك الحقوق بإقرار المدعى عليه وثبتت قدرته على الوفاء. وإنما كان للمحتسب إلزام المدعى عليه بإداء هذه الحقوق لأن تأخير وفائها مطل، والمطل منكر نهى الشارع عنه، كما قال r : ( مطل الغني ظلم يحل ماله وعرضه)، والمحتسب منصوب لإزالة المنكر.

([206])  من وجوه الاختلاف ـ التي ذكرها الفقهاء ـ بين ولايتي الحسبة والقضاء أن ولاية المحتسب تقصر عن ولاية القاضي من وجهين:

الوجه الأول: ليس للمحتسب سماع الدعاوى التي تخرج عن نطاق المنكرات الظاهرة، أي التي تخرج عن نطاق الدعاوى الثلاث التي ذكرناها في أوجه الاتفاق.

الوجه الثاني: له النظر في الحقوق المعترف بها، أما ما يدخله التجاحد والتناكر فلا ينظر فيه لأن الحق لا يثبت عند ذاك إلا ببينة من المدعي أو تحليف المنكر اليمين وهذا للقاضي لا للمحتسب.

وفي مقال هذا تزيد ولاية المحتسب على ولاية القاضي من الوجوه التالية:

الوجه الأول: للمحتسب أن يأمر بما هو معروف، وينهى عما هو منكر، وإن لم يرتفع إليه في ذلك خصم ولم يتقدم إليه أحد بدعوى، وليس للقاضي ذلك إلا برفع دعوى ومطالبة خصم.

الوجه الثاني: للمحتسب من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات الظاهرة ما ليس للقاضي، لأن الحسبة - كما يقول الفقهاء - تقوم على الرهبة، فلا تجافيها الغلظة وإتخاذ الأعوان وسلاطة السلطة، أما القضاء فموضوع لإنصاف الناس واستماع البينات حتى يتبين المحق من المبطل فكان الملائم له الأناة والوقار والبعد عن الغلظة والخشونة والرهبة.

الوجه الثالث: أن للمحتسب من سلطة الأمر والنهي فيما لا يدخل في صلاحية القاضي ولا يجري فيه الحكم، فللمحتسب أن يأمر العامة بالصلاة في أوقاتها ويأمر بالجمعة والجماعات وينهى عن منكرات المساجد وعن تأخير الصلاة عن أوقاتها ونحو ذلك مما لا يجري فيه حكم القضاء ولا ينظر فيه القاضي.

([207])  أضاف بعض الفقهاء شرط الذكورة للأهلية، فاشترطوا فيمن يتولّى الحسبة أن يكون ذكرا، قال القرطبيّ: إنّ المرأة لا يتأتّى منها أن تبرز إلى المجالس ، ولا أن تخالط الرّجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النّظير للنّظير ، لأنّها إن كانت فتاة حرم النّظر إليها وكلامها ، وإن كانت متجالّة برزة لم يجمعها والرّجال مجلس تزدحم فيه معهم ، وتكون منظّرة لهم ، ولن يفلح قطّ من تصوّر هذا ولا من اعتقده)

واستدلّ على منعها من هذه الولاية بحديث: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)، وقال : فيما روي من أنّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قدّم امرأة على حسبة السّوق إنّه لم يصحّ.

وقد خالف في ذلك آخرون لما ثبت من أنّ سمراء بنت شهيك الأسدية كانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتنهى النّاس عن ذلك بسوط معها..

ونرى أن الأرجح في هذا وسط بين قولين، وهو أن يتاح للمرأة الحسبة فيما تطيق الحسبة فيه .. وفي المراتب التي تطيقها، ويدل لهذا أن الله تعالى وصف المؤمنين ذكورهم وإناثهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة:71)

([208])  هذا رأي شخصي .. ولا أعلم ـ إلى الآن ـ من قال به أو خالفه.. وهو مبني على أنه لغير المسلم أن يتولى في بلاد الإسلام من الوظائف ما لا علاقة له مباشرة بالدين من غير حرج، والنصوص الكثيرة تدل على ذلك.

وقد رأيت كلاما للغزالي ربما يشير إلى هذا .. فهو ينفي الحسبة المرتبطة بالفعل، ولكنه لا ينفي ما ارتبط منها بالقول، فهو يقول : (فإن قيل. فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراماً عليه، بل ينبغي أن يكون مباحاً أو واجباً. قلنا: الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه من حيث إنه نهى عن الزنا، ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم، وفيه إذلال للمحتكم عليه، والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه. فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة، وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله: لا تزن، من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين) (الإحياء)

([209]) عرف الفقهاء العدالة بأنها (هيئة راسخة في النّفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالّة على الخسّة ، أو مباح يخلّ بالمروءة).. قال الجصّاص : (أصلها الإيمان باللّه واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق اللّه عزّ وجلّ في الواجبات والمسنونات وصدق اللّهجة والأمانة)

وذكروا من أوصاف العدل (أن يكون مجتنبا عن الكبائر، ولا يكون مصرّا على الصّغائر ، ويكون صلاحه أكثر من فساده ، وصوابه أكثر من خطئه ، ويستعمل الصّدق ديانة ومروءة ويجتنب الكذب ديانة ومروءة)

([210])  رواه الطبراني.

([211])  رواه أحمد وعبد بن حميد في مسنده، وتفسيره.

([212])  رواه البخاري ومسلم.

([213])  رواه ابن عساكر.

([214])  رواه ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف.

([215])  الإحياء.

([216])  أكثر الفقهاء على عدم اشتراط العدالة في الاحتساب .. وقد نص على هذا أبو عبد اللّه العقبانيّ التّلمسانيّ المالكيّ في قوله: (اختلف في العدالة هل هي شرط في صفة المغيّر (المحتسب)  أو لا، فاعتبر قوم شرطيّتها ، ورأوا أنّ الفاسق لا يغيّر ، وأبى من اعتبارها آخرون ، وذلك الصّحيح المشهور عند أهل العلم ، لأنّ ذلك من الشّروط الواجبة على الشّخص في رقبته كالصّلاة فلا يسقطه الفسق ، كما لا يسقط وجوب الصّلاة بتعلّق التّكليف بأمر الشّرع، قال r : ( من رأى منكم منكرا فليغيّره)،  وليس كونه فاسقا أو ممّن يفعل ذلك المنكر بعينه يخرجه عن خطاب التّغيير لأنّ طريق الفرضيّة متغاير)

وقال ابن العربيّ المالكيّ : (وليس من شرطه أن يكون عدلا، لأنّ العدالة محصورة في قليل من الخلق ، والنّهي عن المنكر عامّ في جميع النّاس)

([217])  الإحياء .. وقد رد الغزالي على ما قد يعترض به على هذا ـ وهو أنه يلزم على هذا أن يقول القائل: الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل، وأتسحر وإن لم أصم، لأن المستحب لي السحور والصوم جميعاً ـ فقال : ( والجواب أن التسحر يراد للصوم، ولولا الصوم لما كان التسحر مستحباً، وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير، وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس، ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم.

وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤدياً أمر الوضوء، وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعاً، فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقاباً ممن نهى ولم ينته، كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه؟ بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة، وأما الحسبة فليست شرطان في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما)

([218])  ذكر الغزالي ذلك، فقال : ( وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب، أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه، ورده على صاحبه. والخامس: التخويف والتهديد بالضرب، ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب. وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال، وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظراً أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام؟ وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق، و والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه؟ وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام. وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر، واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه) (الإحياء)

([219])  الإحياء ببعض تصرف.

([220])  سنرى أمثلة عنها في فصل (المسؤولية) من هذه الرسالة.

([221])  ذكره الغزالي في الإحياء، وعلق عليه العراقي في تخريجه بقوله : ( لم أجده هكذا، وللبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف)

وقد ذكرناه هنا مع هذا ثقة في الغزالي، فهو لم يكن ليذكره من غير أن يكون له مصدر أخذه عنه .. بالإضافة إلى أن معنى الحديث يتسق مع قواعد الدين وأصوله.

([222])  رواه البخاري ومسلم.

([223])  المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر أي فعل يجوز أو يجب فيه الاحتساب ويسمى المحتسب عليه أو المحتسب معه.

([224])  وقد أورد الغزالي في هذا اعتراضا مهما أجاب عنه إجابة عنه إجابة حسنة، سننقلها هنا لما فيها من تبيان المقاصد الشرعية من الحسبة، قال ـ بعد إيراده الاكتفاء بشرط الإنسانية وحدها ـ : (فإن قلت: فاكتف بكونه حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً، فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإنسان لكنا تمنعها منه كما تمنع المجنون؟ فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها، إذا الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله، صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر .. والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين، أحدهما: حق الله تعالى فإن فعله معصية، والثاني: حق المتلف عليه، فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى. فلو قطع تطرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجيء عليه بإذنه، فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين. والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين. ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم؛ إذ البهيمة لو أكلت ميتة لم نمنعها منها، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات، ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال، بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة، لا لمنع الجرة من السقوط. فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة، ونمنع المجنون وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب: بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهاً له من حيث إنه إنسان محترم. فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها) من الإحياء ـ بتصرف ـ

([225])  إحياء علوم الدين.

([226])  المنكر لغةً : اسم مفعول من أنكر وهو : خلاف المعروف . والمنكر : الأمر القبيح . وأنكرت عليه فعله إنكاراً : إذا عبته ونهيته ، وأنكرت حقّه : جحدته .. وفي الاصطلاح: ما ليس فيه رضا اللّه من قول أو فعل.

([227])  المعروف في اللغة : الخير والرّفق والإحسان ، وهو ضد المنكر .. وهو اصطلاحاً : ما قبله العقل وأقرّه الشّرع ووافقه كرم الطّبع.

 

([228])  رواه البخاري ومسلم.

([229])   رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ.

([230])  رواه أبو داود.

([231])  رواه البخاري ومسلم.

([232])  يراد بالاحتساب القيام فعلا بالحسبة كأن يأمر المحتسب بفعل معين بكيفية معينة أو يزيل منكرا بيده كأن يكسره أو يمزقه أو يتلفه أو يدفع صاحب المنكر بيده وبالقوة عما هو فيه.

([233])  رواه مسلم.

([234]) رواه البخاري وغيره.

([235]) رواه مسلم.

([236]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الهادي) من هذه السلسلة.

(3) رواه أحمد بإسناد جيد.

([238])  كما ورد في الحديث قوله r : (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد) (رواه البخاري)، وقال r : (من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه)، وقال : (من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً ومن شربها مصبحاً أمسى مشركاً).. وغيرها من النصوص الكثيرة.

([239])  رواه البخاري.

([240])  رواه البخاري ومسلم.

([241])  رواه البخاري.

([242])  رواه البخاري.

([243])  رواه البخاري ومسلم.

([244])  الإحياء:2/230.

([245])  الإحياء: 2/331..

([246])  الإحياء: 3/122.

([247])  رواه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك و أبي داود الطيالسي..

([248])  رواه البخاري في الأدب وابن أبي الدنيا عن جابر، قال الزين العراقي: وسنده ضعيف قال:ولابن أبي الدنيا والطبراني عن أسامة بن زيد :« إن اللّه لا يحب الفاحش المتفحش » وسنده جيد.

([249])  رواه ابن ماجة.

([250])  اختلف الفقهاء في حكم التّجاوز في إتلاف المال .. هل على المحتسب الضمان أم لا .. على الأقوال التالية:

القول الأول: عدم الضّمان مطلقا، وهو قول الحنفيّة وأحمد في إحدى الرّوايات عنه.

القول الثاني: لا ضمان في إتلاف خمر وخنزير ، وكذا لو كسر مزمارا أو طنبورا أو صنما، وهو قول الحنابلة، للنّهي عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

القول الثالث: وجوب الضّمان إذا تجاوز المحتسب القدر المحتاج إليه، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة وهي الرّواية الأخرى عند الحنابلة.

ونرى أن هذا هو الأرجح من باب التشديد على المحتسب حتى لا يتعدى ما أنيط به من التكاليف، وقد نص على هذا الترجيح صاحب تحفة النّاظر من المالكيّة، فقال : (إذا لم يقع التّمكّن من إراقة الخمر إلاّ بكسر أنابيبها وتحريق وعائها ، فلا ضمان على من فعل ذلك على الوجه المتقدّم في هذا النّوع ، وإن أمكن زوال عينها مع بقاء الوعاء سليما ولم يخف الفاعل مضايقة في الزّمان ولا في المكان بتغلّب فاعله مع انتفاء هذه الموانع ضمن قيمته ، إن كان لأمثاله قيمة وهو ينتفع في غير الخمر)

ونص عليه الغزالي، فقال:( وفي إراقة الخمور يتوقّى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلا وحيث كانت الإراقة متيسّرة بلا كسر ، فكسرها لزمه الضّمان)، وقال:( الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه ، وله أن يأمر بكسر الظّروف الّتي فيها الخمر زجرا ، وقد فعل ذلك في زمن رسول اللّه r تأكيدا للزّجر ، ولم يثبت نسخه ، ولكن كانت الحاجة إلى الزّجر والفطام شديدة ، فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك ، وإذا كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرّعيّة)

([251])   القرطبي: 5/172.

([252])   رواه البخاري ومسلم.

([253])   سبل السلام: 2/447.

([254])  رواه مسلم.

([255])   طرح التثريب: 8/17.

([256])   أما ماورد  من قول علي t للجلاد :« اضرب الرأس » ، ولقول أبي بكر t:« اضرب الرأس فإن الشيطان فيه » أخرجه ابن أبي شيبة ، ففيه ضعف وانقطاع .

([257])   الجصاص: 3/485.

([258])  من المراجع التي يمكن الرجوع إليها في هذا المبحث: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد الكريم زيدان، والقضاء في الإسلام، للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس ، والسلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي، د . محمد عبد الرحمن البكر ، والقضاء في الإسلام - تاريخه ونظامه لإبراهيم بخيت محمد عوض، وتاريخ القضاء في الإسلام لمحمود بن محمد بن عرنوس ، وأدب القاضي للماوردي، وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون المدني، والأحكام السلطانية للماوردي، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية.

