الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: أحكام العشرة الزوجية وآدابها

الناشر: دار الكتاب الحديث

 الفهرس

ثانيا ـ متطلبات القوامة الزوجية

1 ـ النظرة القرآنية للقوامة الزوجية

حق الرجل في القوامة وأسبابه

السبب الوهبي للقوامة:

الهيبة المعتدلة:

الغيرة الشرعية:

قوة الشخصية:

السبب الكسبي للقوامة

مواقف النساء من القوامة

موقف المرأة الصالحة:

القنوت:

الحفظ:

الزينة:

موقف غير الصالحة:

2 ـ طاعة المرأة لزوجها: حدودها وضوابطها

أولا: حكم طاعة المرأة لزوجها وضوابطها

1 ـ حكم طاعة المرأة لزوجها:

ثانيا: ضوابط الطاعة الزوجية

تقيدها بالحدود الشرعية

تقيدها بالاستطاعة

تقيدها بالمصلحة وعدم المضرة

ثالثا: ميادين طاعة المرأة لزوجها

التزام الأحكام الشرعية:

الالتزام الأخلاقي:

خدمة بيت الزوجية:

المعاشرة الجنسية:

3 ـ زينة الزوجة وضوابطها الشرعية

أولا: حكم تزين المرأة لزوجها

ضوابط زينة المرأة

الوشم:

النمص:

تفليج الأسنان ووشرها:

وصل الشعر:

حكم حلق المرأة شعرها من غير ضرورة:

ثانيا: تبرج المرأة لغير زوجها

تعريف التبرج:

حكم تبرج المرأة لغير زوجها:

مظاهر التبرج:

1 ـ إظهار العورة

حد العورة:

بالنسبة للمحارم:

بالنسبة للأجانب:

صور إظهار العورة:

الألبسة الشفافة:

الألبسة المجسمة:

ألبسة الرجال:

2 ـ الخلاعة والتكسر

3 ـ التزين المحرم

ثالثا ـ النظافة

الاغتسال:

حكم إجبار غير المسلمة على الاغتسال:

خصال الفطرة:

حق الرجل في إجبار زوجته على خصال الفطرة:

4 ـ مسؤولية الزوجة على بيت الزوجية

أولا ـ حكم ملازمة الزوجة بيت الزوجية

ما يترتب على رفض الزوجة الإقامة في بيت الزوجية :

ثانيا ـ صفات بيت الزوجية

1 ـ أن تكون بحسب حال الزوج:

2 ـ انفراد الزوجة بالسكنى:

الحالة الأولى: الجمع بين الزوجة ووالدي الزوج:

طلب الزوجة الانفراد بالسكن بعد قبولها بالسكن مع والديه:

الحالة الثانية: الجمع بين الزوجة وأهلها:

الحالة الثالثة:  الجمع بين الزوجة وولد الزوج من غيرها في مسكن واحد:

الحالة الرابعة: الجمع بين الزوجة وولدها من غير الزوج في مسكن واحد:

الحالة الخامسة: الجمع بين زوجتين في مسكن واحد لكل واحدة بيت فيه:

ثالثا: ضوابط خروج المرأة من بيت الزوجية

1 ـ الخروج للحاجة الضرورية

الخروج للحاجة الخاصة:

الخروج للمصلحة العامة:

الخروج للدعوة:

الخروج مع الجيش:

الخروج للعمل وضوابطه الشرعية:

دعاة العمل المطلق للمرأة وأدلتهم:

الرد على هذه الشبهات:

حكم عمل المرأة وشروطه:

الشرط الأول ـ أن يكون العمل مشروعا:

الشرط الثاني ـ تناسب عمل المرأة مع طبيعتها:

الشرط الثالث ـ تجنب الاختلاط بالرجال:

 

 

 

ثانيا ـ متطلبات القوامة الزوجية

نتناول في هذا الفصل ما تتطلبه قوامة الرجل على الزوجة من حقوق بعد تعرفنا على ما تتطلبه هذه القوامة على الزوج من واجبات في الأجزاء الماضية، وقد بدأنا هذا الفصل بمبحث عن النظرة القرآنية للقوامة الزوجية، لتصحيح بعض الأخطاء الناتجة عن سوء فهم للمراد من القوامة، والتي اتخذ منها في بعض الأحيان وسيلة للتسلط والاستبداد.

وقد حاولنا في هذا المبحث أن نحصر متطلبات القوامة انطلاقا من النصوص الشرعية، فرأينا انحصارها في ثلاثة متطلبات خصصنا كل متطلب منها بفصل خاص، وهي:

·      طاعة المرأة لزوجها: حدودها وضوابطها الشرعية، والميادين التي تجب فيها الطاعة.

·      زينة الزوجة، وضوابطها الشرعية.

·      مسؤولية الزوجة على بيت الزوجية.

ونرى أن هذه المتطلبات تجمع ما تفرق في كتب الفقه حول هذا الجانب، كما تصحح كثيرا من الأخطاء الواقعة حوله، وهي في نفس الوقت أكبر برهان على المدى الذي وصل إليه التشريع الإسلامي من تنظيم للحياة الزوجية مع المحافظة على خصوصيات كل طرف من الأطراف.

1 ـ النظرة القرآنية للقوامة الزوجية

اختلفت الفهوم في حقيقة القوامة[1] سواء كانت فهوم العامة من الناس أو الفقهاء، فصارت ـ في أحيان كثيرة ـ دليلا لكل تعسف في حق الزوجة، أو ظلم لها أو هضم لحقوقها، وقد سبق في الأجزاء الماضية الكثير من الأمثلة عن استدلالات بعض الفقهاء بحق الرجل في القوامة على أمور قد تتناقض مع المقاصد الشرعية ومصالح البيت المسلم.

وقد قال ابن حزم في الرد على من استدل بآية القوامة على حق الرجل في الحجر على تصرف المرأة في مالها:( صدق الله عز وجل , ولا يحل تحريف الكلم عن مواضعه , ولا أن نقول عليه عز وجل ما لم يقل , فهذا من أكبر الكبائر. وليس في هذه الآية ذكر لقيامه على شيء من مالها , ولا للحكم برأيه , ولا للتصرف فيه، وإنما فيها أنه قائم عليها يسكنها حيث يسكن ويمنعها من الخروج إلى غير الواجب , ويرحلها حيث يرحل)[2]

فلذلك نحتاج في تحديدها إلى الرجوع المباشر للقرآن الكريم وما تفصله بعد ذلك السنة النبوية المطهرة، ففيهما البيان الشافي لمعنى القوامة الشرعي، وما ينتج عنها من متطلبات، وما تنبني عليه من حقوق.

فالآية التي نصت على ذلك هي قوله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء:34)

ومن تحليلها العام نرى أنها نصت على جانبين من القوامة، أحدهما يتعلق بالرجل، وهو ثبوت هذا الحق له، وبيان أسباب وتكاليف هذا الحق.

والجانب الثاني هو مواقف النساء من هذا الحق، من الصالحات والناشزات وكيفية التعامل معهما، وواجب المرأة تجاه هذا الحق.

وسنحاول في هذا المبحث انطلاقا من الآية الكريمة تبين معنى القوامة من خلال هذين الجانبين، وذلك في المطلبين التاليين:

حق الرجل في القوامة وأسبابه

وقد نص على هذا الحق أو الواجب بقوله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾(النساء:34)، فهذا النص يقرر حق الرجل في القوامة على المرأة، أو حق المرأة في قوامة الرجل عليها.

لأن لفظ القوامة كما يعني معناه اللغوي والشرعي ليس حقا فقط، وإنما هو واجب تترتب عليه مسؤوليات كثيرة، فمن دقة التعبير القرآني اختيار هذا اللفظ بعينه دون غيره من الألفاظ التي تدل على التحكم والسلطة والسيادة، فلم يقل الله تعالى الرجال سادة على النساء أو حكام عليهن، وإنما قال:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ فلفظ[ قوام ]جاء على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشئ والإستبداد بالنظر فيه وحفظه بالإجتهاد،) فقيام  الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية)[3]

فالقوامة انطلاقا من هذا التعريف الذي ذكره القرطبي تعني الجمع بين مسؤوليتين:

مسؤولية التدبير ولإنفاق وتوفير الجو اللائق بالحياة الزوجية المستقرة، وهو مسؤولية للزوج نحو زوجته، بحيث لا يتم الركن الثاني من القوامة إلا بها.

المسؤولية على التزام الزوجة بحقوق الزوجية من الطاعة وحسن العشرة، وهو حق للزوج على زوجته بسبب قيامه بما عليه، وهو في نفس الوقت واجب شرعي عليه لا يصح أن يتخلى عنه.

وبهذا نرى أن القوامة ليست شرفا بقدر ما هي مسؤولية، وليست سيادة بقدر ما هي خدمة، وليست تسلطا بقدر ما هي نظر.

وقد اختلفت آراء المفسرين عند التعبير عن معناها، فتراوحت بين ذكر الأمرين جميعا أو الاقتصار على أحدهما، فالطبري مثلا يقول:( الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم([4]، وهو بهذا يغلب المعنى الثاني، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه -  :( قوامون أي مسلطون على تأديب النساء في الحق ([5]

وقد بالغ الألوسي في التأكيد على المعنى الثاني بقوله:( أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي، ونحو ذلك، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم([6]

ومثله قال البيضاوي: الرجال قوامون على النساء، يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية[7]، وقال ابن كثير في تفسير القوامة:(أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت) [8]

ويقول القرطبي في تعريف آخر مغلبا المعنى الأول:(ابتداء وخبر أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن([9]، وهو تعريف آخر لابن عباس - رضي الله عنه - قال:( القوام أمين عليها يتولى أمرها , ويصلحها في حالها (

وقد عللت الآية سبب مسؤولية الرجل أو حقه في القوامة في قوله تعالى:﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾، فقد علل النص الحكيم سبب استحقاق الرجل لهذه المسؤولية بأمرين: وهبي وكسبي، وسنتحدث هنا عن هذين السببين وما يتطلبانه من الرجل:

السبب الوهبي للقوامة:

وهو المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ (النساء:34)، فالباء للسببية أو للملابسة، وهي متعلقة بـ [ قوامون ]ويجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره، والمعنى:( قوامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل([10]

وننبه هنا قبل الخوض في أسباب التفضيل أن نشير إلى حقيقة هامة يدل عليها عدول التعبير القرآن عن ذكر الضمير، فلم يقل تعالى:(بما فضلهم الله عليهن)، وإنما قال:﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ (النساء:34)، وقد قال المفسرون في سبب ذلك العدول أقوالا مختلفة منها: إن الغاية من ذلك الإشعار بغاية ظهور الأمر، وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية،  وقيل  للإبهام للإشارة إلى أن بعض  النساء أفضل من كثير من الرجال، ونرى أن في مثل هذه التعاليل نوعا من التكلف والتأويل للنص القرآني، لأن النص واضح في أن بعضهم فضل على بعض، ولفظ البعض هنا يشمل الرجال والنساء في كلتا اللفظتين، أي أن الله تعالى فضل الرجال على النساء، وفضل النساء على الرجال، وقد يستغرب هذا التفسير، ولكن الغرابة تزول إذا علمنا بمتعلق التفضيل، فالرجل مفضل على المرأة فيما يتعلق بخصائصه التي ينفرد بها عنها، والمرأة مفضلة في نفس الوقت عليه فيما يتعلق بجانبها.

ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - عندما أبصر امرأة معها صبيتان قد حملت إحداهما وهي تقود الأخرى:( والدات حاملات رحيمات، لولا ما يأتين إلى أزواجهن لدخل مصلياتهن الجنة ([11]، فقد ذكر في هذا الحديث فضل النساء بالحمل والرحمة.

فالفضل هو الزيادة، فالرجل يزيد على المرأة في أمور، وينقص عنها في أمور أخرى، وهو ما أشارت، بل ما صرحت به الآية الكريمة، فلذلك من الخطأ الاستدلال بالآية على فضل الرجال على النساء، لأنه يتناقض مع النظرة القرآنية لجنس الرجال والنساء.

وهذا يستدعي التساؤل عن أوجه تفضيل الرجل على المرأة، والتي تقتضيها القوامة الزوجية، وقد ذكر المفسرون في ذلك أقوالا كثيرة بعضها يؤيدها الشرع والعقل، وبعضها مجرد وهم، فقد قيل مثلا عند ذكر أوجه تفضيل الرجل على المرأة: أن الرجل فضل عليها باللحية، فقد نقل القرطبي عن حميد هذا القول ورد عليه بقوله:(وليس بشئ فإن اللحية قد تكون وليس معها شئ مما ذكرنا)[12]، وقال ابن العربي :( فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى)

ولعل أجمع الأقوال قول البيضاوي:( بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق)[13]

وهذه الصفات جميعا تحتاج إلى الرجولة بمعناها الجبلي الذي نص عليه القرآن الكريم، أما الرجولة المخنثة، فلا يليق بها من التكاليف ما يليق بالرجال.

ولهذا، فإن هذا الجانب، وإن كان جبلة وفطرة لا يحتاج إلى تكلف تكليف، لكنه مع ذلك قد يضعف في بعض الناس فيحتاج إلى أن يكلف به.

وننبه هنا كذلك إلى أن القرآن الكريم عبر عند ذلك الفضل هنا أو في سورة البقرة في قوله تعالى:﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ البقرة:228، باختيار لفظ ﴿ الرجال ﴾ على لفظ الذكور، لأن لفظ الرجولة له معان خاصة تختلف عن معاني الذكورة المجردة، فلذلك كانت أكثر الاختيارات القرآنية في التعبير عن القوة الشهامة والصدق والأنفة هي في اختيار لفظ الرجل، ولا بأس أن نذكر هنا بعض الشواهد عن ذلك لأهميتها في تحديد معنى الرجولة من جهة، ولاستنباط التكاليف المتعلقة بذلك من ناحية ثانية، ولتفادي الكثير من الخلافات الزوجية من جهة ثالثة لأن أكثرها بسبب عدم تقيد الرجل برجولته.

فالآية الكريمة التي نهت عن تمني كل جنس ما للجنس الآخر عبرت بهذا اللفظ للرجال، وعبرت بلفظ النساء للنساء بدل الإناث، قال تعالى:﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (النساء:32)

ومن خصائص الرجولة في القرآن الكريم الشجاعة وعدم الخوف، واللامبالاة بحظوظ النفس عند نداء الواجب، قال تعالى:﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين﴾َ(المائدة:23).

