المؤلف: نور الدين
أبو لحية |
العودة للكتاب: الضوابط الشرعية لحماية الزواج |
الناشر: دار الكتاب الحديث |
الفهرس
من أهم الأسس التي يقوم عليها الزواج
بصفته الشرعية الإشهاد عليه، فبه يفرق بين الحلال والحرام، ولذلك ذكرنا أنه ينبغي
أن لا يكون مجرد شرط قد يصح العقد بدونه، بل هو ركن من أركان الزواج التي تتوقف
عليها صحته.
وقد حصرنا الحديث عنه في مبحثين:
· أحكام
الإشهاد على الزواج سواء كانت أحكاما أصلية أم عارضة، وما يتعلق بها.
· شروط
الشهود ومواصفاتهم.
والذي دفعنا إل تخصيص فصل لهذا
الموضوع زيادة على اعتباره ـ كما ذكرنا ـ ركنا من أركان الزواج، أن كثيرا من
الأحكام المتعلقة بفقه الأسرة تتعلق بما سنذكره في هذا الفصل.
لغة: الشاهد
العالـم الذي يُبَـيِّنُ ما عَلِـمَهُ، شَهِدَ شَهادة؛ ومنه قوله تعالى:﴿
شهادَةُ بـينِكم إِذا حضر أَحَدَكم الـموتُ حين الوصية اثنان ﴾ أَي
الشهادةُ بـينكم شهادَةُ اثنـين فحذف الـمضاف وأَقام الـمضاف إِلـيه مقامه. ورجل
شاهِدٌ، وكذلك الأُنثى لأَنَّ أَعْرَفَ ذلك إِنما هو فـي الـمذكر، والـجمع أَشْهاد
وشُهود، وشَهيدٌ والـجمع شُهَداء. والشَّهْدُ: اسم للـجميع، واسْتَشْهَدَه: سأَله
الشهادة. وفـي التنزيل: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ﴾(البقرة:282)و
الشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ منه: شَهِدَ الرجلُ علـى كذا، وربما قالوا شَهْدَ
الرجلُ، بسكون الهاء للتـخفـيف، وقولهم: اشْهَدْ بكذا أَي احْلِف[1].
اصطلاحا: عرف الفقهاء
الإشهاد تعريف كثيرة متقاربة، منها[2]:
· عرفها
الحنفية بأنه: إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء.
· عرفها
المالكية: بأنه إخبار حاكم من علم ليقضي بمقتضاه.
· عرفها
الشافعية بأنه: إخبار بحق للغير على الغير بلفظ أشهد.
· عرفها
الحنابلة بأنه: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد أو شهدت.
ثانيا: حكم الإشهاد:
يختلف حكم الشهادة التكليفي بحسب
الحالتين التاليتين[3]:
وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة ,
وقد اختلف الفقهاء في نوع فرضية ذلك على قولين:
القول الأول: إن الإجابة للشهادة فرض كفاية يحمله بعض الناس عن بعض , حيث
يفتقر إلى ذلك , ويخشى تلف الحق بعدم الشهادة , فإن كان الرجل في موضع ليس فيه من
يحتمل ذلك عنه , تعين الفرض عليه في خاصته، واستدلوا على ذلك بأن الشاهد لا يصح أن
يسمى شاهدا إلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة , وأما قبل أن يعلم
بها فليس بشاهد , ولا يدخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ ﴾ (البقرة:282) إلا
من هو شاهد.
فإن قام بالفرض اثنان , سقط الإثم عن
الجميع , وإن امتنع الكل أثموا , وإنما
يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر , وكانت شهادته تنفع , فإن كان عليه ضرر في
التحمل أو الأداء , أو كان ممن لا تقبل شهادته , أو يحتاج إلى التبذل في التزكية
ونحوها , لم يلزمه، للأدلة التالية:
· قول
الله تعالى:﴿ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا
شَهِيدٌ ﴾(البقرة: من الآية282)
· قول
النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا ضرر ولا ضرار) [4]
· أنه
لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره.
فإذا كان ممن لا تقبل شهادته , لم
يجب عليه ; لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه، وقد نص المالكية على أنه إن لم يكن
هناك إلا واحد فهي فرض عين عليه , فإن امتنع فهو عاص ويجبر بالضرب والسجن[5].
وقد اختلف أصحاب هذا القول في تأثيمه
بالامتناع إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه، فقيل: يأثم ; لأنه قد تعين بدعائه , ولأنه
منهي عن الامتناع بقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا﴾ (البقرة:282)، وقيل: لا يأثم ; لأن غيره يقوم مقامه , فلم يتعين في
حقه , كما لو لم يدع إليها.
القول الثاني: أنه واجب على كل من دعي
إلى شهادة , أن يجيب سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة , أو أن يؤدي ما حفظ، وهو قول
لبعض أهل العلم ذكره ابن رشد[6]، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة:282)
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول
الثاني لأنه قد يتخذ في أحيان كثيرة القول بالفرضية الكفائية ذريعة للفرار من
أمثال هذه الواجبات التي علقت على الجماعة، بحجة أن هناك من يقوم بها، وقد نص قوله
تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة:282)
على هذا الوجوب، أما ما قاله أصحاب القول الأول، فإنه لا يتعارض مع هذا، لأن
الوجوب العيني يسقط إن تعلق به ضرر ما تطبيقا لقواعد رفع الحرج وإزالة الضرر.
وعلى ذلك ينص قول الله تعالى:﴿
وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ﴾(البقرة: من الآية282)، فمن الأقوال
الواردة في الآية[7] ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - من أن معنى الآية:ولايضار كاتب ولا شهيد بأن
يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب، وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما
أخرجهما وآذاهما قال: خالفتما أمر الله ونحو هذا من القول فيضر بهما[8]، فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذا لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما
عن أمر دينهما ومعاشهما.
ولفظ المضارة يقتضي هذه المعاني،
ولكن الجصاص مع ذلك حاول أن يستدل بالآية على عدم الفرضية العينية فقال: (والذي
يدل على أنها فرض على الكفاية جائز للناس كلهم الامتناع من تحمل الشهادة، ولو جاز لكل
واحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق وضاعت الحقوق وكان فيه سقوط ما أمر الله
تعالى به وندب إليه من التوثق بالكتاب والاشهاد، فدل ذلك على لزوم فرض إثبات
الشهادة في الجملة، والدليل على أن معين على كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على
أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها، ويدل عليه قوله تعالى:﴿ ولا يضار كاتب
ولا شهيد﴾)[9]
ولكن هذا الاستدلال ينتفي بما ذكره
أولا من جواز امتناع الناس جميعا عن أدائها بحجة الفرضية الكفائية، أما من له شغل
يشغله عنها فلا حرج عليه، فلا تنافي بين الوجوب العيني وعدم الاستطاعة، فالحج واجب
عيني على كل مستطيع، والزكاة واجب عيني على صاحب النصاب، ولم يقل أحد من الفقهاء
أنهما فرض على الكفاية.
وإنما دعانا إلى هذا الترجيح هو ما
نراه من فرار الكثير من الناس من تحمل الشهادات خوفا مما قد ينجر عنها من مشاكل،
وفي ذلك ضرر على مصالح الناس المرتبطة بالشهادة.
وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ
إياه، وقد اتفق الفقهاء على وجوب الأداء
في هذه الحالة، لقوله تعالى:﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(البقرة:283)
وإنما خص القلب بالإثم ; لأنه موضع العلم بها , وقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾(الطلاق: من الآية2)، ولأن الشهادة أمانة , فلزم
أداؤها , كسائر الأمانات.
فمن كانت عنده شهادة فلا يحل أن
يكتمها , ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها , وأما إذا لم يدع إلى القيام بها
فيلزمه أن يخبر بشهادته , ويقوم بها عليه عند الحاكم , فإن لم يخبر بشهادته سقطت
شهادته ; لأن سكوته عن ذلك جرحة , إلا أن يثبت أن له عذرا في عدم القيام.
ويستحب في هذا المسارعة إلى أداء
الشهادة عند الحاجة إليها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك:(ألا أخبركم
بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها[10])[11]
وليس في هذا الحديث مناقضة للحديث
الآخر في ذم من يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد كما روي عن عبد الله بن مولة قال: كنت
أسير مع بريدة الأسلمي وهو يقول: اللهم ألحقني بقرني الذي أنا منه ثلاثا، وأنا معه
فقلت: وأنا، فدعا لي ثم قال: سمعت رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول:(خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم تسبق شهاداتهم
أيمانهم[12]، وأيمانهم شهاداتهم) [13]
وقد تأول العلماء هذا تأويلات مختلفة،
منها أنه محمول على من معه شهادة لآدمي عالم بها فيأتي فيشهد بها قبل أن تطلب منه، أو أنه محمول على شاهد الزور
فيشهد بما لا أصل له ولم يستشهد، أو أنه محمول على من ينتصب شاهدا وليس هو من أهل
الشهادة، أو أنه محمول على من يشهد لقوم بالجنة أو بالنار.
لذلك لا يصح الاستدلال بمثل هذه
الأحاديث للتهرب من الشهادات تحملا أو أداء، قال الطحاوي:(فأولى بنا أن نحمل
الآثار الأول على ما وصفنا من تأويل كل أثر منها حتى لا تتضاد ولا تختلف ولا يدفع
بعضها بعضا فتكون الآثار الأول على المعاني التي ذكرنا، وتكون هذه الآثار الأخر على
تفضيل المبتدي بالشهادة من هي له أو المخبر بها الإمام، وقد فعل ذلك أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا الإمام
فشهدوا ابتداء) [14]
ثم ذكر من شواهد ذلك ما فعله أبو
بكرة ومن كان معه حين شهدوا على المغيرة بن شعبة، فرأوا ذلك لأنفسهم لازما، ولم
يعنفهم عمر على ابتدائهم إياه بذلك، بل سمع شهاداتهم ولو كانوا في ذلك مذمومين
لذمهم، ولا قال لهم: من سألكم عن هذا ألا قعدتم حتى تسألوا، فلما سمع منهم ولم
ينكر ذلك عليهم عمر ولا أحد ممن كان بحضرته من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على أن فرضهم
كذلك وأن من فعل ذلك ابتداء لا عن مسألة محمود.
بل قد نطق القرآن العظيم بفضل
المسارعة للشهادة تحملا وأداء في مواضع كثيرة، وجاءت الأخبار عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وعن الصحابة - رضي الله عنه
- , فقد جعلها الله أعلى منازل الرياسة
ورفعها ونسبها إلى نفسه وشرف بها ملائكته وأجل خلقه فقال تعالى:﴿ لَكِنْ
اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾(النساء:166)،وقال تعالى:﴿
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ
شَهِيدًا﴾(النساء:41)، فجعل كل نبي شهيدا على أمته لكونه أفضل خلقه في
عصره، فجعل ذلك أفضل منزلة وأعلى رتبة.
ومن الدلالة على شرف الشهادة أن الله
تعالى خفض الفاسق عن قبول شهادته ورفع
العدل بقبولها فقال تعالى:﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(الطلاق:2)
فأخبر تعالى أن العدل هو المرضي فقال: ﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾(البقرة:282)،
وقال:﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:251)،
ومما فسرت به هذه الآية: ما يدفع الله عن الناس بالشهود في حفظ الأموال والدماء
والأعراض فهم حجة الأنام وبقولهم تنفذ الأحكام[15].
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشهادة
شرط لازم في عقد الزواج لا يعتبر صحيحاً بدونها، ومن الأدلة على ذلك:
· عن
ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: (البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة) [16]
· عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) [17]
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -:(أعلنوا النكاح ولو بالدف)، وفي رواية: عن عائشة رضي الله
عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: أظهروا النكاح، واضربوا عليه بالغربال[18].
· حضر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إملاك رجل من الأنصار فقال: أين شاهدكم فأتى
بالدف فأمر بأن يضرب على رأس الرجل.
· عن
أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نساء وصبيانا
جاؤوا من عرس فقام النبي - صلى الله عليه
وسلم - إليهم مثيلا يعني ماثلا وقال اللهم
إنكم من أحب الناس إلي[19].
· ما
روي أن رجلا تزوج امرأة سرا، فكان يختلف إليها فرآه جار لها، فقذفه بها، فاستعدى
عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فقال له عمر - رضي الله عنه -: بينتك على
تزويجها، فقال يا أمير المؤمنين كان أمر دون فأشهدت عليه أهلها، فدرأ عمر - رضي
الله عنه - الحد عن قاذفه، وقال: حصنوا
فروج هذه النساء، وأعلنوا هذا النكاح، ونهى عن المتعة[20].
· عن
أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة
فقال:(هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت)
· كان
لعائشة رضي الله عنها دف تعيره للأنكحة.
· القياس:
أن هذا عقد لاستباحة البضع فلم يفتقر إلى الشهادة كالرجعة وشراء الأمة، ولأنه عقد
على منفعة فلم تكن مفارقة الشهادة شرطا في صحته كالإجارة.
· سد
الذريعة: فلو جاز لكل من وجد مع امرأة في خلوة أو أقر بجماعها أن يدعي النكاح
لارتفع حد الزنا عن كل زان والتعزير في الخلوة فمنع من ذلك ليرتفع هذا المعنى[21].
· قال
الترمذي:( والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومن بعدهم من التابعين
وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم إلا قوم من
المتأخرين من أهل العلم، وإنما اختلف أهل العلم في هذا إذا شهدوا واحدا بعد واحد،
فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان معا عند
عقدة النكاح، وقد روى بعض أهل المدينة إذا شهد واحد بعد واحد فإنه جائز إذا أعلنوا
ذلك وهو قول مالك بن أنس وغيره، وقال بعض
أهل العلم يجوز شهادة رجل وامرأتين في النكاح وهو قول أحمد وإسحاق) [22]
فقد اتفق الفقهاء إذن على اشتراط الإشهادعلى الزواج، ولكن الاختلاف في ذلك لا يعدو أن يكون في بعض مسائل الإشهاد كوقت اشتراط الإشهاد، أو عدد الشهود، أو بعض مواصفات الشهود، والتي سنتعرض لها في ما يأتي من عناوين.
