الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: عدالة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

أولا ـ الشريعة

1 ـ الربانية

الخبرة:

القداسة:

التأثير:

2 ـ الشمول

 

3 ـ الواقعية

المصادر:

الأحكام:

4 ـ المثالية

الدين:

الحياة:

العقل:

النسل:

المال:

أولا ـ الشريعة

في اليوم الأول ..  وبينما أنا في سجني الانفرادي أقلب طرفي في مسيرة حياتي الممتلئة بالتناقضات .. إذا بي أسمع صوتا من مكبرات صوت السجن يقول: في هذا المساء .. سيساق إلى الموت (خبيب بن عدي) [1] .. وقد رأت إدارة السجن ـ من باب الرحمة واللطف ـ أن تسمح لجميع للمساجين بزيارته وتوديعه .. من الصباح إلى المساء .. على ألا يتجاوزوا الحدود التي يسمح بها قانون السجن.

بعد فترة من صياحه هذا .. رأيت مجموعة من الحرس تفتح أبواب السجون المتنوعة الانفرادية منها والجماعية .. ليلتقي جميع المساجين في ساحة السجن .. وهناك أحضر كرسي للسجين الذي يراد إعدامه .. ليتكلم كلماته الأخيرة التي يودع بها أصدقاءه المساجين.

لم تطل الفترة حتى جاء خبيب مكللا بأشعة عميقة من الإيمان .. جلس بهدوء على الكرسي الذي وضع له كما يجلس الملوك، ثم قال، وهو يوزع نظراته الحانية على الجمع: بورك فيكم .. لقد شرفتموني بالجلوس بينكم .. فلذلك اسمحوا لي أن أحدثكم عن الرسالة التي ظللت حياتي جميعا أدعو إليها .. ولا حرج عليكم في أن تختلفوا معي .. أو تجادلوني .. فقد ظللت طول عمري أسمع للمخالفين، ولا أطلب منهم إلا أن يسمعوا لي.

في البداية اسمحوا لي أن أذكر لكم أن هذا الصليب الذي شرفني الله بامتطائه اليوم هو نفسه الصليب الذي امتطاه قبلي رجال من أهل الله .. لم يكن لهم من هم إلا أن يعيش البشر حياة ممتلئة بالسلام والعدالة والإيمان .. لقد قدموا نفوسهم فداء لصالح العدالة التي لن تتحقق إلا في المنهج الذي اختاره الله لعباده.

لقد أشار رسول الله r إلى عظم المكانة التي ينالها من قدم نفسه لأجل هذا، فقال: (ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه .. ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [2]

من هؤلاء الرجال الرجل الذي اخترت بعد أن وفقني الله للإسلام لأن أسمى باسمه .. إنه خبيب بن عدي ـ رضي الله عنه ـ ذلك الرجل العملاق الذي قدم نفسه في سبيل أن تنتصر شريعة ربه على تلك الشرائع الجاهلية ..

لقد قال عندما أراد القوم شنقه:

ولست أبالي حين أقتل مسلما
 

على أي جنب كان في الله مصرعي
  

وذلك في ذات الإله وإن يشأ
 

يبارك على أوصال شلو ممزع
  

وقال:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وقد قربوا أبناءهم ونساءهم

وقربت من جذع طويل ممنع

وكلهم يبدي العداوة جاهدا

علي لأني في وثاق بمضيع

إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي

وما جمع الأحزاب لي عند صرعي

فذا العرش صبرني على ما أصابني

فقد بضعوا لحمى وقد ضل مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

وقد عرضوا بالكفر والموت دونه

وقد ذرفت عيناي من غير مدمع

وما بي حذار الموت إني لميت

ولكن حذاري حر نار تلفع

فلست بمبد للعدو تخشعا

ولا جزعا إني إلى الله مرجعي

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي حال كان في الله مصرعي

لقد ردد جميع أولياء الله من الذين بذلوا أنفسهم في ذات الله ما قاله خبيب .. كلهم لم تغرهم الدنيا .. ولا تلك المناصب الرفيعة .. ولا ذلك البهرج الكاذب .. كلهم أبوا إلا أن ينصروا شريعة ربهم .. الشريعة التي لن تتحقق العدالة إلا بها.

قالوا: أنت تعلم أنا من مذاهب مختلفة .. وكلنا له شريعته التي يدين بها .. والتي لا يرى العدالة إلا فيها .. فحدثنا عن هذه الشريعة التي نراك تقدم روحك رخيصة من أجلها.

ابتسم، وقال: شريعتنا عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها .. الشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله r أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة للعيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء و النور الشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله r هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة[3].

كان الرجل يتكلم بكل مشاعره .. وقد أثر في الحضور لأجل ذلك تأثيرا شديدا .. لكن بعض الجالسين قام، وقال: هذا إجمال يحتاج إلى تفصيل .. وهذه دعاوى تحتاج إلى دليل.

نظر إليه خبيب، وقال: صدقت .. لا يمكن أن يقبل الإجمال من دون تفاصيله .. ولا الدعاوى من دون دليلها .. وإن شئتم أن أذكر لكم من ذلك ما تقر به أعينكم فعلت.

قالوا جميعا: كلنا آذان صاغية .. فحدثنا.

قال: سأحدثكم ـ أولا ـ عن نفسي .. أنتم تسمعون أن اسمي خبيبا، فتتصورون أني ولدت مسلما .. وأني من أسرة مسلمة .. وأني ورثت الإسلام كما ورثه أكثر الناس ..

ليس الأمر كذلك .. أنا من أسرة غير مسلمة .. وعندما ولدت عمدت كما يعمد كل صبيان النصارى.. ولقنت ما يلقنون من مبادئ المسيحية ..

كان ذلك في الصبي .. وفي صدر الشباب .. لكني بعد أن شببت عن الطوق، واكتمل لي العقل الذي أفكر به رحت أبحث عن شريعة الله.

وكان أول ما بدأت به (الكتاب المقدس) .. لقد رحت أبحث عن شريعة الله في الكتاب الذي قيل لي: إنه وحي الله لأنبيائه.

قالوا: وما الذي جعلك تبحث فيه دون غيره؟

قال: لقد علمت علم اليقين، بأدلة كثيرة لا يمكن ذكرها هنا، أن الله الذي نظم هذا الكون جميعا يستحيل أن يترك الإنسان هملا .. فلذلك رأيت أن شريعة الله لن تغيب عن خلق الله .. ولكن الخلق هم الذين قد يغيبون عنها.

قالو: كيف؟

قال: الغفلة .. والكبرياء .. والجهل .. كل ذلك يمكن أن يقف بين الإنسان والبحث عن شريعة ربه ..

قالوا: فما الذي وجدت في الكتاب المقدس؟

قال: وجدت فيه من الجور والظلم والجهالة ما جعلني أعتقد اعتقادا راسخا أن الشريعة التي يحويها يستحيل أن تكون شريعة الله.

لست أدري كيف صحت من حيث لا أشعر: هذه دعوى عريضة .. كيف تقول هذا عن الكتاب المقدس؟

التفت إلي بحنان، وقال: اعذرني .. فأنا لم أرد الإساءة إليك .. ولا إلى الكتاب المقدس .. ولكني أعتقد أن الشريعة التي تمتلئ بها جنبات الكتاب المقدس يستحيل أن تكون شريعة الله لعباده.

أنت تعلم أن الكذبة حملوا أقلام الكتبة، وراحوا بأهوائهم يحرفون الكتاب المقدس[4] .. لقد ذكر إرميا هذا، فقال:( فقال الرب لي: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي.لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم.برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم) (إرميا: 14:14) .. وقال:( الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم وشعبي هكذا أحب.وماذا تعملون في آخرتها )(إرميا:5: 31).. وقال:( أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لان كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا ) (إرميا: 23: 36).. وقال:( هكذا قال رب الجنود لا تسمعوا لكلام الانبياء الذين يتنبأون لكم.فانهم يجعلونكم باطلا.يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب )( إرميا: 23 /16).. وقال:( لم أرسل الأنبياء بل هم جروا.لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا ) (إرميا: 23 /21).. وقال:( لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعا بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب )(إرميا: 23 /11)

وهو يصرح بكل ألم قائلا:( كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا.. حقا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب ) (إرميا: 8: 8)

ليس إرميا وحده الذي صرح به.. لقد رأيت في المزامير:( اليوم كله يحرفون كلامي.عليّ كل افكارهم بالشر ) (مزمور:56/ 5)

ورأيت في (حزقيال:7 / 26):( ستاتي مصيبة على مصيبة.ويكون خبر على خبر.. فيطلبون رؤيا من النبي.. والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ)

وسمعت إشعيا يقول:( ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل غنيمتهم وينهبوا الايتام ) (إشعياء:10 /1-2)

إن إشعيا يتحدث عن المطامع التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف.. إنه يتحدث عن بيع كتاب الله بثمن بخس كما قال كتاب المسلمين.

بل هو يصرح بذلك قطعا لكل تأويل، فيقول:( ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا ومن يعرفنا. يا لتحريفكم. هل يحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني. أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم )( إشعياء: 29 /15-16)

وهو يقول:( ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس مني ويسكبون سكيبا وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة ) (إشعياء: 30 /1 )

سكت قليلا، ثم قال: عندما قرأت هذا علمت أن الرب أرحم من أن يأمرنا بطاعة الشريعة التي حولها هؤلاء الكذبة إلى مسخ .. لقد قرأت في كتاب المسلمين المعاني الحقيقية للتوراة .. لقد جاء فيه :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ((المائدة:44)

هكذا كانت التوراة قبل أن تحرف .. ولكنها عندما حرفت صارت تحوي النصوص الكثيرة الممتلئة بالخرافة والشعوذة والجور والدجل ..

لن أقرأ لك كل ما صرفني عن شريعة الكتاب المقدس .. بل سأكتفي بجانب مهم منها .. رأيت أن الجور فيه قد ضرب أطنابه ..

إنه الموقف من المرأة .. أنت تعلم أنه من الجور الكبير أن يفضل أحد الجنسين وأن يحقر غيره .. ولذلك فإن الشريعة التي تقوم بهذا الجور وتدعمه شريعة أهواء لا شريعة من رب العالمين.

لقد قرأت في سفر الخروج : ( و إذا باع رجل ابنته أمةً لا تخرج كما يخرج العبيد)(الخروج 21/7) .. وقرأت أنه في أيام القضاة اشترى بوعز جميع أملاك أليمالك و مالكليون و محلون، ومن ضمن ما اشتراه راعوث المؤابية امرأة محلون(انظر راعوث 4/9-10) .. وقرأت في( الجامعة 7/26-28 ) : (فوجدت أمرّ من الموت : المرأة التي هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها.. أما الخاطئ فيؤخذ بها…رجلاً واحداً بين ألف وجدت ، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد)

بل إن سفر اللاويين يقرن المطلقة والأرملة بالزانية ، فيعتبرهن دناياً يحرم على الكاهن الزواج منهن (اللاويين 21/10-15) كما يفرض السفر أحكاماً شديدة على المرأة حال حيضتها حتى أن مجرد مسها ينجس الماس إلى المساء كما ينجس كل من مس فراشها أو شيئاً من متاعها (اللاويين 15/19-32 ) [5]

وفي العهد الجديد رأيت بولس يحمل المرأة خطيئة آدم، ثم يحتقر المرأة تبعاً لذلك فيقول : ( لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، و لكن لست آذن للمرأة أن تعلّم، و لا تتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت، لأن المرأة أغويت، فحصلت في التعدي) (تيموثاوس(1) 2/11-14) ، و يقول مبرزا ما في نفسه من احتقاره للمرأة : (الرجل ليس من المرأة ، بل المرأة من الرجل ، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة ، بل المرأة من أجل الرجل) (كورنثوس(1) 11/8-9)

لقد أوحت هذه النصوص للآباء والقديسين في ملتنا النصرانية بأن يفرضوا على المرأة شريعة مملوءة بالجور والظلم والإجحاف .. لقد قال القديس ترتليان (ق3) إثر تشبعه بأمثال تلك النصوص المقدسة عن المرأة:  (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان ، ناقضة لنواميس الله ، مشوهة لصورة الله (الرجل) .. و يقول بعد حديثه عن دور حواء في الخطيئة الأولى:( ألستن تعلمن أن كل واحدة منكن هي حواء ؟!…أنتن المدخل الذي يلجه الشيطان..لقد دمرتن بمثل هذه السهولة الرجل صورةَ الله)

ومثله قال القديس سوستام عن المرأة: (إنها شر لا بد منه ، و آفة مرغوب فيها ، و خطر على الأسرة و البيت ، و محبوبة فتاكة ، ومصيبة مطلية مموهة)

ومثلهما قال القديس جيروم (ق5) في نصيحته لامرأة طلبت منه النصح: (المرأة إذن هي ألد أعداء الرجل ، فهي المومس التي تغوي الرجل إلى هلاكه الأبدي ، لأنها حواء ، لأنها مثيرة جنسياً)

أما القديس أوغسطين (ق 5)، فيتساءل : ( لماذا خلق الله النساء؟).. ثم يجيب : (إذا كان ما احتاجه آدم هو العشرة الطبية، فلقد كان من الأفضل كثيراً أن يتم تدبير ذلك برجلين يعيشان كصديقين بدلاً من رجل و امرأة).. ثم تبين له بعد بحث مضن أن العلة من خلقها هي فقط إنجاب الأولاد ، و منه استوحى لوثر فقال: (إذا تعبت النساء أو حتى ماتت فكل ذلك لا يهم ، دعهن يمتن في عملية الولادة ، فلقد خلقن من أجل ذلك)

ولم يكتف هؤلاء القديسون بهذه التصريحات الجائرة .. بل راحوا يعقدون المؤتمرات الغريبة للبحث عن حقيقة هذا العنصر الغريب الذي يسمونه (المرأة ) ، ففي القرن الخامس عقد مؤتمر ماكون للنظر هل للمرأة روح أم لا؟ وقرر المؤتمر خلو المرأة عن الروح الناجية .. و قال القديس جيروم: (المرأة عندما تكون صالحة تكون رجلاً).. أي أنها تشذ عن مثيلاتها الإناث فتصير مثل الرجال .

و في عام 586م عقد مؤتمر لبحث إنسانية المرأة، ثم قرر المؤتمر بأغلبية صوت واحد بأن المرأة إنسان خلق لخدمة الرجل.

و بعد ظهور البروتستانت في القرن السادس عشر عقد اللوثريون مؤتمراً في (وتنبرج) لبحث إنسانية المرأة.

التفت إلى الجمع، وقال: هل يمكن لشريعة يحمل كتابها المقدس هذه النظرة عن المرأة .. ويحمل رجال دينها بل قديسوها هذه النظرة القاسية الجائرة .. هل يمكن لشريعة مثل هذه أن تكون شريعة عادلة مع هذا الجانب المهم المشكل للمجتمع الإنساني.

لقد انعكست هذا الجور التصوري للمرأة على القوانين المدنية، والتي كانت تفرض بعد أخذ رأي القسس والأساقفة.. لقد بقيت المرأة في القانون الإنجليزي تباع من زوجها لآخر بست بنسات، و استمر هذا القانون سارياً حتى عام 1805م .. فيما اعتبر قانون الثورة الفرنسية المرأة قاصراً كالصبي و المجنون، و استمر ذلك حتى عام 1938م.

ولم يكن الأمر قاصرا على هذا .. لقد بلغ الجور حدا لا يمكن تصوره .. ففي ظل سيطرة الكنيسة في القرن السادس عشر والسابع عشر انعكست الصورة السوداوية التي تنظر بها الكنيسة إلى المرأة بظهور فكرة اجتاحت أوربا وهي وجود نساء متشيطنات، أي تلبسهن روح شيطانية، فهن يعادين الله، و يعادين المجتمع .. تقول كارن ارمسترنج في كتابها (إنجيل المرأة): (لقد كان تعقب المتشيطنات بدعة مسيحية، و كان ينظر إليها على أنها واحدة من أخطر أنواع الهرطقات .. ومن الصعب الآن معرفة عدد النساء اللائي قتلن خلال الجنون الذي استمر مائتي عام، و إن كان بعض العلماء يؤكد أنه مات في موجات تعقب المتشيطنات بقدر ما مات في جميع الحروب الأوربية حتى عام 1914م .. يبدو أن الأعداد كانت كبيرة بدرجة مفزعة)

التفت إلي، وقال: بمجرد أن عرفت كل هذا استحييت من أن أدين بشريعة يدين بها هؤلاء .. لقد رأيت أن الله أعظم رحمة وعدلا من أن يحكم على هذا الكائن الإنساني بكل هذه القسوة ..

بعد أن يئست من أن أجد في الكتاب المقدس الشريعة العادلة رحت أبحث في القرآن ..

أصدقكم القول أني لم أبدأ ببحثي فيه إلا وأنا ممتلئ بشبهات كثيرة كانت تقف حجبا بيني وبينه .. لكن الله أعطاني القوة، فحطمتها جميعا، ولم أبق أثناء قراءتي للقرآن الكريم وللنصوص المقدسة التي نطق بها محمد r إلا عقلي.. ذلك البرنامج الذي برمجني الله به لأميز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل.

وكان أول ما شدني في القرآن الكريم هو تلك النظرة المحترمة للكائنات جميعا .. الإنسان والحيوان .. والنبات والجماد .. وكل شيء .. فالكل خلق الله .. والكل مسبح لله .. وليس هناك شيطان إلا الشيطان الذي رضي بمحض إرادته أن يصير شيطانا.

لقد قرأت في القرآن الكريم عن الحيوان .. بل عن البعوض قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26)

وقرأت فيه عن النمل قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18) .. لقد رأيت هذه الآية تحضنا على احترام هذا العالم، واحترام قراه التي يؤسسها.

وبحثت فيه بعد ذلك كله عن المرأة .. فوجدت أنها والرجل فيه سيان، لا يختلفان إلا الاختلاف الذي تفرضه وظائفهما وقدراتهما .. لقد قرأت فيه قوله تعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195)، وقوله تعالى:﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:124)، وقوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) ، وقوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (غافر:40)، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)

ووجدت القرآن ينسب الخطيئة للزوجين كليهما .. لا لحواء وحدها[6] .. قال تعالى :﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36)

ووجدت فيه أن التوبة حصلت من كليهما .. قال تعالى :﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (لأعراف:23)

ووجدت القرآن ينعى على أهل الجاهلية تفضيلهم الذكر على الأنثى .. وذلك في مناسبات كثيرة مختلفة .. قال تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ (النحل)

ووجدت ينعى عليهم ما كانوا يقعون فيه من وأد البنات .. قال تعالى :﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ (التكوير)

وجدت هذا وغيره كثير بالنسبة للمرأة والتصور نحوها .. ونحو وظيفتها .. ونحو حقوقها[7].

وهكذا وجدت الأمر مع جميع أصناف الناس، وخاصة المستضعفين منهم .. لقد وجدت القرآن يوليهم كل العناية، ويحترمهم أعظم احترام .. وقد كان كل ذلك بوابتي للبحث الشامل في مدى قدرة شريعة الإسلام على تحقيق العدل للبشرية التي امتلأت بالجور ..

وقد وجدت في الشريعة الإسلامية ـ بعد البحث المستفيض ـ أربع خصائص كبرى لم تتحقق بكمالها إلا فيها.. ولذلك رأيت أنها الشريعة الوحيدة الصالحة لأن تخرج البشرية من ظلمات الظلم والجور إلى أنوار الأمان والعدل.

قلنا: ما هذه الخصائص؟

قال: الربانية، والشمولية، والواقعية، والمثالية.

قلنا: فهل ستحدثنا عما وصلت إليه في أبحاثك؟

قال: أجل .. فلم تكن لي وظيفة في الحياة، بعد أن امتلأ قلبي ببرد اليقين إلا أن أبشر بشريعة الله .. وأنا الآن ممتلئ سرورا لأني سأستشهد في سبيلها كما استشهد خبيب وإخوانه من الصادقين من أهل الله.

 

 

1 ـ الربانية

قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.

نظر إلى السماء، وقال: الغريق الذي أحاطت به المياه من كل جانب .. ولم تبق له أي قوة يصارع بها تلك التيارات العنيفة التي تريد أن تصرعه .. ولم تبق له أي قوة يستطيع أن يصارع بها تلك الحيوانات المتوحشة التي تريد أن تلتهمه .. ثم جاءته سفينة ومدت حبالها إليه .. تريد أن تنقذه .. هل ترون من الحكمة أن يرفض مد يده لحبال النجاة التي مدت إليه؟

قلنا: مجنون إن فعل ذلك.

قال: فالبشرية ـ إذن ـ كلها مجنونة.

قلنا: وما علاقة هذا بذاك؟

قال: إن البحر العميق الذي تسبح فيه البشرية .. والشياطين الكثيرة التي تريد أن تمسخ طبيعة البشرية لا يشبهها شيء كما يشبهها ذلك البحر، وذلك الغريق.

قلنا: فما الحبال؟

قال: إن الرب الرحيم الذي خلق هذا الكون، ولم يغفل عن الدقيق والجليل فيه، مد حبالا كثيرة للبشرية لينقذها بها من نفوسها التي تصارعها .. ومن الشياطين التي تريد أن تلتهمها.

ولكن البشرية مع ذلك ترضى بأن تبقى في ذلك الصراع المميت، ولا ترضى بأن تمد يدها لحبال النجاة التي مدت إليها.

قلنا: أي حبال؟

قال: حبال الشريعة .. فالبشرية لا ينقذها إلا ربها الذي هو أعلم بطباعها، وأعلم بالشياطين الذين يتربصون بها.

قال رجل منا: دعنا من الإجمال، وهات التفصيل.

قال: لقد رأيت المسالك التي سلكتها البشرية لتقضي بها على الانحرافات المختلفة بأنواعها جميعا: النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وغيرها .. وقد وجدت أن كل تلك المسالك باءت بالفشل ..

وقد بحثت في سر ذلك الفشل فوجدته يرجع إلى أمرين:

أما أولهما، فهو أن الذي يضع تلك القوانين بشر كالبشر .. هو غريق مثلهم .. ولذلك لن يستطيع الغريق أن ينقذ الغريق ..

وأما الثاني، فقد وجدت أن البشر لا يسلمون أنفسهم إلا لمن هو فوقهم .. أو لمن يرون له من القدسية ما يجعله أهلا لأن يطاع ..

لقد كان هذان الأمران هما دليلي إلى ركن الربانية .. وكونه ركنا أساسيا لا يصح أن تخلو منه شريعة من الشرائع أو قانون من القوانين ..

لقد رأيت أن البشرية الغريقة لن ينقذها إلا إله خبير مقدس .. له من السلطة ما يفرض به قوانينه على عباده، فإن أحسنوا جازاهم .. وإن أساءوا عاقبهم.

ولم أجد هذا الوصف إلا عند إله المسلمين .. وفي شريعة المسلمين.

الخبرة:

قلنا: فحدثنا عن الخبرة.

قال: لاشك أنكم تعرفون مدى التخبط الذي وقعت فيه البشرية عند بحثها عن الإنسان .. ولاشك أنكم عرفتم المدارس الكثيرة التي تاهت وهي تبحث عن حقيقة الإنسان[8].

قال رجل منا: كيف تقول ذلك؟ .. والبشرية لم تصل في تاريخها جميعا إلى مثل هذه الثروة المعلوماتية الضخمة التي استطاعت البشرية أن تكتشفها في هذا العصر.

قال: إن أكثر هذه الثروة الضخمة يدل على التيه أكثر من دلالته على الهداية ..

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لن أحدثكم عن رؤيتي في ذلك .. بل سأنقل لكم كلام عالم كبير من علماء هذه الحضارة لا شك أنكم تعرفونه .. إنه الدكتور ألكسيس كاريل .. لقد كتب هذا الدكتور كتاباً سماه (الإنسان ذلك المجهول) .. وقد ضمنه شهادة ضد هذه الحضارة المادية القائمة، لقتلها أهم خصائص الإنسان.

وقد أطلق في هذا الكتاب المهم صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية، التي لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة الإنسان.. بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!

سأنقل لكم من كتابه هذا بعض ما قال .. لتدركوا مدى جهل الإنسان بحقيقته وطبيعته ووظيفته .. وهو الجهل الذي لا يتيح له أن يضع الشريعة لنفسه .. فالشريعة علاج .. ولا يمكن للطبيب أن يعالج جسما لا يعرفه.

لقد قال في مقدمة كتابه هذا:( إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا.. فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف.. وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث.. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا ـ ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية ـ بل أيضاً ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري)[9]

وقال:( إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم . وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا) [10]

وقال: (لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية. إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: (الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف) حتى يستطيع فرد او مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال، وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد، وأحفادهم)[11]

وقال: (يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء .. ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي ابتدعه! إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته .. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية .. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا.. إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقياً وعقلياً .. إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها، ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها .. وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة، وذلك لأسباب لا تزال غامضة .. إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية) [12]

وقال: (إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية، وقد يكون من الأجدى أن لا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء، فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقاً ضرراً مباشراً، ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فانه يصبح خطراً. ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه والى السبب في عجزه الخلقي والعقلي. إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقاً انه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي، وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيبة) [13]

وقال: (الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره .. وعرفنا أنه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها (التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله؛ وان العلم والميكانيكا ليسا مسؤولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسؤولون لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع.. لقد نقضنا قوانين الطبيعة، فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى، الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائماً.. إن مبادئ (الدين العلمي) و(الآداب الصناعية) قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية)، فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الأرض المحرمة).. إنها تضعف السائل! ولهذا فان الحضارة آخذة في الانهيار، لأن علوم الجماد قادتنا إلى بلاد ليست لنا، فقبلنا هداياها جميعا بلا تمييز ولا تبصر! ولقد اصبح الفرد ضيقاً، متخصصاً، فاجراً، غبياً، غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته) [14]

وقال : (لسوف يكون من الصعب أن نتخلص من مذهب ظل يسيطر خلال أكثر من ثلاثمائة عام على عقول القوم المتحضرين.. فإذا كان على الحضارة العلمية أن تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة، وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة، فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور:

ستفقد المادة سيادتها؛ ويصبح النشاط العقلي كالنشاط الفسيولوجي، وسيبدو ألا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية، كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء..

وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة، وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل برامجها..

وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية، والاضطرابات العصبية، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون اهتماماً بالصحة الروحية؟ ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية؟ ولماذا يعتبرون العادات المسئولة عن الأمراض العضوية عادات ضارة، دون العادات التي تؤدي إلى الفساد والإجرام والجنون؟

وسوف يدرك الاقتصاديون أن (بني الإنسان) يفكرون ويشعرون ويتألمون، ومن ثم يجب أن تقدم لهم أشياء أخرى غير العمل والطعام، والفراغ! وأن لهم احتياجات روحية مثل الاحتياجات الفسيولوجية، كما سيدركون أيضاً أن أسباب الأزمات الاقتصادية والمالية، قد تكون أسباباً أدبية وعقلية..

وسوف لا نضطر إلى قبول أحوال البربرية في المدن الكبرى وطغيان المصنع والمكتب، وتضحية الكبرياء الأدبية في سبيل المصلحة الاقتصادية، او تضحية العقل للمال.. ويجب أيضاً أن ننبذ الاختراعات الميكانيكية التي تعرقل النمو البشري.

وسوف لا يبدو الاقتصاديون، وكأنهم المرجع النهائي لكل شيء.

ولما كان من الواضح أن تحرير الإنسان من مذهب (المادية) سوف يقلب أغلب جوانب حياتنا، فان المجتمع العصري سوف يعارض بكل قوته هذا التقدم في آرائنا)[15]

وقال: (مهما يكن، يجب أن نتخذ دواعي الحيطة حتى لا يحدث فشل المادة رد فعل روحي، إذ لما كانت (التكنولوجيا) وعبادة المادة لم يصيبا نجاحاً، فقد يستشعر الناس إغراءً عظيماً لاختيار الطقوس المضادة.. طقوس العقل.. ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطراً من رئاسة الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء! فقد أحدث (فرويد) أضراراً أكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً! فإن من الكوارث أن نختزل الإنسان إلى جانبه العقلي، مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية - الكيماوية.. ولا مفر من دراسة الصفات الطبيعية لمصل الدم وتوازنه الأيوني، وقابليته اختراق البروتوبلازم... كما ندرس الأحلام والشهوة والتأثيرات السيكولوجية للصلاة وذاكرة الكلمات.. بيد أن استبدال الروحي بالمادي لن يصحح الخطأ الذي ارتكبته النهضة.. فاستبعاد المادة سوف يكون أكثر إضراراً بالإنسان من استبعاد العقل! وإنما سيوجد الخلاص فقط في التنحي عن جميع المذاهب) [16]

بعد كل هذا .. فإن الدكتور كاريل يقترح على البشرية لتخرج من هذا التيه المزيد من الاهتمام بمعرفة الإنسان ..

لقد قال يعبر عن ذلك : ( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)

وقال : ( إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة أكثر عمقاً بأنفسنا، فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا، وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها، إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم- علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وإمكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي.. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.

إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا..

وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) أكثر العلوم ضرورة)[17]

صرخ رجل منا فرحا: ها هو كاريل قد أعطى الحل .. وهو يغنينا عن الشريعة التي تحدثنا عنها.