وقال عن بذل الوسع للوصول إلى موضع الحاجة استجابة لنداء الشهامة والإيمان دون النظر إلى العقبات: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ﴾(القصص:20)، ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين﴾َ(يس:20)

وقال عن الشجاعة التي تدعو إلى قول الحق وفعله دون خوف من العواقب: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ﴾ (غافر:28) ﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾(الأحزاب:23)،

وقال عن الرجولة التي تعني الجد والوقار وعدم الانصراف الكلي للهو واللعب: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾(النور:37)

وقال عن الرجولة التي تهتم بالمظهر كما تهتم بالمخبر:﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾(التوبة:108)

وغير ذلك من الأمثلة القرآنية التي يمكن من خلال جمع ما تعلق بها في القرآن الكريم استخلاص خصائص الرجولة ومقتضياتها، ولا يمكن أن نفعل ذلك هنا، ولكن سنذكر بعض ما تقتضيه قوامة الرجل من خصائص الرجولة:

الهيبة المعتدلة:

ونريد بها أن يكون في الرجل ما يجلب احترام أهله له، وهو ما تقتضيه رجولته من الصدق والوفاء والشهامة، وهذه الهيبة لا تعني التجبر والتسلط، وإنما تعني الاحترام المتبادل بين الرجل وزوجته، وهي لا تتناقض كذلك مع المباسطة التي سنتحدث عنها في الفصل القادم إن شاء الله، وإنما هي حصن للمباسطة حتى لا تنقلب إلى الاستهانة والاحتقار، ولهذا نص العلماء في بيان علاقة الرجل بالمرأة على أن على الزوج أن لا يبالغ في الدعابة والموافقة إلى درجة اتباع هواها إلى حد يفسد خلقها ويسقط بالكلية هيبته عندها، (بل يراعي الاعتدال فيه فلا يدع الهيبة والانقباض مهما رأى منكراً، ولا يفتح باب المساعدة على المنكرات البتة، بل مهما رأى ما يخالف الشرع والمروءة تنمر وامتعض) [14].

وهذا ما يفسره فهم السلف الصالح فقد قال الحسن: والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبَّه الله في النار. وقال عمر - رضي الله عنه - : (خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة)، وإنما أراد خلافهن فيما لا حق فيه، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة.  

قال الغزالي:(ونفس المرأة على مثال نفسك: إن أرسلت عنانها قليلاً جمحت بك طويلاً، وإن أرخيت عذارها فتراً جذبتك ذراعاً، وإن كبحتها وشدّدت يدك عليها في محل الشدّة ملكتها) [15]

والسبب الأكبر لسقوط هيبة الزوج وحرمته هو المبالغة في المداعبة، وقد عبرت امرأة من العرب، وهي تعلم ابنتها كيفية اختبار الزوج عن أثر المبالغة في المداعبة في سقوط الهيبة والاحترام بين الزوجين بقولها: (اختبري زوجك قبل الإقدام والجرأة عليه انزعي زج رمحه، فإن سكت فقطعي اللحم على ترسه، فإن سكت فكسِّري العظام بسيفه، فإن سكت فاجعلي الإكاف على ظهره وامتطيه فإنما هو حمارك.)

والسبب الأكبر منه هو عدم مراعاة حدود الشريعة في التعامل، وعدم العدل (فبالعدل قامت السماوات والأرض، فكل ما جاوز حدّه انعكس على ضدِّه، فينبغي أن تسلك سبـيل الاقتصاد في المخالفة والموافقة وتتبع الحق في جميع ذلك لتسلم من شرهن، ولا يعتدل ذلك منهن إلا بنوع لطف ممزوج بسياسة) [16].

ولذلك فإن الطريق الصحيح لتوفر الهيبة والاحترام بين الزوجين هو مراعاة الحدود الشرعية مع معرفة كل طرف لنفسية صاحبه، يقول الغزالي :(فإذن فيهن شر وفيهن ضعف، فالسياسة والخشونة علاج الشر، والمطايبة والرحمة علاج الضعف، فالطبـيب الحاذق هو الذي يقدر العلاج بقدر الداء، فلينظر الرجل أولاً إلى أخلاقها بالتجربة ثم ليعاملها بما يصلحها كما يقتضيها حالها) [17]

الغيرة الشرعية:

وهي تدل على شدة حرص الرجل على ما وكل به من أمر زوجته وأهله، وقد وردت النصوص الكثيرة تبين فضل غيرة الرجل على أهله، وتبين في نفس الوقت خطورة موت القلب والدياثة التي تجعل الرجل لا يبالي بعرضه.

وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الغيرة الشرعية دليل كمال على رجولة الرجل، بل على إيمان المؤمن، بل اعتبر المؤمن متخلقا بالتخلق بهذا بوصف من أوصاف الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - :(المؤمن يغار والله يغار ومن غيرة الله أن يأتي المؤمن شيئا حرم الله) [18].

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه وهو الأسوة الحسنة، والإنسان الكامل وخير أنموذج عن الرجولة الكاملة عندما قال له سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقال:(أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني) [19]

وقد أخبرت عائشة، رضي الله عنها، عن مظهر من مظاهر غيرته - صلى الله عليه وسلم - فحدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  دخل عليها وعندها رجل، فتغير وجهه، وكأنه كره ذلك فقلت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن ما إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة[20].

ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يعذر أصحابه إن تصرفوا تصرفا شرعيا دعت إليه الغيرة، بل يلتمس لهم الحلول لذلك، فقد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فقالت: يا رسول الله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه، قالت :إنه لذو لحية فقال أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة، قالت: والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة بعد[21].

بل كان - صلى الله عليه وسلم - فوق ذلك، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تتطرق إليه تهمة، يراعي غيرة أصحابه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -   قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرا فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله[22].

وفي مقابل ذلك أخبر عن حرمان الديوث من نظر الله تعالى إليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -:( ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى([23]

ولكن هذه الغيرة لا ينبغي أن تشتط فتخرج إلى الحرام، بل يجب أن تنضبط كما تنضبط جميع سلوكات المسلم بالضوابط الشرعية، وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - تلك الضوابط في قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل ،فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل) [24]

وقد ذكرنا في هذا الفصل لضوابط الغيرة الشرعية الكثير من الأمثلة والمسائل التي تحد بها تصرفات الزوج الذي قد تحتد به الغيرة، فيخرج بها عن إطار الشرع.

وفي نفس الوقت الذي طولب فيه الرجل بالغيرة أجاز الشرع للمرأة أن تغير على زوجها، لأن ذلك علامة المودة بينهما حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة [25]، ومن الأدلة النصية على ذلك:

عن عائشة - رضي الله عنه -  قالت: ما غرت على أحد من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -  ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لها، وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن[26].

وعن عائشة - رضي الله عنه -  قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك، فقال: اللهم هالة بنت خويلد , فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين[27] هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها[28].

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إذا خرج أقرع بين نسائه , فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجنا معه جميعا , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين , وأنظر قلت: بلى فركبت حفصة على بعير عائشة وركبت عائشة على بعير حفصة فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم , ثم سار معها حتى نزلوا , فافتقدته عائشة فغارت فلما نزلت جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني , رسولك ولا أستطيع أقول له شيئا[29].

وكان - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه فأهدى بعضهن إليه طعاما فضربت يد الخادم , فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع الطعام ويقول: غارت أمكم، ثم أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى التي كسرت صحفتها , وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها) [30] وفي رواية: (أخذتني رعدة من شدة الغيرة , فكسرت الإناء , ثم ندمت فقلت يا رسول الله: ما كفارة ما صنعت ؟ فقال: إناء مثل إناء , وطعام مثل طعام)

قوة الشخصية:

ونعني بها عدم الانصياع الكلي لرغبات الزوجة بحيث تذوب شخصيته في مطالبها، والحد في ذلك مراعاة الشرع، قال ابن تيمية:( فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله , ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره , فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله , ومن أغضب أهله لله أرضاه الله , وأرضاهم. فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك([31]

ثم أورد النصوص والأدلة الكثيرة على ذلك، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - :( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ([32]، وهي فتنة حقيقية ويزيد في قوتها ضعف الرجل أمام المرأة، وهو الضعف الذي يتنافى مع الرجولة كما ذكرنا.

بل نص الحديث على أن هذا الانحراف في علاقة الرجال بالنساء لا يقضي على الأسرة وحدها، بل يقضي على الأمم والأقوام، فقال - صلى الله عليه وسلم - :( لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ([33]وقال - صلى الله عليه وسلم -) هلكت الرجال حين أطاعت النساء ([34]، ولهذا لم يلتفت - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المومنين لما راجعنه في تقديم  أبي بكر - رضي الله عنه - ، بل قال: (إنكن صواحب يوسف)[35]

السبب الكسبي للقوامة

وهو المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء:34)، فالرجل هو المكلف بالإنفاق على المرأة، فهو المكلف بالمهر والنفقة، وكل ما يحتاجه بيت الزوجية من خدمات، فهو بذلك يغني المرأة عن تكلف المشاق التي قد تحوجها للخروج والتصرف كالرجل.

والقوامة بهذا المعنى ليست خاصة بالمرأة، بل هي قاعدة شرعية منضبطة، قال الشاطبي:( كل من لم يكلف بمصالح نفسه، فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر، فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه، والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده، فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته، فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾(النساء:34)الآية([36]

ولهذا فهم العلماء من قوله تعالى:﴿ وبما أنفقوا من أموالهم﴾ أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح، واعتبروا هذا دليلا واضحا على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة[37].

وقد فصلنا أحكام هذا السبب في الفصلين الخاصين بالحقوق المادية للزوجة.

مواقف النساء من القوامة

 

وقد  نص عليها في قوله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء:34)، وهي تبين موقفين من القوامة، وتبين كيفية التعامل معهما، وسنحاول من خلالهما التعرف على ما تقتضيه القوامة الزوجية من متطلبات:

موقف المرأة الصالحة:

وهو المنصوص عليه في قوله تعالى:﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾(النساء:34) فقد نص هذا الجزء من الآية على خصلتين للمرأة الصالحة، وردتا بصيغة الخبر ومقصودهما الإنشاء والطلب، قال القرطبي:( فالصالحات قانتات حافظات للغيب، هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج، والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج([38]

وقد فسر - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفات بقوله - صلى الله عليه وسلم - :( خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك([39]، وتلا هذه الآية: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾(النساء:34) إلى آخر الآية، وسنشرح باختصار هنا هذه المعاني مرجئين تفاصيلها إلى مباحث هذا الفصل:

القنوت:

هو الطاعة، والأصل في إطلاقه هو الطاعة لله تعالى، والتعبير به هنا يحمل دلالة على أن المرأة تطيع الله في زوجها، ولا تطيع زوجها لذاته، فلذلك تحمل طاعتها لزوجه معنى العبودية المقيدة بالأحكام الشرعية، وهو ما فسر به العلماء معنى القنوت في هذه الآية، قال أبو السعود:( أي مطيعات لله تعالى قائمات بحقوق الأزواج)[40]،وقال الشوكاني:( أي مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن)[41]

وقد خصصنا لطاعة المرأة لزوجها وضوابطها وميادينها مبحثا خاصا في هذا الفصل لكثرة الفهوم الخاطئة في ذلك، والناشئة إما من سوء الفهم لمعنى الطاعة الزوجية، وإما من أحاديث ضعيفة وموضوعة تتداول وكأنها نصوص قطعية.

الحفظ:

وهو أن تحفظ زوجها في بيته وشرفه وماله، قال النسفي:( حافظات للغيب: لموجب الغيب، وهو خلاف الشهادة، أي إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه فى حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال ([42]

وهو ما فسره به قوله - صلى الله عليه وسلم - :( وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك (، وقوله لعمر :( ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته([43]

وقد خصصنا لهذا المتطلب من متطلبات القوامة مبحثا خاصا هو) مسؤولية الزوجة على بيت الزوجية)

الزينة:

وهو ما أشار إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير آية القوامة بقوله:(خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك(، وهو ما تشير الآية الكريمة في التعبير بلفظ القانتات، لأنه يحمل معنى الطاعة التي لا تكون عن إكراه، وإنما عن محبة، فالمرأة الصالحة لا تطيع زوجها لأنه أمرها، وإنما للعلاقة الروحية التي تربطهما، وهي بذلك تقتضي حسن التبعل لزوجها، والتزين له، وقد ذكرنا وجه العلاقة بين المحبة والزينة في الفصل الخاص بالعشرة الزوجية وأسسها الأخلاقية.

وقد خصصنا لضوابط الزينة الشرعية للمرأة مبحثا خاصا في هذا الفصل هو (زينة الزوجة وضوابطها الشرعية)

موقف غير الصالحة:

في مقابل المرأة الصالحة ذكر الله تعالى من شذ من النساء عن هذه القاعدة وبين كيفية التعامل معهن، وهو قوله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء:34)، وقد روي أن هذه الآية نزلت لهذا السبب، فقد روي أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصاري نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فشكى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لتقتص منه فنزلت فقال - صلى الله عليه وسلم - :( أردنا أمرا، وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير([44]

والنشوز هو العصيان، وهو مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض يقال:  نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما،فالمرأة الناشز هي المرأة المترفعة المتعالية على زوجها، فلذلك تأنف نفسها أن تخضع له أو تطيعه، فلذلك كلف زوجها في هذه الحالة أن يعاملها بالتدريج بحسب نوع نشوزها، وهو ما سنوضحه إن شاء الله في الفصل الخاص بالعلاج الشرعي للخلافات الزوجية.

 

2 ـ طاعة المرأة لزوجها: حدودها وضوابطها

أولا: حكم طاعة المرأة لزوجها وضوابطها

1 ـ حكم طاعة المرأة لزوجها:

اتفق الفقهاء على أن طاعة المرأة لزوجها واجبة ضمن الضوابط الشرعية التي سنذكرها، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ (النساء:34)، قال القرطبي: قيام الرجال على النساء هو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها , وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز, وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية.

·  عن أبي هريرة قال قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أي النساء خير قال التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره([45]

·  عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -  قال:( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب)[46]

·  عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)

ثانيا: ضوابط الطاعة الزوجية

من خلال النظر العام إلى واقع المجتمعات الإسلامية نرى أن السبب في معظم المشاكل باختلاف أنواعها يرجع إلى سوء استخدام السلطة، وهذا ليس متعلقا بالحكم والسياسة وحدها، بل يعم كل شيء ابتداء من اللبنة الأولى في المجتمع لبنة الأسرة، فقد يتسلط الرجل على أهل بيته أكثر من تسلط فرعون على قومه، وقد ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:( إن الرجل ليدرك بالحلم درجة، وإن الرجل ليكتب جبارا وما يملك إلا أهل بيته)[47]

فلذلك عالج الشرع هذه الناحية، فلم يطلق الأمر بوجوب طاعة المرأة لزوجها بل قيده بضوابط كثيرة يجمعها ما يلي:

تقيدها بالحدود الشرعية

وهو أهم الضوابط، وقد يكتفى به لمن يعرف الحدود الشرعية، لأن المرأة كما ذكرنا في المبحث السابق إنما تطيع زوجها في الله، فإذا تعارضت طاعة الله تعالى مع طاعة زوجها قدمت طاعة الله تعالى وقد دلت على هذا الشرط النصوص الكثيرة، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - :(السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) [48]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( لا طاعة لبشر في معصية الله ([49]

وقد ورد بجنب هذه النصوص العامة بعض النصوص الخاصة بالعلاقة الزوجية، ومنها ماروت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أنكحت ابنتي، ثم أصابها شكوى فتمرق رأسها وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها، فسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة[50].