اختلف الفقهاء في الوقت الذي يشترط
فيه الإشهاد على قولين:
القول الأول: أنه لا يلزم
أن تكون الشهادة وقت العقد وإن كان ذلك مستحباً، وإنما يشترط الإعلان قبل الدخول،
فلو دخل قبل أن يشهد كان عاصياً ويفرق بينهما، فالإشهاد على العقد شرط تمام، وهو
مذهب المالكية وابن أبي ليلى وعثمان البتي، وقد لخص الخرشي رأي المالكية في اشتراط
الشهود بقوله: (الحاصل أن أصل الإشهاد على
النكاح واجب، وأما إحضارهما عند العقد فمستحب , فإن حصل الإشهاد عند العقد فقد وجد
الأمران الاستحباب والوجوب , وإن فقد وقت العقد ووجد عند الدخول فقد حصل الواجب وفات
الاستحباب، وإن لم يوجد إشهاد عند العقد والدخول ولكن وجدت الشهود عند واحد منهما
فالصحة قطعا , وإن لم يحصل الوجوب والاستحباب , وإن لم توجد شهود عند واحد منهما
فالفساد قطعا) [23] ومن أدلتهم
على ذلك:
· أن
ماروي من قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين) من حديث ابن
عباس وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم -
فهو حديث ضعيف،قال ابن المنذر: (لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر) [24] وقال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث: (لم
يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح شيء) [25]، ومع تقدير
صحته، فالمراد بالنكاح هنا البناء لا العقد، أو المراد به لا نكاح كامل.
· عن
أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أقام
النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خيبر والمدينة ثلاثا بنينا عليه بصفية بنت حيي
ودعوت المسلمين إلى وليمة فما كان فيها من خبز ولا لحم أمر بالأنطاع، فألقى فيها
من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو مما
ملكت يمينه , فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت
يمينه، فلما ارتحل وطأ لها خلفه وسدل الحجاب بينهما وبين الناس[26]. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
- قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، ولو كان أشهد على نكاحها لعلموا ذلك
بالإشهاد[27].
· أن
القول باشتراط الإشهاد عند العقد يبطل كثيرا من عقود زواج المسلمين، فقد عقد
المسلمون من عقود الزواج ما لا يحصيه إلا الله تعالى وليس في ذلك شهود،فعلم أن
اشتراط الإشهاد دون غيره باطل قطعا، قال ابن تيمية: ولهذا كان المشترطون للإشهاد
مضطربين اضطرابا يدل على فساد ما بنوا عليه , فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع ,
إذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين ,
والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإشهاد ذوي العدل , فكيف بالإشهاد
الواجب[28]؟
أما
بطلان رأي مخالفيهم من جهة القياس فقال يزيد بن هارون: أمر الله تعالى بالإشهاد في
البيع دون النكاح , فاشترط أصحاب الرأي الشهادة للنكاح , ولم يشترطوها للبيع[29].
أن
البيوع هي التي ذكرها الله تعالى فيها الأشهاد عند العقد، وقد قامت الدلالة بأن
ذلك ليس من فرائض البيوع، والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الأشهاد أحرى بألا
يكون الإشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلان والظهور لحفظ الأنساب.
أن
الإشهاد يصلح بعد العقد للتداعى والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين.
القول الثاني: أن الإشهاد واجب وقت العقد، فإذا وجد العقد بدون شهود كان
الزواج غير صحيح، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والأوزاعي والثوري، وهو
قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري والنخعي، ومن أدلتهم على ذلك[30]:
· عن
عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا نكاح إلا
بولي وشاهدي عدل , وما كان من نكاح على
غير ذلك فهو باطل , فإن تشاجروا , فالسلطان ولي من لا ولي له) [31] قال
الزيلعي:لم يقل فيه: وشاهدي عدل إلا ثلاثة أنفس: سعيد بن يحيى الأموي عن حفص بن
غياث , وعبد الله بن عبد الوهاب الحجي عن خالد بن الحارث , وعبد الرحمن بن يونس
الرقي عن عيسى بن يونس ; ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر[32].
· أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب وولي
وشاهدان) [33]
· قال
عمر - رضي الله عنه - :(لا أوتى برجل تزوج امرأة بشهادة رجل واحد إلا رجمته)
· أن
الحاجة مست إلى دفع تهمة الزنا عنها ولا تندفع إلا بالشهود ; لأنها لا تندفع إلا
بظهور النكاح واشتهاره، ولا يشتهر إلا بقول الشهود، وبه تبين أن الشهادة في النكاح
ما شرطت إلا في النكاح للحاجة إلى دفع الجحود والإنكار[34].
· أنه
لما كان الشرط هو الإظهار، ويعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا، وهو شهادة الشاهدين
فإنه مع شهادتهما لا يبقى سرا كما قال القائل:
سرك ما كان عند امرئ وسر الثلاثة غير الخفي
إظهار
خطر عقد الزواج فهو نظير اشتراط زيادة شيء في إثبات إتلاف ما يملك بالنكاح, وإنما
اختص ذلك من بين سائر نظائره بزيادة شاهدين، فكذلك هذا التمليك مختص من بين سائر
نظائره بزيادة شاهدين[35].
الترجيح:
نرى الأوجه في المسألة والأضبط لحفظ
الأعراض الجمع بين القولين، فيشترط الشهود في العقد لحفظ حقوق المرأة إذا ما طلقت
قبل الدخول، ويشترط الشهود كذلك قبل البناء تأكيدا له حتى لا يجحد الشهود حصول
البناء، ويكفي في ذلك إشهار النكاح بما يشهره به الناس عادة من الولائم والحفلات
وغيرها، أما الاقتصار على الإشهاد في العقد وحده وبشاهدين فقط ودون توثيق فإنا نرى
حرمة ذلك، فقد يموت الشهود أو ينسون أو يغيبون أو لا تتوفر فيهم شروط الشهادة،ثم
تضبع الحقوق الكثيرة بعد ذلك، وهي التي قصدها الشرع أولا حين شرع الإشهاد.
وقد ذكر ابن رشد سبب الخلاف في
المسألة، وهو هل الشهادة في ذلك حكم شرعي، أم إنما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف
أو الإنكار؟ فمن قال حكم شرعي قال: هي شرط من شروط الصحة ومن قال: هي توثق قال من
شروط التمام[36].
ونرى أن كلا المعنيين مقصودان في
الشهادة.
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز نكاح
السر، وهو النكاح الخالي من الشهادة والإعلان، واختلفوا إذا أشهد شاهدين، ووصيا
بالكتمان هل هو سر أو ليس بسر؟ على قولين:
القول الأول[37]: أنه نكاح سر ويبطل العقد، ويفسخ إن وقع، وهو قول
المالكية، قال ابن القاسم عن مالك: لو زوج ببينة وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز
النكاح، لأنه نكاح سر وإن تزوج بغير بينة استسرارا جاز واشهدا فيما يستقبلان، وروى
ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما، قال: يفرق
بينهما بتطليقة، ولا يجوز النكاح ولها صداقها، إن كان أصابها ولا يعاقب الشاهدان[38]، وقال ابن حبيب: يحدان إن ثبت الوطء ما لم يكن فاشيا , وقال ابن
القاسم: إذا لم يعذرا بالجهالة حدا , وشهادة الولي لهما بالنكاح لا تفيد، لأنه
يتهم أن يريد الستر على وليته.
وقد استدلوا على ذلك بأنه يصير نكاح
سر، وهو باطل لأن المطلوب في الزواج الإعلان كما حض عليه رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بقوله: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه الدفوف) [39]،وعن أبي هريرة
- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح السر[40].
القول الثاني: أن هذا لا
يؤثر في العقد، ولا يجعله سراً، وهو قول الحنفية والشافعية[41]، وكيف يكون سراً وقد حضره أربعة وهم العاقدان والشاهدان[42].
قال محمد بن الحسن الشيباني في الرد
على قول المالكية ببطلان زواج السر مبينا المصالح الشرعية التي قد تفوت بإبطاله:(
كيف يبطل هذا وقد شهدت عليه العدول؟ أرايتم رجلا زوج ابنته وهي ثيب برضاها وأمرها،
بالبينة العدول رجلا كفوا صالحا الا انهم يرضون من الصداق جميعا على امر استحبوا
أن لا يعلم به الناس، فسألهم أن يكتموا ذلك أيبطل ذلك النكاح؟ أرايتم رجلا مستخفيا
من سلطان زوج ابنته بالبينة العدول، واستكتم ذلك من خوف السلطان أبطل هذا النكاح،
أو يزوج الرجل نفسه وهو مستخف من السلطان أ من دين عليه فسألهم ان يكتموا لمكان
خوفه أيبطل هذا النكاح؟([43]
ثم ناقش ما نص عليه المالكية من أدلة
فقال: قالوا قد جاء في هذا أثر، فلا
نخالفه، قيل لهم: قد سمعنا ذلك، وحدثنا به فقيهكم مالك أن رجلا تزوج امرأة بشهادة
رجل وامرأة واحد، فأبطل ذلك عمر - رضي الله عنه - ، وقال: هذا نكاح السر لا أجيزه
ولو تقدمت فيه لرجمت، وهذا عندنا من النكاح الذي لا يجوز، لأن البينة لم تتكامل
فيه ولا يجوز الا بشاهدين عدلين أو رجل وامرأتين ممن يرضىبه من الشهداء، فإذا كملت
الشهادة التي يحل بها النكاح فذلك نكاح العلانية وإن خفي، وليس بنكاح السر.
ألا ترى لو أن رجلا جلس وسط المسجد
الحرام فنكح، ولم يحضر الا العبيد والنساء لم يجز النكاح، وان كان ظاهراحتى يشهد
على ذلك الاحرار المسلمون، أفلا ترون السر ههنا ليس على ما وصفتم، انما أبطل عمر -
رضي الله عنه - نكاح السر لأنه نكاح لم يتكامل
شهادة الشهود عليه[44].
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، لأن
الإشهاد هو الفاصل الأكبر بين الزواج والزنا، وإباحة زواج السر إشاعة للزنا وتضييع
لحقوق المرأة وأولادها.
ولهذا نص على هذا كثير من السلف،فقد
روي عن نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنه -
أنه قال: (ليس في الإسلام نكاح السر)، وعن عبد الله بن عتبة قال:(أشر
النكاح السر) وعن محمد بن حاطب: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت يعني الضرب
بالدف) [45]، ومقصود هذه
النصوص جميعا هو إعلان الزواج، لأنه المقصد الأصلي من الإشهاد، أما الاحتيال
بإحضار الشهود ثم استكتامهم فهو ينافي مقصد الشارع من الإشهاد، خاصة إذا كان في
ذلك إهدارا لحق المرأة، بل لحق بنيها في حال جحود الرجل لهم واستمرار الشهود في
الكتمان.
والعجيب أن يستدل ابن حزم مع ظاهريته
على أبيات من الشعر ولا يستدل بمقصد الشريعة من الإشهاد حين يقول: (وقال قوم: إذا
استكتم الشاهدان فهو نكاح سر وهو باطل،
قال أبو محمد: وهذا خطأ لوجهين: أحدهما
أنه لم يصح قط نهي عن نكاح السر إذا شهد عليه عدلان. والثاني: أنه ليس سرا
ما علمه خمسة: الناكح , والمنكح , والمنكحة , والشاهدان، قال الشاعر:
ألا كل سر جاوز اثنين شائع
وقال غيره:
السر يكتمه الاثنان بينهما وكل سر عدا الاثنين منتشر[46]
ومع ذلك فقد تبيح ظروف معينة هذا
النوع من الزواج كما نص الإباضية على أنه (إذا استكتموه خوفا من ظالم فالظاهر أنه
لا يحرم , ولا يفرق بينهما) [47]، ومثاله ما مر معنا سابقا من كلام
محمد بن الحسن الشيباني، فلكل حال ما يناسبه من الأحكام.
اتفق الفقهاء[48]
على أنه لا يثبت الزواج إلا بشاهدين على الأقل، على ما سنذكره من التفاصيل حول
دخول المرأة مع الشهود، ولم يقل أحد بأقل من الشاهدين إلا في هذه المسألة التي
يذكرها الحنفية والتي يكتفى فيها بشاهد واحد بناء على مذهبهم في الولاية، وهي: من
أمر رجلا أن يزوج ابنته الصغيرة، فزوجها والأب حاضر، بشهادة رجل واحد سواهما، فإنه
يجوز النكاح بهذه الصورة، لأن الأب يجعل مباشرا لاتحاد المجلس ويكون الوكيل سفيرا
ومعبرا فيبقى المزوج شاهدا، وإن كان الأب غائبا لم يجز، لأن المجلس مختلف فلا يمكن
أن يجعل الأب مباشرا، وعلى هذا إذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد , إن
كانت حاضرة جاز، وإن كانت غائبة لا يجوز لأنها إذا كانت حاضرة تجعل كأنها هي التي
باشرت العقد، وكان الأب مع ذلك الرجل شاهدين[49].
أما لو أقر
الوالد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح، فإنه لا يثبت النكاح بإقراره ما لم يشهد به
شاهدان عند أبي حنيفة , أما عند أبي يوسف ومحمد فإنه يثبت النكاح بإقراره[50].
انفرد المالكية
ببيان أحكام هذا النوع من الشهادة بناء على رأيهم في الشهادة، فتجوز عندهم شهادة
الأبداد[51] في النكاح , وهي أن لا يجتمع الشهود على شهادة الولي والزوج , بل إنما
عقدوا وتفرقوا , وقال كل واحد لصاحبه: أشهد من لقيت، فتتم عندهم بشهادة ستة شهود:
منهم اثنان على الولي , واثنان على الزوج , واثنان على الزوجة إن كانت ثيبا. وفي
البكر ذات الأب تتم بأربعة: منهم شاهدان على الزوج وشاهدان على الولي.
أما إن أشهد كل
واحد منهم الشهود الذين أشهدهم صاحبه مرة بعد مرة فليست شهادة أبداد، قال ابن
الهندي: شهادة الأبداد لا تعمل شيئا , إذا شهد كل واحد منهم بغير نص ما شهد به
صاحبه , وإن كان معنى جميع شهاداتهم واحدا
, حتى يتفق منهم شاهدان على نص واحد. لكن في المذهب خلاف فيما قاله ابن الهندي ,
ففي أحكام ابن سهل سئل مالك عن شاهدين شهد أحدهما في منزل أنه مسكن هذا , وشهد آخر
أنه حيزه , فقال خصمه: قد اختلفت شهادتهما. فقال مالك: مسكنه وحيزه شهادة واحدة لا
تفترق[52].