([259])عرف الفقهاء القضاء بأنه (فصل الخصومات وقطع المنازعات)، وزاد ابن عابدين (على وجه خاصّ) ، حتى لا يدخل فيه نحو الصّلح بين الخصمين .. وعرف بأنه (الإخبار عن حكم شرعيّ على سبيل الإلزام)

([260])  المراد به ـ كما ذكر الخطابي ـ هو أن الذبح بالسكين يحصل به راحة الذبيحة بتعجيل إزهاق روحها، فإذا ذبحت بغير سكين كان فيه تعذيب لها .. فالمراد بذلك الكناية عن أن القاضي عرض نفسه بقبوله القضاء إلى حصول مشقة لا تطاق في العادة، وهي ما يلحقه من عذاب الله وغضبه.

([261])  رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب ، وابن ماجه والحاكم وصححه.

([262])  رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

([263])  رواه أحمد .

([264])  رواه ابن حبان في صحيحه.

([265])  رواه الطبراني.

([266])  رواه أحمد.

([267])  رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب.

([268])  رواه ابن ماجه.

([269])  رواه أبو داود.

([270])  رواه الترمذي وابنا ماجه وحبان، ورواه الحاكم وصححه إلا أنه قال : (فإذا جار تبرأ الله منه)

([271])  رواه ابن ماجه والبزار واللفظ له.

([272])  رواه ابن أبي الدنيا وغيره.

([273])  رواه مسلم، وزاد الطبراني : ( كنصحه وجهده لنفسه)

([274])  رواه أحمد بسند حسن.

([275])  رواه مسلم وغيره.

([276])  رواه البخاري ومسلم.

([277])  رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه ، وفيه انقطاع.

([278])  من الشروط التي ذكرها الفقهاء للقاضي:

1. البلوغ: فلا يجوز تقليد الصبي القضاء، وإذا قلد فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، لأن الرسول r قد أمر بالاستعاذة من إمارة الصبيان .. ففي الحديث أنه r قال:( تعوذوا بالله من رأس السبعين ومن إمارة الصبيان) (رواه أحمد) والتعوذ لا يكون إلا من شر ، فيكون تقليد الصبيان فسادا في الأرض ومضارة ولأنه لا ولاية للصبي على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره.

2. العقل: فلا يجوز تقليد المجنون أو المعتوه أو مختل النظر لكبر السن أو مرض قياسا على الصبي ، بل أولى، وإذا قلد أحد هؤلاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ ، قال الماوردي في هذا الشرط : ( وهو مجمع على اعتباره ولا يلتقي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من عمله بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز ، جيد الفطنة ، بعيد من السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعطل ) .

3. الإسلام: وذلك لأن القاضي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية وهي دين ، وتطبيق الدين يحتاج إلى إيمان به من قبل من يطبقه وخوف من الله يمنعه من الحيدة عن التطبيق السليم لأحكامه، ولا يتأتى ذلك من غير المسلم الذي لا يؤمن بهذا الدين، بل حمله كفره بالإسلام على تعمد مخالفة أحكامه أو العبث بها.

ولا خلاف بين الفقهاء في اشتراط الإسلام في من يتولى القضاء على المسلمين أما تولية القضاء لغير المسلم على غير المسلمين، فقد منعها ولم يجزها جمهور الفقهاء لأن شرط الإسلام عندهم شرط ضروري لا بد منه في من يتولى القضاء سواء كان قضاؤه على المسلمين أو على غير المسلمين.

وذهب الحنفية إلى جواز تقليد الذمي وهو غير مسلم القضاء على أهل الذمة ـ وهو الأرجح ـ وعللوا ذلك بأن أهلية القضاء كأهلية الشهادة والذمي من أهل الشهادة على الذميين فهو أهل لتولي القضاء عليهم.

وكونه قاضيا خاصا بهم لا يقدح في ولايته ولا يضر كما لا يضر تخصيص القاضي المسلم بالقضاء بين أفراد جماعة معينة من المسلمين .. ويرى الماوردي أن إسناد القضاء في غير المسلمين إلى قضاة منهم هو في الصورة تقليد قضاء ، وفي الحقيقة تقليد رياسة ، بدليل أن لهم أن يدعوا قضاتهم هؤلاء ويتحاكمون إلى قضاة المسلمين ، وفي هذه الحالة يكون حكمنا بينهم متروكا لاختيارنا كما في قوله تعالى :﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ (المائدة: من الآية42) فإن تحاكموا إلى قضاتهم فقد التزموا بما يحكمون به لالتزامهم له ، وليس لأنه لازم لهم من الأصل.

4.  الذكورة: وقد اختلف في اشتراطها على ثلاثة أقوال:

القول الأول: اعتبارها شرطا، فلا يجوز تولية المرأة القضاء وإذا وليت يأثم المولىّ وتكون ولايتها باطلة وقضاؤها غير نافذ ولو فيما تقبل فيه شهادتها وهو قول جمهور الفقهاء، واستدلوا لذلك بقوله r : (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، ولأن المرأة لا تصلح لرئاسة الدولة ولا الولاية على البلدان .. ولهذا لم ينقل عن النبي r ولا عن أحد من خلفائه من بعده أنهم ولوا امرأة قضاء ولا ولاية بلد ، ولو جاز ذلك لوقع ولو مرة واحدة ولم يخل منه جميع البلدان غالبا .. بالإضافة إلى أن القاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم ، والمرأة في الأصل ممنوعة من مخالطة الرجال لما يخاف عليها من الفتنة بسبب هذه المخالطة التي لا ضرورة لها.

القول الثاني: عدم اعتبارها شرطا في غير الحدود والقصاص، فيجوز أن تكون المرأة قاضية في غيرها، وهو قول الحنفية ، لأنه لا شهادة لها في هذه الجنايات ولها شهادة في غيرها وأهلية القضاء عندهم تدور مع أهلية الشهادة.

القول الثالث: ليست شرطا مطلقا، وهو قول ابن جرير الطبري والظاهرية، وذلك لأن القضاء كالإفتاء ، والإفتاء لا تشترط فيه الذكورة وعلى هذا يجوز للمرأة أن تكون قاضية في الأموال وغيرها.

ونرى أن الأرجح هو ما ذهب إليه ه

5. العدالة : وهي معتبرة في كل ولاية عند جمهور الفقهاء ، والمقصود بها أن يكون القاضي قائما بالفرائض والأركان ، صادق اللهجة ، ظاهر الأمانة عفيفا عند المحارم ، متوقيا المآثم بعيدا عن الريب ، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه . لهذا لا تجوز ولاية الفاسق للقضاء لأنه متهم في دينه ، والقضاء أمانة من أعظم الأمانات .

6. الاجتهاد : وهو الأهلية لاستنباط الأحكام من مصادر التشريع.

7. سلامة الحواس: والمراد بها السمع والبصر والكلام ..وهذا شرط جواز وصحة عند جمهور العلماء، فلا تجوز تولية الأصم لأنه لا يسمع كلام الخصمين، ولا تجوز تولية الأعمى لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه ولا المقر من المقر له ، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه ، ولا تجوز تولية الأخرس لأنه لا يمكنه النطق بالحكم ، ولا يفهم جميع الناس إشارته.