فكل هذه النصوص عامها وخاصها تحدد القيد الشرعي للطاعة، فلا تخرج عن طاعة الله تعالى، بل إن المرأة بتقديمها طاعة زوجها على طاعة الله تعالى تكون قد أشركت زوجها مع الله تعالى  فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم -  كيفية اتخاذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، وذلك فيما روي عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -  أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في سورة براءة ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(التوبة:31)، فقال:( أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم , ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ,  وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه [51] (، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - :(لم يأمروهم أن يسجدوا لهم , ولكن أمروهم بمعصية الله فأطاعوهم , فسماهم الله بذلك أربابا(, وقال الحسن:(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا في الطاعة)

ومثل طاعة الله تعالى طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد تضافرت الأدلة وتواترت على وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُون﴾(الأنفال:20) وقال تعالى:﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(آل عمران:132) وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(النور:54)، وقال:﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(النساء:13)، وقال تعالى:﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾(النساء:69)، وقال تعالى:﴿ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(النساء:80)، فجعل الله تعالى طاعة رسوله طاعته , وقرن طاعته بطاعته، وطاعة الرسول هي التزام سنته والتسليم لما جاء به  وما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليهم , فقد حكى الله عن الكفار في دركات جهنم: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُول﴾(الأحزاب:66)فتمنوا طاعته حيث لا ينفعهم التمني، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله) [52]، وقال - صلى الله عليه وسلم -:( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به , كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم , إني رأيت الجيش بعيني , وإني أنا النذير العريان فالنجاء , فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا , فانطلقوا على مهلهم  فنجوا , وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم , فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم , فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به, ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ([53]

بل ورد في النصوص ما يدل على نفي الإيمان لمجرد وجود الحرج من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى :﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(النساء:65)، قال الجصاص في تفسير الآية:( فيها دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من الإسلام , سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم , وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة - رضي الله عنهم -  في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة , وقتلهم وسبي ذراريهم , لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان ([54]

فإذا تحققت في الأوامر الزوجية طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تكون الزوجة قد أطاعت الله قبل طاعتها لزوجها، وذلك ليس خاصا بالمرأة مع زوجها، بل كل من أنزل في الشرع منزلة يجب طاعته وفق هذا الضابط الشرعي، قد جمع - صلى الله عليه وسلم - بين الأمر بالسمع والطاعة وإنزال كل شخص ما أنزله الله تعالى وفي نفس الوقت أمر بقول الحق وعدم الخوف في الله لومة لائم، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -  قال:(بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم([55]

ولهذا لا يصح ما يتناقله العامة، ويردده الخطباء، ويستشهد به الفقهاء، ويستشرف له كل من يحارب هذا الدين من أن رجلا انطلق غازيا وأوصى امرأته: أن لا تنزل من فوق البيت , وكان والدها في أسفل البيت , فاشتكى أبوها , فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخبره وتستأمره فأرسل إليها: اتقي الله وأطيعي زوجك، ثم إن والدها توفي فأرسلت إليه - صلى الله عليه وسلم -  تستأمره , فأرسل إليها مثل ذلك , وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل إليها: إن الله قد غفر لك بطواعيتك لزوجك[56].

فإن هذا الحديث يتناقض مع الأوامر القرآنية والنبوية الكثيرة التي تحض على صلة الرحم ورعاية الوالدين والإحسان إليهما، فكيف ترفض كل تلك النصوص القطعية لأجل حديث موضوع.

تقيدها بالاستطاعة

اتفق الفقهاء على أن الاستطاعة شرط في كل التكاليف سواء كانت من الشارع أو ممن أمر الشارع بطاعته، فلا يجوز التكليف بما لا يستطاع عادة , وقد دل على ذلك كثير من النصوص القرآنية والنبوية، ومنها:

قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾(البقرة:286)، وقال تعالى:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾(الطلاق:7)، وقال تعالى:﴿ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾(البقرة:233)

قوله - صلى الله عليه وسلم - :( إخوانكم خولكم, جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده  فليطعمه مما يأكل, وليلبسه مما يلبس, ولا تكلفوهم ما يغلبهم , فإن كلفتموهم فأعينوهم) [57]

عن جرير- رضي الله عنه -  قال: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، فلقنني)فيما استطعت والنصح لكل مسلم([58]

عن أميمة بنت رقيقة، رضي الله عنها، أنها قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف قال: فيما استطعتن وأطقتن قالت: قلنا: الله ورسوله أرحم بنا، هلم نبايعك يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة[59].

وهذا القيد قيد ابتداء ودوام، فلذلك إذا صدر التكليف من الزوج حين الاستطاعة , ثم فقدت الزوجة هذه الاستطاعة حين الأداء , أوقف هذا التكليف إلى حين الاستطاعة، وهي قاعدة شرعية منضبطة مع كل التكاليف فقد كلف الله تعالى مثلا من أراد الصلاة بالوضوء , فإن لم يستطعه سقط عنه الوضوء , وصير إلى البدل , وهو التيمم، وكلف الحانث في يمينه بكفارة الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق , فإن لم يستطع واحدا منها حين الأداء سقطت عنه وصير إلى البدل , وهو الصيام، وكلف المسلم بالحج , فإن لم يستطعه حين الأداء لمرض , أو فقد نفقة , أو غير ذلك , سقط هذا التكليف إلى حين الاستطاعة.

وهكذا القول في تكاليف الزوج لزوجته، فإن طاقتها شرط لأدائها، أما قوله - صلى الله عليه وسلم - :( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان نولها أن تفعل) [60]، فقد ذكرنا سابقا ما قيل في الحديث من جهة الثبوت، ومن جهة المعنى فإن هذا ورد من باب المبالغة لا من باب الحقيقة، ثم إن الإجماع على أن الرجل لو أمر زوجته بذلك لا تجب عليها طاعته فيه، بل إن جماهير الفقهاء اتفقوا على ما هو أدنى من ذلك وأقل كلفة، وهو لو أنه كلفها بطبخ الخبز الذي تشترك معه في أكله لم تجب عليها طاعته فيه، بل يجب عليه أن يحضر لها الطعام جاهزا لأكله.

تقيدها بالمصلحة وعدم المضرة

فالمصلحة الشرعية وانتفاء المضرة من أهم الضوابط التي تحكم كل التكاليف الشرعية، فلا يصح أن تكلف الزوجة بما لا معنى له، أو أن تكلف بما فيه مضرتها، وقد ورد في الحديث التصريح بهذا المعنى، فقد روي عن علي - رضي الله عنه -  قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -  سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني قالوا: بلى قال: فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال: أوقدوا نارا فأوقدوها فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون فررنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقال:(لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف) [61]

فهذا الأمير أمر أصحابه بما يجلب المضرة لهم، وينفي مصالحهم، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بمعصيته في ذلك، بل أخبر أنهم لو أطاعوه فدخلوا النار ما خرجوا منها.

ويدل على هذا القاعدة الشرعية التي نص عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -:( لا ضرر ولا ضرار([62]،وهذا الحديث يشمل كل أنواع الضرر، لأن النكرة في سياق النفي تعم , وفيه حذف أصله لا لحوق أو إلحاق , أو لا فعل ضرر أو ضرار بأحد في ديننا: أي لا يجوز شرعا إلا لموجب خاص، وهذا الحديث أصل من الأصول التي ينبني عليها الفقه الإسلامي، وقد روي عن أبي داود أنه قال:( الفقه يدور على خمسة أحاديث: الحلال بين والحرام بين، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:   لا ضرر ولا ضرار، وقوله- صلى الله عليه وسلم - :إنما الأعمال بالنيات، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: الدين النصيحة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم([63]

وهذه قاعدة مقررة في الشريعة، وهي وجوب دفع الضرر بترك الواجب إذا تعين طريقا لدفع الضرر كالفطر في رمضان، أو فعل المحرم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف , وتساغ الغصة بشرب الخمر كذلك , وذلك كله لتعين الواجب أو المحرم طريقا لدفع الضرر.

وقد شهدت على اعتبار هذا الضابط النصوص الشرعية الكثيرة، ومما يتعلق منها بالحياة الزوجية قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾(البقرة:231)، يقول الطبري في تفسير هذه الآية: ولا تراجعوهن إن راجعتموهن في عددهن مضارة لهن لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن , أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم لمضارتكم إياهن , بإمساككم إياهن ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء[64]. وبهذا تبين أن الله سبحانه وتعالى نهى الأزواج أن يمسكوا زوجاتهم بقصد إضرارهن بتطويل العدة , أو أخذ بعض مالهن , والنهي يفيد التحريم فتكون الرجعة محرمة في هذه الحالة.

ومنها الإضرار في الرضاع، وقد نص عليه قوله تعالى: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك ﴾(البقرة:233)، أي إن رغبت الأم في إرضاع ولدها أجيبت وجوبا سواء كانت مطلقة أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء , لأن المنع من إرضاع ولدها مضارة لها. وقيل: إن كانت الأم في حبال الزوج فله منعها من إرضاع ولدها إلا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها , ولكن إنما يجوز له ذلك إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع , لا مجرد إدخال الضرر عليها , ويلزم الأب إجابة طلب المطلقة في إرضاع ولدها ما لم تطلب زيادة على أجرة مثلها , أما إن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كبيرة , ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت , لأنها تقصد المضارة.

ثالثا: ميادين طاعة المرأة لزوجها

لم تكتف الشريعة بالضوابط السابقة التي تحد بها سلطة الزوج على زوجته، وإنما أضافت إليها تحديد الميادين التي يمكن للزوج أن يفرض فيها حق قوامته على زوجته، ويمكن تلخيص تلك الميادين وأقوال الفقهاء فيها في الميادين التالية:

التزام الأحكام الشرعية:

وهو أول واجبات الزوج نحو زوجته، وأول حقوق الزوجة على زوجها، لأن مسؤولية الزوجة كما نص عليها في القرآن الكريم لا تعلق على دنياه فحسب بل تمتد إلى آخرته، فكما يسأل الرجل عن نفقة زوجته وحقوقها المادية والمعنوية يسأل أيضا عن الوسائل التي استعملها لوقايتها من النار،وقد قال تعالى مبينا هذه المسؤولية المناطة بالرجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾(التحريم:6) قال الألوسي:(وقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب)، وقد روي عن علي - رضي الله عنه -  أنه قال في الآية:( علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم)

وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض، وقد سبق ذكر ذلك في الحقوق المعنوية للزوجة.

وقد ذكر تعالى أن دعوة الأهل وإلزامهم الطاعة سنة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال تعالى عن إبراهيم ويعقوب ـ عليهما السلام ـ:﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾َ(البقرة:132)

وأخبر عن لقمان u أنه قال لابنه: ﴿ يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور﴾ِ(التحريم:17)

وأخبر عن إسماعيل u أن كان ﴿ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾(مريم:55)

وهو نفس الأمر الذي وجه إليه - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى:﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾(طه:132)، وقد فهم الصالحون من هذه الآية والربط بينها وبين الرزق اعتبار الصلاة بابا من أبواب الرزق قال ابن عطاء الله:( اعلم أن هذه الآية علمت أهل الفهم عن الله تعالى كيف يطلبون رزقهم، فإذا توقفت عليهم أسباب المعيشة أكثروا من الخدمة والموافقة، وقرعوا باب الرزق بمعاملة الرزاق جل وعـلا([65].

قد دلت على هذا المعنى الروايات الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح - رضي الله عنهم - ، فقد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا[66]، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم  بالصلاة، وقرأ ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ﴾[67] 

ولهذا كان أهم ما يجب على الزوج أن يلزم زوجته في هذه الناحية الصلاة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتر يقول:( قومي، فأوتري يا عائشة(، وبين - صلى الله عليه وسلم - كيف يتحد الزوجان الصالحان على هذا فقال:( رحم الله امرأ قام من الليل فصلى، فأيقظ أهله، فإن لم تقم رش وجهها بالماء، رحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها، فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء)

بل قد ذهب الفقهاء إلى ما هو أشد من ذلك، قال ابن تيمية:( يجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة، فإن لم تصل وجب عليه فراقها في الصحيح) [68]، وقد ذكر أنه إذا دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء،) فإن كان عاجزا عن طلاقها لثقل مهرها كان مسيئا بتزوجه بمن لا تصلي، وعلى هذا الوجه فيتوب إلى الله تعالى من ذلك وينوي أنه إذا قدر على أكثر من ذلك فعله)[69]

ولكن هذا الحل النهائي الذي تنفصم به عرى الأسرة المسلمة لا يكون إلا بعد استعمال كل الحلول الأخرى، وقد أشار إلى ذلك بأسف وتحسر الفقيه المصلح ابن الحاج، فقال:(وليحذر من هذه البدعة الأخرى بل المحرم , وهو أن الرجل يغفل عن زوجته في الغالب , ولا يسألها عن صلاتها , ولا عما يلزمها في الشرع , وذلك محرم لقوله - صلى الله عليه وسلم - :( والرجل راع في بيته , وهو مسئول عن رعيته(, فهو مسئول عن صلاتها, والغالب في هذا الزمان: أن الرجل يراعي حق نفسه إذا كانت له عناية بدينه فيطأ , ويخرج إلى الحمام , ويترك أهله , وهن جنب , وليس عندهن موضع للغسل , ولا آلة تعين عليه , وقد يستحي بعضهن , وهو  الغالب أن يخرجن إلى الحمام في كل أوان , فكان ذلك سببا لترك الصلاة , وهو يعتقد أنه بريء الذمة من جهة أهله في تركهن الصلاة , وليس الأمر كذلك([70]

ويبين ابن الحاج وجوب التماس الزوج كل الوسائل التي تسهل على زوجته المحافظة على أداء الصلاة، فقال متأسفا على واقعه الذي لا يختلف كثيرا عن واقعنا :( وإن أمرهن بها فأمر مطلق إذ لا يفكر لهن في تحصيل الغسل من غير مضرة تلحقهن , والغالب أن ترك صلاة الزوجة إنما هو من جهته لا من جهتها , وقد يجتمعان في الغالب أعني الغفلة عنها , وإيثارها لترك الصلاة , وقد يكون لها في البيت ما يمكنها الغسل فيه لكن تستحي من العائلة التي في البيت أن تغتسل , وهم يشعرون بها فتترك الصلاة لأجل ذلك , وهذا كله من المحرمات المتفق عليها , ولا حياء في الدين , وإنما هي عوائد جرت , واستحكمت , وصار يستحى في الغالب من فعل الواجبات , ولا يستحى من فعل المحرمات , عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه)[71]

الالتزام الأخلاقي:

ونقصد به الحفاظ على ما أوجبه الشرع للزوج من حفظ حرمته وعدم هتك عرضه، والتعامل في ذلك وفق ما أوجبه الشرع عليها، فهو حق شرعي من جهة لأنها مطالبة به قبل الزواج، وبعده، وهو حق للزوج، لأن الشرع جعلها بعد الزواج خالصة له، فتصرفها المؤثر في عرضه ذنب متعد، فهي بمعصيتها خالفت الشرع وآذت زوجها، والذنب المتعدي أعظم إثما من الذنب القاصر، وسنرى تفاصيل هذه السلوكيات التي قد تسيء للزوج في محلها من هذا الفصل.

خدمة بيت الزوجية:

اختلف الفقهاء في  اعتبار خدمة المرأة بيت الزوجية ميدانا من ميادين طاعتها لزوجها على قولين :

القول الأول: على المرأة أن تخدم زوجها في كل شيء , وهو قول أبي ثور، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾(النساء:34) وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم فهي القوامة عليه.

·  عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  قال: شكت فاطمة مجل يديها[72] من الطحين , وأنه أعلم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إذ سأله خادما) [73]

·  عن أسماء بنت أبي بكر  قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأكفيه مئونته وأسوسه وأدق النوى لناضحه أعلب وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق،وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ، قالت: فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ومعه نفر من أصحابه فدعاني ثم قال إخ إخ ليحملني خلفه، قالت: فاستحيت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان أغير الناس فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أني قد استحيت فمضى، وجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه فاستحيت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى أشد علي من ركوبك معه، قالت حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني[74].

