الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: الحقوق المعنوية للزوجة

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

خامسا ـ حق الزوجات في العدل

1 ـ حكم تعدد الزوجات وحكمته

أولا ـ حكم تعدد الزوجات

ثانيا ـ الحكمة من إباحة التعدد

مناسبة التعدد للفطرة

مناسبة التعدد للتحضر

في أمريكا:

في فرنسا:

في النمسا:

في الأرجنتين:

في الصين:

بين السعودية وأمريكا:

مناسبة التعدد للدين

مناسبة التعدد لغير المتزوجات

مناسبة التعدد للمتزوجات

الضرر وهمي لا واقعي:

قصور الزوجة عن بعض وظائفها:

امتداد فترة الإخصاب في الرجل:

وقاية الزوجة من انحراف الزوج:

لماذا لا تعدد المرأة الأزواج :

ثالثا ـ تعدد زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكمته

1 ـ سرد أزواجه - صلى الله عليه وسلم -:

أزواجه اللاتي توفين قبله - صلى الله عليه وسلم -:

أزواجه اللاتي مات عنهن:

2 ـ الحكمة من تعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم -:

2 ـ مفهوم العدل في القسمة وحكمه

أولا ـ التعريف

1ـ العدل:

2 ـ القسمة:

ثانيا ـ الحكم التكليفي للقسمة

ثالثا ـ حق الزوجات في القسمة

 

 

3 ـ أنواع الميل لإحدى الزوجات وأحكامها

النوع الأول ـ الميل القلبي:

النوع الثاني ـ الميل الجنسي:

النوع الثالث ـ الميل في النفقة:

النوع الرابع ـ الميل في المبيت:

تنازل الزوجة عن حقها في القسمة:

       طلب التنازل عن القسمة بعوض:

4 ـ أحوال الزوجين في القسمة

أولا ـ أحوال الزوجة في القسمة

حق المريضة في القسمة :

حق المطلقة في القسمة :

حق الناشز في القسمة:

حق البعيدة في القسمة :

حق المسافرة في القسمة:

حق المرأة الجديدة في القسمة :

ثانيا ـ أحوال الزوج في القسمة

قسمة الصبي:

قسمة المريض :

قسمة المجنون:

قسمة المسافر:

حكم القضاء بعد الرجوع من السفر:

5 ـ القسمة العادلة بين الزوجات وضوابطها

أولا ـ زمان القسمة

مدة القسمة:

وقت القسمة:

وقت بدء القسمة:

حكم الخروج من البيت حال القسمة :

الخروج للحاجة:

حكم معاشرة الزوجة جنسيا في نوبة ضرتها:

حكم قضاء ما فات من حق الزوجة:

كيفية قضاء ما فات من حق الزوجة :

ثانيا ـ محل القسمة

حكم اختصاص الزوجة بسكن خاص:

حكم المعاشرة الجنسية للزوجتين في مسكن واحد:

ذهاب الزوج إلى زوجاته أو دعوتهن إليه:

خامسا ـ حق الزوجات في العدل

نتناول في هذا الفصل حقا من الحقوق المعنوية للزوجة، وهو مرتبط بحالة تعدد الزوجات، وهو العدل الذي أبيح على أساسه التعدد، وقد قسمنا الكلام عن هذا الموضوع إلى المباحث التالية:

·  حكم تعدد الزوجات وحكمته والرد على الشبهات المتعلقة بالتعدد، باعتبار ذلك مدخلا أساسيا للفصل.

·      مفهوم العدل في القسمة وأحكامه.

·      أنواع الميل، هو الجور بين الزوجات وأحكامه.

·      أحوال الزوجين في القسمة.

·      القسمة العادلة بين الزوجات وضوابطها الشرعية.

ونرى أن هذه الجوانب تحيط بأكثر المسائل المتعلقة بهذا الباب، وهي في نفس الوقت أكبر دليل عملي على مراعاة الشريعة للعدل في أسمى صوره.

1 ـ حكم تعدد الزوجات وحكمته

نعتذر مقدما على طول هذا المبحث لأن الغرض الذي دعانا إليه يحتم هذا الطول، فالغرب الآن ومعه جحافل المستغربين لا هم لهم من الأسرة المسلمة إلا إزاحة هذا الحكم الشرعي القطعي بحجة منافاته للفطرة والطبيعة البشرية وانتهاكه لحقوق الإنسان..

ولذلك أصبح الاعتقاد بأن تعدد الزوجات فيه انتهاك عظيم لكرامة المرأة وحقوقها المعنوية، وهذا ما يستدعي التفصيل في المسألة والإطناب فيها، لاستبيان المصالح المرعية التي قصدها الشرع من هذا الحكم.

وقد قسمنا الحديث فيه إلى ثلاثة أقسام:

أولا ـ حكم تعدد الزوجات

اتفق الفقهاء على جواز تعدد الزوجات، واستدلوا على ذلك بصراحة النصوص الدالة على ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في محله.

ولكن هذا الحكم مع ذلك لقي معارضة شديدة من بعض مرضى القلوب، ممن سنتعرض للرد عليهم عند ذكر الحكمة من هذا الحكم.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هناك من الدول الإسلامية من قننت لتحريم التعدد، وقد نجح هؤلاء فعلاً في بعض البلاد العربية والإسلامية , فصدرت قوانين تحرم ما أحل الله من التعدد , اتباعا لسنن الغرب، ولا زال منهم من يحاول ذلك في بلاد أخرى.

ففي مصر يحكي لنا العلامة الجليل الأستاذ محمد أبو زهرة[1]  أنه بعد نحو من عشرين سنة من وفاة الأستاذ الإمام وجدت مقترحات تتضمن تقييد تعدد الزواج قضائياً، بقيدين وهما: العدالة بين الزوجات، والقـدرة على الإنفاق، وكان ذلك في اللجنة  التي أُلفت  في أكتوبر 1926م، إذ قدمت مشروعاً مشتملاً على ذلك، ولكن بعد الفحص والتمحيص والمجاوبات المختلفة بين رجال الفقه ورجال الشورى، رأى أولياء الأمر العدول عن ذلك، وجاء المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خالياً منه.

وفي سنة 1943 همَّت وزارة الشئون الاجتماعية المصـرية أن تنشر المقبور، ولكنه عدل وشيـكاً عما هم به فكان  له بذلك فضل.

ثم جاء من بعد ذلك وزير آخر، وجعل من  أعظم ما يعنى به هذه  المسألة، فأعاد نشر ذلك الدفين، وهمَّ بأن  يقدمه لدار النيابة ليأخذ سـيره، ولكنه بعد أن خطا بعض الخطوات، ونبه إلى ما فيه من خطر اجتماعي - وممن كتب في ذلك  الأستاذ أبو زهرة نفسه في مجلة القانون والاقتصاد في العددين الأول  والثاني للسنة الخامسة عشرة -  أعاده إلى حيث كان.

وبعد أن طبع الأستاذ أبو زهرة كتابه هذا، أعيد الجدل مرة أخرى في سنة 1961م. على صفحات الصحف، وقد أيدت عناصر مختلفة منع التعدد أو وضع القيود له، وعارضه علماء الإسلام وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو زهرة معارضة قوية.

ومن الطريف أن رئيس تحرير مجلة كبرى في القاهرة - آخر ساعة - وهو الأستاذ محمد التابعي كتب مقالاً مدعماً بالاحصاءات  الرسمية عن تركيـا وكيف أن منع التعدد قانوناً لم يمنع الشعب التركي من التعـدد  فعلاً، وقد انتهى فيه إلى أن أي تشريع يمنع التعدد سيلقى الفشل الذي لقيه قانون منع التعدد في تركيا.

وفي تونس، صدر قانون بمنع التعدد تماماً، وفرض عقوبة على من يتزوج أكثر من واحدة، يقول الشيخ القرضاوي: والعجب العجاب أن تأخذ بعض البلاد العربية الإسلامية بتحريم تعدد الزوجات في حين أن تشريعاتها لا تحرم الزنى, إلا في حالات معينة مثل الإكراه , أو الخيانة الزوجية إذا لم يتنازل الزوج.

وقد حكى في ذلك حكاية نقلها عن الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله: أن رجلاً مسلماً في بلد عربي أفريقي يمنع التعدد , تزوج سراً بامرأة ثانية على زوجته الأولى وعقد عليها عقداً عرفياً شرعياً مستوفى الشروط , ولكنه غير موثق , لأن قانون البلد الوضعي يرفض توثيقه ولا يعترف به , بل يعتبره جريمة.. وكان الرجل يتردد على المرأة من حين لآخر.. فراقبته شرطة المباحث , وعرفت أنها زوجته , وأنه بذلك ارتكب مخالفة القانون.

وفي ليلة ما ترصدت له وقبضت عليه عند المرأة , وساقته إلى التحقيق بتهمة الزواج بامرأة ثانية !. وكان الرجل ذكياً , فقال للذين يحققون معه: من قال لكم إنها زوجتي ؟ إنها ليست زوجة , ولكنها عشيقة , اتخذتها خدناً لي , وأتردد عليها ما بين فترة وأخرى !

وهنا دهش المحققون وقالوا للرجل بكل أدب: نأسف غاية الأسف ؛ لسوء الفهم الذي حدث. كنا نحسبها زوجة , ولم نكن نعلم أنها رفيقة !.وخلوا سبيل الرجل , لأن مرافقة امرأة في الحرام , واتخاذها خدناً يزانيها يدخل في إطار الحرية الشخصية التي يحميها القانون !

وفي الباكستان وفي عهد رئيس  جمهوريتها (أيوب خان) أصدر قانوناً - بصفته الحاكم العسكري - يضع قيوداً شديدة جداً للزواج بأكثر من واحدة، منها أن يعرض ذلك على مجلس عائلي، وأن يدفع مبلغاً ضخماً من المال.

وقد قوبل هذا القانون في الباكستان في الأوساط العالمية الإسـلامية وفي الأوساط الشعبية بالسخط والاستنـكار، كما قوبل من السيدات المثـقفات ثقافة  أجنبية وأمثالهن من المثقفين كذلك باستحسان وسرور، وقد أيدته  الصحف الاستعمارية والأوساط التبشيرية وأثنت عليه كثيراً.

وفي مصر حاولت جيهان زوج الرئيس الراحل أنور السادات استصدار قانون يمنع التعدد، لكن رجال الأزهر الشريف والتيار الإسلامي الجارف نجحوا في إحباط المحاولة، وإن كانت جيهان قد نجحت في تمرير قانون يجعل اقتران الرجل بأخرى إضرارا بالزوجة الأولى يعطيها الحق في طلب الطلاق، وبعد مقتل السادات وانهيار سطوة جيهان تم إلغاء هذه المادة.

ولكن وسائل الأعلام المختلفة لم تتوقف عن مهاجمة التعدد الشرعي والسخرية منه، والتندر على معددي الزوجات في الأفلام والمسلسلات الساقطة التي تقوم في ذات الوقت بتزيين الفواحش، وتعرض اتخاذ العشيقات على أنه أمر للتسلية والفكاهة.

ومن العجيب أن يراد تبرير هذا باسم الشرع , وأن يحتجوا لها بأدلة تلبس لباس الفقه، والفقه منها بريء، ومن الشبه التي استندوا إليها في ذلك:

أولا: أن من حق ولي الأمر أن يمنع بعض المباحات جلباً لمصلحة أو درءاً لمفسدة.

ثانيا:إن القرآن الكريم اشترط لمن يتزوج بأكثر من واحدة أن يثق من نفسه بالعدل بين الزوجتين أو الزوجات , فمن خاف ألا يعدل وجب أن يقتصر على واحدة، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا(النساء:3) وأنه جاء في نفس السورة بآيه بينت أن العدل المشروط غير ممكن وغير مستطاع، وهى قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ(النساء:129)، وبهذا نفت هذه الآية اللاحقة ما أثبتته الآية السابقة !

ومن الردود التي أجاب بها العلماء المعاصرون على ذلك:

·  أن العدل المشروط في الآية الأولى هو غير العدل المقطوع باستحالته في الآية الثانية، فالعدل المشروط في الأولى هو العـدل الذي  يمكن للزوج  أن يفعله، وهو العدل المادي في مثل المسكن والمبيت واللباس والطعام وغير ذلك، والعدل المقطوع بعدم استطاعته هو العدل الذي لا يمكن في الواقع للزوج أن يفعله  وهو العدل المعنوي في الحب والمكانة القلبية، فما تزوج الثانية إلا وهو معرض عن الأولى بسبب من الأسباب،  فكيف يعدلها بها ويساويها معها في حبه وعواطفه؟

·  وعلى هذا فلا تعلق بين العدلين في الآيتين، إلا من حيث إنه عـدل بين الزوجات ! ويكون تعليق التعدد بالعدل المادي بين الزوجـات لا يزال مشروطاً وقائماً، فمن علم أنه لا يعدل بينهن كان آثماً في التعدد، وإذا تزوج فلم يعدل كان آثماً، وأما عدم عدله في حبه بينهن فلا يؤاخذه الله عليه إلا إذا أفرط في الجفاء، وبالغ في الانصراف.

·  إن نص الآية الثانية قاطع بالمراد من العدل الذي لا يستطيعه الإنسان، وهو الحب، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعد أن علم  طبيعة النفس الإنسانية، وأنهـا لا تستطيع العدل بين الأولى والثانية، خاطبه بما يستطيع، فنهاه عن أن يميل عن الأولى كل الميل، فيذرها كالمعلقة ومعنى ذلك أن الميل "       بعض "      الميل جائز، بل هو الذي لا بد أن يقع وهو مما لا يحاسب الله عليه الزوج، ولذلك ختم الآية الكـريمة بقوله: (وإن تصلحوا وتتقـوا فإن الله كان غفـوراً رحيماً) وهذا حث آخر للزوج على أن يصلح الوضع فيما بينه وبين زوجته الأولى  ويتقي الله في أمرها فلا يهجرها ويسيء عشرتها، وأنه إن فعل ذلك فإن الله يغفر له ما يكون منه من ميل إلى  زوجته الثانيـة أكثر من الأولى، وأن  الله رحيـم بتلك الزوجة، بما سيلقي في قلب زوجها من وجوب العدل معها وحسن معاملته لها.

·  أنه لو كان الأمر كما زعمه هؤلاء لما كان لقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) معنى، ولا أدى إلى غرض ولكـان الأولى أن يمنع التعدد رأسا وبلفظ واحد، لا أن يبيح التعدد ويعلقه بشرط مستحيل، فهذا عبث من الكلام يصان عنه أي واحد من العقلاء، فكيف بكلام رب العالمين، الذي هو الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان العربي المبين ؟..

·  أليس مثل ذلك  – في دعواهم  – كمثل من قال: أبحت لك أن تسلك هذه الطريق أو هذه الطريق، أو هذه الطريق، ولكن من المستحيل عليك أن  تسلك إلا طريقـاً واحداً لكذا وكذا ؟  ما معنى مثل هذا الكلام ؟ وما فائدته ؟ وهل يقع مثل هذا في قانون ؟ أو دستور أو كتاب علمي فضلاً عن كتاب رب العالمين.

·  أنه من المعلوم في الدين بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم  مفسر لكتاب الله، وأنه لا يفعل حراماً، ولا يسمح بحرام ولا يقر عليه، وقد ثبت أن العرب الذين دخلوا في الإسلام كان منهم كثيرون  تحتهم أكثر من أربع زوجات، منهم من كان عنده ست، ومنهم من كان عنده ثمان، ومنهم من كان عنده عشر، ومنهم من كان عنده ثمان عشرة.. وهكذا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار كل واحـد أربعاً من زوجاته ويفارق سائرهن، ولو كـان التعدد حـراماً بنص هاتين  الآيتين لأمرهم أن يختاروا واحدة منهن ويفارقوا سائرهن.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عدّد زوجاته، وأن أصحابه قد عددوا الزوجات في حياته وعلى مسمع منه وعلم، ولم ينكر عليهم، فإذا قيل: إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خـاص به -  مع أن خصوصيته في الزيادة على الأربع، لا في الزيادة على واحدة بإجماع المسلمين - فكيف أقر النبي تعدد زوجات أصحابه، وكيف رضي بذلك وسكت عنه ؟

·  أن القول بأن التعدد قد جر وراءه مفاسد ومضار أسرية واجتماعية قول يتضمن مغالطة واضحة، لأن الشريعة لا تحل للناس شيئاً يضرهم , كما لا تحرم عليهم شيئاً ينفعهم , بل الثابت بالنص والاستقراء أنها لا تحل إلا الطيب النافع , ولا تحرم إلا الخبيث الضار، وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾(الأعراف:157)، فثبت بذلك إبمانا واعتقادا عدالة هذا الحكم الشرعي.

·  أن كل ما أباحته الشريعة منفعته خالصة أو راجحة , وكل ما حرمته الشريعة مضرته خالصة أو راجحة , فقد قال تعالى مثلا عن الخمر والميسر:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾(البقرة:219)، وهذا هو ما راعته الشريعة في تعدد الزوجات فقد وازنت بين المصالح والمفاسد , والنافع والضار , ثم أذنت به لمن يحتاج إليه , ويقدر عليه بشرط أن يكون واثقا من نفسه برعاية العدل , غير خائف عليها من الجور والميل، فمن خاف ذلك وجب عليه الاقتصار على واحدة، قال تعالى:﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾(النساء:3)، فإذا كان من مصلحة الزوجة الأولى أن تبقى وحدها, ورأت أنها ستتضرر بمزاحمة زوجة أخرى لها , فإن من مصلحة الزوج أن يتزوج بأخرى تحصنه من الحرام , أو تنجب له ذرية يتطلع إليها , وأن من مصلحة الزوجة الثانية أن يكون لها نصف زوج تحيا في ظله , وتعيش في كنفه وكفالته , بدل أن تعيش عانسا أو أرملة أو مطلقة محرومة طوال الحياة.

·  أن من مصلحة المجتمع أن يصون رجاله , ويستر على بناته , بزواج حلال يتحمل فيه كل من الرجل والمرأة مسئوليته فيه , عن نفسه وصاحبه, بدل ذلك التعدد الذي عرفه الغرب, وهو تعدد غير أخلاقي وغير إنساني , يستمتع فيه كلاهما بصاحبه دون أن يتحمل أية تبعة.

·  أن الذي أعطاه الشرع لولي الأمر هو حق تقييد بعض المباحات لمصلحة راجحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال , أو لبعض الناس , لا أن يمنعها منعاً عاماً مطلقاً مؤبداً، لأن المنع المطلق المؤبد أشبه بالتحريم الذي هو من حق الله تعالى.

·  أن الله تعالى أذن في تعدد الزوجات بشرط الثقة بالعدل , ثم بين العدل المطلوب في نفس السورة حين قال: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(النساء:129)، فهذه الآية تبين أن العدل المطلق الكامل بين النساء غير مستطاع بمقتضى طبيعة البشر، لأن العدل الكامل يقتضي المساواة بينهن في كل شيء حتى في ميل القلب , وشهوة الجنس , وهذا ليس في يد الإنسان , فهو يحب واحدة أكثر من أخرى , ويميل إلى هذه أكثر من تلك , والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء.

ثانيا ـ الحكمة من إباحة التعدد

إن إباحة الإسلام لتعدد الزوجات ـ كما يقول سيد قطب ـ ينطلق من خصائص هذا الدين الأساسية فهو (نظام للإنسان، نظام واقعي إيجابي، يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال) [2]

وبما أن المصالح الشرعية تنطلق من المناسبة بين الحكم والواقع، فإنا سنذكر هنا خمسة أنواع من المناسبات، تبين ـ بما لا مجال فيه للشك ـ أن هذا الحكم ينطوي على المصلحة البحتة التي لا مضرة فيها لأي طرف من الأطراف.

وننبه هنا إلى أن المادة الأساسية للمعلومات الإحصائية والتوثيقية ترجع إلى كتاب (زوجات لا عشيقات) للأستاذ: حمدي شفيق، فهو من أهم ما ألف في هذا الباب، وقد ذكرنا هذا التنبيه هنا اكتفاء به عن ذكر المصدر كل مرة في الهامش[3].

مناسبة التعدد للفطرة

إن اجتماع أكثر الخلق، وفي أوقات متباينة على تصرف ما من الأمور التي يرجع إليها علماء النفس والاجتماع للتعرف على الجبلة الطبيعية للإنسان.

ومن هذا المنطلق نحاول التعرف على فطرية التعدد وجبليته وعدم مخالفته للطبيعة الإنسانية من خلال البحث عن موقف البشرية من التعدد في أطوارها وبيئاتها المختلفة.

والحقائق التاريخية تؤكد أن ظاهرة التعدد موجودة في جميع البيئات الحضارية، وفي جميع أطوار التاريخ البشري، وكنماذج على الشعوب التي كانت تقر التعدد وتمارسه في حياتها نضرب بعض الأمثلة هنا، وهي ملخصة من المصدر السابق (زوجات لا عشيقات) :

·  كانت ظاهرة التعدد منتشرة بين الفراعنة، وأشهر الفراعنة على الإطلاق وهو رمسيس الثاني، كان له ثماني زوجات وعشرات المحظيات والجواري، وأنجب أكثر من مائة وخمسين ولدا وبنتا.. وأسماء زوجاته ومحظياته وأولاده منقوش على جدران المعابد حتى اليوم، وأشهر زوجات رمسيس الثاني هي الملكة الجميلة نفرتارى.. وتليها في المكانة والترتيب الملكة ((أيسه نفر)) أو ((إيزيس نفر)) وهى والدة ابنه الملك ((مرنبتاح)) الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه وإخوته الأكبر سنا.

·  كان تعدد الزوجات منتشرا في جزيرة العرب قبل الإسلام، ويروى من ذلك أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي r: ((أختر منهن أربعا))، وقال عميرة الأسدى قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أختر منهن أربعا)).، وعن نوفل ابن معاوية الديلمى قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله r: ((أختر أربعا أيتهن شئت، وفارق الأخرى)).

·  كان تعدد الزوجات شائعا في الشعوب ذات الأصل السلافى، وهى التي تسمى الآن بالروس والصرب والتشيك والسلوفاك.. وتضم أيضا معظم سكان ليتوانيا وأستونيا ومقدونيا ورومانيا وبلغاريا، وكان شائعا أيضا بين الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها معظم سكان ألمانيا والنمسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا والدانمارك والسويد والنرويج وانجلترا.

·  كان التعدد ومازال منتشرا بين شعوب وقبائل أخرى لا تدين بالإسلام.. ومنها الشعوب الوثنية في أفريقيا والهند والصين واليابان ومناطق أخرى في جنوب شرق آسيا.

والقاسم المشترك الذي يجمع بين ممارسة هذه الشعوب لهذا السلوك هو أنه:

كان مطلقا بلا أية حدود أو ضوابط أو قيود، ولم يكن هناك حد أقصى لعدد الزوجات أو المحظيات، ولم يكن هناك اشتراط على الزوج أن يعدل بين زوجاته، أو يقسم بينهن بالسوية.

كانت المرأة هي الضحية والمجني عليها على الدوام، وفى كل المجتمعات كان الزوج يقضى معظم أوقاته في أحضان الزواني، ولا يعود إلى بيته إلا مكدودا  منهك القوى خالي الوفاض من المال والعافية، وما كانت المرآة تجرؤ على الإنكار أو الاعتراض عليه، وكان آخر يمضى الشهر تلو الشهر عند الزوجة الجميلة، ويؤثر أولاده منها بالهدايا والأموال الطائلة، ولا تجرؤ الأخرى أو الأخريات ولا أولادهن على النطق بكلمة واحدة إزاء هذا الظلم الفادح..

يقول حمدي شفيق معلقا على هذه الظواهر التي عالجها الإسلام بالضوابط التي وضعها للتعدد :(فهل إذا جاء الإسلام واشترط تحقيق العدالة والرحمة والبر والإكرام لكل الزوجات والأولاد على قدم المساواة.. هل إذا جاءت مثل هذه الضوابط نرفضها، ونتطاول على التشريع الإلهي وعلى النبي وعلى الدين كله ؟)

مناسبة التعدد للتحضر

قد يقال بعد هذا: إن ما ذكر من الشعوب، هي شعوب بدائية، وإن العبرة بالإنسان العصري المتطور، وهو بجميع أجناسه وأديانه ـ ما عدا المسمين ـ ينكر التعدد، ويصفه بالبربرية وبأنه مضاد لحقوق المرأة.

وقبل أن نرد على هذا الاعتراض نحب أن نذكر أن علماء الاجتماع والمؤرخين، ومنهم وستر مارك وهوبهوس وهيلير وجنربرج وغيرهم، يلاحظون أن التعدد لم ينتشر إلا بين الشعوب التي بلغت قدرا معينا من الحضارة. وهى الشعوب التي استقرت في وديان الأنهار ومناطق الأمطار الغزيرة، وتحولت إلى الزراعة المنظمة والرعي بدلا من الصيد وجمع ثمار الغابات والزراعة البدائية.. ففي المرحلة البدائية من عمر المجتمعات كان السائد هو نظام وحدة الأسرة، ووحدة الزوجة..

ويرى هؤلاء المؤرخون وعلماء الاجتماع أن نظام التعدد سوف يتسع نطاقه كلما تقدمت المدنية، واتسع نطاق الحضارة في العالم.

قد يقال: كيف هذا، والعالم الآن يسعى لإلغاء هذه الظاهرة، بل يقصر التمدن والتحضر على من تخلصوا منها؟

والجواب عن ذلك هو أن العالم ـ والمسيحي منه بالذات ـ كان ينكر الطلاق، ولكنه، وبفعل الضغوط الفطرية والواقعية الكثيرة اضطر إليه، فقنن له، وفتح له في تقنينه جميع الأبواب[4].