نظر إليه خبيب بابتسامة عذبة، وقال: لا .. إنه دلنا على الشريعة ..

قال الرجل: هو دلنا على (علم الإنسان) .. لا على الشريعة.

قال: وعلم الإنسان لن نجده إلا عند رب الإنسان .. إن الله هو خالق هذه الآلة الإنسانية العجيبة .. وهو العالم بكيفية حركتها، وبكيفية توجيهها، وبسبل كمالها، وبسبل هبوطها .. وهو بالتالي الوحيد الذي له الحق في أن يشرع لها ..

صرخ رجل آخر، وقال: إنك توقعنا بهذا في حيرة أخرى .. فالشعوب كلها تعرف الله .. وكلها لها من الشرائع ما تزعم أن الله خصها به .. فكيف تزعم أن ذلك خاص بشريعة الإسلام؟

لقد قرأت لمستر دالاس .. وهو وزير خارجية أمريكا .. حديثه عن دور الكنيسة وإله الكنيسة في مقاومة انحراف الحضارة المادية .. والذي تجلى بصورته المثلى في الشيوعية التي يقوم نظامها الاجتماعي على أساس (المذهب المادي) و(التفسير الاقتصادي للتاريخ)

لقد كتب في كتابه:( حرب أم سلام)، وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول : (إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا. وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا ان نأخذ موقفاً دفاعياً، وان يتملكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!

وكتب يقول: إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، او الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، او القنابل مهما بلغت قوتها!

وكتب يقول: فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية. فإن النتائج السيئة تصبح أمراً حتمياً.

وكتب يقول: وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس، وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي-كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف.

والحل الذي يقترحه مستر دالاس بعد هذه التصريحات عبر عنه بقوله : ( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت، إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الآن!.

وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لأمتنا. وبعثورهم عليها يستطيعون أن يساهموا بشكل حاسم في الإحباط السلمي للأساليب الشريرة، والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.

إن كثيراً من الوعاظ والمعلمين يأسفون لأن المعرفة العلمية قد زادت قدرة الإنسان على الأذى إلى درجة كبيرة. ولا يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه.

إن القوة المادية الكبيرة تكون خطرة في عصر المادية فقط؛ وليس في عصر روحي. والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لأنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة الروحية أن توضح الصلة بين العقيدة والعمل. ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلاً من محاولة وقف التقدم العلمي، او الرجوع به القهقري ) .

( لقد كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالاً استعرض فيه تهديد المبادئ الثورية وأعمال الشيوعية. وختمه بقول: إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها)

وفي الأخير .. بعد كل هذا يرى أن الحل يكمن في الكنيسة .. فهو يقول : ( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، او يحب بلده! )

ابتسم خبيب، وقال[18]: سلني أنا عن الكنائس .. أنا الذي ربيت فيها .. ولدي من المعرفة بقدراتها ما جعلني أطمئن اطمئنانا تاما إلى أنها أعجز من أن تؤدي هذا الدور الخطير ..

إن الكنائس لم يعد لديها من المسيحية ـ منذ ما أفسدها بولس أولاً، وقسطنطين ثانياً، والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثاً ـ ما يصلح شريعة للإنسانية.

إن مستر دالاس ـ بحكم عدم خبرته في هذا المجال ـ يكلف رجال الكنيسة والزعماء الروحيين مالا قبل لهم به حين يطلب إليهم، بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للمسيحية، ومن تاريخ مرير بين الكنيسة ورجالها والدين وأهله وبين ضمائر الناس وعقولهم، ومن فصام نكد قامت بعده كل جوانب الحياة والفكر والشعور على أساس العداء للدين كله[19]..

إنه يكلفهم بعد كل هذا مالا قبل لهم به .. إنه يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل، يصل بين الإيمان والعمل، وبين الفردية والجماعية، وبين الروح والمادة، وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم، وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح الإيماني.. منهج لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ويرفض القول: بأنه من غير الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية. كما يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية. أو أن تكون العبودية والاستبداد وسيلة الإكثار من الإنتاج المادي. او أن يعتدي على الحرية العقلية والروحية والاقتصادية في سبيل هذا الإكثار.. منهج لا يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ولا يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!.. وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..

إن منهجا بهذه الصفة لا يمكن أن يوجد في الكنيسة .. فأنى يجد هذا المنهج في بقايا التصور المهلهل؛ وفي أنقاض التاريخ المرير، وفي الفجوة التي لا تعبر، والتي لا يقام عليها معبر، بين طبيعة الدين الذي صاغته هذه الملابسات كلها، وبين طبيعة الحياة الإنسانية بصفة عامة، وطبيعة هذه الحضارة المادية بصفة خاصة؟!

إن مستر دالاس يريد أن يجند (الدين) لحماية الأنظمة الغربية من الشيوعية.. ولكن الدين لا يملك أن يصنع شيئاً في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه لا يملك أن يصنع شيئاً في صورته الباهتة التي تراد له.. لا يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طرداً قبيحاً!

إن (دين الله) لا يصلح خادماً يلبس منطقة الخدم، ويقف بحضرة (أسياده)، ويوجهونه حيث يريدون! يطردونه من حضرتهم فينصرف، وهو يقبل الأرض بين أيديهم.. ثم يقف وراء الباب- في شارة الخدم - رهن الإشارة!.. ويستدعونه للخدمة، فيقبل الأرض بين أيديهم، وينحني قائلاً: لبيك يا مولاي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!

كلا! إن (دين الله) لا يرضى إلا أن يكون سيداً مهيمناً. قوياً متصرفاً. عزيزاً كريماً. حاكماً لا محكوماً. قائداً لا مقوداً .. وهو لا يحمي الناس من الشيوعية ولا من غير الشيوعية إلا أن تكون حياتهم كلها رهن إشارته. يصرفها بجملتها، وينظمها من أطرافها، وينسقها وفق شريعته .. حين يتحاكم إليه الناس في أمورهم كلها: صغيرها وكبيرها. ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلام.

قال بعض القوم: وأي دين يمكن أن يقبل هذه المسؤولية الضخمة؟ .. لقد جربت الأديان هذا .. فلم تفلح .. لقد اكتفت من سياستها بتوزيع صكوك الغفران.

نظر إليه خبيب، وقال: الإسلام يملك هذا .. فهو الدين الوحيد من بين أديان البشرية جميعا الذي يملك منهجا جديدا للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها .. منهجا أصيلا، مستقل الجذور .. منهجا شاملا متكاملا. وليس مجرد تعديل للحياة الراهنة وأوضاعها القائمة .. إنه منهج للتصور والاعتقاد؛ كما أنه منهج للعمل والواقع .. ومن ثم فهو - وحده - الكفء للاضطلاع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.

قال الرجل: إن هذه دعوى عريضة .. فكيف تثبتها؟

قال:  لقد بحثت في الإسلام كما بحثت في المسيحية .. وفي جميع الأديان .. فوجدت أن الإسلام بمبادئه .. كما هو بتاريخه جميعا لم يضع نفسه بديلاً عن العلم والحضارة، ولا عدوّاً للعلم والحضارة.

لقد وجدته يضع نفسه إطارا للعلم والحضارة، ومحورا للعلم والحضارة، ومنهجا للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.

ووجدته الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته.

ووجدته الإيذان العام بانطلاق العقل الإنساني ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربه فيه.

لقد ازدهرت في ظل الإسلام حضارة كاملة بكل مقوماتها الإبداعية التي كانت تتيحها لها الأدوات والوسائل في حينها - والأدوات والوسائل قابلة دائماً للتطور والترقي- والإسلام يدفع هذا النمو ويقوده، ولكنه يحفظه دائماً داخل إطار الفطرة؛ لا يصطدم بطبيعة الإنسان وخصائصه الثمينة، ولا يحطمها ويكبتها، كما تفعل الحضارة المعاصرة!

إن الإسلام يكل رسم التصميم الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك .. إنه يكله إلى علم الله.

فبما أن الله هو الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع الإنسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض .. وهو الذي يعلم - وحده - كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية .. فهو- وحده - القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة؛ شاملاً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به .. عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق) .. وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري - كما أرادت الكنيسة ذات يوم- هذه الأداة العظيمة، التي وهبها الله للإنسان ليعمل بها ويبدع؛ لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى، ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل؛ ويهديها فلا تضل؛ ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.

وبهذا يظل (الإنسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع الإنسان والمادة. وبالتصور الذي يشعره بكرامته على الله؛ كما يشعره بعبوديته لله. وفي الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض ..

سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الحضارة التي تحيط بالبشرية اليوم، تحطم أهم ما في كيان (الإنسان) وتحارب أرفع مقوماته الإنسانية، وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلات الرائعة - وإن كانت هذه التسهيلات قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته - كما يقرر كاريل في مواضع شتى من كتابه.

والإسلام - بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور الإنسان فيه، وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي- لن يعمد إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!

ولكن الإسلام سيعمد - ابتداء - إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها .. سيمنحها قيمتها الحقيقية بلا مبالغة وبلا بخس كذلك! بحيث يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر عليها. لا أن تكون هي المسيطرة عليه، وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته ..

إن الإسلام سيقر في خلد الإنسان قيمته العلوية ومقوماته الكريمة .. سيستنقذ الروح الإنساني من المهانة التي فرضها عليه (دارون) و(ماركس) وأشباههم! وعندئذ سيشعر أنه هو السيد، الذي ينبغي أن يسيطر على الآلة، وعلى الإبداع المادي، والحضارة ..

وحين يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر، فيومئذ سيصبح متمتعاً بحريته - في إطار عقيدته - قادراً على الاختيار .. فالاختيار هو العنصر الهام الذي يفتقده الروح الإنساني الآن.. وهو مجبر مقهور ذليل للآلة؛ وللتصورات المنبثقة من دورتها الآلية!

والقدرة على الاختيار ستتيح للروح الإنساني المؤمن، أن يستبعد العناصر الضارة في هذه الحضاريات، وينمي العناصر الصالحة، المتفقة مع الحاجات الحقيقية للكينونة الإنسانية. كما أن سيطرة الروح الإنساني المؤمن ستتيح له التحرر من الأوضاع المنافية لكرامته، ومن طرائق الإنتاج وأنظمه العمل التي تهدر فيها مقومات الإنسان الكريمة ، فليست طرائق الإنتاج وأنظمة العمل شرائع مقدسة! إنما هي مجرد وسائل استغلالية لتنمية مقادير الإنتاج المادي، على حساب المقومات الإنسانية! فإذا تقرر أن (الإنسان) أكرم وأغلى من (الأشياء) تغيرت طرائق الإنتاج وأنظمة العمل بحيث توائم بين وفرة الإنتاج ومقومات الإنسان الكريمة ..

قال الرجل: فكيف كان للإسلام كل ما ذكرت .. ولم يكن لسائر الأديان؟

قال: لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي بقي محفوظا بصفائه وقدسيته من بين سائر الأديان جميعا.

والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة جميعا الذي ظل يحتفظ بقدسيته .. وبالتالي هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن اعتبارها رسالة الله إلى عباده[20] ..

أما سائر الأديان، فقد عراها من التحريفات ما جعلها أفكارا بشرية أو أوهاما بشرية لبست لباس الدين، وحاولت أن تعبر عن مراد الله .. وفي الحقيقة لا تعبر إلا عن تلك الأهواء والخرافات التي كانت تسكن عقول رجال الدين.

القداسة:

قلنا: حدثتنا عن الخبرة .. فحدثنا عن القداسة.

قال: لقد عرفت من خلال أدلة كثيرة أن الذي يضع الشرائع للعباد لا يصح أن يكون له من الهوى والجهل والغرور ما يحول بينه وبين التفكير السليم في المهمة العظيمة التي وكلت له ..

وقد وجدت من خلال الواقع أن هذا لا يمكن أن يتحقق بصورته المثالية في الإنسان .. فالإنسان ـ مهما سما وتقدس ـ سيبقى إنسانا .. هو غريق كسائر الغرقى .. والغريق لا يمكن أن ينقذ نفسه .. فكيف يمكنه أن ينقذ غيره؟

لأجل التأكد من هذا بحثت في قوانين العالم ودساتيره ..  منذ بدأ هذا العالم إلى اليوم .. وقد رأيت أن الإنسان لم يفلح إلي الآن في الكشف عن دستور حياته[21]!

ضحك رجل منا بصوت عال، وقال: كيف تقول هذا .. ولا نرى دولة من دول العالم إلا ولها دستورها وقوانينها التي تنظم حياتها.

التفت إليه خبيب مبتسما، وقال: وجود الشيء لا يعني صحته ولا فاعليته .. ألا ترى المريض قد يستعمل الدواء.. ولكن ذلك الدواء قد يكون سبب شفائه .. كما أنه قد يكون سبب هلاكه.

قال الرجل: قد يكون سبب هلاكه إن وصفه له دجال .. أما إن وصفه له طبيب فلن يكون إلا سبب صحته وعافيته ..

قال خبيب: صدقت فيه هذا .. وليس هناك من طبيب يعرف البشر، ويعرف ما يصلحهم غير ربهم الذي خلقهم:﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الملك:14)

قال الرجل: وأولئك العمالقة الخبراء من علماء القانون؟

قال خبيب: أولئك مهما سموا .. فسيظلون بشرا .. لهم شهوات البشر وأهواؤهم وأمراضهم .. ولا يمكن للمريض أن يعالج صحيحا. 

ولعل أكبر دليل على ذلك هو تخبط البشر في وضع القوانين .. كتخبطهم قبلها في تصورهم لحقيقة الإنسان:

لقد قال بعض خبراء التشريع مقررا هذا: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا! ! )

لقد انقسم خبراء التشريع إلي مدارس فكرية كثيرة ؛ ولكننا- رغم تعدد هذه المدارس- قد لا نجد لبعض كبار علماء القانون فيها مكانا!

قال الرجل: ما سر ذلك؟

قال خبيب: إن سبب ذلك يرجع إلى عجز هؤلاء الخبراء عن التوصل إلي أساس صحيح يمكن إقامة صرح التشريع عليه ..  إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد .. وأن مثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخري مماثلة ؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت إلي الماء مرة أخرى، ومن ثم باءت كل الجهود- التي استهدفت الحصول علي الدستور المثالي- بالفشل الذر يع.

لقد عبر الأستاذ (و. فريدمان ) عن هذه المشكلة قائلا: ( وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر ، من نهاية إلي نهاية أخري)[22]

ولاحظ (جون آستين) أن الدستور- أي دستور- لايصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه ، فعرف (القانون) في كتابه ، الذي نشر لأول مرة عام1861 علي النحو التالي: (القانون هو الحكم الذي أصدره (رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدني منه في المرتبة السياسية)[23]

وقد أصبح التشريع بناء علي هذا التعريف (مرسوما لصاحب السيادة)

ولذلك شن المحدثون من العلماء حملة شديدة علي هذه الفكرة ، وقالوا: إنه لا يمكن منع انحرافات الحكام إلا إذا كان (رضا الشعب العام) دعامة أساسية في التشريع. . وأنكروا أي قانون أو دستور لا يحرز رضا الجماهير ؛ وترتب علي ذلك أن ضوابط كثيرة يجمع علي صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لا يمكن تنفيذها ، لأن الشعب لا يوافق عليها.

فالأمريكيون ـ مثلا ـ لم يتمكنوا من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر ، لأن الشعب لم يرض عنه. . كما اضطر البريطانيون إلي إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل ، واضطروا إلي إباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية ، علي الرغم من ضجيج المثقفين ، واحتجاج علماء القانون !

ليس هذا فقط .. بل إن هناك مسألة أخرى تدل على تخبط المشرعين في هذا المجال .. إنها اختلافهم حول قابلية القانون للتغير:

لقد لقيت نظرة (القانون الطبيعي) رواجا كبيرا في العصور الوسطي ، وفي العصور التي تلتها ، ومؤداها أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع: (فالطبيعة تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة. وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للإنسان في صورة (العقل) ، ولذلك لابد من إقامة حكومة بقوة العقل)[24]

وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين ، فقيل :إنه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور.. وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع والثامن عشر حول القانون.

ثم جاءت مدرسة أخرى ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور .. يقول (كوهلير) في هذا: (ليس هناك دستور أبدي، وأي تشريع يصلح لعصر ما ليس- بالضرورة- صالحا لعصر آخر. وليس لنا إلا أن نجهد أنفسنا في البحث عن دستور يلائم كل حضارة علي حدة. فقد يكون دستور ما خيرا لطائفة من الناس ، ثم يسب هلاك طائفة أخري)[25]

وقد قضت أفكار هذه المدرسة الأخيرة علي تحكم القانون واستقراره ، فهي تدعو الإنسان إلي فكرة التغير العمياء والنسبية؛ وهي لن تنتهي إلي حد ما حيث إنها تفتقر إلي الأساس.. وقد قلبت هذه الفكرة جميع القيم الإنسانية رأسا علي عقب.

بالإضافة إلى هذه المدارس هناك مدرسة أخرى تدعو إلى إحراز أكبر قدر من مقومات العدل في التشريع .. لقد كتب (اللورد رايت) معلقا علي فكرة (دين راسكو باوند): (إن راسكو باوند يدعو إلي فكرة- اطمأننت إلي صدقها بعد جميع تجاربي ودراستي في القانون- وهي أن الهدف الأساسي والابتدائي للتشريع هو (البحث عن العدل)[26]

فإذا سلمنا بهذه النظرية واجهنا سؤالا هاما هو: (ما العدل؟) ؛ (وكيف يمكن تعيينه؟) ، وهكذا مرة أخري نرجع إلي (جون آستين)!

ومرة أخري نقف أمام ظاهرة أن الإنسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع ؛ رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين ، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع ، لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور.

لقد تسائل البروفيسور جورج وهيتكروس باتون قائلا: (ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ إنه سؤال يتعلق (بالقيم) ويدخل في دائرة فلسفة التشريع. وما أكثر ما نرجو من الفلسفة عن (ميزان للقيم) يمكن قبوله لدي جميع الأطراف.

والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشئ من النظم إلا للدين ؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان ، ولا يمكن قبولها علي أساس الاستدلال المنطقي)[27]

وقد نقل البروفيسور (باتون) رأيا لبعض علماء التشريع يقول: إن جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن (الأهداف) في فلسفة التشريع قد انتهت إلي غير ما نتيجة .

ويتسائل (باتون) : أهناك حقا (قيم مثالية) تحدد الأسس عند تطوير التشريعات ؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل إلي هذه القيم حني الآن ، غير أنها لابد منها.. ويستطرد قائلا:  (لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الإلهامية في الدين.. ولكن إذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني ، فأين سنجد أساس القيم المتفق عليها؟)

وهذه التجربة المريرة تدعو الإنسان للعودة إلي الجهة التي انحرف عنها منذ قرون. فقد كان الدين يسهم إسهاما فعالا في وضع دساتير الزمن القديم.. ويري خبير القانون المعروف السير هنري مين : أنه (لا يوجد مثال واحد في القوانين التي تم تسجيلها كتابة من قانون الصين إلي بيرو ، إلا وكان ذا علاقة بالطقوس الدينية والعبادات منذ بداية أمره)[28]

إن هذه التصريحات جميعا تلجئنا إلى الله .. فالبشر يقرون بأنهم عاجزون عن وضع دستور لهم بدون هدي الله. وبدلا من المضي في الجهود التي لا تأتي بنتائج مثمرة علينا أن نعترف بالواقع الذي يدعونا إليه (الدكتور فرويدمان) حين يقول:(يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل.. والأساس الذي يحمله الدين لإعطاء العدل صورة ينفرد هو به في حقيته وبساطته)[29]

قال رجل منا: إن أكثر ما ذكرت تصريحات .. ونحن نريد إثباتات .. فالتصريحات لن توقعنا إلا في التقليد.

قال خبيب: صدقت .. أنا أكره التقليد .. ولهذا لم أكتف بما ذكرت لكم من تصريحات .. لقد رحت أبحث في مدى توفر الدين على جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرعون لصياغة دستور مثالي.

وقد بدأت بأهم مشكلات التشريع الإنساني .. وهي مشكلة مصدر التشريع .. فأول الأسئلة وأهمها بالنسبة لأي تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه ! ومن ذا يعتمده حني يصبح نافذ المفعول؟

لم يصل خبراء التشريع إلي إجابة عن هذا السؤال حني الآن .. ومن الصعب أن يجدوا:

لأنه لو أننا خولنا هذا الامتياز للحاكم ، لمجرد كونه حاكما ، فليس هناك أساس نظري وعلمي يجيز تمتعه- هو أو شركاؤه في الحكم- بذلك الامتياز .. ثم إن هذا التحويل من ناحية أخري لا يجدي نفعا ؛ فإن إطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شئ لتنفيذه ـ بوسيلة القوة ـ أمر لا تطيقه ولا تحتمله الجماهير.

ولو أننا خولنا سلطة التشريع لرجال المجتمع ، فهم أكثر جهالة وحمقا ؛ لأن المجتمع- أي مجتمع- إذا نظرنا إليه ككل ، لا يتمتع بالعلم والعقل والتجربة ، وهي أمور لابد منها عند التشريع .. فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة ، وهو ما لا تستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه ؛ كما أنها وإن أرادت لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونية وفهمها.

قال رجل منا: من السهل أن نقوم بحل وسط.

قال خبيب: ما هو؟

قال الرجل: أن يختار الشعب من يمثله .. ثم يصدر هؤلاء القوانين والتشريعات باسم الشعب.

ابتسم خبيب، وقال: من الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط ، حين نجد أن حزبا سياسيا لا يتمتع إلا بأغلبية 51% من مقاعد البرلمان يحكم علي حزب الأقلية الذي يمثل 49% من أفراد المجتمع البالغين.

والأدهى من هذا أن هذا الحل يحتوي علي فراغ كبير جدا تنفذ منه (أقلية) لتحكم علي أغلبية السكان.. فالحكومة التي حكمت بلادنا قبل فترة[30] قد وصلت إلي مقاليد الحكم عن طريق الانتخابات العامة التي أجريت في البلاد..  وقد فاز حزب (اليمين) فيها بنسبة 70% من مقاعد البرلمان في حين أن نواب هذا الحزب لم يحصلوا إلا علي 40% من أصوات الشعب في الانتخابات. وهذا هو ما حدث في الانتخابات التي أجريت قبل سنة، وحصل حزب الشمال في كلتيهما علي أقل من 50% من مجموع الأصوات! ولكنه رغم ذلك كان له الحق في تشكيل الحكومة ، لأن أصوات الناخبين الأخرى كانت موزعة بين نواب الأحزاب (المعارضة)، ولم تكن بطولة حزب (الشمال) إلا في أنه أحرز أصواتا أكثر من أي حزب آخر علي حدة.

ولا أستثني من هذه القاعدة إلا الانتخابات المزعومة التي تجري في الأنظمة الشمولية، فيفوز زعماؤها بأرقام خيالية للأصوات!

وهكذا نقف مرة أخري أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره.

قال الرجل: إن هذا تحد حقيقي .. فهل استطاع الدين أن يواجهه؟

قال خبيب: أجل .. لقد رأيت الدين ستجيب لهذا التحدي الخطير ، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها ..  إنه يقول: إن مصدر (التشريع) هو (الله) وحده خالق الأرض والكون ؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته.. وليس هناك من أحد غيره سبحانه يمكن تخويله هذا الحق.

إن هذا الجواب معقول وبسيط لدرجة أنه يصرخ قائلا ، لو استطعنا أن نسمع نداءه: هل هناك أحد غير الله سبحانه وتعالي يستطيع أن يسوى هذه المشكلة المصيرية؟

لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلي مكانها الحقيقي من التشريع والمشرع ؛ بعد أن استحال علينا المضي خطوة ما في ظلام الضلالة عن الهدي الحقيقي.

أنه لا يمكن قبول إنسان حاكما ومشرعا للإنسان ؛ ولا يتمتع بهذا الحق إلا خالق الإنسان وحاكمه الطبيعي :الله.

قال رجل منا: وعينا هذا .. ووعينا الدور الذي يمكنه أن يلعبه الدين فيها .. لكن التشريع لا يتوقف عند مصدره فقط ..

قال خبيب: لقد بحثت في هذا أيضا .. وقد وجدت أن من أهم الأسئلة لدي علماء القانون تحديد عناصر التشريع.. هل هي كلها إضافية ، أو أن هناك عنصرا أو عناصر أساسية في التشريع لا يمكن الاستغناء عنها في أي دستور عند تعديله ، أو تجديده أو تغييره؟ .

لم يستطع خبراء التشريع الوصول إلي اتفاق في هذا الصدد ، رغم البحوث الطويلة التي أجريت في هذا الباب. وهم يسلمون نظريا بأنه لابد من عنصر في التشريع يتمتع بالدوام والأبدية ، مع عناصر أخري تتصف بالمرونة ، فيمكن الاستغناء عنها عند الضرورة.

ويرون أيضا أن افتقار الدستور إلي أحد العنصرين: (الأبدي والإضافي) سوف يكون مصدر شقاء دائم للبشرية. وقد عبر عن هذه الحالة أحد قضاة الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو القاضي كاردوزو Cardozo بقوله: (من أهم ما يحتاج إليه التشريع اليوم: أن نصوغ له فلسفة للتوفيق بين الرغبات المتحاربة حول ثبات عنصر وتغير عنصر آخر)

ويقول خبير آخر في شئون القانون وهو البروفيسور (راسكو باوند):(لابد من عنصر التحكم في التشريع ، ولكن هذا لا يعني أن يصبح التشريع جامدا. ولذلك بذل الفلاسفة قصارى جهودهم للتوفيق بين مقومات التحكم والتغيير في هذا المجال)

والحق أنه لا يمكن التوصل إلي أساس يميز بين عناصر القانون الذي وضعه الإنسان بعضها وبعض، فكل عنصر يدعي أنه صالح للدوام يلزمه أن يقدم دليلا علي ذلك ؛ وهو عاجز تماما عن الإتيان بذلك الدليل ؛ فقد نري اليوم عنصرا من الدستور يصاغ بناء علي رغبات الشعب ، فقد لا يعجبهم ذلك أو يرونه قد فقد صلاحيته بمضي الزمن.

قال رجل منا: فهل يوجد في التشريع الإسلامي التمييز بين العناصر الثابتة والمتطورة؟

قال: أجل .. ولا يوجد في جميع أديان الدنيا التمييز بينهما كما يوجد في الإسلام .. وسأشرح لكم هذا عند حديثنا عن سائر خصائص الشريعة الإسلامية.

قال الرجل: فحدثنا عن المزايا الأخرى للتشريع الرباني .. والتي جعلتك تفضله على التشريع البشري.

قال خبيب: هي كثيرة جدا .. لا يمكنني أن أذكرها لكم جميعا ..

ابتسم، وهو يقول مشيرا إلى المشنقة: إن المشنقة تنتظرني، وهي مشتاقة لأن تلف حبلها على عنقي .. ولذلك لابد أن أختصر .. ولكن مع ذلك سأذكر لكم بعض الأمثلة مما وجدت الشريعة قد نجحت فيه في الوقت الذي أخفق فيه التشريع البشري بسبب عدم تقدس من يضعون هذا التشريع.

لقد عرف الدستور الذي وضعه الإنسان (الجريمة) بأنها (كل عمل يضر بالأمن العام أو نظام الحكم القائم) ، فالتشريع الإنساني لا يجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة .. وقد دفع هذا الأساس القانون البشري إلى إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة ، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين. فالقانون البشري ـ على هذا الاعتبار ـ لا يعتبر (الزنا) جريمة ، وإنما الجريمة الحقيقية عنده هي الجبر والإكراه الذي سبق (الزنا)

وهذا مخالف لما جاء به الدين من اعتبار (الزنا) جريمة مطلقة .. وقد وجدت أن الدين أصدق في هذا الاعتبار من القانون .. فالزنا يحمل فسادا نفسيا واجتماعيا كبيرا .. فهو ينشئ مشكلات الأطفال غير الشرعيين، ويضعف روابط الزواج ؛ بالإضافة إلى كونه يصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة، وتربي عقلا خائنا، وتخلق السرقة واللصوص، وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف ؛ ومن ثم يفسد المجتمع كله .. ولكن القانون - رغم ذلك- لا يستطيع اعتباره جريمة لأنه لا يجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل.

وهكذا بالنسبة للخمر .. لأن القانون يتصور أن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للإنسان ، وهو حر في اقتناء ما يريد أن يأكله ويشربه ؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعة ، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع ، إلا إذا اعتدي شارب الخمر علي أحد المواطنين في هذه الحالة من السكر ؛ أو خرج إلي الشارع وهو سكران ؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر بل الاعتداء علي الآخرين في تلك الحالة!

لكن الشريعة تخالف ذلك وتعتبر شرب الخمر جريمة تعاقب عليها .. وقد وجدت أنها في هذا أصلح للإنسان من القانون .. فالخمر تضر بالصحة ، وتبدد أموال الناس ، وتؤدي بمدمنيها إلي كوارث اقتصادية محققة ، وتضعف الشعور الأخلاقي ، حني إن الإنسان يتحول إلي حيوان رويدا رويدا .. والخمر خير مساعد للمجرمين ، فهي تشل الإحساسات اللطيفة ، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل ، وهدر العصمة ..  ولكن القانون الإنساني رغم هذه المعايب الشنيعة لن يتمكن من تحريم الخمر ، لأنه لا يجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الإنسان الطبيعية[31]! !