·  أن اعتبار خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعا وإحسانا يرده أن فاطمة، رضي الله عنها، كانت تلقى من الخدمة التعب والمشقة، فلم يقل لعلي لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يحابي في الحكم أحدا، ولما رأى - صلى الله عليه وسلم - أسماء والعلف على رأسها والزبير معه لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام نسائهن، مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية.

·      أن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه.

·  أن المهر ليس في مقابلة البضع، لأن كلا من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج.

·      أن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بالمصالح الداخلية.

·  أنه لا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية، فهذه أشرف العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته تشكو إليه الخدمة فلم يشكها.

·  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى في الحديث الصحيح المرأة عانية فقال:( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم) [75]  ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده.

·  أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف:( النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته(

القول الثاني: لا يجب على المرأة أن تخدم زوجها ولا بيت الزوجية، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول ابن حزم الذي عبر عن ذلك بقوله :(لا يلزم المرأة أن تخدم زوجها في شيء أصلا , لا في عجن , ولا طبخ , ولا فرش, ولا كنس , ولا غزل , ولا نسج, ولا غير ذلك أصلا - ولو أنها فعلت لكان أفضل لها وعلى الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة , وبالطعام مطبوخا تاما) [76] ،ومن الأدلة على ذلك:

·  قال تعالى:﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(النساء:34) فبين أنها الطاعة إذا دعاها للجماع فقط دون خدمته.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم -  أن لهن علينا رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وهو يدل على أن على الزوج أن يأتيها برزقها ممكنا لها أكله , والكسوة ممكنا لها لباسها , لأن ما لا يوصل إلى أكله ولباسه إلا بعجن وطبخ , وغزل , ونسج , وقصارة , وصباغ , وخياطة , فليس هو رزقا , ولا كسوة، وهذا ما لا خلاف فيه في اللغة والمشاهدة.

·      أن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع.

·  أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهما بذلك إنما كانتا متبرعتين بذلك , وهما أهل الفضل والمبرة w  ونحن لا نمنع من ذلك إن تطوعت المرأة به , إنما نتكلم على سر الحق الذي تجب به الفتيا والقضاء بإلزامه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن عمل المرأة في بيتها يتعلق وجوبه وعدم وجوبه بنوع العمل، ومدى المشقة التي تحصل للمرأة بممارسته.

فإن كان عملا شاقا لا يطاق ـ مثلما كان عليه عمل النساء قبل توفر وسائل الرفاهية التي نعيشها ـ سقط عنها القول بالوجوب أو اقتصر على الأشياء الأساسية التي تحتاجها وزوجها دون غيرها، ولعل هذا ما دعا الفقهاء إلى القول بعدم الوجوب.

أما إن كان عملا بسيطا غير مرهق، فإنه مما تقتضيه حاجة الزوجية، فالزوج مكلف بالنفقة، وهي مكلفة بإصلاحها وطبخها، وذلك مما تستدعيه فطرتها، وتتطلبه أنوثتها، فلذلك من المضرة الشديدة للرجل أن نكلفه بالمعاناة طول اليوم، فإذا جاء آخر المساء بالقفة للبيت كلفناه بتحضيرها لزوجته طبقا جاهزا لم تعاني في كسبه ولا تحضيره، والشرع كما جاء لخدمة مصالح المرأة فقد نص على مصالح الرجل، بل نرى في هذا خدمة لمصالح المرأة، ومراعاة لفطرتها، ومن خصوصيتها التي لا يجوز للرجل التدخل فيها.

ولأجل هذا التفريق بين بذل الرجل الجهد للتكسب، وبذل المرأة الجهد للتحضير، حكم رسول الله بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -  وبين فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة، فعن ضمرة بن حبيب قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنته فاطمة  بخدمة البيت، وقضى على علي  بماء كان خارجا من البيت من الخدمة) [77]، قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة العجين والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله.

ويستحب أيضا اقتسام خدمة البيت، فقد قال علي - رضي الله عنه -  لأمه فاطمة بنت أسد: اكفي   فاطمة  بنت رسول الله الخدمة خارجا سقاية الماء والحاجة، وتكفيك العمل في البيت العجن والخبز والطحن) [78]

والقول بالوجوب هو الذي تدل عليه النصوص، ويفهم بادئ الرأي من مقاصد الزواج الشرعية، لأن الغرض من الزواج هو التعاون على مشاق الحياة، وتيسير سبلها، فإذا ما كلفنا الرجل بتحمل كل شيء وحده وأخلينا المرأة من كل وظيفة كان في ذلك إيذاء لها وله، إيذاء له بزيادة المشاق، وإيذاء لها بتخليتها من كل وظيفة ،وهو ما تأباه الفطر السليمة.

أما ما دعا الفقهاء إلى القول بعدم الوجوب، فهو أمران لا علاقة لهما بالنصوص، وهما:

أولا ـ قصر العلاقة الزوجية على مجرد المتعة، وبالتالي لا تكلف الزوجة بغير توفيرها لزوجها، وهذا غير صحيح شرعا وواقعا، لأن لكليهما الحق في ذلك، فليس هو بالحق الخالص للرجل، ولا بالحق الخالص للمرأة، كما سنرى ذلك في محله.

ثانيا ـ مراعاة العرف في ذلك، وما أكثر ما جنى العرف على الشرع، وقد قال ابن حجر بعد ذكره للنصوص التي لا يفهم منها إلا الوجوب: والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد للبلاد فإنها مختلفة في هذا الباب) [79]، وقد ميز بعض الفقهاء هنا أيضا بين الشريفة وغير الشريفة كما ذكر ذلك سابقا، فقد استدل بعضهم بالحديثين السابقين على أن المرأة الشريفة إذا تطوعت بخدمة زوجها بشيء لا يلزمها لم ينكر عليها ذلك أب ولا سلطان[80]، وقد سبق ذكر الرد على مثل هذا.

المعاشرة الجنسية:

وهي مما اتفق الفقهاء على القول بوجوب طاعة الزوجة زوجها فيه، فإذا استوفى عقد النكاح شروطه ووقع صحيحا، فإنه يجب على المرأة تسليم نفسها إلى الزوج وتمكينه من الاستمتاع بها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح([81]

ومع ذلك يجوز للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها في بعض الحالات كعدم استيفائها للمهر المعجل، وقد سبق ذكر أحكام ذلك في فصل [حق الزوجة في المهر]، أو الصغر، فقد اعتبر الفقهاء الصغر من موانع التسليم, فلا تسلم صغيرة لا تحتمل الوطء إلى زوجها حتى تكبر ويزول هذا المانع ; لأنه قد يحمله فرط الشهوة على الجماع فتتضرر به، ومثلها المريضة، فقد ذهب الفقهاء إلى أن من موانع تسليم المرأة إلى زوجها المرض , والمقصود بالمرض هنا المرض الذي يمنع من الجماع , وحينئذ تمهل المرأة إلى زوال مرضها , وألحق الشافعية بالمريضة من بها هزال تتضرر بالوطء معه.

ولأحكام هذه الناحية من طاعة الزوجة لزوجها وضوابطها الشرعية فصل خاص نظرا لأهميتها، وتأثيرها الخطير في العلاقة الزوجية.

3 ـ زينة الزوجة وضوابطها الشرعية

 

حثت الشريعة كلا الزوجين على مراعاة هذه الناحية، فاهتمام الرجل بزينته وهندامه واهتمام المرأة كذلك مما يعمق معاني المحبة بينهما، لأن الإنسان قد تقصر همته، ويضعف إيمانه، فلا ترى عينه غير الجسد، فيحتاج في تلك اللحظة إلى أن يرى الجمال الظاهري الذي قد يزيده ترغيبا في الجمال الباطني.

ولكن هذه الزينة التي يمكن اعتبارها حقا للرجل أو حقا للمرأة مقيدة بالقيود الشرعية سواء في نوع الزينة، أو فيمن تظهر أمامه المرأة بتلك الزينة، وسنتحدث في هذا المبحث عن حكم تزين المرأة لزوجها، وألحقنا بها الأحكام المتعلقة بالنظافة وخصال الفطرة لصلتها بها، وتحدثنا عن الضوابط التي تحكم هذا التزين سواء من ناحية نوعه أو من تظهر أمامه المرأة بتلك الزينة.

أولا: حكم تزين المرأة لزوجها

من حقوق الزوج على زوجته التي توجبها حسن العشرة، أن تتزين له بالملبس والطيب , وأن تحسن هيئتها وما يرغبه فيها ويدعوه إليها , فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -  قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(خير النساء التي تسره إذا نظر , وتطيعه إذا أمر, ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله) [82]، وقد نص الفقهاء هنا على أن للزوج حق تأديب زوجته إن أمرها بالتزين فلم تتزين له; لأن الزينة حقه. قال تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾(النساء:34)

وقد اعتبر الحنفية ترك التزين من الأربعة التي تؤدب المرأة بسببها عندهم، قال الزيلعي:(للزوج أن يضرب زوجته على أربع خصال وما هو في معنى الأربع: إحداها على ترك الزينة للزوج والزوج يريدها، والثاني على ترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، والثالث على ترك الصلاة وعلى ترك الغسل، والرابع الخروج من المنزل، لأن الأول والثاني يخل بمقصود النكاح، والثالث والرابع معصية) [83]

ومما يدل على أن اهتمام السلف بهذه الناحية ـ وهو مما قد يعتبره بعض المتدينين عندنا خروجا عن الأدب ـ أن الأخ يسأل امرأة أخيه في الله عن سبب تبذلها، فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم -  بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ،فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما فقال: كل قال: فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(صدق سلمان) [84]

بل كانت هذه الناحية من النواحي المهمة التي تستدعي أن يعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسببها كبار أصحابه، فعن عائشة ،رضي الله عنها،  قالت: كانت امرأة عثمان بن مظعون تتخضب وتتطيب , فتركته فدخلت علي , فقلت: أمشهد أم مغيب ؟ فقالت: مشهد , قالت: عثمان لا يريد الدنيا ولا يريد النساء , قالت عائشة: فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك , فلقي عثمان فقال: يا عثمان تؤمن بما نؤمن به ؟ قال: نعم يا رسول الله , قال: (فأسوة ما لك بنا)، قال الشوكاني:(والمراد أن ترك الخضاب والطيب إن كان لأجل غيبة الزوج فذاك , وإن كان لأمر آخر مع حضوره فما هو ؟ فأخبرتها أن زوجها لا حاجة له بالنساء , فهي في حكم من لا زوج لها , واستنكار عائشة عليها ترك الخضاب والطيب يشعر بأن ذوات الأزواج يحسن منهن التزين للأزواج بذلك) [85]

ولأجل مراعاة الزينة وردت السنة بالنهي عن الطروق ليلا، فعن جابر - رضي الله عنه -  قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي، فالتفت فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما يعجلك قلت: إني حديث عهد بعرس قال: فبكرا تزوجت أم ثيبا ؟قلت: بل ثيبا قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة[86].

وبما أن المقصود من التزين هو الزوج، فإنه يستحب للمرأة أن تختار من الزينة ما يرغب زوجها فيها، ويصل حبل المودة بينهما، فعن كريمة بنت همام قالت: دخلت المسجد الحرام فأخلوه لعائشة فسألتها امرأة: ما تقولين يا أم المؤمنين في الحناء ؟ فقالت: (كان حبيبي - صلى الله عليه وسلم -  يعجبه  لونه , ويكره ريحه وليس بمحرم عليكن بين كل حيضتين أو عند كل حيضة) [87]

فإن كان هناك من أمور الزينة ما يسيء إلى الزوج من حال زوجته، فإن على الزوجة المسارعة في إصلاحه مراعاة لحق زوجها، ومن ذلك أنه إن نبت شعر غليظ للمرأة في وجهها, كشعر الشارب واللحية , فيجب عليها نتفه, فقد روت امرأة بن أبي الصقر ،رضي الله عنها , أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين إن في وجهي شعرات أفأنتفهن، أتزين بذلك لزوجي ؟ فقالت عائشة: أميطي عنك الأذى , وتصنعي لزوجك كما تصنعين للزيارة , وإن أمرك فأطيعيه , وإن أقسم عليك فأبريه , ولا تأذني في بيته لمن يكره[88].

ضوابط زينة المرأة

ولكن هذا التزين، ولو طلبه الزوج يظل محصورا بالقيود الشرعية، فلا يحل للزوجة أن تطيع الزوجة في الزينة التي ورد النهي عنها، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني أنكحت ابنتي، ثم أصابها شكوى فتمرق رأسها وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها، فسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة[89].

وقد نص القرآن الكريم على الضابط الذي تجتمع فيه فروع الزينة المحرمة ،والتي نص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قول الله تعالى إخبارا عن قول الشيطان:﴿ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ (النساء:119)، وقد وردت آراء كثيرة في تفسير هذا النص المعجز الجامع، ومن تلك النواحي ما يتعلق بزينة المرأة.

بل ورد في الحديث ما يدل على هذا التفسير، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -  أنه قال: لعن الله الواشمات , والمستوشمات , والنامصات , والمتنمصات , والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب. وكانت تقرأ القرآن فأتته. فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات , والمستوشمات , والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله , فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ِ(الحشر:7) فقالت المرأة: إني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن. قال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا , فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها) [90]، أي لم نجتمع معها، وعنه - رضي الله عنه -  أنه قال:(سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات , والمتفلجات , والمتوشمات اللاتي يغيرن خلق الله عز وجل)

وهذا الحديث لم يرد لحصر أنواع الزينة المحرمة، وإنما ذكر هذه الأمور لاشتهارها أولا في وقته - صلى الله عليه وسلم -، ولأن كثيرا من صور الزينة التي غير بها خلق الله حدثت بعده - صلى الله عليه وسلم - أو لم تكن في بيئته - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا لا شك في حرمة الكثير مما يسمى اليوم باسم جراحات التجميل، والتي تهتم بتغيير الخلقة كتعديل شكل الأنف أو الثدي أو غير ذلك مما لا ضرورة تدعو له إلا العقدة التي تجعل صاحبها مسرفا في العناية بالمظهر، والاهتمام بالصورة لا بالحقيقة، وبالجسد لا بالروح.

ولكن هذا النهي عن تغيير خلق الله يستثنى منه أمران وردت بكليهما النصوص الشرعية هما:

أن المنهى عنه إنما هو فيما يكون باقيا، لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما مالا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء، فقد أجازه العلماء ودلت عليه النصوص، ومثله أن تشي المرأة يديها بالحناء[91]، بل قد ورد النهي عن ترك المرأة الخضاب بالحناء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة لا تخضب فقال:( لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل(فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت[92].

أنه إذا كان في الإنسان عيب شاذ كالأعضاء الزائدة في البدن كالسن الزائدة , والأصبع الزائدة , والكف الزائدة , فلا بأس من إجراء جراحة تجميلية عليها لما فيها من التشويه. ويقاس على ذلك سائر التشوهات في البدن , ويشترط في ذلك أن تكون السلامة هي الغالبة في إزالته، ولعل مما يؤيد ذلك أن الحديث لعن)المتفلجات للحسن(فيفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لا لغرض إلا لطلب الحسن والجمال الكاذب، فلو احتاجت إليه لإزالة ألم أو ضرر، لم يكن في ذلك بأس.