وهكذا الأمر سيحصل مع التعدد، فيوشك أن تطالب العشقات بحقوق الزوجية، كما طالبن بحقوق أبنائهن، بل قد حصل بعض ذلك بالفعل، ففي فرنسا (تهامس مشيعو جنازة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران في دهشة وفضول عندما شاهدوا سيدة ترتدي قبعة سوداء ونظارة سميكة من ذات اللون، وبصحبتها فتاة شقراء تبدو على وجهها علامات حزن حقيقي دفين..كانت السيدة وابنتها تسيران إلى جانب أرملة الرئيس الراحل. وانقلبت الجنازة رأسا على عقب عندما علموا أن السيدة هي عشيقة (الرئيس الراحل) ومعها ابنته غير الشرعية منها: ثمرة الخيانة الزوجية للرجل الأول في فرنسا)، إنها حقا باريس.. أم الشذوذ والغرائب، الزوجة جنبا إلى جنب مع العشيقة، ويبدو أنهما قد تفاهمتا واستقر رأى كل منهما على أنه لا فائدة الآن ـ بعد رحيل فرانسوا ـ من الصراع والمنافسة فيما بينهما)

والأمر ليس قاصرا على هذا المشهد، بل تعداه فالعالم الآن ـ والذي ينتهض لحرب التعدد واعتباره ظاهرة تخلف ولا إنسانية ـ يقر العشيقة، بل العشيقات، كمظهر من مظاهر التحضر والإنسانية.

ولا بأس أن ننقل هنا بعض الحياة الخاصة للزعماء الكبار الذين يدافعون عن حقوق نسائنا، لنرى كيف هم مع نسائهم، ونعود في ذلك إلى المرجع السابق، والذي قدم لهذه النماذج بقوله :(وقد اضطررنا إلى نشر بعض هذه الفضائح الجنسية لعدد من أشهر زعماء المجتمعات التي تحظر تعدد الزوجات، بل وتنص القوانين الجنائية في كثير من تلك البلاد على أن تعدد الزوجات جنحة يعاقب فاعلها بالحبس، بينما لا عقاب هناك على الزنا إذا تم بالتراضي بين الطرفين.. نقول اضطررنا إلى نشر بعض تلك القاذورات ليعلم معارضوا التعدد الشرعي ما هو البديل له..وهكذا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في القضية محل البحث.. فالتعدد واقع لا سبيل إلى نفيه أو إنكاره، سواء كان مشروعا – كما يقرر الإسلام – أو غير مشروع، كما يفعلون في كل المجتمعات غير الإسلامية بلا استثناء، وعلى أوسع نطاق يمكن تصوره أو تخيله..)

في أمريكا:

ولا بأس أن نبدأ بأمريكا ـ زعيمة العالم الحر المتحضر ـ لأنها أول من يدعونا إلى مقاومة هذا السلوك، لتعطينا بدله العشيقات العاهرات لا الزوجات الطاهرات.

وسنرجع في هذا إلى ما ألف من كتب عن الحياة الخاصة لزعمائهم، ومن هذه الكتب المثيرة كتاب (داخل البيت الأبيض) الذي ألفه الصحفي الأمريكي الشهير (رونالد كيسلر)، وقد تتبع كيسلر في هذا الكتاب المثير نزوات وغراميات معظم رؤساء أمريكا، وتفاصيل الخيانات الزوجية لكل منهم:

فقد كان للرئيس الأمريكي القبيح ليندون جونسون ثماني سكرتيرات عاشر منهن خمسا معاشرة الأزواج في قلب البيت الأبيض، وكان يفتش عن الجميلات وسط زحام الحفلات، فإذا أعجبته واحدة يرسل معاونيه لكي يأتيه بها.

وذات يوم فتحت (ليدى بيرد) باب المكتب في البيت الأبيض لتجد زوجها الرئيس جونسون في وضع فاضح مع إحدى سكرتيراته داخل المكتب الذي يستقبل فيه زعماء العالم الزائرين لأمريكا، وبعد معركة زوجية حامية الوطيس استدعى جونسون أفراد حراسته الخاصة وصاح بهم :(كان يجب أن تفعلوا شيئا!)  فرد أحدهم عليه بشجاعة :(إننا لم نخطئ.. تلك هي مشكلتك وحدك)

وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف الرئيس الأمريكي عن تصرفاته الطائشة، وكل ما حدث هو أنه أمر حراسه بتركيب جهاز (للإنذار المبكر) عند المصعد، حتى لا تضبطه زوجته مرة أخرى متلبسا بالخيانة الزوجية، فإذا شاهد الحرس الزوجة متجهة إلى المصعد المؤدى إلى غرفة المكتب يقوم أحدهم بدق الجرس فينتبه الرئيس إلى أن زوجته في الطريق فيستعد لذلك.

وهناك قصص أخرى عن غراميات الرئيس جونسون مع صحفيات وفتيات أخريات كان معاونوه يحضرونهن له، وذات مرة أحضر جونسون ثلاث فتيات دفعة واحدة من مزرعة بتكساس، وأصر على توظيفهن في البيت الأبيض ليبقين رهن إشارته.

ومثله الرئيس (فرانكلين روزفلت) ـ الذي حكم الولايات المتحدة منذ عام 1933، وأعيد انتخابه للمرة الثالثة في عام 1940 ـ فقد كان ذا علاقات نسائية متعددة، على الرغم من أنه كان مقعدا يتحرك بكرسي طبي، وكانت أشهر عشيقاته امرأة تدعى (لوسى رزر فورد)، وكان يقابلها بصفة منتظمة عندما تكون زوجته (إليانور) غائبة عن البيت الأبيض.

أما الرئيس الأمريكي جون كيندي فقد كان من أشهر رؤساء العالم في ميدان الخيانة والعلاقات النسائية المتعددة.. وأشهر عشيقاته  كانت هي ممثلة الإغراء الراحلة ((مارلين مونرو)) والتي لقيت مصرعها في حادث غامض قيل إنه من تدبير المخابرات المركزية الأمريكية، وكان شقيقه (روبرت) على علاقة هو أيضا بمارلين مونرو في ذات الوقت، وكان يقابلها في مكتبه أثناء عمله مدعيا عاما للولايات المتحدة.

وقد أقام الرئيس جون كيندي علاقات جنسية أخرى مع عشرات من النساء أثناء ارتباطه بزوجته (جاكلين).. ومن عشيقاته سكرتيرتان هما الشقراء (فيدل) والسمراء (فادل) والثالثة كانت فتاة تعمل في عصابات المافيا وتدعى (جوديث كامبل)..

ولم يفلت الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش من السقوط في خضم الاتهامات بالتورط في الخيانة الزوجية.. فقد ذكرت الكاتبة (سوزان ترينفو) في أحد كتبها أن أحد كبار مندوبى الولايات المتحدة في محادثات جنيف حول نزع الأسلحة، قام بترتيب لقاء غرامي بين بوش ـ نائب الرئيس ريجان في هذا الوقت ـ و(جينفر) التي كانت أحد مساعدي بوش، وكان اللقاء في بيت الضيافة في مدينة جنيف السويسرية عام 1984، وبالطبع ثارت فضيحة كبرى في الصحف وعلى شاشات شبكات التلفاز العالمية.

وبعد هؤلاء، لعل أشهر ذئب بشرى بين الرؤساء الأمريكان هو الرئيس بيل كلينتون الذي أعيد انتخابه لفترة رئاسة ثانية، رغم كل فضائحه وخيانات الزوجية التي صدرت عنها وحولها مئات الكتب والأبحاث والتحقيقات الصحفية والتليفزيونية، وقد اعترف كلينتون نفسه بصحة ما تردد عن بعض علاقاته الجنسية.. ولكنه رفض الخوض في أية تفاصيل، مؤكدا أن الأمر تسبب في مشاكل عائلية حادة كادت تنهى حياته الزوجية.

وتحتوى قائمة عشيقات كلينتون على أكثر من ثلاثين امرأة أشهرهن مونيكا صاحبة أكبر فضيحة في التاريخ الأمريكي كله، ومن بينهن: مغنية، وسكرتيرة، وزوجة قاض شهير، وصحفية، وبائعة في (سوبر ماركت).. الخ. ومن هؤلاء العشيقات (جينفر فلاورز) التي أصدرت كتابا فاضحا عن تفاصيل علاقتها الجنسية مع الرئيس، وحقق الكتاب أرقاما فلكية، فقد بيعت منه مئات الآلاف من النسخ في مختلف أنحاء العالم.

وقد كانت جينفر مذيعة نشرة في إحدى قنوات التليفزيون الأمريكي، ثم عملت بعد ذلك مغنية في ملهى ليلى بـ (أركنساس) حيث كان بيل كلينتون حاكما على هذه الولاية قبل ترشيحه لرئاسة أمريكا.

وتقول جينفر: إن علاقتها مع الرئيس دامت أثنى عشر عاما كاملة.. وكان يهرب من زوجته (هيلارى) إلى بيت جينفر حيث كان الجيران يشاهدون سيارته وفيها سائقه الذي كان ينتظره لساعات طوال مع حراس كلينتون بوصفه حاكم أركنساس في ذلك الوقت..

ويقول الحراس إنهم كانوا يتلقون مئات المكالمات التليفونية من جينفر لكلينتون. وعندما كانت هيلارى تأتى إلى مكتب زوجها، فإن رجال الأمن كانوا يلفتون انتباه كلينتون ليذهب إلى غرفة الحرس، ويقومون هم بتحويل المكالمة إليه هناك حتى لا تضبطه زوجته هيلارى.

ويؤكد حراس كلينتون أن جينفر كانت واحدة من نصف دستة نساء يقابلهن كلينتون مرة أو مرتين أو ثلاث مرات كل أسبوع.

وحاول كلينتون بعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية أن يتناسى علاقته بجينفر، ولكنها فضحته بالكتاب وعلى صفحات الصحف وكبريات الشبكات التلفزيونية.

وبدأت الفضائح بحوار صحفي مع جينفر أجرته صحيفة (ستار) الأسبوعية مقابل مائة وخمسة وسبعين ألف دولار حصلت عليها عشيقة الرئيس التي زودت الصحيفة بالشرائط الصوتية المسجل عليها محادثاتها الهاتفية مع عشيقها كلينتون.

وبعد محاولات مستميتة للتهرب من الموقف بالغ الحرج، اضطر الرئيس كلينتون إلى الاعتراف في مؤتمر صحفي بأنه تورط في خطأ سبب ألما لزوجته، وقال :(لست على استعداد لمناقشة هذا الموضوع)

ويروى رجال الأمن الذين عملوا ضمن طاقم حراسة الرئيس كلينتون عشرات من الوقائع التي شاهدوه خلالها يطارح عشرات من الفتيات الهوى في فترات مختلفة من حياته قبل وبعد توليه الرئاسة، فقد كان يطلب من حرسه أن يحضروا الفتيات الجميلات اللاتي يعجبنه في الحفلات.

وعندما تأتى الفتاة التي تعجبه يبدأ الرئيس في مغازلتها مبديا إعجابه بها، ثم يعطيها الحرس رقم التليفون السري للرئيس لتتصل به فيما بعد، وأحيانا يقوم الحرس بحجز جناح بأحد الفنادق ليمارس فيه الرئيس نزواته الفاضحة بعيدا عن مراقبة زوجته.

ويحكى حراس الرئيس أن (هيلارى) زوجته أستيقظت مرة فلم تجد كلينتون في المنزل، فصرخت وشتمت الحراس بألفاظ بذيئة.. وعلى الفور اتصلوا بالرئيس في أحد الفنادق حيث كان مع أحدى الفتيات، وعاد مضطربا فزعا.. وسمع الجميع على الفور صراخا وصياحا وتكسيرا للأطباق والأكواب وأثاث المنزل.

وهناك قصة تلك البائعة في أحد المتاجر التي مارس كلينتون معها أفعالا فاضحة في سيارتها نصف النقل في منطقة نائية، كما يقول أحد حراسه.

ولا يزال القضاء الأمريكي ينظر القضية التي رفعتها امرأة تدعى (بولا جونز) ضد الرئيس كلينتون وتطالبه فيها بتعويض ضخم عن تحرشه الجنسي بها يوم 8 مايو سنة 1991، في جناحه بفندق (إكسلسيور) في مدينة (ليتل روك)..

وقد رفض القضاء الأمريكي التخلي عن نظر الدعوى أو تأجيلها إلى ما بعد انتهاء فترة حكم كلينتون الثانية.. وأكد القاضي رئيس المحكمة التي تنظر دعوى التحرش الجنسي عدم تمتع الرئيس الأمريكي بأية حصانة ضد القضايا التي لا علاقة مباشرة لها بعمله كرئيس للولايات المتحدة. وأضافت المحكمة أن تهمة التحرش الجنسي الموجهة إلى كلينتون يجب التحقيق فيها مثل أي قضية أخرى مماثلة لعامة الناس.

ويؤكد أحد حراس كلينتون أن الرئيس دعا (بولا جونز) بالفعل إلى جناحه بعد ظهر اليوم المذكور.. وظن الحرس أنه لقاء غرامي بينهما على عادة كلينتون، ولكنهم فوجئوا بـ (بولا) وهى تخرج مضطربة مرعوبة من جناح الرئيس، وظهر على وجهها الذهول والاضطراب، مما يؤكد أنها رفضت التحرش الجنسي الذي أرتكبه كلينتون.

وهناك كتاب آخر صدر حديثا بعنوان (في أروقة الكونجرس) يتناول العشرات من الفضائح الجنسية التي أرتكبها نواب (موقرون) في الكونجرس الأمريكي العتيد !! فضلا عما لا يحصى من الجرائم والحوادث والفضائح اليومية التي تنشرها آلاف الصحف والمجلات وشبكات الإذاعة والتليفزيون في جميع أنحاء الغرب لنجوم السياسة والرياضة والفن وباقي المجالات.

في فرنسا:

ذكرنا من قبل أن إحدى عشيقات الرئيس الفرنسي ميتران حضرت جنازته بجانب زوجته، ولم يقف الأمر عند عشيقة واحدة، بل فوجئت فرنسا والعالم بأسره بصحفية سويدية تدعى (كريستينا فورسن) تصدر كتابا عنوانه (قال لي فرانسوا) وفرانسوا المقصود هنا هو نفسه الرئيس الراحل ميتران، وتبين من صفحات الكتاب والصور المثيرة المنشورة بداخله أن وراءه قصة حب آثمة، وخيانة زوجية أخرى من الرئيس الفرنسي.

وحكت كريستينا قصتها مع ميتران منذ المقابلة الأولى بينهما في عام 1979، عندما قدمها له رئيس وزراء السويد الراحل (أولوف بالم) على أنها صحفية شابة متحمسة تريد إجراء حوار صحفي معه، وكان عمره ضعف عمرها، لكن فارق السن الكبير لم يحل بين الاثنين، وتعلق هي على ذلك قائلة :(في هذه الأحوال تنسى الأسماء والأعمار والمناصب، ولا نذكر إلا الإحساس بالنشوة والانتعاش والسعادة في اللحظات الضائعة)

لم تشعر العشيقة – كريستينا – بأي خجل عندما ألمحت لها الصحافة الفرنسية بأنها كانت شوكة فى قلب عائلة الرئيس ميتران..وردت قائلة :(لا عائلته ولا المحيط السياسي كله.. لا شيء من حوله يستطيع الهجوم على، أو الانتقاص من وجودي، فقد كانوا لا يملكون ما أملكه.. فانسحبوا من أمامي بهدوء.. أدركوا أنني بالنسبة له الحرية والنسمة التي يتنفسها بعيدا عن سجنه الذهبي وحياته العادية التقليدية المملة ! لقد كنت أنا التي كسرت الملل الذي أصابه طوال حياته قبل أن يلقاني، وقد وجد بداخلي أسلوبا مستقلا في التفكير تجاه كل أمور حياته لم يتعوده من قبل)

وحكت كريستينا الكثير مما لم يكن يعلمه الناس عن ميتران.. كان لهما منزل خاص في الأدغال يتقابلان فيه بعيدا عن أعين الزوجة والحرس والصحافة، وكانا يهربان في الغابات بعيدا عن حرسه الخاص.

باختصار.. لم يكن ينقصهما سوى ورقة رسمية صغيرة تجعل العلاقة شرعية نظيفة، وتجعل ابنهما (رافن) ابنا شرعيا محترما في مجتمعه، لكنهما لم يفعلا.

وعن السياسي الفرنسي (جورج كلمنصو) كتب أنيس منصور يقول:(لم يكن غريبا أن يصدر فى فرنسا كتاب عن نمر السياسة الفرنسية ((جورج كلمنصو)) 1841 – 1929 م.. هذا الرجل خاض معارك سياسية مخيفة، واستطاع أن يتغلب على الجميع، وكان قادرا على أن يتحدث إلى عشرين شخصا فى عشرين موضوعا في وقت واحد، ولم يكن أحد يتصور أن هذا الرجل كانت له ثمانمائة عشيقة، وكان له أربعون من الأبناء غير الشرعيين) [5]

وفي المقابل، ماذا فعل عندما خانته زوجته، يقول أنيس منصور :(لكن عندما علم أن زوجته الأمريكية خانته نهض عند منتصف الليل وفتح لها الباب لتهبط إلى الشارع بقميص النوم.. فكلمنصو – مثل كل الذئاب البشرية – من أكثر الناس احتكارا للمرأة، ولم يقل أحد في المرأة أسوأ ولا أبشع مما قاله هو، سواء على فراش اللهو أو على فراش المرض)

في النمسا:

وفى النمسا كشفت الصحف عن فضيحة جنسية للرئيس (توماس كليستل) فقد تبن أن للرئيس عشيقة تعمل موظفة بوزارة الخارجية، وتمتد العلاقة بينهما إلى سنوات عمله وزيرا للخارجية قبل توليه الرئاسة.. وقد تسببت الفضيحة في مغادرة زوجته (أديت كليستل) المنزل ومطالبتها بالطلاق.

في الأرجنتين:

وفي الأرجنتين تروى العلاقات الجنسية التي لا تحصى للرئيس الأرجنتيني  (كارلوس منعم) وفضائحه تنشر يوميا في الصحف العالمية، ولم يردعه ذلك بالطبع. كما عجزت زوجته عن كبح جماحه فاضطرت إلى الانفصال عنه بعد خلافات طاحنة.

في الصين:

ومثل العالم الغربي الغارق في مستنقعات اللذة الآثمة، يحصل في العالم الشرقي ـ والكفر ملة واحدة ـ ففى عام 1994، أصدر الطبيب الصيني  (لي زى سوى) كتابا مثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان (الحياة البربرية للزعيم ماو)، وقد كان  هو الطبيب الخاص للزعيم (ماو تسى تونج) الحاكم المطلق لواحدة من أقوى دول العالم (كان ماو طاغية شيوعيا، لا راد لأوامره، ولا لرغباته ونزواته.. وكان ذئبا شرسا لا يشبع من الجنس، يبدل الفتيات كما يستبدل جواربه وأحذيته، يقيم الحفلات الصاخبة التي يرتبها مساعدوه خصيصا لمئات من الفتيات الصغيرات كي ينتقى منهن ما يهوى)

ويقول الطبيب المؤلف (إن الزعيم ماو كان يعتقد أن الجنس هو السبيل الوحيد لإطالة الحياة !! وكان يعانى من العديد من الأمراض الجنسية المعدية، وكانت هوايته هي نقل العدوى لأكبر عدد ممكن من الفتيات الصينيات اللائي كن يتفاخرن بظهور أعراض المرض الجنسي لديهن بعد الخروج من غرفة نوم الزعيم.. فهذه كانت العلامة الوحيدة على أن الفتاة قد التقت فعلا بالزعيم الصيني)

بين السعودية وأمريكا:

هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى المجتمعات، فلا بأس من إجراء مقارنة بسيطة بين المجتمعات التي تقر نظام تعدد الزوجات، وبين المجتمعات التي لا تقره، وتعتبره منافيا لحقوق الإنسان.

وكمثال على ذلك المجتمع السعودي الذي يتعرض الآن لهجمات مغرضة تريد تحطيمه، وتحطيم الأسس الشرعية التي ينبني عليها.

ففي المجتمع السعودي تندر الجرائم الخلقية مثل الاغتصاب والدعارة، بينما المجتمع الأمريكي تكاد نسبة العشيقات فيه تزيد على نسبة الزوجات.. كما تبلغ نسبة الأطفال غير الشرعيين فيه أكثر من 45 % من نسبة المواليد سنويا.

وتقول الإحصاءات الرسمية الأمريكية إن عدد الأطفال غير الشرعيين كان 88 ألف مولود سنة 1938، ثم ارتفع إلى 202 ألف عام 1957، ووصل إلى ربع مليون مولود من الزنا عام 1958.. ثم قفز الرقم إلى الملايين من ثمرات الزنا في التسعينيات، والأرقام الحقيقية تكون عادة أضعاف الأرقام الرسمية التي تذكرها الحكومات.. وما خفي كان أعظم.

ولكل هذا تساءل الكاتب الشهير الفرنسي أتيين دينيه :(هل حظر تعدد الزوجات له فائدة أخلاقية ؟! ويجيب بنفسه: إن هذا الأمر مشكوك فيه.. لأن الدعارة النادرة في أكثر الأقطار الإسلامية سوف تتفشى بآثارها المخربة، وكذلك سوف تنتشر عزوبة النساء بآثارها المفسدة، على غرار البلاد التي تحظر التعدد)

***

 بعد هذا.. نقول لدعاة التغريب وخصوم التعدد الشرعي:

أيهما أكثر احتراما للمرأة: فراش الزوجية، أم فراش العشيقة ؟

فإن قالوا بتساوي الفراشين في منطق الطبيعة، وهو المنطق الذي يدعيه الإباحيون، نقول لهم:

فما حال التي حال العجز المرضي، أو الدمامة بعد الصباحة، أو الشيخوخة بعد الشباب، بينها وبين تقبلها عشيقة ؟

أليس من الرحمة لهذه المرأة التي ضحت بشبابها وجمالها لعشيقها أن يرحمها في كبرها كما رحمته في صغره، لأن أول من يرفضها ويرميها في قمامة المهملات من زعم عشقه لها؟

أليس من الأنانية أن تعامل المرأة كما يعامل اللباس والأثاث فيلبس جديدا ويطرح باليا؟

ثم كيف تطالب هذه العشيقة بحقوقها ؟

وأي نفس تكن لها من الاحترام ما تكن للزوجة ؟

وهل يشعر أبناؤها بنفس مشاعر الأبناء الشرعيين ؟

ثم، ألا يدعي العالم الحر أن الحرية الشخصية للإنسان هي الأصل الذي تنبع منه قوانينهم، فلماذا لا يتركون هذا للحرية الشخصية، ويجعل الأصل هو تراضي الزوجين، لا ضغط القوانين ؟

أسئلة كثيرة نوجهها ـ أولا ـ لمن لا تزال في صدره بعض الرحمة من خصوم التعدد، ونوجهها ـ ثانيا ـ للمرأة التي ترضى أن تمتهن كعشيقة، ولا ترضى أن تكرم كزوجة ؟

***

 وقبل أن ننتهي من بيان مناسبة التعدد للتحضر نقتبس من كلام كاتبين كبيرين يدركان جيدا الفرق بين الحضارة الحقيقية والهمجية:

أما الأول، فهو الكاتب أنيس منصور عندما سأله مذيع إحدى المحطات التليفزيونية العالمية: ما رأيك في تعدد الزوجات ؟

فأجاب: إذا كان من رأيي أنه من حق الإنسان أن يأتي بأي عدد من الأطفال، فلا يهم إذا كانوا من زوجة واحدة أو أكثر.. إنه حر.

فسأله: ألا ترى أنك تتمسك بمبادئ قديمة بالية، وأن العالم كله ضد كثرة الأطفال وتعدد الزوجات ؟!

أجاب أنيس منصور: أنت قلت بأنك تسألني بصفتي الشخصية.. هذا هو رأيي الشخصي.. ولكي أكون أكثر وضوحا فإنني مدين بوجودي لعدم تحديد النسل.. فنحن أحد عشر أخا.. وترتيبي بين أخوتي هو التاسع.. وأنا ضد الاكتفاء بزوجة واحدة.. فقد تزوج أبى امرأتين.. وأنا ابن الزوجة الثانية.. وأنا مع مبدأ حرية الاختيار) [6]

وأما الثاني، فهو الدكتور أحمد شلبي أستاذ الحضارة والتاريخ الإسلامي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، قال :(المستشرقون يصرخون بأن تعدد الزوجات في الإسلام غير مقبول، ولكن من الذي جعل هؤلاء مقياسا نأخذ به؟! إن هذا الغرب أباح تعدد الخليلات، وتعدد العشيقات معناه ملايين من الأطفال غير الشرعيين.. ولا شك أن تعدد الزوجات أسمى وأطهر من تعدد الخليلات.. فالخليلة لا حقوق لها ولا لأطفالها.. وتعدد الزوجات يخدم جنس النساء أكثر مما يضرهن.. ويمكن لهن منع التعدد إذا اتفقن جميعا على ألا تتزوج إحداهن برجل متزوج.. ولكنهن لا يقدمن على ذلك لحاجتهن إليه، فهو أفضل من العنوسة) [7]

مناسبة التعدد للدين

لعل القاسم المشترك بين جميع المبشرين ـ مهما اختلفت مشاربهم ـ هو استعمال مسألة التعدد وسيلة من وسائل حرب الإسلام، والدعوة إلى نبذه[8].

ونحن لن نجادلهم ـ هنا ـ إلا بالتي هي أحسن، وهي دعوتهم إلى العودة إلى كتبهم، والنظر في أخبار أنبيائهم.

وهو نفس الأسلوب الذي استعمله القرآن الكريم حين أنكر اليهود تعدد زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: قال أهل الكتاب :(زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا. فأنزل الله هذه الآية :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء:54)) [9]

وعن عطية قال: قالت اليهود للمسلمين :(تزعمون أن محمدا أوتي الدين في تواضع وعنده تسع نسوة، أي ملك أعظم من هذا؟ فأنزل الله الآية:﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء:54)) [10]، يعني سبحانه ما آتى داود وسليمان عليهما السلام، فقد تزوج كلاهما أكثر مما تزوج نبينا محمد r، وكان لكل منهما من الجواري ما لم يمتلك مثله رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.