التأثير:

قلنا: حدثتنا عن الركنين الأولين .. فحدثنا عن الثالث الذي جعلك تعتبر الربانية ركنا من أركان الشريعة .. وخاصة من خصائصها الأساسية.

قال: لقد عرفت من خلال أدلة واقعية كثيرة أن الشريعة الوحيدة التي تستطيع أن تؤثر في الناس هي الشريعة التي يفرضها إله قوي حاكم له سلطة على عباده، فهو يجازيهم إن أحسنوا، ويعاقبهم إن أساءوا .. وهو مع ذلك كله مطلع عليهم يعرف سرهم وعلانيتهم.

وهذا الذي عرفته يمكنكم أن تعرفوه جميعا .. وبسهولة ويسر..

فأنتم تعرفون أنه لو طرحت ـ مثلا ـ قضية أمام القانون، وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب، فلم يتبين الصدق أمام القاضي .. فإن القاضي في هذه الحالة لن يتمكن من الحكم بالعدل مهما حاول.

ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون) يحرك الناس ، ويحملهم علي الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول إلي العدل .. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ ، حتى إنها تلزم كل شاهد أن يقسم بالله أن يقول الحق قبل الإدلاء بشهادته .. وهو دليل واضح علي أهمية المعتقدات الدينية ، حتى أصبحت أيمان المحاكم أضحوكة ، تقليدا لا يأتي بأي نفع.

ليس هذا فقط ما أريده بالركن الثالث، والذي أسميه عادة (التأثير) ..

هناك شيء مهم تفتقر إليه أكثر القوانين .. وهو قناعة المتلقي بالقانون الذي يحكمه ..

فمما لابد منه أن يكون أي (عمل) يعاقب عليه القانون (جريمة) في نظر المجتمع أيضا، وأي بند من قانون مكتوب لا يمكنه أن يوفر نفسية في المجتمع ، ترى في عمل ما جريمة ، كما يراه القانون ؛ فإن القانون يبقى قاصرا ضعيفا .. سيجد بسهولة من يحتال عليه .. ولا يعاتب نفسه في احتياله.

إذ لابد من أن يشعر مرتكب الجريمة بأنه (مذنب) ويعتبره المجتمع مذنبا ..  ويقبض عليه رجال الشرطة بكل اقتناع ، ثم يصدر قاضي المحكمة - وهو في غاية الاطمئنان- حكما ضد ذلك الرجل. ولذلك كان لابد أن تكون كل جريمة (ذنبا) أيضا ..

وهذا الذي أقوله هو ما يراه أصحاب المدرسة التاريخية من رجال القانون، فهم ينصون على ( أن أي تشريع لن يصيب هدفه إلا إذا كان مطابقا للاعتقادات السائدة عند المجتمع الذي وضع له ذلك القانون ، ولو لم يطابق التشريع اعتقادات المجتمع فلابد من فشله)[32]

هذا الرأي الذي عبرت عنه (المدرسة التاريخية) لرجال القانون غير صائب في مغزاه الحقيقي الذي يرمي إليه إطلاقا، ولكن له مع ذلك محلا من الصدق في هذا الجانب الذي نتحدث عنه.

سكت قليلا، ثم قال: أنتم تشاهدون في الواقع مدى ضعف الروادع التي تحاول أن تحمي القانون ..

ذلك أن خوف الشرطة والمحكمة لا يكفي لدرء الجرائم ، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم ، لأن الرشاوى ، والمحسوبيات ، وخدمات المحامين البارعين ، وشهود الزور .. كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أية شرطة أو محكمة إنسانية ، والمجرم لا يرهب عقابا ، أي عقاب ، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.

قال رجل منا: فكيف حلت الشريعة الربانية هذه المشكلة؟

قال: لقد توفر في الشريعة الإلهية الصحيحة كل دوافع التأثير .. فعقيدة (الآخرة) ، التي يحملها الشرع الإلهي هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم ، وهي تكفي لتبقي إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الإنسان لو أدلي بشهادة كاذبة أمام القاضي.

قال رجل منا: فهل حدث مثل هذا في الواقع؟

قال خبيب: أجل .. بل ظل يعمل في الواقع قرونا طوالا إلى أن جاء الحكم الاستبدادي الذي راح يلغي شرع الله ليحل بدله أهواء البشر ..

سأضرب لكم أمثلة عن ذلك[33] .. هي مجرد أمثلة .. والحقيقة أعظم من أن تصور:

وسأبد بما كنا فيه .. بالتهرب من الجريمة واستعمال كل الحيل لذلك ..

أنتم تعرفون أن القوانين تفرض عقوبات رادعة على من يرتكبون الجرائم، ولكن المخالفين للقانون يحاولون الفرار من قبضتيه، والتفلت من دائرة سلطانه، وفي غفلة من القانون والرقباء عليه، يقدمون على أعمالهم، مستخفين عن الأعين، أو ظاهرين وقد ألبسوا عملهم الآثم ثوب القانون أو مستندين إلى ذي سلطان يشفع لهم، أو يحمي ظهرهم، إلى آخر ما نعرف عن صور التفلت من يد القانون.

فإذا نظرنا إلى ما يفرضه قانون الإيمان على صاحبه وجدنا صورة أخرى، ومنطقاً آخر، وجدنا المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً - وهو بطبيعته بشر يخطئ ويصيب- سرعان ما يستيقظ ضميره، ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلى يد العدالة، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من آثام الإثم، وأوزار العصيان، ورجاء في أن تكون كفارة له عن ذنبه، وشفيعاً له إلى ربه، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه.

فهذا رجل عربي - هو ماعز بن مالك- يأتي رسول الله r ، فيقول: يا رسول الله، ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فيقول له : لعلك لامست؟ لعلك قبلت! .. ويرد الرجل مرة ومرة ومرة، والرجل مصر على الاعتراف بخطيئته، مصر على التطهر منها بإقامة حد الله عليه، ولو كان الرجم بالحجر، ويأمر الرسول r أخيراً إقامة الحد عليه، فيتقبله صابراً محتسباً، راغباً في عفو الله ومغفرته[34].

وهذه امرأة أعرابية تعرف بالغامدية، تزني وتحبل من زناها، فيأتي عليها ضميرها المؤمن - وقد ارتكبت الفاحشة سراً- إلا أن تتطهر منها جهاراً .. وجاءت رسول الله r تقول له: إني قد زنيت فطهرني؟ فيردها الرسول فتأتي في الغد فتقول: يا رسول الله .. لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً .. فو الله إني لحبلى!!

فيقول لها: أما لا .. فاذهبي حتى تلدي.

وتذهب المرأة تنتظر الوضع، وتمضي عليها الأيام والأشهر دون أن تخبو جذوة ضميرها، فما إن ولدت حتى أتت بالصبي في خرقة، وقالت للرسول: ها قد ولدته.

قال لها: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.

وتعود المرأة إلى دارها ترضع ولدها، وتمضي مدة الرضاع - وهي في العادة حولان كاملان- أربعة وعشرون شهراً لم يستطع اختلاف الليل والنهار فيها أن ينسي المرأة ما ارتكبت من خطيئة.

وبغير إعلان من محكمة، ولا تنبيه من حاكم، ولا حراسة من شرطي ترجع المرأة إلى رسول القوانين طائعة مختارة، لتلقى مصيرها الذي رضيته لنفسها فتقدم إليه الصبي وفي يده كسرة من الخبز، وتقول: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.

ولم يجد النبي r بداً بعد هذا أن يقيم عليها الحد[35] ..

ليس هذا فقط ..

أنتم تعرفون أن القوانين التي وضعها البشر لأنفسهم، أو يضعها لهم جماعة منهم، تفرض ضرائب على أهل المال منهم لقاء ما تقدم لهم الدولة من خدمات، وأداء لما يجب عليهم من مشاركة في أعباء الأمة وواجباتها، ولكنا نجدهم يتهربون من أدائها بكل وسيلة، ويتحايلون على التخلص من التزامها بكل سبيل.

قارنوا هذا بالزكاة في الإسلام، تلك الضريبة التي فرضها الإيمان عبادة على المسلم، يتقرب بها إلى مولاه، ويقدمها طيب النفس، راضي القلب، محاولاً أن تكون من أطيب ما عنده وأفضله، يحاسب نفسه قبل حساب جباتها - العاملين عليها- وقد يبذل أكثر مما يطلب منه موقناً أن ما عنده ينفد وما عند الله باق.

لقد حدث أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني النبي r مصدقاً - أي جابيا للزكاة- فمررت برجل، فلما جمع لي ماله - من الأنعام- لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض، فإنها صدقتك..

فقال الرجل: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر (أي لا يقدر أن يركب ويحمل عليه) ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها.

فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول الله r منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل .. فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته.

قال: فإني فاعل.

فخرج معي، وخرج بالناقة التي عرض على حتى قدمنا على رسول الله r ، فقال له: يا نبي الله: أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وأيم الله ما قام في مالي رسول الله، ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما علي فيه ابنة مخاض، وذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي. وها هي ذي .. قد جئتك بها يا رسول الله.. خذها، فقال له رسول الله r : ( ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير أجرك الله فيه وقبلناه منك)

قال: فها هي ذي يا رسول الله قد جئتك بها فخذها.

قال: فأمر رسول الله r بقبضها .. ودعا في ماله بالبركة[36].

ليس ذلك فقط ..

أنتم تعرفون أن هناك قوانين كثيرة تعجز جميع أجهزة الدولة أن تنفذها .. لا يمكن أن ينفذها إلا الإيمان .. سأضرب لكم أمثلة عنها:

لقد أصدر عمر بن الخطاب قانوناً يمنع غش اللبن يخلط بالماء .. ولكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كل مخالف؟ وهل تستطيع يده أن تقبض على كل غاش! .. أنتم تعرفون أن القانون أعجز من هذا.. ولكن الإيمان هو الذي يعمل عمله في هذا المجال.

لقد روي أنه بعد أن أصدر عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا القانون مر على بيت امرأة وهي تأمر ابنتها أن تخلط اللبن طمعاً في زيادة الربح، لكن البنت تذكرها بمنع أمير المؤمنين .. فترد الأم قائلة: أين نحن من أمير المؤمنين؟! إنه لا يرانا.. وترد البنت المؤمنة: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا!!

وروي أنه لما هبط المسلمون (المدائن) وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه. فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه!! فقالوا له: أخذت شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به.. فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه .. فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه .. فسأل عنه فإذا هو (عامر بن عبد قيس)[37]

وقال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق فانحدر بنا راع من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم.. فقال: إني مملوك.. فقال -اختباراً له-: قل لسيدك أكلها الذئب.. فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر، ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

ليس هذا خاصا بالعامة .. حتى مجال السياسة والحكم نجد الضمير المؤمن هو المسيطر ..

لقد قص علينا التاريخ أمثلة شامخة للعدالة الكاملة التي لا تتحيز لقريب أو تتحيف على عدو، وفي المساواة القانونية التي لا تعرف الفوارق، وفي الزهد الذي يعرض عن الدنيا وفي يده البيضاء والصفراء، والقوة والسلطان. لقد كان الضمير المؤمن هو الذي يحكم ويسود، فسادت الفضيلة وسادت العدالة والمساواة، ذلك الضمير الذي جعل خليفة كعمر ـ رضي الله عنه ـ يدخل حائطاً لقضاه حاجة فيسمعه أنس يقول - وبينهما جدار الحائط-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! بخ بخ!! والله لتتقين الله بني الخطاب، أو ليعذبنك!!

هذا الضمير هو الذي جعله في عام المجاعة المعروف بعام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت حتى أسود جلده، فيكلمه بعض الصحابة في ذلك، فيقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع!

ورأى يوماً فتاة صغيرة تتمايل من الجوع. فقال: من هذه؟ فقال ابنه عبد الله: هذه ابنتي. قال: فما بالها؟. قال: إنك تحبس عنا ما في يدك فيصيبنا ما ترى. فقال: يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله ما أعطيكم إلا ما فرض الله لكم. أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم فأعود خائنا؟!

كان الضمير المؤمن هو الذي يحكم الخليفة والقاضي، فلم يحاول الخليفة المؤمن أن يتخذ القوة لأخذ حقه أو يؤثر على القاضي ليحكم في صالحه، ولم يحاول القاضي المؤمن أن يطوع النصوص إرضاء لأميره - رغم ما يعتقد من صدقه- فالشرع سيد على الجميع: الأمير والسوقة. والمسلم والنصراني سواء.

وكان علي ـ رضي الله عنه ـ يلبس القميص - وقد اشتراه بثلاثة دراهم- ويقول: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري عورتي!

ومفتاح هذا الزهد وتلك العدالة ما قاله بعضهم: كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال، فيفتح عليه القرآن، ويقرأ :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (القصص:83) ، ثم يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس.

وهذا عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ ودخل على امرأته يوماً، فسألها أن تقرضه درهماً يشتري به عنبا، فلم يجد عندها شيئاً .. فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزائنك ما تشتري به عنبا؟! فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غداً في نار جهنم.

وقد اجتهد في مدة ولايته - مع قصرها- حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه ينادى في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الراغبون في الزواج؟ أين اليتامى؟ أين المساكين؟ حتى أغنى كلاً من هؤلاء.

ومع عدله وزهده، ورده للمظالم، وشدته على نفسه وأقاربه كان يناجي ربه ليقول: اللهم إن عمر ليس أهلاً أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر.

وأثنى عليه رجل فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيراً يا أمير المؤمنين. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً[38].

ليس هذا فقط ..

بل إن الأمر شمل كل الحياة .. حتى ما لا يخطر على القوانين ببال.

يروي الغزالي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة دراهم، وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي شقة من الخمسيات بعشرة فلما عاد ابن المنكدر وعرف، لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوى خمسة بعشرة.. فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت.. فقال: وإن رضيت. فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك.. فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي.

ويروي أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، منها ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة درهم، وضرب كل حلة مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها، فاشتراها - أي بأربعمائة- فمشى بها وهي على يديه فاستقبله يونس، فعرف حلته، فقال للأعرابي بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوى أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوى في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف معي فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم. وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله. وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله أتربح مثل الثمن، وتترك النصح للمسلمين؟! فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك!!

ليست هذه النماذج خاصة بالقرون الأولى وعهد السلف الصالح من المسلمين. فلا زال للإيمان أثره إلى اليوم في كل بلد من ديار الإسلام، وإن اختلف الكم والدرجة عما كانا عليه من قبل.

حدث الأستاذ أبو الحسن الندوي قال: حدثني بعض الثقات المعمرين الذين أدركوا عهد الأشراف في الحجاز، أن تجار مكة كانوا في ذلك العهد على جانب عظيم من المواساة لزملائهم، والنظر في مصالحهم والإخلاص والإيثار لهم، قال: كان بعض التجار إذا أتاه زبون في آخر النهار وقد باع ما يكفيه لقوت يومه وما حدده من الربح والوارد، ولم يكن زميله الجار سعيد الحظ في ذلك اليوم، قال له في لطف وهدوء: دونك هذا الدكان الذي هو بجواري! تجد عنده ما تجده عندي، وقد لاحظت قلة الزبائن عنده هذا اليوم، فهو أحق بأن تشتري منه.

ويتحدث الأستاذ محمد أسد[39] النمساوي عن مدينة إسلامية عربية كبيرة هي (دمشق)، فيقول: (وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعامل بها بعضهم بعضاً، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا ينون ينادون على المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف والحسد، حتى أن صاحب دكان منهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كلما دعته حاجة إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع، أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائماً - للتاجر المزاحم- ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة - لا بضاعته هو، بل بضاعة جاره الغائب- ويترك له الثمن على مقعده)

ثم يتساءل : ( أين في أوروبا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة؟)[40]

ليس هذا فقط .. هناك ما هو أعظم من ذلك كله ..

هناك الإيثار .. الذي هو فوق العدل وفوق الحقوق وفوق القانون .. وهو لا يمكن أن يتحقق من غير الإيمان الذي تنبني عليه الشريعة.

سأضرب لكم أمثلة عن ذلك ..

أخذ عمر بن الخطاب أربعمائة دينار، فجعلها في صرة، ثم قال لغلامه: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تله (تشاغل) في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه .. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ وتله (تشاغل) في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة هي امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين، فأعطنا، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره: فسر بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض[41].

وروى أن قافلة تجارية قدمت لعبد الرحمن، فكان لأهل المدينة يومئذ رجة، فقالت عائشة: ما هذا؟ قيل لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت، فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله r يقول: (كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط، يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يفلت ولم يكده)، فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: هي وما عليها صدقة.

قال راوي القصة: وكان عليها أفضل منها، قال: وهي يومئذ خمسمائة راحلة.

بهذه السهولة جاد الرجل بكل هذا المال وكل هذه التجارة التي ارتجت لها المدينة ..

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان أبو طلحة أكثر الأمصار بالمدينة مالاً من نخل.. وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (اسم حديقة له) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله r يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية :﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ (آل عمران: من الآية92) قام أبو طلحة إلى رسول الله r ، فقال: يا رسول الله، أن الله تبارك وتعالى يقول:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ (آل عمران: من الآية92) ،وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة. أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله r : ( بخ بخ .. ذاك مال رابح! ذاك مال رابح)[42]

وعن ابن عمر قال: أهدى إلي رجل من أصحاب رسول الله r رأس شاة فقال: فلان أحوج إليه مني، فبعث به إليه. فبعث به هو أيضاً إلى آخر يراه أحوج منه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة!

سكت قليلا، ثم قال: إياكم أن تحسبوا أن هذه الحوداث حوادث فردية .. إن هذه الحوادث تعبر عن روح المجتمع واتجاهه وفلسفته ونظرته إلى المال والحياة ..

لقد ذكر ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك، فقال: (لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم)[43]

لقد صور القرآن الكريم هذا .. فقال في بيانه المبدع مصورا المعاملة المثالية التي تعامل بها الأنصار مع إخوانهم المهاجرين :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الحشر:9)

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لكم مثلا لازالت بعض صورته قائمة إلى الآن .. في هذا المثل صرع القانون بكل أجهزته .. لكن الشريعة انتصرت انتصارا لا تزال آثاره نشهدها إلى اليوم:

إنه الموقف من الخمر .. لاشك أن البشرية جميعا تدرك مضار الخمر .. وهي مضار لا تقل عن مضار المخدرات.. ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تتخذ أي موقف إيجابي تجاهها.

وسبب ذلك بسيط .. وهو أنها تعلم عجزها عن سن قوانين ترتبط بهذا ..

لست أتكلم عن مسألة افتراضية .. وإنما أتكلم عن مسألة واقعية ..

لقد عقد السيد الفاضل أحمد ديدات مقارنة بين انتشار الخمر بين المسلمين وانتشارها بين المسيحيين، فذكر أن جمهورية جنوب إفريقيا ذات الاقلية البيضاء، والتي تقدر بأربعة ملايين نسمة، من بين مجموع السكان البالغ عددهم أربعين مليون نسمة. بها حوالي ثلاثمائة ألف مدمن خمر، يسمونهم ( الكحوليين ).

وتظهر الاحصائيات أن عدد مدمني الخمر من الملونين في جنوب إفريقيا يوازي خمسة أضعاف عدد مدمني الخمر ضمن أي جنس آخر.

ومثله المبشر الانجليزي، جيمي سواجرت الذي كتب في كتاب له بعنوان (الخمر):( إن أمريكا بها أحد عشر مليون مدمن، وأربعة وأربعين مليون من المفرطين في شرب الخمر)

لا شك أن هذه إحصائيات قديمة.. وفي الواقع أكثر من ذلك بكثير.

قارن هذه الأعداد الضخمة بأعداد الذين يشربون الخمر من المسلمين..

فهم رغم بعدهم عن دينهم إلا أن الخمر والكثير من المحرمات لا تزال راسخة الحرمة في أذهانهم..

إنها منذ أنزل على نبيهم:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91) (المائدة) وهم يجتنبون الخمر.. ويبتعدون عنها كل البعد.

أتدرون كيف فرض محمد هذا القانون.. قانون تحريم الخمر؟

لقد فرضه بالإيمان.. لم ينفق محمد r على ذلك درهما واحدا، بل كفاه عن كل ذلك تينك الآيتين.. لقد جعلتا كل القلوب تنفر من الخمر من غير شرطة لا قوانين ولا مصادرات.

فعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله r يقول:( يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به)، قال أبو سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال:( إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية -يعني آية المائدة السابقة- وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع) ، قال أبو سعيد: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها[44].

وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت.. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها.. فأهرقها[45].

 ويحدث أبو موسى الأشعري قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة -أي حلالاً- إذ قمت حتى آتي رسول الله r فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر، فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم.. قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء.. فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا.. انتهينا ربنا[46].

قارنوا هذا بما فعلته  الولايات المتحدة الأمريكية عندما فكرت أن تحرم الخمر..

أنتم تعلمون أن الولايات المتحدة فكرت في يوم من الأيام في أن تحرم الخمر على شعبها لما رأت من أضرارها الشديدة على البناء الصحي والخلقي للمجتمع.. وقد فعلت المستحيل لأجل ذلك:

بدأت ـ أولا ـ بإصدار قانون[47].. ولم يكن مجرد أمر ملكي أو منشور إمبراطوري، بل كان تشريعا جاء عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي دستوري حر، فحوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي. وفي عام 1919أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان « التعديل الثامن عشر »، وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد).

ولم يكتفوا بالقانون، بل جيشوا كل جيوشهم لتطبيقه، فجند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب، وجند الطيران لمراقبة الجو، وشغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام لمحاربة الخمر، وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.

ويقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة ملايير صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم -في مدة أربعة عشر عاماً_ لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم في هذه المدة ثلاثمائة نفس، وسجن 532,335 نفس، وبلغت الغرامات ستة عشر مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه.

ولكن الأمريكيين لم يزدادوا إلا غراماً بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة.

 

 

 

 

 

2 ـ الشمول

قلنا: حدثتنا عن الركن الأول .. فحدثنا عن الركن الثاني.

قال: أرأيتم لو أن طباخا ماهرا .. تفنن في نوع من أنواع الأطعمة .. بحيث صرف من يأكل عنده عن كل طعام إلا عن طعامه .. وكان ذلك الطعام لا يحتوي إلا على سكريات لذيذة .. مندمجة في وسط مشبع بالدهون .. هل ترون من يقتصر على طعامه محسنا أو مسيئا؟

قال رجل منا: أنا طبيب .. وأنا أدرى الناس بجوابك ..

ابتسم خبيب، وقال: الحمد لله .. فأنت أولى الناس بالحديث في هذا.

قال الرجل: إن من يقتصر على ما ذكرت من الأطعمة سيصاب لا محالة بنقص التغذية.

قال خبيب: ولكنه يأكل طعاما كثيرا ..

قال الرجل: ولو أكل في جفنة كالجفنة التي قال فيها الأعشى ميمون بن قيس:

تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ = كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق

أو كتلك الجفنة التي قال فيها القرآن الكريم عن ملك سليمان u :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ[48] ﴾ (سـبأ: من الآية13)

قال خبيب: لم كان الأمر كذلك؟

قال: لأن أي شخص يفتقر غذاؤه بشدة إلى أي عنصر غذائي يقال إنه سيئ التغذية .. وقد يتوافر لبعض الناس سيئي التغذية كمية وفيرة من الغذاء، لكنهم يختارون تناول أطعمة لا تمد الجسم بجميع العناصر الضرورية .. وبعضهم يتعرض لمشاكل صحية لأنهم يأكلون بنهم، ويصبح وزنهم زائدًا على المسموح به.

قال خبيب: فما الحل الذي ينبغي لمن وقع في هذا الفقر الغذائي أن يفعل؟

قال الرجل: ينبغي لمن وقع في مثل هذا أن يبحث عن غذاء معتدل متوازن شامل لكل احتياجاته الغذائية.

قال خبيب: وما حاجاته الغذائية؟

قال الرجل: لا يمكنني أن أفصل لك ذلك الآن .. ولكن ـ باختصار ـ لكي تسد حاجات الجسم يجب أن يحتوي الغذاء على المواد الزلالية، والموجودة في اللحوم والأسماك والبيض والبقول والألبان والأجبان والدهون .. وغيرها.. فهذه المواد ضرورية للنمو وحفظ سلامة الأنسجة وصيانة مقاومتها في شتى مراحل العمر.

ويجب أن يحتوي كذلك على النشا والسكر .. وهما يزودان الجسم بالحرارة اللازمة .. وللسكر أهمية خاصة لغذاء الدماغ، فالسكر موجود بصورة نقية وموجود بالفواكه والعسل، أما النشويات فموجودة بالحبوب والبطاطا، كما تمد الدهون والزبد وزيت السمك جسم الإنسان بفيتامين (أ)

وهناك الاحتياجات المعدنية مثل الكالسيوم المهم لنمو العظام وضبط دقات القلب، إضافة للحديد والنحاس لتفادي الأنيميا، واليود للغدد.

هذا باختصار بعض ما يحتاجه الجسم من مواد غذائية .. ونقص كل واحد منها لابد أن يتسبب في علة من العلل.. ولا يمكن علاج تلك العلة إلا بتوفره.

قال ذلك، ثم التفت إلى خبيب، وقال: لم تسأل عن هذا؟

قال خبيب: ليت البشر الذين عرفوا حاجات الجسم .. عرفوا حاجات الروح والنفس والعقل والقلب .. وحاجات المجتمع بعد ذلك.

قلنا: لم؟

قال: حتى يتجنبوا الوقوع فيما يقع فيه الجسد إن لم يتكامل غذاؤه.. ألم تسمعوا ما ذكر الطبيب من تأثير نقص التغذية على الجسم؟

قلنا: بلى.

قال: إن كل ما ذكره هو نقص تغذية الجسم .. وليس بالجسم وحده يعيش الإنسان.

قلنا: فبم يعيش؟

قال: للإنسان لطائف كثيرة[49] .. هو كجهاز معقد تحتاج كل دارة فيه إلى نوع من أنواع الكهرباء .. ولذلك لا يمكن أن يتعامل معه إلا الخبير العارف بحاجاته جميعا.

قلنا: فمن هو ذاك؟

قال: ربه .. ربه الذي خلقه هو أدرى الناس بحاجاته .. ولذلك يسدها جميعا.

قلنا: أهذا ما تسميه الشمول؟

قال: أجل .. لقد بحثت في هذا .. فتشت جميع دواوين الدنيا من الكتب المقدسة .. والكتب التي كتبها المفكرون والفلاسفة ورجال القانون .. فلم أر في تلك الأسفار جميعا ما يغطي جميع احتياجات الإنسان الدقيق والجليل منها كما وجدته في شريعة الإسلام .. لقد رأيت جميع تلك الأديان والمذاهب في أحسن أحوالها لا تعدو أن تكون كذلك الطباخ الذي يقتل الناس بإطعامهم صنفا واحدا.

قلنا: فحدثنا عن شمولية الإسلام[50].

قال: الشمول من خصائص الإسلام التي تميز بها عن كل ما عرفه البشر من الأديان والفلسفات والمذاهب، بكل ما تتضمنه كلمة (الشمول) من معان وأبعاد: فهو شمول يستوعب الزمن كله، ويستوعب الحياة كلها، ويستوعب كيان الإنسان كله.

فالإسلام رسالة امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن .. وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم .. وامتدت عمقا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة[51].

قلنا: ما تعني بشموله آباد الزمن؟

قال: إن رسالة الإسلام رسالة الزمن كله .. إنها رسالة لكل الأزمنة والأجيال، ليست رسالة موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص، ينتهي أثرها بانتهائه، كما كان الشأن في رسالات الأنبياء السابقين على محمد r فقد كان كل نبي يبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت بعث الله نبيا آخر.

أما محمد r فهو خاتم النبيين، ورسالته هي رسالة الخلود التي قدر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة، ويطوى بساط هذا العالم فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية، فليس بعد الإسلام شريعة، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد محمد r نبي، ولم يسبق لنبي قبل محمد r أن أعلن أن رسالته هي الخاتمة وأن لا نبي بعده.. وكلهم اتفقوا ـ مبشرين ـ على أن النبي الموعود هو النبي الخاتم .. ولم يكن ذلك النبي إلا محمد r [52].

وكما أن رسالة محمد r هي رسالة المستقبل المديد، فهي أيضا رسالة الماضي البعيد.

فهي ـ في جوهرها، وأصولها الاعتقادية والأخلاقية ـ رسالة كل نبي أرسل، وكل كتاب أنزل.. فالأنبياء جميعا جاءوا بالإسلام، ونادوا بالتوحيد، واجتناب الطاغوت.

اسمعوا إلى القرآن .. وهو يقول :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) .. ويقول :﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45) .. ويقول :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت)(النحل: من الآية36)

ولذلك فهي ـ في أصلها ـ لا تصطدم مع أي دين .. ولا مع أي فكرة نبيلة جاد بها عقل نبيل.

قلنا: فما تعني بشموله آفاق الأمم؟

قال: إن الرسالة التي جاء بها محمد r هي الرسالة الوحيدة التي خاطبت العالم أجمع .. فلم تقتصر في خطابها من أول يوم على أمة من الأمم أو عرق من الأعرق أو بلد من البلدان ..