وقد خالف في هذا الطبري بقوله: في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شئ من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان التماس الحسن لزوج أو غيره سواء فلجت أسنانها أو وشرتها أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها لأن كل ذلك تغيير خلق الله، قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه لأنه من تغيير خلق الله تعالى إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره[93].

بعد ذكرنا لهذا الضابط، وما يستثنى منه، لا بأس أن نذكر هنا بعض ما نصت عليه النصوص من نواحي الزينة التي لا يجوز للزوجة طاعة زوجها في التزين بها، والتي يمكن الاستدلال بها على غيرها من أنواع الزينة:

الوشم:

وقد عرفه القرطبي بـ) أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة، ثم يحشى بالكحل أو بالنثور فيخضر[94] (، وقال ابن العربي:( الواشمة هي التي تجرح البدن نقطا أو خطوطا , فإذا جرى الدم حشته كحلا , فيأتي خيلانا وصورا فيتزين بها النساء للرجال) [95] هذا على حسب تعبير القرطبي وابن العربي، أما اليوم فهناك اختراعات جديدة ووسائل كثيرة للوشم، وهي لا تختص باليدين فقط، بل أفرط بعض الناس فيه، فنقشوا به معظم البدن.

وهو محرم بنص الحديث لتغييره خلق الله إضافة إلى هذه المفاسد ما فيه من ألم وعذاب بوخز الإبر في بدن الموشوم، إضافة إلى ذلك كله جلب اللعنة على من تعمل هذا الشيء ومن تطلب ذلك لنفسها، وقد استنبط العلماء من هذا اللعن على أنه كبيرة، وقد خالف في ذلك بعض الشافعية مع تصريح الحديث به، قال ابن حجر:( ذكر هذه كلها من الكبائر , وهو ما جرى عليه شيخ الإسلام الجلال البلقيني في الأولين , وغيره في الكل , وهو ظاهر لما مر أن من أمارات الكبيرة اللعن , وقد علمت صحة الأحاديث بلعن الكل , لكن لم يجر كثير من أئمتنا على إطلاق ذلك , بل قالوا: إنما يحرم غير الوشم والنمص بغير إذن الزوج أو السيد , وهو مشكل لما علمت في قصة الأنصارية فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لا , مع قولها إن الزوج أمر بالوصل , وعجيب قولهم بكراهة النمص بمعنييه السابقين مع اللعن فيه ومع قولهم بالحرمة في غيره مطلقا أو بغير إذن الزوج على الخلاف فيه , وأي فرق مع وقوع اللعن على الكل في حديث واحد) [96].

النمص:

النمص: هو نتف الشعر , والنامصة: هي التي تنتف الشعر من وجهها أو من وجه غيرها والمتنمصة: هي التي تنتف الشعر من وجهها , أو هي من تأمر غيرها بفعل ذلك.

وقد اتفق الفقهاء على أن نتف شعر الحاجبين داخل في نمص الوجه المنهي عنه[97] بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله النامصات , والمتنمصات) [98] لكونه من التغيير لخلق الله ، ولكنهم اختلفوا في في الحف[99] والحلق[100]، فذهب المالكية والشافعية إلى أن الحف في معنى النتف،  وذهب الحنابلة إلى جواز الحف والحلق , وأن المنهي عنه هو النتف فقط، قال ابن قدامة:( أما النامصة  فهي التي تنتف الشعر من الوجه , والمتنمصة: المنتوف شعرها بأمرها , فلا يجوز للخبر. وإن حلق الشعر فلا بأس ; لأن الخبر إنما ورد في النتف، نص على هذا أحمد([101]، وقال أحمد: أكره النتف، وقال المروذي: وكره يعني أحمد أن يؤخذ الشعر بمنقاش من الوجه وقال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتنمصات([102]، ومثله قال ابن حزم: (لا يحل للمرأة نتف الشعر من وجهها) [103].

ونرى أن الأرجح في ذلك هو قول الجمهور، وهو أن النهي محرم مطلقا، سواء كان بالحف أو بالنتف لأن العلة المذكورة هي في تغيير خلق الله، وهو لا يتعلق بالنتف وحده، ولا عبرة بالدلالة اللغوية للفظ النمص، لأنه لو عبر - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الحف أو الحلق لجاء من يخرج النمص والنتف، فلذلك نرى الأولى هو الأخذ بالدلالة المقاصدية للفظ لا الدلالة الحرفية، وإلا للزم من ذلك عنت كبير في التعبير.

واختلفوا في نتف ما عدا الحاجبين، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن نتف ما عدا الحاجبين من شعر الوجه داخل أيضا في النمص , وذهب المالكية في المعتمد وأبو داود السجستاني , وبعض علماء المذاهب الثلاثة الأخرى إلى أنه غير داخل، ونرى أن ذلك هو الأرجح لأنه الخلقة الطبيعية للمرأة، فتزين المرأة بإزالة الشعر الزائد ولو من الحاجبين ليس تغييرا لخلق الله، قال النووي:( وأما الأخذ من الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئا لأصحابنا , وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله لم يثبت فيه شيء فكره , وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لا بأس به , قال: وكان أحمد يفعله وحكي أيضا عن الحسن البصري([104]

واختلفوا في عموم النهي في الحديث، هل يشمل المتزوجة وغيرها، أم يختص بغير المتزوجة على قولين:

القول الأول: أن النهي في الحديث ليس عاما، وهو قول الجمهور، فلذلك يجوز للمتزوجة التنمص لأجل التزين لزوجها[105]، أما غير المتزوجة فلا يجوز لها فعل ذلك إلا إذا احتيج إليه لعلاج أو عيب , بشرط أن لا يكون فيه تدليس على الآخرين، واستدلوا على ذلك بما يلي:

روي عن بكرة بنت عقبة، أنها دخلت على عائشة، رضي الله عنها، وهي جالسة في معصفرة، فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاف, فقالت: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنتزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي[106].

روت امرأة بن أبي الصقر: أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها , فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين إن في وجهي شعرات أفأنتفهن , أتزين بذلك لزوجي ؟ فقالت عائشة: أميطي عنك الأذى , وتصنعي لزوجك كما تصنعين للزيارة , وإن أمرك فأطيعيه , وإن أقسم عليك فأبريه ,  ولا تأذني في بيته لمن يكره[107].

وقد اختلف الجمهور في هذا هل هو على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب والجواز على رأيين:

الرأي الأول: أن ذلك محمول على الجواز أو الاستحباب، وهو قول الجمهور، فيستحب للمرأة إذا نبتت لها لحية أو شوارب أو عنفقة أن تزيلها , وذهبوا إلى أنه يجوز للمرأة أن تزيل شعر يديها ورجليها وظهرها وبطنها، وقيد بعضهم ذلك بإذن الزوج،قال النووي:( وأما المرأة إذا نبتت لها لحية فيستحب حلقها , صرح به القاضي حسين وغيره وكذا الشارب والعنفقة لها) [108]

الرأي الثاني: أن ذلك محمول على الوجوب، وهو قول المالكية، قال الحطاب:( ولا بأس بحلاق غيرها من شعر الجسد ما نصه منهم من جعل حلاق شعر الجسد سنة وقال عبد الوهاب أنه مباح , الجزولي وهذا للرجال , وأما النساء فحلق ذلك منهن واجب ; لأن في تركه مثلة) [109] ومن الأدلة على ذلك، أنه من الزينة , والزينة مطلوبة للتحصين , والمرأة مأمورة بها شرعا لزوجها، ولما فيها من المثلة.

القول الثاني:  عموم النهي، وهو قول ابن مسعود وابن جرير الطبري، وقد سبق ذكر قول الطبري في ذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو وجوب تزين المرأة لزوجها بإزالة الشعر الزائد من جسمها، والذي يتنافى مع الخلقة الجبلية للمرأة،  ولا يشترط في ذلك إذن زوجها، لأن تزينها حق له، سواء طالب به أو لم يطالب.

ومع ذلك يستحب أن لا يكون بطريق النمص لورود الحديث بالنهي عنه، ولما فيه من الألم المنهي عنه شرعا، ويمكن أن تستعيض المرأة عنه بالوسائل الكثيرة المتوفرة.

تفليج الأسنان ووشرها:

التفليج[110] هو التفريق بين الأسنان سواء , أكان خلقة , أم بتكلف , بأن يبردها بالمبرد ونحوه طلبا للحسن , والمتفلجة هي التي تتكلف , بأن تفرق بين الأسنان لأجل الحسن.

والوشر هو تحديد الأسنان وترقيق أطرافها، وفي الحديث:(نهى - صلى الله عليه وسلم - عن النامصة والواشرة) [111]، والفرق بينهما: أن التفليج هو تفريق الأسنان , والوشر هو تحديدها وترقيقها وقد اتفق الفقهاء على أن تفليج الأسنان لأجل الحسن حرام, سواء في ذلك طالبة التفليج وفاعلته , لما ورد في الأحاديث السابقة من حرمة ذلك.

ولما في ذلك أيضا من المضرة الصحية للأسنان، وقد ذكر الفقهاء القدامى ذلك وأيده العلم الحديث، قال الماوردي:(أما جلاء أسنانه , وبردها بالمبرد فمكروه لأنه يذيب الأسنان , ويفضي إلى تكسيرها , ولأنها تخشن فتتراكم الصفرة عليها) [112]

ولكن هذه الحرمة ليست مطلقة , وإنما هي مقصورة على من تفعل ذلك للحسن،  لأن اللام في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (للحسن) للتعليل , فلذلك لو احتيج إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس به.

وصل الشعر:

الواصلة هي المرأة التي تصل شعرها بشعر غيرها، سواء فعلته لنفسها أو لغيرها , والمستوصلة التي تطلب فعل ذلك.

ويستوي في حرمة ذلك التزين للزوج وغيره فعن أسماء قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي أصابتها الحصبة، فامرق شعرها، وإني زوجتها، أفأصل فيه ؟ فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) [113]

ولقد شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - في محاربة هذا النوع من التدليس، حتى إنه لم يجز لمن تساقط شعرها نتيجة المرض أن يوصل به شعر آخر، ولو كانت عروسا ستزف إلى زوجها، فقد روي أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -  فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) [114]

وقد اتفق الفقهاء على أن ربط الشعر بخيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر ليس بمنهي عنه، بل أشار القاضي إلى نقل الإجماع فيه ; لأنه ليس بوصل , ولا هو في معنى مقصود الوصل , وإنما هو للتجمل والتحسين[115]، قال القاضي: وأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس بوصل , ولا لمعنى مقصود من الوصل , وإنما هو للتجمل والتحسين، قال الصنعاني: ومراده من المعنى المناسب هو ما في ذلك من الخداع للزوج فما كان لونه مغايرا للون الشعر فلا خداع فيه[116]، وفي هذا جاء عن سعيد بن جبير قال:( لا بأس بالقرامل(. والمراد به هنا: خيوط من حرير أو من صوف تعمل ضفائر، تصل به المرأة شعرها.

وقد نص العلماء كذلك على منع تكثير شعر الرأس بالخرق، كما لو كانت المرأة مثلا قد تمزق شعرها، فتضع عوضه خرقا توهم أنها شعر،وقد ورد في الحديث :( نساء كاسيات عاريات رؤوسهن كأسنمة البخت([117]قال النووي: يعني يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها، وقال القرطبي :( شبة رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن تزيينا وتصنعا، وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن([118]

أما وصل الشعر بالحرير ونحوه من الخرق، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين[119]:

القول الأول:  الوصل ممنوع بكل شيء سواء وصلته بصوف أو حرير أو خرق، وهو قول مالك والطبري وأكثر العلماء، ومن الأدلة على ذلك ما روي جابر - رضي الله عنه -  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا.

القول الثاني: النهي مختص بالوصل بالشعر , ولا بأس بوصله بصوف أو خرق , وغير ذلك، وهو قول الليث بن سعد , نقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء [120]، ورواية عن أحمد، قال ابن قدامة:( وأما وصله بغير الشعر , فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به ; لأن الحاجة داعية إليه , ولا يمكن التحرز منه، وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان: إحداهما , أنه مكروه غير محرم , لحديث معاوية في تخصيص التي تصله بالشعر , فيمكن جعل ذلك تفسيرا للفظ العام , وبقيت الكراهة لعموم اللفظ في سائر الأحاديث , وروي عنه أنه قال: لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف ([121]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النهي عن وصل الشعر بما يدلس على الغير، فيعتقده شعرا، فيدخل في ذلك النهي الشعر الحقيقي، أو الشعر الاصناعي ولو كان خيوطا توهم لمن رآها أنها شعر، قال ابن قدامة :( والظاهر أن المحرم إنما هو وصل الشعر بالشعر , لما فيه من التدليس واستعمال الشعر المختلف في نجاسته , وغير ذلك لا يحرم , لعدم هذه المعاني فيها , وحصول المصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة ([122]، وقال ابن حجر:( وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به الشعر الشعر مستورا بعد عقده مع الشعر بحيث يظن أنه من الشعر وبين ما إذا كان ظاهرا فمنع الأول قوم فقط لما فيه من التدليس وهو قوي ([123]

حكم حلق المرأة شعرها من غير ضرورة:

كما ورد النهي عن الوصل الحرم لما يؤدي إليه من التدليس، فقد ورد النهي عن عكس ذلك وهو الحلق الكلي للشعر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، قال ابن حجر:( كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة[124] (، ومن الأدلة على ذلك:

قول أبي موسى - رضي الله عنه -:( برئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصالقة والحالقة) [125]

عن علي - رضي الله عنه -  قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها[126]

ثانيا: تبرج المرأة لغير زوجها

تعريف التبرج:

لغة: التَّبَرُّج، هو إِظهار الـمرأَة زينتَها ومـحاسنَها للرجال، وتَبَرَّجَتِ الـمرأَةُ: أَظهرت وَجْهَها. وإِذا أَبدت الـمرأَة مـحاسن جيدها ووجهها، وقال أَبو إِسحق فـي قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بزينة﴾ ؛ التَّبرُّجُ: إِظهار الزينة وما يُسْتَدعَى به شهوة الرجل؛ وقـيل: إِنهن كنَّ يتكسرن فـي مشيهن ويتبخترن؛ وقال الفراء فـي قوله تعالى:﴿ولا  تَبَرَّجْنَ   تَبَرُّجَ الـجاهلـية الأُولـى﴾ ؛ ذلك فـي زمن ولد فـيه إِبراهيم النبـي، u كانت الـمرأَة إِذا ذاك تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الـجانبـين؛ ويقال: كانت تلبس الثـياب لا تواري جسدها فأُمرن أَن لا يفعلن ذلك.

وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم  سفينة بارج لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء وقيل  أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها[127].

اصطلاحا: يطلق التبرج في الاصطلاح الشرعي على إظهار الزينة مطلقا سواء كان للزوج أو للرجال الأجانب، وقد وردت بهذا المعنى النصوص، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره عشر خصال الصفرة يعني الخلوق وتغيير الشيب وجر الإزار والتختم بالذهب والضرب بالكعاب والتبرج بالزينة لغير محلها والرقى إلا بالمعوذات وتعليق التمائم وعزل الماء بغير محله وإفساد الصبي غير محرمه([128]

ولكن الاصطلاح العام الآن قصره على التزين لغير الزوج.