فقد كان تعدد الزوجات معروفا في عهد إبراهيم - عليه السلام - وأنجبت له السيدة هاجر إسماعيل - عليه السلام -، بينما رزقه الله من سارة سيدنا إسحاق - عليه السلام -.

وجمع نبي الله يعقوب - عليه السلام - بين أختين – ابنتي خاله لابان – هما (ليا) و(راحيل)، وجاريتين لهما، فكانت له أربع حلائل في وقت واحد.

وأنجب - عليه السلام - منهما الأسباط، بالإضافة إلى سيدنا يوسف - عليه السلام -، وأمه هي (راحيل) التي كانت أحب زوجات النبي يعقوب - عليه السلام - إلى قلبه، وأنجبت له (بنيامين) بعد يوسف - عليه السلام -.

وكانت لسيدنا داود - عليه السلام - عدة زوجات والعديد من الجواري، وزعموا أن سليمان - عليه السلام - تزوج بألف امرأة، سبعمائة منهن حرات من بنات السلاطين وثلثمائة جوار، بل زعموا أنه ارتد بإغوائهن في آخر عمره وبنى المعابد للأصنام، كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.

يقول رحمة الله الهندي :(ولا يفهم من موضع من مواضع التوراة، حرمة التزوج بأزيد من امراة واحدة، ولو كان حراماً لصرح موسى - عليه السلام - بحرمته، كما صرح بسائر المحرمات وشدد في إظهار تحريمها، بل يفهم جوازه من مواضع. لأنك قد علمت أن الأبكار التي كانت من غنيمة المديانيين، كانت اثنتين وثلاثين ألفاً وقسمت على بني إسرائيل، سواء كانوا ذوي زوجات أو لم يكونوا، ولا يوجد فيه تخصيص العزب)

وفي الباب الحادي والعشرين من سفر الاستثناء هكذا :(وإذا خرجت إلى القتال مع أعدائك وأسلمهم الرب إلهك في يدك وسبيتهم ورأيت في جملة المسبيين امرأة حسنة وأحببتها، وأردت أن تتخذها لك امرأة، فأدخلها إلى بيتك وهي تحلق رأسها وتقص أظفارها، وتنزع عنها الرداء الذي سبيت به وتجلس في بيتك وتبكي على أبيها وأمها مدة شهر ثم تدخل إليها وترقد معها ولتكن لك امرأة، فإن كانت بعد ذلك لا تهواها نفسك فسرحها حرة ولا تستطيع أن تبيعها بثمن ولا تقهرها أنك قد  ذليتها، وإن كان لرجل امرأتان الواحدة محبوبة والأخرى مبغوضة ويكون لهما منه بنون وكان ابن المبغوضة بكراً، وأراد أن يقسم رزقه بين أولاده فلا يستطيع يعمل ابن المحبوبة بكراً ويقدمه على ابن المبغوضة، ولكنه يعرف ابن المبغوضة أنه هو البكر ويعيطه من كل ما كان له الضعف من أجل أنه هو أول بنيه ولهذا تجب البكورية)

وهنا، قد يزعم النصارى بأن نصوص العهد القديم لا تلزمهم، وأن العبرة بالعهد الجديد وبرأي الكنيسة، ونقول لهم لذلك ما قاله واحد منهم هداه الله إلى الإسلام هو الدكتور محمد فؤاد الهاشمي :(إن الكنيسة ظلت حتى القرن السابع عشر تعترف بتعدد الزوجات) [11] 

ولا يوجد نص صريح في أي من الأناجيل الأربعة يحظر تعدد الزوجات، وكل ما حدث هو أن تقاليد بعض الشعوب الأوروبية الوثنية كانت تمنع تعدد الزوجات، فلما اعتنقت هذه الأقلية التي تمنع التعدد المسيحية فرضت تقاليدها السابقة على المسيحيين، وبمرور الزمن ظن الناس أن تحريم التعدد هو من  صلب المسيحية، بينما هو تقليد قديم فرضه البعض على الآخرين على مر السنين.

ونحن نتحدى معارضي التعدد أن يأتونا بنص على تحريم التعدد في أي إنجيل من الأربعة التي تمثل العهد الجديد.

أما العهد القديم أو التوراة ففيها نصوص صريحة على إباحة التعدد في دين الخليل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وشريعة داود وسليمان، وغيرهم من أنبياء بنى إسرائيل.

يقول مصطفى السباعي :(ولم يرد في المسيحية نصٌّ صريح يمنع التعدد،  وإنما ورد فيه على سبيل الموعظة أن الله خلق لكل رجل زوجته ،وهذا لا يفيد -على أبعد الاحتمالات - إلاالترغيب بأن يقتصر الرجل في الأحوال العادية على زوجة واحدة، والإسلام يقول مثل هذا القول، ونحن لا ننكره، ولكن أين الدليل على أن زواج الرجل بزوجة ثانية مع بقاء زوجته الأولى في عصمته يعتبر زنـًا ويكون العقد باطلاً ؟

ليس في الأناجيل نـص على ذلك، بل في بعض رسائل بولـس ما يفيد أن التعدد جائز،  فقد قال :(يلزم أن يكون الأسقف زوجـاً لزوجة واحدة) ففي إلـزام الأسقف وحده بذلك دليل على جوازه لغيره.

وينقل أنه قد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحـدة،  وفي آباء الكنيسة الأقدمين من كان لهـم كثير من الزوجات، وقد كان في أقـدم عصور المسيحية  إباحة تعدد الزوجات في أحوال استثنائية وأمكنة مخصوصة.

قال وستر مارك Wester Mark العالم الثقة في تاريخ الزواج :(إن تعدد الزوجات - باعتراف الكنيسة - بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة)

ويقول أيضاً في كتابه المذكور :(إن ديار ماسدت ملك أيرلندة كان له زوجتان وسرِّيتـان)

وتعددت زوجات الميروفنجيين غير مرة في  القرون الوسطى، وكان  لشرلمان زوجتان وكثير من السراري، كما يظهر من بعض  قوانينه أن تعدد الزوجات لم يكن مجهولاً بين رجال الدين أنفسهم.

وبعد ذلك بزمن كان فيليب أوفاهيس، وفردريك وليام الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين ،وأقر مارتن لوثر نفسه تصرف الأول منهما كما أقره ملانكنون.

وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات على تعدد الزوجات بغير اعتراض، فإنه لم يحرم بأمر من الله، ولم يكن إبراهيم - وهو مثل المسيحي الصادق  - يحجم عنه إذ كان له زوجتان.. نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال  العهـد القديم في ظروف خاصة ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم  يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق.

وفي سنة 1650 ميلادية بعد صلح وستفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين، أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قراراً  يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين.. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات، ففي سنة 1531م نادى اللامعمدانيـون في مونستر صراحة بأن المسيحي -  حـق المسيحي - ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس.

ويقول الأستاذ العقاد :(ومن المعلوم  أن اقتنـاء السـراري كان مباحاً - أي في المسيحية - على إطلاقه كتعدد الزوجات، مع إباحة الرق جملة في البلاد الغربيـة، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات، من ظروف المعيشة البيتية.         ومن صعوبة جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلاد أجنبية، وربما نصح بعض الأئمة - عند النصارى - بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية.

ومن ذلك ما جـاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثـل للقديـس أوغسطين، فإنه يفضل التجـاء الزوج إلى التسري بدلاً من تطليق زوجته العقيم        

وتشير موسوعة العقليين إلى ذلك، ثم تعود إلى الكلام عن تعدد الزوجات فتقول: إن الفقـيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الأقدمين فيما أخذه بعـض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة، لأنهم كانوا يتحرون الواجب، ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات)

وقال جرجي زيدان :(فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بامرأتين فأكثر، ولو شاؤوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم، ولكن  رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظـام العائلة واتحادها - وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية - فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور)

بل نرى المسيحية  المعاصرة تعترف بالتعـدد في أفريقيا السوداء، فقـد وجدت الإرسالية التبشيرية نفسها أمام واقع اجتماعي وهو تعدد الزوجات لدى الافريقيين الوثنيين، ورأوا أن الإصرار على منع التعدد يحول بينهم وبين الدخول في النصرانية، فنادوا بوجوب السماح للافريقيين المسيحيين بالتعدد إلى غير حد محدود.

وقد ذكر السيد نورجيه مؤلف كتاب (الإسلام والنصرانية في أوساط أفريقية) هذه الحقيقة ثم قال :(فقد كان هؤلاء المرسلون يقـولون إنه ليس من السياسة أن نتدخل في شؤون  الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها، وليس  من الكياسة أن نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ما داموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على  المسيحيين أن يجعلوه أسـاس دينهم - تبيح هذا التعدد، فضلاً عن أن المسيح قد أقر ذلك في قوله (لا تظنوا أني جئت لأهدم بل لأتمم ) [12]

بل  أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للأفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حد ٍّّ.

هذا عن النظرة المسيحية للتعدد وموقفها الفعلي منه، أما الواقع المسيحي الذي يحمل ألوية الخصومة لهذا الحكم الشرعي، فنحب أن ننقل هنا كذلك بعض فضائحه لنعرف حقيقة هؤلاء الذين يريدون توجيهنا إلى المعالي، وهم في مستنقعات الدنس.

وأولهم شقيقة الرئيس الأمريكي (كارتر) واسمها (روث)، فقد كانت تعمل في مجال الوعظ والتنصير، وكانت تتحدث عن تعاليم السماء وتدعوا غير المسيحيين إلى اعتناق المسيحية.. وفجأة ظهرت حقيقة شقيقة الرئيس، وتبين أنها على علاقة جنسية بالمستشار الألماني السابق (فيلى برانت) وكتبت الصحف الأمريكية والألمانية باستفاضة تفاصيل علاقة المبشرة المتزوجة بالمستشار الألماني وخيانتها لزوجها الذي كان كالعادة هو آخر من يعلم.

والمثال الثاني هو القس (جيمي سوجارت) أشهر رجال التنصير في أمريكا والعالم بأسره، والذي كان طرفا في المناظرة الشهيرة مع الشيخ أحمد ديدات، فقد ظهر المنصر الكبير على شاشات كبريات المحطات التليفزيونية الدولية ليعترف تفصيليا بعلاقته الجنسية مع إحدى البغايا الداعرات.

وهكذا كان (سوجارت) يتحدث عن الفضيلة، ويهاجم تعدد الزوجات وغيره من أحكام الإسلام العظيم، وهو غارق حتى أذنيه في أوحال الدنس والخطيئة التي ينهى أتباعه عن الاقتراب منها.

أما في الكنائس فإن الفضائح تتوالى فيها كل حين، وقد أوردت وكالات الأنباء خبرا تحت عنوان(الفاتيكان يعترف باغتصاب راهبات من قبل قساوسة)

ونص الخبر هو :(اعترف الفاتيكان بصحة تقارير صحفية تحدثت عن انتهاكات أخلاقية في صفوف الكنيسة، وقالت إن قساوسة ورجال دين كبارا أرغموا راهبات على ممارسة الجنس معهم، وتعرضت بعض الراهبات للاغتصاب وأجبرت أخريات على الإجهاض.   

وقال الفاتيكان في بيان له إن القضية محدودة ومتعلقة بمنطقة جغرافية محددة، لكنه لم يشر إلى هذه المنطقة الجغرافية، وكانت التقارير أكدت أن هذه الانتهاكات موجودة في 23 بلدا من بينها الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل والفلبين والهند وإيرلندا وإيطاليا نفسها.

وأكد البيان أن الكرسي البابوي يتعامل مع القضية بالتعاون مع الأساقفة، والمؤسسات الدينية الكاثولكية الأخرى لمعالجة الموضوع.

وأدانت وكالة الأنباء التبشيرية ميسنا ما أسمته مفاسد المبشرين لكنها في الوقت نفسه دعت إلى تذكر أن هؤلاء القساوسة ورجال الدين يظلون بشرا. لكن المتحدث الرسمي باسم المؤتمر الأميركي للأساقفة الكاثوليك قال إن أقل ما يمكن قوله عن هذا التقرير هو أنه مروع ومزعج، لكنه أوضح أنه لا علم له بمثل هذه الانتهاكات في الولايات المتحدة.

وقال تقرير نقلته صحيفة لا ريببليكا الإيطالية إن بعض الراهبات أجبرن على أخذ حبوب منع الحمل. وأشار إلى أن معظم حالات الاعتداء الجنسي على الراهبات حدثت في أفريقيا حيث تعرف الراهبات على أنهن آمنات من الإصابة بفيروس الإيدز المنتشر في القارة السمراء.

وكانت الاتهامات قد ظهرت للمرة الأولى في التقرير الكاثوليكي القومي الأسبوعي في مدينة كانساس في 16 مارس/ آذار ونقلته وكالة أنباء أديستا -وهي وكالة إيطالية دينية صغيرة- مما أدى إلى وصوله لأجهزة الإعلام العامة.

وقد أعدت التقرير الذي تحدث عن حالات محددة بالأسماء وحالات تورط أصحابها راهبة وطبيبة تدعى ماورا أودونوهو، وقدمت الراهبة تقريرها إلى رئيس مجمع الفاتيكان للأوامر الدينية الكاردينال مارتينز سومالو في فبراير/ شباط عام 1995.

وقد أمر الكاردينال آنذاك بإنشاء فريق عمل من المجمع لدراسة المشكلة مع أودونوهو والتي كانت تعمل منسقة الإيدز في منظمة (كافود) وهي منظمة دينية تابعة لطائفة الروم الكاثوليك تتخذ من لندن مقرا لها.

وأشارت أودونوهو إلى أدلة واضحة على اتهاماتها، وقالت إنه في إحدى الحالات أجبر قسيس راهبة على الإجهاض مما أدى إلى موتها، ثم قام بنفسه بعمل قداس لها.

وبشأن أفريقيا قال تقريرها إن الراهبات لا يستطعن هناك رفض أوامر القساوسة بهذا الشأن، وأكدت أن عددا من القساوسة هناك مارسوا الجنس مع الراهبات خوفا من إصابتهم بالإيدز إذا مارسوه مع العاهرات، وترغم الراهبات على تناول حبوب لمنع الحمل، لكنها قالت إن مؤسسة دينية اكتشفت وجود 20 حالة حمل دفعة واحدة بين راهباتها العاملات هناك.

وأشار التقرير إلى أن الأسقف المحلي لإحدى المناطق طرد رئيسة دير عندما اشتكت له من أن 29 راهبة من راهبات الدير حبالى بعد أن أرغمن على ممارسة الجنس مع القساوسة[13].

بل الأمر الأخطر من ذلك هو تفشي الشذوذ الجنسي في هذه الكنائس التي تتزعم محاربة التعدد الشرعي، ففي بعض الأخبار ـ وهي قليل من كثير ـ أن نحوا من ثلاثة آلاف من القساوسة ووجهوا باتهامات التحرش الجنسي بالأطفال. وقد وجهت انتقادات شديدة للكاردينال لو لعدم معاقبة القس السابق في بوسطن، جون جيوجان، الذي يعتقد بأنه تحرش بنحو مائة شخص خلال عشرين عاما، بل اكتفى بنقله إلى أبرشية أخرى.

وقد كلفت هذه الفضائح الكنيسة مبالغ طائلة وصلت إلى مليار دولار حيث اضطرت لعقد تسوية خارج المحكمة في عدد من القضايا. وذكر أن عدد من الأبرشيات قد أفلست تمام بسبب الفضائح[14].

وفي خبر آخر :(صوت أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة على العمل بقواعد جديدة تهدف إلى التخلص من الاعتداءات الجنسية من قبل الكهنة على الأطفال.

جاء التصويت في مؤتمر قمة لبحث الأزمة في مدينة دلاس بولاية تكساس الأمريكية. وكان الهدف من الدعوة إلى عقد المؤتمر إعادة الثقة في الكنيسة.

وتنص القواعد الجديدة على أن الكاهن الذي يعتدي جنسيا على طفل يمنع من الالتقاء بالناس ولكن يبقى في الخدمة الكنسية.

ولكن عددا من ضحايا الاعتداءات يقولون إن الخطة الجديدة لم تذهب إلى الحد المطلوب.

وناشد رئيس المؤتمر الأسقف ويلتون غريغوري الضحايا أن يغفروا لرجال الكنيسة المعتدين. وقد هزت الازمة الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية من أساسها.

ووقف الأساقفة مصفقين بعد أن تم التصويت على القواعد الجديدة بنسبة 239 مقابل 13.

وقال الأسقف غريغوري :(من اليوم فصاعدا لن يسمح لأحد يعرف انه اعتدى جنسيا على طفل أن يعمل في الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة)

وتنص الخطة الجديدة على أن رجال الدين الذين اعتدوا على أطفال لن يسمح لهم بالقيام بأي نشاط داخل الكنيسة، سواء بإقامة القداسات او بالتعليم. ولكن يمكن أيضا تجريدهم من الرتبة الكنسية بقرار من الأساقفة بنصيحة من مجلس استشاري مؤلف من الناس العاديين.

وكان يتوقع أن يتخذ الأساقفة سياسة (عدم تسامح كامل) مع أي انتهاكات بحيث أن رجل الدين الذي يثبت اعتداؤه على طفل أن يجرد من رتبته الكنسية على الفور. ولكن المؤتمر لم يقر ذلك.

وغضب بعض الضحايا من النتائج التي توصل إليها المؤتمر، وقال مارك سيرانو، وهو من الضحايا: "إن ذلك يشبه أن نقول لقاتل في الطريق: إننا سنرسلك إلى الريف)، وقال :(إن المعتدين من رجال الدين سيجدون الأطفال الذين يعتدون عليهم)

وعند بداية المؤتمر، اعترف الأسقف غريغوري بصراحة بالألم الذي تسببت به الكنيسة وأعرب عن الندم لوقوع الفضيحة، وقال :(باسمي وباسم جميع الأساقفة، اعبر عن الاعتذار العميق لكل واحد منكم ممن عانوا من الاعتداءات الجنسية على يد كاهن أو أي مسؤول آخر في الكنيسة)

وبعد ذلك استمع الوفود إلى أربعة ضحايا لاعتداءات الكهنة يروون قصصهم، وقالت بولا رورباشر إن كاهنا اعتدى عليها بعد أن صادقته أسرتها. وقالت :(إن هذه الجريمة خلفت آثارا عميقة في روحي)

وقال كريغ مارتن انه جاء إلى المؤتمر لكسر حاجز الصمت و"لكسر الألم الذي كان يقتله."

ووقف حوالي 50 شخصا خارج مبنى المؤتمر يرفعون رايات تدعو الأساقفة إلى التعاطف مع ضحايا الاعتداءات الجنسية على أيدي الكهنة[15].

***

 ومع هذه الفضائح جميعا، فإن أحد سلاح يشهره المبشرون اليوم على الإسلام ونبي الإسلام هو مسألة التعدد باعتبارها حالة لا تتوافق مع حقوق الإنسان، وقد ذكر مصطفى السباعي حوارا بينه وبين بعض الآباء المسيحيين في ذلك، فقال :(حين كنت في دبلن (ايرلندا) عام 1956 زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيهـا، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها، وكان مما قلته له: لماذا تحملون على الإسلام ونبيه وخاصة في كتبكم المدرسية، بما لا يصح أن يقال في مثل هذا العصر الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات ؟  فأجابني: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء  !..     قلت له هـل تحترمون نبي الله داود، ونبيه سليمان ؟     قال: بلى !  وهما عندنا من أنبياء التوراة !

قلت: إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة، أكملهن  بمائة بالـزواج من زوجة قائده اوريا كما يقولون، ونبي الله سليمان كانت له  - كما جاء في التوارة - سبعمائة زوجة من الحرائر، وثلاثمائة من الجـواري وكنّ أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعاً؟ ثمانٍ منهن ثيبات، وأمهات، وبعضهن عجائز، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة عمره؟ فسكت قليلاً وقال: لقد أخطأت التعبير أنا أقصد أننـا نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة، ويبدو لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار، أو عارم الشهوة !

قلت: فما تقولون في داود وسليمان وبقية أنبياء بني إسرائيـل الذين كانوا جميعاً معددين للزوجات بدءاً من إبراهيم عليه السلام ؟  فسكت ولم يحر جواباً)

 

مناسبة التعدد لغير المتزوجات

إن النظرة القاصرة التي ينظر بها خصوم التعدد تجعل نظرهم لا يصل إلى العوانس والأرامل والمطلقات اللاتي تمتلئ الأرض بأعدادهن الضخمة، وهن ـ كالزوجات ـ يحتجن إلىالرعاية والكفالة، ولا يفترقن عن الزوجات بأي فرق، وقبل أن نناقش الحلول التي يمكن التعامل بها مع هؤلاء نحب أن نذكر بعض الإحصائيات التي تحاول أن تعد النساء مقارنة بعدد الرجال:

ففي آخر الإحصاءات الرسمية لتعداد السكان بالولايات المتحدة الأمريكية تبين أن عدد الإناث يزيد على عدد الرجال بأكثر من ثمانية ملايين امرأة، وفى بريطانيا تبلغ الزيادة خمسة ملايين امرأة، وفى ألمانيا نسبة النساء إلى الرجال هي 3: 1.

وفى إحصائية نشرتها جريدة (الميدان) الأسبوعية أكدت الأرقام أنه من بين كل عشر فتيات مصريات في سن الزواج الذي تأخر من 22 إلى 32 سنة تتزوج واحدة فقط، والزوج دائما يكون قد تخطى سن الخامسة والثلاثين وأشرف على الأربعين.

وقالت الصحيفة: إن العلاقات المحرمة تزيد، وكذلك ظاهرة الزواج العرفي في ظل وجود ملايين من النساء بلا زواج.. وأكدت الباحثتان غادة محمد إبراهيم وداليا كمال عزام في دراستهما تراجع حالات الزواج بين الشباب بنسبة 90 % بسبب الغلاء والبطالة وأزمة المساكن.

وتقول إحصائية رسمية أمريكية: إنه يولد سنويا في مدينة نيويورك طفل غير شرعي من كل ستة أطفال يولدون هناك[16]، ولا شك أن العدد على مستوى الولايات المتحدة يبلغ الملايين من مواليد السفاح سنويا.

وفى كل من العراق وإيران اختل التوازن العددي بين الرجال والنساء بصورة مفزعة بسبب الحرب الضارية التي استمرت بين البلدين ثماني سنوات.. فالنسبة تتراوح بين 1 إلى 5 في بعض المناطق، أي رجل لكل خمسة نساء، و1 إلى 7 في مناطق أخرى.

والأمر الأخطر في جمهورية البوسنة والهرسك التي فرضت عليها حرب عنصرية طحنت البلاد أربع سنوات كاملة (من عام 1992 حتى عام 1996).. فالنسبة في معظم أنحاء البوسنة والهرسك هي رجل لكل 27 امرأة.

انطلاقا من هذه النماذج الإحصائية، ولمعالجة هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:

·  1 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج، ثم تبقى واحدة أو أكثر - حسب درجة الاختلال الواقعة - بدون زواج، تقضي حياتها - أو حياتهن - لا تعرف الرجال.

·  2 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا، ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال، فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام.

·  3 - أن يتزوج الرجال الصالحون - كلهم أو بعضهم - أكثر من واحدة، وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة وولا خليلة في الحرام والظلام.

أما الاحتمال الأول فهو ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب، لأن ألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية، سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير، والرجل يجد العمل ويجد الكسب ؛ ولكن هذا لا يكفيه فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل - في هذا - فهما من نفس واحدة.

والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف ؛ وضد المجتمع الإسلامي العفيف ؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية، والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله، ويتطاولون على شريعته. لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول، بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير.

والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره رخصة مقيدة لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين ؛ متمشيا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان مع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة في يسر ولين وواقعية.

ولذلك، حصل في العهد الذي تولى فيه الشيخ محمود شلتوت مشيخة الأزهر الشريف أن نسبة الفتيات في سن الزواج تعادل ثلاثة أمثال نسبة الذكور القادرين على النكاح، فدعا الشيخ الشباب القادر إلى الزواج بأكثر من واحدة، ورأى أنه يجب على كل شاب أن يتزوج ثلاث فتيات، وبذلك تستطيع مصر أن تنهى على مشكلة العنوسة نهائيا..

وقد ثارت ضجة كبرى في ذلك الوقت، وهاج أنصار التغريب على العالم الجليل، ولم ينهضوا للانحرافات العظيمة التي كان يموج بها المجتمع المصري في ذلك الوقت.

ولم يقف الأمر ـ في تأييد هذا ـ على العلماء، بل إن النساء طالبن بتحقيق هذا الاحتمال، كحل لمشكل العنوسة، ففى تحقيق ساخن عن (انفجار العوانس) تذكر السيدة تهاني البرتقالي مراسلة الأهرام في الكويت ما حدث منذ سنوات عندما انتشرت ظاهرة إرسال مئات الخطابات من فتيات إلى زوجات كويتيات تطالب كل فتاة في رسالتها المرأة المتزوجة بقبول مشاركة امرأة أخرى لها في زوجها لحل مشكلة العنوسة في المجتمع الكويتي والخليجي بصفة عامة.. ويقول التحقيق الذي نشرته مجلة الأهرام العربي في عددها الأول: إن عدد عوانس الكويت حوالي 40 ألف فتاة.

وهو عدد ليس بالقليل بالمقارنة بتعداد الشعب الكويتي ككل، وهو نصف مليون نسمة، أي أن نسبة العوانس في الكويت تبلغ 16 % من عدد النساء في الكويت، الذي يزيد على الربع مليون نسمة.

بل إن الشعوب الغربية المسيحية وجدت نفسها تجاه زيادة  عدد النساء على الرجال عندها - وبخاصة بعد الحربين العالميتين  - إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة لا تزال تتخبط في إيجاد الحل المناسب لهــا، وقد كان من بين الحلول التي برزت، إباحة تعـدد الزوجات.