لقد قال المسيح معبرا عن خصوص رسالته لشعب إسرائيل: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)(متى 15 / 24) .. ولما جاء الملاك الذي ظهر ليوسف النجار ، قال له :( فَسَتَلِدُ ابْناً، وَأَنْتَ تُسَمِّيهِ يَسُوعَ، لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ )(إنجيل متى:1 : 21) .. وفي إنجيل متى (2 : 1):( وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ ؟)

في مقابل هذا نجد القرآن الكريم يقول عن رسالة محمد r :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الانبياء:107) .. إن هذه الآية صريحة في التوجه العالمي لرسالة محمد r .

وفي القرآن :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (لأعراف:158)

وفيه :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ (الفرقان:1)

وفيه :﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنعام: من الآية90)

وفيه :﴿  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ (صّ:87)

وفيه :﴿ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ (القلم:52)

ولهذا أثنى الله على أمة الإسلام في كتابه حين خاطبها فقال:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾  (آل عمران: من الآية110)

فالله برحمته أخرج هذه الأمة إلى الناس، وتولى رعايتها، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بعد أن رغب بنو إسرائيل عن تولي هذه المهمة.

ولهذا عندما سأل رستم ـ قائد جيوش الفرس في معركة القادسية ـ الصحابي الجليل ربعي بن عامر: من أنتم؟ قال ذلك الصحابي الذي امتلأ بما جاء به محمد r من إنسانية وعالمية :( نحن قوم ابتعثنا الله، لنخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا، إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )

فقد لخص هذا الصحابي ـ الذي لم يتخرج إلا من مدرسة محمد r ـ الأهداف الكبرى للإسلام في هذه الكلمات الموجزة، والتي تدل على البعد العالمي للرسالة المحمدية.

بالإضافة إلى هذا كله، فإن رسالة الإسلام ليست رسالة لطبقة معينة، مهمتها أن تسخر الطبقات الأخرى لخدمة مصالحها أو اتباع أهوائها، أو السير في ركابها، سواء أكانت هذه الطبقة المسيطرة من الأقوياء أم الضعفاء، من السادة أم من العبيد، من الأغنياء أم من الفقراء والصعاليك. إنها رسالتهم جميعا، وليست لمصلحة طائفة منهم دون سواها، وليس فهمها، ولا تفسيرها، ولا الدعوة إليها حكرا على طبقة خاصة، كما قد يتوهم كثير من الناس، إنها هداية رب الناس لكل الناس، ورحمة الله لكل عباد الله.

قلنا: فما تعني بكونها رسالة الإنسان كله؟

قال: لقد وجدت بالبحث المستفيض الشامل أن رسالة الإسلام هي الرسالة الوحيدة التي استوعبت حاجات الإنسان جميعا .. فهي ليست رسالة لعقل الإنسان دون روحه، ولا لروحه دون جسمه، ولا لأفكاره دون عواطفه، ولا عكس ذلك.

إنها رسالة الإنسان كله: روحه وعقله، وجسمه، وضميره، وإرادته ووجدانه.

وهي رسالة الإنسان في أطوار حياته كلها .. فهداية الله، تصحب الإنسان أنى اتجه وأنى سار في أطور حياته، إنها تصحبه طفلا، ويافعا وشابا وكهلا وشيخا. وترسم له في كل هذه المراحل المتعاقبة المنهج الأمثل الذي يحبه الله ويرضاه.

فلا عجب ـ لهذا ـ أن تجدوا  في الإسلام أحكاما وتعاليم تتعلق بالمولود منذ ساعة ميلاده مثل إماطة الأذى عنه، والتأذين في أذنه، واختيار اسم حسن له، وذبح عقيقة عنه شكرا لله، وغير ذلك مما ذكره فقهاء الإسلام في أحكام المولود.

وبعد ذلك نجد أحكاما تتعلق بالإنسان صبيا وشابا وكهلا وشيخا، فلا توجد مرحلة من حياته إلا وللإسلام فيها توجيه وتشريع.

وأكثر من ذلك أنها تعنى بالإنسان قبل أن يولد، وبالإنسان بعد أن يموت.

وهي ـ بعد هذا ـ رسالة الإنسان في كل مجالات حياته، فلا يدع الإسلام جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف: وقد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغبير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة، كل في موضعه.

فهو لا يدع ـ مطلقا ـ الإنسان وحده ـ بدون هداية الله ـ ، في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: ماديا كان أو روحيا، فرديا أو اجتماعيا، فكريا أو عمليا، دينيا أو سياسيا، اقتصاديا أو أخلاقيا.

إن الإسلام هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا أو مجتمعا، وعاملا لروحه أو عاملا لجسده، وناظرا إلى دنياه، أو ناظرا إلى آخرته ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه، أو معطيا حق حاكمه وحكومته فلا يكون مسلما، وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى، ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.

وإذا كان الإسلام هو رسالة الإنسان كله في كل أطواره، ورسالة الحياة كلها، بكل جوانبها ومجالاتها، فلا عجب أن نجد التعاليم الإسلامية كلها تتميز بهذا الشمول والاستيعاب لكل شؤون الحياة والإنسان.

نجد هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور، ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم.

قال رجل منا: كيف ذلك؟ .. كيف يتجلى شمول الإسلام في العقيدة والتصور؟

قال: لقد وجدت بالبحث المستفيض الشامل أن رسالة الإسلام هي الرسالة الوحيدة التي تحتوي على العقيدة الشاملة التي تجيب عن كل تساؤلات الإنسان .. فهي تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود .. القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية، وقضية الكون، وقضية الإنسان، وقضية النبوة، وقضية المصير.

لقد وجدت من خلال البحث في الأديان والفلسفات والأفكار أن بعض العقائد تعنى بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة دون قضية الجزاء الأخروي .. أما عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح، ووضوح شامل.

ناحية أخرى لاحظتها في العقيدة الإسلامية .. ولم ألاحظها في جميع الملل والنحل .. وهي أن العقيدة الإسلامية لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان، أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضا باتا، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق .. أو اعتقد وأنت أعمى.

وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو الشأن جل الفلسفات البشرية التي تتخذ العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله، وحل ألغاز الوجود.

وإنما تعتمد على الفكر والشعور معا، أو العقل والقلب جميعا، باعتبارهما أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.

إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة.

قال رجل منا: وكيف يتجلى شمول الإسلام في شريعته المرتبطة بالعبادات؟

قال: لقد لاحظت من خلال البحث المستفيض أن العبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله، فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها .. بل هو يعبد الله بهذه كلها: بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته سبحانه.

والعبادة في الإسلام تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.

فالجهاد في سبيل الله، دفاعا عن الحق، وذودا عن الحرمات، ومنعا للفتنة، وإعلاء لكلمة الله، وسعيا وراء تحقيق العدالة عبادة لا تعدلها عبادة.

وكل عمل نافع يقوم به المسلم، لخدمة المجتمع، أو مساعدة أفراده عبادة:

حدث أبو ذرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله قلت: أي الرقاب أفضل ؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل ؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك[53].

وعنه أن رسول الله r قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ. ويجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)[54]

وعنه قال: قال النبي r : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساويء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)[55]

وعنه: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحةٍ صدقةً، وكل تكبيرةٍ صدقةً، وكل تحميدةٍ صدقةً وكل تهليلةٍ صدقةً، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، وفي بضع أحدكم صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجرٌ ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه وزرٌ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ[56].

وعنه قال: قال لي النبي r: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليقٍ) [57]

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r : ( كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ) [58]

وعنه قال: قال رسول الله r : ( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاةٍ[59]) [60]

وعنه، عن النبي r قال: الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبةً: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان) [61]

وعنه، أن رسول الله r قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه، حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً ؟ فقال: في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ[62].

وعنه، عن النبي r قال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين[63].

وعن جابرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r : ( كل معروفٍ صدقةٌ)[64]

وعنه قال: قال رسول الله r : ( ما من مسلمٍ يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقةً، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ إلا كان له صدقةً)[65]

وعن عدي بن حاتمٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي r يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ)[66] .. وفي روايةٍ قال: قال رسول الله r : ( ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمانٌ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ)

و عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله r : ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)[67]

وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي r قال: على كل مسلمٍ صدقةٌ، قال: أرأيت إن لم يجد ؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع ؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل ؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقةٌ[68].

قال رجل منا: فكيف يتجلى شمول الإسلام في الأخلاق؟

قال: لقد لاحظت من خلال البحث المستفيض في الأديان والفلسفات والمذاهب أن الأخلاق في الإسلام هي الأخلاق الوحيدة التي لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت لها المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فما فرقه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة، وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه القانون الأخلاقي في الإسلام في تناسق وتكامل وزاد عليه.

لذلك كله لخص رسول الله r رسالته بأنها رسالة أخلاقية .. فقال : (إنَّما بُعِثتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاق)[69]

واعتبر أن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، فقال : ( (أكمل المؤمنين إيمانا، أحسنهم خلقا)[70]

وقال r : (حسن الخلق يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد)[71]

وقال r : (حسن الخلق، خلق الله الأعظم)[72]

وقال r : (حسن الخلق نصف الدين)[73]

وقال r : ( إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة القائم بالليل، والظامىء بالهواجر)[74]

وقال r : ( إن الرجل المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله، بحسن خلقه وكرم سريرته)[75]

وقال r : ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، فإن صاحب الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)[76]

وقال r : ( أول ما يوضع في الميزان، الخلق الحسن)[77]

وقال r : ( ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن)[78]

وقال r : (  ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كل هين لين قريب سهل)[79]

وقال r : ( خير ما أعطي الناس خلق حسن)[80]

وقال r : (  أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)[81]

وقال r : (  إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها)[82]

وقال r : (  إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعظم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل دركات جهنم وإنه لعابد)[83]

وقال r : ( إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)[84]

ولم يكتف الإسلام بالتوجيهات العامة .. بل وصف وصفا دقيقا فروع الأخلاق وتفاصيلها .. بل كيفية تحصيبلها، وضوابط كل ذلك مما لم تبلغه جميع المدارس الأخلاقية في العالم جميعا.

 

 

 

 

 

 

 

3 ـ الواقعية

قلنا: حدثتنا عن الركن الثاني .. فحدثنا عن الركن الثالث.

التفت إلي مبتسما، وقال: لا شك أنك رجل دين ..

قلت: أجل .. وهل هناك حرج من كوني كذلك؟

قال: لا حرج عليك .. لقد كنت مثلك .. كنت أعلق على رقبتي الصليب .. وكنت ألبس طيالسة الأحبار .. ولكني عندما التمست أن أدعو لتطبيق الشريعة التي جاءت في الكتاب المقدس وجدتني عاجزا تمام العجز ..

قلت: وما المعجز فيها؟

قال: اقرأ على هذا الجمع المبارك ما ورد في الشريعة من الأحكام المرتبطة بالبرص.. أم أنك لا تحفظ ما ورد في ذلك؟

قلت: أنا أحفظ ذلك .. وسأردد عليك بعض ما ورد من ذلك .. لقد جاء في (سفر الللاويين: 13: 45 ):( وَعَلَى الْمُصَابِ بِدَاءِ الْبَرَصِ أَنْ يَشُقَّ ثِيَابَهُ وَيَكْشِفَ رَأْسَهُ وَيُغَطِّيَ شَارِبَيْهِ، وَيُنَادِيَ: (نَجِسٌ! نَجِسٌ!). وَيَظَلُّ طُولَ فَتْرَةِ مَرَضِهِ نَجِساً يُقِيمُ وَحْدَهُ خَارِجَ الْمُخَيَّمِ مَعْزُولاً )

ثم التفت إليه، وقلت: أهذا ما تريد .. أهذا ما أزعجك من الكتاب المقدس .. ما أسهل أن يطبق هذا الحكم لمن أراد أن يطبقه.

قال: ليس هذا فقط ما ورد .. هناك أشياء أخرى .. سأعفيك من قراءتها .. سأقرؤها أنا بدلك .. لقد جاء في (اللاويين: 14: 35) فيما إذ اشتبه أهل المنزل في مرض منزلهم بالبرص:( يَأْتِي صَاحِبُ الْبَيْتِ وَيُخْبِرُ الْكَاهِنَ أَنَّ دَاءَ الْبَرَصِ قَدْ يَكُونُ مُتَفَشِّياً بِالْبَيْتِ، فَيَأْمُرُ الْكَاهِنُ بِإِخْلاَءِ الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ لِئَلاَّ يَتَنَجَّسَ كُلُّ مَا فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْكَاهِنُ الْبَيْتَ لِيَفْحَصَهُ. فَإِذَا عَايَنَ الإِصَابَةَ وَوَجَدَ أَنَّ فِي حِيطَانِ الْبَيْتِ نُقَراً لَوْنُهَا ضَارِبٌ إِلَى الْخُضْرَةِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَبَدَا مَنْظَرُهَا غَائِراً فِي الْحِيطَانِ، يُغَادِرُ الْكَاهِنُ الْبَيْتَ وَيُغْلِقُ بَابَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. فَإِذَا رَجَعَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَفَحَصَهُ، وَوَجَدَ أَنَّ الإِصَابَةَ قَدِ امْتَدَّتْ فِي حِيطَانِ الْبَيْتِ، يَأْمُرُ الْكَاهِنُ بِقَلْعِ الْحِجَارَةِ الْمُصَابَةِ وَطَرْحِهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، وَتُكْشَطُ حِيطَانُ الْبَيْتِ الدَّاخِلِيَّةُ، وَيَطْرَحُونَ التُّرَابَ الْمَكْشُوطَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ )

التفت إلى الجمع، وقال: تصوروا لو أن الكنيسة أصدرت مثل هذا القرار.. وأن هذا الحكم طولب بتطبيقه في مدننا التي تصاب بالبرص.. ما الذي سيحصل؟

سكت، فقال: لم تنته أحكام البرص بعد.. فهناك برص الثياب، وهو الآخر يحتاج إلى الكثير من التفاصيل.. اسمع:( وَإِذَا بَدَا دَاءُ الْبَرَصِ الْمُعْدِي، فِي ثَوْبِ صُوفٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ فِي قِطْعَةِ قُمَاشٍ مَنْسُوجَةٍ أَوْ مَحِيكَةٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ كَتَّانٍ، أَوْ فِي جِلْدٍ، أَوْ فِي كُلِّ مَصْنُوعٍ مِنْ جِلْدٍ، وَكَانَتْ إِصَابَةُ الثَّوْبِ أَوِ الْجِلْدِ أَوْ قِطْعَةِ الْقُمَاشِ الْمَنْسُوجَةِ أَوِ الْمَحِيكَةِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مَصْنُوعٍ مِنْ جِلْدٍ، ضَارِبَةً إِلَى الْحُمْرَةِ أَوِ الْخُضْرَةِ، فَإِنَّهَا إِصَابَةُ بَرَصٍ تُعْرَضُ عَلَى الْكَاهِنِ. فَيَفْحَصُ الإِصَابَةَ وَيَحْجُزُ الشَّيْءَ الْمُصَابَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَفْحَصُهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. فَإِنْ وَجَدَهَا قَدِ امْتَدَّتْ فِي الثَّوْبِ أَوْ قِطْعَةِ الْقُمَاشِ، أَوْ فِي الْجِلْدِ أَوْ فِي كُلِّ مَا يُصْنَعُ مِنْ جِلْدٍ، وَيُسْتَخْدَمُ فِي عَمَلٍ مَا، فَإِنَّ الإِصَابَةَ تَكُونُ بَرَصاً مُعْدِياً وَتَكُونُ نَجِسَةً. فَيُحْرِقُ الْكَاهِنُ بِالنَّارِ الثَّوْبَ أَوْ قِطْعَةَ قُمَاشِ الصُّوفِ أَوِ الْكَتَّانِ أَوْ مَتَاعَ الْجِلْدِ الْمُصَابِ، لأَنَّهُ دَاءٌ مُعْدٍ. لَكِنْ إِنْ وَجَدَ الْكَاهِنُ أَنَّ الإِصَابَةَ لَمْ تَمْتَدَّ فِي الثَّوْبِ أَوْ فِي قِطْعَةِ الْقُمَاشِ الْمَنْسُوجَةِ أَوِ الْمَحِيكَةِ أَوْ فِي مَتَاعِ الْجِلْدِ، يَأْمُرُ بغَسْلِ الشَّيْءِ وَيَحْجُزُهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى) (اللاويين: 13: 47 -53)

لم تنته أحكام البرص بعد.. فهناك أحكام أخرى ترتبط ببراءة الأبرص.. اسمع ما يقول الكتاب المقدس عن طهارة الأبرص:( وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَذِهِ هِيَ نُصُوصُ التَّعْلِيمَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَبْرَصِ الْمُطَهَّرِ مِنْ بَرَصِهِ. يُحْضِرُونَهُ إِلَى الْكَاهِنِ فِي يَوْمِ شِفَائِهِ، فَيَخْرُجُ الْكَاهِنُ إِلَى خَارِجِ الْمُخَيَّمِ لِيَفْحَصَهُ فَإِنْ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ بَرِيءَ مِنْ دَاءِ الْبَرَصِ، يَأْمُرُ الْكَاهِنُ أَنْ يُؤْتَى لِلأَبْرَصِ الْمُبَرَّءِ بِعُصْفُورَيْنِ حَيَّيْنِ طَاهِرَيْنِ، وَخَشَبِ أَرْزٍ، وَخَيْطٍ أَحْمَرَ وَبَاقَةِ زُوفَا. فَيَأْمُرُ الْكَاهِنُ بَذَبْحِ عُصْفُورٍ وَاحِدٍ فِي إِنَاءٍ خَزَفِيٍّ فَوْقَ مَاءٍ جَارٍ. أَمَّا الْعُصْفُورُ الْحَيُّ فَيَأْخُذُهُ مَعَ خَشَبِ الأَرْزِ وَالْخَيْطِ الأَحْمَرِ وَالزُّوفَا، وَيَغْمِسُهَا جَمِيعاً فِي دَمِ الْعُصْفُورِ الْمَذْبُوحِ فَوْقَ الْمَاءِ الْجَارِي، ثُمَّ يَرُشُّ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ مِنَ الْبَرَصِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَيُطَهِّرُهُ، ثُمَّ يُطْلِقُ الْعُصْفُورَ الْحَيَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ. وَيَغْسِلُ الْمُتَطَهِّرُ ثِيَابَهُ، وَيَحْلِقُ كُلَّ رَأْسِهِ، وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ فَيَطْهُرُ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْمُخَيَّمَ. إِلاَّ أَنَّهُ يُقِيمُ خَارِجَ خَيْمَتِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ يَحْلِقُ مَا نَمَا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَكَذَلِكَ لِحْيَتَهُ وَحَوَاجِبَهُ، وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ فَيُصْبِحُ طَاهِراً. وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُحْضِرُ إِلَى الْكَاهِنِ كَبْشَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَنَعْجَةً حَوْلِيَّةً سَلِيمَةً وَثَلاَثَةَ أَعْشَارٍ (نَحْوَ سَبْعَةِ لِتْرَاتٍ) مِنَ الدَّقِيقِ الْمَعْجُونِ بِزَيْتٍ وَلُجَّ (نَحْوَ ثُلْثَ لِتْرٍ) زَيْتٍ. فَيُوْقِفُ الْكَاهِنُ الْقَائِمُ بِالتَّطْهِيرِ الأَبْرَصَ الْمُتَطَهِّرَ وَتَقْدِمَتَهُ عِنْدَ مَدْخَلِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ )( اللاويين: 14: 1-11)

التفت إلى الجمع، وقال: إن هذا كلام يقرؤه مئات الملايين من المسيحيين في العالم، ويترجمونه إلى لغاتهم المختلفة!؟

تصوروا لو أن هذا الكلام يقرؤه الأطباء والصيادلة والعلماء على اعتباره كلاما لله.. فأي فائدة سيجنونها من المعرفة بالله، وهم يرونه يحدثهم عن أمور يضحك منها أبسط شخص منهم!؟

ألا ترون أن في هذا الكلام استغلالا خطيرا لا يختلف عن استغلال الكهان والعرافين والسحرة.. إن هذا الأبرص المسكين مكلف بكل التكاليف الثقيلة.. بالعصافير الحية.. وبالكبشين الصحيحين.. وبالنعجة الحولية.. وبالزيت.. وبالعجين..

قلت: ولكن كل هذا منسوخ في المسيحية .. ألم تسمع بما فعل بولس؟

قال: أجل .. لقد نسخ الشريعة .. ولكنه خالف المسيح بذلك .. لأن المسيح قال:( لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل)(متى 17:5) .. ومع ذلك، فإني إبان مسيحيتي كنت أميل إلى بولس مني إلى المسيح .. أتدري لم؟

قلت: لم؟

قال: لأن بولس ـ على الأقل ـ كان واقعيا .. لقد رأى أن الشريعة التي يختزنها الكتاب المقدسة .. شريعة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع .. إنها شريعة تجعل الإنسان يبحث عما لا يجديه نفعا.

ابتسم، وقال: لست أدري هل وجد أولئك الأغبياء البقرة الحمراء التي نص عليها الكتاب المقدس أم لا[85] .

قلت: إن لديك سوء فهم للمسيحية .. فالمسيحية التي جاء بها المسيح تعرفها من خلال العهد الجديد لا من خلال العهد القديم ..

ابتسم، وقال: أما أنا فقد فهمت المسيحية من خلال العهد الأخير .. لا من خلال العهدين السابقين جميعا .. فالعهد الأخير هو الذي وضح كل الأمور .. ووضع جميع النقاط على حروفها.

قلت: لم أسمع بشيء اسمه العهد الأخير.

قال: إنه رسالة الإسلام .. إنها عهد الله الأخير والخاتم إلى عباده ..

لن أحدثك في هذا .. فلعلك سمعت في حياتك من حدثك عنه .. ولكن أجبني .. هل يمكن أن يطبق واقعيا ما نصحنا به المسيح؟

قلت: أي نصيحة تريد؟

قال: لقد نصحنا بأن نحب أعداءنا، وأن نبارك لاعنينا .. لقد قال لنا المسيح:( لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً )(متى5: 38)

ألا ترى أن هذه النصيحة مثالية؟

قلت: ولكنها ممكنة التطبيق ..

قال: أجل .. هي ممكنة التطبيق .. وقد جاء في الإسلام الدعوة لمثلها .. ولكن الفرق بينهما أن الإسلام جاء بها بصورة واقعية.

قلت: كيف؟

قال: لقد جاء في القرآن :﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ الشورى: 40) ..فهذه الآية ذكرت العدل والفضل، حتى لا يعول المجرم على الفضل، فيقدم على إجرامه.

وذكر القرآن مع ذلك الفضل المحض المصحوب بالترغيب العظيم، قال تعالى :﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (النور: 22)

هذا هو الدين الواقعي الذي يضع لك المراتب المختلفة .. المراتب الواقعية والمثالية لتعمل بحسب طاقتك.

التفت إلي، وقال: ماذا قال المسيح في غض البصر؟

قلت: لقد قال في (إنجيل متى: 18 / 8 ): ( فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك .. خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في أتون النار الأبدية ولك يدان أو رجلان .. وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقى في جهنم ولك عينان)

قال: هل ترى أنه من الممكن أن يطبق مثل هذا؟

قلت: أجل .. يمكن ذلك .. وقد حصل ذلك فعلا .. ففى تاريخ الكنيسة قصص لأناس مثل سمعان الخزاز  وأورجانيوس الذى خصى نفسه  .. لقد قال القمص تادرس يعقوب فى تفسيره :( فإن كنا بالروح القدس النارى نعرف كيف نقدم أيدينا العثرة لصليب يسوع المسيح فتبتر لا نبقى بلا يدين إنما يصير المسيح نفسه يدينا العاملتين، وكذلك الرجلين نقدمهما بالروح القدس لصليب ربنا يسوع لبترها، ونلبس السيد نفسه ذى القدمين النحاسيتين حتى نعبر إلى حضن أبيه ونحن فى أمان روحى وسلام فائق) 

بل قد جاء في إنجيل (متى:19/  3 ) قول المسيح : ( لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات .. من استطاع أن يقبل فليقبل)

قال: أنا أوافقك في كل ذلك .. لقد كان هذا .. ولكن هل هذا التشريع واقعي؟ .. تصور لو أن كل البشر فعلوا ما طلبه المسيح .. هل ستبقى الحياة على الأرض؟

سكتُّ، فقال: قارن هذا بما ورد في نصوص المسلمين المقدسة .. لقد أمر بغض البصر .. ولكن لم يؤمر بقلع البصر .. لقد قال الله تعالى يدعو إلى هذا :﴿  قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾ (النور)

وفي حال الوقوع في الخطيئة شرعت الشريعة التوبة .. لا قلع البصر ..

فشريعة الله لم تفترض في المؤمنين المتقين أن يكونوا ملائكة لا تسول لهم أنفسهم سوءا .. كلا إن الإنسان جمع بين الطين نفخة الروح، فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يتوب .. إنما المنكر أن يتمادى في الذنوب ويستمرئ الرذيلة.. لقد أذنب آدم ـ أبو البشر ـ وتاب فتاب الله عليه، فلا غرابة أن يكون بنوه مثله، لهذا جعل القرآن من أصناف المتقين :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ (آل عمران:135)

كما فرق القرآن بين كبائر الإثم وفواحشه، وبين صغائر السيئات ولمم الذنوب التي قلما يسلم منها أحد، فهي في دائرة المسامحة والغفران ما اجتنبت الموبقات .. قال تعالى :﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ﴾ (النساء:31)

قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا .. ولكن الذي يحيرنا هو: كيف تستطيع شريعة جاءت قبل أكثر من أربعة عشر قرنا أن تحكم البشر بعد كل هذه المدة ..

إن هناك قضايا كثيرة مستجدة جعلت من إنسان هذا العصر إنسانا مختلفا عن سائر العصور .. فكيف استطاعت شريعة الإسلام أن تحتفظ بواقعيتها مع كل هذه التطوات؟

ابتسم خبيب، ثم قال: أرأيت لو أن هناك موعظة وردتك من آلاف السنين .. وكان فيها مثل هذه الأوامر : ( كل واشرب ولا تسرف .. لا تأكل ما يضر بصحتك .. نظم مواقيت أكلك .. احرص على ما ينفعك، ودع ما يضرك)

هل يمكن لشخص تخاطبه بها أن يقول لك: إن هذه الأوامر قد وضعت للبشر الذين عاشوا قبل آلاف السنين.

قال الرجل: مجنون من يقول ذلك .. فالبشر في كل أزمنهم يمكن أن يطبقوا تلك الأوامر .. فهي أوامر لا ترتبط بزمن دون زمن .. وليس هناك بشر أولى بها من بشر.

قال خبيب: ولو وردتك وصية أخرى .. من نفس ذلك الزمن .. أو بما هو أبعد منه بكثير .. تقول[86] : ( اعلم أن الخام والبلغم يظهران على الدم والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما، وهما عدوا الجسد وهادماه.. ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام والبلغم، ويقوي الدم جاهداً، غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً، ومن المرة مثل ذلك، لقلة صبره على الطعام اللذيذ، والمشروب الروي.

فتعاهد ذلك من نفسك، وما تأخذ به نفسك، وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده، على الريق. وفي يوليه تجنب الوطء. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب.

لقد ذكر علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً: فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال، فإن غلب الدم الطبائع تغير منه الوجه وورم، وخرج ذلك إلى الجذام، وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم أنبتت المد.. فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده بالاقتصاد، وينقه بالمشي، فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام، وإما مد)

هل يمكن لشخص تخاطبه بمثل هذا أن يقول لك: إن هذه الأوامر قد وضعت لبشر قبلنا .. ولست ملزما بما فيها.. لأنها منطلقة من ثقافة عصرها المحدودة .. وهناك فرق كبير بيننا وبينها؟

قال الرجل: صدق هذا في قوله .. وأنا لو عرض لي ما عرض له ما عدوت ما قال.

قال خبيب: أتدري ما الفرق بين القولين؟ .. ولم كان أحدهما مصحا، والآخر مخطئا؟

قال الرجل: أجل .. ذلك واضح .. فالأول تحدث عن قضايا لا تختلف فيها العصور .. وأما الثاني، فحدث عن قضايا يصيبها الخلاف ويمسها التطور.

قال خبيب: ففي حياة الإنسان إذن دائرتان: دائرة التطور .. ودائرة الثبات[87]؟

قال الرجل: يمكنك أن تقول ذلك ..

قال خبيب: ولكل دائرة نوع الخطاب المرتبط بها؟

قال الرجل: ذلك صحيح ..

قال خبيب: إن هذا هو سر خلود الشريعة الإسلامية .. وهو نفسه سر واقعيتها ..

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال خبيب: قبل أن أذكر لك كيف ميز الإسلام بين الثوابت والمتطورات أحب أن أذكر لك بأني بحثت في تعامل الأديان والفلسفات مع هذا .. فوجدت العجب العجاب ..