وقد اختلف في
قبول شهادتها في الأحكام المختلفة على أقوال كثيرة من لدن السلف الصالح، ويمكن حصر
مانقل عنهم في ذلك إلى ثلاثة أقوال:
القول
الأول[53]: عدم قبول
شهادة النساء مطلقا، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، قال مالك: (لا يقبل
النساء مع رجل ولا بدونه في قصاص , ولا حد, ولا نكاح , ولا طلاق , ولا رجعة , ولا
عتق , ولا نسب , ولا ولاء , ولا إحصان , وتجوز شهادتهن مع رجل في الديون والأموال
, والوكالة , والوصية التي لا عتق فيها , ويقبلن منفردات في عيوب النساء ,
والولادة والرضاع , والاستهلال , وحيث يقبل شاهد ويمين الطالب , فإنه يقضى فيه
بشهادة امرأتين مع رجل في الأموال كلها , وفي العتق , لأنه مال , وفي قتل الخطأ ,
وفي الوصية لإنسان بمال , ولا يقبلن في أصل الوصية , لا مع رجل ولا بدونه)،ومن
أدلتهم على ذلك:
· قوله
تعالى في الطلاق، وقيل في الرجعة: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾
(الطلاق: 2)، والأمر يقتضي الوجوب.
· أنه
قول كثير من السلف - رضي الله عنهم - ، قال سعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة: لا
تقبل شهادة النساء إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن، وقال عمر وعلي رضي الله عنهما: لا
تجوز شهادة النساء في الطلاق ولا النكاح ولا الدماء ولا الحدود، وقال الزهري: مضت
السنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعده ألا تجوز شهادة النساء
في الحدود والنكاح والطلاق[54].
· من
القياس، أن هذا معنى يثبت حكما في البدن، فإذا لم يثبت بشهادة النساء بانفرادهن لم
يثبت بشهادتهن مع الرجال كالحدود والقصاص، وأن هذا جنس لا يثبت النكاح باثنين منه
فلم يكن له مدخل في الشهادة به كالعبيد والفساق[55].
القول الثاني[56]: صحة شهادتهن
مع اشتراط وجود رجل معهن، وهو مذهب الحنفية[57]
في هذه المسألة
وفي أكثر مسائل الشهادات من القصاص والحدود والطلاق والرجعة مع الرجل، ولا يقبلن
عندهم منفردات لا في الرضاع ولا في انقضاء العدة بالولادة ولا في الاستهلال، بل يشترطون صحبة رجل معهن،ولا يقبلن منفردات إلا في
الولادة المطلقة وعيوب النساء،ومن أدلتهم على ذلك:
·
أن للنساء مع
الرجال شهادة أصلية، وبما أن فيها ضرب شبهة من حيث إنه يغلب الضلال والنسيان عليهن
كما أشار الله تعالى في قوله:﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾(البقرة:282)وبانضمام إحدى المرأتين إلى الأخرى
تقل تهمة النسيان، ولا تنعدم لبقاء سببها وهي الأنوثة، فلا تجعل حجة فيما يندرئ
بالشبهات كالحدود والقصاص، فأما النكاح والطلاق فيثبت مع الشبهات، فهي شهادة فيها
نظير شهادة الرجال، ولا إشكال أن تهمة الضلال والنسيان في شهادة الحضور لا تتحقق،
فكان ينبغي أن ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأة، ولكنه قد ثبت بالنص أن المرأتين شاهد
واحد فكانت المرأة الواحدة نصف الشاهد وبنصف الشاهد لا يثبت شيء، فاحتاجت إلى
تكميلها بامرأة أخرى[58].
· أن
هذا أيضا قول كثير من السلف فقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله: (لا تجوز شهادة النساء بحتا , حتى يكون
معهن رجل) وصح ذلك عن عطاء , وعمر بن عبد العزيز وصح عن جابر بن زيد قبول الرجل
والمرأتين في الطلاق والنكاح، وقال طاووس:
تجوز شهادة النساء في كل شيء مع الرجال , إلا الزنا , من أجل أنه لا ينبغي
أن ينظرن إلى ذلك، وعن عطاء بن أبي رباح , قال: تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل
شيء, ويجوز على الزنا امرأتان وثلاثة رجال وقال سفيان الثوري: تقبل المرأتان مع
الرجل في القصاص , وفي الطلاق , والنكاح , وفي كل شيء , حاشا الحدود , ويقبلن
منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء [59].
القول الثالث[60]: قبول شهادة النساء مطلقا، وهو مذهب الظاهرية، ومما استدل به
ابن حزم عل ذلك:
·
روايته عنه -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل) [61]، وبما أن الشهود اثنان فاشترط إشهاد
أربع من النسوة.
· أنه
قد نقل الاكتفاء بشهادة النسوة عن بعض السلف، فصح عن إياس بن معاوية قبول امرأتين
في الطلاق، وصح عن شريح: أنه أجاز شهادة أربع نسوة على رجل في صداق امرأة، وعن أبي
لبيد: أن سكرانا طلق امرأته ثلاثا , فشهد عليه أربع نسوة فرفع إلى عمر ابن الخطاب
, فأجاز شهادة النسوة , وفرق بينهما، وعن محمد بن سيرين أن رجلا ادعى متاع البيت ,
فجاء أربع نسوة فشهدن , فقلن: دفعت إليه الصداق , فجهزها به , فقضى شريح عليه
بالمتاع.
الترجيح:
نرى أن كل ذلك
يجوز بدليل اختلاف المروي عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - في ذلك، ولأن العبرة ليست في جنس الشاهد
وإنما في العدالة والضبط، وليس في النصوص
الشرعية ما يقيد هذا النوع من الشهادة بجنس بعينه، مع اعتبار أن شهادة المرأة بنصف
شهادة الرجل للنصوص الدالة على ذلك.
وهذه الشروط متعلقة بالذين يشرطون
الشهود حين العقد أما من يقول بالإعلان فلا يشترط هذه الشروط، فهو بمثابة الحديث
المتواتر المستفيض الذي يشترك في روايته البر والفاجر والصغير والكبير.
وقد ينكر البعض مبالغتنا في اعتبار
بعض هذه الشروط، ويزعم أن الحال تغير الآن، وأن التوثيق الكتابي أو الالكتروني قد
وصل إلى قمة درجاته، ولكن ذلك ـ فيما نرى ـ لا يعتبر مانعا من هذا الاستيثاق، فقد
يتعرض المكتوب لأي أذى، وقد يتلف الموثق إلكترونيا لأي سبب،ويحتاج بعدها لإعادة
التوثيق، ثم إننا لا نعتبر الشهود إلا جزءا من عملية التوثيق، ولهذا الجزء أهميته،
فلذلك لا ينبغي بالتقصير في الشرووط جعل الشهادة أمرا شكليا مع أهميتها المشار
إليها في النصوص وأقوال الفقهاء.
فلذلك لا يصح أن نعتبر بعض الخلاف
الوارد في بعض هذه المسائل مثلما يقول بعض فقهاء الحنفية عند ذكره لشروط الإشهاد
على النكاح:(الشرط فيه حضور الشاهدين لإسماعهما
وفي رواية لا بد من سماعهما , ولو عقد بحضرة النائمين جاز على الأصح ولا
ينعقد بحضور الأصمين على المختار وبحضرة السكارى صح إذا فهموا , وإن لم يذكروا بعد
الصحو) [62]
وقال آخر:(وإن سمعا كلام العاقدين
ولم يعرفا تفسيره قيل بأنه يصح والظاهر خلافه، وعن محمد رحمه الله تعالى إذا تزوج
امرأة بحضرة تركيين أو هنديين ; قال: إن أمكنهما أن يعبرا ما سمعا ; جاز وإلا فلا) [63]
وعقب على ذلك بقوله:(وهل يشترط فهم الشاهدين
العقد، ذكر في الفتاوى أن المعتبر السماع دون الفهم حتى لو تزوج بشهادة الأعجميين
جاز قال الظهير: والظاهر أنه يشترط الفهم أيضا) [64]
وسبب عدم اعتبار مثل هذا الخلاف هو
منافاته للقواعد الشرعية التي تسد الذرائع أمام التحايل على المقاصد الشرعية
بالأخذ بالشكل الظاهر للحكم دون مراعاة تحقيقه للغاية، وقد ذكر الفقهاء ذلك في
معرض ردهم على مثل هذه الأقوال، قال في درر الحكام:(ولقد أنصف المحقق الكمال حيث
قال: ولقد أبعد عن الفقه وصرف عن الحكمة الشرعية من جوزه بحضرة النائمين) [65]
وهذه الشروط كثيرة جدا يمكن جمع
شتاتها في شرطين، الأهلية لتحمل الشهادة، والثقة في صدق الشاهد وعدم اتهامه
بالكذب، وهذا المبحث تفصيل لفروع هذين الشرطين:
الشرط الأول:
الأهلية لتحمل الشهادة
ويتعلق به
المسائل التالية[66]:
اتفق الفقهاء
على أنه لا تصح شهادة الصبيان، ومن الأدلة على ذلك:
·
قوله تعالى:﴿ وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾(البقرة:282)، والصبي ليس من الرجال[67].
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ , وعن الصغير
حتى يكبر , وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق) [68]
· أنه
إذا لم يؤمن على حفظ أمواله , فلأن لا يؤمن على حفظ حقوق غيره أولى.
أجمع العلماء
على أنه لا تصح شهادة غير العاقل, سواء أذهب عقله بجنون أو سكر، لأنه لا يعقل ما
يقوله ولا يصفه، ولأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله، ولأنه لا يأثم بكذبه, ولا
يتحرز منه.
اختلف الفقهاء
في قبول شهادة العبد على قولين[69]:
القول الأول: لا تجوز شهادة العبيد، وهو قول جمهور الفقهاء , واستدلوا
على ذلك بما يلي:
·
قياس العبد على
الكافر , لأنه منقوص بالرق , وذلك بالكفر.
· قوله
تعالى:﴿
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ﴾(النحل:75)
والشهادة شيء , فهو غير قادر عليها.
· قوله
تعالى:﴿ وَلَا
يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة:282) فنهى الشهداء عن
التخلف والإباء , ومنافع العبد لسيده , فله أن يتخلف ويأبى إلا خدمته.
· قوله
تعالى:﴿
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾(المعارج:33) والعبد ليس من
أهل القيام على غيره.
· أن الشهادة ولاية , والعبد ليس من أهل الولاية
على غيره.
· أن
الرق أثر من آثار الكفر , فمنع قبول الشهادة كالفسق.
· أن
من فيه رق مشتغل بخدمة سيده فلا يتفرغ لأداء الشهادة.
القول الثاني: قبول شهادته، وهو قول الحنابلة، وقد أجازوا قبول شهادته في كل شيء إلا في الحدود والقصاص،
واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
الاستصحاب، وقد
عبر عن ابن حزم بقوله:(لو أراد الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام تخصيص عبد
من حر في ذلك لكان مقدورا عليه: ﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ قال تعالى:﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾(البقرة:282)،
وقال تعالى:﴿ إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه﴾(البينة:7،8)، فلم يختلف مسلمان قط في أن هذا
خير يدخل فيه العبيد والإماء كدخول الأحرار والحرائر , وحرام على كل أحد أن لا
يرضى عمن أخبر الله تعالى أنه قد رضي عنه , فإذ قد رضي الله عن العبد المؤمن
العامل بالصالحات , ففرض علينا أن نرضى عنه , وإذ فرض علينا أن نرضى عنه , ففرض
علينا قبول شهادته) [70]
· قال
تعالى:﴿
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾(البقرة:143) والوسط: العدل
الخيار , ولا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب , فهو عدل بنص القرآن , فدخل تحت
قوله تعالى:﴿
وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(الطلاق: 2)
· قال
تعالى:﴿ يا
أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ﴾ , وهو من الذين آمنوا
قطعا , فيكون من الشهداء كذلك.
· قال
تعالى:﴿
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾(البقرة:282), ولا ريب أن
العبد من رجالنا.
· قال
تعالى:﴿ إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾(البينة:7)،فالعبد
المؤمن الصالح من خير البرية , فكيف ترد شهادته؟ وقد عدله الله ورسوله.
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله , ينفون عنه تحريف
الغالين, وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين) [71], والعبد يكون من حملة العلم , فهو
عدل بنص الكتاب والسنة.
· إجماع
العلماء على أن العبد مقبول الشهادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا روي
عنه الحديث , فكيف تقبل شهادته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تقبل
شهادته على واحد من الناس؟
· إن
المقتضى لقبول شهادة المسلم عدالته , وغلبة الظن بصدقه , وعدم تطرق التهمة إليه ,
وهذا بعينه موجود في العبد , فالمقتضى موجود والمانع مفقود.
· أن
الرق لا يصلح أن يكون مانعا من الشهادة , لأنه لا يزيل مقتضى العدالة, ولا تطرق
تهمة , كيف والعبد الذي يؤدي حق الله وحق سيده له أجران حيث يكون للحر أجر واحد ,
وهو أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل الجنة.
· أن
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم القدوة قبلوا شهادته، فعن الشعبي.
قال: قال شريح: لا نجيز شهادة العبد , فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
لكنا نجيزها،فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده،وعن المختار بن فلفل , قال: سألت
أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن شهادة
العبد؟ فقال: جائزة. وقال الثوري عن عمار الدهني , قال: شهدت شريحا شهد عنده عبد
على دار , فأجاز شهادته , فقيل: إنه عبد , فقال شريح: كلنا عبيد وإماء.
الترجيح:
مع أن أمثال
هذه المسائل لا توجد في واقعنا المعاصر إلا أن ما دعانا للحديث عنها وبيان الأرجح
الذي نراه جانبان، أحدهما نظري يتمثل في بيان كيفية تعامل الإسلام مع الرقيق،
والثاني عملي، لأن الاسترقاق وإن ألغي في واقعنا إلا أن ما يدعو إليه، وهو الحروب
ـ مثلا ـ غير ملغاة، فلذلك يجب المحافظة على تلك الأحكام لتحفظ لغيرنا كما حفظت
لنا، ولا غضاضة في اعتبار الإسلام للرق وعدم إلغائه كما ألغته الحضارة الحديثة،
لأنها ألغت رق الأفراد وشرعت رق الشعوب.
وانطلاقا من
هذين الجانبين فإن الأرجح الذي نراه حول شهادة الرقيق هو اعتبار شهادتهم خلافا
لقول الجمهور، لأن الإجماع القديم ينص عليه، فقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك -
رضي الله عنه - أنه قال: (ما علمت أحدا
رد شهادة العبد) [72]، وهو يدل ـ كما يقول ابن القيم ـ
على أن ردها إنما حدث بعد عصر الصحابة - رضي الله عنهم - , واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك والشافعي
وأبو حنيفة, وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم , فصار هذا القول عند الناس هو
المعروف, ولما كان مشهورا بالمدينة في زمن مالك , قال: (ما علمت أحدا قبل شهادة
العبد) مع أن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
يقول ضد ذلك.