حكم تبرج المرأة لغير زوجها:

اتفق الفقهاء على حرمة التبرج لما ورد فيه من الوعيد الشديد في القرآن والسنة، وما ورد في النصوص الشرعية من وعيد أو ذم للمتبرجات يجعل التبرج من الكبائر، بل إن التأثير الخطير لظاهرة التبرج على الأسرة والمجتمع كاف وحده للدلالة على ذلك، وسنورد هنا بعض النصوص الدالة على ذلك، والدالة في نفس الوقت على مسؤولية الزوج على صون أهل بيته من هذه الكبيرة بحق القوامة عليهم.

·  قال تعالى :﴿ وَالْقَوَاعِدُ[129] مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ٌ(النور:60) فهذه الآية رخصة خاصة بالعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها، فلا تلقى عليها جلبابها، ولا تحتجب، لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولى الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة[130]، وفي هذا دليل على أنه يجب على غيرهن الزينة والتستر.

بل يجوز مع هؤلاء القواعد لحاجتهن إلى الرحمة ما لا يجوز مع غيرهن، فعن السدي قال:كان شريك لي يقال له مسلم، وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحناء في يده، فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة، فأنكرت ذلك، فقال: إن شئت أدخلتك عليها فقلت: نعم، فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة فقلت لها: إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك فقالت: نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا، وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت[131].

ومع ذلك ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير[132].

وهنا نلاحظ التناقض في الكثير من المجتمعات الإسلامية التي تمارس فيها المرأة ما تشتهي من أنواع التبرج والزينة، فإذا ما أدبر عمرها وشاخ جسمها وخرف عقلها، ارتدت رداءها وتجلببت بجلبابها، وكأن الجلباب لستر القبح لا لستر الزينة.

·  قال تعالى :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾(الأحزاب:33)، ففي هذه الآية نهي صريح عن التبرج مقرون بالأمر بملازمة البيوت، والجمع بينهما يدل على وجوب التستر عند الحاجة للخروج، وقد ذكر التبرج بأبشع أوصافه عند ربط بالجاهلية، فالجاهلية هي منبع التبرج بفكرها ونظرتها للحياة وسلوكها وفق تلك النظرة، يقول سيد قطب بعد عرضه لبعض ما ذكر من مظاهر التبرج في الجاهلية الأولى:( هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية ؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك.. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر... ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها ([133]

·  قال أسامة - رضي الله عنه - : كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك لم تلبس القبطية؟ قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(مرها فلتجعل تحتها غلالة، إني أخاف أن تصف حجم عظامها([134]، قال الشوكاني:( والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه وهذا شرط ساتر العورة وإنما أمر بالثوب تحته لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها([135]   

·  ورد الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - بوجوب نهي الأزوج نساءهن عن التبرج معتبرا سكوت الرجال على ذلك من علامات وأسباب انحطاط الأمم، ومن موجبات اللعنة، قال عائشة، رضي الله عنها: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد[136] (

مظاهر التبرج:

فسر التبرج الوارد في القرآن الكريم تفاسير كثيرة منها[137]:

·      المشي بتبختر وتكسر وتغنج، وهو قول مجاهد وقتادة وإبن أبي نجيح.

·  أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وهو قول مقاتل

·      أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، وهو قول المبرد.

·  تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر، وهو قول الليث.

·      أن تخجر من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال، وهو قول أبي عبيدة.

وانطلاقا من هذه التفاسير يمكن حصر مظاهر التبرج والأحكام الشرعية المرتبطة بها في ثلاثة مظاهر، لأن التبرج إما أن يكون بإظهار ما أمر الله بستره، أو تزيين ما جاز إظهاره، أو تستر الجسد وتبرج السلوك بالتكسر والتغنج، وما عبر عنه القرآن الكريم بالخضوع بالقول، وفيما يلي بعض تفاصيل ذلك:

1 ـ إظهار العورة

حد العورة:

للعورة أحكام تفصيلية في المذاهب المختلفة لا يمكن حصرها هنا، فلذلك نكتفي بذكر ما تمس الحاجة إليه، وما له علاقة بالقوامة، فحد عورة المرأة مع الرجال يختلف بحسب علاقتهم بها، من حيث المحرمية وعدمها كما يلي:

بالنسبة للمحارم:

المراد بمحرم المرأة من يحرم عليه نكاحها على وجه التأبيد لنسب أو مصاهرة أو رضاع، وقد اختلف الفقهاء في حد العورة معهم على أقوال مختلفة منها:

القول الأول: إن عورة المرأة بالنسبة إلى رجل محرم لها هي غير الوجه والرأس واليدين والرجلين , فيحرم عليها كشف صدرها وثدييها ونحو ذلك, ويحرم على محارمها كأبيها رؤية هذه الأعضاء منها وإن كان من غير شهوة وتلذذ، وهو قول المالكية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ﴾(النور:31) والمراد بالزينة مواضعها لا الزينة نفسها لأن النظر إلى أصل الزينة مباح مطلقا , فالرأس موضع التاج , والوجه موضع الكحل , والعنق والصدر موضعا القلادة والأذن موضع القرط , والعضد موضع الدملوج , والساعد موضع السوار , والكف موضع الخاتم , والساق موضع الخلخال , والقدم موضع الخضاب , بخلاف الظهر والبطن والفخذ لأنها ليست بموضع للزينة.

·      أن الاختلاط بين المحارم أمر شائع ولا يمكن معه صيانة مواضع الزينة عن الإظهار والكشف.

القول الثاني: إن عورة المرأة بالنسبة لمن هو محرم لها هي ما بين سرتها إلى ركبتها , وكذا ظهرها وبطنها[138] , أي يحل لمن هو محرم لها النظر إلى ما عدا هذه الأعضاء منها عند أمن الفتنة وخلو نظره من الشهوة , وهو قول الحنفية.

وقد نص الفقهاء على أن كل ما جاز النظر إليه منهن دون حائل جاز لمسه عند أمن الفتنة وإلا لم يجز , وكذلك الأمر بالنسبة للخلوة بإحداهن  منفردين تحت سقف واحد , فالرسول - صلى الله عليه وسلم -  كان يقبل فاطمة رضي الله عنها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر إلى هذا من جهتين :

·  من جهة صنف المحرم الذي تبرز أمامه زينتها، وقد ذكر ابن العربي قولا في المسألة نرى أنه يتناسب مع هذا، قال: (إن حكم الرجل مع النساء ينقسم على ثلاثة أقسام: الأول: من يجوز له نكاحها. والثاني: من لا يحل له نكاحها  لابنه , كالأخ والجد والحفيد. والثالث: من لا يحل له نكاحها , ويجوز لولده , كالعم والخال , بحسب منزلتهم منها في الحرمة. فمن كان يجوز له نكاحها لم يحل له رؤية شيء منها. ومن لا يحل له نكاحها ويجوز لولده جاز رؤية وجهها وكفيها خاصة , ولم يحل له رؤية زينتها. ومن لا يحل له ولا لولده جاز الوضع لجلبابها ورؤية زينتها([139]

·  من جهة ما يبرز من جسمها، وهو ما يتحرج الإنسان عادة من تغطيته،كالرأس والعنق والسواعد ونحوها، مما جرت عادة النساء بكشفه في البيوت، أما ما عدا ذلك، فلا يصح كشفه، ولو للمحارم من باب الحياء قبل باب العورة.

بالنسبة للأجانب:

اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا شديدا، لعل من الأهم ذكر بعض تفاصيل الخلاف والأدلة هنا لمسيس الحاجة إلى ذلك، لأن البعض يرسم للحجاب الشرعي صورة معينة يعتبر ما عداها سفورا يتوجه له بالإنكار كما يتوجه للسفور المحرم، وقد تحدث بسببه بعض الفتن في الأسر المسلمة من أجل محاولة بعض الأولياء أو الأزواج فرض ما اعتقدوه من حجاب.

ونحن نعتمد في سياق الأدلة على ثلاثة كتب في هذا المجال هي: (النقاب للمرأة بين القول ببدعيته والقول بوجوبه) للشيخ يوسف القرضاوي، و(الرد المفحم) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وكلاهما ممن يدافع عن القول الأول.

أما الكتاب الثالث فهو (حراسة الفضيلة) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وهو من أنصار القول الثاني.

فمن الأقوال في المسألة:

القول الأول: أن جسم المرأة كله عورة بالنسبة للرجل الأجنبي عدا الوجه والكفين إذا أمنت الفتنة، وهو قول الجمهور; واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾(النور:31) أي مواضعها, فالكحل زينة الوجه , والخاتم زينة الكف، وعلى ذلك جمهور العلماء من الصحابة ومن تبعهم بإحسـان فقد فسـروا قوله تعالى بأنه الوجه والكفان، أو الكحل والخاتم وما في معناهما من الزينة[140].

·  الأمر بضرب الخمار على الجيب لا على الوجه في قوله تعالى :﴿) وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(النور: من الآية31)، فالخمر جمع خمار، وهو غطاء الرأس، والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الصدر من القميص ونحوه، فأمر النساء المؤمنات أن يسدلن ويلقين بخمرهن وأغطية رؤوسهن بحيث تغطى النحور والصدور، ولا يدعنها مكشوفة كما كان نساء الجاهلية يفعلن.

فلو كان ستر الوجه واجبًا لصرحت به الآية، فأمرت بضرب الخمر على الوجوه، كما صرحت بضربها على الجيوب، ولهذا قال ابن حزم بعد ذكر الآية الكريمة :(فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه، لا يمكن غير ذلك أصلا)

·  قوله تعالى :﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ)(الأحزاب: من الآية52) حُسْنُهن)، فمن أين يعجبه حسنهن، إذا لم يكن هناك مجال لرؤية الوجه الذي هو مجمع المحاسن للمرأة باتفاق؟.

·  أمر الرجال بغض أبصارهم في القرآن والسنة، كما في قوله تعالى :﴿)قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور:30)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -  :(لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) [9]

·  يقول الشيخ القرضاوي تعليقا على هذه النصوص :(فلو كانت الوجوه كلها مستورة، وكان كل النساء منقبات، فما وجه الحث على الغض من الأبصار؟ وماذا عسى أن تراه الأبصار إذا لم تكن الوجوه سافرة يمكن أن تجذب وتفتن؟ وما معنى أن الزواج أغض للبصر إذا كان البصر لا يرى شيئًا من النساء؟)

·  ما روي أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما , دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها , وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا , وأشار إلى وجهه وكفيه[141].

·  دلالة النصوص والوقائع الكثيرة على أن عامة النساء في عصر النبوة لم يكن منقبات إلا ما ندر، بل كن سافرات الوجوه، ومن ذلك ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب - زوجه - وهي تمعس منيئة - أي تدبغ أديمًا - فقضى حاجته، وقال :(إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله، فإن ذاك يرد ما في نفسه) [142]

    فسبب الحديث يدل على أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة معينة، فوقع في قلبه شهوة النساء، بحكم بشريته ورجولته، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا رأى وجهها الذي به تعرف فلانة من غيرها، ورؤيته هي التي تحرك الشهوة البشرية، كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم - :(إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته) يدل على أن هذا أمر ميسور ومعتاد.

      ومن ذلك ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله r، فصعد فيها النظر وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئًا جلست[143].

       ولو لم تكن سافرة الوجه، ما استطاع النبي r أن ينظر إليها، ويطيل فيها النظر تصعيدًا وتصويبًا - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد أنها فعلت ذلك للخطبة، ثم غطت وجهها بعد ذلك، بل ورد أنها جلست كما جاءت، ورآها بعض الحضور من الصحابة، فطلب من الرسول الكريم أن يزوجها إياه.

·  ما روي أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله r في حجة الوداع، والفضل بن عباس رديف رسول الله r"، وذكر الحديث وفيه: فأخذ الفضل يلتفت وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله r يحول وجه الفضل من الشق الآخر[144].

    قال ابن حزم :(فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها - صلى الله عليه وسلم - على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء؟ فصح كل ما قلنا يقينا! والحمد لله كثيرًا)

    قال الشوكاني :(وقد استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة، حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزًا ما أقره عليه r)

    عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -  قال: شهدت مع رسول الله r يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.. إلى أن قال: ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال :(تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم) فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال :(لأنكن تكثرن الشكاة - الشكوى - وتكفرن العشير - أي الزوج)، قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.

    فمن أين لجابر - رضي الله عنه - أن يعرف أنها سفعاء الخدين إذا كان وجهها مغطى بالنقاب؟.

·  عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أنه شهد العيد مع رسول الله r، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن، قال :(فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال) [145] 

قال ابن حزم :(فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله r رأى أيديهن فصح أن اليد من المرأة، والوجه، ليسا عورة)

·  عن عائشة رضي الله عنها قالت :(كن نساء مؤمنات يشهدن مع النبي r صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يُعرفن من الغَلَس) [146]

·      وهو يدل بمفهومه على أنه يعرفن في غير حالة الغلس، وإنما يعرفن إذا كن سافرات الوجوه.

·  ما روي أن سُبَيْعة بنت الحارث كانت تحت سعد بن خولة وهو ممن شهد بدرًا، وقد توفي عنها في حجة الوداع، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت - خرجت من نفاسها - تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، وقال لها :(ما لي أراك متجملة؟ لعلك تريدين النكاح! إنك والله ما أنت بناكحة، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر)، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله r، وسألته عن ذلك، فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي) [147] 

·  فدل هذا الحديث على أن سبيعة ظهرت متجملة أمام أبي السنابل، وهو ليس بمحرم لها، بل هو ممن تقدم لخطبتها بعد، ولولا أنها سافرة ما عرف إن كانت متجملة أم لا.

·  عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن رجلاً مرت به امرأة فأحدق بصره إليها. فمر بجدار، فمرس وجهه، فأتى رسول الله r، ووجهه يسيل دمًا. فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا. فقال رسول الله r :(إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا، وإذا أراد به غير ذلك أمهل عليه بذنوبه، حتى يوافي بها يوم القيامة، كأنه عَيْر)

فدل هذا على أن النساء كن سافرات الوجوه، وكان منهن من تلفت بحسنها أنظار الرجال إلى حد الاصطدام بالجدار، وحتى يسيل وجهه دمًا.

·  ما ثبت في السنة ما يدل على أن لبس المرأة للنقاب إذا وقع في بعض الأحيان، كان أمرًا غريبًا يلفت النظر، ويوجب السؤال والاستفهام، فقد روي أنه جاءت امرأة إلى النبي r، يقال لها: أم خلاد، وهي منتقبة، تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي r: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أُرْزَأَ ابني فلن أُرْزَأَ حيائي!.. الحديث[148].

    ولو كان النقاب أمرًا معتادًا للنساء في ذلك الوقت ما كان هناك وجه لقول الراوي: أنها جاءت وهي منتقبة، وما كان ثمت معنى لاستغراب الصحابة وقولهم لها :(جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟)

    ورد المرأة يدل على أن حياءها هو الذي دفعها إلى الانتقاب، وليس أمر الله ورسوله، ولو كان النقاب واجبًا شرعيًا، لأجابت بغير هذا الجواب، بل ما صدر السؤال أصلاً، فالمسلم لا يسأل: لماذا أقام الصلاة، أو آتي الزكاة، وفي القواعد المقررة: ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته.