فقد حدث أن مؤتمراً للشباب العـالمي عقـد في (ميونخ) بألمانيـا عام 1948م  واشترك فيه بعض الدارسين المسلمين من البلاد العربية، وكان من لجانه لجنة تبحث مشكلة زيادة عدد النساء في المانيا أضعافاً مضاعفة عن  عدد الرجال بعـد الحرب  وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة، تقـدم الأعضاء المسلمون في هـذه اللجنة باقتراح إباحـة تعدد الزوجات، وقوبل هذا الرأي أولاً بشيء من الدهشة والاشمئزاز، ولكن أعضاء  اللجنة اشتركوا جميعـاً في مناقشته فتبين بعـد البحث الطويل أنه لا حل غيره، وكانت النتيجة أن أقـرت اللجنة  توصية المؤتمر بالمطالبة بإباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة.

وفي عام 1949م  تقدم أهالي (بون) عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب إلى السلطات المختصـة يطلبون فيه أن يُنـَص في الدستور الألماني على إباحة تعـدد الزوجات.

ونشرت الصحف في ذلك الحين أن الحكومة الألمانية أرسلت إلى مشيخة الأزهـر تطلب منها نظام تعدد الزوجات في الإسلام ؛ لأنها تفكر في الاستفادة منه في حـل مشكلة زيادة النساء، ثم أتبع ذلك وصول  وفـد من علماء الألمان  اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية، كما التحقت بعض الألمانيات المسلمات بالأزهر لتطلع  بنفسها على أحكام الإسلام في موضوع المرأة عامة وتعدد الزوجات خاصة.

وقد حدثت محاولة قبل هذه المحاولات في ألمانيـا أيام الحكم النازي لتشريع تعـدد الزوجات، فقد حدثنا زعيم عربي إسلامي كبير أن هتـلر حدثه برغبته في وضـع قانون يبيح تعـدد الزوجات، وطلب إليه أن يضع له في ذلك نظـاماً مستمداً من الإسلام، ولكن قيام الحرب العالمية الثانية حالت بين هتلر وبين تنفيذ هذا الأمر.

وقـد سبق أن حاول (إدوارد السابع) مثل هذه المحاولة فأعـد مرسوماً  يبيح فيه التعدد، ولكن مقاومة رجال الدين قضت عليه[17].

ومنذ أوائل هذا القرن تنبه عقلاء الغربيين إلى ما ينشأ من منع تعـدد الزوجات من تشرد النساء وانتشار الفاحشة وكثرة الأولاد غير الشرعيين، وأعلنوا أنه لا علاج لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات. فقد نشرت جريدة (لاغوص ويكلي ركورد)، نقلاً عن جريدة (لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الإنجليزيات ما يلي: "       لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البـلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لا فائدة إلا في العمل بمـا يمنع هذه الحالة الرجسة، ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء وهو: “ الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة.. (إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشـر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة)، (أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع، فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم  فيه من العذاب الهون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن.. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين.

وقد قال الفيلسوف الألماني الشهير (شوبنهور) في رسالته (كلمة عن النساء) يبين المضار التي دخلت على النساء الأوروبيات بسبب تحريم التعدد :(ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعـدد الزوجات زوجـاً يتكفل بشؤونها، والمتزوجات عندنا نفر قليل، وغيرهن لا يحصين عدداً، تراهن بغير كفيل بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى، يتجشمن الصعاب، ويتحملن شاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف بنت عمومية ـ هذا على عهد شوبنهور ـ سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج ضحية  الاقتصار على زوجة واحدة، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل.

أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنـوع النساء بأسره؟ إذا رجعنا إلى  أصول الأشياء لا نجد ثمة سبباً يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت امرأته بمـرض مزمن تألم منه، أو كانت عقيما ً، أو على توالي السنـين أصبحت عجوزاً، ولم تنجح المورمون (وهي فرقة من البروتستانت تبيح تعـدد  الزوجات وتمارسه فعلاً ولها كنائسها المنتشرة في أوروبا وأمريكا) في مقاصدها إلا بإبطال هذه الطريقة الفظيعة طريقة الاقتصار على زوجة واحدة)

 

***

 والسر في هذا أن المرأة كالرجل تماما تحتاج إلى الشريك والسكن الذي تسكن إليه لتروي حاجتها الفطرية إلى هذا الطرف.

وهي لا تتوقف على الحاجة الجنسية، بل إن الدراسات النفسية تؤكد أن حرمان المرأة من العواطف أشد خطورة من حرمانها الجنسي، فمتعة الإشباع الجنسي بدون عواطف ليس لها أي تأثير لدى المرأة.. بينما الكلمة الرقيقة واللمسة الحانية تأثيرها أكثر بكثير، وتجعلها تنعم بالإشباع الجنسي.

وهذا ما يؤكده الدكتور سعيد عبد العظيم – أستاذ الأمراض النفسية والعصبية بطب القاهرة – ويضيف أن الحرمان العاطفي عند المرأة هو الطريق السريع إلى الانحراف أو البرود الجنسي، بالإضافة إلى العديد من الأمراض الجسدية والنفسية وغيرها.

أما عن تأثير عدم الزواج في الأمراض العضوية، فيقول الدكتور محمد هلال الرفاعى أخصائي أمراض النساء والتوليد :(عدم الزواج أو تأخيره يعرض المرأة لأمراض الثدي أكثر من المتزوجة، وكذلك سرطان الرحم والأورام الليفية)

ويتحدث هذا الطبيب عن استبيان أجراه، فقال :(وقد سألت كثيرا من المترددات على العيادة: هل تفضلين عدم الزواج أم الاشتراك مع أخرى في زوج واحد ؟ فكانت إجابة الأغلبية الساحقة هي تفضيل الزواج من رجل متزوج بأخرى على العنوسة الكئيبة، بل إن بعضهن فضلت أن تكون حتى زوجة ثالثة أو رابعة على البقاء في أسر العنوسة)

وتتحدث طبيبة أخرى في رسالة بعثت بها إلى الكاتب أحمد بهجت :(إنها قرأت إحصائية تقول: إن هناك ما يقرب من عشرة ملايين سيدة وآنسة بمصر يعشن بمفردهن.. وهن إما مطلقات أو أرامل لم ينجبن أو أنجبن، ثم كبر الأبناء وتزوجوا أو هاجروا، أو فتيات لم يتزوجن مطلقا.. هل يستطيع أحد أن يتخيل حجم المأساة التي يواجهها عالم النساء الوحيدات؟ إن نساء هذا العالم لا يستطعن إقامة علاقات متوازنة مع الآخرين، بل يعشن في حالة من التوتر والقلق والرغبة في الانزواء بعيدا عن مصادر العيون والألسنة والاتهامات المسبقة بمحاولات خطف الأزواج من الصديقات أو القريبات أو الجارات.. وهذا كله يقود إلى مرض الاكتئاب، ورفض الحياة، وعدم القدرة على التكيف مع نسيج المجتمع)

وتحذر هذه الطبيبة مما يواجه هؤلاء النسوة من أمراض نفسية وعضوية مثل الصداع النصفي وارتفاع ضغط الدم والتهابات المفاصل وقرحة المعدة والإثنى عشر والقولون العصبي واضطرابات الدورة الشهرية وسقوط الشعر والانحراف الخلقي.. ويضطر الكثير منهن للارتباط برجل متزوج.

***

 وبالإضافة إلى هذه النواحي النفسية والصحية، فإن هناك ناحية جديرة بالاهتمام، وهي أن هناك عشرات الملايين من الأرامل والمطلقات في العالم ـ بحسب الإحصائيات السابقة ـ وهن لا يبحثن عن إلا عن عائل يقوم بدور الأب الحنون لأطفالهن، والحامي الذائد عن أعراضهن، حتى ولو لم يمارس أي دور كزوج.

وللأسف نجد الواقع لا ينظر إلى هؤلاء النسوة بعين الرحمة، والكثير منهن تزج بها الظروف إلى التسول أو الخدمة في البيوت أو المؤسسات، أو ترمى في الشيوع للذئاب اللاهثة، فتنزل من عرش الزوجية الذي كانت تعتليه إلى تلك المنحدرات السحيقة.

أليس من رحمة هؤلاء أن يعاد توظيفهن في مؤسسة الزواج، كما يعاد توظيف من طرد من عمل أو انتهى دوره من عمل.

مناسبة التعدد للمتزوجات

بعد هذا كله نعود إلى اللاتي من أجلهن يحمل خصوم التعدد ألوية الحرب على الإسلام، لنقول لهم: إن المصالح الشرعية لا تتوقف فقط عند تلك الحدود، بل إنها تشمل حتى هؤلاء اللاتي قد نتصور تضررهن بالتعدد، وسنناقش هذا في النقاط التالية، ولتي تحول أن تجيب على الأسئلة المختلفة في هذا المجال:

الضرر وهمي لا واقعي:

وسبب هذا الوهم هو ما شاع في تقاليدنا من أن الزوجة الثانية ضرة، وأنه يشكل ظلما للأولى، فتخاف المرأة على سمعتها في المجتمع أكثر مما تخاف على مصالحها مع زوجها.

لكنها إذا علمت أن الإسلام يعطيه هذا الحق في الاقتران بأخريات في حدود الأربع زوجات، فإن مجرد اعتقادها يزيل عنها هذا الوهم، ويرفع عنها آثاره النفسية، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)

ثم إن الزوجة لن تحرم من زوجها في حالة اقترانه بأخرى، فقد قيد الشارع التعدد بضرورة العدل.. وهذا يعنى أن الزوجة لن تحرم من زوجها في حالة اقترانه بأخرى، إذ هو ملتزم بالإنفاق على كل الزوجات والقسم بينهن في كل شئ، بما في ذلك المبيت عند كل واحدة مثلما يبيت عند الأخريات.

وتضررها بعدم مبيته الدائم عندها لا يرتبط بزواجه فقط، بل إن ضرورات الحياة قد تفرض على كل زوج وزوجته التضحية ببعض ما يحب في سبيل المصلحة المشتركة لكليهما أو المصلحة العامة للمجتمع، أو حتى مصلحة الآخر إذا كان يحبه حقا.. والإسلام يبغض الأنانية ويدعو إلى الإيثار وليس الأثرة المقبوحة..

يقول حمدي شفيق :(وفى عصرنا هذا نرى ملايين الرجال يسافرون للعمل في الخارج تاركين زوجاتهم وأطفالهم عاما أو أكثر في سبيل لقمة العيش..والغريب أن أولئك الذين يتباكون على نقصان حظ الزوجة من رجلها حين يقترن بأخرى لا يعترضون على حرمانها الكامل سنوات وسنوات في حالة سفر الزوجة للعمل بالخارج، بل يدعون إليه ويشجعونه بحجة الرغبة في زيادة موارد الدولة من العملة الصعبة، ولو على حساب الزوجات.

وهناك أيضا من يسافرون للتجارة وللدراسة في جامعات دول أخرى، وبطبيعة الحال قد يضطر المتزوجون منهم إلى ترك زوجاتهم في مواطنهم ريثما ينتهون من الدراسة بعد أعوام.. فما بال المعترضين على التعدد هنا لا يفتحون أفواههم هناك على أن الزوج في حالة التعدد يعود إلى أحضان زوجته بعد يوم أو يومين أو حتى أسبوع، لا يبتعد عنها عاما أو أعواما، كما يحدث في مثل هذه الأعوام، كما يحدث في مثل هذه الحالات التي أشرنا إليها

وكذلك قد يمرض الزوج، ويبتعد فترة قد تطول أو تقصر عن فراش زوجته، وقد تمرض الزوجة نفسها فيبعدها المرض عن أحضان الزوج، وتلك طبيعة الحياة التي لا سبيل إلى تجاهلها أو المكابرة بشأنها..

ولا ننسى الدورة الشهرية التي قد تطول من أسبوع إلى أسبوعين عند بعض النساء، ويعتزلهن الرجال خلالها حتى يطهرن تماما..

و الخلاصة أنه لا يوجد في الواقع ذلك الرجل الذي يبقى ملتصقا طول الوقت بزوجته، وحتى المقيم صحيح البدن يضطر الآن إلى الالتحاق بعمل آخر، ليزيد دخله ويمكنه الإنفاق على أسرته، ومثل هذا الرجل يعود إلى المنزل عادة في ساعة متأخرة من الليل.. وإذن لا مفر من التسليم بعدم تفرغ الكثير من الرجال لنسائهم في هذا العصر.

ولا داعي إذن إلى المبالغة في التهويل وتضخيم الضرر الذي يلحق بالزوجة الأولى بسبب التعدد.

ولكن مع ذلك إن حصل بعض الضرر الحقيقي على المرأة من جراء عدم التقيد بالأحكام الشرعي، فلا ينبغي حمله على هذا الحكم الشرعي، يقول سيد قطب :(إن أحدا يدرك روح الإسلام واتجاهه، لا يقول:إن التعدد مطلوب لذاته، مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية أو اجتماعية ؛ وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني، وإلا التنقل بين الزوجات، كما يتنقل الخليل بين الخليلات ،إنما هو ضرورة تواجه ضرورة، وحل يواجه مشكلة. وهو ليس متروكا للهوى، بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي، الذي يواجه كل واقعيات الحياة (

أما ما حصل في بعض عهود التاريخ الإسلامي في بعض المجتمعات، فليس من الإسلام في شيء، والإسلام ليس مسؤولا عنه، يقول سيد:( فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة. إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحا للذة الحيوانية. إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات. إذا أنشأوا "الحريم" في هذه الصورة المريبة.. فليس ذلك شأن الإسلام ؛ وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام،  إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام، ولم يدركوا روحه النظيف الكريم. والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام، ولا تسيطر فيه شريعته، مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة، تدين للإسلام وشريعته ؛ وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه، وآدابه وتقاليده) [18]

وما سنفصله في هذا الفصل من الأحكام الفقهية يؤكد الشروط الدقيقة التي اعتبرها الشرع لتحقيق التعدد بصفته المثالية.

قصور الزوجة عن بعض وظائفها:

قد يحصل للزوجة الأولى بعض القصور في أداء وظائفها الفطرية كزوجة مرغوب فيها، كسن أو مرض أو عقم أو عدم رغبة في الإنجاب أو عدم رغبة في المعاشرة الجنسية، فكا هو الحل الأمثل في مثل هذه الحالات، وهي ليست بالحالات النادرة:

أنكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان  ونقول له: إن هذا لا يليق، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها؟

أم نطلق العنان لهذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء؟

أم ندعوه إلى طلاقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغباته الفطرية؟

أو نبيح لهذا الرجل التعدد - وفق ضرورات الحال – حرصا على الزوجة الأولى؟

وأصلح هذه الاحتمالات للزوجة الأولى هو حل التعدد الشرعي :

لأن الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق الطاقة، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي، ولن تنال المرأة منه إلا كراهية زوجها الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت، وهو ما يكرهه الإسلام، الذي يجعل من البيت سكنا، ومن الزوجة أنسا ولباسا.

أما الاحتمال الثاني، فهو زيادة على كونه ضد اتجاه الإسلام الخلقي، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها، يضر المرأة لأنه سينقل لها عدوى الانحراف الذي يأوي إليه.

أما الاحتمال الثالث، فقد ينادي قوم بإيثاره، ولكن تسعا وتسعين زوجة - على الأقل - من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق، الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور.

ولم يبق إلا الاحتمال الأخير، فهو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية، ويلبي منهج الإسلام الخلقي، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية.

امتداد فترة الإخصاب في الرجل:

قد يميل الرجل في سن معينة من حياته إلى الإنجاب، وتقف العوارض البيولوجية التي تعتري المرأة عن تلبية هذه الرغبة، فما الحل؟

مما لا خلاف فيه أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها، بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها، فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة.

وقد عرفنا أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما، امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار، فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال.

ومما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع - الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال - هذه الرخصة - لا على سبيل الإلزام الفردي، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء، وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائما في التشريع الإلهي.

وقاية الزوجة من انحراف الزوج:

لأنه بانحرافه سيجلب الخراب لبيتها، والآفات لجسدها، فلذلك كان زواجه من نساء ظاهرات أصلح لها من تردده على نساء خفيات سرا، وقد قال مصطفى السباعي :(وقد دخلت أوروبا حربين عالميتين  خلال ربع قـرن، ففني  فيهـا ملايين الشباب، وأصبحت جماهير من النساء ما بين فتيات متزوجات، قد فقدن عائلهن، وليس أمامهن - ولو وجدن عملاً -  إلا أن يتعرفن على المتزوجين الذين بقوا أحياء، فكانت النتيجة أن عملن بإغرائهن على خيانة الأزواج لزواجاتهم، أو انتزاعهم من أحضان زوجاتهم ليتزوجن بهم، وقد وجدت النساء المتزوجات في هذه الأحوال من القلق وتجرع الهجـر والحرمان ما يفوق مرارة انضمام زوجة أخرى شرعية إلى كل واحدة منهن، وقامت في بعض بلاد أوروبا - وخاصة في المانيا - جمعيات نسائية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات، أو - بتعبير أخف وقعاً- في أسماع الغربيين وهو  (إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته)

لماذا لا تعدد المرأة الأزواج :

يبقى سؤال أخير يطرح لا لمحاولة الإجابة عنه، وإنما من باب الدعابة والهزل، والخلط بين الحقائق والعبث، ونحن مع ذلك نذكره، ونجيب عنه باعتباره سؤالا جديا جديرا بالإجابة.

وهذا السؤال هو: لماذا لا يباح للمرأة التعدد كما يباح للرجل ؟

قال محمد الغزالي :(وقرأت لبعض الصحفيين يعترض على مبدأ التعدد: لماذا يعدد الرجال الزوجات ولا تعدد النساء الأزواج ؟‍!

ولقد نظرت إلى هؤلاء المتسائلين فوجدت جمهورهم بين داعر أو ديوث أو قواد، وعجبت لأنهم يعيشون في عالم من الزنا، ويكرهون أشد الكره إقامة أمر الأسرة على العفاف..

والجواب على هذا التساؤل المريض أن الهدف الأعلى من التواصل الجنسي هو إنشاء الأسرة، وتربية الأولاد في جو من الحضانة النظيفة. وهذا لن يكون في بيت امرأة يطرقها نفر من الناس.. يجتلدون للاستحواذ عليها، ولا يعرف لأيهم ولد منها..

ثم إن دور المرأة في هذه الناحية دور القابل من الفاعل، والمقود المحمول من القائد الحامل.. وإنك لتتصور قاطرة تجر أربعة عربات، ولا تتصور عربة تشد أربعة قاطرات، ومن الكفر بطبائع الأشياء المماراة في أن الرجال قوامون على النساء)

وزيادة على هذا، فإن ما أودع الله في كيان المرأة وتكوينها الجسدي والنفسي من اختلافات جذرية عن الرجل تحيل تحقيق هذا المطلب:

فمن ناحية يستحيل تحديد هوية الجنين ونسبه إذا كانت المرأة تضاجع عدة رجال في فترة زمنية واحدة.. ويمكن تصور الفوضى الشاملة التي تصيب الأنساب والعلاقات الاجتماعية والقانونية في مثل هذه الحالة الشاذة، وعلى سبيل المثال ممن يرث هذا المولود ؟ وممن يتزوج وهو لا يعرف له أبا ولا قبيلة ؟! ومن يكلف برعايته والإنفاق عليه من كل هؤلاء الذين تضاجعهم أمه ؟!!

ومن ناحية أخرى، فقد كشف العلم الحديث أنواعا عديدة وخطيرة من الأمراض الفتاكة التي تصيب النساء نتيجة تعدد مصادر المنى داخل الرحم الواحد، ومنها سرطان الرحم وسرطان المهبل والإيدز.

ثالثا ـ تعدد زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكمته

الغرض من ذكر هذا القسم هنا أمران:

1.    صلة هذه القضية بالشبهة التي يوردها بعض الناس حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو وإن لم يكن له علاقة كبيرة بالناحية الفقهية، لعدم صلته بالناحية العملية، ولكنا نستفيد منه في رد بعض الشبهات التي قد تنشأمن القراءة المجردة غير المؤسسة لبعض الأحاديث الواردة في هذا الباب.

اعتقادنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة في حياته كلها، بما فيها المقاصد التي من أجلها عدد زوجاته، فالخصوصية تكمن فقط في العدد الذي أبيح له، لا في اتباعه في المقاصد التي من أجلها أبيح له ذلك العدد.

1 ـ سرد أزواجه - صلى الله عليه وسلم -:

أزواجه اللاتي توفين قبله - صلى الله عليه وسلم -:

مات في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست زوجات، هن:

خديجة بنت خويلد: وهي أول نسائه تزوجها قبل النبوة وعمره خمس وعشرون سنة وهي أم أولاده ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، ولم يتزج عليها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي أول من آمن من النساء بالله وبرسوله، وكانت حكيمة تقدر الأمور حق قدرها وتبذل من العطاء ما فيه إرضاء لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك استحقت أن يبلغها جبريل من ربها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب0

زينب بنت خزيمة الهلالية: ولم تلبث عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إلا يسيراً، شهرين أو ثلاثة، حتى توفيت في حياته - صلى الله عليه وسلم - ،وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد اللَّه بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سنة 4هـ.

سبا بنت الصَّلت أو سناء بنت الصَّلت: ماتت قبل أن يدخل بها.

أساف أو شِراف أخت دحية الكلبي: ماتت قبل أن تصل إليه.

خولة بنت الهُذيل: ماتت قبل أن يدخل بها وقد وهبت نفسها له.

خولة بنت حكيم السلمية: ماتت قبل أن يدخل بها، وقد وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت تخدمه وكانت صالحة فاضلة.

أزواجه اللاتي مات عنهن:

عائشة بنت الصِدَّيق: تزوجها بعد موت خديجة بسنتين أو ثلاث بمكة وهي بنت ست أو سبع سنين، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، وبني بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق، مات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، وكان وفاتها سنة 57 من الهجرة، ولم يتزوج بكراً غيرها.

سودة بنت زُمعة: تزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بأيام، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو فمات عنها، توفيت في آخر زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

حفصة بنت عمر بن الخطاب: تزوجها بالمدينة بعد سودة، بعد أن تأيمت من زوجها خينس بن حذافة السهمي بين بدر وأحد، فتزوجها رسول اللَّه - رضي الله عنه -  سنة 3هـ، وكانت من المهاجرات ولدت قبل البعثة بخمسة سنين. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طلقها فقال له جبريل - عليه السلام -:( راجع حفصة فإنها صوَّامة قوَّامة وإنها زوجتك في الجنة (، فراجعها.

أم حبيبة بنت أبي سفيان: واسمها رملة، كانت تحت عبيد اللَّه بن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد اللَّه وتنصر وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها،فلما بعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وبعث بها مع شرحبيل ابن حسنة، توفيت سنة أربعة وأربعين.

أم سَلَمَة: هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزوميَّة،، كانت تحت أبي سلمة، فمات عنها في جمادى الأخرى سنة 4هـ فتزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في شوال من نفس السنة، كانت رشيدة الرَّأي فهي التي أشارت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أن يخرج إلى هَديِهِ لينحره، ثم يدعو الحلاّق ليحلُق رأسه فما كان من المسلمين لمَّا رأوه إلاّ أن فعلوا مثلما فعل، بعد أن كان أمَرهم بحلق رؤوسهم ونحر هديِهِم والتَّحلُّلِ من إحرامهم. أم سلمة هند بنت أبي أمية

ميمونة بنت الحارث: بدأ به - صلى الله عليه وسلم - المرض في بيتها، وقد قيل إنها من اللائي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت آخر نسائه موتاً.

صفية بنت حُيَيّ بن أخطب: من سبي بني النَّضير، اصطفاها - صلى الله عليه وسلم - وأعتقها، ثم تزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ، وكانت عاقلة حليمة فاضلة توفيت في رمضان سنة خمسين هجرية.

جويرية بنت الحارث: من بني المصطلق، كان اسمها برَّة فسمّاها النبي - صلى الله عليه وسلم - جويرية، كانت أبرك امرأة على قومها لأنها عندما تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسامع الناس بذلك فأطلق المسلمون ما في أيديهم من السَّبي وأعتقوهم قائلين: هم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعتق بسببها مائة من بني المصطلق مما دفع العديد منهم للدخول في الإسلام، تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة 6هـ.

زينب بنت جحش: كانت ممن أسلم قديماً وهاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وهي بنت عمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تحت زيد بن حارثة - الذي كان يعتبر ابناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فطلقها زيد، فأنزل اللَّه تعالى يخاطب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني، تزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

فهؤلاء هن زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، أما السراري فالمعروف أنه تسري باثنتين إحداهما مارية القبطية، أهداها له المقوقس فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفى صغيراً بالمدينة في حياته - صلى الله عليه وسلم -، في 28/أو 29 من شهر شوال سنة 10هـ وفق 27 يناير سنة 632م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل بل هي من أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، أعتقها فتزوجها، والقول الأول رجحه ابن القيم، وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.

2 ـ الحكمة من تعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم -:

من النظر إلى السرد السابق لزوجاته - صلى الله عليه وسلم - نلاحظ ما يلي:

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج هذا العدد من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصراً على زوجة واحدة شبه عجوز، خديجة ثم سودة.

·  اتجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة، وكذلك تزويجه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان، يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذين عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به وشاء اللَّه أن يجتازها بسلام.

·  كان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، فأراد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر عداء القبائل للإسلام، فقد كانت أم سلمة من بني مخزوم - حي أبي جهل وخالد بن الوليد - فلما تزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعاً راغباً، ومثله أبو سفيان لم يواجه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، ولم يحصل من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواحه بجويرية وصفية، بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أظهار رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.