ثم إن ابن
القيم بحسه المقاصدي رجح قبول شهادة العبد , واعتبرها موجب الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة , وصريح القياس , وأصول الشرع , وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع
ولا قياس، وقد ذكرنا في أدلة القول الثاني ما أشار إليه ابن القيم من أدلة في
الموضوع.
أما ماستدل
المخالفون به من قياس العبد على الكافر , لأنه منقوص بالرق , وذلك بالكفر فهو كما يقول ابن القيم:(وهذا من أفسد القياس
في العالم , وفساده معلوم بالضرورة من الدين)، ومثله استدلالهم بالآية، وقد أجاب
على ذلك ابن حزم بقوله:(تحريف كلام الله عن مواضعه يهلك في الدنيا والآخرة , ولم
يقل الله تعالى: إن كل عبد لا يقدر على شيء , إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من
عبيده هذه صفته , وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار , وبالمشاهدة نعرف كثيرا
من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار. ونقول لهم: هل يلزم العبيد الصلاة
والصيام والطهارة , ويحرم عليهم من المآكل والمشارب والفروج ما يحرم على الأحرار , أم لا يلزمهم ذلك؟
لكونهم لا يقدرون عندكم على شيء ألبتة) ثم قال:(ومن نسب هذا إلى الله فقد كذب عليه
جهارا) [73]
ومما استدلوا
به كذلك قوله تعالى:﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة:282) وادعوا أن العبد لا يقدر على أداء الشهادة ; لأنه مكلف خدمة سيده، وقد رد على ذلك ابن حزم بقوله:(بل هو قادر على أداء
الشهادة كما يقدر على الصلاة , وعلى النهوض إلى من يتعلم منه ما يلزمه من الدين،
ولو سقط عن العبد القيام بالشهادة لشغله بخدمة سيده لسقط أيضا عن الحرة ذات الزوج
لشغلها بملازمة زوجها) [74]
وقد ناقض بعض
هؤلاء مقاصد الشريعة بإجازتهم شهادة الفساق وعدم إجازتهم شهادة العبيد ولو كانوا
صالحين، يقول ابن القيم ردا عليهم: (وأجزتم شهادة الفاسقين والمحدودين في القذف
والأعميين في النكاح , ثم ناقضتم فقلتم: لو شهد فيه عبدان صالحان عالمان يفتيان في
الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما , فمنعتم انعقاده بشهادة من
عدله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعقدتموه بشهادة من فسقه الله ورسوله
ومنع من قبول شهادته) [75].
أما ما استدلوا
به من اعتبار الشهادة نوعا من الولاية فإنه يقال لهم ـ كما يذكر ابن القيم ـ: ما
تعنون بالولاية؟ أتريدون بها الشهادة , وكونه مقبول القول على المشهود عليه , أم
كونه حاكما عليه منفذا فيه الحكم؟ فإن أردتم الأول كان التقدير: إن الشهادة شهادة
والعبد ليس من أهل الشهادة , وهذا حاصل دليلكم , وإن أردتم الثاني فمعلوم البطلان
قطعا , والشهادة لا تستلزمه.
وقد أفاض كلا
من ابن القيم وابن حزم في ذكر الأدلة الصريحة لهذا القول، وقد أفضنا في المسألة
لتكون أساسا للترجيح في غيرها من المسائل المماثلة التي تراعي مقاصد الإسلام في
رعاية الرقيق والحفاظ على حقوقهم ورد الاعتبار لهم، لأن حقوق الرقيق لا تتعلق فقط
بالمأكل والمشرب والمسكن، بل تتعداه إلى حقوقهم الاجتماعية باعتبارهم أفرادا من
المجتمع الإسلامي كسائر أفراده.
اختلف الفقهاء
في اعتبار هذا الشرط على الأقوال التالية[76]:
القول الأول: لا تصح شهادة الأعمى مطلقا، وهو قول الحنفية، وذهب زفر من
الحنفية، وهو رواية عن أبي حنيفة إلى قبول شهادته فيما يجري فيه
التسامع ; لأن الحاجة فيه إلى السماع, ولا خلل فيه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
عن ابن عباس
قال سئل - صلى الله عليه وسلم - عن
الشهادة فقال:(ترى هذه الشمس فاشهد وإلا فدع) [77] فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة
الشاهد لما شهد به والأعمى لا يعاين المشهود عليه فلا تجوز شهادته.
· أن
الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته، لأن الصوت قد يشبه الصوت، وإن المتكلم قد
يغير نغمته حتى لا يغادر منها شيئا ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب.
· أن
الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة ولو عبر لفظ الشهادة بأن يقول أعلم أو
أتيقن لم تقبل شهادته، فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ، وهذا اللفظ يقتضي.
· أن
الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه معاين ولا مشاهد لمن يحضره لأن
العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه ذلك من مشاهدته، ولما كانت الشهادة
إنما هي مأخوذة من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة
إثبات الحق عليه وكان ذلك معدوما في الأعمى وجب أن تبطل شهادته[78].
القول الثاني: لا تصح شهادة
الأعمى في الأفعال، لأن طريق العلم بها البصر , وكذا في الأقوال إلا فيما يثبت
بالاستفاضة ; لأن مستندها السماع وليس الرؤية , إلا في الترجمة
بحضرة القاضي لأنه يفسر ما سمعه، وهو قول الشافعية.
القول الثالث: تجوز شهادته في الأقوال دون الأفعال فيما لا يشتبه عليه من
الأقوال إذا كان فطنا , ولا تشتبه عليه الأصوات , وتيقن المشهود له , والمشهود عليه
, فإن شك في شيء منها
فلا تجوز شهادته، وهو قول المالكية.
القول الرابع: تجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت لأنه رجل عدل مقبول
الرواية فقبلت شهادته كالبصير ; ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين , وقد
يكون المشهود عليه من ألفه الأعمى , وكثرت صحبته له , وعرف صوته يقينا , فيجب أن تقبل شهادته , فيما تيقنه
كالبصير , ولا سبيل إلى إنكار حصول اليقين
في بعض الأحوال، وهو قول الحنابلة.
وهذا الاختلاف
بالنسبة للتحمل والأداء، أما إن تحمل الشهادة وهو بصير ثم عمي، فقد اختلف الفقهاء
في صحة أدائها على قولين:
القول الأول: أن الأعمى لو تحمل شهادة تحتاج إلى البصر , وهو بصير ,
ثم عمي فإن تحمل على رجل معروف بالاسم والنسب يقر لرجل بهذه الصفة , فله أن يشهد
بعدما عمي , وتقبل شهادته لحصول العلم , وإن لم يكن كذلك لم تقبل، وهو قول
المالكية والشافعية والحنابلة، ونص الحنابلة على أنه إن تيقن صوته لكثرة إلفه له
صح أن يشهد به، ونفس الحكم
ينطبق على من شهد عند الحاكم , وهو بصير , ثم عمي قبل الحكم بشهادته , جاز الحكم
بها عندهم، لأنه معنى طرأ بعد أداء الشهادة فلا يمنع الحكم بها , كما لو مات
الشاهدان أو غابا بعد أداء الشهادة.
القول الثاني: عدم قبول شهادته في الحالتين السابقتين، وهو قول أبي حنيفة
ومحمد[79]، واستدلوا على
ذلك بما يلي:
·
أن حال تحمل
الشهادة أضعف من حال الأداء، بدليل أنه يجوز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو
صبي ثم يؤديها وهو حر، فتقبل شهادته، ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز،
فعلم من ذلك أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل فإذا لم يصح تحمل الأعمى
للشهادة وكان العمى مانعا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء.
· أنه
لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته، فمثله ما لو أداها وبينهما حائل لم
تجز شهادته، والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه، فوجب أن لا تجوز.
· أنه
إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه، فإن كان من أهل الشهادة قبلناها، وإن لم يكن من
أهل الشهادة لم نقبلها، والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا
اعتبار بغيره.
الترجيح:
بما أن الأصل
في شروط الشهادات هو القدرة على التحمل، والثقة في الأداء، فإن مناط قبول شهادة
الأعمى تحملا أو أداء هو التيقن من قدرته على التحمل، وقد استدل القرطبي على هذا
الأصل في الشهادة بقوله تعالى على لسان إخوة يوسف - عليه السلام -: ﴿ وَمَا
شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾(يوسف:81) فقال:(تضمنت هذه الآية جواز
الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع
إلا ممن علم ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات) [80]
ثم عقب على ذلك
بذكر بعض تطبيقات هذا الأصل فقال:(ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة
المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشهادة على الخط ذا
تيقن أنه خطه أو خط فلان صحيحة، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به، وإن لم
يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى:﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف:86))
ولكنه مع هذا
الأصل نرى في حالة وجود هذه الحالة الاستكثار من الشهود، ولو ممن لم تتوفر فيهم
شروط الشهادة حرصا على تمام التوثيق، ومراعاة للاختلاف فقد اشترط بعض الفقهاء في
انعقاد النكاح على المرأة المنتقبة أن يراها الشاهدان قبل العقد فلو عقد عليها وهي منتقبة ولم يعرفها الشاهدان لم يصح، لأن
استماع الشاهد العقد كاستماع الحاكم الشهادة[81].
وقد ذكر بعض
الفقهاء[82]
الإجماع على اعتبار هذا الشروط، لكن القرطبي نفاه بقوله:(وما ذكروه من الاجماع في شهادة
الأخرس فغلط، وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام
اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ) [83]،ولذا يمكن اعتبار الخلاف في المسألة
على قولين:
القول الأول: لا تصح شهادة الأخرس، وهو قول جمهور الفقهاء، وقد حكي إجماعا،
ولا يصح، واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
افتقار الشاهد
لأهم أدوات الشهادة وهي التعبير عن شهادته، قال السرخسي: لأن أداء الشهادة يختص
بلفظ الشهادة، حتى إذا قال الشاهد أخبر وأعلم لا يقبل ذلك منه، ولفظ الشهادة لا
يتحقق من الأخرس[84].
· أن
شهادة الأخرس مشتبهة، لأنه يستدل بإشارته على مراده وهي غير موجب للعلم فتتمكن من
شهادته تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود.
· أنه
لا تكون إشارته أقوى من عبارة الناطق لو قال: أخبر.
· أن
الأخرس غالبا يكون أصم فيقع الخلل في التحمل.
القول الثاني: صحة شهادته إذا عرفت إشارته، وهو قول المالكية، وقال بعض
الحنابلة بقبول شهادة الأخرس إذا أداها بخطه[85]، وقد استدل
لهذا القول ابن المنذر بقوله:(والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي
أن يكون القذف مثل ذلك)
وقال المهلب:(وقد تكون الاشارة في كثير
من أبواب الفقه أقوى من الكلام، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -(بعثت أنا والساعة
كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، وفي إجماع العقول
على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الاشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من
الكلام[86].
الترجيح:
نرى أن الأرجح
في المسألة هو اشتراط النطق في الشهود لافتقار الشهادة إلى كثير من التفاصيل التي
قد تعجز الإشارة عن الدلالة عليه، وسدا لذريعة تأويل الإشارة بما لا يقصده صاحبها،
إلا إذا كان المشير عارفا بالكتابة، فيمكنه الشهادة بالكتابة عوضا عن الإشارة، أما
شهادة الأداء التي تحملها صاحبها، وهو سليم فإنها معتبرة بلا شك، ويتحرى في معرفة
إشارته الثقات والخبراء حفاظا عل الحقوق.
لا شك في أنه
لا تقبل شهادة مغفل لا يضبط أصلا أو غالبا لعدم التوثق بقوله , أما من لا يضبط
نادرا والأغلب فيه الحفظ والضبط فتقبل قطعا ; لأن أحدا لا يسلم من ذلك.
وقد نبه
الفقهاء هنا إلى بعض الأمور المرتبطة بالضبط، منها: ضبط الوقت الذي تتم فيه
الشهادة بحيث يجب على شهود النكاح ضبط التاريخ بالساعات واللحظات، ولا يكفي الضبط
بيوم العقد، فلا يكفي أن النكاح عقد يوم الجمعة مثلا، بل لا بد أن يزيدوا على ذلك
بعد الشمس مثلا بلحظة أو لحظتين، أو قبل العصر أو المغرب، لأن النكاح يتعلق به
لحاق الولد لستة أشهر ولحظتين من حين العقد فعليهم ضبط التاريخ بذلك لحق النسب[87].
وهو شرط متفق عليه بين الفقهاء[88]، بل نقل الإجماع في ذلك في زواج
المسلم بالمسلمة، فلا ينعقد نكاح المسلم المسلمة بشهادة الكفار، لقوله
تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾(البقرة:282)،
وقوله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَى
عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(الطلاق: 2)، والكافر ليس بعدل،
وليس منا، ولأنه أفسق الفساق، ويكذب على الله تعالى فلا يؤمن منه الكذب على خلقه،
ولأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم كما قال الله تعالى:
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾(النساء:141)
أما لو تزوج مسلم كتابية بشهادة
كتابيين فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز سواء كانا موافقين لها في الملة أو مخالفين، وهو قول
أبي حنيفة وأبي يوسف، ومن أدلتهم على ذلك:
·
أن الشهادة في
اللغة عبارة عن الإعلام والبيان , والكافر من أهل الإعلام والبيان ; لأن ذلك يقف
على العقل واللسان والعلم بالمشهود به , وقد وجد.
· أن
شهادته على المسلم خصت من عموم الحديث فبقيت شهادته للمسلم داخلة تحته.
· أن
إسلام الشاهد صار شرطا في نكاح الزوجين المسلمين بالإجماع، فمن ادعى كونه شرطا في
نكاح المسلم الذمية فعليه الدليل.
· أن
الحديث الذي أورده المخالفون ضعيف، وفي حال ثبوته يحمل على نفي الندب والاستحباب
توفيقا بين الأدلة.
· أن
الشهادة من باب الولاية، والكافر الشاهد يصلح وليا في هذا العقد بولاية نفسه،
ويصلح قابلا لهذا العقد بنفسه فبه صلح شاهدا.
القول الثاني: لا يجوز نكاح المسلم الذمية بشهادة الذميين، وهو قول الشافعي
وأحمد ومحمد وزفر، ومذهب الإباضية، ومن أدلتهم على ذلك:
·
قوله - صلى
الله عليه وسلم -: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)والمراد منه عند الحنفية ـ كما
سنرى ـ عدالة الدين لا عدالة السلوك
لإجماعهم على أن الفسق لا يمنع انعقاد النكاح.