·  ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها، بائعة أو مشترية، أو موكلة، أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها، ومن ثم نجد أن الفقهاء مُجْمِعون على أن المرأة أن تكشف عن وجهها إذا مثلت أمام القضاء، حتى يتعرف القاضي والشهود والخصوم على شخصيتها. ولا يمكن التعرف على شخصيتها والحكم بأنها فلانة بنت فلان، ما لم يكن وجهها معروفًا للناس من قبل، وإلا فإن كشف وجهها في مجلس القضاء لا يفيد شيئًا.

·  أن الأصل براءة الذمم من التكاليف، ولا تكليف إلا بنص ملزم، لذا كان موضوع الإيجاب والتحريم في الدين مما يجب أن يشدد فيه، ولا يتساهل في شأنه، حتى لا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو نحل لهم ما حرم الله عليهم، أو نشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ولهذا كان أئمة السلف يتورعون من إطلاق كلمة حرام إلا فيما علم تحريمه جزمًا.

·  أن الأصل في الأشياء والتصرفات العادية هو الإباحة، فما لم يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم، يبقى الأمر على أصل الإباحة، ولا يطالب المبيح بدليل، لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، إنما المُطالب بالدليل هو المحرم، وفي موضوع كشف الوجه والكفين ليس هناك نص صحيح صريح يدل على تحريم ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يحرمه لحرمه بنص بين يقطع كل ريب.

·  أن المقرر الذي لا خلاف عليه أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وفي زماننا هذا الذي أعطى للمرأة ما أعطى، يجعلنا نتبنى الأقوال الميسرة، التي تدعم جانب المرأة، وتقوي شخصيتها، فقد استغل خصوم الإسلام من المنصرين والماركسيين والعلمانيين وغيرهم سوء حال المرأة في كثير من أقطار المسلمين، ونسبوا ذلك إلى الإسلام نفسه، وحالوا تشويه أحكام الشريعة وتعاليمها حول المرأة، وصوروها تصويرًا غير مطابق للحقيقة التي جاء بها الإسلام.

·  أنه مما لا نزاع فيه أن (عموم البلوى) من أسباب التخفيف والتيسير كما يعلم ذلك المشتغلون بالفقه وأصوله، ولهذا شواهد وأدلة كثيرة، وقد عمت البلوى في هذا العصر، بخروج النساء إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل، والمستشفيات والأسواق وغيرها، ولم تعد المرأة حبيسة البيت كما كانت من قبل. وهذا كله يحوجها إلى أن تكشف عن وجهها وكفيها، لضرورة الحركة والتعامل مع الحياة والأحياء، في الأخذ والعطاء والبيع والشراء، والفهم والإفهام.

·  أن إلزام المرأة المسلمة - وخصوصًا في عصرنا - بتغطية وجهها ويديها فيه من الحرج والعسر والتشديد ما فيه، والله تعالى قد نفى عن دينه الحرج والعسر والشدة، وأقامه على السماحة واليسر والتخفيف والرحمة.

القول الثاني:  أن جسم المرأة كله عورة بالنسبة للرجل الأجنبي عدا الوجه والكفين والقدمين، وهو قول الحنفية، وروي عن أبي يوسف القول بجواز إظهار ذراعيها أيضا لأنهما يبدوان منها عادة. وجاز كشف الوجه والكفين والنظر إليهما، ومن الأدلة على ذلك:

·      أنه تعالى نهى عن إبداء الزينة واستثنى ما ظهر منها، والقدمان ظاهرتان.

·  قال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرط والفتخ.

القول الثالث: أن كل شيء من المرأة عورة بالنسبة للأجنبي عنها حتى ظفرها، وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل, وروي عن الإمام أحمد أنه قال: إن من يبين زوجته لا يجوز أن يأكل معها لأنه مع الأكل يرى كفها , وقال القاضي من الحنابلة: يحرم نظر  الأجنبي إلى الأجنبية ما عدا الوجه والكفين , ويباح له النظر إلى هذين العضوين مع الكراهة عند أمن الفتنة، ومن الأدلة على ذلك:

·  قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:59)، قال السيوطي :(هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن)، وقد خصَّ الله سبحانه في هذه الآية بالذكر أزواج النبي e وبناته؛ لشرفهن ولأنهن آكد في حقه من غيرهن لقربهن منه، ثم عمم سبحانه الحكم على نساء المؤمنين، وهذه الآية صريحة كآية الحجاب الأولى، على أنه يجب على جميع نساء المؤمنين أن يغطين ويسترن وجوههن وجميع البدن والزينة المكتسبة، عن الرجال الأجانب عنهن، وذلك الستر بالتحجب بالجلباب الذي يغطي ويستر وجوههن وجميع أبدانهن وزينتهن، وفي هذا تمييز لهن عن اللائي يكشفن من نساء الجاهلية، حتى لا يتعرضن للأذى ولا يطمع فيهن طامع، والأدلة من هذه الآية على أن المراد بها ستر الوجه وتغطيته من وجوه، هي:

    الوجه الأول: معنى الجلباب في الآية هو معناه في لسان العرب، وهو: اللباس الواسع الذي يغطي جميع البدن، وهو بمعنى: الملاءة والعباءة، فتلبسه المرأة فوق ثيابها من أعلى رأسها مُدنية ومرخية له على وجهها وسائر جسدها، وما على جسدها من زينة مكتسبة، ممتداً إلى ستر قدميها، فثبت بهذا حجب الوجه بالجلباب كسائر البدن لغةً وشرعاً.

    الوجه الثاني: أن شمول الجلباب لستر الوجه هو أول معنى مراد؛ لأن الذي كان يبدو من بعض النساء في الجاهلية هو: الوجه، فأمر الله نساء النبي e والمؤمنين بستره وتغطيته، بإدناء الجلباب عليه، لأن الإدناء عُدِّي بحرف على، وهو دال على تضمن معنى الإرخاء، والإرخاء لا يكون إلا من أعلى، فهو هنا من فوق الرءوس على الوجوه والأبدان.

    الوجه الثالث: أن ستر الجلباب للوجه وجميع البدن وما عليه من الثياب المكتسبة – الزينة المكتسبة – هو الذي فهمه نساء الصحابة - رضي الله عنهم - ، وذلك فيما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)(الأحزاب: من الآية59) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها[149].

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:59) [ شَقَقن مُرُوطهن، فاعتجرن بها، فصَلَّين خلف رسول الله e كأنما على رءوسهن الغربان) [150]، وفي حديث آخر قال، رضي الله عنها :(يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله تعالى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(النور: من الآية31) شققن مروطهن فاختمرن بها) [151]، والاعتجار: هو الاختمار، فمعنى: فاعتجرن بها، واختمرن بها: أي غطين وجوههن.

    وعن أم عطية رضي الله عنها قالت :(أمرنا رسول الله e أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق، والـحُيَّض، وذوات الخدور، أمَّـا الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) [152]، وهذا صريح في منع المرأة من بروزها أمام الأجانب بدون الجلباب.

    الوجه الرابع: في الآية قرينة نصية دالة على هذا المعنى للجلباب، وعلى هذا العمل الذي بادر إليه نساء الأنصار والمهاجرين - رضي الله عنهم -  بستر وجوههن بإدناء الجلابيب عليها، وهي أن في قوله تعالى :﴿  قل لأزواجك[ وجوب حجب أزواجه e وستر وجوههن، لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين، وفي هذه الآية ذكر أزواجه e مع بناته ونساء المؤمنين، وهو ظاهر الدلالة على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب على جميع المؤمنات.

    الوجه الخامس: هذا التعليل ﴿ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين[ راجع إلى الإدناء، المفهوم من قوله: ]يدنين[ وهو حكم بالأولى على وجوب ستر الوجه؛ لأن ستره علامة على معرفة العفيفات فلا يؤذين، فهذه الآية نص على ستر الوجه وتغطيته، ولأن من تستر وجهها لا يطمع فيها طامع بالكشف عن باقي بدنها وعورتها المغلظة، فصار في كشف الحجاب عن الوجه تعريض لها بالأذى من السفهاء، فدل هذا على التعليل على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لجميع البدن والزينة بالجلباب، وذلك حتى يعرفن بالعفة، وأنهن مستورات محجبات بعيدات عن أهل الرّي والخنا، وحتى لا يفتتن ولا يفتن غيرهن فلا يؤذين.

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) [153]، وهو يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللواتي لم يحرمن[154]

·  عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :(كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله r، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) [155]، ففي الحديث دلالة واضحة على وجوب ستر الوجه، وإلا لما أقدمن عليه[156].

·  قوله - صلى الله عليه وسلم - :(المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) [157] ففي الحديث دلالة على وجوب الستر لما فيه من كلية العورة[158].

·  أن المرأة إذا كانت غاية في الستر والانضمام، لم يقدم عليها من في قلبه مرض، وكّـفَّت عنها الأعين الخائنة، بخلاف المتبرجة المنتشرة الباذلة لوجهها، فإنها مطموع فيها.

·      سد الذريعة[159].

·  العرف: وهو مما يمكن أن يستدل به هنا، فالعرف العام الذي جرى عليه المسلمون عدة قرون، بستر وجوه النساء بالبراقع والنُّقُب وغيرها، وقد قال بعض الفقهاء :

والعرف في الشرع له اعتبار     لذا عليه الحكم قد يدار

    وقد نقل النووي وغيره عن إمام الحرمين - في استدلاله على عدم جواز نظر المرأة إلى الرجل - اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات[160].

·  أنه لو ثبت سفور وجه المرأة في عصر النبوة، فإن ذلك بسبب كونه عصرًا مثاليًا، وفيه من النقاء الخلقي، والارتقاء الروحي، ما يؤمن معه أن تسفر المرأة عن وجهها، دون أن يؤذيها أحد. بخلاف عصرنا الذي انتشر فيه الفساد، وعم الانحلال، وأصبحت الفتنة تلاحق الناس في كل مكان فليس أولى من تغطية المرأة وجهها، حتى لا تفترسها الذئاب الجائعة التي تتربص بها في كل طريق[161].

الترجيح:

لا نريد أن نرجح هنا قولا بعينه، للاختلاف الذي نعاينه في واقعنا حتى صرف البعض عن الدعوة للحجاب الشرعي بأي نوع من أنواعه وعلى أي مذهب من المذاهب إلى الاهتمام وصب كل الجهد على الدعوة لقول من الأقوال واعتباره الحق وإلغاء غيره، وهذا يتنافى مع المقاصد الشرعية التي ترتب سلم الأولويات، فلا يصح في واقع يموج بالعري، وينتشر فيه فكر الكاسيات العاريات أن ننشغل عن إنكار هذا الواقع المتفق على فساده بالإنكار على واقع مختلف فيه، فلذلك نرى أن نبدأ أولا بالحجاب على أدنى درجاته، ثم بعد ذلك لا بأس أن نترقى إلى ما نراه من تورع واحتياط.

يقول الشيخ القرضاوي :(إن المعركة لم تعد حول الوجه والكفين ": أيجوز كشفهما أم لا يجوز؟ بل المعركة الحقيقية مع أولئك الذين يريدون أن يجعلوا المرأة المسلمة صورة من المرأة الغربية، وأن يسلخوها من جلدها ويسلبوها هويتها الإسلامية، فتخرج كاسية عارية، مائلة مميلة، فلا يجوز لأخواتنا وبناتنا " المنقبات " ولا إخواننا وأبنائنا من " دعاة النقاب " أن يوجهوا رماحهم وسهامهم إلى أخواتهم " المحجبات " ولا إلى إخوانهم من " دعاة الحجاب " ممن اقتنعوا برأي جمهور الأمة. وإنما يوجهونها إلى دعاة التكشف والعري والانسلاخ من آداب الإسلام. إن المسلمة التي التزمت الحجاب الشرعي كثيرًا ما تخوض معركة في بيئتها وأهلها ومجتمعها، حتى تنفذ أمر الله بالحجاب فكيف نقول لها: إنك آثمة عاصية، لأنك لم تلبسي النقاب؟)

هذا من الناحية العامة، أما من ناحية حق الزوج على زوجته، فنرى من المصلحة طاعة الزوجة زوجها فيما يلزمه بها من ستر، ولو وقع فيه الخلاف كأمرها بالنقاب ونحوه، وذلك لعدم تضررها به من جهة، ومن جهة ثانية لأن ذلك قد يكون من لوازم غيرته، والشرع حث الزوجة على مراعاة هذه الناحية.

وإلى جانب هذا نرى أن لا يتدخل الزوج في هذه الشئون مع زوجته ما دامت فيه هذه الفسحة، وخاصة إن ترتب عن عدم تنقبها مصلحة شرعية، كما قال الشيخ القرضاوي :(وأفضل للمسلمة المشتغلة بالدعوة ألا تنتقب؛ حتى لا تضع حاجزًا بينها وبين سائر المسلمات، ومصلحة الدعوة هنا أهم من الأخذ بما تراه أحوط)

هذا وقد ذكر الشيخ القرضاوي في نهاية ترجيحه لعدم وجوب النقاب ثلاث تنبيهات مهمة لا بأس من ذكرها هنا، لأنها قد تقرب بين القولين في بعض المجالات:

·  أن كشف الوجه لا يعني أن تملأه المرأة بالأصباغ والمساحيق، وكشف اليدين لا يعني أن تطيل أظافرها، وتصبغها بما يسمونه (المانوكير) وإنما تخرج محتشمة غير متزينة ولا متبرجة، وكل ما أبيح لها هنا هو الزينة الخفيفة، كما جاء عن ابن عباس وغيره: الكحل في عينيها، والخاتم في يديها.

·  أن القول بعدم وجوب النقاب، لا يعني عدم جوازه، فمن أرادت أن تنتقب فلا حرج عليها، بل قد يستحب لها ذلك - في رأي بعض الناس ممن يميلون دائمًا إلى تغليب جانب الاحتياط - إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها، وخصوصًا إذا كان النقاب لا يعوقها ولا يجلب عليها القيل والقال. بل ذهب كثير من العلماء إلى وجوب ذلك عليها. ولكني لا أجد من الأدلة ما يوجب عليها تغطية الوجه عند خوف الفتنة؛ لأن هذا أ مر لا ينضبط، والجمال نفسه أمر ذاتي، ورب امرأة يعدها إنسان جميلة، وآخر يراها عادية، أو دون العادية.

·  أنه لا تلازم بين كشف الوجه وإباحة النظر إليه، فمن العلماء من جوز الكشف، ولم يجز النظر، إلا النظرة الأولى العابرة، ومنهم من أباح النظر إلى ما يباح كشفه لكن بغير شهوة فإذا وجد شهوة أو قصدها حرم النظر عليه وهو الذي أختار.