التفت إلي، وقال: لقد رأيت الكنيسة ـ في عصر من عصورها ـ تأثرت بالفكر الإغريقي في ميادين العلم والفلسفة، لا سيما آراء أرسطو وبطليموس .. ورأيتها قد بذلت كامل جهدها في التوفيق بين معتقداتها الدينية وآرائها الفلسفية.. ونشأ عن ذلك فلسفة مركبة تسمى (الفلسفة المسيحية)، وهي خليط من نظريات الإغريق وظواهر التوراة والأناجيل وأقوال القديسين القدامى، ولما كان العلم والفلسفة في ذلك العصر شيئاً واحداً، فقد أدمج الفلاسفة المسيحيون في صرح فلسفتهم كل ما وصل إليه العلم البشري في عصرهم من النظريات الكونية والجغرافية والتاريخية، ورأت الكنيسة في هذه الفلسفة التوفيقية خير معين على الدفاع عن تعليمها ضد المارقين والناقدين، فتبنتها رسمياً وأقرتها مجامعها المقدسة حتى أضحت جزءاً من العقيدة المسيحية ذاتها وامتدت يد التحريف فأدخلت بعض هذه المعلومات في صلب الكتب الدينية المقدسة[88] .

لقد تبنت الكنيسة آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بطليموس في أن الأرض مركز الكون.. وما أضاف إلى ذلك كله القديس أوغسطين وكليمان الإسكندري وتوما الاكويني.. واعتبرت هذا المزيج من الآراء البشرية أصولاً من أصول الدين المسيحي وعقائد مقدسة لا يصح أن يتطرق إليها الشك.

وقد كانت هذه العلوم المسيحية تشتمل على معلومات تفصيلية عن الكون.. تذكر بأن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق.م، وتوج ذلك بخلق الإنسان في جنة عدن على مسيرة يومين من البصرة بالضبط، والعجيب أنها ظلت مصرة على هذا الرأي حتى مطلع القرن التاسع عشر، فقد طبع كتاب الأسقف (آشر) الذي يحمل هذه النظرية سنة 1779 م [89].

أما تاريخ الطوفان فتختلف فيه تقاويم التوراة، لكنه على أقصى آرائها وقع بعد خلق آدم بـ (2262)سنة[90]، ومعنى ذلك أنه كان سنة 1742 ق.م.

ومن الطريف أن مجلساً كنسياً كان قد أعلن في بداية القرن العاشر للميلاد أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل، لأن الله قد جعل المدة بين إنزال ابنه ونهاية العلم ألف سنة فقط[91].

هذه بعض معلوماتها التاريخية..

أما معلوماتها الطبية، فقد كانت أفضل وأنجح الوسائل العلاجية في نظرها إقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض، ورسم إشارة لصليب ووضع صور العذراء والقديسين تحت رأس المريض ليشفي.

ولم تكتف الكنيسة بأن تتبنى هذه المعلومات التي وضح خطأ أكثرها بعد النهضة العلمية .. بل إنها راحت تدافع عنها .. وتستخدم الدين في دفاعها ..

وقد حصل بسبب ذلك، ذلك الفصام الذي تعرفون بين العلم والدين ..

لقد راحت السلطة الكنسية في ذلك الحين تعلن حالة الطوارئ ضد العلماء والباحثين الذين هداهم علمهم وبحثهم إلى الاختلاف مع الكنيسة ..

وقد شكلت لأجل ذلك محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال.. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها.. وبذلك قامت المعركة بين الكنيسة والعلم، وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام.

لقد كان من أول النظريات العلمية التي صادمت الكنيسة نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية، فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة المصدر الوحيد للمعرفة، وكانت فلسفتها تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون، وتقول أن الأجرام السماوية كافة تدور حولها.

فلما ظهر كوبرنيق بنظريته القائلة بعكس ذلك كان جديراً بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، ولم ينج من ذلك لأنه كان قسيساً، بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فلم تعط  المحكمة فرصة لعقوبته، إلا أن الكنيسة حرمت كتابه (حركات الأجرام السماوية)، ومنعت تداوله وذكرت أن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.

وقد ظن رجال الكنيسة أن أمر هذه النظرية قد انتهى، ولكن رجلاً آخر هو (جردانو برونو) بعث النظرية بعد وفاة صاحبها، فقبضت عليه محكمة التفتيش، وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600م وذرت رماده في الهواء وجعلته عبرة لمن اعتبر.

وبعد موته ببضع سنوات كان (جاليلو) قد توصل إلى صنع المرقب (التلسكوب)، فأيد تجريبياً ما نادى به أسلافه نظرياً، فكان ذلك مبرراً للقبض عليه ومحاكمته، وقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان، وأمر بتلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات[92]..

ولما خشي على حياته أن تنتهي بالطريق التي انتهى بها برونو أعلن ارتداده عن رأيه، وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة قائلاً:( أنا جاليلو.. وقد بلغت السبعين من عمري.. سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض[93])

ولم يكتف بهذا التعهد.. بل أضاف إليه التعهد بتبليغ المحكمة عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد هذا الزعم المضلل[94].

أتدرون ما الذي جعل الكنيسة تصر على تلك الآراء كل ذلك الإصرار؟

لقد رأت الكنيسة أن الأرض يجب أن تكون مركز الكون الثابت لأن الأقنوم الثاني.. الذي هو المسيح.. تجسد فيها، وعليها تمت عملية الخلاص والفداء، وفوقها يتناول العشاء الرباني.

وأضافوا إلى هذا ما فهموه من قول التوراة:( الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق)  (انظر: سفر الجامعة:1/ 5-6 )

أما كروية الأرض وسكنى جانبها الآخر، فنفتها الكنيسة بحجة أن (من خطل الرأي أن يعتقد الإنسان بوجود أناس تعلو مواطئ أقدامهم على رؤوسهم وبوجود نباتات وأشجار تنمو ضاربة إلى أسفل، وقالت إنه لو صح هذا الزعم لوجب أن يمضي المسيح إلى سكان الوجه الآخر من الأرض ويموت مصلوباً هناك من أجل خلاصهم »[95] 

سكت قليلا، ثم قال: لقد اصطدم هذه الآراء التي تتنافى مع الواقع كما تصطدم نظيراتها من الآراء .. فلم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، ظلت راسخة في الفلسفة الأوروبية عامة.

وذلك ما أحدث أثرا خطيرا في ثقة الجماهير بالكنيسة جعلتهم يشكون في سلامة معلوماتها، وهو أثر له أهميته القصوى.

لقد قدم ذلك الصراع إيحاءات فلسفية جديدة، هزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوربية وحطت كذلك من قيمة الإنسان ومكانته في الوجود.

والأخطر من ذلك كله هو ما حصل من ثورة العلماء على الكنيسة كما ثار العامة عليها.. وتولد من تلك الثورة جاهلية جديدة فصلت العلم عن المبادئ والمثل[96].

التفت إلى الجمع، وقال: إن الجنوح عن الواقع لم يكن مختصا بالكنيسة .. لقد رأيت في كثير من قوانين العالم ما يملؤك بالغثاء ..

سأضرب لكم مثالا على ذلك .. إنه عن معاقبة الحيوان إذا ارتكب جريمة ..

ضحكنا جميعا، فقال: لم تضحكون؟

قال رجل منا: لأن الجريمة مختصة بالعقلاء المكلفين .. أما الحيوان المسكين .. فليس له عقل .. وليس أي قوانين من القوانين التي تحكمنا.

قال خبيب: ومع ذلك .. فقد بحثت في هذا في شرائع الأمم وقوانينها عندما كنت أبحث عن واقعية الشرائع .. وقد رأيت من العجائب أن أكثر الشرائع كانت تعتبر الحيوانات جناة، وكانت تقيم عليهم لذلك ما تراه لها أهواؤها من العقوبات:

فشرائع اليهود ـ مثلا ـ تقرر وجوب رجم الثور إذا نطح رجلاً فقتله .. لقد نص سفر الخروج على أنه: (إذا نطح ثور رجلا أو امرأة، وأفضى ذلك إلى موت النطيح، وجب رجم الثور، وحرم أكل لحمه) (الخروج :21) .. إن هذا النص صريح في اعتبار الثور أهلاً لاحتمال المسئولية الجنائية، وفي اعتبار رجمه جزاءً بالمعنى القانوني الدقيق لكلمة الجزاء، وقد تولدت مسئوليته تلك من جرم أحدثه ووقعت نتائجه عليه وحده .

وعند اليونان وجدت محاكمات خاصة للحيوانات في شرائع اليونان القديمة، ذكر فيها أفلاطون في (القوانين) أنه إذا قتل حيوان إنسانًا كان لأسرة القتيل الحق في إقامة دعوى على الحيوان أمام القضاء، وفي حالة ثبوت الجريمة على الحيوان، يجب قتله قصاصًا.

وبلغ الأمر عند قدماء الفرس غاية الحماقة والعجب، إذ ورد في أسفار الأبستاق أو الأفستا[97] أن الكلب المصاب بالكَلِب (داء الكلب) إذا عض خروفا فقتله، أو إنسانا فجرحه قطعت أذنه اليمنى .. فإن تكرر منه ذلك قطعت أذنه اليسرى، وفي المرة الثالثة تقطع رجله اليمنى، وفي الرابعة رجله اليسرى، وفي الخامسة يستأصل ذنبه.

وفي القرون الوسطى كانت فرنسا أول أمة أوروبية أخذت في القرن الثالث عشر بمبدأ مسئولية الحيوان ومعاقبته بجرمه أمام محاكم منظمة .. ثم أخذت بذلك (سردينيا)، ثم بلجيكا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وفي هولندا وألمانيا وإيطاليا في منتصف القرن السادس عشر الميلادي .. وظل العمل به قائمًا عند بعض الشعوب حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

كانت محاكم الحيوان عند الأوروبيين تقوم على ادعاء المجني عليه أو النيابة العامة، ثم يتقدم وكلاء الدفاع عن الحيوان المجرم، وقد تقضي المحكمة بحبس الحيوان احتياطيًا، ثم يصدر الحكم بعد ذلك، وينفذ على ملأ من الجمهور، كما كان ينفذ على الإنسان. وقد يكون الحكم بإعدام الحيوان رجمًا، أو بقطع رأسه أو بحرقه، أو بقطع بعض أعضائه قبل إعدامه.

ضحكنا .. فقال: لا تظنوا أن هذه المحاكمات كانت هزلية للتسلية، بل كانت جدية تمامًا، بدليل ما يرد للأسباب الموجبة للحكم على الحيوان من مثل قولهم: (يُحكم بإعدام الحيوان تحقيقًا للعدالة)، أو(يُقضى عليه بالشنق جزاء لما ارتكبه من جرم وحشي فظيع)..

سكت قليلا، ثم قال: ليست هذه الممارسات الجائرة مع الحيوانات في تاريخهم القديم والوسيط فقط، بل ما زالت مستمرة إلى الآن في بعض أقطارهم، وليس أدل على ذلك من استمرار المسابقات الوحشية ، المعروفة بمصارعة الثيران في أسبانيا و وموزمبيق، واليونان، وإيطاليا، وبولندا.. تلك المسابقات التي يجتهد فيها المصارع أن يقتل الثور تدريجيًا ليذيقه الموت البطيء، وذلك عن طريق رمي السهام في جسده، ورؤية دمائه تتفجر من كل مكان في جسده، لا لشيءٍ إلا لمجرد التسلية والاستمتاع.

إن هذه المصارعات تقام في حلبات كبرى يشاهدها الجمهور بكل حماس، وهو سعيد بتعذيب الثور بهذه الطريقة... ويدعون ذلك ضربًا من الحضارة.. حتى إن الإحصائيات تشير إلى أن ما يقرب من 35 ألف ثور تُعذَّب وتموت سنويًا في أسبانيا وحدها، ونحو10 آلاف ثور في حلبات أوروبا[98].

ظهر الأسف على المستمعين، فقال: أعتذر إليكم .. لم أكن قصدي أن أسيء إليكم .. ولكني أريد أن أقول لكم بأن التطور والحضارة والتقدم لا تعني القيم ..

قد تكون متطورا غاية التطور .. ولكنك فقير غاية الفقر من كل القيم الرفيعة التي تكون جبلية في الشعوب التي تحتقرها، وتسمها بالبدائية..

قلنا: فكيف وقفت الشريعة الإسلامية من مثل هذا؟

قال: لقد ذكرت لكم أن الشريعة الإسلامية عدل كلها ورحمة كلها .. ولذلك نظرت إلى الحيوان باعتباره حيوانا[99].. وهو من جهة أخرى سخر للإنسان كما سخر له سائر الأشياء .. فلذلك لم تجز قتله إلا للضرر المتوقع منه .. والضرر هنا ليس ضررا تكليفيا .. والقتل هنا ليس عقوبة ..

لقد تعاملت الشريعة معه في هذه الأحوال كما تتعامل مع السم .. فلا يمكن لعاقل أن يحاكم السم .. فالسم سم.. هذه طبيعته .. ولا يمكن لأحد أن يحاكم أحدا على ما تقتضيه طبيعته.

قال رجل منا: لقد ضربت لنا النماذج عن مدى واقعية الشرائع المختلفة .. ولكنك لم تحدثنا عن مدى واقعية الشريعة التي تريد أن تقدم روحك ضحية لنصرتها.

قال خبيب: بما أن هذه الشريعة شريعة ربانية .. والله أعلم بعباده .. أعلم بثوابتهم وأعلم بمتغيراتهم .. فقد راعت الشريعة الثوابت، فحافظت عليها، وأكدتها .. وتركت في نفس الوقت فرصة لتحرك المتغيرات حتى لا تضيق حياة أحد بالتضييق فيها.

قال الرجل: ما أسهل أن يقال هذا في أي شريعة من الشرائع!؟

قال خبيب: صدقت .. أنت تبحث عن التفاصيل .. سأذكر لك من باب الإشارة منها ما يدلك على مجامعها.

لقد وجدت من خلال بحثي في مدى واقعية الشرائع المختلفة أن الخلل دخل فيها بسببن:

أحدهما مرتبط بمصادر هذه الشرائع .. فقد وجدت أنها مصادر متشددة متزمتة لا تتيح للعقل التكيف مع الوقائع المختلفة مهما كانت خاضعة للتغير..

وأما الثاني، فهو مرتبط بالأحكام، وعدم التمييز فيها بين المتغيرات والثوابت ..

المصادر:

قلنا: فحدثنا عن واقعية المصادر الإسلامية.

قال: لقد وجدت أن المصادر الإسلامية تنقسم إلى قسمين[100]:

أما أولاها، وهي الأصل الذي تستنبط منه الثوابت، فهو ما يسمى بـ (المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع).. وهي تتمثل في كتاب الله، وسنة رسوله r، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن .. وكلاهما مصدر إلهي معصوم، لا يصح إسلام المسلم إلا بالتسليم لهما، كما قال تعالى :﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:32).. وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).. وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (لأنفال:20).. وقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33)

وأما الثانية .. فهي ما يسمى بـ (المصادر التبعية) .. أو (المصادر الاجتهادية) .. وهي مصادر اختلف فقهاء المسلمين في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ومقال ومكثر .. وهي الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغيرها ..

قال رجل منا: ألا ترى أن المصادر الأصلية .. والتي لا مجال للنقاش فيها تقمع التغير والتطور .. وبالتالي تحجر على العقول التفكير السليم الذي يخدمها؟

قال خبيب: لقد بحثت فيها بهذه النية .. فوجدتها على عكس ذلك تماما .. لقد وجدتها تنير للعقول الدروب السليمة التي تتيح لها التفكير السليم .. ولم أجد فيها أي قمع للعقول أو حجر عليها ..

سأضرب لك أمثلة تقرب لك ما اكتشفت من ذلك:

وسأبدا بما يملأ دنيانا ضجيجا .. قومنا يسمونها الديمقراطية .. أو اشتراك الشعب في اتخاذ القرار .. والقرآن يعطي بديلا لذلك يسميه (الشورى) .. لقد قال الله تعالى في وصف المجتمع المثالي للمؤمنين :﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38) .. انظروا كيف قرن القرآن الشورى بأعظم شرائعة من الصلاة والزكاة .. بل إنه جعلها وسطا بين الصلاة والزكاة.

ولذلك فإن الأحكام الفقهية المستنبطة من هذه الآيات تنص على أنه لا يجوز لحاكم، ولا لمجتمع، أن يلغي الشورى من حياته السياسية والاجتماعية .. ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون، بالتسلط والجبروت.

هذا القسم الذي فهمه الفقهاء من الآية يسمى ثابتا .. وأنتم ترون أن القيمة التي يحملها قيمة ثابتة ..

أما المرونة التي رأيت أن النص يحملها .. ويحث العقل على التفكير فيها .. فهي الآلية التي تمارس بها الشورى .. فأنتم ترون أنه ليس في الآية أي تحديد لشكل معين للشورى، يلزم به الناس في كل زمان وفي كل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي، إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال.

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر قريب من هذا يمثله قوله تعالى :﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(النساء: من الآية58)، وقوله :﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)

لقد أوجب الله تعالى في هذه الآيات التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله، والحذر من اتباع الأهواء، وكل هذا من الثوابت التي لا يصح التساهل فيها .. وهي بالإضافة إلى ذلك من القيم التي لا ينبغي لأحد أن يجادل فيها.

أما المرونة التي تحملها هذه النصوص .. فهي أنها لم تنص على شكل معين للقضاء والتقاضي، وهل يكون من درجة أو أكثر؟ وهل يسير على أسلوب القاضي المفرد أم على أسلوب المحكمة الجماعية؟ وهل يكون هناك محكمة جنايات وأخرى للمدنيات؟ .. لقد تركت الشريعة الإسلامية هذا وغيره متروكا لاجتهاد أولي الأمر، وأهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور، وليس للشارع قصد فيه إلا إقامة العدل، ورفع الظلم، وتحقيق المصلحة، ودرء المفسدة.

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر قريب من هذين .. يمثل هدي القرآن المرتبط بتحقيق العدل والسلام في المجتمع الإسلامي .. لقد ورد هذا المثال في أطول آية من القرآن الكريم .. والتي اصطلح العلماء على تسميتها آية الدين.

يقول الله تعالى في هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)

تأملوا جيدا ما ورد في هذه الآية من أحكام .. إنها أحكام كثيرة مفصلة .. ولكن مع ذلك لا ترى في التفاصيل إلا الثوابت .. فهي تحث على العدل .. وعلى ألا يظلم أحد أحدا .. وعلى التوثيق .. وعلى توفير كل الوسائل التي تؤدي إلى تحقيقه ..

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر يرتبط بناحية تعبدية .. وهي تقديم القرابين للتكفير عن بعض الخطايا .. لم يرد هذا في الإسلام إلا في عبادة الحج .. والمقصد الشرعي منه واضح .. فالحجيج يأتون من كل مكان .. وفيهم الفقراء، وتلك القرابين من الصدقات التي قد تقدم لهم .. لقد نص الله تعالى على هذه القرابين المكفرة في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة:95)

انظروا كيف نصت الآية على الحكم الثابت .. ثم تركت التفاصيل للظروف المختلفة ..

قارنوا هذا بما ورد في الكتاب المقدس حول نفس الموضوع .. لا يمكنني أن أقرأ لكم ما ورد من ذلك .. إن الأحكام المرتبطة بهذا هي أكثر ما ورد في الكتاب المقدس من أحكام[101] .

التفت إلي، وقال: صحح لي بعض ما أقع فيه من أخطاء .. فلي مدة طويلة لم أراجع ما أحفظه من الكتاب المقدس ..

أخذ يقرأ من ذاكرته من بداية سفر اللاويين: (ودعا الرّبُّ موسى وكلَّمَهُ مِنْ خيمَةِ الاجتِماعِ فقالَ: ( قُلْ لِبني إِسرائيلَ: إذا قرَّبَ أحدٌ مِنكُم قُربانًا لِلرّبِّ مِنَ البَهائِمِ، فَمِنَ البقَرِ والضأنِ يُقرِّبُه. إنْ كانَ قُربانُه مُحرَقَةً مِنَ البقَرِ، فذَكَرًا صحيحًا يُقرِّبُهُ. يُقدِّمُهُ عِندَ بابِ خيمةِ الاجتِماعِ ليكونَ مقبولاً أمامَ الرّبِّ. ويضعُ يدَهُ على رأسِ المُحرَقةِ، فيَقبَلُها الرّبُّ مِنهُ تكفيرًا عَنهُ. ويذبَحُ العِجلَ أمامَ الرّبِّ، فيُقرِّبُ بَنو هرونَ الكهَنةُ الدَّمَ ويَرُشُّونَه على أربعةِ جوانِبِ المذبَحِ الذي عندَ بابِ الخيمةِ. ويَسلَخ الرَّجلُ المُحرَقَةَ ويُقَطِّعُها قِطَعًا. ويجعَلُ بَنو هرونَ الكهَنةُ نارًا على المذبحِ ويُرتِّبونَ علَيها حطَبًا، ويُرتِّبونَ فَوقَ الحطَبِ قِطعَ اللَّحمِ معَ الرَّأسِ والشَّحْمِ. وأمَّا الأمعاءُ والأكارعُ فيغسِلُها الرَّجلُ بالماءِ، ويُوقِدُ الكاهنُ هذا كُلَّهُ على المذبحِ مُحرَقَةً وقيدَةً تُرضي رائِحَتُها الرّبَ. وإنْ كانَ قُربانُهُ مُحرَقةً مِنَ الضأْنِ أوِ المعَزِ، فذَكرًا صحيحًا يُقَرِّبُهُ. يذبَحُهُ على جانبِ المذبحِ جهَةَ الشِّمالِ أمامَ الرّبِّ، فيرُشُّ بَنو هرونَ الكهنَةُ دَمَهُ على أربعةِ جوانبِ المذبحِ. ويُقطِّعُهُ قِطعًا ويَفصِلُ رأسَهُ وشَحْمَه، فيُرتِّبُها الكاهنُ على حطَبِ نارِ المذبَحِ. وأمَّا الأمعاءُ والأكارِعُ فيَغسِلُها الرَّجلُ بالماءِ، ويُوقِدُ الكاهنُ هذا كُلَّه على المذبحِ مُحرَقةً وقيدَةً تُرضي رائِحَتُها الرّبَ.

وإن كانَ قُربانُهُ للرّبِّ مُحرَقَةً مِنَ الطَّيرِ، فليَكُنْ مِنَ اليَمامِ أو مِنْ فِراخ الحَمامِ. فيُقَرِّبُه الكاهنُ إلى المذبحِ ويَحُزُّ رأسَه، ثُمَ يوقِدُهُ ويعصِرُ دَمَهُ على حائِطِ المذبَحِ. ويَنزَعُ الكاهنُ حَوصَلَتَهُ بِما فيها ويطرحُها إلى جانبِ المذبَحِ شرقيَ موضِعِ الرَّمادِ. ويخلَعُ جناحَيهِ ولا يفصِلُهُما. ويوقِدُهُ الكاهنُ على حطَبِ نارِ المذبَحِ مُحرَقَةً وقيدَةً تُرضي رائِحَتُها الرّبَ) (اللاويين: 1/1-15)

سكت قليلا، ثم قال: لم أقرأ لكم إلا ما يرتبط بقرابين الحيوانات .. هناك قرابين أخرى .. وهي الأخرى لا تخلو من التفاصيل الكثيرة التي لا مبرر لها ..

اسمعوا مثلا ما ورد حول قرابين الحنطة .. : ( وإذا قرَّبَ أحدٌ قربانَ تقدمةٍ للرّبِّ، فليَكُنْ قُربانُهُ دقيقًا يَصُبُّ علَيهِ زيتًا ويضَعُ لُبانًا. ويجيءُ بهِ إلى بَني هرونَ الكهَنةِ، فيأخذُ الكاهنُ مِلْءَ قبضَتِهِ عَيِّنَةً مِنَ الدَّقيقِ والزَّيتِ وكُلِّ اللُّبانِ ويوقِدُها على المذبَحِ وقيدَةً تُرضي رائِحَتُها الرّبَ. وتُذَكِّرُهُ بمقدِّمِها. وما فضَلَ مِنَ التَّقدِمةِ يكونُ لِهرونَ وبَنيهِ، وهوَ مُقَدَّسٌ كُلَ التَّقديسِ لأنَّهُ مِنَ الوَقائِدِ المُقَرَّبَةِ للرّبِّ. وإنْ قرَّبْتَ قُربانَ تَقدِمةٍ مَخبوزًا في تَنُّورٍ، فليَكُنْ أقراصَ فطيرٍ مِنْ دَقيقٍ مَلتوتَةً بِزيتٍ، ورِقاقَ فطيرٍ مَمسوحةً بِزيتٍ. وإنْ كانَ مَخبوزًا على الصَّاج، فليَكُنْ فطيرًا مِنْ دَقيقٍ مَلتوتًا بِزيتٍ، 6تَفُتُّهُ فُتاتًا وتَصُبُّ علَيهِ زيتًا فهوَ قُربانُ تَقدِمةٍ. وإنْ كانَ مَقليُا، فتعملُهُ دقيقًا بزيتٍ وتجيءُ بهِ تَقدِمةً إلى الرّبِّ وتُناولُهُ إلى الكاهنِ، فيَقتَرِبُ بهِ إلى المذبَحِ ويرفَعُ عَيِّنَةً تذكاريَّةً مِنهُ ويوقِدَها على المذبَحِ وقيدَةً تُرضي رائِحَتُها الرّبَ. وما فَضَلَ مِنَ التَّقدِمةِ يكونُ لِهرونَ وبَنيهِ، وهوَ مُقَدَّسٌ كُلَ التَّقديسِ لأنَّهُ مِنَ الوقائِدِ المُقَرَّبَةِ للرّبِّ. كُلُّ تَقدِمةٍ تُقَرِّبونَها لِلرّبِّ لا تَعجنوها بِخميرٍ، لأنَّ الخميرَ والعسَلَ لا يُوقَدُ مِنهُما وقيدَةٌ للرّبِّ. تُقَرِّبونَ بَواكيرَهُما قُربانًا للرّبِّ، ولكِنْ إلى المذبَحِ لا تُصعِدوهما، فرائِحَتُهُما لا تُرضي الرّبَ. وتُمَلِّحونَ كُلَ قُربانِ تَقدِمةٍ بالمِلْحِ، لأنَّ المِلْحَ رمزُ العَهدِ بَينَكُم وبَينَ إلهِكُم. فلا تَجعَلوا قَرابينَ التَّقدِمةِ خاليةً مِنَ المِلْحِ، بل قرِّبوا المِلْحَ في جميعِ قرابينِكُم. وإنْ قرَّبتَ مِنْ بَواكيرِ الغَلَّةِ تَقدِمةً للرّبِّ، فليكُنْ فريكًا مَشوِيُا بالنَّارِ، جريشًا مِنَ السُنْبُلِ الطَّريءِ. وتجعلُ علَيها زيتًا وتضَعُ لُبانًا، فهيَ قربانُ تَقدِمةٍ. فيُوقِدُ الكاهنُ عَيِّنةً تَذكارِيَّةً مِنْ جريشِها وزَيتِها معَ جميعِ لُبانِها وقيدةً للرّبِّ) (اللاويين: 1/1-16) 

قال رجل منا: نعلم ما في الكتاب المقدس من مثل هذا .. فحدثنا عن شريعة الإسلام .. لقد ذكرت لنا أن القرآن يحوي الثوابت .. لكنه يترك التفاصيل ليحكم فيها على ضوء الظروف المختلفة.

قال خبيب: ذلك صحيح ..

قال الرجل: ولكنا نرى القرآن يفصل أحكام المواريث تفصيلا يكاد يكون مبالغا فيه .. إنه يعطي كل واحد من الورثة بدقة شديدة ..

قال خبيب: لقد رأيت القرآن يعطي الورثة بحسب قرابتهم من الميت .. أليس كذلك؟

قال الرجل: ولكنه لا يذكر العموميات التي تتيح للفقهاء التصرف بحسب الظروف المختلفة .. إنه يقسم التركة بدقة شديدة.

قال خبيب: ذلك أن كل ما يرتبط بالمواريث من الثوابت .. فمنذ بدأ البشر والابن ابن .. والبنت بنت .. والأب أب .. والأم أم .. وهكذا ..

ولهذا فإن القرآن الكريم ـ حرصا على العدل ـ يذكر الثوابت المرتبطة بهذه الثوابت حتى لا تتلاعب بها العقول والأهواء.

قال رجل: لقد ذكرت لنا القرآن .. وأنه ترك المجال للعقول لتتحرك ضمن ثوابته .. ولكنك ذكرت أن السنة تشرح القرآن .. ألا يؤدي هذا إلى تحويل المتغيرات التي تركها القرآن الكريم إلى ثوابت؟

قال خبيب: نرى في السنة كما نرى في القرآن الكريم كلا الأمرين: الثوابت والمتغيرات جميعا:

سأضرب لكم مثلا مقربا لهذا من سيرة رسول الله r وحياته الدعوية .. وفي كليهما تتجلى الثوابت والمتغيرات بأجلى صورة:

أنتم تعرفون أن محمدا r كان في ثباته على مبادئه كالطود الأشم .. لقد رفض التهاون أو التنازل عن كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية.

لقد حاول المحاولون أن يثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات، أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير فكان موقفه هو الرفض الحاسم، الذي علمه إياه القرآن في مواقف شتى.