· أن
الإشهاد شرط جواز العقد، والعقد يتعلق وجوده بالطرفين - طرف الزوج وطرف المرأة -
ولم يوجد الإشهاد على الطرفين لأن شهادة الكافر حجة في حق الكافر، وليست بحجة في حق المسلم فكانت شهادته
في حقه ملحقة بالعدم فلم يوجد الإشهاد في جانب الزوج، فصار كأنهما سمعا كلام
المرأة دون كلام الرجل.
الترجيح:
بما أن الغرض من الإشهاد هو إعلان
الزواج، فإن تحقق هذا الإعلان بهذا النوع من الشهود، فلا حرج في استشهادهم، خاصة
إن كانوا من الضابطين، وكانت أخلاقهم تأبى عليهم الكذب ونحوه مما يخل بالشهادة،
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في
الجاهلية كخيارهم في الإسلام إذا فقهوا) [89]
بل ورد في القرآن الكريم ما يدل على
توثيقهم في بعض الأمور وقبول شهادتهم فيها، كما قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ
ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ
شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الْآثِمِينَ﴾(المائدة:106) فقد
أجازت الآية شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر، وهو جواز يدل على
التوثيق والقبول عند الحاجة.
لما كانت الشهادة، وهي قبول قول
الغير على الغير بهذه المرتبة العظيمة من الدين، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة، فمن حكم الشاهد أن تكون
له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها، حتى تكون له مزية على غيره توجب له تلك
المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته، وسنتكلم عن هذا
الشرط من النواحي التالية[90]:
لغة[91]: العدالة في اللغة مأخوذة من
الاستقامة والعدل مأخوذ من الاعتدال وسمي العدل عدلا لاستواء أفعاله حتى لا يكون
فيها ميل عن الصواب،
وعدل هو بالضم عدالة وعدولة فهو عدل أي مرضي يقنع به، ويطلق العدل على الواحد
وغيره بلفظ واحد، ويجوز أن يطابق في التثنية والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الأنباري
وأنشدنا أبو العباس:
وتعاقدا العقد الوثيق وأشهدا من كل قوم مسلمين عدولا
وربما طابق في التأنيث، وقيل امرأة
عدلة.
اصطلاحا:
هي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة،أدناها ترك الكبائر والإصرار على الصغائر
وما يخل[92].
نص الفقهاء على أن العدل هو الذي
تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، قال القرطبي:(قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتم بأن
يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته، وعلى ترك الصغائر، ظاهر مغفل وقيل: صفاء
السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل) [93]، ويمكن حصر
خصال العدالة في الناحيتين التاليتين:
وذلك بأن لا يرتكب كبيرة , ولا يداوم
على صغيرة , لأن الله تعالى أمر أن لا
تقبل شهادة القاذف , فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة , ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة
; لقول الله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾(النجم:32) واللمم
صغار الذنوب والتحرز منها غير ممكن , وقيل: اللمم أن يلم بالذنب , ثم لا يعود
فيه،وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما[94]؟)[95].
أما الكبائر وقد اختلف العلماء في
حدها وتمييزها من الصغيرة اختلافا عظيما، وصنفت لعدها وتفصيلها المصنفات، ومن
الأقوال الواردة فيها ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار
أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال آخرون: هى ما أوعد الله عليه بنار أوحد في الدنيا
وغير ذلك من الأقوال الكثيرة الواردة عن السلف ومن بعدهم.
ولعل أحسن حد لها، وأعظمه ارتباطا
بمقاصد الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد ما ذكره الشيخ الامام أبو محمد العز
بن عبد السلام - رضي الله عنه - بقوله:
إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر
المنصوص عليها[96]، فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى
مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر، فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو
رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو استهان
بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهى
من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزنى
بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم
مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون
بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم فان نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من
توليه يوم الزحف بغير عذر، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على انسان كذبا يعلم
أنه يقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر،
وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال
خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن هذه
المفاسد، كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وان لم يتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط
ذلك بنصاب السرقة، والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب، والحاكم مباشر
فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى.) [97]
وقد ذكرنا هذا النص بطوله لأنه يكاد
يعبر عن كثير من الكبائر التي يستهان بها اليوم، وهي من أكبر الكبائر المتسببة في
عدم الاعتبار في الشهادات.
وقد نص الفقهاء على أنه لا تجوز
شهادة آكل الربا , والعاق , وقاطع الرحم , ولا تقبل شهادة من لا يؤدي زكاة ماله ,
وإذا أخرج في طريق المسلمين الأسطوانة والكنيف لا يكون عدلا , ولا يكون ابنه عدلا
إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذه من طريق المسلمين , ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب
الشديد ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد شهادة رجل في كذبه، وقد قال - صلى
الله عليه وسلم -:(لا تجوز شهادة خائن
ولا خائنة،ولا مجلود حدا ولا مجلودة، ولا ذي غمر لأخيه، ولا مجرب شهادة،ولا القانع
أهل البيت لهم، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة) [98]
أما الصغائر, وهي ما عدا
الكبائر، فإنه إن كان مصرا عليها , ردت
شهادته, وإن كان الغالب من أمره الطاعات, لم يرد ; لعدم إمكان التحرز منها.
والعلة في اشتراط المروءة في العدالة
هي أن المروءة تمنع الكذب , وتزجر عنه, ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا
دين، وقد روي عن أبي سفيان , أنه حين سأله قيصر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وصفته قال: والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب , لكذبته[99]، ولم يكن يومئذ ذا دين، ولأن الكذب دناءة , والمروءة تمنع من
الدناءة، وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب , اعتبرت في العدالة , كالدين , ومن
فعل شيئا من هذا مختفيا به , لم يمنع من قبول شهادته ; لأن مروءته لا تسقط به،
ومثله ما لو فعله مرة , أو شيئا قليلا , لم ترد شهادته ; لأن صغير المعاصي لا يمنع
الشهادة إذا قل , فهذا أولى , ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا , ما لم يكن عادته.
وقد ذكر الفقهاء مظاهر كثيرة لخوارم
المروءة، منها ما يمكن قبوله لانسجامه مع القواعد الشرعية والمقاصد الكلية، ومنها
ما قد يكون تعبيرا عن واقع معين لا عن الحكم الشرعي العام في المسألة، وسنذكر
أمثلة عن بعض هذه الخوارم والموقف الحالي حولها:
فمن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء
لذلك: الأكل في السوق، وفسروا ذلك بأن ينصب مائدة في السوق , ثم يأكل والناس
ينظرون، وقد خرج هذا عن أن يكون خارما لاعتبار الواقع له، فالمطاعم الآن منصوبة في
الأسواق والناس يغدون عليها ويروحون، وإن كنا لا نحبذ هذا السلوك أو الجلوس في هذه
المطاعم إلا لضرورة إلا أن ذلك لم يعد خارما للمروءة.
ومنها أن يكشف ما جرت العادة بتغطيته
من بدنه , أو يمد رجليه في مجمع الناس , أو يخاطب امرأته أو جاريته أو غيرهما
بحضرة الناس بالخطاب الفاحش , أو يحدث الناس بمباضعته أهله , ونحو هذا من الأفعال
الدنيئة , ففاعل هذا لا تقبل شهادته ; لأن هذا سخف ودناءة , فمن رضيه لنفسه
واستحسنه , فليست له مروءة , فلا تحصل الثقة بقوله،وقد قال أحمد , في رجل شتم
بهيمة: قال الصالحون: لا تقبل شهادته حتى يتوب [100]، وقد روى أبو
مسعود البدري , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن مما أدرك الناس من
كلام النبوة الأولى , إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [101]أي أن من لم
يستح يصنع ما شاء.
وقد نص الفقهاء كذلك على أن من كان
من أهل الصناعات الدنيئة ; كالكساح والكناس
لا تقبل شهادتهما ; لما روي أن رجلا أتى ابن عمر - رضي الله عنه - , فقال
له: إني رجل كناس , فقال: أي شيء تكنس , الزبل؟. قال: لا، قال: العذرة؟ قال: نعم. قال: منه كسبت المال , ومنه تزوجت ,
ومنه حججت؟ قال: نعم. قال: الأجر خبيث , وما تزوجت خبيث , حتى تخرج منه كما دخلت
فيه، وروي عن ابن عباس مثله في الكساح [102].
وهذا كله إن صح فإنه يحمل على عدم
تورع أصحاب هذه الصناعات عن الكذب لا أن الفعل نفسه محرم، فهو أقرب إلى التعبير عن
الواقع منه إلى التعبير عن الحكم الشرعي، ولهذا اختلف الفقهاء في بعض الحرف
كالزبال والقراد والحجام ونحوها , فقد ذكروا فيها وجهين ; أحدهما , لا تقبل
شهادتهم ; لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات , والوجه الثاني أنها تقبل ; لأن بالناس
إليه حاجة. فعلى هذا الوجه , إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها
ويصليها , فإن صلى بالنجاسة , لم تقبل شهادته , وجها واحدا.
أما سائر الصناعات التي لا دناءة
فيها، فلا ترد الشهادة بها , إلا من كان منهم يحلف كاذبا , أو يعد ويخلف , وغلب
هذا عليه , فإن شهادته ترد،ومثله من كان منهم يؤخر الصلاة عن أوقاتها , أو لا
يتنزه عن النجاسات , فلا شهادة له , ومن كانت صناعته محرمة ; كصانع المزامير
والطنابير , فلا شهادة له، ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا , كالصائغ والصيرفي ,
ولم يتوق ذلك , ردت شهادته[103]، وأمثال هؤلاء في عصرنا وغيرهم كثير.
حكم اشتراط
العدالة في الشهادة على الزواج:
اختلف في اشتراط العدالة في شهود عقد
الزواج على قولين:
القول الأول:اشتراط العدالة، وهو مذهب
المالكية والشافعية والحنابلة، ومن أدلتهم على ذلك:
·
قوله - صلى
الله عليه وسلم -: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) [104]
· أن
الشهادة خبر يرجح فيه جانب الصدق على جانب الكذب , والرجحان إنما يثبت بالعدالة.
· أن
الشهادة في باب النكاح للحاجة إلى صيانته عن الجحود والإنكار , والصيانة لا تحصل
إلا بالقبول فإذا لم يكن مقبول الشهادة لا تحصل الصيانة.
· أن
في رد شهادة الفاسق مصلحتين هما:عدم الوثوق به، فقد يحمله قلة مبالاته بدينه
ونقصان وقار الله تعالى في قلبه على تعمد الكذب، وهجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته
به , فقبول شهادته فيها إبطال لهذا الغرض المطلوب شرعا.
القول الثاني: عدم اشتراط العدالة في الشهود، فيجوز شهادة غير العدول في
الزواج، وهو مذهب الحنفية، ولكنهم فرقوا بين أهلية الأداء وأهلية التحمل، فأجازوا
للفاسق التحمل، ولم يجيزوا له الأداء، فينعقد بحضور المحدود في القذف ولو لم يتب، لأن كونه
مردود الشهادة على التأبيد يقدح في الأداء لا في التحمل، ولأنه يصلح وليا في
النكاح بولاية نفسه ويصح القبول منه بنفسه ويجوز القضاء بشهادته في الجملة فينعقد
النكاح بحضوره , وإن حد ولم يتب أو لم يتب ولم يحد، ومن أدلتهم على ذلك:
·
أن عمومات النكاح
مطلقة عن هذا الشرط، ثم إن اشتراط أصل الشهادة بصفاتها المجمع عليها ثبتت بالدليل
فمن ادعى شرط العدالة فعليه البيان.
· أن
الفسق لا يقدح في ولاية الإنكاح.
· أن
الفسق لا يقدح في أهلية التحمل , وإنما يقدح في الأداء فيظهر أثره في الأداء لا في
الانعقاد.
· أن الاشتهار في النكاح لدفع تهمة الزنا لا لصيانة
العقد عن الجحود والإنكار , والتهمة تندفع بالحضور من غير قبول , على أن معنى
الصيانة يحصل بسبب حضورهما وإن كان لا تقبل شهادتهما ; لأن النكاح يظهر ويشتهر
بحضورهما , فإذا ظهر واشتهر تقبل الشهادة فيه بالتسامع فتحصل الصيانة[105].
الترجيح:
لا شك في اعتبار هذا الشرط، لأن
النصوص الشرعية قيدت الشهادة بالعدالة، وخاصة إذا لم يحضر من الشهود إلا اثنان،
حرصا على حفظ النسل والعرض الذي يقدم على حفظ المال، وقد اعتبرت النصوص الصحيحة
الصريحة هذا الشرط في المال، والعرض والنسل أولى بالحيطة منه، قال القرطبي: (وإذ
قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا، فاشتراطها في النكاح أولى
خلافا لأبي حنيفة، حيث قال إن النكاح ينعقد بشهادة فاسقين فنفي الاحتياط المأمور
به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب).
ثم قال:(قول أبي حنيفة في هذا الباب
ضعيف جدا لشرط الله تعالى الرضا والعدالة وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام،
وإنما في أحواله حسب ماتقدم، ولا يغتر بظاهر قوله: أنا مسلم فربما انطوى على
مايوجب رد شهادته، مثل قوله تعالى:﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَِ(البقرة:204،205)، وقال:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون ﴾(المنافقون:4)) [106]
ولكنه مع ذلك ومن باب الضرورة قد يتساهل في هذا الشرط
بشرط استكثار الشهود،
قال القرافي:( نص بعض العلماء على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا
أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم , ويلزم ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع
المصالح. قال: وما أظن أحدا يخالف في هذا , فإن التكليف شرط في الإمكان , وهذا كله للضرورة
لئلا تهدر الأموال وتضيع الحقوق) [107]
قال في معين الحكام:(قال بعضهم: وإذا
كان الناس فساقا إلا القليل النادر قبلت شهادة بعضهم على بعض , ويحكم بشهادة
الأمثل فالأمثل من الفساق , هذا هو الصواب الذي عليه العمل وإن أنكره كثير من
الفقهاء بألسنتهم , كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ونفوذ أحكامه وإن أنكروه
بألسنتهم , وكذلك العمل على صحة كون الفاسق وليا في النكاح ووصيا في المال , وهذا
يؤيد ما نقله القرافي , وإذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها ,
والله تعالى لم يأمر برد خبر الفاسق فلا يجوز رده مطلقا، بل يتثبت فيه حتى يتبين
صدقه من كذبه فيعمل على ما تبين وفسقه عليه) [108]
وينبغي كذلك من باب الحرص على مصالح
الناس، التساهل في ناحية أخرى، وهي النظر إلى العدالة من زوايا مختلفة، لأن الكثير
من الكبائر، والتي ذكرنا بعضها من قبل مما تعم به البلوى، ومن الحرج أن نشترط
الابتعاد عن ذلك النوع من الكبائر خشية تعطل المصالح، خاصة إذا علم صدق الشاهد،
وأنه من أصدق الناس، وأن فسقه بغير الكذب , وقد استأجر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - هاديا يدله على طريق المدينة وهو
مشرك على دين قومه , ولكن لما وثق بقوله أمنه ودفع إليه راحلته وقبل دلالته.