أما سلامة باقي الأعضاء فإنما تعتبر استحبابا لا لزوما، لأن السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية ، والهيبة هنا مستحبة لا مستحقة ومن ثم فلا مانع من أن يكون القاضي مقعدا أو أقطع أو أعرج ، ومثل هذا يقال في شأن ضعيف النطق أو السمع أو البصر لعدم فوات المقصود من ولاية القضاء .

8 ـ تعيين ولي الأمر له: فلا يأخذ  القاضي شرعيته إلا بتعيين من ولى الأمر أو نائبه .. وذلك حفاظا على وحدة المسلمين وصيانة لدمائهم ، فالقضاء منصب من مناصب الدولة لا يجوز لغير ولي الأمر تعيينه إلا في حالة الضرورة كما لو لم يوجد حاكم في بلد ما، فإن لأهل العلم والرأي تعيين قاض يحكم بينهم، على أنه في حالة وجود حاكم بعد ذلك فلا بد من إذنه.

كما أن ولاية القاضي تعمم وتخصص ، فيجوز أن يكون قاضيا في جميع بلاد المسلمين وفي كل دعوى كما يجوز للحاكم أن يوليه القضاء في مكان معين لا يتعداه أوفي نوع من الدعوى كالحكم بين أهل الذمة .. وفي كل ذلك لا يجوز للقاضي أن يتعدى ما رسم له ، ولا أن يتجاوز حدود ولاياته . وهو ما يسمى بالاختصاص القضائي زمانا ومكانا وموضوعا.

([279])   ذكر الفقهاء لعزل القاضي أسبابا، منها:

1. عزله من قبل الإمام أو نائبه إذا وجد الإمام من هو أفضل منه، أو ظهر عجزه وعدم كفاءته ، أو أقر بأنه حكم بجور متعمدا أو ثبت عليه ذلك بالبينة ..

2. فسقه: إذا ارتكب القاضي بعض الأفعال المفسقة كشرب الخمر أو غيره من الكبائر فإنه ينعزل لحظة فسقه، ولا تعتبر أحكامه بعد تلك اللحظة . قال ابن قدامة: ( فأما إن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض شروطه فإنه يعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا)

3. الردة: لأن الإسلام شرط في صحة ولاية القاضي ، وشرط في استمرارها ، وعلى هذا فلو ارتد القاضي عن الإسلام، فإن ولايته للقضاء باطلة من تلك اللحظة التي ارتد فيها.

4. الجنون والسفه: أو فقدان أهلية التكليف، فإذا فقد القاضي هذه الأهلية لم يعد صالحا للقضاء ولهذا فإنه ينعزل .

5. فقدان السمع أو البصر أو النطق: فإذا أصيب بالصمم أو العمى أو الخرس فإنه يخرج من ولاية القضاء .

6. المرض المعجز: فإذا أصيب القاضي بمرض أقعده عن الحركة والنهوض وأعجزه عن القيام بعمله ، ولم يرج شفاؤه فإنه ينعزل .

7. انتهاء مدة ولايته واختصاصه: فإذا عين الإمام رجلا على القضاء مدة سنة فإن ولايته للقضاء تنتهي بانتهاء السنة ، وكذلك إذا كلفه الإمام بالنظر في قضية أو مجموعة قضايا محدودة فإنه بمجرد الفراغ من النظر في تلك القضايا تكون قد انتهت ولايته .

8. استقالته: إذا استقال القاضي من وظيفته وقبل الإمام استقالته ، فإنه تنتهي ولايته بذلك .

9. الموت: لأنه مبطل لأهلية التصرف، وبالتالي تنتهي ولاية القاضي بمجرد موته.

([280])  رواه الحاكم وصححه.

([281])  رواه أبو داود.

([282])  أي أنه وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر مهلكة، فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على الخلاص.

([283])  رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه.

([284])  رواه الطبراني.

([285])  رواه الطبراني.

([286])  رواه الطبراني والأصبهاني.

([287])  بما أن القاضي صاحب عمل من من أعمال المسلمين، بل من أجلّ أعمالهم، فقد نص الفقهاء على أن له الحق في بيت مال المسملين .. بل قال الحنفية : لا بأس أن يطلق الإمام للقاضي من الرّزق ما يكفيه من بيت المال حتى لا يلزمه مئونة وكلفة ، وأن يوسّع عليه وعلى عياله ، كي لا يطمع في أموال الناس.

واستدلوا لذلك بما روي أن رسول الله r لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وولاه أمرها رزقه أربعمائة درهم في كلّ عام .. ومثل ذلك فرض الصحابة للقضاة رزقاً من بيت المال .. وقد ورد أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل في الشام أن انظروا رجالاً من أهل العلم من الصالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم في الرّزق ليكون لهم قوةً وعليهم حجةً .

وقد اختلف الفقهاء في حال كون القاضي غنيا .. هل له أن يأخذ من بيت المال أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: لا يحلّ له الأخذ لأنه لا حاجة له فيه، وهو قول للحنفية.

القول الثاني:  يحلّ له الأخذ والأفضل له أن يأخذ ، وهو قول ثان للحنفية، أما الحلّ فلأنه عامل للمسلمين فكانت كفايته عليهم لا من طريق الأجر ، وأما الأفضلية ; فلأنه وإن لم يكن محتاجاً إلى ذلك فربما يجيء بعده قاض محتاج وقد صار ذلك سنةً ورسماً فيمتنع وليّ الأمر عن إعطائه ، فكان الامتناع من الأخذ شحّاً بحقّ الغير ، وكان الأفضل هو الأخذ .

القول الثالث: إن تعين عليه القضاء وعنده كفاية تغنيه عن الارتزاق لم يجز له أخذ شيء، وهو قول المالكية والشافعية.

القول الرابع: يجوز لمن تعين عليه وله كفاية أخذ الرّزق ، أما من تعين عليه وهو محتاج إلى الرّزق فله الأخذ بقدر الكفاية وإن لم يتعين عليه القضاء وهو محتاج إلى الرّزق من بيت المال فله أن يأخذ بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم ، وإن كان غنيّاً فالأولى له أن لا يأخذ شيئاً، وهو قول الشاشيّ من الشافعية.

القول الخامس: للقاضي طلب الرّزق من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة وعدمها، لأن عمر رزق شريحاً في كلّ شهر مائة درهم وفرض لزيد وغيره ، وأمر بفرض الرّزق لمن تولى القضاء ; ولأنه لو لم يجز فرض الرّزق لتعطلت وضاعت الحقوق.

([288])  نص الفقهاء في هذا المحل على أنه يحرم على القاضي قبول الهدية من الخصمين ، أو من أحدهما .. أما من ليست له خصومة، فإن كان من خواصّ قرابته أو صحبته أو جرت له عادة بمهاداته قبل القضاء فلا بأس ، وإن لم تجر له عادة بذلك لم يجز له القبول، والأولى إن قبل الهدية - ممن ليست له خصومة - أن يعوّض المهدي عنها ، ويحسن به سدّ باب قبول الهدايا من كلّ أحد ; لأن الهدية تورث إدلال المهدي وإغضاء المهدى إليه ، إلا الهدية من ذوي الرحم المحرم - ممن ليست له خصومة - فالأولى قبولها لصلة الرحم ; ولأن في ردّها قطيعةً للرحم وهي حرام.