·  أن المبادىء التي كانت أسسا لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تربيتهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادىء، مع أن مسيس الحاجة إلى تربيتهن لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى، فلهذا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء.

·  أنه كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من أفعاله وأقواله.

·  أن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن مكانة خاصة، وحرمة متميزة فقد اعتبرهن القرآن أمهات للمؤمنين جميعا، فقال تعالى :﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾(الأحزاب:6)، ومن فروع هذه الأمومة الروحية للمؤمنين أن الله حرم عليهن الزواج بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ (الأحزاب:53) ومعنى هذا أن التي طلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - ستظل محرومة طول حياتها من الزواج بغيره، مع حرمانها من الانتساب إلى بيت النبوة. وهذا يعتبر عقوبة لها على ذنب لم تجنه يداها، ثم لو تصورنا أنه أمر باختيار أربع من نسائه التسع، وتطليق الباقي، لكان اختيار الأربع منهن لأمومة المؤمنين، وحرمان الخمس الأخريات من هذا الشرف، أمرا في غاية الصعوبة والحرج. فمن من هؤلاء الفضليات يحكم عليهم بالإبعاد من الأسرة النبوية، ويسحب منها هذا الشرف الذي اكتسبته؟ لهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقين جميعا زوجات له، خصوصية للرسول الكريم. واستثناء من القاعدة﴿ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(آل عمران: 73)

·  زواجه - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني، وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء، وكانت قد تأصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لا يسهل محوها مع معارضتها الشديدة للأسس والمبادىء التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيراً من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عن المجتمع.

·  تمحيص المؤمنين من المنافقين، فقد كان زواجه - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء النسوة فتنة لضعاف القلوب والعقول ولا زال، أما الناظرون بعين البصيرة، فإن هذا يزيد إيمانهم ومعرفتهم ومحبتهم به - صلى الله عليه وسلم -  وليس هذا حكرا على عصر من العصور، فقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة مثلا حول زواجه - صلى الله عليه وسلم - من زينب، رضي الله عنها، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيداً كان يعتبر ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش.

·  أن عشرته - صلى الله عليه وسلم - مع أمهات المؤمنين كانت في غاية الشرف والنبل، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد، فقد قال أنس - رضي الله عنه -:(ما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق باللَّه، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط([19]وقالت عائشة، رضي الله عنها:(إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -  نار، فقال لها عروة ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء[20]، مع هذا لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سبباً لتشريع الأحكام - فأنزل اللَّه تعالى آية التخيير: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28-29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن اللَّه ورسوله وله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نجح في تربيتهن إلى درجة أنه لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب اللَّه عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره اللَّه في سورة التحريم بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: 1] إلى تمام الآية الخامسة.

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة حسنة للمسلمين في كل ما يتصل بهذه الحياة، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا… ومن جملة ذلك معاملة الرجل لزوجه وأهل بيته، فالمسلم يرى قدوته الصالحة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان زوجا لامرأة ثيب، أو بكر، أو تكبره في السن أو تصغره، أو كانت جميلة أو غير جميلة، أو كانت عربية أو غير عربية، أو كانت بنت صديقه أو بنت عدوه، كل هذه الصور من العلائق الزوجية يجدها الإنسان في حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -على أكمل وأفضل وأجمل صورة، فهو قدوة لكل زوج، في حسن العشرة، والتعامل بالمعروف، مع زوجته الواحدة، أو مع أكثر من واحدة… ومهما كانت تلك الزوجة، فلن يعدم زوجها الإرشاد القويم إلى حسن معاشرتها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الزوجية.

2 ـ مفهوم العدل في القسمة وحكمه

أولا ـ التعريف

1ـ العدل:

لغة: العَدْل: ما قام فـي النفوس أَنه مُسْتقـيم، وهو ضِدُّ الـجَوْر. عدَل الـحاكِمُ فـي الـحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وهو عادِلٌ من قوم عَدُولٍ وعَدْلٍ؛ وعَدَل علـيه فـي القضيَّة، فهو عادِلٌ، وبَسَطَ الوالـي عَدْلَه ومَعْدِلَته. وفـي أَسماءا سبحانه: العَدْل، وهو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فـيَجورَ فـي الـحكم، وهو فـي الأَصل مصدر سُمِّي به فوُضِعَ مَوْضِعَ العادِل، وهو أَبلغ منه لأَنه جُعِلَ الـمُسَمَّى نفسُه عَدْلاً، وفلان من أَهل الـمَعْدِلة أَي من أَهل العَدْلِ. والعَدْلُ: الـحُكْم بالـحق، يقال: هو يَقْضي بالـحق ويَعْدِلُ. وهو حَكَمٌ عادِلٌ: ذو  مَعْدَلة   فـي حكمه. والعَدْلُ من الناس: الـمَرْضِيُّ قولُه وحُكْمُه[21].

اصطلاحا: التسوية بين الزوجات في حقوقهن من القسم والنفقة والكسوة، والقسم بين الزوجات أثر من آثار العدل ولوازمه.

2 ـ القسمة:

لغة: الفرز والتفريق , يقال: قسمت الشيء قسما: فرزته أجزاء , والقسم - بكسر القاف وسكون السين - الاسم ثم أطلق على الحصة والنصيب , والقسم - بفتح القاف والسين - اليمين[22].

اصطلاحا:هو إعطاء حقهن في البيتوتة[23] عندها للصحبة والمؤانسة لا في المجامعة ; لأنها تبتنى على النشاط فلا يقدر على التسوية فيها كما في المحبة[24].

وعرفه البهوتي بقوله:( توزيع الزمان على زوجاته إن كن ثنتين فأكثر[25] (

ثانيا ـ الحكم التكليفي للقسمة

اتفق الفقهاء على أن القسمة العادلة بين الزوجات واجبة تستوي في ذلك المسلمة والكتابية[26] ،قال ابن المنذر:(أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء، كذلك قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والنخعي والزهري والحكم، وحماد، ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي) [27]، بل نصوا على أن جحود هذا الحكم كفر، قال البجيرمي:(وجوب القسم مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر جاحده , فإن تركه مع اعتقاده وجوبه فسق([28]، واستثني من ذلك ما لو كانت إحدى زوجته ناشزا، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قول الله تعالى: ﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾(النساء:3)

·  قول الله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ (النساء:129)، أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج، وهو تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق عليه انحمل.

·  قول الله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء:34) فلم يبح الله عز وجل هجرانها في المضجع إلا إذا خاف نشوزها

·  عن أبي هريرة - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من كانت عنده امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة، وشقه ساقط([29]، وقد علل المناوي هذا بقوله:( وعلى ما هو المتبادر من الحمل على الحقيقة فحكمته أن النساء لما كانت شقائق الرجال، وكانت الزوجة نفس الرجل ومسكنه ولباسه، وعطل واحدة من بينهن جوزي بتعطـيل نصفه([30]

وقد استفاد بعضهم من إشارة الحديث إلى ميل شق واحد بسبب ميل إلى امرأة واحدة إلى أن الشق يتعدد بتعدد الميل، فقال:( وفيه ما فيه للزوم تعطيل ربعه لواحدة من أربع وثلاثة أرباعه لثلاثة (لكن مثل هذا يفتقر إلى الدليل، لأن الشق المائل قد يكون بسبب ميله لا بسبب كون الممال عليه امرأة واحدة.

ثالثا ـ حق الزوجات في القسمة

اختلف الفقهاء في حق الزوجة أو الزوجات في القسمة على قولين:

القول الأول: لا يجب قسم الابتداء، إلا أن يترك الوطء مصرا، فإن تركه غير مصر لم يلزمه قسم، ولا وطء، وهو قول لأحمد، وقال الشافعي: لا يجب قسم الابتداء بحال، واستدل على ذلك بأن القسم لحقه، فلم يجب عليه، قال النووي:( مذهبنا أنه لا يلزمه أن يقسم لنسائه، بل له اجتنابهن كلهن، يكره تعطيلهن مخافة من الفتنة عليهن والاضرار بهن)[31]

واختلف قول أبي حنيفة، ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه قال :

إذا تشاغل الرجل عن زوجته بالصيام أو بالصلاة قسم لامرأته من كل أربعة أيام يوما , ومن كل أربع ليال ليلة , وذكر الجصاص أن هذا ليس مذهبنا ; لأن المزاحمة في القسم إنما تحصل بمشاركات الزوجات , فإذا لم يكن له زوجة غيرها لم تتحقق المشاركة , فلا يقسم لها , وإنما يقال له: لا تداوم على الصوم , ووف المرأة حقها كذا قاله الجصاص وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول: أولا كما روى الحسن عنه لما أشار إليه كعب , وهو أن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاثة أيام بأن يتزوج ثلاثا أخر سواها , فلما لم يتزوج , فقد جعل ذلك لنفسه , فكان الخيار له في ذلك , فإن شاء ; صرف ذلك إلى الزوجات , وإن شاء ; صرفه إلى صيامه , وصلاته , وأشغاله , ثم رجع عن ذلك. وقال: هذا ليس بشيء ; لأنه لو تزوج أربعا , فطالبن بالواجب منه يكون لكل واحدة منهن ليلة من الأربع , فلو جعلنا هذا حقا لكل واحدة منهن لا يتفرغ لأعماله , فلم يوقت في هذا وقتا[32].

القول الثاني: يلزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال، ما لم يكن له عذر يمنعه من ذلك، وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع، وهو قول الثوري، وأبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·   قول النبي - صلى الله عليه وسلم -  لعبد الله بن عمرو بن العاص: يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل ؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم، وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا) [33]، فأخبر أن للمرأة عليه حقا، ومن حقها معاشرتها جنسيا.

·  أن كعب بن سور كان جالسا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فجاءت امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائما، ويظل نهاره صائما. فاستغفر لها، وأثنى عليها. واستحيت المرأة، وقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين،  هلا أعديت المرأة على زوجها ؟ فقال: وما ذاك ؟ فقال إنها جاءت تشكوه، إذا كانت حاله هذه في العبادة، متى يتفرغ لها ؟ فبعث عمر إلى زوجها، فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم. قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة، هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة وفي رواية، فقال عمر: نعم القاضي أنت)، وهي قضية انتشرت، فلم تنكر، فكانت إجماعا.

·      أنه لو لم يكن ذلك حقا لها لم تستحق فسخ النكاح لتعذره بالجب والعنة، وامتناعه بالإيلاء.

·  أنه لو لم يكن ذلك حقا للمرأة، لملك الزوج تخصيص إحدى زوجتيه به، كالزيادة في النفقة على قدر الواجب.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو وجوب القسم سواء لامرأة واحدة أو لأكثر من امرأة مع ترك التقدير لظروف كلا الزوجين، قال ابن تيمية:( قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان , كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة , ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية ([34]

أما عن التقدير، فقد قال:(يتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء الواجب كما لا يتقدر الوطء بل يكون بحسب الحاجة، فإنه قد يقال جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع، وعلى هذا فتحمل قصة كعب بن سور على أنه تقدير شخص لا يراعى كما لو فرض النفقة)[35]

3 ـ أنواع الميل لإحدى الزوجات وأحكامها

لتفضيل الزوج إحدى زوجاته على سائر نسائه أربعة أنواع هي :

النوع الأول ـ الميل القلبي:

وهو الميل بالمحبة لإحدى زوجاته، وهذا الضرب لا يملك أحد دفعه ولا الامتناع منه، وإنما الإنسان مضطر إلى ما جبل عليه منه، لأن المحبة وميل القلب ليس مقدورا للعبد، بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد، ويدل عليه من القرآن الكريم قوله تعالى:﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾بعد قوله ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾(الأنفال:63) ومثلها في الدلالة قوله تعالى:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال:24)

وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾(النساء:129)، فقد أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء وذلك في ميل الطبع بالمحبة، والحظ من القلب فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض، فالمنهي ليس هو الميل القلبي، وإنما هو أن ﴿ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾(النساء: من الآية129)، وقد فسر ذلك مجاهد بقوله:( لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لأن هذا مما يستطاع(

وقد قيل بأن الآية نزلت في عائشة، رضي الله عنها، وقد كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يحبها أكثر من غيرها كما دلت على ذلك الروايات الكثيرة، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يصرح بذلك، ويصرح به أصحابه ويقرهم عليه، فعن عمر - رضي الله عنه -  قال: قلت: يا رسول الله، لو رأيتني ودخلت على حفصة، فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - [36]، وعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غدا، يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة حتى مات عندها[37].

ومع هذا الميل القلبي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو عائشة، رضي الله عنها، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصا على العدل بين نسائه مهما كانت مرتبتهن من قلبه[38]، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يعتذر لله من ذلك الميل القلبي مبررا بعدم الاستطاعة، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:(  اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك([39]قال الترمذي يعني به الحب والمودة كذلك فسره أهل العلم.

ولكن مع ذلك لا يجوز أن يؤذيها بذكر محبته لضرتها لأن إذية المسلم حرام، ولأجل هذا الاعتبار فرض لكل زوجة من الزوجات بيتها الخاص حتى لا ترى أي أثرة عليها، وقد قيل في قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾(الأحزاب:51) أي ذلك أقرب ألا يحزن، إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى، ويعاين الأثرة والميل[40].

وقد يقال هنا: أليس في هذا جورا عظيما على المرأة أن تكون في بيت رجل وهو يحب غيرها، وقد يتحذلق مثل هذا بقصائد من الخيال، وقد يأتي بدراسات مبنية على إحصائيات دقيقة، ولكن كل ذلك لا ينفع مع نظرة تبصر واحدة للواقع.

فلو ترك الأمر للحب وحده لخربت البيوت، فإن البيوت لا تقوم على الحب بقدر قيامها على الرحمة والشعور بالمسؤولية، ولنتصور أن للرجل أولادا من زوجته الأولى، ثم علق بغيرها فتزوجها، وكان حبه لها أكثر من حبه للأخرى، فنحن بين أمرين: إما أن نشرط عليه العدالة في هذه الناحية، فبالتالي لا يجد أمامه حلا إلا تطليق زوجته الأولى حتى لا يأتي يوم القيامة وشقه مائل، أو أن يحتفظ بالزوجة الأولى مع جميع حقوقها، فتنتفع ببقائها في كنفه مع أولادها، ولا حرج عليها من قلبه، فلا أثر لذلك في سلوكه معها.

ثم إن القلب بعد ذلك سريع التقلب، فقد يعود ميله لزوجه الأولى إذا عرفت كيف تتعامل مع الوضع الجديد بهدوء وسكينة وعقل، أما التحذلق بأنواع الخيال، ففيه خراب البيوت وتشريد الأولاد، وإفساد المجتمع.

أما حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، رضي الله عنها، فلا يعني كراهية غيرها، لأن عدم الحب لا يعني الكراهية، والحب عادة يطلق في مثل هذا على الميل الشديد، أما الميل العادي، والمحبة العادية، فكل مسلم يحب المسلمين جميعا، ولكن ميله من حيث المعاشرة قد يكون لبعضهم، فيسمى ذلك الميل للمعاشرة حبا.

وذلك الميل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، رضي الله عنها، مع بقائه مع سائر نسائه بدون تفريق بين الصغيرة والكبيرة والجميلة وغير الجميلة والبكر والثيب يحتاج إلى قوة كبيرة لا يطيقها غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك أبيح له من العدد ما لم يبح لغيره.

النوع الثاني ـ الميل الجنسي:

اتفق الفقهاء على عدم اشتراط القسمة في المعاشرة الجنسية بين الزوجات لأن ذلك لا يكون إلا عن شهوة وميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك، فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى، قال ابن قدامة:( ولو وطىء زوجته ولم يطأ الأخرى، فليس بعاص، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع، وهو مذهب مالك والشافعي، وذلك لأن الجماع طريقة الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك، فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى([41]

ومثل الجماع المباشرة ونحوها، قال ابن قدامة: ولا تجب التسوية بينهن في الاستمتاع بما دون الفرج من القبل واللمس ونحوهما لأنه إذا لم تجب التسوية في الجماع ففي دواعيه أولى[42]، والدليل على ذلك قول الله I : ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾(النساء:129)وقد فسرت الآية بأنها في الحب والجماع.

واختلف الفقهاء في كون العدل في هذه الناحية مستحبا أم لا على قولين[43]:

القول الأول: أنه يستحب للزوج أن يسوي بين زوجاته في جميع الاستمتاعات من الوطء والقبلة ونحوهما، وهو قول الجمهور، لأنه أكمل في العدل بينهن , وليحصنهن عن الاشتهاء للزنا والميل إلى الفاحشة ,، لأنه أبلغ في العدل، وهو من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -  يقسم بينهن فيعدل، وأنه كان يسوي بينهن حتى في القبل[44].

القول الثاني: أن الزوج يترك هذه الناحية لطبيعته في كل حال، إلا إذا قصد الإضرار بإحدى الزوجات بعدم الوطء - سواء تضررت بالفعل أم لا - ككفه عن وطئها مع ميل طبعه إليها، وهو عندها لتتوفر لذته لزوجته الأخرى , فيجب عليه ترك الكف ; لأنه إضرار لا يحل، وهو قول المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن هذه الناحية من العشرة الزوجية من أهم الحقوق التي تلزم عن الحياة الزوجية، وللتقصير فيها خطره سواء من الناحية النفسية أو الناحية الاجتماعية، فلذلك لا نرى القول بالاستحباب كافيا في مثل هذا، فكيف بما قال المالكية بترك ذلك للطبع، بل إن الوجوب هو الذي يليق بمثل هذه المسائل لنفي الضرر الذي يلحق الزوجة نفسيا، وقد يلحق بعدها المجتمع، لأن الغالب على الكثير من الناس الآن عدم اعتبار المستحب اكتفاء بفعل الواجبات.

ولذلك نرى وجوب رعاية الزوج لمثل هذه الناحية في حق زوجاته جميعا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب عليه لذلك إذا لم تتوفر داعية الطبع أن يوفرها، وإلا كان مقصرا في حق زوجته إلا إذا تسامحت لسبب من الأسباب ككبر ومرض في ذلك.

أما داعية القول بالوجوب، فإنه يكفي أن نتصور بيتا فيه ضرتان مثلا إحداهما محصنة والأخرى تجد الرغبة، ولكنه يحول بينها وبين تحقيقها طبع الزوج، فكيف يكون حال مثل هذا البيت ؟وكيف يكون حال الزوجة؟ وهل هي زوجة، أم معلقة؟ وهل يكفي للوفاء بحقوق الزوجية أن ينفق عليها؟

وقد كان السلف الصالح  - رضي الله عنهم -  حريصين على رعاية العدل في هذه الناحية ونحوها، فعن جابر ابن زيد أنه قال:(كانت لي امرأتان، فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعد القبل(، وعن مجاهد قال:(كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه(وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى[45]

ولكن مع ذلك لا تشترط التسوية التامة، بل يكفي حصول التحصين، والوفاء بحق الرغبة، وللمسألة مزيد تفصيل في الفصل الخاص بالمعاشر الجنسية.

النوع الثالث ـ الميل في النفقة:

اختلف الفقهاء فيما لو قام الزوج بالواجب من النفقة والكسوة لكل واحدة من زوجاته , هل يجوز له بعد ذلك أن يفضل إحداهن عن الأخرى في ذلك , أم يجب عليه أن يسوي بينهن في العطاء فيما زاد على الواجب كما وجبت عليه التسوية في أصل الواجب على قولين:

القول الأول: أن الزوج إن أقام لكل واحدة من زوجاته ما يجب لها , فلا حرج عليه أن يوسع على من شاء منهن بما شاء، وهو قول الشافعية والحنابلة، وهو الأظهر عند المالكية، بل نص الباجي على أن هذا الإيثار واجب، فليس للأخرى الاعتراض فيه، ولا للزوج الامتناع منه ولو امتنع الحكم به عليه[46] لأن ذلك بحسب ما تستحقه كل واحدة منهما لأن لكل واحدة منهما نفقة مثلها ومؤنة مثلها ومسكن مثلها على قدر شرفها وجمالها وشبابها وسماحتها.

وفي العتبية ومن رواية ابن القاسم عن مالك أن ذلك له، فهذا الضرب من الإيثار ليس لمن وفيت حقها أن تمنع الزيادة لضرتها لا يجبر عليه الزوج وإنما له فعله إذا شاء[47].

قال القرطبي:( قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب(وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة([48]

ونقل ابن قدامة عن أحمد في الرجل له امرأتان قال: له أن يفضل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسوة إذا كانت الأخرى كفاية , ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه وتكون تلك في كفاية , وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق , فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج , فسقط وجوبه , كالتسوية في الوطء، لكنهم قالوا: إن الأولى أن يسوي الرجل بين زوجاته في ذلك , وعلل بعضهم ذلك بأنه للخروج من خلاف من أوجبه [49].

القول الثاني: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة، وهو قول للحنفية[50] وقول للحنابلة، قال ابن تيمية: وكلام القاضي في التعليق يدل عليه، وكذا الكسوة[51]، وقال ابن نافع: يجب أن يعدل الزوج بين زوجاته فيما يعطي من ماله بعد إقامته لكل واحدة منهن ما يجب لها، ونص الحنفية على وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج , أما على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حالهما فلا تجب التسوية وهو المفتى به , فلا تجب التسوية بين الزوجات في النفقة لأن إحداهما قد تكون غنية والأخرى فقيرة[52].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة حسبما ذكرنا في فصل النفقة وجوب العدل في هذه الناحية، بل إن العدل لا يتجلى في شيء كما يتجلى فيها، فكيف يستقيم شرعا أو عقلا أن يتزوج رجل امرأتين إحداهما يلبسها الحرير ويطعمها الخمير، والأخرى يكسوها الوبر ويطعمها الشعير، ثم يعتبر مع ذلك عادلا بين زوجاته، لأن مبرره في هذا الجور العظيم، وهذه القسمة الظيزى أن الأولى كانت غنية ميسورة، والأخرى كانت فقيرة مسكينة،وكأن الغنى كتب على الأولى في بيت والدها وزوجها، وأن الفقر قد نحت في جبين الثانية حيثما حلت يحل معها الفقر.

فأي عقل أو شرع يقر هذا؟ وهل هناك جور أعظم من هذا؟ وليشتط بنا الخيال، لنرى المرأتين تجتمعان في وليمة من الولائم حيث تبرز النساء ما شئن من زينة، كيف يكون حال الزوجتين؟ وبماذا تشعر الزوجة الثانية؟ وماذا يقول الناس؟

إن تصور هذا وحده كاف للدلالة على عدم صحة هذا القول، وعلى أنه أقرب إلى الاعتبار المبالغ فيه للأعراف على حساب الشريعة، لأن السنة وردت بخلاف ذلك، وقد قال ابن تيمية:( أما العدل في النفقة والكسوة فهو السنة، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة كما كان يعدل في القسمة مع تنازع الناس في القسم هل كان واجبا عليه أو مستحبا له، وتنازعوا في العدل في النفقة هل هو واجب أو مستحب؟ ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة([53]

بل كان السلف أرعى للعدل فيما هو دون هذه الأمور، فقد روي أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -  كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء، وعنه أنه كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون، فأسهم بينهما أيهما تدلى أولا[54].

النوع الرابع ـ الميل في المبيت:

وهو أن يؤثر إحدى زوجاته بنفسه بأن يبيت عند إحداهما ولا يبيت عند الأخرى أو يكون مبيته عند إحداهما أكثر، فهذا النوع من التفضيل والميل لا يحل للزوج فعله إلا بإذن المؤثر لها، فإن فعله كان لها حق الاعتراض فيه والاستعداء عليه، ويتعلق بهذا النوع من الميل المسألتين التاليتين:

تنازل الزوجة عن حقها في القسمة:

اتفق الفقهاء على أنه للمرأة أن تهب حقها من القسمة لزوجها، أو لبعض ضرائرها، أو لهن جميعا، ولكن ذلك يتوقف على رضى الزوج، مراعاة لحقه في الاستمتاع بها، ولا عبرة بإباء الموهوبة قبول الهبة، لأن حق الزوج في الاستمتاع بها ثابت في كل وقت، فإذا زالت المزاحمة بهبتها، ثبت حقه في الاستمتاع بها.

ويصح ذلك مطلقا في جميع الزمان كما فعلت سودة حين وهبت يومها في جميع زمانها، فعن عائشة، رضي الله عنها، أن سودة بنت زمعة، رضي الله عنها، وهبت يومها لعائشة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة[55]، قال الشوكاني:(وحديث عائشة يدل على أنه يجوز للمرأة أن تهب يومها لضرتها وهو مجمع عليه([56]

ويصح ذلك مقيدا ببعض الزمان، مثلما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وجد على صفية بنت حيي في شيء، فقالت صفية لعائشة: هل لك أن ترضي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ولك يومي ؟، فأخذت عائشة خمارا مصبوغا بزعفران، فرشته ليفوح ريحه، ثم اختمرت به، وقعدت إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إليك يا عائشة، إنه ليس يومك. قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فأخبرته بالأمر، فرضي عنها[57].

ومن مقاصد هذا التشريع تضييق مسالك الطلاق، فقد تكون للرجل المرأة مع عدم رغبته فيها، وعدم قدرته لذلك على العدل بينها وبين غيرها، فهو بين أمرين إما أن يطلق، وفي ذلك من المفاسد ما فيه، وإما أن يمسكها، ولكنه يتضرر بعدم العدل، فجاء الشرع بهذا الحل الوسط الذي هو جعل الخيار للمرأة إما أن تصبر على الأثرة، بأن تهب بعض حقها لزوجها أو أن تختار الفراق.

وهذا الحل الواقعي أفضل الحلول، فقد تكون المرأة كبيرة أو لا حاجة لها في زوجها، ولها أولاد تحرص على مصلحتهم، فترضى بأن تبقى في كنف زوجها مع التقصير في حقها في البيتوتة، أما أي حل خلاف ذلك، فهو إما خيال يطير في الأبراج العاجية، أو تشريع تهدم به الأسر وتقوض به البيوت.