ولهذا يذكر ابن قيم الجوزية أن مدار
قبول الشهادة وردها على غلبة الصدق وعدمه، ولهذا يقول بأن العدالة تتبعض , فيكون
الرجل عدلا في شيء فاسقا في شيء , فإذا تبين للحاكم أنه عدل فبما شهد به قبلت
شهادته ولم يضره فسقه في غيره[109].
ومستور الحال[110] أو العدالة هو المعروف بها ظاهرا لا باطنا، بأن عرف بالمخالطة دون
التزكية عند الحاكم، والخلاف السابق لا يتعلق بمستور الحال، فأكثر العلماء عل جواز
شهادته، واستثنى ابن الصلاح من ذلك ما إذا كان العاقد هو الحاكم لتيسر إحضار
العدول باطنا على الحاكم، لكن شنع عليه بعض المتأخرين في ذلك تشنيعا فاحشا وبعضهم
نسبه إلى أنه تفرد بذلك[111].
وقد ذهب بعض الفقهاء خلافا لهؤلاء
إلى اشتراط أن يكون الشهود مبرزي العدالة، وقد قال فيهم ابن تيمية: (فهؤلاء شهود
الحكام معدلون عندهم , وإن كان فيهم من هو فاسق في نفس الأمر) [112].
ولكنه مع جواز شهادة مستور الحال إلا
أنه ينبغي التحري عن أحوال هؤلاء الشهود خاصة فيما يتعلق بهذه الأسس الهامة من
الدين، وقد روي أنه شهد عند عمر - رضي الله عنه -
رجل فقال له عمر: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك، فقال رجل
من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك
الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه، قال: لا، قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل
بهما على الورع،قال: لا،قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق
قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك[113].
ومن الأدلة التي نص عليها الفقهاء
لقبول شهادة مستور الحال:
· ما
روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
أنه خطب، فقال:(إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من
أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه
وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم
نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة) [114]، وقد استدل
بهذا القول على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة نظرا إلى ظاهر الحال، وأنه يكفي في
التعديل ما يظهر من حال المعدل من الاستقامة كشف عن حقيقة سريرته، لأن ذلك متعذر
إلا بالوحي، وقد انقطع.
· مشقة
معرفة العدالة الكاملة، فالنكاح يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس ممن لا يعرف حقيقة العدالة، فاعتبار
ذلك يشق، فاكتفي بظاهر الحال، وكون الشاهد مستورا لم يظهر فسقه، فإن تبين بعد
العقد أنه كان فاسقا لم يؤثر ذلك في العقد، لأن شرط العدالة متعلق بالظاهر وهو أن
لا يكون ظاهر الفسق وقد تحقق ذلك.
· أن
الشرط إنما يعتبر حالة العقد، ولو أقر رجل وامرأة أنهما نكحا بولي وشاهدي عدل قبل
قولهما وثبت النكاح بإقرارهما.
· لو
اعتبر في شاهدي النكاح أن يكونا معدلين عند الحاكم لما صح نكاح أكثر الناس إلا
بذلك.
· أن
الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي
الله عنهم - كانوا يعقدون الأنكحة بمحضر من بعضهم , وإن لم يكن الحاضرون معدلين
عند أولي الأمر.
· أن
الظاهر من المسلمين العدالة.
وقد نقل الاجماع على عدم اعتبار
الشهود المتهمين[115] القرافي في قوله: (اعلم أن الأمة مجمعة على رد الشهادة بالتهمة من
حيث الجملة، لكن وقع الخلاف في بعض الرتب) [116]
ثم بين وجه حصر مواضع الإجماع
والخلاف في ذلك بقوله:(وتحرير ذلك أن التهمة ثلاثة أقسام مجمع على اعتبارها لقوتها
, ومجمع على إلغائها لخفتها , ومختلف فيها هل تلحق بالرتبة العليا فتمنع أو
بالرتبة الدنيا فلا تمنع)
ولذلك فإنه يمكن تقسيم التهم من حيث
القوة والضعف ـ كما قسمها العز بن عبد السلام[117]، وكما أشار إلى ذلك القرافي ـ إلى ثلاثة أقسام هي:
تهمة قوية:
وهي تهمة موجبة لرد الحكم والشهادة، ومن أمثلتها حكم الحاكم لنفسه ,
وشهادة الشاهد لنفسه , وعلة ذلك ـ كما يذكر العز بن عبد السلام ـ أن قوة الداعي الطبعي قادحة في الظن المستفاد
من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن
ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه , ولا لاستناد الحكم إليه.
تهمة ضعيفة: وهي تهمة غير معتبرة، ومن أمثلتها
شهادة الأخ لأخيه , والصديق لصديقه , والرفيق لرفيقه، فلا أثر لهذه التهمة , وقد
خالف مالك في الصديق الملاطف، فلم يعتبرها, قال ابن حزم: (وما نعلم أحدا سبق مالكا إلى
القول برد شهادة الصديق الملاطف) [118] وهذا الاتهام
لا عبرة به، قال العز:(ولا تصلح تهمة الصداقة للقدح
في الوازع الشرعي , وقد وقع الاتفاق على أن الشهادة لا ترد بكل تهمة) [119]
بل إن ابن حزم يحكي عن بعض الفقهاء
أنه رد شهادة الفقير، وهو مناقض لما وردفي النصوص من الثناء على الفقراء كما قال
الله تعالى:﴿ لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُون﴾(الحشر:8) قال ابن حزم:(فمن رد شهادة هؤلاء
لخاسر , وإن من خصهم دون سائر الفقراء لمتناقض، وما نعلم لهم في هذه الأقوال سلفا
من الصحابة - رضي الله عنهم - أصلا) [120].
تهمة مختلف في رد الشهادة والحكم بها: وقد اختلف الفقهاء في بعض المسائل
منها:
وقد اختلف الفقهاء في قبول شهادة
العدو لعدوه[121] على قولين[122]:
القول الأول: شهادة العدو
غير مقبولة على عدوه , وهو قول أكثر أهل العلم، وقد روي ذلك عن ربيعة , والثوري , وإسحاق
, ومالك , والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة , ولا زان ولا
زانية , ولا ذي غمر على أخيه) [123]، والغمر:
الحقد.
· عن
شريح قال: مضت السنة في الإسلام: أنه لا تجوز شهادة خصم.
· أن
العداوة تورث التهمة، فتمنع الشهادة , كالقرابة القريبة.
· أن
العداوة لا يصح قياسها على الصداقة ; لأن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره
بمضرة نفسه , وبيع آخرته بدنيا غيره , وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه ,
بالتشفي من عدوه , فافترقا.
القول الثاني: لا تمنع
العداوة الشهادة، وهو قول أبي حنيفة وابن حزم، واستدل على ذلك بأنها لا تخل
بالعدالة , فلا تمنع الشهادة , كالصداقة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر
إلى عدالة المعادي وتقواه وورعه عن الكذب في الشهادة، فإن كان بهذه الصفة جاز
استشهاده، ولو استحكمت العداوة بينه وبين من يشهد له، لأن العبرة في الشهادة بعدالة الشهود لا بعلاقاتهم، وقد
رجح ابن حزم هذا القول وانتصر له، فقال:(من شهد على عدوه نظر , فإن كان تخرجه
عداوته له إلى ما لا يحل فهي جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد , وفي كل شيء - وإن كان
لا تخرجه عداوته إلى ما لا يحل فهو عدل يقبل عليه) [124]
وقد استدل ابن حزم لذلك بأن الآثار
التي استدل بها المخالفون كلها باطلة سندا[125]ومتنا، لأنها
لو صحت لكانت مخالفة لهم ; لأن فيها أنه لا تجوز شهادة ذي الغمر على أخيه مطلقا
عاما، وهم يمنعونها من القبول على عدوه فقط , ويجيزونها على غيره وهو خلاف تلك
الآثار، ثم إن الله تعالى قال: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8) فأمرنا الله تعالى
بالعدل مع أعدائنا، فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما , أو شهد -
وهو عدل - على عدوه أو صديقه أو لهما , فشهادته مقبولة وحكمه نافذ.
اختلف الفقهاء في شهادة القريب
لقريبه على الأقوال التالية[126]:
القول الأول: أن شهادة الوالد لولده لا تقبل , ولا لولد ولده , وإن سفل,
وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، ولا تقبل شهادة الولد لوالده , ولا لوالدته
, ولا جده , ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا , وسواء في ذلك الآباء والأمهات ,
وآباؤهما وأمهاتهما، وهو قول شريح والحسن , والشعبي , والنخعي , ومالك , والشافعي
, وإسحاق , وأبي عبيد , والحنفية، وهو ظاهر مذهب الحنابلة[127]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
ما روى الزهري , عن عروة , عن عائشة
, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة , ولا
ذي غمر على أخيه , ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) [128]والظنين:
المتهم , والأب يتهم لولده ; لأن ماله كما له.
· أن
بينهما بعضية , فكأنه يشهد لنفسه , ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (فاطمة بضعة
مني , يريبني ما رابها) [129]
· أنه
متهم في الشهادة لولده , كتهمة العدو في الشهادة على عدوه , والخبر أخص من الآيات
, فتخص به.
· كتب
عمر إلى أبي موسى: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد , أو مجربا عليه
شهادة زور , أو ظنينا في ولاء , أو في قرابة.
القول الثاني: إجازة شهادة الأقارب، وقد روي هذا القول عن عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - , وكثير من الصحابة - رضي
الله عنهم - ، وبه قال شريح , وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم،وإياس بن معاوية , وعثمان البتي , وإسحاق بن راهويه , وأبو ثور
, والمزني , وأبو سليمان , وهو قول الظاهرية،وقد عبر عن هذا القو ل ابن حزم
بقوله:(وكل عدل فهو مقبول لكل أحد وعليه , كالأب والأم لابنيهما , ولأبيهما والابن
والابنة للأبوين والأجداد , والجدات , والجد , والجدة لبني بنيهما , والزوج
لامرأته , والمرأة لزوجها , وكذلك سائر الأقارب بعضهم لبعض , كالأباعد ولا فرق)،
واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن
ما رواه أصحاب القول الأول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه قال:(لا تجوز
شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنين في ولاء أو
قرابة , ولا مجلود في حد) لا يصح، قال ابن حزم: وهذا عليهم لا لهم لوجوه)، ومن
الوجوه التي ذكرها: أنه لا يصح لأنه عن يزيد،
وهو مجهول، فإن كان يزيد بن سنان فهو معروف بالكذب , ولو فرضت صحته
فالمستدلون به مخالفون له في موضعي، هما: تفريقهم بين الأخ والأب , وبين العم وابن
الأخ , وبين الأب والابن، وكلهم سواء، إذ هم متقاربون في التهمة بالقرابة، وكلهم يجيز المولى لمولاه، وهو خلاف الخبر، وكلهم يجيز المجلود في الحد إذا
تاب، وهو خلاف هذا الخبر[130].
· قول
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تجوز شهادة الوالد لولده , والولد لوالده , والأخ
لأخيه.
· أن
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - شهد
لفاطمة - رضي الله عنها - عند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، ومعه أم أيمن
فقال له أبو بكر: لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك.
· عن
سليمان بن أبي سليمان , قال: شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقضى بشهادتي. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن
عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال: أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه
إذا كان عدلا.
الترجيح:
نرى الأرجح في المسألة قبول شهادة
القريب لقريبه إذا توفرت عدالة القريب، للحاجة التي قد تضطر لذلك، ومع ذلك يستحب
الاستكثار من الشهود في مثل هذه المسائل خروجا عن الخلاف، وليس في النصوص الصحيحة
الصريحة ما يمنع من هذا، وإنما هو من باب سد الذريعة، كما قال الزهري: لم يكن يتهم
سلف المسلمين الصالح شهادة الوالد لولده , ولا الولد لوالده , ولا الأخ لأخيه ,
ولا الزوج لامرأته، ثم دخل الناس بعد ذلك , فظهرت منهم أمور حملت الولاة على
اتهامهم , فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة وصار ذلك من الولد , والوالد ,
والأخ , والزوج , والمرأة , لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
وقد قال شبيب بن غرقدة: كنت جالسا
عند شريح , فأتاه علي بن كاهل , وامرأة وخصم لها , فشهد لها علي بن كاهل، وهو
زوجها، وشهد لها أبوها , فأجاز شريح شهادتهما
فقال الخصم: هذا أبوها , وهذا زوجها. فقال له شريح: هل تعلم شيئا تجرح به
شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة.
ومما يدل على الضرورة التي قد تستدعي
شهادة هؤلاء ما رواه شبيب بن غرقدة ـ أيضا ـ أنه سمع شريحا أجاز لامرأة شهادة
أبيها وزوجها، فقال الرجل: إنه أبوها وزوجها. فقال شريح: فمن يشهد للمرأة إلا
أبوها وزوجها.