([289])  الراشي هو الذي يعطي الرشوة، والمرتشي هو الذي يأخذ الرشوة، وقد روي في حديث آخر: إن اللعنة على الرائش أيضاً، وهو الساعي بينهما.

([290])  رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.

([291])  رواه أبو داود.

([292])  رواه الطبراني بسند رجاله ثقات.

([293])  رواه أحمد.

([294])  رواه الحاكم.

([295])  رواه الحاكم، وروى أحمد والبزار والطبراني عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال : (لعن رسول الله r الراشي والمرتشي والرائش)، وروى الطبراني بسند جيد : ( لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)

([296])  الحسد هنا بمعنى الغبطة، وهو أن يتمنى المرء أن يكون له مثل أخيه من غير أن يكره زوال النعمة عن أخيه، قال في الزواجر : ( فإن اشتهيت لنفسك مثلها مع بقائها لذويها فهو غبطة ، وقد يخص باسم المنافسة وهي قد تسمى حسدا كما في خبر : ( لا حسد إلا في اثنتين ) وفي حديث : ( المؤمن يغبط والمنافق يحسد )

([297])  أي أنه ينبغي أن لا يغبط أحدٌ إلا على إحدى هاتين الخصلتين.. وليس المراد من ذلك الحصر، فقد ورد في حديث آخر قوله r : (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) رواه البخاري ومسلم.

([298])  رواه البخاري ومسلم.

([299])   رواه مسلم.

([300])  رواه مسلم.

([301])  انظر فصل (المسؤولية) في هذه الرسالة.

([302])  اتفق الفقهاء على أنه يحرم بذل المال لينصب قاضياً، وأن ذلك يدخل في عموم نهي الرسول r عن الرّشوة ..

لكن هذه الحرمة ـ كما نص على ذلك الحنفية والمالكية والشافعية ـ مقيدة بما إذا كان طالب القضاء لا يستحقّ التولية لفقده شروط التولية أو بعضها، أو لم يكن القضاء متعيناً عليه.. وكره الشافعية بذل المال إذا كان طلبه مكروهاً.

ولهذا فإنهم قد نصوا ـ وخصوصا الحنفية والمالكية والشافعية ـ على جواز بذل المال إذا كان القضاء واجباً على الباذل لتعيّن فرضه عليه عند انفراده بشروط القضاء.

وزاد الشافعية وجهاً آخر للإباحة ، وهو ما إذا كان مستحبّاً له الطلب ليزيل جور غيره أو تقصيره.

([303])  اختلف الفقهاء فيما لو تعين القضاء على من هو أهل له، هل يجبر على القبول لو امتنع .. أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: أن للإمام إجبار أحد المتأهّلين إذا لم يوجد عنه عوض، وهو قول المالكية والحنابلة والحنفية في أحد الوجهين والشافعية في الأصحّ، واستدلوا على ذلك بأن الناس مضطرّون إلى علمه ونظره ، فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر.

وقد روي في هذا أن الإمام مالكا سئل: ( أيجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: نعم إذا لم يوجد منه عوض . قيل له: بالضرب والحبس؟ قال: نعم)

القول الثاني: أن من تعين عليه يفترض عليه القبول ، فإن امتنع لا يجبر، وهو الوجه الآخر عند الحنفية، وهو مقابل الأصحّ عند الشافعية، وقد استدلوا لذلك بما روي أن عثمان أراد تولية ابن عمر القضاء ، فقال لعثمان: أو تعافيني يا أمير المؤمنين؟ قال : فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ فقال : إنّي سمعت رسول الله r يقول : (من كان قاضياً فقضى بالعدل فبالحريّ أن ينقلب منه كفافاً)، وفي رواية : فأعفاه وقال : لا تجبرن أحداً .. وقد سبق ذكر الحديث.

وقد روي عن الإمام أحمد ما يمكن أن يكون قولا ثالثا .. وهو أنه إذا لم يوجد غيره وأبى الولاية أنه لا يأثم ، ولكن كلام الإمام أحمد حمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السّلطان أو غيره ، فإن أحمد قال : لا بد للناس من حاكم ، أتذهب حقوق الناس؟

ونرى أن الأرجح في هذا كله ما نص عليه أبو حامد الغزالى بقوله عن القضاء: ( إنه أفضل من الجهاد لأن طباع البشر مجبولة على التظالم وقل من ينصف من نفسه، والإمام مشغول بما هو أهم منه، فوجب من يقوم به فإن امتنع الصالحون له منه أثموا وأجبر الإمام أحدهم)

([304])  منذر بن سعيد ( 273 ـ 355 هـ )، هو منذر بن سعيد بن عبد الله ، أبو الحكم البلوطي ، النفري القرطبي قضاة الأندلس في عصره . كان فقيهاً خطيباً شاعراً فصيحاً . وكان يتفقه بفقه داود الأصبهاني ويؤثر مذهبه ،ويحتج لمقالته ، فإذا جلس مجلس الحكم بمذهب مالك وأصحابه .. من تصانيفه (الإنباه على استنباط الأحكام من كتاب الله) و(الأنابة عن حقائق أصول الديانة ) ، و( الناسخ والمنسوخ) (أنظر: تاريخ العلماء والرواة بالأندلس 2/142 ، وبغية الوعاة 2/301 ، والأعلام 8/229)

([305])  ذكر الفقهاء في مسائل القضاء هذه المسألة .. وقد اتفقوا فيها على أنّ القاضي لا يجوز له القضاء بعلمه في الحدود الخالصة للّه تعالى كالزّنى وشرب الخمر، لأنّ الحدود يحتاط في درئها ، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم القاضي ، ولأنّ الحدود لا تثبت إلاّ بالإقرار أو البيّنة المنطوق بها ، وأنّه وإن وجد في علم القاضي معنى البيّنة ، فقد فاتت صورتها، وهو النّطق ، وفوات الصّورة يورث شبهةً ، والحدود تدرأ بالشّبهات.

وقد اختلفوا في حكم القاضي بعلمه في حقوق الآدميّين على الأقوال التالية:

القول الأول: أنّ القاضي لا يحكم بعلمه في حقوق الآدميّين، يستوي في ذلك علمه قبل الولاية وبعدها، وهو قول شريح والشّعبيّ وإسحاق وأبي عبيد، وهو مذهب المالكيّة وغير الأظهر عند الشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة، وقد استدلوا على ذلك بما أوردناه من نصوص في الأصل.