وقد جاءت لتشريع هذا الحكم لأهميته آية خاصة، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾(النساء:128)، فهذه الآية نص في حل مثل هذا المشكل حلا يخدم الجميع، ويحفظ جميع المصالح، يقول سيد قطب:( فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض، الذي يتركها كالمعلقة، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية،كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها..هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها([58]

وقد ذكرت عائشة، رضي الله عنها، الصورة الواقعية التي نزلت بموجبها تلك الآية الكريمة، فقالت:( هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي، فذلك قوله تعالى :﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾(النساء:128)، وفي رواية،  قالت:(هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره، فيريد فراقها، فتقول: أمسكني واقسم لي ما شئت، قالت: فلا بأس إذا تراضيا ([59]

وقد حفظت الروايات صورة من صور الضرورة التي طبقت بموجبها هذه الآية، ومنها فيما يتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال:(خشيت سودة أن يطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقالت: يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت هذه الآية: ﴿ وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ﴾(النساء:128)  فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز) [60]

ومن صور التطبيق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما روي عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصاري، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها ثم عاد فآثر الشابة فناشدته الطلاق، فقال: ما شئت، إنما بقيت واحدة فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك قالت: بل أستقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة.

وقد فسرت الأثرة التي وقع فيها رافع بأنها في المبيت كما في المزنية عن عيسى قال: أنه يقع في نفسي أن الإيثار المذكور في هذا الحديث هو في القسم لها من نفسه في المبيت، وما يجب عليه العدل فيه بين نسائه، لأن الأثرة في غير ذلك جائزة فيما يريد أن يؤثر به من ماله بعد الذي يعدل بينهن في المبيت وما لا بد له من النفقة على قدرها وقدر عياله عندها[61].

ولكنا نرى أن الأمر ليس كذلك، وأن الأثرة في غير ذلك من الأمور التي لم ترض عنها الزوجة الأولى، لأنه لا خلاف في حرمة الأثرة في القسمة، وفي حال كون الأمر كذلك لا يصح الاستدلال بفعل هذا الصحابي، فإنه لم يقل أحد بعصمة الصحابة - رضي الله عنهم -.

قال ابن عبدالبر:( قوله، والله أعلم، فآثر الشابة عليها، يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت، لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع([62]

ومن صور تنازل المرأة عن حقها في القسمة أن تهب ليلتها لجميع ضرائرها، فيصير القسم بينهن على اعتبار عدم وجود الواهبة، أما إن وهبت ليلتها للزوج، فله الحق في جعلها لمن شاء من نسائه، وله جعلها للجميع، أو أن يجعل لبعضهن فيها أكثر من بعض، ولكن الشافعية نصوا على أنه ليس للزوج أن يجعل الليلة الموهوبة له حيث شاء من بقية الزوجات , بل يسوي بينهن ولا يخصص ; لأن التخصيص يورث الوحشة والحقد , فتجعل الواهبة كالمعدومة، ونصوا كذلك على أن إحدى الزوجات لو وهبت ليلتها للزوج ولبعض الزوجات , أو له وللجميع , فإن حقها يقسم على الرءوس , كما لو وهب شخص عينا لجماعة، وما قالوه أوفق بالمقاصد الشرعية، وأحوط من حيث العدل من قول الجمهور.

ويصح رجوع الواهبة في ليلتها، لأنها هبة لم تقبض، وليس لها طلب قضاء ما مضى، لأنه بمنزلة المقبوض، ولو رجعت في بعض الليلة التي وهبتها وجب على الزوج أن ينتقل إليها، إلا إذا لم يعلم حتى أتم الليلة، فلا يقضي لها شيئا، لأن التفريط بسببها.

أما ما يتصالح عليه، فقد قال الجصاص مستندا إلى الآية السابقة: (وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية، إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها، فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا) [63]، وقد روي عن علي وابن عباس w أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها، وقال عمر - رضي الله عنه -  :(ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز).

طلب التنازل عن القسمة بعوض:

اختلف الفقهاء في أخذ الزوجة المتنازلة عن قسمها عوضا على ذلك من أجل تنازلها على قولين:

القول الأول:  أنه لا يجوز لها ذلك , لا من الزوج ولا من الضرائر , فإن أخذت لزمها رده واستحقت القضاء، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن العوض لم يسلم لها.

·  أن حقها في كون الزوج عندها، وهو ليس بمال، فلا يجوز مقابلته بمال، فإذا أخذت عليه مالا، لزمها رده، ووجب عليه قضاء ما غاب عنها

·      أن مقام الزوج عندها ليس بمنفعة ملكتها.

القول الثاني: أنه يجوز ذلك إذا تراضى عليه الطرفان، وهو قول المالكية، وقول للحنابلة، فقد ذهب المالكية إلى أن أخذ العوض على ذلك جائز , فقالوا: جاز للزوج إيثار إحدى الضرتين على الأخرى برضاها , سواء كان ذلك بشيء تأخذه منه أو من ضرتها أو من غيرهما, أو لا , بل رضيت مجانا , وجاز للزوج أو الضرة شراء يومها منها بعوض , وتختص الضرة بما اشترت , ويخص الزوج من شاء بما اشترى , وعقب الدسوقي بقوله: وتسمية هذا شراء مسامحة , بل هذا إسقاط حق لأن  المبيع لا بد أن يكون متمولا[64]، وقال ابن تيمية:(قياس المذهب جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره ووقع في كلام القاضي ما يقتضي جوازه ([65]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجواز مطلقا بعض وغير عوض، وأن قياس مثل هذا على البيع ونحوه لا يصح، فللحياة الزوجية أحكامها الخاصة التي تختلف جذريا عن أنواع المعاوضات، فمبنى الحياة الزوجية عل المعاشرة بالمعروف بخلاف مبنى الحياة الاقتصادية التي تراعي الضبط والتدقيق والتحديد.

ولعل أصرح دليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها أرضت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفية رضي الله عنها وأخذت يومها , وأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره.

بل نرى مثل هذا التصرف مما قد يضفي نوعا من العشرة بالمعروف بين الزوجات، وهي مقصودة شرعا، ولهذا يمكن لإحدى الزوجات مثلا في حال مرضها أو حيضها أن تتنازل عن ليلتها بما تشاء من حظوظ نفسها سواء كان ذلك من زوجها أومن ضرائرها.

قال القرطبي:( قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة بأن يعطى الزوج على أن تصبر هي ،أو تعطى هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة عطاء فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها كما فعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -  ([66]

وقال ابن تيمية:( وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره، لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها جاز لها أن تأخذ العوض عن حقها منه لأن كلا منهما منفعة بدنية، وقد نص الإمام أحمد في غير موضع على أنه يجوز أن تبذل المرأة العوض ليصير أمرها بيدها , ولأنها تستحق الزوج كما يستحق الزوج حبسها وهو نوع من الرق فيجوز أخذ العوض عنه وقد تشبه هذه المسألة الصلح عن الشفعة وحد القذف([67]

أما إذا كان المعوض عليه هو الرجل، وكان الطلب فاسدا، بأن جعلت له إحدى زوجاته مثلا جعلا على أن يزيدها في القسم يوما، ففعل، فإن ذلك لا يجوز بلا شك، بل هي رشوة، ومقتضاها حرام، لأنها تستلزم الميل المحرم، قال السرخسي:( وهذا بمنزلة الرشوة في الحكم وهو من السحت ; فلهذا تسترد ما أعطت وعليه التسوية في القسم , وكذلك لو حطت له شيئا من المهر على هذا الشرط ([68]

4 ـ أحوال الزوجين في القسمة

أولا ـ أحوال الزوجة في القسمة

حق المريضة في القسمة :

اتفق الفقهاء على  أنه لا يعتبر في القسمة للزوجات المرض والصحة، فلذلك يقسم للمريضة ولو كان مرضها تناسليا، ويقسم للحائض، والنفساء، والمحرمة، والصغيرة الممكن وطؤها، كما يقسم للصحيحة البالغة الطاهرة سواء بسواء، لأن القصد من القسمة الإيواء والسكن والأنس، وهو حاصل لهن، بل يجب عليه القسمة بالعدل ولو للمجنونة التي لا يخاف منها فإن خاف منها، لا يقسم لها، لأنه لا يأمنها على نفسه، ولا يحصل لها أنس به ولا يحصل له أنس بها، قال السرخسي:( المسلمة والكافرة والمراهقة والمجنونة والبالغة في استحقاق القسم سواء للمساواة بينهن في سبب هذا الحق وهو الحل الثابت بالنكاح فلا ينبغي أن يقيم عند إحداهن أكثر مما يقيم عند الأخرى , إلا أن تأذن له فيه) [69]

حق المطلقة في القسمة :

نص الفقهاء على  أنه إذا طلق إحدى زوجاته قبل قسمتها أثم لأنه لم يؤد حقها الواجب لها، ولذلك فإنه إن عادت إليه برجعة أو نكاح قضى لها ما فاتها من القسمة، كالمعسر إذا أيسر بالدين وجب عليه الوفاء به.

حق الناشز في القسمة:

اتفق الفقهاء على  أن الناشز لا حق لها في القسمة فلو قسم لإحدى زوجتيه، ثم جاء ليقسم للثانية، فمنعته من معاشرتها، فإنه يسقط حقها من القسمة. فإن عادت بعد ذلك إلى المطاوعة، استأنف القسم بينهما، ولم يقض للناشز، لأنها أسقطت حق نفسها.

وكذلك إن كان له أربع نسوة، فأقام عند ثلاث منهن ثلاثين ليلة، لزمه أن يقيم عند الرابعة عشرا، لتساويهن، فإن نشزت إحداهن عليه، وظلم واحدة فلم يقسم لها، وأقام عند الاثنتين ثلاثين ليلة، ثم أطاعته الناشز، وأراد القضاء للمظلومة، فإنه يقسم لها ثلاثا، وللناشز ليلة خمسة أدوار، فيكمل للمظلومة خمس عشرة ليلة، ويحصل للناشز خمس، ثم يستأنف القسم بين الجميع.

وإن كان له ثلاث نسوة، فقسم بين اثنتين ثلاثين ليلة، وظلم الثالثة، ثم تزوج جديدة، ثم أراد أن يقضي للمظلومة، فإنه يخص الجديدة بسبع إن كانت بكرا، وثلاث إن كانت ثيبا لحق العقد، ثم يقسم، بينها وبين المظلومة خمسة أدوار، على ما تقدم للمظلومة من كل دور ثلاثا، وواحدة للجديدة.

حق البعيدة في القسمة :

اتفق الفقهاء على  أنه لا يسقط حق البعيدة في القسمة، فلو كان له زوجتان في بلدين، فعليه العدل بينهما، لأنه اختار المباعدة بينهما، فلا يسقط  حقهما عنه بذلك، وهو مخير في ذلك بين أن يمضي إلى الغائبة في أيامها، وإما أن يقدمها إليه، ويجمع بينهما في بلد واحد، فإذا امتنعت من القدوم مع قدرتها على ذلك سقط حقها لنشوزها، ويجوز له أن يقسم بينهما في بلديهما، فيجعل المدة بحسب إمكانه، كشهر وشهر، أو أكثر، أو أقل، على حسب ما يمكنه، وعلى حسب تقارب البلدين وتباعدهما.

حق المسافرة في القسمة:

نص الفقهاء القائلون بوجوب قضاء حق المبيت[70]، وهم الشافعية والحنابلة، على أن حكم القضاء للزوجة إن سافرت بعد رجوعها يتوقف على حسب إذنه وحاجتها كما يلي:

·  إن سافرت بغير إذنه لحاجتها أو حاجته أو لغير ذلك فلا قسم لها ; لأن القسم للأنس وقد امتنع بسبب من جهتها فسقط حقها في القسمة.

·  إن سافرت بإذنه لغرضه أو حاجته فإنه يقضي لها ما فاتها بحسب ما أقام عند ضرتها، لأنها سافرت بإذنه ولغرضه , فهي كمن عنده وفي قبضته وهو المانع نفسه بإرسالها.

·  أما إن  سافرت بإذنه لغرضها أو حاجتها لا يقضي لها عند الحنابلة وفي الجديد عند الشافعية، لأنها فوتت حقه في الاستمتاع بها ولم تكن في قبضته , وإذنه لها بالسفر رافع للإثم خاصة.

·  إن سافرت لحاجة ثالث - غيرها وغير الزوج - فهو كحاجة نفسها , وهذا إذا لم يكن خروجها بسؤال الزوج لها فيه , وإلا فيلحق بخروجها لحاجته بإذنه.

·      إن سافرت وحدها بإذنه لحاجتهما معا لم يسقط حقها كما قال بعض الشافعية.

·      وللمسألة تفصيلها الخاص بلزوم القضاء وعدمه في المبحث الأخير من هذا الفصل.

حق المرأة الجديدة في القسمة :

اختلف الفقهاء في حكم المدة التي يقيم فيها الرجل مع زوجته الجديدة قبل أن يستأنف الدور[71] على قولين:

القول الأول: لا يجوز أن يخص الجديدة بأكثر من حقها، فلا فضل للجديدة في القسمة، فإن أقام عندها شيئا قضاه للباقيات، وهو قول الحكم وحماد والحنفية، لأنه فضلها بمدة، فوجب قضاؤها، كما لو أقام عند الثيب سبعا، واستدلوا على ذلك بما ورد من الأمر بالعدل بين الزوجات من نصوص عامة، أما النصوص الخاصة، فقد أولها الطحاوي كما يلي، قال:( فإن قيل:ما معنى قول أدور؟ قيل لهم يحتمل: أدور بالثلاث عليهن جميعا لأنه لو كانت الثلاث حقا لها دون سائر النساء لكان إذا أقام عندها سبعا كانت ثلاث محسوبة عليها، ولوجب أن يكون لسائر النساء أربع أربع فلما كان الذي للنساء إذا أقام عندها سبعا سبعا لكل واحدة منهن، كان كذلك إذا أقام عندها ثلاثا لكل واحدة منهن ثلاث ثلاث هذا هو النظر الصحيح مع استقامة تأويل هذه الآثار عليه، وهو قول أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين[72] (

وقد فسر ابن نجيم بعد إيراده لأحاديث الباب:( فالمراد التفضيل في البداءة بالجديدة دون الزيادة، ولا شك أن الأحاديث محتملة، فلم تكن قطعية الدلالة، فوجب تقديم الدليل القطعي , والأحاديث المطلقة وحينئذ فلا معنى لتردده)[73]

القول الثاني: أن له أن يقيم مدة مع زوجته الجديدة قبل أن يستأنف القسمة، وهو قول الجمهور[74]، وقد اختلفوا في تعيين المدة على الرأيين التاليين:

الرأي الأول: أن للبكر ثلاثا وللثيب ليلتين، وقد روي عن سعيد بن المسيب والحسن وخلاس بن عمرو، ونافع مولى ابن عمر، وبنحوه قال الأوزاعي، واستدلوا على ذلك بما  روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :(للبكر ثلاث) [75]، وبما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -  أنه قال: للبكر ثلاث، وللثيب ليلتان، وري مثله عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب[76].

الرأي الثاني: أن عليه أن يقيم عندها سبع ليال إن كانت بكرا، وثلاثا إن كانت ثيبا، دون أن يقضي ذلك للباقيات، إلا أن تشاء الثيب أن يقيم عندها سبعا، فإنه يقيمها عندها، ويقضي الجميع للباقيات، وقد روي هذا القول عن أنس - رضي الله عنه -، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد، وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·   عن أنس - رضي الله عنه -  قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: أن أنسا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - [77].

·  عن أم سلمة، رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لما تزوج أم سلمة، أقام عندها ثلاثا، وقال: ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي، وفي لفظ: (وإن شئت ثلثت ثم درت). وفي لفظ: (وإن شئت زدتك، ثم حاسبتك به، للبكر سبع، وللثيب ثلاث)، وفي لفظ للدارقطني: (إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك، وإن شئت سبعت لك، ثم سبعت لنسائي.) [78]، قال ابن عبد البر:(الأحاديث المرفوعة في هذا الباب على ما قلناه، وليس مع من خالفنا حديث مرفوع، والحجة مع من أدلى بالسنة) [79]

وعماد القسمة الليل، ولذلك له الخروج نهارا لمعاشه، وقضاء حقوق الناس، وإن تعذر عليه المقام عندها ليلا، أو ترك ذلك لغير عذر، قضاه لها، وله الخروج لصلاة الجماعة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -  لم يكن يترك الجماعة لذلك، ويخرج لما لا بد له منه، فإن أطال قضاه، وإن كان يسيرا فلا قضاء عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما صرحت به النصوص من الترخيص في القسمة للجديدة[80] رعاية لمشاعرها، وحتى تتأقلم مع الحياة الجديدة، وليس في ذلك أي جور على الأخريات لأن العدل والجور بتقدير الشرع لا بتقديرنا، وقد اشتد ابن حزم على الحنفية القائلين بعدم التحديد للجديدة، فقال:(الذي قال هذا القول هو الذي حكم للبكر بسبع زائدة , وللثيب بثلاث زائدة , ولا يحل لأحد أن يترك قولا له - صلى الله عليه وسلم - لقول له آخر ما دام يمكن استعمالها جميعا , بأن يضم بعضها إلى بعض , أو بأن يستثني بعضها من بعض , ومن تعدى هذا فهو عاص لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ([81]

وقد ذكر ابن العربي الحكمة من هذا التقسيم للجديدة، والتفريق بين البكر والثيب في ذلك، فقال:( هذا لا يقتضيه قياس إذ لا نظير له يشبه به ولا أصل يرجع إليه، والعلماء يقولون: حكمة ذلك النظر إلى تحصيل الألفة والمؤانسة، وأن يستوفي الزوج لذته فإن لكل جديد لذة، ولما كانت البكر حديثة عهد بالرجل وحديثة بالاستصعاب والنفار لا تلين إلا بجهد، شرعت لها الزيادة على الثيب، لأنه ينفي نفارها ويسكن روعها، بخلاف الثيب فإنها مارست الرجال، فإنما يحتاج مع هذا الحدث دون ما تحتاج إليه البكر ([82]

بل نرى أن هذا الحق لا يتوقف على المرأة التي لها ضرات، بل هو حق مطلق، وقد اختلف الفقهاء في هذا على قولين:

القول الأول: أنه حق للمرأة مطلقا، قال ابن عبر البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف سواء كان عنده زوجه أم لا لعموم الحديث إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا لم يخص من لم يكن له زوجه، قال النووي:( والأول أقوى، وهو المختار لعموم الحديث([83]

القول الثاني: أنه مختص بمن له نساء أخريات، وهو قول بعض المحدثين، وقد رجح القاضي هذا القول وبه جزم البغوى، لأن من لا زوجة له فهو مقيم مع هذه كل دهره مؤنس لها متمتع بها مستمتعة به بلا قاطع بخلاف من له زوجات فله جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسا لها متصلا لتستقر عشرتها له وتذهب حشمتها ووحشتها منه ويقضى كل واحد منهما لذته من صاحبه ولا ينقطع بالدوران على غيرها.

ثانيا ـ أحوال الزوج في القسمة  

نص الفقهاء على أن القسم للزوجات مستحق على كل زوج بدون تفريق بين حر وعبد , وصحيح ومريض , وفحل وخصي ومجبوب , وبالغ ومراهق ومميز يمكنه في الوطء، وعاقل ومجنون يؤمن من ضرره، وفي بعض هؤلاء تفاصيل خاصة نوردها فيما يلي:

قسمة الصبي:

نص الفقهاء على أن الزوج الصبي  المراهق أو المميز الذي يمكنه الوطء يستحق عليه القسم; لأنه لحق الزوجات , وحقوق العباد تتوجه على الصبي عند تقرر السبب , وعلى وليه إطافته على زوجاته , والإثم على الولي إن لم يطف به عليهن أو جار الصبي أو قصر وعلم بذلك.

قسمة المريض :

اتفق الفقهاء على وجوب القسمة بين الزوجات من غير مراعاة في ذلك لصحة الزوج أو الزوجة فيقسم المريض والمجبوب والعنين والخنثى، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  عن عائشة - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لما كان في مرضه، جعل يدور في نسائه، ويقول: أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟)[84]

·  أن وجوب القسم والعدل للصحبة والمؤانسة دون المجامعة، وحال هؤلاء في هذا كحال الرجل العادي.

ولا يجوز له أن يخص إحداهن بالمبيت عندها إلا بعد استئذانهن في ذلك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة - رضي الله عنه -  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى النساء فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذن لي، فأكون عند عائشة، فعلتن. فأذن له.

واختلفوا فيما لو شق على المريض الطواف بنفسه على زوجاته على الأقوال التالية:

القول الأول: إذا كان لا يقدر على التحول إلى بيت الأخرى، فإنه يمكث عندها حتى  إذا صح ذهب عند الأخرى بقدر ما أقام عند الأولى مريضا، وهو قول الحنفية.

القول الثاني: إذا لم يستطع الزوج الطواف بنفسه على زوجاته لشدة مرضه أقام عند من شاء الإقامة عندها , أي لرفقها به في تمريضه , لا لميله إليها فتمتنع الإقامة عندها , ثم إذا صح ابتدأ القسم، وهو قول المالكية.

القول الثالث: من بات عند بعض نسوته بقرعة أو غيرها لزمه - ولو عنينا ومجبوبا ومريضا - المبيت عند من بقي منهن، وهو قول الشافعية، ومن الأدلة على ذلك:

·  عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -:( إذا كان عند الرجل امرأتان فلم  يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ([85]

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه ويطاف به عليهن في مرضه حتى رضين بتمريضه ببيت عائشة رضي الله عنها.

·      أن العذر والمرض لا يسقط القسم.

القول الرابع: إن شق على الزوج المريض القسم استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن , فإن لم يأذن له أن يقيم عند إحداهن أقام عند من تعينها القرعة أو اعتزلهن جميعا إن أحب ذلك تعديلا بينهن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة إمكانية الأخذ بالحلول التالية على الترتيب:

·      أن يخصص بيتا خاصا إن أمكنه، بحيث تبيت عنده كل ليلة إحدى زوجاته.

·      أن يستأذن زوجاته في المقام عند إحداهن لتمريضه، ولمشقة الانتقال من بيت إلى بيت.

·  إن لم يأذن له في ذلك، وكان مرضه يحتاج إلى رعاية خاصة، أو أن حالته الصحية تستدعي وجوده مع امرأة بعينها، فإن له أن يقيم عندها لهذه الضرورة، ولا نرى أن يقضي بعد ذلك لنسائه، لأن البيتوتة حال المرض لا تشبه البيتوتة في الصحة، فلذلك تتضرر من مرضته بذهاب حقها من القسمة.

قسمة المجنون:

ذهب الفقهاء إلى أن المجنون الذي أطبق جنونه لا قسم عليه ; لأنه غير مكلف , لكن القسم المستحق عليه لزوجاته يطالب به - في الجملة - وليه , على التفصيل التالي:

القول الأول: يجب على ولي المجنون إطافته على زوجتيه أو زوجاته , كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن ; لأنه من الأمور البدنية التي يتولى استيفاءها له أو التمكين حتى تستوفى منه كالقصاص , فهو من باب خطاب الوضع، وهو قول المالكية.

القول الثاني:  لا يلزم الولي الطواف بالمجنون على زوجاته , أمن منه الضرر أم لا , إلا إن طولب بقضاء قسم وقع منه فيلزمه الطواف به عليهن قضاء لحقهن كقضاء الدين , وذلك إذا أمن ضرره , فإن لم يطالب فلا يلزمه ذلك ; لأن لهن التأخير إلى إفاقته لتتم المؤانسة , ويلزم الولي الطواف به إن كان الجماع ينفعه بقول أهل الخبرة , أو مال إليه , فإن ضره الجماع وجب على وليه منعه منه , فإن تقطع الجنون وانضبط كيوم ويوم , فأيام الجنون كالغيبة فتطرح ويقسم أيام إفاقته , وإن لم ينضبط جنونه وأباته الولي في الجنون مع واحدة وأفاق في نوبة الأخرى قضى ما جرى في الجنون لنقصه، هو قول الشافعية.

القول الثالث:  المجنون المأمون الذي له زوجتان فأكثر يطوف به وليه وجوبا عليهن , لحصول الأنس به , فإن خيف منه لكونه غير  مأمون فلا قسم عليه لأنه لا يحصل منه أنس لهن, فإن لم يعدل الولي في القسم ثم أفاق الزوج من جنونه قضى للمظلومة ما فاتها استدراكا لظلامته , لأنه حق ثبت في ذمته فلزمه إيفاؤه حال الإفاقة كالمال، وهو قول الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح هو أن حكم ذلك يختلف باختلاف نوع الجنون وحال المجنون، فمن الجنون ما هو أقرب إلى العقل، فيكون له بذلك حظ من التكليف بقدر عقله،، ومنه ما لا يمكن تكليفه بشيء، ومن الصعوبة الحكم في هذه المسائل حكما عاما.

ونرى كذلك إن كان الجنون دائما أن يكتفى للمجنون بزوجة واحدة، لارتباط التعدد بالعدل، وافتقار المجنون للتكليف، والعدل لا يقيمه غير المكلف.

قسمة المسافر:

إذا أراد الزوج سفرا، فأحب حمل نسائه معه كلهن، أو تركهن كلهن، صح ذلك دون قرعة، أما إن أراد تعيين واحدة منهن أو اثنتين، فقد اختلف الفقهاء في  كيفية الاختيار على قولين[86] :

القول الأول: أن له الاختيار بينهن من غير قرعة، وهو قول الحنفية، وقول للمالكية[87]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج , لأن له أن يسافر ولا يستصحب واحدة منهن، فليس عليه التسوية بينهن في حالة السفر.