أما النصوص التي استدل بها المخالفون
فليس فيها ما يمنع من قبول هذه الشهادة، فمن أدلتهم ـ كما يذكر ابن حزم ـ قول
النبي - صلى الله عليه وسلم -:(أنت ومالك لأبيك) [131]،وأمره هندا
بأخذ قوتها من مال زوجها، بحجة البعضية بين الشاهد والمشهود عليه، وقد رد على ذلك
ابن حزم بقوله:(ليس فيهما منع من قبول شهادة الابن لأبويه , ولا من قبول الأبوين
له - وإن كان هو وماله لهما - فكان ماذا؟ ونحن كلنا لله تعالى وأموالنا وقد أمرنا
بأن نشهد له عز وجل , فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾(النساء:135)، وكل ذي حق فهو
مأمور بأخذ حقه ممن هو له عنده متى قدر على ذلك، أجنبيا كان أو غير أجنبي، ومن لم
يفعل ذلك فقد عصى الله تعالى وأعان على الإثم والعدوان وقدر على تغيير منكر فلم
يفعل، بل أقر المنكر والباطل والحرام ولم يغير شيئا من ذلك) [132]
ثم ذكر استدلالا آخر لهم، وهو قوله
تعالى:﴿ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(لقمان:14)،
وقد رد عليه بقوله:(وهذه أعظم حجة عليهم ; لأن من الشكر لهما بعد شكر الله
تعالى أن يشهد لهما بالحق , وليس من الشكر
لهما أن يشهد لهما بالباطل. وقد قال الله تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾(النساء:36) فقد سوى الله تعالى بين كل من
ذكرنا في وجوب الإحسان إليهم, فيلزم من اتهمه لذلك في الوالدين , وفي بعض ذوي
القربى والصاحب بالجنب , وما ملكت يمينه:
أن يتهمه في سائرهم , فلا يقبل شهادة أحدهم لقريب جملة , ولا لجار , ولا لابن سبيل
, ولا ليتيم , ولا لمسكين , وإلا فقد تلوثوا في التخليط بالباطل ما شاءوا , فلم
يبق في أيديهم إلا التهمة , والتهمة لا تحل)
ويكفي في ترجيح ذلك ما حكاه الزهري:
أنه لم يختلف الصدر الأول في قبول الأب لابنه والزوجين أحدهما للآخر , والقرابة
بعضهم لبعض حتى دخلت في الناس الداخلة، وهو إخبار
عن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، قال ابن حزم:(ثم ليت شعري: ما الذي
حدث مما لم يكن , والله لقد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
المنافقون - الذين هم شر خلق الله تعالى والكفار , والزناة , والسراق , والكذابون
, فما ندري ما الذي حدث , وحاش لله تعالى أن يحدث شيء بغير الشريعة. ونحن نشهد
بشهادة الله عز وجل: أنه تعالى لو أراد أن لا يقبل أحد ممن ذكرنا لمن شهد له لبينه
وما أغفله) [133]، وهو رد قوي
من ابن حزم لأن عموم الأحكام الشرعية لا ينبغي أن تتأثر بالحوادث، وإلا ألغت
الحوادث الأحكام الشرعية، بل ينبغي أن يبقى الحكم الشرعي على عمومه، ثم يفتى لكل
حادثة بما يناسبها من دون تعميم.
لما نص عليه قوله تعالى:﴿
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون﴾(النور:4)، وقد اختلف الفقهاء[134] في حال توبة المحدود وصلاحه، هل تقبل شهادته أم لا على قولين[135]:
القول الأول: شهادة القاذف لا تقبل أبدا، ولو تاب وكذب نفسه، وهو قول
شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة، واستدلوا
على ذلك بما يلي:
· أن
الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما وجب
أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن
تقوم الدلالة على رجوعه إليها.
· أن
حكم الشرط أن يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفا على بعض وذلك لأن الشرط
يشبه الإستثناء الذي هو مشيئة الله عز وجل من حيث كان وجوده عاملا في رفع الكلام
حتى لا يثبت منه شيء ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع شيء وجائز أن لا يوجد
الشرط أبدا فيبطل حكم الكلام رأسا ولا يثبت من الجزاء شيء فلذلك جاز رجوع الشرط
إلى جميع المذكور كما جاز رجوع الإستثناء بمشيئة الله تعالى.
· أن
التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها فعلم أن هذه التوبة مشروطة للحد
دون عذاب الآخرة.
القول الثاني: إذا تاب القاذف قبلت شهادته،وهو قول الجمهور، واستدلوا
على ذلك بأن الاستثناء عامل في رد الشهادة، وإنما كان
ردها لعلة الفسق،
فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده.
وقد اختلف أصحاب هذا القول في صورة
توبته على الآراء التالية:
الرأي الأول: أن توبته لاتكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد
فيه، وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
والشعبي وغيره، وهكذا فعل عمر - رضي الله عنه
- فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من
أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب الشبل بن
معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لايقبل
شهادته.
الرأي الثاني: توبته أن يصلح ويحسن حاله، وإن لم يرجع عن
قوله بالتكذيب، وأن حسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، وهو
قول مالك وابن جرير.
الرأي الثالث: أنه إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه
التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء،
ويروى عن الشعبي، واستدل على ذلك بأن الاستثناء من
الأحكام الثلاثة لمن تاب.
الترجيح:
هذه المسألة ترجع إلى أصل لغوي يحتمل
كلا المعنيين فسرت من خلاله الآية، وهذا الأصل يرجع إلى مسألتين لغويتين تسوغان هذا
الإجمال هما:
هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة
للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال.
وهل يشبِّه الاستثناء بالشرط في عوده
إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يُشبَّه به، لأنه من
باب القياس في اللغة.
ومما يدل على هذا الإجمال أنه قد جاء
في كتاب الله تعالى كلا الأمرين فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع
باتفاق العلماء، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاقهم
كذلك، وبقيت آية القذف محتملة للوجهين.
وبما أن كل ذلك محتمل لغة ولا يصح
ترجيح جهة على جهة أخرى، فالنظر ـ هنا إلى الفقه المقاصدي الذي قد يرجح أحد
الجانبين.
ومن خلال النظر المقاصدي والكلي
لأحكام الشريعة يتبين من خلال ما ذكر أصحاب القول الثاني من:
· أنه
ليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، مع أن الزاني إذا تاب قبلت
شهادته لأن التائب من الذنب كمن لاذنب له.
· أن
الله إذا قبل التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، وقد قال الشعبي للمخالف في
هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته.
· أنه
ليس القاذف بأشد جرما من الكافر فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، وقوله تعالى ﴿
أبدا ﴾ أي ما دام قاذفا كما يقال لاتقبل شهادة الكافر أبدا فإن معناه مادام
كافرا.
فهذه الأدلة تقوي القول الثاني، وقد
رجح هذا القول كذلك من جهة اللغة الشوكاني بقوله: (وقول الجمهور هو الحق، لأن
تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ماقبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من
متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد
بكونه قيدا لها لا تنفى كونه قيدا لما قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد
المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعا عليه) [136]
ولكنا مع ذلك نرى أن الأرجح قبول شهادته
بشرط إكذاب نفسه وعدم شهادته فيما قذف فيه، لأن ذلك أبلغ في صدق توبته، لأن محل
التوبة هنا هو القذف، وهو معصية متعدية، والمعصية المتعدية لا تكفر إلا بالاستحلال
ورد الحقوق إلى أصحابها.
ويرتبط تطبيق هذا القول واقعيا
بمسألة ذكرها الفقهاء، وهي: هل تزول الشهادة بنفس القذف أم بإقامة الحد؟ وقد اختلف
الفقهاء فيها على قولين: أحدهما أنه تبطل شهادته بنفس القذف،
وتلزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه، وهو قول الليث بن سعد والشافعي، والقول
الثاني أن شهادته مقبولة
ما لم يحد، وهو قول الحنفية والمالكية[137]
ونرى ترجيح هذا القول الذي ينجر عنه عدم إمكانية تطبيق مثل هذا
الشرط في البلاد التي لا تطبق الحدود الشرعية، وذلك للأدلة التالية[138]:
· قوله
تعالى:﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾(النور:13)،
فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط، بل إذا لم يأتوا بالشهداء، ومعلوم أن المراد إذا
لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة عند الإمام، فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس
القذف فقد خالف الآية.
· قوله
تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون﴾(النور:4)، فأوجب بطلان شهادته عند
عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه، وفي ذلك دلالة على جواز شهادته وبقاء حكم
عدالته ما لم يقع الحد به.
· أن
ثم في الآية للتراخي في حقيقة اللغة، فهي حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال
العجز عن إقامة الشهود، فمن حكم بفسقهم بنفس القذف، فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك
أن تكون شهادة مردودة لأجل القذف، فثبت بذلك أنه بنفس القذف لم تبطل شهادته.
· قوله
- صلى الله عليه وسلم -:(المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف)، فأخبر -
صلى الله عليه وسلم - ببقاء عدالة القاذف مالم يحد.
· أنه
لو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا
لشهادته، وهي قد بطلت قبل ذلك.
· أنه
لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف، أو أن يكون
محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه، فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف، لبطلت شهادته،
فواجب أن لا يقبل بعد ذلك بينة على الزنا، إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في
قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقة في كون المقذوف زانيا، فلما لم يختلفوا في حكم
قبول بينته على المقذوف بالزنا، وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن
يكون كاذبا، فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه.
· أن
قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف، ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه
ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته، ولما أمر أن يشهد أربع
شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه، ولما وعظ في ترك
اللعان الكاذب منهما.
اختلف الفقهاء[139] في شهادة البدوي[140] على القروي على قولين:
القول الأول: هي جائزة إذا
كان عدلا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعي والشافعي،
وروي نحوه عن الزهري، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· الآيات
الدالة على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي،
لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾(البقرة:282)، وهؤلاء من جملة المؤمنين، ثم
قال تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾(البقرة:282)،
يعني من رجال المؤمنين الأحرار وهذه صفة هؤلاء، ثم قال:﴿ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ﴾،وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون، وفي تخصيص
القروي بها دون البدوي ترك العموم بغير دلالة.
· عن
ابن عباس - رضي الله عنه - قال شهد أعرابي
عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- في رؤية الهلال، فأمر بلالا ينادي في
الناس: فليصوموا غدا، فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام[141].
القول الثاني: لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلا
في الجراح، وهو قول المالكية[142]، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل
وجماعة من أصحابه، قال أحمد: أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية لهذا الحديث[143] (الآتي ذكره)،واستدلوا على ذلك بما يلي:
·
عن أبي هريرة
أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول:(لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) [144] قال محمد بن عبد
الحكم: تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال ولا ترد
الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق[145].
· الاتهام
الذي قد قد يحمله من يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر.
· لما
فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرائع، ولأنهم في الغالب لا يضبطون
الشهادة على وجهها.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة عدم
التفريق بين الشهود على أساس مساكنهم، وذلك لمناسبة هذا القول لقواعد الشرع
العامة،وقد حكى الشوكاني قول ابن رسلان:(وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته
من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم)
وعقب عليه بقوله: (وهذا حمل مناسب،
لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويا غير مناسب لقواعد
الشريعة، لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول، لعدم صحة جعل ذلك مناطا
شرعيا، ولعدم انضباطه، فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في
العدالة، وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية، فعند وجود العدالة يوجد القبول
وعند عدمها يعدم ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - المنع من شهادة البدوي إلا لكونه
مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة، وإلا فقد قبل - صلى الله عليه وسلم - في
الهلال شهادة بدوي) [146]
أما ما ورد به الحديث فقد أجاب عنه
العلماء بإجابات كثيرة منها:
· أن
الخبر الذي استدلوا به لا يجوز الإعتراض به على ظاهر القرآن، مع أنه ليس فيه ذكر
الفرق بين الجراح وبين غيرها، ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر، ثم إنه
يجوز أن يكون في أعرابي شهد شهادة عند النبي
- صلى الله عليه وسلم -، وعلم النبي
- صلى الله عليه وسلم - خلافها مما يبطل شهادته فأخبر به، فنقله الراوي دون
ذكر السبب، وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على
الأعراب، كما قال تعالى:﴿ وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ
مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِر﴾(التوبة: 98)، فإنما منع قبول
شهادة من هذه صفته من الأعراب، وقد وصف الله قوما آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة
ومدحهم بقوله:﴿ وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(التوبة:99)،فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند
الله وعند المسلمين مقبول الشهادة.
· أنه
لا يخلو البدوي من أن يكون مقبول الشهادة على القروي، إما لطعن في دينه أو جهل منه
بأحكام الشهادات، وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز، فإن كان لطعن في دينه فإنه
مختلف في بطلان شهادته، ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي، وإن كان لجهل منه
بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدوي مثله، وأن لا تقبل شهادته في
الجراح، ولا على القروي في السفر، كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة[147].
· أن
العلة في ذلك ما ذكره ابن الأثير بقوله: إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين، والجهالة
بأحكام الشرع، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها[148]،فيصبح الحكم بالتالي يدور مع علته وجودا وعدما.
ومع ذلك فقد يكون للقول الثاني وجه
مقاصدي صحيح ينبغي مراعاته، وهو في حال ارتحال البدوي مع الحاجة إلى أقوال الشهود،
فقد تضيع الحقوق بسبب ذلك، فلهذا يسد هذا الخلل بالاستكثار من الشهود، والأولى
الشهود المقيمين للاستماع لشهادتهم عند الحاجة.
([2]) انظر هذه التعاريف وغيرها في: منار السبيل:2/445، الإقناع للشربيني:2/612، شرح
زيد بن رسلان:211، فتح المعين:4/273، البحر الرائق:7/55، شرح فيتح القدير:7/375،
الشرح الكبير:4/164.
([3]) الفروع: 6/473، المحرر في الفقه: 2/243، عمدة الفقه: 163، المهذب:2/323،
حاشية البجيرمي: 4/374، الهداية شرح البداية: 3/116، فتاوى السغدي: 2/794، الكافي
لابن عبد البر: 487.
([4]) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وقال النووي: هو حسن، قال الذهبي: حديث لم يصح:
وقال ابن حجر: فيه انقطاع، ورواه الحاكم والدارقطني عن أبي سعيد وزاد من ضر ضره
الله ومن شق شاق الله عليه، وفيه عثمان بن محمد بن عثمان لينه عبد الحق والحديث حسنه
النووي في الأربعي، ورواه مالك مرسلا وله طرق يقوي بعضها بعضا وقال العلائي للحديث
شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به، انظر: فيض القدير:6/432،
مجمع الزوائد: 4/110، سنن البيهقي الكبرى:6/69، ابن ماجة:2/784، الموطأ:2/745،
أحمد:1/313.
([7]) ذكر القرطبي في تفسير الآية ثلاثة أقوال أحدها ما ذكرنا، والقولين
الثانيين، هما:
ـ لايكتب الكاتب مالم يمل عليه
ولايزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها، قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد
وغيرهم.
ـ لايمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد
وعطاء.
ولايضار على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت
الراء في الجزم لخفة الفتحة قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ،لأن
بعده وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم فالأولى أن تكون من شهد بغير الحق أو حرف في
الكتابة أن يقال له محمود فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول، ولا
مانع من الجمع بين الأقوال جميعا، انظر: تفسير القرطبي:3/405.
([10]) اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على الأقوال
التالية:
القول الأول: أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم
ذلك الإنسان أنه شاهد فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له، وهو تأويل مالك وأصحاب
الشافعي
القول الثاني: أنه محمول على شهادة الحسبة وذلك حقوق الآدميين
المختصة بهم، فما تقبل فيه شهادة الحسبة الطلاق والعتق والوقف والوصايا العامة
والحدود ونحو ذلك، فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي وإعلامه
به.