القول الثاني:  أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، سواء في ذلك علمه قبل ولاية القضاء أم بعدها، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الإمامين أبي يوسف ومحمّد، لكنّ الشّافعيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان القاضي مجتهداً - وجوباً - ظاهر التّقوى والورع - ندباً - واشترطوا لنفاذ حكمه أن يصرّح بمستنده ، فيقول : علمت أنّ له عليك ما ادّعاه ، وقضيت ، أو : حكمت عليك بعلميّ . فإن ترك أحد اللّفظين ، لم ينفذ حكمه . واستدلّ  لذلك بأنّ النّبيّ r لمّا قالت له هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطني من النّفقة ما يكفيني وولدي ، قال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فحكم لها من غير بيّنة ولا إقرار ، لعلمه بصدقها ، وبأنّه يجوز للقاضي أن يقضي بالبيّنة ، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى ، لأنّ المقصود من البيّنة ليس عينها ، بل حصول العلم بحكم الحادثة. وعلمه الحاصل بالمعاينة أقوى من علمه الحاصل بالشّهادة ، لأنّ العلم الحاصل بالشّهادة علم غالب الرّأي وأكبر الظّنّ ، والحاصل بالحسّ والمشاهدة على القطع واليقين ، فهو أقوى ، فكان القضاء به أولى.

القول الثالث: أنّه يجوز للقاضي في حقوق الآدميّين أن يقضي بعلمه الّذي استفاده في زمن القضاء وفي مكانه ، ولا يجوز له القضاء بعلمه الّذي استفاده في غير زمن القضاء ، وفي غير مكانه ، أو في زمن القضاء في غير مكانه، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل لذلك بأنّ هناك فرقاً بين العلمين ، فإنّ العلم الّذي استفاده في زمن القضاء ومكانه علم في وقت هو مكلّف فيه بالقضاء ، فأشبه البيّنة القائمة فيه ، والعلم الّذي استفاده قبل زمن القضاء هو في وقت غير مكلّف فيه بالقضاء ، فأشبه البيّنة القائمة فيه.

([306])  رواه مسلم.

([307])  هو ما يعطى في الجراحات.. وتقويمه راجع لأهل العلم.

([308])  رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.

([309])  استفدنا في هذا المطلب من كتاب (المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية، وارتباط النظام القضائي في المملكة العربية السعودية بها)، جمع : الدكتور حسين بن عبد العزيز آل الشيخ، إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف، والقاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة النبوية.

([310])   رواه البخاري ومسلم.

([311])  الدعوى هي القول الذي يصدر من المدعي أمام القاضي لإخباره بأن له حقا معينا في ذمة المدعى عليه ، وأنه يطالبه به ويريد من القاضي الحكم له به على المدعى عليه .. ولم يشترط الفقهاء لها صيغة معينة بحيث لا تجوز الدعوى ولا تقبل إلا بها ، وإنما القاعدة فيها هي أن كل كلام يفيد الدعوى فإنه يصلح أن يكون صيغة لها.

([312])  من الشروط التي ذكرها الفقهاء لقبول الدعاوى:

1 . أن يكون كل من المدعي والمدعى عليه عاقلا .

2 . أن يكون الحق المدعى به معلوما، ويدخل تحت ولاية القضاء، وتجري عليه الأحكام .

3 . ألا يكون المدعى به مستحيلا عقلا ولا عادة ، فالأول كما لو ادعى أن فلانا ابنه وكان أكبر منه سنا ، والثاني كما لو ادعى فقير مشهور بالفقر أنه أقرض شخصا أموالا طائلة .

4 . أن يترتب على ثبوتها حكم ملزم للمدعى عليه ، فلو ادعى شخص أنه فقير وأن فلانا من سكان محلته غني ويطلب شيئا من ماله لمجرد غناه لم تسمع دعواه لأنها لو ثبتت لم يترتب عليه إلزام الغني بإعطائه شيئا من ماله.

([313])  رواه أبو داود والترمذي وصححه واللفظ له.

([314])  رواه ابن حبان في صحيحه.

([315])  رواه أحمد من رواية ابن لهيعة.

([316])  رواه البخاري.

([317])  رواه البخاري ومسلم، زاد مسلم في رواية : (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)

([318])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([319])  رواه أحمد والطبراني.

([320])  رواه أبو يعلى.

([321])  رواه أحمد.

([322])  رواه مالك مرسلا .

([323])  رواه أحمد.

([324])  رواه أحمد بسند فيه مختلف فيه وأبو داود.

([325])  رواه أبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي.

([326])  رواه الأصبهاني.

([327])  رواه الترمذي وقال حسن.

([328])  رواه أحمد وابن أبي الدنيا.

([329])  رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي.

([330])  رواه مسلم وغيره.

([331])  أي المعجب بنفسه المستكبر.

([332])  رواه البزار بسند جيد.

([333])  رواه أحمد والبزار واللفظ له.

([334])  رواه أحمد وابن أبي الدنيا والبيهقي.

([335])  رواه أبو داود والبيهقي.

([336])  الإقرار هو الاعتراف بثبوت حق للغير على نفس المقر ولو في المستقبل، ولا بد أن يكون الإقرار بلفظ دال على ثبوت الحق للغير على نفس المقر نحو أن يقول: لفلان عندي ألف دينار، ويقوم مقام اللفظ إشارة الأخرس المفهومة كما تقوم الكتابة مقام اللفظ.

([337])  من الشروط التي ذكرها الفقهاء في المقر أن يكون بالغا عاقلا مختارا غير سكران .. كما يشترط في المقر به ألا يكون مما لا يمكن عقلا ولا شرعا ، كأن يقر بأنه ابن فلان وهو أكبر منه سنا أو يقر الابن بالتسوية بينه وبين أخته في الميراث ، فالأول محال عقلا ، والثاني مخالف لأصول الشرع في الميراث.

أما المقر له فيشترط فيه أن يكون ممن يثبت له الحق ، فإن لم يكن كذلك لم يصح الإقرار له كما لو أقر لبهيمة أو لدار بمبلغ من المال لم يصح إقراره وكان باطلا لأن البهيمة والدار لا تملك المال مطلقا إلا أن يكون شخصا اعتباريا (معنويا) كالوقف والشركة .. كما يشترط إن كان المقر له أهلا للاستحقاق ألا يكذب المقر في إقراره.

وإذا توفرت في الإقرار الشروط المطلوبة لزم المقر ما أقر به من مال أو قصاص ، ولا ينفعه الرجوع إلا إذا أقر بحد فله الرجوع عن إقراره كما لو أقر بالزنا والسرقة ولكنه يلزمه رد المال المسروق.

ومع أن الإقرار سيد الأدلة، وحجيته ثابتة بالكتاب والسنة، إلا أنه ـ مع ذلك ـ يعتبر حجة قاصرة على المقر لا يتعداه إلى غيره ، فيؤاخذ به المقر وحده دون سواه لأن المقر لا ولاية له إلا على نفسه.

([338])   رواه البخاري ومسلم.

([339])  من الشروط التي ذكرها الفقهاء لقبول الشهادة:

1. أن يكون الشاهد بالغا عاقلا مسلما عدلا غير متهم في شهادته لعداوة أو قرابة وأن يكون عالما بما يشهد به.

2. تقدم الدعوى بالحق المشهود به - إلا في شهادة الحسبة- حتى لا يكون الشاهد مدعيا وشاهدا في الوقت نفسه ، وذلك في حقوق الله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق .

3. طلب المدعي أداء الشهادة من الشاهد، فلا تكون الشهادة إلا بطلب من المدعي.. وفي هذا نظر، فقد أطلق الله تعالى الأمر بالشهادة، ولم يحدده بطلب المدعي، قال تعالى :﴿ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية283)

4. إذن القاضي للشاهد بأداء شهادته .

5. نطق الشاهد بكلمة (أشهد) في مستهل شهادته ولا يقوم غيرها مقامها كقوله ( أعلم ) أو ( أتحقق ) .

6. أن يقتصر الشاهد في شهادته على ما ادعاه المدعي .

7. أن يؤدي الشاهد ما تحمله من الشهادة مصرحا به بلفظه ، فلا يقبل من الشاهد أن يقول: أشهد بمثل ما شهد به هذا الشاهد ، بل لا بد من تصريحه هو بما تحمله وقت أدائه الشهادة .

8. أن ينقل الشاهد ما سمعه أو رآه من وقائع إلى القاضي ، لا أن يشهد بما يستنتجه هو مما رآه ؛ لأن تكييف الوقائع وما يستنتج منها وما يترتب عليها من آثار وأحكام كل ذلك متروك لتقدير القاضي واجتهاده .

9. إذا ارتاب القاضي في الشهود فله أن يفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته على حده فإن اختلفوا سقطت شهادتهم ، وإن اتفقوا حكم بها القاضي إن عرف عدالتهم .

10. أن يبلغ عدد الشهود النصاب المحدد حسب ما يشهدون عليه، ففي الشهادة على الزنا لا يقبل أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، وفي بقية الحدود ـ وهي القذف والسرقة والحرابة وشرب الخمر والردة وكذلك القصاص ـ فإن نصاب الشهادة المقبول هو شهادة رجلين عدلين .. وفي النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء ونحو ذلك يشترط شهادة رجلين ذكرين أو شهادة رجل وامرأتين .. وفي الأموال وحقوقها كالقروض والإتلاف والديات والبيوع ونحوها نصاب الشهادة هو رجلان أو رجل وامرأتان باتفاق .. وفي الولادة والرضاع وعيوب النساء تحت الثياب تقبل شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجل.

([340])  نص الفقهاء على أن أداء الشّهادة فرض كفاية؛ لما ذكرنا من الأدلة، فإذا تحمّلها جماعة وقام بأدائها منهم من فيه كفاية سقط الأداء عن الباقين ، لأنّ المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم ، وإن امتنع الكلّ أثموا جميعاً لقول اللّه تعالى :﴿ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية283)، ولأنّ الشّهادة أمانة فلزم الأداء عند الطّلب.

وقد يكون أداء الشّهادة فرض عين إذا كان لا يوجد غيره ممّن يقع به الكفاية ، وتوقّف الحقّ على شهادته فإنّه يتعيّن عليه الأداء ؛ لأنّه لا يحصل المقصود إلاّ به.

إلاّ أنّه إذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق العباد وأسبابها أي في محض حقّ الآدميّ ، وهو ما له إسقاطه كالدّين، فلا بدّ من طلب المشهود له لوجوب الأداء ، فإذا طلب وجب عليه الأداء ، ولو امتنع بعد الطّلب أثم ، ولا يجوز له أن يشهد قبل طلب المشهود له ؛ لقول النّبيّ r : ( خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ يفشو الكذب حتّى يشهد الرّجل قبل أن يستشهد)

ولأنّ أداءها حقّ للمشهود له ، فلا يستوفى إلاّ برضاه ، وإذا لم يعلم ربّ الشّهادة بأنّ الشّاهد تحمّلها استحبّ لمن عنده الشّهادة إعلام ربّ الشّهادة بها.

وإذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق اللّه تعالى ، وفيما سوى الحدود ، كالطّلاق والعتق وغيرها من أسباب الحرمات فيلزمه الأداء حسبةً للّه تعالى عند الحاجة إلى الأداء من غير طلب من أحد من العباد.

وأمّا في أسباب الحدود من الزّنا والسّرقة وشرب الخمر فالسّتر مندوب إليه ؛ لقول النّبيّ r: (من ستر مسلماً ستره اللّه في الدّنيا والآخرة) ، ولأنّه مأمور بدرء الحدّ.. وصرّح الحنفيّة والمالكية بأنّ الأولى السّتر إلاّ إذا كان الجاني متهتّكاً.

وإذا وجب أداء الشّهادة على إنسان ولكنّه عجز لبعد المسافة ، كأن دعي من مسافة القصر أو كان سيلحقه ضرر في بدنه أو ماله أو أهله فلا يلزمه الأداء لقول اللّه تعالى :﴿ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: من الآية282)، وقول النّبيّ r : ( لا ضرر ولا ضرار)، ولأنّه لا يلزمه أن يضرّ نفسه لنفع غيره.

([341])  رواه الطبراني من رواية من احتج به البخاري.

([342])  رواه البخاري ومسلم.

([343])  رواه البخاري.

([344])  رواه ابن ماجه والحاكم وصححه.

([345])  رواه الطبراني.

([346])  رواه الترمذي وابن ماجه.

([347])  انظر: الطرق الحكمية لابن القيم.

([348])  رواه ابن ماجه وغيره.

([349])  نذكر هنا بعض ما أثر عن قضاة المسلمين وأولي الأمر فيهم من طرق التحري،  وقد اعتمدنا فيها على كتاب (الطرق الحكمية) لابن القيم .. وذلك جريا على عادتنا في هذه السلسلة من التبسيط والتيسير والمتعة .. ولا نرى شيئا يقرب مثل هذه الحقائق مثل هذه الروايات.

([350])  هو إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو واثلة: قاضي البصرة، وأحد أعاجيب الدهر في الفطنة والذكاء.. يضرب المثل بذكائه قيل له: ما فيك عيب غير أنك معجب ! فقال: أيعجبكم ما أقول ؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أحق أن أعجب به.. ودخل مدينة واسط فقال لاهلها بعد أيام: يوم قدمت بلدكم عرفت خياركم من شراركم، قالوا: كيف ؟ قال: معنا قوم خيار ألفوا منكم قوما، وقوم شرار ألفوا قوما، فعلمت أن خياركم من ألفه خيارنا وكذلك شراركم... قال الجاحظ: إياس من مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة، كان صادق الحدس، نقابا، عجيب الفراسة، ملهما وجيها عند الخلفاء.. وللمدائني كتاب سماه (زكن إياس).. توفي بواسط.

([351])  ذكر الفقهاء أن على القاضي أن يتخذ أعوانا يستعين بهم في أداء مهامه، ومنهم:

أهل العلم والفضل: فيتخذ منهم جماعة يستشيرهم فيما يعرض عليه من قضايا، وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة، وهذه المشاورة من القاضي مطلوبة .. والغرض من المشاورة تنبيه القاضي إلى ما عسى أن يكون قد فاته أو نسيه مما له تعلق بالدعوى أو تأثير في الحكم مع بيان رأيهم في الحكم المناسب ، وقد اشترطوا فيهم أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة حتى يمكنهم الدلالة على الحكم الشرعي للقضية.

الكاتب: وهو الذي يكتب بين يدي القاضي حسبما يملي عليه القاضي، وقد اشترط الفقهاء في الكاتب أن يكون عدلا وعلى قدر كاف من الفقه والدراية.