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يفعل ذلك تطبيبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه، قال الطحاوي:( أجمع المسلمون أن للرجل أن يسافر إلى حيث أحب , وإن طال سفره ذلك , وليس معه أحد من نسائه , وأن حكم القسم , يرتفع عنه بسفره، فلما كان ذلك كذلك , كانت قرعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بين نسائه , في وقت احتياجه إلى الخروج بإحداهن لتطيب نفس من لا يخرج بها منهن , وليعلم أنه لم يحاب التي خرج بها عليهن , لأنه لما كان له أن يخرج ويخلفهن  جميعا , كان له أن يخرج ويخلف من شاء منهن. فثبت بما ذكرنا أن القرعة إنما تستعمل فيما يسع تركها , وفيما له أن يمضيه بغيرها([88]

·  أن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى، وقال القرطبي:(ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح([89]

القول الثاني: لا يجوز له السفر ببعضهن إلا بعد إجراء قرعة بينهن[90]، فإذا سافر بإحداهن بغير قرعة أثم، وقضى لغيرها بعد سفره، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·   عن عائشة - رضي الله عنه -  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  كان إذا أراد سفرا، أقرع بين نسائه، وأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه[91].

·  أن في المسافرة ببعضهن من غير قرعة تفضيلا لها، وميلا إليها، فلم يجز بغير قرعة كالبداية بها في القسم.

·  أنهم اتفقوا على أن مدة السفر لا يحاسب بها المقيمة، بل يبتدئ إذا رجع بالقسم فيما يستقبل، فلو سافر بمن شاء بغير قرعة، فقدم بعضهن في القسم للزم منه إذا رجع أن يوفي من تخلفت حقها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن ذلك لا يجب، فظهر أن للقرعة فائدة، وهي أن لا يؤثر بعضهن بالتشهي لما يترتب على ذلك من ترك العدل بينهن[92].

فإن أحب المسافرة بأكثر من واحدة، أقرع أيضا لما روت عائشة - رضي الله عنه -  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فصارت القرعة لعائشة وحفصة، ويجب عليه أن يسوي بينهن كما يسوي بينهن في الحضر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح هو النظر إلى المسألة من جهتين ترتبطان بمصالح الزوجين، ولا يحصل بهما الضرر لكليهما، ويمكن بهما الجمع بين محاسن القولين:

أولا ـ إذا كانت حاجته لإحداهن في سفره، أو لتواجدها في بيته أكثر من حاجته لغيرها، فإن الأولى هو خضوع الأمر لهذه الحاجة بشرط عدم تدخل الميل المحرم في ذلك، وقد قال ابن القاسم بعد عرضه لرأي مالك في المسألة:( أما رأيي فذلك كله عندي سواء الغزو وغيره يخرج بأيهن  شاء إلا أن يكون خروجه بإحداهن على وجه الميل لها على من معها من نسائه , ألا ترى أن الرجل قد تكون له المرأة ذات الولد وذات الشرف وهي صاحبة ماله ومدبرة ضيعته , فإن خرج بها فأصابها السهم ضاع ذلك من ماله وولده ودخل عليه في ذلك ضرر , ولعل معها من ليس لها ذلك القدر ولا تلك الثقة، وإنما يسافر بها لخفة مؤنتها ولقلة منفعتها فيما يخلفها له من ضيعته وأمره وحاجته إليها وفي قيامها عليه فما كان من ذلك على غير ضرر ولا ميل فلا أرى بذلك بأسا[93] (، وهي نظرة مقاصدية معتبرة، ولكنها تختلف من حيث نوع النظر إلى المصلحة باختلاف الأحوال والعصور.

ثانيا ـ إن لم توجد أي مصلحة تستدعي سفر إحداهن، فإن الأرجح هو الالتجاء إلى القرعة، بل نراه أصلا في حل كثير من المشاكل التي تستوي فيها الأطراف، ولا يمكن الجمع بين مصالح الجميع، لأن الزوج المسافر بين ثلاثة أمور: أن يسافر بهن جميعا، ولا طاقة له بذلك، أو في ذلك ـ حال توفر الطاقة ـ مشقة شديدة عليه، والشرع إنما جاء برفع الحرج، أو أن يتركهن جميعا، وفي ذلك مفاسد كثيرة، فقد يتضرر بفراقهن ضررا شديدا، فلم يبق إلا أن يسافر بإحداهن، فإن اجتمعن على الإذن له بواحدة منهن، فإن لهن ذلك إن رضي وإلا كانت القرعة هي الحل الأوحد لمثل هذه الحالة، لأن سفره ببعضهن من غير رضاهن نوع من الميل والاستئثار الذي يترك أثره في نفس المؤثر عليها، بخلاف القرعة، فإنها تسلم لها، وترضى بها، لأن الأذى الذي يصيبها ليس عدم سفرها مع زوجها بقدر ما هو إيثار غيرها عليها.

وقد استنبط الشافعي مما ذكر الله تعالى من القرعة في القرآن الكريم من مواضع القرعة الأصل الجامع لذلك، وطبقه عل هذه الحالة، فقد ذكر الله تعالى القرعة في القرآن الكريم في موضعين:

·  قال الله تعالى :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ﴾(الصافات:141) فقد وقف الفلك بالذين ركب معهم يونس، فقالوا: إنما وقف لراكب فيه لا نعرفه فيقرع فأيكم خرج سهمه ألقي فخرج سهم يونس، فألقي فالتقمه الحوت، ثم تداركه بعفوه تعالى.

·  قوله تعالى:﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(آل عمران:44)، فلا يعدو الملقون لأقلامهم يقترعون عليها أن يكونوا سواء في كفالتها، لأنه إنما يقارع من يدلي بحق فيما يقارع ولا يعدون إذا كان أرفق بها وأجمل في أمرها أن تكون عند واحد لا يتداولها كلهم مدة مدة.

قال الشافعي:( فلما كان المعروف لنساء الرافق بالنساء أن يخرج بواحدة منهن، فهن في مثل هذا المعنى ذوات الحق كلهن، فإذا خرج سهم واحدة كان السفر لها دونهن، وكان هذا في معنى القرعة في مريم وقرعة يونس حين استوت الحقوق، أقرع لتنفرد واحدة دون الجميع([94]

أما اعتبار القرعة أصلا في هذا ومثله، فقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن، منها هذا الموطن فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -  إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه , فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، والثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم , فأقرع بينهم , فأعتق اثنين وأرق أربعة، والثالث أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست , فقال: اذهبا وتوخيا الحق واستهما , وليحلل كل واحد منكما صاحبه.

ففي هذه المواطن الثلاث جرت القرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي، لأن السفر بجميعهن لا يمكن , واختيار واحدة منهن إيثار، وكذلك الأعبد الستة فإن كل اثنين منهم ثلث،  وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت , وتعيينهما بالتشهي لا يجوز شرعا , فلم يبق إلا القرعة، ومثلهما التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة , فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل. قال ابن العربي:( والحق عندي أن تجري في كل مشكل , فذلك أبين لها , وأقوى لفصل الحكم فيها , وأجلى لرفع الإشكال عنها ([95]

ومن هذا الباب ما لو أهدي له شيء خاص بالنسوة، ولم تعين صاحبته من النساء، فإن الحل الوحيد لذلك هو إجراء قرعة على من تسلم لها تلك الهدية، لما في إيثار إحداهن دون غيرها من المفاسد.

حكم القضاء بعد الرجوع من السفر:

اختلف الفقهاء في إلزام من سافر ببعض زوجاته بالقضاء للحاضرات بعد قدومه على قولين:

القول الأول: لا يلزمه القضاء  لهن، وهو قول جمهور العلماء[96]، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      أن عائشة - رضي الله عنه - لم تذكر القضاء في حديثها، وهو يدل على عدم وجوبه.

·  أن المسافر بها يلحقها من مشقة السفر بقدر ما لها من السكن، فلذلك لا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل في الحضر، فلو قضي للحاضرات، لكان قد مال على المسافرة كل الميل.

القول الثاني: وجوب القضاء عليه للحاضرات من النساء، وهو قول داود الظاهري، واستدل على ذلك بقول الله I : ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾(النساء:129)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن استحقاق الحاضرات للقضاء يختلف باختلاف نوع السفر، فإن كان السفر سياحيا مثلا، فإن الواجب هو القضاء، لأن تواجد الزوج مع زوجته مستغرق جميع الأوقات، وهي أهنأ وأسكن في هذه الحالة من تواجدها في بيتها، ثم إن السفر في عصرنا يختلف عن السفر في ما مضى، فقد أصبح من وسائل المتعة، وليس فيه من المشقة ما كان فيما مضى، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلذلك استحق غيرها حقهن من القسمة في بيوتهن مثل استحقاقها.

أما لو كان السفر سفر عمل، بحيث انشغل فيه الزوج عن أهله، فإنه لا يجب عليه القضاء، وعلى هذا كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن أسفاره كلها كانت من النوع الثاني، فلا يصح الاستدلال بها على النوع الأول.

وقد أشار إلى هذا التفريق ابن حجر في قوله:( ولا يخفى أن محل الإطلاق في ترك القضاء في السفر ما دام اسم السفر موجودا، فلو سافر إلى بلدة فأقام بها زمانا طويلا، ثم سافر راجعا، فعليه قضاء مدة الإقامة، وفي مدة الرجوع خلاف عند الشافعية، والمعنى في سقوط القضاء أن التي سافرت وفازت بالصحبة لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك والمقيمة عكسها في الأمرين معا ([97]

5 ـ القسمة العادلة بين الزوجات وضوابطها

ذكر الفقهاء بناء على الاحتياط من الوقوع في الميل المحرم، كثيرا من التفاصيل المتعلقة بكيفية القسمة العادلة، وما يراعى فيها، وقد لخصنا الكثير من مجامع تلك المسائل في أن القسمة محددة زمانا ومكانا، فالزوج في حال القسمة مرتبط بهذين القيدين، وتفاصيل أحكامهما في ما يلي:

أولا ـ زمان القسمة

يتعلق بهذا القيد من قيود القسمة العادلة المسائل التالية:

مدة القسمة:

نص الفقهاء على أن أقل مدة القسمة لمن عمله نهارا ليلة , فلا يجوز ببعضها لما في التبعيض من تشويش العيش وتنغيصه , إلا أن ترضى الزوجات بذلك، واختلفوا في أكثر مدة القسم , أي أطول مدة زمنية للنوبة الواحدة من القسم على الأقوال التالية:

القول الأول: للرجل أن يقدر المدة التي يقيمها عند إحداهن، بشرط أن لا تزيد على أربعة أشهر، وهي مدة الإيلاء، والأفضل أن يقسم الزوج بينهن بما يزيل الوحشة بحيث لا يتركها مدة تتألم فيها، وهو قول الحنفية، وهو وجه شاذ عند الشافعية ،واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  أنه حلف أن لا يقرب امرأته ينتظر هذه المدة وعندها تبين منه إن لم يطأها، فلو لم تكن هذه المدة هي التي تتضرر المرأة عند مجاوزتها لما حكم الشارع بإبانتها عندها.

·  ما روي عن عمر أنه سأل ابنته حفصة، كم تصبر المرأة عن الرجل؟ فقالت: أربعة أشهر، فأمر القواد أن يصرفوا من كان له أربعة أشهر[98].

القول الثاني: الأصل في القسمة بين الزوجات أن يقسم بينهن ليلة ليلة، ولا يجوز له الزيادة على ذلك إلا برضاهن، أو يكن في بلاد متباعدة فيقسم الجمعة أو الشهر على حسب ما يمكنه بحيث لا يناله ضرر لقلة المدة، وهو قول المالكية والحنابلة في المعتمد عندهم، قال الشافعية:(ويجوز أن يقسم ليلة ليلة وليلتين ليلتين وثلاثا ثلاثا، ولا يجوز أقل من ليلة، ولا يجوز الزياة على الثلاثة الا برضاهن(،قال النووي:هذا هو الصحيح في مذهبنا وفيه أوجه ضعيفة[99]، ومن الأدلة على ذلك[100]:

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قسم ليلة وليلة، ففي الحديث عن أنس قال: كان للنبي  - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها([101]

·  أن التسوية واجبة، وإنما جوز بالبداية بواحدة، لتعذر الجمع، فإذا بات عند واحدة ليلة، تعينت الليلة الثانية حقا للأخرى، فلم يجز جعلها للأولى بغير رضاها.

·      أنه تأخير لحقوق بعضهن، فلم يجز بغير رضاهن، كالزيادة على الثلاث.

·  أنه إذا كان له أربع نسوة، فجعل لكل واحدة ثلاثا، حصل تأخير الأخيرة في تسع ليال، وهو كثير، فلم يجز.

·      أن للتأخير آفات، فلا يجوز مع إمكان التعجيل بغير رضى المستحق، كتأخير الدين الحال.

القول الثالث:: الأصل في القسمة بين الزوجات أن يقسم بينهن ليلة وليلة، فما زاد إلى سبع لكل واحدة, ولا يجوز له أن يزيد على سبع، وهو قول ابن حزم، ومن الأدلة على ذلك:

·  قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لأم سلمة رضي الله عنها:( إن سبعت لك سبعت لنسائي (فصح أن للزوج أن يسبع، وما دون السبع جائز بجواز السبع , لأنه بعض السبع، قال ابن حزم:( ولولا هذا الأثر ما أجزنا أكثر من ليلة، وليلة أحب إلينا , لأنه كذلك جاءت الآثار الثابتة من قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن([102]

·  أنه لو جاز أكثر من سبع لكان له أن يبيت عند الواحدة ما شاء - ولو أعواما - ويقول: سأقسم للأخرى مثل ذلك - وهذا باطل وظلم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع لرضى الجميع سواء الزوج أو زوجاته، لعدم ورود دليل يحدد مدة القسمة لكل واحدة من الزوجات، وأن ذلك أيضا يختلف باختلاف عدد الزوجات، فمن له زوجتان ليس كمن له أربع، لأنه كلما كثرت النسوة طالت المدة الفاصلة بين النوبتين وحصل الضرر، فلذلك كان الأفضل هو ما ورد في فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقسم بينهن ليلة ليلة.

وقت القسمة:

اتفق الفقهاء على أن الأصل في القسم في الحالة العادية الليل، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن التسوية الواجبة في القسم تكون في البيتوتة.

·  أن الليل للسكن والإيواء , يأوي فيه الرجل إلى منزله , ويسكن إلى أهله , وينام في فراشه مع زوجته عادة , والنهار وقت العمل لكسب الرزق والانتشار في الأرض طلبا للمعاش , كما قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾(النبأ:10ـ11), وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُون﴾َ(يونس:67)

واتفقوا على أنه يدخل في القسمة النهار تبعا لليل، وإن أحب الزوج أن يجعل النهار في القسم لزوجاته مضافا إلى الليل الذي بعده جاز له ذلك ; لأنه لا يتفاوت , والغرض العدل بين الزوجات وهو حاصل بذلك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·      ما روي أن سودة وهبت يومها لعائشة.

·  عن عائشة - رضي الله عنه -، قالت: (قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في بيتي، وفي يومي) [103]، وإنما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -  نهارا.

وقد نص الفقهاء على أن هذا التقسيم جار على الحالة العادية، أما في الحالة غير العادية، فهو كما قال الشافعي:(إنما القسم على المبيت كيف كان المبيت (، ولهذا، فمن عمله الليل، وكان النهار سكنه كالحارس ونحوه يكون النهار ; لأنه وقت سكونه , وأما الليل فإنه وقت عمله، ومثله القسم للمسافر، فإنه وقت نزوله ; لأنه وقت خلوته ليلا كان أو نهارا , قل أو كثر, وإن تفاوت حصل لواحدة نصف يوم ولأخرى ربع يوم , فلو كانت خلوته وقت السير دون وقت النزول - كأن كان بمحفة وحالة النزول يكون مع الجماعة في نحو خيمة - كان هو وقت القسم.

وقت بدء القسمة:

اختلف الفقهاء في الوقت الذي يبدأ فيه الزوج القسم بين زوجاته , وفيما يكون به الابتداء على قولين:

القول الأول: أن البدء في القسم ملك الزوج، وهو قول الحنفية والمالكية ،وهو مقابل الصحيح عند الشافعية، ونص المالكية على أنه يندب الابتداء في القسم بالليل ; لأنه وقت الإيواء للزوجات , ويقيم القادم من سفر نهارا عند أيتهن أحب ولا يحسب , ويستأنف القسم بالليل لأنه المقصود , ويستحب أن ينزل عند التي خرج من عندها ليكمل لها يومها.

القول الثاني:  وجوب القرعة على الزوج بين الزوجات للابتداء إن تنازعن فيه , وليس له إذا أراد الشروع في القسم البدء بإحداهن إلا بقرعة[104] أو برضاهن، وهو قول الشافعية - في الصحيح عندهم - والحنابلة، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن البدء بإحداهن تفضيل لها على غيرها , والتسوية بينهن واجبة.

·      أنهن متساويات في الحق، ولا يمكن الجمع بينهن، فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين.

وقالوا: للزوج أن يرتب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها ; لأن المقصود حاصل بكل ولا يتفاوت , لكن تقديم الليل أولى ; لأن النهار تابع لليل وللخروج من خلاف من عينه.

حكم الخروج من البيت حال القسمة :

يختلف حكم خروج الزوج من بيت إحدى زوجاته في قسمتها بحسب وقت الخروج ومدته والغاية منه، وفيما يلي تفصيل لبعض صور هذا الخروج وأحكامها:

الخروج للحاجة:

اتفق الفقهاء على أنه يجوز خروج الرجل للحاجة أو في وقت جرت العادة بالانتشار فيه، كالخروج إلى الصلاة العشاء مثلا، أو صلاة الفجر قبل طلوعه، أو خرج في النهار للمعاش والانتشار، أو خرج في غير ذلك، ولم يلبث أن عاد، فإن ذلك كله لا يؤثر في حق الزوجة في القسمة.

بل إنه يجوز الدخول في النهار إلى المرأة في يوم غيرها، لدفع نفقة، أو عيادة، أو سؤال عن أمر يحتاج إلى معرفته، أو زيارتها لبعد عهده بها، ونحو ذلك لقول عائشة - رضي الله عنه - )كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يدخل علي في يوم غيري، فينال مني كل شيء إلا الجماع ([105]

ومن السنة في هذا أن لا يغفل عن سائر نسائه في نوبة إحداهن، كما ورد في الحديث عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا امرأة امرأة فيدنو ويلمس حتى يفضي إلى التي هو يومها فيبيت عندها.

قال الشوكاني:( فيه دليل على أنه لا يشترط في العدل بين الزوجات أن يفترض لكل واحدة ليلة، بحيث لا يجتمع فيها مع غيرها بل يجوز صاحبة النوبة ومحادثتها،ولهذا كن يجتمعن كل ليلة في بيت صاحبة النوبة، وكذلك يجوز للزوج دخول صاحبة النوبة والدنو منها واللمس إلا الجماع كما في حديث عائشة المذكور([106]

أما إن أطال المقام عندها، فيجب عليه القضاء.

حكم معاشرة الزوجة جنسيا في نوبة ضرتها:

نص الفقهاء على أنه يكره أن يصيب الرجل المرأة في يوم الأخرى إلا أن تأذن له في ذلك، أما ما روي عن أنس - رضي الله عنه -  أن النبي  - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد[107]، فقد وجه بأنه يحتمل أحد أمرين:

·      اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

·      إباحتهن له ورضاهن به.

ونرى أنه لا كراهة في ذلك، ولا دليل عل اختصاصه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهن زوجاته جميعا، ويحق له أن يأتيهن متى شاء، ولهن عليه كذلك حق في ذلك، بشرط أن لا يضيع حق إحداهن لحساب الأخرى، وما ذكره عياض في الشفا من أن الحكمة في طوافه عليهن في الليلة الواحدة كان لتحصينهن، وكأنه أراد به عدم تشوقهن للأزواج[108]، يعم كل امرأة، بل إن مثل هذه العلة لا تليق بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي في غيرهن أليق، فكيف يقال بالتخصيص.

وقد اختلف الفقهاء القائلون باختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لو دخل في نوبة زوجته على ضرتها , فجامعها في زمن يسير على قولين كلاهما وجهان للحنابلة وقولان للشافعية[109]:

القول الأول: لا يلزمه قضاؤه ; لأن الوطء لا يستحق في القسم , والزمن اليسير لا يقضى.

القول الثاني:  يلزمه أن يقضيه , وهو أن يدخل على المظلومة في ليلة المجامعة, فيجامعها , ليعدل بينهما , ولأن اليسير مع الجماع يحصل به السكن , فأشبه الكثير.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأورع هو القول الثاني خاصة مع ما ذكرنا من وجوب المعاشرة الجنسية للزوجات جميعا واعتبار ذلك من شروط العدل بينهن، أما إذا قام بإحداهن عذر في نوبتها يمنعه من معاشرتها، فلا حرج عليه في ذلك لعدم تضررها، ولتعلق مصلحته الشرعية بذلك.

حكم قضاء ما فات من حق الزوجة:

اختلف الفقهاء فيما لو جار الزوج وفوت على إحداهن قسمها[110]، هل يجب عليه قضاء ما فات من القسم أم لا على قولين:

القول الأول: لا يقضي الزوج المبيت الذي كان مستحقا لإحدى زوجاته ولم يوفه لها، وهو قول الحنفية والمالكية، ومن الأدلة على ذلك:

·      أن القصد من المبيت دفع الضرر وتحصين المرأة وإذهاب الوحشة , وهو يفوت بفوات زمنه.

·      أنه لو جعل لمن فاتت ليلتها ليلة عوضا عنها، يظلم حينئذ صاحبة تلك الليلة التي جعلها عوضا.

·      أن المبيت لا يزيد على النفقة وهي تسقط بمضي المدة كما اختاره الحنفية.

القول الثاني: على الزوج أن يقضي ما فات من القسم للزوجة إذا لم يكن ذلك بسبب من جانبها كنشوزها أو إغلاقها  بابها دونه ومنعها إياه من الدخول عليها في نوبتها، وهو قول الشافعية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على الأخذ بالأحوط في مثل هذه المسائل، والحق في الشريعة لا يسقط بمضي زمانه.

كيفية قضاء ما فات من حق الزوجة :

نص الفقهاء القائلون بوجوب القضاء على أن للقضاء طرقا مختلفة يخير الزوج في اختيار طريقة منها للتعويض عن قسمتها، وهذه الطرق هي:

·  أن يجعل قضاءه لذلك غيبته عن الأخرى، مثل ما غاب عن هذه، لأن التسوية تحصل بذلك، ولأنه إذا جاز له ترك الليلة بكمالها في حق كل واحدة منهما، فبعضها أولى.

·  أن يقضي لها الوقت الذي غاب عنها فيه ويستحب أن يقضي لها في مثل ذلك الوقت، لأنه أبلغ في المماثلة، والقضاء تعتبر المماثلة فيه، كقضاء العبادات والحقوق، وقد اختلف فيما لو فاتها أول الليل، فقضاه في آخره، أو من آخره، فقضاه في أوله، فقيل بالجواز، لأنه قد قضى قدر ما فاته من الليل، وقيل بعدم الجواز لعدم المماثلة.

·  لا يصح قضاؤه ليلة الأخرى، لئلا يفوت حق الأخرى، فتحتاج إلى قضاء، فلذلك له أن ينفرد بنفسه في ليلة، فيقضي منها، وإما أن يقسم ليلة بينهن بحسب ما فاتها مثل أن يترك من ليلة إحداهما ساعتين، فيقضي لها من ليلة الأخرى ساعة واحدة، فيصير الفائت على كل واحدة منهما ساعة.

ثانيا ـ محل القسمة

لا يخلو محل القسمة بين أن الزوجات من ثلاثة أحوال:

·      أن يكون لكل زوجة مسكنها الخاص، يأتيها الزوج إليه في وقت نوبتها،وهو أفضل الأحوال.

·      أن يكون لهن مسكن واحد، يسكن معهن فيه الزوج.

·      أن يدعو الزوج كل ليلة إليه من تكون نوبتها، فيكون النسوة هن الذي يأتين للزوج.

وتفصيل هذه الحالات الثلاثة في المسائل التالية:

حكم اختصاص الزوجة بسكن خاص:

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين  امرأتين في مسكن واحد ; لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف , ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، قال الكاساني: (لو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها، كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك ; عليه أن يسكنها في منزل مفرد ; لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر، ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث) [111]

وأما الجمع بينهما في دار لكل واحدة من الزوجتين بيت فيها فذهب إلى جواز ذلك جمهور الفقهاء، بشرط أن يكون لكل بيت مرافقه الخاصة به , وغلق يغلق به , ولا يشترط رضاهما في الجمع بينهما[112].

فقد نص المالكية على جوز جمع الرجل بين المرأتين في دار واحدة بشرطين :

·  أن يكون لكل واحدة منهما منزل مستقل بمرافقه ومنافعه من كنيف ومطبخ ونحو ذلك مما يحتاج إليه.

·  أن يرضيا بذلك، ولا فرق بين الزوجتين والثلاثة فأكثر، فإن لم يرضيا بذلك فإنه لا يجوز له أن يجمع بينهما في منزلين من دار واحدة، بل يلزمه أن يفرد كل واحدة بدار ولا يلزمه أن يبعد ما بينهما[113].

وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم هل هو حق خالص للمرأة يسقط برضاها، أم أنه واجب شرعي على قولين:

القول الأول: إن منع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما فيسقط برضاهما، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أن هذا الحق لا يسقط ولو رضيت الزوجة به، وهو قول ابن عبد السلام من المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجمع بين القولين، مع وضع كل قول لحالة خاصة، ففي الحالة العادية، يكون هذا حقا للمرأة يجوز أن تتنازل عنه، فتسكن مع ضراتها مسكنا واحدا، أما إذا خشي الزوج الفتنة بين ضراته فإن هذا لا يصير حقا قد يتنازلن عنه، بل يصبح واجبا لعدم استقامة الحياة الزوجية بدونه.