فحين عرض عليه المشركون، أن يلتقوا معه في منتصف الطريق، فيقبل شيئا من عبادتهم ويقبلوا شيئا من عبادته .. أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا إلهه مدة .. كان الجواب الحاسم يحمله الوحي الصادق في سورة قطعت كل المساومات وحسمت كل المفاوضات، وهي قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ﴾ (الكافرون)

ولما تلا عليهم آيات الله بينات، منكرة عليهم شركهم وعنادهم، قالوا له ـ كما نص القرآن الكريم ـ :﴿ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ﴾ (يونس: من الآية15) وقد أرشده الله إلى كيفية جوابهم، فقال :﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (يونس: من الآية15)

في مقابل هذا نجد مرونة واسعة في مواقفه السياسية في مواجهة من واجهوه بالمحاربة، بما يتطلبه الموقف المعين، من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات، دون تزمت أو تشنج أو جمود.

ففي يوم الأحزاب مثلا أخذ r برأي سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ في حفر الخندق حول المدينة.. وشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء بعض المهاجمين مع قريش جزءا من ثمار المدينة، ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم، كسبا للوقت إلى أن يتغير الموقف..وقال لنعيم بن مسعود الأشجعي ـ وقد أسلم، وأراد الانضمام إلى صفوف المسلمين ـ : ( إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت)

ومثل ذلك يوم الحديبية .. لقد قال رسول الله r في ذلك اليوم: (والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)

قارنوا هذا بقوله فيما يرتبط بالثوابت : (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته )

بل إنه r في هذا اليوم قبل أن يكتب في عقد الصلح: (باسمك اللهم) بدل (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي تسمية ترفضها قريش.

بل إنه r ـ فوق ذلك كله ـ قبل أن يمحو كلمة (رسول الله) بعد اسمه الكريم، على حين رفض علي ـ رضي الله عنه ـ أن يمحوها بعد كتابتها.

بل إنه r قبل من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين، وإن كان في عاقبته الخير كل الخير.

أتدرون ما سر هذه المرونة في هذه المواقف مع ثباته في المواقف الأخرى؟

قلنا: ما سرها؟

قال: لقد كانت المواقف الأولى مرتبطة بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فهذا لم يقبل r فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته.. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية، وبسياسات وقتية، أو بمظاهر شكلية، فوقف فيها موقف المتساهل.

قال رجل منا: إن ما ذكرته مرتبطة بالسيرة .. والسيرة ليست إلا الحياة الشخصية للنبي r .. ونحن نبحث عن التشريعات ..

ابتسم خبيب، وقال: إن المؤمنين لا يفرقون في استنباطاتهم بين سنة وسيرة .. فحياة رسول الله r كلها موضع أسوة .. لقد قال تعالى يقرر هذا :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ (الأحزاب:21)

قال الرجل: لكن هناك دائرة أخرى غير الدائرتين اللتين ذكرتهما .. قد يكون فيهما من التشديد ما يجعل حياة الناس بعيدة عن الواقع مليئة بالحرج والضيق.

قال خبيب: تقصد دائرة الاجتهادات الفقهية؟

قال الرجل: أجل .. ففي هذه الدائرة يبسط الفقهاء سلطتهم على الأمة .. فيضيقوا حياتها بما شاءوا من التشريعات.

قال خبيب: الفقهاء عندنا ليسوا كما تعرفون عن رجال الدين .. إنهم مجتهدون .. قد يصيبون، وقد يخطئون .. وهم لا يفرضون آراءهم فرضا .. بل يحثون الأمة أن لا تسلم لهم تسليما مطلقا

لقد كان ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ وهو الفقيه والمفسر يقول:(ليس منا إلا ويؤخذ من قوله ويدع غير النبي r) وكان يعاتب أصحابه يقول لهم:(يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله r وتقولون قال أبو بكر وعمر)

وكان أبو حنيفة يقول: (إذا قلت قولاً كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله )، فقيل له: (إذا كان قول رسول الله r يخالفه)، قال:( اتركوا قولي لخبر رسول الله r)

وكان أبو يوسف يقول: (لايحل لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا)

وكان مالك يقول:(إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه )، وقال:( ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر r )

وكان الشافعي يقول:(أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله r لم يكن له أن يدعها لقول أحد)، وقال: ( إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط)

وكان أحمد يقول: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)، وقال:( لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا)

وغيرهم كثير.. كلهم ردد هذا وحث عليه[102].

إن الفقيه المسلم مقيد بالنصوص المحكمة الثابتة من القرآن والسنة .. وهي المجزوم بثبوتها، القاطعة في دلالتها ..

لقد أراد الشارع الحكيم من تلك النصوص أن تلتقي عندها الأفهام، ويرتفع عندها الخلاف، وينعقد عليها الإجماع، فهي أساس الوحدة الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم، وهي للأمة كالجبال للأرض تمسكها أن تميد، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل.

ومع هذا التقيد الملزم، يجد الفقيه المسلم نفسه في حرية واسعة أمام منطقتين فسيحتين، من مناطق الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر.

قلنا: ما هما؟

قال: أما أولاهما، فهي ما يمكن تسميته: (منطقة الفراغ التشريعي) .. وهي المنطقة التي تركتها النصوص ـ قصدا ـ لاجتهاد أولي الأمر بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي.

 لقد ورد النص على هذه المنطقة في قوله r : (الحلا ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو ما عفا عنه)[103]

وفي حديث آخر قال r : (ما أحل الله تعالى في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عاقيته ، فان الله لم يكن لينسى شيئا)[104]

وفي حديث آخر قال r : ( إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)[105]

فالحدود التي قدرها الشرع، لا يجوز اعتداؤها، مثل تحديد الطلاق الذي تجوز بعده الرجعة بمرتين، وتحديد عدة المطلقة بثلاثة قروء أو بضع الحمل، وتحديد أنصبة الورثة في تركة الميت، وتحديد نصاب الزكاة ومقدار الواجب فيها، وكذلك العقوبات المقدرة بمقادير محددة.

ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ومثل ذلك الجهاد، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل وغيرها.

ومثل ذلك المحرمات اليقينية، مثل: الشرك والسحر، والقتل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، والزنى وشرب الخمر، والسرقة وشهادة الزور، ونحوها.

وما عدا هذه الحدود والفرائض والمحرمات، فهي أمور مسكوت عنها، متروكة للاجتهاد ..

قال الرجل: ألا ترى أن في هذه المنطقة تقصيرا من الشريعة؟

قال خبيب: لا .. هذه المنطقة علامة كمال الشريعة .. لقد كان القرآن الكريم يربي الصحابة عليها .. فقد ورد فيه النهي عن كثرة السؤال .. فكثرة السؤال لا تفضي إلا إلى التعقيد ..

قلنا: كثرة السؤال تفضي إلى التوضيح .. لا إلى التعقيد.

قال: وقد تفضي إلى التعقيد .. لقد قص علينا القرآن الكريم نموذجا لذلك .. قال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)﴾ (البقرة)

انظروا .. لقد كان في إمكان بني إسرائيل حسبما تنص الآية أن يسارعوا فينفذوا الأمر في أي بقرة تأتيهم .. لكنهم أبوا إلا أن يشددوا في التفاصيل، فشدد الله عليهم.. فكانت كثرة السؤال سبب التعقيد الذي حصل لهم.

على خلاف هذا كان أصحاب رسول الله r الذين تأدبوا بآداب القرآن الكريم في النهي عن كثرة الأسئلة .. قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : ( ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد r ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة[106] حتى قبض r كلها في القرآن :﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ (البقرة: من الآية222).. ﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ (البقرة: من الآية220).. ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ (البقرة: من الآية217) .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم)

قال رجل منا: فكيف يملأ الفقهاء هذه المنطقة؟

قال خبيب: لقد ذكرت لكم أن هناك طرائق ومسالك متعددة يختلف في تقديرها فقهاء الشريعة ما بين قابل ورافض، ومطلق ومقيد، ومقل ومكثر.

فمن ذلك القياس بقيوده وشروطه .. ومن ذلك الاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة، وهي التي لم يجئ نص خاص من الشارع باعتبارها ولا بإلغائها .. ومن ذلك اعتبار العرف بقيوده وشروطه، ولهذا كان من القواعد الكلية الشرعية: أن العادة محكمة، وأن المعروف عرفا كالمشروط نصا.

قال الرجل: ألا ترى أن في اختلاف الفقهاء ما يشوش على الناس أمر دينهم؟

قال خبيب: لا .. الخلاف عندنا رحمة وتوسعة .. فكل العلماء عندنا سواء معتبرون .. وقد يؤخذ بقول عالم في مسألة، ويؤخذ بقول غيره في غيرها ..

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال خبيب: أنت تعلم أن البشر مختلفو المشارب والأذواق .. ولذلك يتناسب كل واحد مع صنف من الفقهاء، أو صنف من الآراء .. ومن الحرج الشديد تكليفهم جميعا بقول شخص واحد.

قلنا: عرفنا منطقة العفو .. وعرفنا قيمتها .. فما المنطقة الثانية؟

قال: هي منطقة النصوص التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعلها تحتمل معاني متعددة، تتسع لأكثر من فهم، وأكثر من رأي .. فهذه منطقة أخرى اختلف فيها الفقهاء ما بين موسع ومضيق، وما بين قياسي وظاهري، وما بين متشدد ومترخص، وما بين واقعي ومفترض.

وفي ذلك الاختلاف توسعة كبيرة .. فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، أو يصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، أو يصلح لحال ولا يصلح لغيره.

وعلى هذا نجد في الشريعة الإسلامية مواضع لم يختلف فيها اثنان من علماء الأمة باعتبارها من الأسس الثابتة التي يرتكز عليها بناء النظام الإسلامي، مثل ملكية الأرض للأفراد، وجواز استغلالها وشرعية توارثها .. فهذا ومثله لا يخالف في ثبوته ومشروعيته أحد من الفقهاء.

لكنا نراهم بعد هذا يختلفون في طريقة استغلال الأرض:

فهناك من يقول بمنع المزارعة[107]، وبإباحة المؤاجرة[108] استنادا إلى ما ورد في ذلك من آثار، وإلى المشروعية العامة للإيجار والاستئجار في سائر الأشياء.

وهناك من أباح المزارعة، مستدلا على ذلك بما صح من معاملة النبي r لأهل خيبر على أساسه، ولما فيها من المشاركة في المغنم والمغرم، ولكنه منع المؤاجرة لما فيها من مخاطرة بالبذور والنفقة والجهد دون فائدة محققة للمستأجر مع الربح المحقق للمالك، أما المزارعة ففيها اشتراك في الغنم والغرم قل أو كثر.

وهناك من أجاز المزارعة والمؤاجرة جميعا، بشرط ألا تشتمل المزارعة على شرط فاسد، لأنه لم يصح عنده نهى مطلق عن هذه أو تلك.

وهناك من أوجب في المؤاجرة أن يضع المالك من الأجرة في حالة الجوائح والآفات تصيب الزرع وفقا لقدر الخسارة، لما جاء في الحديث أن النبي r أمر بوضع الجوائح[109].

وهناك من لا يجيز المزارعة ولا المؤاجرة جميعا، ويوجب على المالك أحد أمرين: إما أن يزرع أرضه بنفسه وأدواته.. وإما أن يعيرها لغيره ليزرعها بدون مقابل، لقوله r : ( من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه)[110]

انظروا المرونة والسعة التي يجدها الفقيه المسلم، وبالتالي المجتمع المسلم إزاء هذه الآراء المتنوعة، وهذه الخصوبة الفقهية المثرية؟

إن لكل رأي من هذه الآراء مستندة الفقهي، ودليله الشرعي، ولكل منها وجهة معتبرة.

ويمكننا أن نأخذ بما نراه أرجح وأقوى وأدنى إلى تحقيق المصلحة بالنظر إلى ظروف مجتمعنا وعصرنا، دون أن ينكر علينا فقيه واحد، لأن من المتفق عليه: أنه لا إنكار على مجتهد في المسائل الاجتهادية.

قال رجل من الجمع: لقد كنت طالما أسمع من الفقهاء أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد.. فما مرادهم من ذلك؟

قال: ذلك صحيح .. فالغرض من الفتاوى هو تحقيق الشريعة على أرض الواقع .. وبما أن الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد تتغير .. فإن الأحكام الشرعية تتغير على أساسها ..

سأضرب لك مثلا يقرب لك ذلك:

لقد كان عمر بن عبد العزيز إبان ولايته على المدينة يحكم للمدعى بدعواه، إذا جاء بشاهد واحد، وحلف اليمين، فيعد يمين المدعي قائمة مقام الشاهد الثاني .. لكنه لما ولى الخلافة، وأقام في عاصمة الدولة بالشام لم يحكم إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فسئل في ذلك فقال: (لقد وجدنا أهل الشام على غير ما عليه أهل المدينة)

وما فعله عمر في الشام لا ينافي ما جاء عن النبي r أنه قضى بشاهد ويمين .. لأن قضاء النبي r بذلك يدل على جوازه ومشروعيته، ولا يدل على الوجوب والإلزام، فيجوز القضاء بالشاهد الواحد مع اليمين في بعض الحالات، وتركه في حالات أخرى بناء على اعتبارات صحيحة، كما فعل عمر بن عبد العزيز.

الأحكام:

قلنا: عرفنا واقعية مصادر الشريعة الإسلامية .. فحدثنا عن واقعية الأحكام الإسلامية.

قال: لقد وجدت من خلال بحثي في فروع المسائل التي ذكرها الفقهاء أنها جميعا تنقسم إلى قسمين: قسم يمثل الثبات والخلود .. وقسم يمثل المرونة والتطور[111].

أما القسم الأول .. فنجده في العقائد الأساسية الكبرى التي جاء الإسلام لتقريرها، من وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ..

ونجده في الأركان العملية الخمسة من الشهادتين وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وهي التي صح عن الرسول r أن الإسلام بني عليها.

وفي المحرمات اليقينية من قتل النفس، والزنى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف والغصب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها مما يثبت بقطعي القرآن والسنة.

وفي أمهات الفضائل من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.

وفي شرائع الإسلام القطعية في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول.

أما القسم الثاني .. فنجده في الفروع التفصيلية الكثيرة المرتبطة بهذه الجوانب وغيرها ..  وهي مما اختلفت فيها الأعصر والبلدان والفقهاء ..

قال ذلك .. ثم نظر إلى السماء، وقال: لا أجد مثالا يقرب هذه الشريعة في ثباتها وحركتها في نفس الوقت كمادة هذا الكون .. سواء كانت هي الذرة أو الإشعاع البسيط المنطلق عند تحطيمها، أو أية صورة أخرى.

إنها من حيث حقيقتها ثابتة الماهية .. ولكنها مع ذلك تتحرك، فتتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحور والتطور.

فالذرة ذات نواة ثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت.

وكل كوكب، وكل نجم له مداره، يتحرك فيه حول محوره، حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص.

وهكذا إنسانية هذا الإنسان، المستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة عن سائر طبائع المخلوقات حوله.. إنسانية هذا الإنسان ثابتة .. ولكن هذا الإنسان يمر بأطوار جسدية شتى من النطفة إلى الشيخوخة .. ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من مصدر إنسانيته.. ولكن هذه الأطوار جميعا لا تخرجه من حقيقة إنسانيته الثابتة. ونوازعها وطاقاتها واستعداداتها المنبثقة من حقيقة إنسانيته.

ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأراضي وتطويره .. حقيقة ثابتة كذلك .. منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون.. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض.. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته .. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور[112].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4 ـ المثالية

قلنا: حدثتنا عن الركن الثالث .. فحدثنا عن الركن الرابع.

قال: أرأيتم لو أن رجلا كان له ابن .. وكان مشفقا عليه .. وهو لذلك لا يحب أن يرفض لابنه أي طلب مهما كان ذلك الطلب .. وكان أبغض شيء إلى نفسه أن يبكي ولده  ..

وقد عرف الولد ذلك من أبيه .. فكان يصرخ باكيا لأجل أي شيء يريد أن يفرضه عليه أبوه مما فيه مصلحته ..

أجيبوني .. هل يمكن لوالد مثل هذا أن يربي ولده .. أو يعلمه .. أو يجعل منه نشئا صالحا؟

قال رجل منا: إن نسبة نجاح هذا الولد في حياته ضعيفة جدا .. فالتدليل عادة يصرف الولد عن عظائم الأمور مما لا يطيقه إلا أصحاب الهمم العالية .. فما أسهل على هذا الولد أن يصرخ باكيا رافضا للدراسة .. أو رافضا لأي مطلب من مطالب أهل الهمم.

قال خبيب: فمن ترونه سببا فيما وقع له؟

قلنا جميعا: لا شك أنه والده.

قال: أتدرون لم؟

قلنا: لأنه أعطاه هواه .. ولم يرفعه إلى المثل العالية التي يطمح لها أصحاب الهمم.

قال: لقد كان هذا هو الذي جعلني أعتقد بأن الشريعة الحقيقية لا تكفي أن تكون شريعة واقعية .. فقد تكون واقعيتها سبب انحرافها .. لأنها ستجري بذلك وراء الأهواء المختلفة تلبيها بحجة واقعيتها.

قال رجل منا: وأي حرج في أن تجري الشريعة وراء الأهواء .. ما دامت تلك الأهواء مشروعة ؟

لقد شهد العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة[113]، تقدماً كبيراً شمل جميع مرافق الحياة، ورقياً فكرياً مذهلاً استطاع به الانسان أن يسبر أعماق البحار، ويضع قدمه على جبين الأقمار وتغيرت، تبعاً لذلك، أوضاع المجتمعات ونظم الحياة، بعضها بحكم القوانين التي شرعت لتجعلهما ملائمة للتطورات الحضارية الجديدة، وبعضها بتأثير المخترعات والاكتشافات التي ظهرت واستلزمت من الانسان أن يتكيف معها، ويتخذ من الترتيبات ما يناسبها، بما في ذلك مسكنه ومأكله وملبسه وتربية أبنائه وعلاقته بأهله وسلوكه إزاء محيطه، وحتى حيال المجتمعات البعيدة عنه، مما يجعل أسلوب معيشته يختلف كثيراً عن أسلوب معيشة آبائه الأولين.

أفترى في هذا الرفاه حرجا مع الشريعة المثالية .. هل تتناقض الحياة المثالية مع الشريعة المثالية؟

قال خبيب: لا .. الشريعة لا تتناقض مع الحياة .. ولا مع الرفاه .. فالله تعالى يقول :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ (الاسراء:70) ، وقال:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (لأعراف:32)، وقال :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)

ولكن الشريعة المثالية تتناقض مع الانحرافات الخلقية ..

لقد رأيت أنه مع ذلك التقدم الكبير في المجالات التقنية وقعت الحضارة ـ بسبب التشريعات التي وضعت لها ـ في انحرافات كبيرة ..

لعل أهمها أنها حضارة مادية متنكرة للأديان مستخفة بالقيم الخلقية التي لا تستقيم بدونها مجتمعات.

لقد رأيت أن صانعي هذه الحضارة الكبار لا يفكرون إلا في المكاسب المادية والمتع البدنية ولو أضرت بالآخرين، يستوي في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكوماتهم.

لقد رأيت أن تشريعات هذه الحضارة لا يخدم الكثير منها إلا نوازع البشر الشيطانية وغرائزهم البهيمية .. لقد جعلتهم يجرون وراء الملذات ويتسابقون إلى جمع الأموال وكنز الثروات، ويتفننون في صنع آلات التدمير الكامل والإهلاك الشامل ..

وقد أدى ذلك إلى ما ترون من انتشار المخدرات، وتفشي الدعارة، وترويج أفلام الانحراف والعنف، والتلوث البيئي، والتمييز العنصري، وغش الأقوياء للضعفاء وتعريضهم لأخطار محققة ببيع الأغذية والأدوية الفاسدة لهم، ودفن النفايات المشعة المضرة بأرضهم، وحظر تصدير التكنولوجيا والآلات المتطورة إليهم، وحرمان طلبتهم من تلقي العلم في كلياتهم ومعاهدهم، وإيصاد أبواب بلدانهم في وجوههم.

أما على المستوى الدولي، فترون اللامساواة في التعامل على الساحة الدولية، فدولة يباح لها أن تقيم المصانع لإنتاج السلاح النووي والجرثومي دون أن تخضع مصانعها لأية رقابة، ودولة تقام من حولها الضجات لأنها أنشأت مصنعاً لإنتاج المواد الصيدلية أو مساحيق التجميل، هبات مالية كبرى تعطى لدولة واحدة صغيرة ويعطى أقل منها لشعوب أخرى مجتمعة أكثر سكاناً وأشد احتياجاً، وشرعية دولية تطبق بقوة الحديد والنار على شعب، وشرعية دولية تقرر في حق شعب آخر ثم يتناساها مقرروها غداة تقريرها، ومناحات تقام في كل مكان حزناً على طائر تلوث جناحه بنفط سفينة جنحت للشاطئ وأصوات خافتة تستنكر ـ نفاقاً ـ كسر سواعد أطفال بالحجارة وقتل صبيان واغتصاب نساء وذبح رجال وتهجير شعب بأكمله من دياره ..

هذا ما جنته التشريعات الواقعية التي لا تخضع لأي قيم أخلاقية .. أو مثل إيمانية ..

قال رجل منا: ليست الشريعة وحدها هي التي أنتجت هذا النتاج.

قال خبيب: للشريعة نصيبها الوافر من هذا النتاج .. لأنها هي التي قننت له .. وهي التي شرعته ..

لقد قرأت في تلك الأيام التي كنت أبحث فيها عن الشريعة المثالية خبرا يحمل عنوان ( ألمانيا تسعى لتقنين البغاء بوصفه مهنة لـ 400 ألف امرأة) .. وقد قرأت ضمنه قول محرره : ( تريد ألمانيا أن تحذو حذو هولندا التي اتخذت إجراء الخريف الماضي يقضي بالاعتراف بالبغاء مهنة، ملبية بذلك مطلبا تكرره المومسات الألمانيات منذ أكثر من عشرة أعوام, ويفترض أن يقدم تحالف حكومي بين الاجتماعيين الديموقراطيين وحزب الخضر اقتراح قانون لمجلس النواب يهدف إلى جعل البغاء نشاطا يندرج في إطار الخدمات العادية، يتمتع بفرص كبيرة لتبنيه.. ويسمح النص للمومسات بتوقيع عقود عمل وملاحقة زبائنهن أمام القضاء في حال تقصيرهم في الدفع.. كما سيتمتعن بحق تعويضات البطالة والمرض والتقاعد.. وفي المقابل ينص المشروع على إلغاء عقوبة التشجيع على البغاء المحددة في القانون الجزائي حاليا بالسجن ثلاثة أعوام.

ويعمل في ألمانيا حوالي 400 ألف مومس ينتشرن في بيوت الدعارة و الشوارع.

وتعتبر شتيفاني كلي [39 عاما] التي تعمل مومسا لحسابها الخاص منذ عشرين عامًا، وصديقاتها في لجنة العمل من أجل البغاء، هذا النص انتصارًا، ورأت انه لا يشكل سوى خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنه ليس ما وعد به حزب الخضر في السنوات الأخيرة.

وكانت كلي كسبت في 1995 دعوى رفعتها أمام المحاكم على زبون لم يدفع الأجر الذي يترتب عليه في حكم فريد من نوعه.

وتفيد استطلاعات للرأي أن حوالي 70% من الألمان يجدون البغاء أمرا طبيعيا ويرون أنه يجب الاعتراف به مهنة)[114]

لقد جعلني هذا أبحث عن شريعة نظيفة .. تحترم الإنسان، وتحترم القيم الرفيعة التي اتفق البشر جميعا على تبنيها .. فلم أجد ذلك إلا في الإسلام ..

قال رجل منا: أنت لم تقرأ إذن ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م .. لقد كان ذلك الإعلان أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه[115].

لقد تحدث هذا الإعلان بتفصيل عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.

ابتسم خبيب، وقال: إن هذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا .. كل هذا غائب من هذا القانون ..

قال الرجل: كيف تقول بغيابه .. والمادة الأولى من ذلك الإعلان حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف : (وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا) .. ألست ترى في هذا اهتماما بضمير الإنسان وعقله.

قال خبيب: أجل .. ولكن .. هل ترى في القوانين الموضوعة ما يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما..

إن كل ذلك لا يوجد .. ولذلك كان ذلك الكلام مجرد جعجعة في طحين ..

مثله مثل ما ورد في المادة الثانية عشرة من ذلك الإعلان، والتي تنص على أنه:( لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات)

فشيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو الأولى بالعناية والحماية: هل هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، أم هو مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء.

بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟

قال الرجل: لعلك لم تقرأ ما ورد في الفقرة الثانية من المادة (26) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .. لقد جاء فيها : (يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً)

ابتسم خبيب، وقال: هذا جميل .. وقد قرأته وفرحت به .. لكني صدمت بعد ذلك بالحقيقة المرة.

قال الرجل: ما هي؟

قال خبيب: لقد رأيت أن هذا الإنماء الكامل وقع مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.

غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.

فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.

ولعلكم سمعتم منذ بضعة أشهر عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ المثليين، حتى أن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداءً تضامنيًا معهم تحت شعار: (يا شواذ العالم اتحدوا)، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر .. وكل هذا يتم باسم حقوق الإنسان[116].

وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أي عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.

وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية، وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية، ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.

وباسم حقوق الإنسان يجري هدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقة حب وتعلق وتكامل ووئام.

وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.

وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء...!

قال رجل منا: إن ما تقوله صحيح .. فما سبب هذا السقوط الذي تعاني منه البشرية .. وما المخرج منه؟

قال خبيب: أما السبب فواضح .. إن البشرية انطلقت في تقريرها لحقوق الإنسان من نظرتها للإنسان .. هذا هو سبب كل الأخطاء ..

لقد نظرت إلى الإنسان ككائن طيني لا روح له ولا مواجيد ولا أشواق ولا سمو[117] .. ولذلك راحت تخدم ذلك الجانب .. راحت تدعو إلى الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه .. وكل هذه المعاني جميلة .. ولكنها ـ للأسف ـ قاصرة على خدمة الجسد ..

إنها لا تختلف كثيرا عن تلك الحقوق التي قررتها الشريعة الإسلامية للبهائم .. والتي لخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في قوله : ( القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه)[118]

وقال في موضع آخر: (فصْلٌ في الإحسان إلى الدواب المملوكة، وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك مالا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فمن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وقال : «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض (أي دعوها تأكل من نبات الأرض)، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل) وقد غفر لبغي بسقي كلب)[119]

قال الرجل: هذا السبب .. فما المخرج الذي وضعته الشريعة الإسلامية؟

قال: لقد انطلقت الشريعة الإسلامية من واقع الإنسان الذي يمثل حقيقته .. لا واقعه الذي أفرزته الشياطين .. لقد سمى الله الواقع الحقيقي للإنسان فطرة .. فقال تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)

ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الفطرة الأصلية مستعدة للخير استعدادا جبليا، وأن التغيير الطارئ عليها ليس ناشئا من طبيعتها الخلقية، وإنما نشأ من مؤثرات خارجية اقتضاها التكليف.

وفطرة الإنسان في ذلك تشبه فطر الأشياء المختلفة، فالله تعالى ـ مثلا ـ خلق الماء طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلقه الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يزل طاهراً، ولكنه بمخالطة المؤثرات الخارجية من الأنجاس والأقذار تتغير أوصافه ويخرج عن الخلقة التى خلق عليها.

وقد بينت النصوص الكثيرة هذه المؤثرات الخارجية لتفاديها، أو لإصلاح ما أفسدته هذه المؤثرات من الفطرة الأصلية.

وأول هذه المؤثرات كما يخبر رسول الله r هي المهد الذي ربي فيه الإنسان، كما قال r:( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء؟)[120] 

ومن هذه المؤثرات الشياطين، وهي أخطر المؤثرات، ولذلك اشتد التحذير منه في القرآن الكريم، وإلى هذا المؤثر يشير قوله تعالى حكاية لقول الشيطان:﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية118 ـ 119)

فالشيطان في هاتين الآيتين يتوعد بتغيير الفطرة الأصلية التي فطر عليها البشر، والتي تشمل كل شيء حتى ما يتعلق منها بالجانب الخلقي.

وإلى هذا المؤثر ـ أيضا ـ يشير قوله r  في الحديث القدسي:( قال اللّه عزّ وجلَّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)[121] 

قال الرجل: فمهمة الشريعة إذن ـ على حسب ما يبدو من قولك ـ هي الحفاظ على فطرة الإنسان.

قال خبيب: بورك فيك .. وهي بالتالي تجمع بين الواقعية والمثالية .. فالواقع الحقيقي للماء هو كونه طاهرا لا ملوثا .. ولذلك فإن المشرع الحقيقي هو الذي يستعمل كل الوسائل للحفاظ على طهارة الماء .. ويضع القوانين التي تمنع تلويثه.

قال الرجل: فما القوانين التي وضعتها الشريعة لمنع تلوث الإنسان؟

قال خبيب: الشريعة كلها بجميع تفاصيلها لم توضع إلا لمنع تلوث الإنسان .. لقد نص القرآن الكريم على أن هذا من وظائف الرسل الأساسية .. فالله تعالى يقول :﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)

لقد تكرر هذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم .. ففي سورة البقرة، قال الله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ (البقرة:129)

وفيها أيضًا :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة:151)

وفي سورة آل عمران :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ (آل عمران:164)

ليس هذا فقط .. بل قد جاءت نصوص أخرى في القرآن الكريم تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغاية القصوى والمقصد الأساسي لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله تعالى :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ (الشمس)، وقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ (الأعلى:14)

ولذلك فإن كل التشريعات التي جاء بها الإسلام تصب في هذا الجانب .. جانب تزكية الإنسان والحفاظ على طهارته:

فمن الآفات النفسية التي قد تلوث فطرة الإنسان ـ مثلا ـ آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به،  فبسبب الآفة يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون .. وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته .. فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هذه الآفة.