الحاجب: وهو الذي يقدم الخصوم إلى القاضي ليقضي في خصومتهم بحسب أسبقيتهم في الحضور أو على حسب ترتيب رؤية دعاواهم .

البواب: ومن وظيفته إعلام الناس بوقت جلوس القاضي للحكم ، وإعلامهم بوقت راحته ، وإخبار القاضي بمن يريد الدخول عليه والغرض من ذلك حتى إذا أذن له القاضي بالدخول أدخله وإلا لم يدخله .

المترجم: فيتخذ القاضي مترجما عدلا أو مترجمين اثنين أو أكثر، فإن لم يكن عند القاضي مترجم خاص ترجم له عند الحاجة ثقة مأمون، ومترجمان أفضل من الواحد .. وتجوز ترجمة المرأة العدل عند الحاجة .. ويقوم هؤلاء المترجمون بترجمة أقوال المدعين أو المدعى عليهم أو الشهود إذا كان القاضي لا يعرف لغتهم.

الجلواز: وهو الذي يقوم على رأس القاضي ويقيم الخصوم إذا انتهت الخصومة ليخرجوا من مجلس القضاء وهو الذي يمثل الشرطة التي تحفظ الأمن في المحكمة وتحمي القاضي .

الشهود: وهؤلاء يحضرهم القاضي وجوبا ليشهدوا على القرارات التي تصدر من الخصوم ويحفظها ويدلوا بها عند الحاجة ، وينبغي أن تتوفر فيهم العدالة اللازمة لتحمل الشهادة وأدائها .

الأجرياء: ووظيفتهم إحضار الخصوم إلى مجلس القضاء إذا استعدى عليهم أصحاب الحقوق، وينبغي أن يكونوا من ذوي الدين والأمانة والبعد عن الطمع، وهؤلاء أيضا يمثلون جزء من شرطة المحاكم .

المزكون: وهؤلاء رجال عدول يختارهم القاضي دون أن يكونوا معلومين للناس لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم .

المؤدبون: هؤلاء نفر من الرجال الأكفاء يكونون في مجلس القضاء ليزجروا من ينبغي زجره من المتخاصمين أو غيرهم إذا أساءوا الأدب في مجلس القضاء ، ولهم الحق في إخراجهم من المجلس إذا لم يكفوا عن إساءتهم .. وهؤلاء أيضا يتبعون لشرطة المحاكم .

أهل الخبرة: وهؤلاء يختارهم القاضي من أهل العدالة والأمانة والخبرة في الأمور التي تدخل في أعمال القضاء وتحتاج إلى خبرة معينة مثل تقويم الأشياء وإجراء قسمة العقار والمنقول ونحو ذلك .

السجان: ومن واجباته أن يرفع إلى القاضي كل يوم أحوال المحبوسين، وما يجري في السجن حتى يزيل الظلم ، ويطلق سراح من لا يستحق البقاء في السجن، وكذا من انقضت مدة سجنه.

وننبه هنا إلى أن من هؤلاء الأعوان من يختارهم القاضي بنفسه كأهل العلم والفضل الذين يستشيرهم ، وكالمزكين والشهود ، ومنهم من يعينه الحاكم أو الأمير كالكاتب والحاجب والبواب .. ويتقاضى أعوان القضاء أرزاقا من بيت المال مقابل عملهم كل حسب اختصاصه ونوعية عمله.

([352])  رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([353])  استثنى الفقهاء من هذا القضايا التي تتطلب السرية الشخصية .. والتي لا يرغب الخصمان أو أحدهما في إفشائها وإطلاع الناس عليه كقضايا النكاح والطلاق وحقوق الزوجية ونحوها .. فمثل هذه القضايا يرخض في إجرائها سرية لا يحضرها سوى القاضي والخصمين وأعوان القاضي مما يستوجب النظر حضورهم يقول السمناني: (وإن كان الجلواز - الشرطي - ثقة فلا بأس أن يقف يسمع وبعده أولى ، لأن الخصومة تكون في أمور ربما شنيعة بين الرجال والنساء ، أو مضحكة لا يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يكره) (انظر : روضة القضاة للسمناني 1/ 34 )

([354])  اختلف الفقهاء في جواز جلوس القاضي في المسجد للحكم على الأقوال التالية:

القول الأول: جواز جلوس القاضي في المسجد للحكم ، والجامع أولى ، لأنّه أشهر ، ويختار مسجداً في وسط البلد ، لئلاّ يبعد على قاصديه.. وهو قول الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة في الصّحيح من المذهب ، واستدلوا لذلك بأن رسول اللّه r كان يفصل بين الخصوم في المسجد، وروي أنّه r قال: (إنّما بنيت المساجد لذكر اللّه وللحكم)، ولئلاّ يشتبه على الغرباء مكانه.

القول الثاني: كراهة جلوس القاضي في المسجد للحكم، وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ، فيستحب عندهم للقاضي أن يجلس في دار لا في مسجد، صوناً له عن ارتفاع الأصوات ، واللّغط الواقعين بمجلس القضاء عادة ، ولأنّ القضاء قد يحضره مشرك وهو نجس بالنّصّ.

([355])  رواه البخاري ومسلم.

([356])  رواه البخاري ومسلم.

([357])  ذكره وكيع في أخبار القضاة 1 / 74 - 75 ، وذكره السرخسي في المبسوط 16 / 66.

([358])  انظر : مقاصد الشريعة لابن عاشور 508 .

([359])   رواه أحمد وابن أبي شيبة.

([360])  المغني لابن قدامة 14 / 29 .

([361])   المغني لابن قدامة 14 / 29.

([362])   أعلام الموقعين :1/109.

([363])  أعلام الموقعين : 1/110 .

([364])  رواه البخاري ومسلم.

([365])  وقيل هو خال أم المؤمنين حفصة ـ رضي الله عنها ـ بنت عمر .

([366])  تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 32 / 327 .

([367])  أعلام الموقعين 1/89 .

([368])  سنرى تفاصيل أكثر عن هذا في الفصل الذي خصصناه للمساواة في هذه الرسالة.

([369])  رواه البخاري ومسلم.

([370])   رواه البخاري ومسلم.

([371])  رواه أبو داود والترمذي.

([372])   رواه البخاري وغيره.

([373])  أعلام الموقعين : 1/89 .

([374])  

([375])  المظالم في اللّغة : جمع مظلمة ، يقال : ظلمه يظلمه ظلماً وظلماً ومظلمةً ، ويقال : تظلم فلان إلى الحاكم من فلان فظلمه تظليماً أي أنصفه من ظالمه وأعانه عليه .

ويراد بولاية المظالم في الاصطلاح : قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، وقد نص الفقهاء على أن لوالي المظالم من النظر ما للقضاة، وهو أوسع منهم مجالاً ، وأعلى رتبةً ، إذ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة ، وهي ولاية ممتزجة من سطوة السّلطة ، ونصفة القضاء.

 

([376])  

([377])  رواه البخاري.

([378])  رواه مسلم.

([379])   رواه مسلم.

([380])   رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.

([381])   رواه البخاري.

([382])   رواه الترمذي.