حكم المعاشرة الجنسية للزوجتين في مسكن واحد:

اتفق الفقهاء على حرمة معاشرة الرجل لإحدى زوجتيه جنسيا بحيث ترى الأخرى ذلك، قال ابن نجيم: ) لو اجتمعت الضرائر في مسكن واحد بالرضا يكره أن يطأ إحداهما بحضرة الأخرى، حتى لو طلب وطأها لم تلزمها الإجابة، ولا تصير بالامتناع ناشزة (ثم قال:(ولا خلاف في هذه المسائل([114]

والتعبير بالكراهة هنا لا يعني الكراهة المعروفة، وإنما هي صيغة من صيغ التحريم، قال ابن قدامة) إن رضيتا بأن يجامع واحدة بحيث تراه الأخرى , لم يجز; لأن فيه دناءة وسخفا وسقوط مروءة , فلم يبح برضاهما([115]

أما النوم معا من دون معاشرة، فلا حرج فيه للضرورة، وقد نص في المغني على جواز ما لو رضيتا بنومه بينهما في لحاف واحد[116]، بل نص الفقهاء على أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بلا جماع بحضرة محرم لها[117] ،والدليل على ذلك نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة في طول الوسادة، وابن عباس لما بات عنده في عرضها، فعن ابن عباس - رضي الله عنه -  قال: بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها في ليلتها، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم جاء إلى منزله، فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة[118].

ذهاب الزوج إلى زوجاته أو دعوتهن إليه:

اتفق الفقهاء ـ كما سبق بيانه ـ  على أن الأولى في حالة تعدد الزوجات أن يكون لكل منهن مسكن يأتيها الزوج فيه اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقسم لنسائه في بيوتهن ; ولأنه أصون وأستر حتى لا تخرج النساء من بيوتهن , ويجوز للزوج - إن انفرد بمسكن - أن يدعو إليه كل واحدة من زوجاته في ليلتها ليوفيها حقها من القسم، وقد اختلف الفقهاء في بعض تفاصيل هذا نورده في ما يلي على حسب المذاهب الفقهية:

مذهب الحنفية: نص الحنفية على أنه لو مرض الزوج في بيته دعا كل واحدة في نوبتها ; لأنه لو كان صحيحا وأراد ذلك ينبغي أن يقبل منه.

مذهب المالكية: نص المالكية على أنه يجوز للزوج برضاء زوجاته  طلبه منهن الإتيان للبيات معه بمحله المختص به, ولا ينبغي له هذا إذ السنة دورانه هو عليهن في بيوتهن لفعله - صلى الله عليه وسلم - , فإن رضي بعضهن لم يلزم باقيهن , بل نص بعض المالكية على أنه يقضى على الزوج أن يدور عليهن في بيوتهن ولا يأتينه إلا أن يرضين.

مذهب الشافعية: إن لم ينفرد الزوج بمسكن وأراد القسم دار عليهن في بيوتهن توفية لحقهن , وإن انفرد بمسكن فالأفضل المضي إليهن صونا لهن , وله دعاؤهن بمسكنه , وعليهن الإجابة ; لأن ذلك حقه , فمن امتنعت وقد لاق مسكنه بها فيما يظهر فهي ناشزة إلا ذات شرف لم تعتد البروز، فيذهب لها، وإلا نحو معذورة بمرض فيذهب أو يرسل لها مركبا إن أطاقت مع ما يقيها من نحو مطر.

قال النووي:( يستحب للزوج أن يأتى كل امرأة في بيتها ولا يدعوهن الى بيته لكن لو دعا كل واحدة في نوبتها الى بيته كان له ذلك وهو خلاف الأفضل ولو دعاها الى بيت ضرائرها لم تلزمها الاجابة ولا تكون بالامتناع ناشزة بخلاف ما اذا امتنعت من الاتيان الى بيته لأن عليها ضررا في الاتيان الى ضرتها وهذا الاجتماع كان برضاهن([119]

والأصح عندهم تحريم ذهابه إلى بعضهن ودعاء غيرهن إلى مسكنه لما فيه من الإيحاش, ولما في تفضيل بعضهن على بعض , من ترك العدل , إلا لغرض كقرب مسكن من مضى إليها , أو خوف عليها لنحو شباب دون غيرها فلا يحرم، والضابط أن لا يظهر منه التفضيل والتخصيص.

ويحرم أن يقيم بمسكن واحدة ويدعو الباقيات إليه بغير رضاهن , ولو لم تكن هي فيه حال دعائهن , فإن أجبن فلها المنع , وإن كان البيت ملك الزوج لأن حق السكنى فيه لها.

مذهب الحنابلة: إن اتخذ الزوج لنفسه مسكنا غير مساكن زوجاته يدعو إليه كل واحدة في ليلتها ويومها ويخليه من ضرتها جاز له ذلك , لأن له نقل زوجته حيث شاء بمسكن يليق بها, وله دعاء بعض الزوجات إلى مسكنه والذهاب إلى مسكن غيرهن من الزوجات ; لأن له أن يسكن كل واحدة منهن حيث شاء , وإن امتنعت من دعاها عن إجابته وكان ما دعاها إليه مسكن مثلها سقط حقها من القسم لنشوزها , وإن أقام عند واحدة ودعا الباقيات إلى بيتها لم يجب عليهن الإجابة لما بينهن من غيرة والاجتماع يزيدها.

 



([1])   في كتابه « محاضـرات في عقد الزواج وآثاره » ص 127.

([2])   في ظلال القرآن: 1/580.

([3])   بالإضافة إلى: في ظلال القرآن: 1/580، وفقه السنة: 2/189، وكتاب « المرأة بين الشريعة والقانون » لمصطفى السباعي.

([4])   ويقول وستر مارك في تاريخه :« إن مسألة تعدد الزوجات لم يفرغ منها بعـد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث فيما يتعلق بمشكلات الأسرة  »

ثم تساءل :« هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختـام النظم، ونظـام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة ؟ »

ثم أجاب قائلاً :« إنه سؤال أجيب عنه بآراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يؤدي إلى هذه النهاية »

وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور  Lepon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ إهرنفيل     Ehrenbel إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء « السلالة الآرية »

ثم يعقب وستر مارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره.

([5])   عدد الأهرام 13 / 9 / 1979.

([6])   أنيس منصور – لحظات مسروقة – ط دار الشروق ض6.

([7])   الاستشراق – تاريخه وأهدافه – مكتبة النهضة المصرية – ص69.

([8])   وقد تحدث غوستاف لوبون في « حضارة العرب » عن موقف الأوروبيين عموما من تعـدد الزوجـات، فقال :« لا نذكر نظاماً اجتماعياً أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعـدد الزوجات، كما أننا لا نذكـر نظاماً أخطـأ الأوروبيون في إدراكه كذلك المبـدأ، فيرى أكثر مؤرخي أوروبا اتزاناً أن مبدأ  تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشـأ عن هذه المزاعـم الغربية على العموم أصوات سخط ورحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيان غلاظ، ويُقتلن حينما يكرههن سادتهن »

ثم أضاف مبينا رأيه في المسألة بعد إدراكه للواقع الإسلامي ومعايشته له :« ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هـذا الفصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً، أن مبـدأ تعدد الزوجات الشرقي نظـام طيب يرفع المستوى الأخـلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا ً، ويمنـح المرأة احتراماً وسعـادة لا تراها في أوروبا.

([9])   ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي.

([10])   ابن المنذر.

([11])   كان مسيحيا وأسلم، كتاب الأديان في كفة الميزان ص 109.

([12])   انظر: ص 92-98 من الكتاب المذكور.

([13])   المصدر: رويترز - أسوشيتد برس ـ الأربعاء 26/12/1421هـ الموافق 21/3/2001م، (توقيت النشر) الساعة: 5:38(مكة المكرمة)،2:38(غرينيتش).

([14])   نقلاً عن موقع بي بي سى باللغة العربية.BBCARABIC.COM.

([15])   المصدر السابق.

([16])   صحيفة الأخبار المصرية عدد 2/ 7 / 1968.

([17])   انظر « المرأة بين الشريعة والقانون » لمصطفى السباعي، ويحكى الدكتور محمد يوسف موسى ما حدث في مؤتمر الشباب العالمي الذي عقد عام 1948، بمدينة ميونخ الألمانية.. فقد وجهت الدعوة إلى الدكتور محمد يوسف وزميل مصري له للمشاركة في حلقة نقاشية داخل المؤتمر كانت مخصصة لبحث مشكلة زيادة عدد النساء أضعافا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب العالمية الثانية.. وناقشت الحلقة كل الحلول المطروحة من المشاركين الغربيين، وانتهت إلى رفضها جميعا، لأنها قاصرة عن معالجة واحتواء المشكلة العويصة. وهنا تقدم الدكتور محمد موسى وزميله الآخر بالحل الطبيعي الوحيد، وهو ضرورة إباحة تعدد الزوجات.

في البداية قوبل الرأي الإسلامي بالدهشة والنفور.. ولكن الدراسة المتأنية المنصفة العاقلة انتهت بالباحثين في المؤتمر إلى إقرار الحل الإسلامي للمشكلة، لأنه لا حل آخر سواه.. وكانت النتيجة اعتباره توصية من توصيات المؤتمر الدولي..انظر: زوجات لا عشيقات.

([18])   في ظلال القرآن: 1/582.

([19])   البخاري: 5/2068، البيهقي: 7/47، ابن ماجة: 2/1108، أحمد: 3/128، أبو يعلى: 5/272.

([20])   البخاري: 2/907، مسلم: 4/2283، ابن حبان: 14/258، البيهقي: 6/169.

([21])   لسان العرب:11/430، الفائق:3/59، النهاية:3/191.

([22])   انظر:  مختار الصحاح:223.

([23])   البيتوتة في اللغة مصدر " بات " وهي في الأعم الأغلب بمعنى فعل الفعل بالليل , يقال: بات يفعل كذا أي فعله بالليل , ولا يكون إلا مع سهر الليل , وعليه قول الله U: ) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ﴾، وقد تأتي نادرا بمعنى نام ليلا، وقد تأتي بات بمعنى صار , يقال: بات بموضع كذا أي صار به , سواء كان في ليل أو نهار , وعلى هذا المعنى قول الفقهاء: بات عند امرأته ليلة أي صار عندها سواء حصل معه نوم أم لا، انظر: لسان العرب: 2/16.

([24])   درر الحكام:1/355.

([25])   كشاف القناع:5/198.

([26])   لم يختلف الفقهاء في هذا إلا في حالة واحدة غير موجودة الآن، وهي حكم العدل في القسمة بين الزوجة الحرة والزوجة الأمة، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: من كانت له زوجة حرة وزوجة مملوكة فللحرة ليلتان وللمملوكة ليلة، وقد روي عن علي , ومسروق , ومحمد بن علي بن الحسين , والشعبي , والحسن , وعطاء , وسعيد بن جبير , وسعيد بن المسيب , وعثمان البتي , وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1. عموم أمر الله تعالى بالعدل بين النساء عموما.

2. أن قياس القسمة على العدة فباطل.

3. أنه لما كانتا في النفقة سواء وجب أن يكونا في القسمة سواء.

القول الثاني: القسمة لهما سواء، وهو قول مالك , والليث , وأبي سليمان، ومن الأدلة على ذلك، أنه لما كانت عدة الأمة وحدها نصف عدة الحرة وحدها وجب أن تكون قسمتها نصف قسمة الحرة، انظر: المحلى:9/175.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن لفظ الزوجية يطلق على كليهما، فلذلك يدخلان جميعا في عموم النص القرآني ولا تخصيص بدون مخصص، وإنما ذكرنا هذه المسألة هنا لما نبهنا إليه سابقا من أن إلغاء الرق في العصر الحاضر لا يعني إعدامه إذا ما دعت دواعيه.

([27])   الإجماع لابن المنذر:78.

([28])   حاشية البجيرمي على الخطيب:3/463.

([29])   قال المنذري: رواه الترمذي وتكلم فيه والحاكم، وقال صحيح على شرطهما،  ورواه أبو داود،  ولفظه »من كانت له امرأتان فمال إلى إحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل«، والنسائي ولفظه» من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم   القيامة  أحد شقيه مائل«،   ورواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا:» جاء يوم  القيامة وأحد شقيه ساقط«الترغيب والترهيب:3/40، وانظر: الدارمي:2/193، البيهقي:7/197، أبو داود:2/242، النسائي:5/280، المجتبى: 7/63.

([30])   فيض القدير:1/430.

([31])   شرح النووي عل مسلم:10/46.

([32])   بدائع الصنائع: 2/333.

([33])   البخاري: 2/697، ابن حبان: 14/118، البيهقي: 3/16، النسائي: 2/128، أحمد: 2/200.

([34])   الفتاوى الكبرى:3/232.

([35])   الفتاوى الكبرى:5/481.

([36])   البخاري:2/872، البزار: 1/319.

([37])   البخاري:3/1275، مسلم: 4/1893، البيهقي: 7/74.

([38])   اختلف العلماء في حكم قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين نسائه،  هل كان واجبا عليه أم لا، على الأقوال التالية:

القول الأول: لم يكن واجبا عليه، لقوله U :) ترجي من تشاء منهن قال القرطبي: وأصح ماقيل فيها التوسعة على النبي - صلى الله عليه وسلم -  في ترك القسم، فكان لايجب عليه القسم بين زوجاته وهذا القول هو الذي يناسب مامضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول أو تهب المرأة نفسها لرجل، فلما أنزل الله U )ترجي من تشاء منهن قالت قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك« ،وقال ابن العربي هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه والمعنى المراد هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخيرا في أزواجه إن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك فخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن جعل الأمر إليه فيه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه تطييبا لنفوسهن وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى مالاينبغي.انظر: تفسير القرطبي: 14/215.

القول الثاني: أنه كان واجبا عليه كسائر المؤمنين، بدليل حديث عائشة، رضي الله عنها:» كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل« 

القول الثالث: أنه كانت له ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر، وقد هب إليه ابن العربي، قال ابن حجر:» لم أجد لذلك دليلا، ثم وجدت حديث عائشة الذي في الباب بعد هذا بلفظ:» كان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه  فيدنو من إحداهن« الحديث وليس فيه بقية ما ذكر من أن تلك الساعة هي التي لم يكن القسم واجبا عليه فيها، وأنه ترك إتيان  نسائه كلهن في ساعة واحدة على تلك الساعة ويرد عليه قوله في حديث أنس أنه كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة « فتح الباري:9/316، وانظر: نيل الأوطار:6/372، سبل السلام:3/162.

ونرى كراهة الخوض في مثل هذه المسائل المبثوثة في كتب الفقه، لثلاثة أسباب:

1.أنها ليست من المسائل العملية، أو حتى النظرية التي قد تزيد الإيمان وتعمقه.

2.عدم توفر الأدلة الكافية والقطعية التي نستند إليها في أحكامنا.

3.أن فيها جرأة على مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتشبيهه بسائر المكلفين، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من قربه بربه ومعرفته به لا يحتاج إلى أن يقال له :إن هذا واجب، أو هو مستحب، بل كل ما يحبه ربه U يفعله سواء حكمنا له نحن المقصرين بالوجوب أو الاستحباب، فمثل هذه المصطلحات تتعلق بنا، ولا تتعلق به- صلى الله عليه وسلم -.

ومن أوجه الخطورة في هذا الباب قولهم مثلا بوجوب التهجد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيبنون اجتهاده في عبادة ربه على أنه كان واجبا عليه، وهو يدل على أنه لو لم يكن واجبا عليه لتركه، وفي ذلك مخالفة صريحة لما كان عليه- صلى الله عليه وسلم -..

([39])   قال ابن حجر: رواه أحمد والدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم عن عائشة وأعله النسائي والترمذي والدارقطني بالإرسال، وقال أبو زرعة: لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله، تلخيص الحبير:3/139، وانظر: الحاكم:2/204، البيهقي: 7/298، أبو داود: 2/242.

([40])   القرطبي:14/218.

([41])   المغني:7/234.

([42])   المغني:7/234.

([43])   نقل ابن عابدين عن بعض أهل العلم أن الزوج إن ترك الوطء لعدم الداعية والانتشار عذر , وإن تركه مع الداعية إليه لكن داعيته إلى الضرة أقوى فهو مما يدخل  تحت قدرته.

([44])   ذكره في المغني:7/235، ولم أجد تخريجه.

([45])   روح المعاني :5/163.

([46])   المنتقى:3/353.

([47])   المنتقى:3/353.

([48])   القرطبي:14/217.

([49])   المغني:7/232.

([50])   نص عليه الكاساني في البدائع، على أنه يجب عليه التسوية بين الحرتين أو الأمتين في المأكول , والمشروب , والملبوس , والسكنى , والبيتوتة، ومثله في الغاية: اتفقوا على التسوية في النفقة ،وقد رد على هذا ابن نجيم، بقوله:» والحق أنه على قول من اعتبر حال الرجل وحده في النفقة فالتسوية فيها واجبة أيضا، وأما على قول المفتى به من اعتبار  حالهما فل،ا لأن إحداهما قد تكون غنية , والأخرى فقيرة فلا يلزمه التسوية بينهما مطلقا في النفقة « البحر الرائق:3/236.

([51])   الفتاوى الكبرى:5/482.

([52])   البحر الرائق:3/236.

([53])   كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه: 32/270.

([54])   القرطبي:14/217.

([55])   البخاري: 2/916، البيهقي:7/71، أبو داود: 2/243، النسائي: 3/259.

([56])   نيل الأوطار:6/375.

([57])   ابن ماجة:2/116، أحمد:6/95.

([58])   في ظلال القرآن:2/769.

([59])   البخاري: 5/1998، مسلم:4/2316، الطبري:5/307، البيهقي:7/296.

([60])   الترمذي:5/249، البيهقي: 7/249، المعجم الكبير:11/284.

([61])   المنتقى:3/353.

([62])   القرطبي:5/404.

([63])   أحكام القرآن للجصاص: 2/399.

([64])   حاشية الدسوقي: 2/341.

([65])   الفتاوى الكبرى:5/483.

([66])   القرطبي:5/405.

([67])   الفتاوى الكبرى:5/483.

([68])   المبسوط:5/221.

([69])   المبسوط:5/218.

([70])   سنعرض للمسألة في محلها من المبحث الأخير من هذا الفصل.

([71])   نص الفقهاء على أنه يكره أن يزف إليه امرأتان في ليلة واحدة، أو في مدة حق عقد إحداهما، لأنه لا يمكنه أن يوفيهما حقهما، فإن فعل، فأدخلت إحداهما قبل الأخرى، بدأ بها، فوفاها حقها، ثم عاد فوفى الثانية، ثم ابتدأ القسم، فإن زفت الثانية في أثناء مدة حق العقد، أتمه للأولى، ثم قضى حق الثانية. وإن أدخلتا عليه جميعا في مكان واحد، أقرع بينهما، وقدم من خرجت لها القرعة منهما، ثم وفى الأخرى بعدها، المغني:7/241.

([72])   شرح معاني الآثار:3/29.

([73])   البحر الرائق: 3/236.

([74])   وقد اختلفوا في أن هذا المقام عند البكر والثيب إذا كان له زوجة أخرى هل هو واجب أم مستحب على قولين:

      القول الأول: أنه واجب، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وموافقيهم وهي رواية ابن القاسم عن مالك.

      القول الثاني:  أنه على الاستحباب، وقد وروى عنه ابن عبد الحكم. شرح النووي على مسلم:10/45.

      الترجيح: نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه واجب لأن كونه حقا لطرف يقتضي وجوبه على طرف آخر، وخاصة مع التساهل الذي نراه في المستحبات.

([75])   قال ابن حزم: هذا مرسل ولا حجة فيه، المحلى: 9/213، انظر: مصنف عبد الرزاق:6/237.

([76])   المحلى: 9/213، مصنف عبد الرزاق: 3/236.

([77])   انظر: التمهيد:17/246.

([78])   مسلم:2/1083، الحاكم:4/19، الدارمي: 2/194، البيهقي: 7/300، الموطأ: 2/530، مسند الشافعي: 261.

([79])   التمهيد:17/246.

([80])   اختلف العلماء في أن هذا الحق للزوج، أو للزوجة الجديدة على قولين:

القول الأول:  أنه حق لها، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أنه حق له على بقية نسائه، وهو قول بعض المالكية.

ونرى أنه حق لكليهما، فلكل جديد لذة، والشرع جرى على ما تقتضيه الطبيعة من ذلك بعد تنظيمها وتقييدها.

([81])   المحلى: 9/215.

([82])   عون المعبود:3/176.

([83])   شرح النووي على مسلم:10/45.

([84])   سبق تخريجه.

([85])   سبق تخريجه.

([86])   ومثل هذالخلاف خلافهم في الخروج للغزو، قال ابن العربي:» واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين ; الصحيح منهما الاقتراع , وبه قال أكثر فقهاء الأمصار ; وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن , واختيار واحدة منهن إيثار , فلم يبق إلا القرعة«أحكام القرآن :4/31.

([87])   إلا أن الحنفية استحبوا القرعة تطييبا لقلوبهن، وأوجب المالكية القرعة بين الزوجات في سفر القربة كالغزو والحج في المشهور عندهم ; لأن المشاحة تعظم في سفر القربة. وفي قول آخر عند المالكية أن القرعة تجب مطلقا، فللمالكية بهذا أربعة أقوال:هي الاختيار مطلقا , القرعة مطلقا , القرعة في الحج والغزو فقط , القرعة في الغزو فقط. انظر:منح الجليل:3/544، حاشية الصاوي:2/511..

([88])   شرح معاني الآثار:4/283، وانظرك المبسوط:5/219.

([89])   نقلا عن: فتح الباري:9/311.

([90])   وقد نصوا على أنه لا يلزم الزوج إذا خرجت القرعة لإحداهن، على السفر بها، بل له تركها والسفر وحده، لأن القرعة غير ملزمة وإنما تعين من تستحق التقديم، فلذلك لا يجوز له السفر بغيرها، لأنها تعينت بالقرعة، فلم يجز العدول عنها إلى غيرها إلا إذا وهبت حقها من ذلك لغيرها، فإنه يجوز بشرط رضي الزوج.

فإذا امتنعت من السفر معه، فله إكراهها عليه، أما إن رضي فإنه يسقط حقها ويستأنف القرعة بين الباقيات، فإن رضي الزوجات كلهن بسفر واحدة معه من غير قرعة، جاز ذلك، لأن الحق لهن، إلا إذا لم يرض الزوج، ويريد غير من اتفقن عليها، فيصار إلى القرعة.

([91])   مسلم: 4/2130، البخاري: 2/955، البيهقي: 7/296، أبو داود: 2/243، النسائي: 5/295، أحمد: 6/195.

([92])   فتح الباري:9/312.

([93])   المدونة:2/189.

([94])   الأم:5/119.

([95])   أحكام القرآن لابن العربي:4/31.

([96])   وقد اختلفوا في هذا بين السفر الطويل والقصير، فقيل بعدم التفريق بينهما لعموم الخبر والمعنى، وهو قول الجمهور، وقيل بوجوب القضاء للبواقي في السفر القصير، لأنه في حكم الإقامة، وهو وجه لأصحاب الشافعي.

([97])   فتح الباري:9/312.

([98])   مصنف عبد الرزاق:7/152.

([99])   شرح النووي على مسلم:10/46.

([100])   انظر: القرطبي:14/217.

([101])   مسلم:2/1084، مسند أبي عوانة:3/134.

([102])   المحلى:9/218.

([103])   البخاري:4/1616، مسند إسحق بن راهويه:3/989.

([104])   طريقة القرعة عندهم هو أن يبدأ بمن خرجت قرعتها , فإذا مضت نوبتها أقرع بين الباقيات , ثم بين الأخريين , فإذا تمت النوبة راعى الترتيب ولا حاجة إلى إعادة القرعة , بخلاف ما إذا بدأ  بلا قرعة فإنه يقرع بين الباقيات , فإذا تمت النوبة أقرع للابتداء.

([105])   ذكره في المغني:7/234.

([106])   نيل الأوطار:6/371.

([107])   مسلم: 1/249، البخاري: 1/109، ابن حبان 4/8، ابن خزيمة: 1/115، مسند أبي عوانة: 1/236، الترمذي: 1/259.

([108])   وقد عقب ابن حجر على هذا التعليل بقوله:» وفي التعليل الذي ذكره نظر لانهن حرم عليهن التزويج بعده وعاش بعضهن بعده خمسين سنة فما دونها وزادت آخرهن موتا على ذلك« فتح الباري:9/316.

([109])   إلا أن الشافعية نصوا على أنه لا يقضي إذا جامع في النهار بخلاف الحنابلة، لأنه زمن يقضيه إذا طال المقام , فيقضيه إذا جامع فيه , كالليل.

([110])   أسباب فوات القسم متعددة سبق ذكر بعضها منها أن سافر الزوج بإحدى الزوجات فيفوت القسم لسائرهن، وقد يتزوج الرجل أثناء دورة القسم لزوجاته وقبل أن يوفي نوبات القسم المستحقة لهن , فيقطع الدورة ليختص الزوجة الجديدة بقسم النكاح , مما يترتب عليه فوات نوبة من لم يأت دورها فيجب القضاء لها.

([111])   بدائع الصنائع:4/23.

([112])   وذهب بعض المالكية، إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في هذه الدار إلا برضاهما، فإن أبين منه أو كرهته إحداهما فلا يصح الجمع بينهما.

([113])   الخرشي :4/5.

([114])   البحر الرائق:3/237.

([115])   المغني:7/229.

([116])   المغني:7/229.

([117])   كشاف القناع:5/197.

([118])   مسلم: 1/528، البخاري: 1/55، ابن خزيمة:1/66، البيهقي:2/477، أبو داود: 2/45، أحمد: 1/284.

([119])   شرح النووي على مسلم:10/47.