ولعل من أهمها اعتبار الزكاة ركنا من أركان الإسلام.. فدور هذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولاً وأساسًا .. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون غيرها من علل الزكاة ومقاصدها، قال تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ﴾ (التوبة:103)، فلم تقل الآية (خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم)، بل ذكرت طهارتهم هم .. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها.

لقد عبر العلامة الكاساني عن هذا بقوله : (الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ﴾ (التوبة:103)

وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكرُ النعمة فرضٌ عقلاً وشرعًا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة)[122]

ليست الزكاة هي الوحيدة المختصة بمعالجة هذه الآفة .. هناك أدوية كثيرة وصفتها الشريعة لذلك .. يجمعها جميعا العطاء الدائم المعبر عن طهارة النفس من داء البخل .. قال تعالى مبينا أصناف الناس في ذلك:﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى(13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ (الليل)

سكت قليلا، ثم قال: ليست العبادات وحدها هي مجال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هذا الهدف.

انظروا في كتب السنة فستجدون أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية، وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.

قال رجل من الحاضرين: إن ما تقوله جميل .. ولكن هذا ليس خاصا بالإسلام .. إن ما وصلت إليه البشرية في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.

ابتسم خبيب، وقال: أنا لا أختلف معك في أن نوعًا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، لكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدمًا ظاهريًا إلزاميًا، يظل محكومًا بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرًا حقيقيًا في النفس وفي الضمير.

أنت ترى ـ ولعلكم ترون مثله ـ أن كثيرا من دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويقلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية التي لا تعرف للإنسان حقًا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلاًّ ولا ذمة.. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحوافز القانونية والتدابير الإلزامية دعمًا للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.

ففي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيبة تزكية الإنسان نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.

لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هذا الحق حيزًا كبيرًا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله مازال حق العدالة وقوانين العدالة ملكًا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.

ولعل أهم تطور حصل في هذه المسألة هو أن الظلم أصبح اليوم قانونيًا مؤسسيًا أكثر من ذي قبل.. قديمًا كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!

أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول .. وهي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن .. قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هي تضعها وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد، بل للشعوب والدول!! أين المساواة؟

سكت قليلا، ثم قال، وهو يبتسم: لعل الفقراء المستضعفين قرأوا ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي الفقرة الأولى من ديباجته بكون (الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)

ولعلهم امتلأوا سعادة وهم يقرؤون مادته الأولى التي تقول: (يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق)

ولكن الشرود واليأس لا شك يسيطر عليهم من جديد، وهم يعودون إلى الواقع، فيجدونه واقعا مملوءا بالعفن وبالدنس وبالكذب:

أجيبوني .. هل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟

وهل يقيمون اعتبارًا للمواد القانونية المذكورة؟

إن القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان.. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟

وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم .. وهذه هي الأغلبية العظمى فيه .. ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شؤون هذا العالم ولا في شؤونهم هم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هي أساس العدالة، والعدالة هي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان؟!

قال رجل من الجمع: نحن نعرف أن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! .. ولا علاقة لذلك بالعلاقات الدولية.

قال خبيب: وهذا انحراف آخر .. كبير .. للبشرية .. فكيف يتم التركيز على حقوق الأفراد - على علاتها وآفاتها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟

على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.

قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا .. ولعل أكثرنا يمتلئ احتراقا، وهو يرى من الاستبداد والجور المغطى بالتشريعات القانونية ما يند له الجبين .. ونحن لا نسألك عن هذا .. وإنما نسألك عن الإسلام .. عن الشريعة التي ذكرت أنها جمعت بين المثالية والواقعية .. كيف رفع التشريع الإسلامي الواقع ليصبح واقعا مثاليا موافقا للفطرة التي فطر الله الناس عليها؟

قال خبيب: إن الإجابة عن سؤالك هذا يستدعي ذكر تفاصيل كثيرة لا أحسب أن الوقت يسعفني .. ولا أحسب تلك المقصلة تمهلني .. ولكني مع ذلك سأدلك على علم اصطلح فقهاء الإسلام على تسميته ( علم مقاصد الشريعة[123]) .. ففي هذا العلم يتناول الفقهاء الأغراض التي جاءت التشريعات المختلفة من أجلها.

إن هذا العلم في الحقيقية يحاول ـ بجهد متواضع ـ أن يبحث في أسرار شرع الله .. وهو لذلك يضع من التصنيفات العلمية ما يقتضيه التحقيق .. وقد يقصر في بعض ذلك.

قال الرجل: لم؟ .. ألقصور الفقهاء؟

قال خبيب: لا .. بل لعظمة شريعة الله .. فشريعة الله أعظم من أن يحاط بها أو يحاط بأسرارها .. لذلك فإن ما يذكره الفقهاء في هذا الجانب مجرد اجتهادات .. فإن توجه النقد لبعضها .. فهو نقد مشروع ما دام متوجها للفقهاء ..

قال الرجل: لم نفهم سر حملتك على الفقهاء مع تعظيمك للشريعة .. بل إنك تريد أن تقدم روحك فداء لها.

قال خبيب: الشريعة هي أحكام الله .. والفقهاء مجتهدون في فهم هذه الأحكام .. ولذلك قد يقصرون في بعض اجتهاداتهم .. أو قد تتلبس باجتهاداتهم بعض الاعتبارات الذاتية من المكان والزمان والحال والثقافة وغيرها .. ولذلك قد يقعون في التقصير بسبب هذا.

قال الرجل: فاذكر لنا خلاصة ما ذكروا .. واذكر لنا بعد ذلك ما تراه أنت مما ترى أنهم قصروا فيه.

قال خبيب: لقد انطلق الفقهاء في تقريرهم لمقاصد الشريعة من أن الله تعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم .. على الفطرة التي كنت حدثتكم عنها .. وفوق ذلك كرّمه غاية التكريم .. بل فضله على كثير من المخلوقات .. وسخر له ما في الأرض جميعًا.

وانطلقوا من أن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل بسيدنا محمد r، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، فأكمل به الدين  .. كما قال تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً ﴾ (المائدة:3)

ومن هذا المنطلق .. ومن خلال تأملهم لهذه الشريعة الخاتمة وجدوا أن غايتها الكبرى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض .. فلهذا جاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، لترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية.

وبناء على هذا حدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل.

يقول العز بن عبد السلام ـ وهو من علماء المقاصد الكبار ـ مقررا ذلك : (اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده)

ثم يقول : (وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه)[124]

قال الرجل: وما دليلهم على هذا المقصد الكبير؟

قال خبيب: لقد عرفوا ذلك من خلال الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، ولحقيقة عقدية كبرى، وهي أن الله لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع من جهة ثالثة..

لقد رأوا النصوص الشرعية في العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والعقود المالية، والسياسة الشرعية، والعقوبات، وغيرها، معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.

فالعقيدة بأصولها وفروعها جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة، والأهواء المختلفة، والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى، واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه إلى العليا، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وإنس وجن، ويترفع عن الأوهام والسخافات والخيالات، والأمثلة على ذلك واضحة وصريحة وكثيرة، من التاريخ القديم والحديث، ومذكورة في النصوص الشرعية.

وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصالح الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأن العبادات تعود منافعها للإنسان في كل ركن من أركانها، أو فرع من فروعها، والنصوص الشرعية صريحة في ذلك وكثيرة.

وفي المعاملات بيّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب النفع والخير لهم، ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش والحيف والظلم من العقود، لتقوم على المساواة والعدل بين الأطراف.

وتتجلى مصالح العباد في تحريم الخبائث والمنكرات لدفع الفساد والضرر عن الإنسان، وحمايته من كل أذى أو وهن.

وتظهر مصالح الإنسان بشكل قطعي في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل، والإحسان إلى الإنسان، وتجنب الإساءة إليه ولو بالحركة والإشارة والكلمة واللسان، واليد والتصرفات، لتسود المودة بين الناس، ويكونوا كما صورهم رسول الله r، فقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[125]

قال الرجل: ولكن المصالح مختلفة .. وهي مما يعسر ضبطه .. فكيف استطاع الفقهاء أن يميزوا بين أنواع المصالح؟

قال خبيب: لقد استقرأوا النصوص في ذلك .. ورتبوا المصالح على أساسها .. وكان لهم بعض الاجتهادات في ذلك ..

قال الرجل: فهلا دللتنا على أصول ذلك؟

قال خبيب: سأحاول أن أختصر لك ذلك اختصارا[126] ..

لقد رأى الفقهاء أن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على درجات متعددة .. فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته .. وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وليساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات .. وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم[127].

وانطلاقا من من هذا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام: المصالح الضرورية .. والمصالح الحاجية .. والمصالح التحسينية.

قال الرجل: ما مرادهم بالمصالح الضرورية؟

قال خبيب: يريد الفقهاء بالمصالح الضرورية المصالح التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة .. وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.

قال الرجل: فهذه أخطر المصالح إذن، وأعلاها درجة؟

قال خبيب: أجل .. فهذه المصالح الضرورية هي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، سواء كانت حقوقًا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسميها (الحقوق الأساسية للإنسان)، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة .. أم كانت حقوقًا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هو مصلحة مقررة شرعًا أو قانونًا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبًا والتزامًا على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها[128].

قال الرجل: فما مرادهم بالمصالح الحاجية؟

قال خبيب: يريد الفقهاء بالمصالح الحاجية المصالح التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون حياتهم بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية.

قال الرجل: فما مرادهم بالمصالح التحسينية؟

قال خبيب: يريد الفقهاء بالمصالح التحسينية المصالح التي التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.

قال الرجل: نحن نعرف (الحقوق الأساسية للإنسان)، والتي نصت عليها القوانين العالمية بغض النظر عن تطبيقها لها .. فما الحقوق التي نصت عليها الشريعة في هذا الجانب؟

قال خبيب: لقد ذكرت لك أن هذا اجتهادات فقهاء .. وبالتالي يمكنك أن تضيف انطلاقا من استقراء الشريعة ما تشاء .. وكل ما ذكره الحقوقيون من الجوانب المرتبطة بمصلحة الإنسان تقره الشريعة وتذهب إليه .. ولا تكتفي فقط بالإقرار .. بل تدعو إلى التنفيذ وتوفير كل وسائل التنفيذ.

قال الرجل: فما ذكر الفقهاء في هذا؟

قال خبيب: أكثرهم يذكر انحصار مصالح الناس في خمسة أشياء، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.

وهم يذكرون من خلال استقراء الأحكام الشرعية أن جميعها جاء لحفظ هذه المصالح، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال.

يقول الغزالي مقررا ذلك : ( ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة)، ثم يقول : (وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح)[129]

ثم يقول : ( وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر)

الدين:

قلنا: فحدثنا عن المصلحة الأولى التي اعتبرها الإسلام ضرورة من الضرورات التي جاء لحفظها.

قال خبيب: المصلحة الأولى .. وهي أم المصالح وأساسها .. ومنها تنطلق سائر المصالح .. هي حفظ الدين.

قال رجل منا: ما وجه الضرورة في الدين .. فنحن نرى قوما كثيرين لا دين لهم .. ومع ذلك يعيشون حياة طبيعية ممتلئة بالسعادة؟

قال خبيب: لقد ذكرت لكم نظرة الإسلام للإنسان .. إن الإنسان بالمفهوم الإسلامي لم يأت الدنيا عبثا .. وإنما أتى لغاية شريفة .. هذه الغاية لا يحققها إلا بالتدين .. فلذلك صار التدين مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

قال الرجل: ألا ترى أن الفقهاء بذلك يشرعون للقمع؟

قال خبيب: كيف عرفت ذلك؟

قال الرجل: إن اعتبار الدين مصلحة ضرورية يؤدي بالضرورة إلى فرضه على الآخرين .. وهذا يؤدي إلى القمع لا محالة.

قال خبيب: لقد أخطأت في فهمك هذا .. فحق التدين ـ كما تنص نصوصنا المقدسة ـ مرتبط بالعقل والفكر، وحرية الإرادة والاختيار والقناعة الشخصية للإنسان، والعقيدة تنبع من القلب، ولا سلطان لأحد عليها إلا لله تعالى.

لقد نص القرآن الكريم على حرية الاعتقاد وحق التدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقال تعالى:﴿ لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ﴾ (البقرة: 256) ، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس:99)

وأرشد القرآن إلى الدين الحق، وهو دين الفطرة، فقال تعالى :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ ﴾ (الروم:30)

ثم هدد القرآن من أعرض عن الإيمان الصحيح بالله تعالى، وبشريعته الغراء، فقال تعالى :﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ (الكهف:29)

ولم يكن ما ورد في النصوص المقدسة من هذا مجرد تعليمات توجيهية .. لا .. لقد صاحبتها الشريعة لتجعل منها واقعا ملموسا ..

فأحكام الشريعة تنص على أنه لا يلزم الإنسان على الدخول في الإسلام، قال تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ (البقرة:272). فالهداية من الله تعالى.. والرسول r والدعاة والعلماء من بعده، مجرد مبلغين وناصحين ومذكرين، قال تعالى :﴿ فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾  (الغاشية)

وبناء على هذا تنص أحكام الشريعة على أنه يترك لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته .. بل إنها تأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، وتحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتي السلم والحرب..

ولم يكن هذ مجرد كلام .. فالوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أبرمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين[130].

ولم تتوقف الشريعة عند هذا .. بل إنها تطالب المسلم أن يعامل الناس جميعًا بالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، وحسن المعاشرة، ورعاية الجوار، والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير، بدءًا من معاملة الأبوين المشركين، إلى الإحسان للأسير، إلى الإنفاق على الأقارب وصلة الرحم والجيران غير المسلمين.

لقد كان رسول الله r يزور أهل الكتاب، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وسار المسلمون على سنته ونهجه طوال التاريخ.. وكان هذ السلوك القويم أحسن وسيلة للدعوة للإسلام، والترغيب فيه، والتحبيب بأحكامه، مما دفع الملايين إلى اعتناقه.

بالإضافة إلى هذا كله .. فإن منهج الإسلام في المعاملة الإنسانية لا يفرق بين الناس في الدين والعقيدة، لذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالإنصاف ولو مع العداوة واختلاف الدين، قال تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة:8) .. وقال رسول الله r :﴿ من ظلم مُعاهِدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة)[131]

وقال r : (من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)[132] .. بل قال في حديث آخر : ( من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)[133]

وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يسأل القادمين من الأقاليم عن حال أهل الذمة، كما يسأل عن المسلمين والولاة والقضاة .. وكان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقول: (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا)

قال رجل منا: عرفنا كل هذا ووعيناه .. ونحسب أن الواقع يدل عليه .. ففي بلاد الإسلام نرى الأديان المختلفة والمذاهب المختلفة .. ولو كان الإسلام دين قمع لما ترك في الأرض التي سيطر عليها زمنا طويلا دينا غير دينه ..

نحن لا نسألك عن هذا .. وإنما نريد أن تحدثنا عن التشريعات التي وضعها الإسلام لحفظ الدين.

قال خبيب: أنتم تعرفون ما للدين من أهمية في حياة الإنسان .. إنه يلبي النزعة الإنسانية إلى عبادة الله، وهو يقوى في نفسه عناصر الخير والفضيلة ، وهو يضفي على حياته السعادة وطمأنينة ..

ولهذا نرى وجود الدين في جميع المجتمعات البشرية .. لقد قال برجستون يقرر ذلك:( لقد وجدت - وتوجد - جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات ولكن لم توجد قط جماعة بغير ديانة)

ونظرا لهذه الاعتبارات جميعا حافظت الشريعة الإسلامية على الدين ، سواء من حيث غرسه في النفوس وتعميقه فيها ابتداء ، أو من حيث تدعيم أصله وتعهده بما ينميه ويحفظ بقاءه استمرارا ودواما ، وشرعت لذلك وسائل كثيرة:

منها غرس الدين في النفوس .. وذلك عن طريق ترسيخ اليقين بأصول الإيمان وأركانه ، وهي الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، يقول الله تعالى :﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة:285)

ومنها إقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي والحجة العلمية ، ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر .. قال تعالى   :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:185)

ومنها القيام بأصول العبادات وأركان الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج ، بعد النطق بالشهادتين فهذه العبادات من أهم أسرارها وحكمها أنها تصل العبد بربه وتوثق صلته به مما يرسخ أصل الإيمان في نفسه ويجدده ، كما قال r فيما يرويه عن ربه:( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)[134]

ومنها إيجاب الدعوة إلى الله وحمايتها وتوفير أسباب الأمن لحملتها كما قال تعالى :﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، وقال تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)

قال الرجل: عرفنا ما شرعه الإسلام من أجل المحافظة على الدين من جانب الوجود .. فما شرعه من جانب البقاء؟

قال خبيب: لقد شرع لذلك وسائل كثيرة:

منها كفالة حرية العقيدة والتدين وحمايتها .. فالإسلام ـ كما ذكرت لكم، وعلى عكس ما يشاع عليه زورا وبهتانا ـ لا يكره أحدا على اعتناقه .. بل إنه يسمح بتعايش مختلف الأديان داخل دياره وفي رحاب دولته ، ويترك الحرية لأهل الأديان في عقائدهم وممارستهم التعبدية وتصرفاتهم المدنية، بل إن من أهداف الجهاد الإسلامي تأمين حرية الاعتقاد والتدين ، قال تعالى:﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً)(الحج: من الآية40)

ومنها تشريع الجهاد تمكينا للدين ودرءا للعدوان وحماية للاعتقاد، كما قال تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ﴾ (البقرة:193)، وقال تعالى :﴿ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ (الحج:78)، وقال تعالى:﴿ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75).. فالجهاد المراد هنا هو حفظ حق التدين للمسلم بأن يمارس دينه من غير أي ضغوط عليه ..

ومنها الالتزام بتعاليم الدين وتطبيقها بعد القناعة بها، وبذلك تظل للدين حيويته في النفوس وأثره في الوجدان ، ومن هنا قرن الإيمان والعمل الصالح في كثير من نصوص القرآن ، إذ كثيرا ما يرد في القرآن:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )(البقرة: من الآية277)

ومنها تشريع عقوبة الردة[135]، وذلك حتى يكون الإنسان جادا في اعتناقه للإسلام ، وحتى لا يقدم على الإسلام إلا بعد قناعة تامة ، فالإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه.. بل إن الله لا يقبل من الدين إلا ما كان نابعا عن قناعة من صاحبه ، فإذا دخله الشخص فمن المفروض أن يكون على قناعة بما اتخذ من قرار ، فإذا ارتد بعد ذلك فمعنى ذلك أنه أحدث بلبلة فكرية وسياسية تضطرب بها أوضاع المجتمع ، ويفقد استقراره الفكري والنفسي المنشود، كما قال تعالى مبينا دعوة المشركين إلى هذه السياسة:﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران:72) .. ونظرا لذلك شرعت عقوبة الردة حماية لجدية الاعتقاد، وحرمة الدين .

ولم يقتصر الإسلام على أحكام إيجاد الدين وحفظه، بل شرع الأحكام الحاجية لصيانة الدين، وبقائه على أحسن صورة، وأجملها، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عند الناس للتخفيف عنهم، فأجاز النطق بالكفر عند الإكراه، وأباح الفطر في رمضان للأعذار، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا أو مستلقيًا على جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة، والمسح على الخفين.

ثم شرع الإسلام الأحكام التحسينية للناس للحفاظ على الدين، فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة، لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بنوافل العبادات، وإقامة المساجد، والنداء للصلاة بالآذان، وهو شعار الإسلام لإعلان التوحيد الخالص.. وشرع صلاة الجماعة، وترتيب الصفوف للصلاة، وخطبة الجمعة، والعيدين، لتعليم الناس دينهم ودنياهم.. وفي الجهاد حرّم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر وإتلاف المزروعات، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وفرض التبليغ قبل الحرب، ومنع الإكراه في الدين.

الحياة:

قلنا: فحدثنا عن المصلحة الثانية التي اعتبرها الإسلام ضرورة من الضرورات التي جاء لحفظها.

قال خبيب: المصلحة الثانية .. والتي لا يمكن أن تتم سائر المصالح من دونها .. هي حفظ الحياة .. أو كما يعبر عنه الفقهاء حفظ النفس .. فالنفس الإنسانية هي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية.

قال رجل منا: لا يجادلك أحد في كون هذا من الضرورات .. فما شرع الإسلام لحفظ الحياة؟

قال خبيب: أولا .. لقد بحثت في موقف التشريعات المختلفة من هذا الحق .. فوجدت البشر قد عبثوا فيه بأهوائهم أيما عبث ..

لقد كانت بعض الشرائع تجيز قتل الأرقاء، ويتولى – أحيانًا - رئيس العائلة أو القبيلة أو الملك والسلطان حق الحياة والموت على الأفراد، وكان الأب - في الجاهلية- يحق له وأد البنات، ولا يزال هذا الخطر الداهم يهدد الإنسان حتى في الوقت الحاضر، وكثيرًا ما يقتل الأبرياء جورًا وظلمًا وعدوانًا لأوهى الحجج، وأسخف المسوغات التي لا يقرها العقل والشرع، وكثيرًا ما تكون حياة الإنسان محلاً للتجارب عند صنع الأدوية وأدوات التدمير الشامل.

قال الرجل: ولكن المواثيق المعاصرة تداركت هذا، فهي تؤكد على حق الحياة أيما تأكيد .. لقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك، فقال: (لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه) (المادة/3)، ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، أنه (لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي) (م/6ف1)

قال خبيب: ما أسهل أن ينص على هذا .. ولكن الصعوبة في التطبيق ..

قال الرجل: فما الذي نص عليه الإسلام في هذا الجانب؟

قال خبيب: لقد اعتبر الإسلام حق الحياة حقا مقدسا ومحترما يجب حفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، قال رسول الله r : ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)[136].. وجاء في خطبة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)[137]

وقد كفلت الشريعة الإسلامية حق الحياة لكل إنسان حتى للجنين.

وأوجبت على الكل: الأفراد أولاً، والمجتمع ثانيًا، والدولة ثالثًا، حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لضمانه، من الغذاء والطعام والدواء والأمن، وعدم الانحراف.

وانطلاقا من هذا نصت الشريعة على تحريم قتل الإنسان إلا لأسباب محددة، لأن حق الحياة مصون ومقدس بالنصوص القاطعة والدامغة، قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق ﴾ (الأنعام:151)

وقرر القرآن الكريم العقوبة المناسبة للقاتل، وهي القصاص، مع الإشارة إلى حكمته من ذلك، فقال تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة:179)، وقال تعالى :﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ (البقرة:178)، فإن وقع القتل خطأ فيجب الدية تعويضًا للمجني عليه وورثته، مع الكفارة على الجاني.

ونصت على تحريم الانتحار .. لأن الحياة ليست في الحقيقة ملكاً لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى، والروح أمانة في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، قال رسول الله r : ( من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذّب به يوم القيامة)[138]

ونصت على تحريم الإذن بالقتل .. ونصت على أنه يثبت الإثم للآذن وللمأذون له إن نفذ، لأن حق الحياة لا يجوز التصرف فيه إلا لله تعالى المحيي المميت.

ونصت على تحريم المبارزة .. وهي الاقتتال بين شخصين لإثبات حق، أو لدفع العار والإهانة، لقوله r : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: يا رسول الله، ما بال المقتول؟ قال: (كان حريصًا على قتل صاحبه)[139]

ونصت على تحريم الإجهاض: وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا، وباعتداء، وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة.

ونصت على إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: وذلك باتفاق الفقهاء للقاعدة الشرعية التي تقول : (الضرورات تبيح المحظورات)

ونصت على حرمة إفناء النوع البشري: وذلك عندما يستعر القتال بين قبيلتين أو شعبين، أو تكتل دولي ضد آخر، أو ضد شعب أو أمة، ولذلك حرص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على التحذير من هذا الوباء، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تطورت فيه الأسلحة الفتاكة والمدمرة، كالقنابل الذرية أو النووية أو الجرثومية أو الكيميائية أو المشعة، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل والفتك الإجرامي الذي يصيب الأبرياء والأطفال والشيوخ حتى أثناء الحرب.

ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا في صور محددة لتنظيمه وترشيده.

ونصت على شرعية الزواج من أجل التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس لتعمر العالم وتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف ، وقد نوه الإسلام بالعلاقة المقدسة بين الزوجين واعتبرها آية من آيات الله ، فقال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)

وأوجبت على الإنسان أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته .. كما اعتبرت الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع ممثلا في الدولة بتوفيره للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان - إذا وجد نفسه مهددة - أن يدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة .

وأوجبت على الدولة إقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد ، من قضاء وشرطة وغيرها ، مما يحقق الأمن للمجتمع .

وأوجبت على المسلم إنقاذ من يتعرض للقتل ظلما أو يتعرض لخطر إن استطاع أن ينقذه .

ولم يكتف الإسلام بكل ذلك .. بل شرع الأحكام الحاجية في إيجاد النفس وحمايتها، فطلب رعاية الحمل والجنين، ومنح الحامل والمرضع رخصًا للتخفيف عنهما ورعاية وضعهما، ثم وضع الأحكام للأولاد بدءًا من الولادة في التسمية والحضانة والتربية والتأديب، والغذاء الحلال، والتعليم حتى البلوغ.

كما شرع الإسلام الطلاق، كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وجعل الدية على العاقلة في القتل الخطأ، تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني.

كما طلب الإسلام البعد عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق، أو ضرر منتظر، وحرم كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه، واتخذ جميع الوسائل لحفظ الحياة، وبذل الطاقة في صيانتها وسلامتها، والعناية بكمال الصفات، وكمال البدن، وحرم لحم الخنزير والميتة والدم، لضررها بالجسم وفساد تركيبها، وحذّر من الأمراض، وخاصة المعدية، وشرع التداوي، وأباح الزينة، وطلب الاعتدال في الطعام والإنفاق والشراب، وغيرها من الطيبات، وأنكر الامتناع عن الطعام زهدًا وتقشفًا، ونهى عن التبتل في العبادة، لأنه يضني الجسم، وحرم صوم الوصال، ومنع صيام الدهر، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، وفتح أبواب الرخص في العبادة والأحكام خشية العنت والمشقة، وصرح الفقهاء بقاعدة (صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان)، وأقام الإسلام منهجًا سديدًا لتنظيم الغرائز المختلفة والميول المتباينة، والعواطف المتعددة، وحرص على التوازن بينها، دون أن تطغى غريزة على أخرى، فيقع الإنسان في المهالك، وينتابه الشذوذ، أو تتحكم فيه الأهواء والشهوات، وتصرفه عن الجوانب العقلية والنفسية والروحية، فيختل نظام الإنسان والحياة.

العقل:

قلنا: فحدثنا عن المصلحة الثالثة التي اعتبرها الإسلام ضرورة من الضرورات التي جاء لحفظها.

قال خبيب: المصلحة الثالثة التي جاءت التشريعات الكثيرة لحفظها هي العقل ..

قلنا متعجبين: كيف يحفظ العقل؟ .. وهل يمكن أن تشرع التشريعات لحفظه؟

قال: لقد رأيت أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أولى أهمية كبرى لهذا الجانب .. فللعقل في الإسلام أهمية كبرى .. فهو مناط المسؤولية، وبه كرم الإنسان وفضل على سائر المخلوقات، وبه تهيأ للقيام بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة من عند الله، قال تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)

قال رجل منا: فما شرع الإسلام للحفاظ على العقل؟

قال خبيب: من التشريعات التي سنها لذلك أنه حرم كل ما يمكن أن يؤثر على العقل ويضر به أو يعطل طاقته كالخمر والحشيش وغيرها، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90)

كما شرع العقوبة الرادعة على تناول المسكرات، وذلك لخطورتها وأثرها البالغ الضرر على الفرد والمجتمع .

كما أنه ربى العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر واتباع البرهان ونبذ التقليد غير القائم على الحجة كما في قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111)، وقوله تعالى:﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الانبياء:24)

 كما دعا إلى تنمية العقل ماديا ومعنويا .. ماديا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم وينشط الذهن، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي وهو جائع، وفضل تقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معا . ومعنويا بالتأكيد على طلب العلم واعتباره أساس الإيمان، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28) ..

كما أتاح فرصة التعليم للجميع، وجعله حقا مشاعا بين أفراد المجتمع ، بل جعل حدا أدنى منه واجبا على كل مسلم ومسلمة .

كما أمر الإسلام بأن يشغل العقل بالأمور الجدية الحقيقية.. وأن لا ينشغل عنها بأي قشور أو جدل.. ولهذا نجد القرآن الكريم يمتليء بمثل قوله تعالى:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179).. وقال تعالى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269).. وقال تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) .. وقال تعالى :﴿ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:100) .. وقال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(يوسف: من الآية111) .. وقال تعالى:﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد:19)

إن هذه الآيات جميعا وغيرها تدعو العقل لأن يتحلو لبا .. واللب هو الخالص النقي الطاهر من كل الشوائب.