القول الثالث: أنه محمول على المجاز والمبالغة في أداء الشهادة
بعد طلبها لا قبله كما يقال: الجواد يعطي قبل
السؤال أي يعطي سريعا حق السؤال من غير توقف، انظر: النووي على مسلم:12/17.
ولا مانع من حمل الحديث على هذه المعاني جميعا.
([12]) احتج بهذا بعض المالكية في رد شهادة من حلف معها، وجمهور العلماء أنها لا
ترد، ومعنى الحديث أنه يجمع بين اليمين والشهادة فتارة تسبق
هذه وتارة هذه، وقال ابن الجوزي: المراد أنهم لا يتورعون ويستهينون بأمر
الشهادة واليمين، انظر: تحفة الأحوذي:10/244.
([16]) قال الترمذي: هذا محفوظ لا نعلم أحدا رفعه إلا ما روى عن عبد الأعلى عن
سعيد عن قتادة مرفوعا، وروى عن عبد الأعلى عن سعيد هذا الحديث موقوفا، سنن
الترمذي:3/411 ،قال ابن الجوزي: عبد الأعلى ثقة والرفع زيادة والزيادة من الثقة
مقبولة وقد يرفع الراوي الحديث وقد يقفه، التحقيق في أحاديث الخلاف:2/268،
وانظر:سنن البيهقي الكبرى:7/123، مصنف ابن أبي شيبة:3/458، الدراية:2/55.
([17]) حكم جمهور المحدثين على هذا الحديث بالضعف، قال ابن حجر:حديث عمران بن حصين:
لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ،رواه أحمد والدارقطني والطبراني والبيهقي من حديث
الحسن عنه، وفي إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك، ورواه الشافعي من وجه آخر عن
الحسن مرسلا وقال: وهذا وإن كان منقطعا فإن أكثر أهل العلم يقولون به، تلخيص
الحبير:3/156، وقال ابن الجوزي: في هذا الإسناد يزيد بن سنان قال أحمد: وعلي هو
ضعيف وقال يحيى ليس بثقة وقال النسائي متروك الحديث وقال الدارقطني هو وأبوه
ضعيفان، التحقيق في أحاديث الخلاف:2/256، وانظر: صحيح ابن حبان: 9/386، سنن
البيهقي الكبرى:7/111، الدارقطني:3/221، مصنف ابن أبي شيبة: 3/455، مصنف عبد
الرزاق:6/196، المعجم الأوسط: 18/142، مجمع الزوائد:4/286.
([40]) قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط عن محمد بن عبدالصمد بن أبي
الجراح ولم يتكلم فيه أحد وبقية رجاله ثقات، مجمع الزوائد: 4/285.
([41]) وقد رجح هذا القول بعض المالكية، قال ابن عبد البر:وهذا قول يحيى بن يحيى
الليثى الأندلسى صاحبنا، قال:كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر، وأظنه
حكاه عن الليث ابن سعد، وقد رجحه كذلك القرطبي، قال: قول الشافعى أصح للحديث الذى
ذكرناه وروى عن ابن عباس أنه قال لا نكاح إلا بشاهدى عدل وولى مرشد ولا مخالف له
من الصحابة فيما علمته. انظر: تفسير القرطبي:3/80.
([51]) الأبداد ـ لغة ـ هم المتفرقون , واحدهم بد , من التبديد ; لأن الشهود شهدوا
في ذلك متفرقين , واحد هنا وآخر في موضع آخر , وواحد اليوم وواحد غدا, وواحد على
معنى , وواحد على معنى آخر.
([53]) المدونة:4/504،حاشية الصاوي:2/235، مطالب أولي النهى:5/81، فتوحات
الوهاب:4/141،كشف الأسرار :3/404..
([57]) وهو كذلك مذهب الإباضية، فقد أجاز الإباضية أمينان أو أمين وأمينتان أو
ثلاثة من أهل الجملة أو واحد وأربع نسوة , أو رجلان وامرأتان منهم أو أمين وأربع
منهم , أو رجلان وأمينتان، انظر:، شرح النيل :6/87.
([66]) المغني:7/8، الأم:5/23،المبسوط:5/32،بدائع الصنائع:2/253،تبيين
الحقائق:2/98،العناية :3/197، الجوهرة النيرة: 2/3.
([68]) قال في الدراية: أخرجه الأربعة إلا الترمذي من حديث عائشة، وصححه الحاكم
وفي إسناده حماد بن أبي سليمان مختلف فيه، وأخرجه أبو داود من حديث على، وصححه
الحاكم، وقال الدارقطني تفرد به ابن وهب، الدراية تخريج أحاديث
الهداية:2/198.انظر: صحيح ابن خزيمة:2/102، المستدرك:1/389، الدارمي:2/225، أبو
داود: 4/139، سنن البيهقي الكبرى: 4/269، النسائي: 6/156 ن ابن ماجة: 1/658،
أحمد:1/140.
([69]) الطرق الحكمية:139، فما بعدها،تفسير القرطبي: 3/390، أحكام القرآن للجصاص:
2/223، المبدع: 10/236، المحرر: 2/305، روضة الطالبين:11/251، الشرح الكبير: 2/185.
([71]) قال في مجمع الزوائد: رواه البزار وفيه عمرو بن خالد القرشي كذبه يحيى بن
معين وأحمد بن حنبل ونسبه إلى الوضع، مجمع الزوائد:1/140.
([76]) الأم: 7/46، حاشية البجيرمي: 4/348، المبدع: 7/47، دليل الطالب: 348، روضة
الطالبين: 11/271، حاشية ابن عابدين:3/24، التمهيد: 1/289، القوانين الفقهية:203.
([79]) وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته، ثم يشهد عليه
وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها، فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه
أو غيبته، فلا يمنع قبول شهادته، أحكام القرآن للجصاص: 2/228.
([82]) انظر: المحرر في الفقه:12/38 ن الإقناع للشربيني: 2/632، حاشية
البجيرمي:4/8، البحر الرائق: 7/77، المجلة:340، بدائع الصنائع:6/662 ،مختصر اختلاف
العلماء:3/369، فتح الباري:9/441.
([83]) تفسير القرطبي:11/104، وقد نقل ابن مفلح هذا الخلاف بأنهم كانوا يجيزون
شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم، ولأن
الظاهر صدقهم وضبطهم، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم، لأنه يحتمل أن يلقنوا، قال:
وحكاه ابن الحاجب إجماع أهل المدينة، وعنه تقبل في الجراح والقتل خاصة إذا أداها
أو اشهد على شهادته قبل التفرق عن تلك الحال، ولا يلتفت الى رجوعهم بعد ذلك، وزاد
ابن عقيل في التذكرة إذا وجد ذلك في الصحراء، الفروع:10/214.
([85]) نقل ابن مفلح مذهب الحنابلة في ذلك بأنه توقف أحمد فيها واختار أبو بكر أنها
لا تقبل واختار في المحرر عكسها، الفروع:10/215.
([88]) بدائع الصنائع:2/253، المغني:7/7، تبيين الحقائق:2/98، العناية:3/197، أسنى
المطالب: 3/122، شرح النيل:6/90.
([92]) البحر الرائق:2/287، وعرفت كذلك بأنها صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل
بالمروءة عادة ظاهرا، وقد نص الفقهاء على أن المرة الواحدة من صغائر الهفوات
وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرا لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل، بخلاف ما
إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال، ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من
لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك فإذا فعل ما لا يليق به لغير
ضرورة قدح وإلا فلا، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير:397.
([94]) أي لم يلم بمعصية، وألم إذا فعل اللمم وهو صغار الذنوب، واللمم في الأصل
كما قال القاضي: الشيء القليل، وهذا بيت لأمية بن أبي الصلت تمثل - صلى الله عليه وسلم - به، والمحرم عليه إنشاء الشعر لا
إنشاده ومعناه: إن تغفر ذنوب عبادك فقد غفرت ذنوبا كثيرة فإن جميع عبادك خطاؤون،
انظر: فيض القدير:3/29، تحفة الأجوذي:9/122، البيان والتعريف:1/189.
([95]) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وإنما خرجا حديث
عبد الله بن طاوس عن أبيه عن بن عباس، أنه
قال: لم أر شيئا أقرب باللمم من الذي قال أبو هريرة: كتب على بن آدم حظه من الزنا
الحديث، المستدرك:1/121، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من
حديث زكريا بن إسحاق، السنن :5/396.
([96]) يشير العز هنا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - :« ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله , وقتل النفس التي حرم الله , وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس ,
فقال: ألا وقول الزور وقول الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت
»البخاري:2/939، مسلم:1/91، أحمد:5/36، شعب الإيمان:1/265.
([98]) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي،
ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، سنن
الترمذي: 4/545، الدارقطني:4/244، أبو داود: 3/306، ابن ماجة:2/762، أحمد:2/181،
وسيأتي شرح هذا الحديث في محله من هذا الفصل.
([110]) المغني :7/7، قواعد الأحكام :1/78، المنثور في القواعد
الفقهية:1/249،الإنصاف :8/103،أسنى المطالب:3/123،شرح البهجة:4/106، تحفة
المحتاج:7/230، الخرشي:3/168.
([115]) التهمة بسكون الهاء وفتحها الشك والريبة وأصل التاء فيها الواو ولأنها من
الوهم. يقال اتهم الرجل أي: أتى بما يتهم عليه واتهمته ظننت به سوءا , واتهمته
بالتثقيل مثله.
([116]) عقد القرافي لهذه المسألة فصلا مهما تحت عنوان« الفرق الثلاثون والمائتان
بين قاعدة التهمة التي ترد بها الشهادة بعد ثبوت العدالة وبين قاعدة ما لا ترد به»
انظر: الفروق للقرافي:4/72.
([121]) نص الفقهاء على أن المراد بالعداوة هاهنا العداوة الدنيوية , مثل أن يشهد
المقذوف على القاذف , والمقطوع عليه الطريق على القاطع , والمقتول وليه على القاتل
, والمجروح على الجارح , والزوج يشهد على امرأته بالزنى , فلا تقبل شهادته ; لأنه
يقر على نفسه بعداوته لها , لإفسادها فراشه، فأما العداوة في الدين , كالمسلم يشهد
على الكافر , أو المحق من أهل السنة يشهد على مبتدع , فلا ترد شهادته ; لأن
العدالة بالدين , والدين يمنعه من ارتكاب محظور دينه.
([122]) الأم: 6/205، المبدع: 10/250، الفروع: 6/501 المغني: 10/182، الإقناع: 195، البحر الرائق:
7/86، حاشية ابن عابدين:7/142، حاشية الدسوقي: 4/171، مواهب الجليل: 2/387،
القوانين الفقهية: 203.
([126]) الأم:7/46، المبدع: 10/243، النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر: 2/296،
المغني: 10/186، الهداية شرح البداية: 3/122 ن بدائع الصنائع: 6/272، الفواكه
اتلدواني: 2/226..
([127]) وتروى عن أحمد روايتان أخريان، هما:
الرواية الأولى: تقبل شهادة الابن لأبيه , ولا تقبل شهادة الأب له ;
لأن مال الابن في حكم مال الأب , له أن يتملكه إذا شاء , فشهادته له شهادة لنفسه ,
أو يجر بها لنفسه نفعا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :« أنت ومالك لأبيك »، وقال: «إن أطيب ما أكل الرجل
من كسبه , وإن أولادكم من أطيب كسبكم , فكلوا من أموالهم »، ولا يوجد هذا في شهادة
الابن لأبيه.
الرواية الثانية: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه , في ما لا تهمة
فيه , كالنكاح , والطلاق, والقصاص , والمال إذا كان مستغنى عنه ; لأن كل واحد
منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك , فلا تهمة في حقه.انظر: المغني: 10/186,
المبدع: 10/243..
([131]) قال في مجمع الزوائد:واه أبو يعلي وفيه أبو حريز وثقه أبو زرعة وأبو حاتم
وابن حبان وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات، وقد وعن ابن عمر قال: جاء رجل
يستدعي على والده فقال أنه يأخذ مالي فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: أنت ومالك
من كسب أبيك، رواه البزار والطبراني في الكبير وفي الأوسط منه، مجمع
الزوائد:4/154، وانظر:البيهقي: 7/480، مسند الشافعي: 202، ابن ماجة: 2/769، المعجم
الأوسط: 4/31، أحمد: 2/204، أبو يعلى:10/99.
([134]) تفسير القرطبي:12/179، المبدع: 10/220، الفروع: 3/11، مختصر الخرقي: 145،
المحرر في الفقه: 2/248، المغني: 10/190، الأم: 6/209، الإقناع للماوردي: 202،
المبسوط:9/70، شرح فتح القدير: 5/340، المدونة الكبرى: 13/159، القوانيين الفقهية:
235، اختلاف العلماء: 281.
([135]) وهناك قول ثالث للأوزاعي أنه لا تقبل شهادة محدود في الإسلام، ربما على عدم
عدالة الشاهد، لأن الحدود متعلقة بالكبائر، وفي مقابله قول لابن حزم عبر عنه
بقوله:« من حد في زنى أو قذف أو خمر أو سرقة، فشهادته جائزة في كل شيء، وفي مثل ما حد فيه»واستدل
لذلك بأنه لا يجوز رد شهادته لغيره وفي كل شيء إلا حيث جاء النص ،أو لا يكون عدلا
فلا يقبل في شيء، وما عدا هذا فباطل وتحكم
بالظن الكاذب بلا قرآن ولا سنة ولا معقول، انظر تفصيل هذا القول في المحلى:9/432.
([137]) اختلف المالكية في الوقت الذي تسقط شهادة القاذف فيه، فقال ابن الماجشون
بنفس قذفه، لأنه بالقذف يفسق لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته
بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لاتسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو
أو غيره لم ترد شهادته، وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة
ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد
وبقي على عدالته.
([140]) البدوي هو الذي يسكن البادية في المضارب والخيام، ولا يقيم في موضع خاص، بل
يرتحل من مكان إلى مكان، وصاحب القرية هو الذي يسكن القرى، وهي المصر الجامع، عون
المعبود:10/8.
([142]) وقال ابن القاسم عن مالك: لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلا في
وصية القروي في السفر أو في بيع، فتجوز إذا كانوا عدولا.
([144]) قال المنذري: أخرجه ابن ماجه ورجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه، وقال
البيهقي وهذا الحديث مماتفرد به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار، وقال الذهبي:
لم يصححه الحاكم، وهو حديث منكر على نظافة إسناده، وقال ابن عبد الهادي: فيه أحمد
بن سعيد الهمداني قال النسائي: ليس بالقوي ،انظر: عون المعبود:10/8،
المستدرك:4/111، البيهقي:10/250، أبوداود: 3/306، ابن ماجة: 2/793، فيض
القدير:6/391.