وفي هذا الإطار دعا الإسلام إلى تحرير العقل من سلطان الخرافة، وإطلاقه من إسار الأوهام.. ولأجل هذا حرم السحر والكهانة والشعوذة وغيرها من أساليب الدجل والخرافة.. كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء ، واعتبر ذلك مسببا في هدر طاقته من غير طائل قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر:35)، وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر:56)، وقال تعالى:﴿  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) (غافر:69)، وقال تعالى:﴿  وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (الشورى:35)

ودعا الإسلام إلى تدريب العقل على الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، وذلك من خلال وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي المفيد لليقين ، من هنا كانت دعوته إلى التثبيت قبل الاعتقاد، كما قال تعالى:﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)، وقال على لسان أهل الكهف: ﴿ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15) .. ومن خلال الدعوة إلى التدبر في نواميس الكون لاستكشافها وتأمل ما فيها من دقة وترابط ، وإلى استخدام الاستقراء والتمحيص الدقيق من أجل الوصول إلى اليقين .

وفوق ذلك كله، فقد دعا الإسلام إلى توجيه الطاقة العقلية إلى الاستنباط والبحث سواء لاستخلاص حكم التشريع وأسراره، كما قال تعالى:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82)، وقال تعالى:﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) .. أو لاستخلاص الطاقات المادية في الكون والاستفادة منها في بناء الحضارة، كما قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)

النسل:

قلنا: فحدثنا عن المصلحة الرابعة التي اعتبرها الإسلام ضرورة من الضرورات التي جاء لحفظها.

قال خبيب: المصلحة الرابعة التي جاءت التشريعات الكثيرة لحفظها هي النسل .. ويريد الفقهاء بهذا كل ما قررته الشريعة لحفظ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل .. ذلك أن الشريعة الإسلامية شريعة حياة، فلذلك هي تسعى إلى استمرار المسيرة الإنسانية على الأرض حتى يأذن الله بفناء العالم ويرث الأرض ومن عليها.

قلنا: وهل هناك شرائع موت؟

قال: أجل .. هناك شرائع لو أن البشر أطبقوا على تطبيقها لانمحى النوع الإنساني منذ زمان طويل ..

قلنا: مثل ماذا؟

قال: مثل شريعة (ماني) التي أراد بها أن يستعجل فناء الإنسان من على الأرض[140].. ومثل شرائع كثيرة لا تزال تجد معتنقين لها في كل مكان[141].

قلنا: فما شرع الإسلام ليحفظ النسل؟

قال: لقد شرع الشرائع الكثيرة لأجل ذلك:

ومنها ترغيبه في الزواج، واعتباره الوسيلة الوحيدة التي يتحقق بها النسل .. ولذلك اعتبر الأولاد أهم ثمرة من ثمرات الزواج، يقول الغزالي عند ذكر مقاصد الزواج: (الولد، وهو الأصل وله وضع النكاح، والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها إظهاراً للقدرة وإتماماً لعجائب الصنعة وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة وحقت به الكلمة وجرى به القلم)

وقد وردت النصوص الكثيرة تحث على طلب الولد، وتبين أن ذلك لا يتناقض مع الصلاح كما يدعي بعض المغالين، فقد قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل u :﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ (الشعراء: 84)، وقال عن زكريا u :﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ ِ(آل عمران:38) وقال عن عباد الرحمن :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ (الفرقان:74)

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قالت أم سليم: يا رسول الله خادمك أنس، ادع الله له فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته)[142]

ومنها حثه على العناية بتربية الولد وإلزام الأبوين برعاية أولادهما والإنفاق عليهم حتى يتحقق للأولاد الاستغناء عن نفقة الأبوين.

ومنها العناية بالأسرة وإقامتها على أسس سليمة باعتبارها الحصن الذي يحتضن جيل المستقبل ويتربى فيه، فقد جعل الإسلام علاقة الزواج قائمة على الاختيار الحر والتراضي بين الطرفين ، وعلى الانسجام والتشاور في كافة الشؤون بحيث تشيع روح المودة والتفاهم ، وسعي كل من الزوجين في سعادة الآخر.

ومنها إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية التي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة وتستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين ، فعن طريق إيجاب غض بصر الذكر عن الأنثى والأنثى عن الذكر يقطع الإسلام الطريق على وسائل الإثارة في النفس البشرية.. وبإيجاب اللباس الساتر بمواصفات خاصة يحارب التشريع أسباب الفتنه .. وفي غير حالات الضرورة القصوى يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية حتى وإن كانت ملتزمة باللباس الساتر ، إلا بوجود أحد محارمها .. وللبيوت في الإسلام حرمة عظيمة حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها والسلام عليهم .

بالإضافة إلى هذه الآداب وغيرها يضع الإسلام الضوابط التي تنظم حالات اجتماع الرجال والنساء عند الحاجة.

ومنها تحريم الاعتداء على الأعراض، ولذا حرم الله تعالى الزنا كما حرم القذف، وحدد لكل منها عقوبة رادعة قال تعالى:﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النور:2)، وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:4)

المال:

قلنا: فحدثنا عن المصلحة الخامسة التي اعتبرها الإسلام ضرورة من الضرورات التي جاء لحفظها.

قال خبيب: المصلحة الخامسة التي جاءت التشريعات الكثيرة لحفظها هي المال..

قال رجل منا: كيف تقول ذلك .. وقد ورد في القرآن ما يرغب عن المال، ويعتبره من المتاع الذي يحرص عليه الغافلون .. ألم تقرأ فيه :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ (الأنفال:28) .. وفيه :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ (آل عمران:14)

وقد سمعت من بعض المشايخ يروي أن شاباً غنياً أراد أن يتبع المسيح u، ويدخل في دينه، فقال له:( بع أملاكك ثم اعط ثمنها للفقراء، وتعال اتبعني )، فلما ثقل ذلك على الشاب قال المسيح:( يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات .. أقول لكم أيضاً:( إن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غيى ملكوت الله)

قال خبيب: صدق الله تعالى.. وصدق المسيح u .. والشأن ليس في الأقوال، وإنما في فهم الأقوال.

قال الرجل: ما ذكرته من النصوص واضح .. لا يحتاج إلى أي تأويل .. لقد المسيح ـ مثلا ـ استحالة دخول الأغنياء ملكوت الله.

قال خبيب: لا .. هو لم يبين الاستحالة، وإنما بين الصعوبة .. فللأغنياء من الحجب والحوائل ما قد يصرفهم عن الحق، ولهذا اشتد على هذا الغني أن يخرج من ماله مع أن اتباعه للمسيح u خير من ماله .. وقد كان المسيح u يقصد امتحانه بذلك ليرى مدى شوقه لاتباعه، فلما وجد حنينه للمال أعظم من حنينه للحق تركه.

قال الرجل: والآيات التي ذكرتها ما تقول فيها؟

قال خبيب: تلك الآيات هي مدخلنا لحفظ المال.

قال الرجل: كيف ذلك .. وكيف تعتبره فتنة؟

قال خبيب: كونه فتنة يعني أنه قد يستعمل في الخير .. وقد يستعمل في الشر .. وذلك يستدعي التشريعات الكثيرة التي تحفظه من التلوث بالشر .. ولهذا قال تعالى :﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾  (النساء: من الآية5)، فقد اعتبرت الآية الكريمة المال قوام حياة الناس.. وهي بالتالي تدعو إلى استثمار وحفظه .. وقد قال رسول الله r في ذلك:( ما نفعني مال كمال أبي بكر )[143]، وقال:( نعم المال الصالح للرجل الصالح )[144]، ودعا لأنس t، وكان في آخر دعائه:( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه )[145]

قلنا: فما التشريعات التي وضعها الإسلام لحفظ المال؟

قال خبيب: من التشريعات التي شرعها الإسلام للحفاظ على المال إيجادا وتحصيلا حثه على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش، فقد حث الإسلام على كسب الأموال .. واعتبر السعي لكسب المال - إذا توفرت النية الصالحة، وكان من الطرق المباحة - ضربا من ضروب العبادة وطريقا للتقرب إلى الله، قال تعالى  :﴿  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾  (الملك:15)، أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.

وقال :﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: 9، 10)

انظروا إلى ما تشير إليه هاتين الآيتين من امتلاء وقت المسلم بالعمل، فهو قبل الصلاة منشغل ببيعه، وبعده منشغل بالانتشار في الأرض بحثا عن فضل الله.

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن كل منتفع بعمل العامل يصب في أجره، فقد قال قال r في إحياء الأرض:( ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به جرا )[146]

وقال في أجر من أحيا أرضا ميتة:(  من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة)[147]

وقال في غرس الغرس:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )[148]، وقال : ( ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)[149]، وقال:( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه[150] أحد إلا كان له صدقة )[151]

بالإضافة إلى هذا أباح الشرع جميع المعاملات العادلة التي لا ظلم فيها ولا اعتداء على حقوق الآخرين، ومن أجل ذلك أقر الإسلام أنواعا من العقود كانت موجودة بعد أن نقاها مما كانت تحمله من الظلم، وذلك كالبيع والإجارة والرهن والشركة وغيرها ، وفتح المجال أمام ما تكشف عنه التجارب الاجتماعية من عقود شريطة أن لا تنطوي على الظلم أو الإجحاف بطرف من الأطراف أو تكون من أكل أموال الناس بالباطل.

قال رجل منا: فما التشريعات التي شرعها الإسلام لحفظ المال بقاء واستمرارا؟

قال خبيب: كثيرة هي .. منها ضبط التصرف في المال بحدود المصلحة العامة، ولهذا حرم الشرع اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة والتي تضر بالآخرين، ومنها الربا لما له من آثار تخل بالتوازن الاجتماعي، قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275)، وقال :﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)

ومنها تحريم الاعتداء على مال الغير بالسرقة أو السطو أو التحايل .. وشرع العقوبة على ذلك قال تعالى:﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38)، وأوجب الضمان على من أتلف مال غيره، قال r:( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) [152].

ومنها منع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، والحث على إنفاقه في سبل الخير ، وذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي وهي أن المال مال الله وأن الفرد مستخلف فيه ووكيل .. وقد نص القرآن الكريم على هذه القاعدة في قوله تعالى:﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد:7)، وقوله تعالى:﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ )(النور: من الآية33)

ولهذا كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع، فلا يجوز أن يفتن بالمال فيطغى بسببه قال تعالى:﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16)، ولا يجوز له أن يبذره في غير طائل قال تعالى:﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الاسراء:26)، بل اعتبر المبذرين إخوانا للشياطين، فقال:﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الاسراء:27)

ومنها سن التشريعات الكفيلة بحفظ أموال القصر، والذين لا يحسنون التصرف في أموالهم من يتامى وصغار حتى يبلغوا سن الرشد، ولهذا شرع تنصيب الوصي عليه قال تعالى:﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (النساء:6)، وقال تعالى:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة: من الآية220) .. وسن الحجر على البالغ إذا كان سيئ التصرف في ماله قال تعالى:﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (النساء:5)

ومنها تنظيم التعامل المالي على أساس الرضا والعدل .. ولهذا قرر الإسلام أن العقود لا تمضي على المتعاقدين إلا إذا كانت عن تراض وعدل .. ومن هذا الباب حرم القمار قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29)

ومنها الدعوة إلى تنمية المال واستثماره حتى يؤدي وظيفته الاجتماعية، ولهذا حرم الإسلام حبس الأموال عن التداول، وحارب ظاهرة الكنز قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(التوبة: من الآية34)

بهذه التشريعات وغيرها حفظ الإسلام المال وصانه عن الفساد حتى يؤدي دوره كقيمة لا غنى عنها في حفظ الحياة الإنسانية ، وتحقيق أهدافها، شأنه في ذلك شأن كل المصالح التي تمثل أساس الوجود الإنساني وقوام الحياة الإنسانية، والتي بدون مراعاتها وحفظ نظامها يخرب العالم وتستحيل الحياة الإنسانية ويقف عطاؤها واستثمارها.

***

ما إن وصل خبيب بن عدي من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد خبيب، وساروا به إلى مقصلة الإعدام ..

نظر إليهم خبيب بابتسامة، وقال: أتأذنون لي أن أختم حياتي بركعتين أصليهما لله كما صلاهما قبلي سميي خبيب.

أشاروا إليه بالموافقة .. فصلى ركعتين أوجز فيهما، ثم التفت إلى السجان، وقال: لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت.

ثم صعد المقصلة، وهو يردد تلك الأبيات التي رددها قبله سميه خبيب ..

بعد أن وضع الحبل على عنقه التفت إلينا بابتسامة، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل .. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في جيش العدالة الإلهية .. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد .. فـ :﴿ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)﴾ (الأحزاب)

قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع المساجين بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم .. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور .. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد r .

 

 

 

 

 

 



([1]) أشير به إلى خبيب بن عديّ من بني عمرو بن عوفٍ الأنصاريّ الأوسي.. شهد بدراً، وأسر في غزوة الرّجيع سنة ثلاثٍ، فانطلق به إلى مكة فاشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل.. وكان خبب قد قتل الحارث بن عامرٍ يوم بدرٍ كافراً، فاشتراه بنوه ليقتلوه به، فأقام عندهم أسيراً، ثم صلبوه بالتنعيم، وكان الذي صلبه عقبة بن الحارث وأبو هبيرة العبدري، وخبيب أول من صلب في الإسلام، وأول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل.

وقد حدث ابن شهاب عن حادثة الأسر والصلب، فقال: مكث خبيب عندهم أسيراً حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من إحدى بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، قالت: فأخذه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعاً عرفه في، والموسى في يده، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، قال: فكانت تقول ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من حديقة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقاً آتاه الله إياه، قال: ثم خرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم قال: لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت، فكان أول من صلى ركعتين عند القتل هو، ثم قال: (اللهم أحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً) (انظر: الاستيعات لابن عبد البر)

([2]) رواه أحمد والترمذي والحاكم .. وغيرهم.

([3]) أشير به إلى قول معروف لابن القيم ، كتبه في (إعلام الموقعين)، تحت عنوان، فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال فيه : (هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسببه غلط عظيم على الشريعة الإسلامية، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم: أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث. فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل)

([4])  انظر الأدلة المثبتة لهذا في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([5]) ذكرنا النصوص الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة، ومنها : (:( وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَسَبْعَةَ أَيَّامٍ تَكُونُ فِي طَمْثِهَا، وَكُلُّ مَنْ يَلْمِسُهَا يَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. كُلُّ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ حَيْضِهَا أَوْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِساً، وَكُلُّ مَنْ يَلْمِسُ فِرَاشَهَا يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. وَكُلُّ مَنْ مَسَّ مَتَاعاً تَجْلِسُ عَلَيْهِ، يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. وَكُلُّ مَنْ يَلَمِسُ شَيْئاً كَانَ مَوْجُوداً عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ يَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ. وَإِنْ عَاشَرَهَا رَجُلٌ وَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طَمْثِهَا، يَكُونُ نَجِساً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَكُلُّ فِرَاشٍ يَنَامُ عَلَيْهِ يُصْبِحُ نَجِساً. إِذَا نَزَفَ دَمُ امْرَأَةٍ فَتْرَةً طَوِيلَةً فِي غَيْرِ أَوَانِ طَمْثِهَا، أَوِ اسْتَمَرَّ الْحَيْضُ بَعْدَ مَوْعِدِهِ، تَكُونُ كُلَّ أَيَّامِ نَزْفِهَا نَجِسَةً كَمَا فِي أَثْنَاءِ طَمْثِهَا. كُلُّ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ نَزْفِهَا يَكُونُ نَجِساً كَفِرَاشِ طَمْثِهَا، وَكُلُّ مَا تَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ يَكُونُ نَجِساً كَنَجَاسَةِ طَمْثِهَا. وَأَيُّ شَخْصٍ يَلْمِسُهُنَّ يَكُونُ نَجِساً، فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ، وَيَكُونُ نَجِساً إِلَى الْمَسَاءِ )(سفر اللاويين:15: 19 -27)

([6])  وهذا ما يدل على أن الحديث المروي في ذلك عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وهو (لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم و لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) لا يصح رفعه إلى رسول الله  r .. بل هو على الأصح من حديث كعب الأحبار .. فقد كان أبو هريرة يروي عن كعب الأحبار، فيختلط على الرواة، فيرفعونه إلى رسول الله r.. وقد روى مسلم عن بسر بن سعيد قال: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله r ، ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله)، وفي رواية: (يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث )

وأدل دليل على ذلك هو أن في الحديث المذكور نسبة كل خيانة تقع من المرأة إلى حواء مع أن القرآن الكريم بل الشريعة جميعا تنص على أن كل شخص مسؤول على عمله وحده.

ومثل ذلك ما يصيب اللحم من خنز، فنحسب هذا من خواص اللحم التي جعلها الله فيه ., وكان ذلك قبل بني إسرائيل وبعدهم.

وهذا الذي ذهبنا إليه ـ والذي قد يجد نقدا حادا عند البعض ـ هو ما ذهب إليه البخاري وابن كثير وغيرهما في نقدهما لما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: أخذ رسول الله r بيدي، فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة)، وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما ردا على هذا: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

([7])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([8])  ذكرنا كثيرا من هذه المدارس في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

([9])   الإنسان ذلك المجهول:  11-12.

([10])   الإنسان ذلك المجهول:  38.

([11])   الإنسان ذلك المجهول: 40.

([12])   الإنسان ذلك المجهول:  44.

([13])   الإنسان ذلك المجهول: 60.

([14])   الإنسان ذلك المجهول: 322.

([15])  الإنسان ذلك المجهول:  329-331.

([16])  الإنسان ذلك المجهول:  331-332.

([17])   الإنسان ذلك المجهول:  44-45.

([18])  هذا الكلام ملخص بتصرف من كتاب (المستقبل لهذا الدين) لسيد قطب.

([19])  ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([20])  انظر الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالتي  (الكلمات المقدسة)، و(ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([21])  انظر التصريحات المرتبطة بهذا في كتاب (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.

([22])  W. Friedman<Legal Theory,P.18

([23])  A Text Book of Jursprudence,P , 56

([24])  Boden Liener,Jurisprudence , 164

([25])  Philosophy of Low,p,5

([26])  Interpretation of Modren Legal Philosophies, N.T,1974 P.794

([27])  A Text Book of Jurisprudence,p,104

([28])  Sir Henry Maine< Early Low & Custom< p.5

([29])  Legal Theory.P. 450

([30])  هذا المثال ذكره وحيد الدين خان عن حكومة بلاده (الهند) في زمنه.

([31])  سنرى التفاصيل المرتبطة بموقف الإسلام من الجرائم المختلفة في فصل (الحزم) من هذه الرسالة.

([32])  A.Text Book of Jurisprudence,p.16

([33])  هذه الأمثلة منقولة بتصرف من كتاب (الإيمان والحياة) للشيخ يوسف القرضاوي.

([34]) ذكرنا القصة ( التي رواها مسلم وأبو داود والنسائي) في ذلك .. ورددنا على ما ارتبط بها من شبهات في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

([35])  رواه مسلم.

([36]) رواه أحمد وأبو داود.

([37])  رواه الطبري.

([38])  هذه الأخبار عن عمر بن عبد العزيز ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية: 9 [38] 192 وما بعدها .. وسنذكر المزيد من الأخبار عن الخلفاء العدول في الفصول التالية من هذه الرسالة.

([39])  هو (ليوبولد فايس) الذي أسلم بعد أن أقام في بلاد المسلمين مدة طويلة، وقد تحدثنا عنه بتفصيل في رسالة (قلوب مع محمد) من هذه السلسلة.

([40])   الطريق إلى مكة، ص 167 بتصرف.

([41])   رواه الطبراني في الكبير.

([42])  رواه البخاري ومسلم.

([43])  البخاري في الأدب المفرد.

([44] )  مسلم.

([45] )  البخاري ومسلم.

([46] )  رواه الطبري في تفسير آية المائدة.

([47] )  انظر: تنقيحات، أبو الأعلى المودودي، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص 177هامش.

([48])  الجواب: جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء .. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كالجوبة من الأرض، وقال العوفي، عنه: كالحياض. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم.

([49])  سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بحقيقة الإنسان في رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة.

([50])  الكلام الذي سأذكره هنا ملخص من كتاب (مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره)، للشيخ يوسف القرضاوي.

([51])  هذا التعبير الجميل عن مناحي شمولية الإسلام للإمام الشهيد حسن البنا.

([52])  انظر تفصيل ذلك في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد) من هذه السلسلة.

([53])  رواه البخاري ومسلم.

([54])  رواه مسلم.

([55])  رواه مسلم.

([56])  رواه مسلم.

([57])  رواه مسلم.

([58])  رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم من من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r : ( إنه خلق كل إنسانٍ من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصلٍ، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكةً أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ، عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذٍ وقد زحزح نفسه عن النار)

([59])  الفرسن من البعير: كالحافر من الدابة، قال: وربما استعير في الشاة.

([60])  رواه البخاري ومسلم.

([61])  رواه البخاري ومسلم.

([62])  رواه البخاري ومسلم، وفي روايةٍ للبخاري: فشكر الله له فغفر له، فأدخله الجنة.

([63])  رواه مسلم، وفي رواية: مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة.. وفي رواية لهما: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له.

([64])  رواه البخاري، ورواه مسلم من رواية حذيفة.

([65])  رواه مسلم، وفي رواية له: فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا طيرٌ إلا كان له صدقةً إلى يوم القيامة.. وفي رواية له: لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا شيءٌ إلا كانت له صدقةً وروياه جميعاً من رواية أنسٍ.

([66])   رواه البخاري ومسلم.

([67])  رواه مسلم.

([68])   رواه البخاري ومسلم.

([69])   أورده مالك في الموطأ بلاغاً عن النبي r ، وقال ابن عبد البر: هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعاً، منها ما أخرجه أحمد في مسنده، والخرائطي في أول المكارم، من حديث محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: صالح الأخلاق، ورجاله رجال الصحيح، والطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم القرشي، وهو ضعيف عن جابر مرفوعاً، إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال، ومعناه صحيح، وقد عزاه الديلمي لأحمد عن معاذ.

([70])  رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.

([71])  رواه الديلمي، والخرائطي، ورواه الطبراني بلفظ: (الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)

([72])  رواه الطبراني.

([73])  رواه الديلمي.

([74])  رواه الطبراني.

([75])  رواه أحمد، والطبراني.

([76])  رواه الترمذي.

([77])  رواه أحمد.

([78])  رواه أحمد.

([79])  رواه أبو يعلى، والترمذي، والطبراني.

([80])  رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم.

([81])  رواه الطبراني.

([82])  رواه الحاكم.

([83])  رواه الطبراني، والضياء.

([84])  أحمد وابن حبان في صحيحه، والطبراني، والبيهقي، وكذا الترمذي وزاد قالوا: يا رسول الله: ما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون)

([85])   ذكرنا الحديث عن البقرة الحمراء والشرائع المرتبطة بها في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([86])   هذا نص رسالة كتب بها إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه، كما في (العقد الفريد) لابن عبد ربه (بتصرف)

([87]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (الحياة) من هذه السلسلة.

([88])  انظر استمداد المسيحية من الفلسفة من كتاب المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ص101 فما بعد.

([89])  انظر معالم تاريخ الإنسانية: ج1 ص16.

([90])  انظر: إظهار الحق:218.

([91])  انظر قصة الحضارة:14/ 379.

([92])  معالم تاريخ الإنسانية:1/1008.

([93])  رددنا على بعض المواقف الإسلامية الحديثة من هذا وبينا ما تشير إليه النصوص المقدسة من هذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([94])  قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/348.

([95])  قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/348.

([96]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة ( ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة .. وانظر هناك المراجع التي اعتمدنا عليها في هذه المعلومات.

([97])وهي مجموعة الكتب المقدسة المنسوبة لزرادشت, والتي تقوم عليها الديانة الزرادشتية عند قدماء الفرس.

([98]) نقلا عن مقال بعنوان (حقوق الحيوان فى الحضارة الإسلامية)، بقلم الدكتور راغب السرجانى.

([99]) سنرى التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([100]) انظر ـ بالإضافة إلى الكتب المختصة بهذا ـ كتاب من كتاب (مدخل لمعرفة الإسلام: مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره)، للشيخ يوسف القرضاوي...

([101])  انظر الكثير من الأمثلة عن ذلك في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([102]) انظر ( جامع بيان العلم وفضله) 2/ 132، و(إعلام الموقعين) 2/ 171.

([103]) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.

([104])  رواه البزار والطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم.

([105])  رواه الحاكم.

([106]) مراده ـ رضي الله عنه ـ ما ورد منها في القرآن الكريم، وإلا فإن في السنة الكثير منها .. وقد استوعبنا الكثير مما ورد من ذلك في رسالة (النبي الهادي) من هذه السلسلة.

([107]) عرفها الحنفية بأنها (عقد على الزرع ببعض الخارج)، وعرفها المالكية بأنها (الشركة في الزرع)، وعرفها الشافعية بأنها (عمل على أرض ببعض ما يخرج منها ، والبذر من المالك)، وعرفها الحنابلة بأنها (دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه ، أو مزروع ليعمل عليه بجزء مشاع معلوم من المتحصل)

([108]) عرفها الفقهاء بأنها : عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض.

([109]) الجائحة عند الفقهاء ـ كما قال ابن القاسم من المالكية وتبعه أكثرهم ـ هي كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به ، كسماوي ، كالبرد والحر ، ومثل ذلك ريح السموم ، والثلج ، والمطر ، والجراد ، والفئران والغبار ، والنار ونحو ذلك ، أو غير سماوي وجيش ، وأما فعل السارق ففيه خلاف.

([110]) رواه البخاري ومسلم.

([111])  قال ابن القيم في تقرير هذا  في كتابه (إغاثة اللهفان : ( الأحكام نوعان: نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهو لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيزات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة)

وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي r ، وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده ـ ثم قال: (وهذا باب واسع، اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيزات التابعة للمصالح وجودا وعدما)

([112]) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (سيد قطب) بتصرف.

([113]) انظر في هذا مقالا جيدا بعنوان (الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب)

([114]) نقلا عن (ميدل إيست أون لاين)

([115]) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة هنا من كتاب (حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة)، للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني، والأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، والأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، تقديم بقلم :عمر عبيد حسنه.. (وهو من سلسلة (كتاب الأمة)

([116]) جريدة التجديد المغربية، عدد 260، بتاريخ 4 يناير 2002م..

([117]) انظر تفاصيل هذه المعاني في رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة..

([118]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/141..

([119]) شجرة المعارف والأقوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 169.

([120])  رواه البخاري ومسلم.

([121])  رواه الطبراني في الكبير.

([122])بدائع الصنائع، 2/4.

([123]) المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه.

ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان. (انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص13؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص61، وغيرها من الكتب التي تحدثت عن مقاصد الشريعة)

([124]) شجرة المعارف والأحوال، له، ص401..

([125]) رواه البخاري ومسلم.

([126]) لخصنا هذا من مصادر مختلفة .. ولعل أهمها الكتاب الذي كنا أشرنا إليه من قبل (كتاب (حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة)، ولو أن جميع الكتب تقريبا تنهج نفس النهج في هذا الموضوع.

([127]) انظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/29 وما بعدها، 42 وما بعدها، ص71 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص80.

([128]) حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص9، 140.

([129])المستصفى، له، 1/287.

([130]) انظر الأمثلة على هذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([131]) رواه أبو داود والبيهقي.

([132]) رواه الخطيب بإسناد حسن.

([133]) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.

([134]) رواه البخاري.

([135]) سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بهذه العقوبة والشبهات المثارة حولها في فصل (الحزم) من هذه الرسالة.

([136]) رواه مسلم وغيره.

([137]) رواه البخاري ومسلم.

([138]) رواه الشافعي.

([139]) رواه البخاري ومسلم.

([140])   ظهر (ماني) في القرن الثالث المسيحي ، وكان ظهوره رد فعل عنيف غير طبعي ضد النزعة الشهوية السائدة في البلاد ، ونتيجة منافسة النور والظلمة الوهمية فدعا إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد الشر من العالم ، وأعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر يجب الخلاص منه فحرَّم النكاح استعجالاً للفناء وانتصاراً للنور على الظلمة بقطع النسل . وقتله بهرام سنة 276م قائلاً إن هذا خرج داعياً إلى تخريب العالم فالواجب أن يبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيأ له شيء من مراده .. لكن تعاليمه لم تمت بموته بل عاشت إلى ما بعد الفتح الإسلامي.

([141])   ذكرنا نماذج عنها في رسالة (سلام للعالمين) .. وهي الجماعات التي تدعو إلى الانتحار الجماعي.

([142]) رواه البخاري ومسلم.

([143])  رواه أبو نعيم في الحلية.

([144])  رواه أحمد والحاكم وابن سعد.

([145])  رواه أبو نعيم.

([146])  رواه الطبراني في الكبير.

([147])  رواه أحمد والترمذي وابن حبان ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

([148])  رواه أحمد والترمذي.

([149])  رواه أحمد.

([150])  ولا يرزؤه: أي لا ينقصه ويأخذ منه.

([151])  رواه مسلم.

([152]) رواه مسلم وغيره.