صور إظهار العورة:

تعتقد الكثير من النساء أنها بمجرد ستر جسمها بأي ساتر مهما كانت صفته تكون قد سترت عورتها وتحجبت، وذلك خطأ كبير، لأن للباس الشرعي شروطا وقيودا تسد ذريعة الاحتيال على الأحكام الشرعية، فلذلك من الصور التي قد تعتبر بها المرأة كاشفة لعورتها ولو غطتها الصور التالية:

الألبسة الشفافة:

فمن التبرج، بل من أعظم التبرج أن تلبس المرأة لباسا رقيقا يشف عن جسمها، وقد روي فيمن فعلت ذلك الوعيد الشديد، وكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخترق ببصره حجاب الزمن وهو يقول:(صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لايدخلن الجنة ولايجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) [162]، ومعنى كاسيات عاريات أن ثيابهن لا تؤدي وظيفة الستر فتصف ما تحتها لرقتها وشفافيتها، قال ابن العربي:( وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رق يصفهن ويبدي محاسنهن وذلك حرام([163]

بل ورد في حديث آخر ما يدل على أن هذا سيحدث في أمته فقال - صلى الله عليه وسلم -:( يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد , نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات , لو كان وراءكم أمة من الأمم خدمتهن نساؤكم كما خدمتكم نساء الأمم قبلكم([164]

فهذا الوعيد الشديد، والأمر باللعن يدل على مبلغ خطورة تفشي ظاهرة التبرج في المجتمع، ولذلك لم يختلف العلماء في عدها من الكبائر، ولا نبالغ إن اعتبرنا تفشي مثل هذه الظاهرة التي قد يستهين البعض بخطورتها سببا كبيرا من أسباب البلاء الذي حاق بالمسلمين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنهم يعمرون المساجد، ولكنه أخبر في نفس الوقت أن بيوتهم خربة، ولا خير فيمن يعمر المسجد، ثم يخرب بيته وأسرته، بل والمجتمع أجمع.

وقد ورد للدلالة على تحريم هذا النوع من اللباس زيادة على ما سبق ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال:( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا) [165]، وأشار إلى وجهه وكفيه.

ودخلت نسوة من بني تميم على عائشة -رضي الله عنها- وعليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: (إن كنتن مؤمنات فليس هذا بثياب المؤمنات)، وأدخلت عليها امرأة عروس عليها خمار رقيق شفاف فقالت: لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا.

الألبسة المجسمة:

وهي التي تحدد أجزاء الجسم، وتبرز مفاتنه، وإن لم تكن رقيقة شفافة، وهي الثياب التي يتسابق مصممو الأزياء فيها بصورة تهيج الغرائز وتثير الشهوات، فلابساتها كاسيات عاريات بلا شك، وهي أشد إغراء وفتنة من الثياب الرقيقة الشفافة.

وقد نقل الإمام مالك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  نهى النساء أن يلبسن القباطي قال: وإن كانت لا تشف، فإنها تصف قال مالك: معنى تصف أي تلصق بالجلد , وسئل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية فقال: ما يعجبني ذلك , وإذا شدتها عليها ظهر عجزها , ومعنى ذلك أنه لضيقه يصف أعضاءها عجزها وغيرها مما شرع ستره[166]

ألبسة الرجال:

كالسراويل ونحوها ،وهي زيادة على تجسيمها بعض أنحاء الجسم، وعدم ملاءمتها للنساء، تقع المرأة بها في التشبه المحرم بالرجال، وقد لعن - صلى الله عليه وسلم - المتشبهات من النساء بالرجال، كما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ونهى المرأة أن تلبس لبسة الرجل، والرجل أن يلبس لبسة المرأة.

2 ـ الخلاعة والتكسر

وهي تعمد الإثارة في مشيتها وكلامها وضحكها وسائر حركات جسمها ووجهها؛ فإن التكسر والميوعة من شأن الفاجرات لا من خلق المسلمات. قال تعالى: ﴿ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾(الأحزاب:32)، قال القرطبي في معنى الآية :( أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر من اللين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المربيات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا([167]

وقد روي عن بعض أمهات المؤمنين تطبيقا لهذه الآية أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا، تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا[168].

ولذلك عد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن، أما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام، فهو مما يدعو إلى القول بالتحريم، لأن هذه الخصال تكون مع الزوج لا مع العشيق.

وقد يتعلق البعض بأن هذا الأمر مختص بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي شبهة توردها بعض النساء، وقد أجاب سيد ـ رحمه الله ـ على ذلك، وعلى وجه تخصيص نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مع كون الأمر عاما، فقال تعليقا على هذه الآية:(  ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي  - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة وفي أي عهد يكون هذا التحذير ؟ في عهد النبي  - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جيمع الأعصار.. ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب، وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة ،ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين،وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس([169]

وفي مقابل ذلك أمرن بأن يقلن قولا معروفا، وهو أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ لأن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد[170].

وكما أن التبرج قد يكون في الكلام بالتكسر والخضوع بالقول، فإن يكون في الحركات أيضا قال تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾(النور:31)فقد كانت المرأة في الجاهلية حين تمر بالناس تضرب برجلها، ليسمع قعقعة خلخالها فنهى القرآن عن ذلك، لما فيه من إثارة لخيال الرجال ذوي النزعات الشهوانية، ولدلالته على نية سيئة لدى المرأة في لفت أنظار الرجال إليها زينتها.

3 ـ التزين المحرم

فقد تلبس المرأة الحجاب، ولكنها في نفس الوقت تزين ما ظهر من جسمها كالوجه والكفين بالزينة المحرمة التي يجوز كشفها، فلذلك كان ذلك الكشف نوعا من أنواع التبرج، ولكن هذا ليس عاما، فقد قال تعالى:﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾(النور:31)، فقد نهت الآية الكريمة عن كل ما يزين المرأة ويجملها، سواء أكانت زينة خلقية كالوجه والشعر ومحاسن الجسم، أم مكتسبة كالثياب والحلي والأصباغ ونحوها، ولم تستثن ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾

وقد اختلف العلماء في تحديد ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾وقدره؛ هل هو ما ظهر بحكم الضرورة من غير قصد، كأن كشفته الريح مثلا، أو أنه ما جرت به العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، فقد روي كلا القولين في تفسير الآية، وقد جمع ابن الجوزي الأقوال في تفسير ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ ، وهي سبعة أقوال هي[171]:

أنها الثياب رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود وفي لفظ آخر قال هو الرداء، قال القاضي أبو يعلى: وهذا القول أشبه وقد نص عليه احمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب وكل شئ  منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شئ من الأجنبيات لغير عذر.

أنها الكف والخاتم والوجه.

أنها الكحل والخاتم رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.

أنها السواران والخاتم والكحل قاله المسور بن مخرمة.

أنها الكحل والخاتم والخضاب قاله مجاهد.

أنها الخاتم والسوار قاله الحسن.

أنها الوجه والكفان، قال القرضاوي:( والذي أرجحه أن يقصر (ما ظهر منها) على الوجه والكفين وما يعتاد لهما من الزينة المعقولة بلا غلو ولا إسراف كالخاتم لليد والكحل للعين كما صرح به جماعة من الصحابة والتابعين(

وقد قسم القرطبي أنواع الزينة، وما يمكن أن تحمل عليه الآية، وهو تقسيم حسن خلاصته[172]: أن الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومن الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب، على الخلاف الذي فيه، وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن استثنوا، وعلى هذا الأساس وقع الخلاف في بعض الأمور هل هي من الزينة الظاهرة أم الباطنة، كما سبق ذكره.

أما ما تستعمله بعض النساء الآن من الأصباغ والمساحيق للخدين والشفتين والأظافر ونحوها، فإنها من الغلو المستنكر، والذي لا يجوز إظهاره ولم يختلف في تحريمه أحد من الفقهاء.

ومثل هذه المساحيق في الحرمة أنواع الطيب التي تخرج بها المرأة فتجذب بذلك أنوف الرجال وأبصارهن، وقد عد ابن حجر من الكبائر:(خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة ولو بإذن الزوج)، قال ابن حجر:عد هذا هو صريح هذه الأحاديث , وينبغي حمله ليوافق قواعدنا على ما إذا تحققت الفتنة , أما مع مجرد خشيتها فهو مكروه أو مع ظنها فهو حرام غير كبيرة كما هو ظاهر[173]، ومن الأدلة على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :(كل عين زانية  والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني زانية، وقال  - صلى الله عليه وسلم - :(أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) [174]

وقد رويت في ذلك الآثار الكثيرة عن السلف الصالح - رضي الله عنهم - ، ومنها [175]:

أن امرأة مرت بأبي هريرة - رضي الله عنه -  وريحها يعصف فقال لها أين تريدين يا أمة الجبار ؟ قالت إلى المسجد ; قال وتطيبت له ؟ قالت: نعم. قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يقبل الله من امرأة خرجت إلى المسجد لصلاة وريحها يعصف حتى ترجع فتغتسل.

وروي أن عمر بن الخطاب خرج يوم عيد , فمر بالنساء فوجد ريح رأس امرأة فقال من صاحبة هذا ؟ أما لو عرفتها لفعلت وفعلت , إنما تطيب المرأة لزوجها , فإذا خرجت لبست أطيمرها أو أطيمر خادمها , فتحدث النساء أنها قامت عن حدث.

وعن أبي موسى قال: أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد ليوجد ريحها لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل اغتسالها من الجنابة.

وعن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تمس طيبا ([176]

وقد كان السلف الصالح - رضي الله عنهم -  يحرصون على منع نسائهن إن تطيبن وتعطرن، فعن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه -  أنه وجد من امرأته ريح مجمر وهي بمكة , فأقسم عليها ألا تخرج تلك الليلة، وعن إبراهيم: أن امرأته استأذنته أن تأتي أهلها , فأذن لها فوجد بها ريحا طيبة ريحه , فجلسها وقال: إن المرأة إذا تطيبت ثم خرجت فإنما طيبها شنار فيه نار.

وعن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن أمه قالت: نزل بي حموي فمسست طيبا ثم خرجت فأرسلت إلي حفصة: إنما الطيب للفراش.

وقد ذهب ابن حزم إلى أنه لا يحل للمرأة إذا شهدت المسجد أن تمس طيبا , فإن فعلت بطلت صلاتها ; سواء في ذلك الجمعة , والعتمة , والعيد , وغير ذلك من جميع الصلوات[177].

قال ابن دقيق العيد:( يلتحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم قال وقد ألحق به حسن الملابس ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة وحمل عليه بعضهم قول عائشة في الصحيحين :( لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل([178]

ثالثا ـ النظافة

ويتعلق بها المسائل التالية[179]:

الاغتسال:

نص الفقهاء على أن للزوج حق إجبار زوجته على ما يتعلق من الطهارة بحقه في التمتع أو بوجوب الصلاة عليها، ومما ذكروه في ذلك مما يتعلق بالأحكام التعبدية حق إجبارها على الغسل من الحيض والنفاس، مسلمة كانت أو غير مسلمة، لأنه يمنع الاستمتاع الذي هو حق له، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقه، وإن احتاجت إلى شراء الماء فثمنه عليه، لأنه لحقه. 

واتفقوا أن للزوج حق إجبار المسلمة البالغة على الغسل من الجنابة، لأن الصلاة واجبة عليها، ولا تتمكن منها إلا بالغسل.

وبما أن القواعد الشرعية تربط بين التكليف والقدرة على أدائه، فقد قال الفقهاء بوجوب توفير ما يحقق هذا النوع من النظافة، وقد ذكر ابن الحاج ـ وهو يعالج هذه الناحية من واقعه الاجتماعي ـ التقصير الذي يقع فيه الكثير من المسلمين من إهمال هذا الجانب، وكأنه يعبر عن واقعنا المعاصر في كثير من المجتمعات الإسلامية، فهو يقول:(والعجب من أكثرهم أن الواحد منهم يشتري الدار بالألف، أو يبنيها ابتداء ثم يتوضأ في طست، ولا يعمل موضعا للوضوء فضلا عن موضع الغسل، وما ذاك إلا لأجل العوائد الرديئة المستهجنة القبيحة، وهو أنهم لا فكرة لهم في الغالب إلا في صلاح دنياهم، وما كان من أمر الدين فلا يفكرون فيه حتى يفجأهم إن كانوا متقين في هذا الزمان، فإن أصابت الجنابة بعض المتحفظين منهم على دينه خرج إلى الحمام، وترك أهله) [180]

ويبين نتائج هذا التقصير في أمر بسيط كان يمكنه تجاوزه بأقل التكاليف، فيقول:(كذلك تجد بعضهم يعطي في صداق المرأة المئين، أو الآلاف، ولا يعد موضعا للغسل بشيء يسير من ذلك، وكذلك المرأة تساعده على ترك ذلك فكأنهم اصطلحوا على فعل الأسباب التي تترك الصلاة لأجلها، والصلاة لا تسقط بشيء من ذلك).

ثم يبين بحسه المقاصدي نتائج هذا التقصير في الإخلال بالمودة الزوجية بقوله:(لا جرم أن التوفيق بينهما قل أن يقع، وإن دامت الألفة بينهما فعلى دخن، وإن قدر بينهما مولود فالغالب عليه إن نشأ العقوق، وارتكاب ما لا ينبغي كل ذلك بسبب ترك مراعاة ما يجب من حق الله I  منهما معا) [181]

ولذلك فقد نص في المدخل على أن المرأة لو طلبت من القاضي  أن يجعل لها زوجها موضعا للغسل لحكم لها بذلك عليه.

ونظرا لأهمية الغسل وأثره في محافظة المرأة على الصلاة، وهو ما نراه في المجتمع من ترك الزوجات للصلاة أو تقصيرهم فيها بسبب الغسل يذكر ابن الحاج ما ينبغي للزوج أن يعلم زوجته من الرخص في ذلك، ومنها (أن يعلمها إذا اغتسلت في البيت أن تترك رأسها مغطى لا تكشفه حتى إذا جاءت إلى غسله كشفته، وخللت شعر رأسها، وأفاضت الماء عليه ثم نشفته في الوقت، وغطته ثم بعد ذلك تغسل سائر بدنها، وإنما يأمرها بذلك خيفة أن يصيبها في رأسها ألم إن تركته مكشوفا حتى تفرغ من غسل جميع بدنها، ولها أن تترك رأسها مغطى حتى تفرغ من غسل جميع بدنها، ثم تغسل رأسها، وليس في ذلك إلا ترك الترتيب فيه، وهو في الغسل ليس بواجب) [182]

حكم إجبار غير المسلمة على الاغتسال:

اختلف الفقهاء في حكم إجبار غير المسلمة على الاغتسال، على قولين[183]:

القول الأول:  أن له إجبارها عليه، وهو قول للشافعي ورواية عند الحنابلة، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم، ومن الأدلة على ذلك:

·  ليحل للزوج وطؤها كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة:222)، أي بالماء ولم يخص مسلمة من غيرها.

·      أن كمال الاستمتاع يقف عليه، فإن النفس تعاف من لا يغتسل من جنابة.

القول الثاني: أنه ليس له إجبارها عليه، وهو قول مالك في رواية أشهب والثوري وقول للشافعي ورواية عند الحنابلة، ومن الأدلة على ذلك :

·  أنها غير معتقدة لذلك لقوله تعالى:﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾(البقرة:228)، وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات.

·      قوله تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ﴾(البقرة:256)

·      أن الوطء لا يقف عليه، فإنه مباح بدونه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه ليس له إجبارها عليه لارتباطه بالناحية التعبدية المحضة، أما الغسل من الحيض، فيكفيه منه أن تغسل محل الأذى كما بينا ذلك في محله.

خصال الفطرة:

يقصد بخصال الفطرة[184] في المفهوم الإسلامي، ما تستدعية الفطرة السليمة من إزالة قاذورات معينة في الجسم، يستقذرها الطبع السليم، قال ابن تيمية:(وجميع هذه الخصال مقصودها النظافة والطهارة وإزالة ما يجمع الوسخ والدرن من الشعور والأظفار والجلد)[185]

ولا شك في تأثير مثل تلك القاذورات في إفساد العلاقة الزوجية خاصة وأن علاقة الزوجية علاقة أجسام كما هي علاقة قلوب، فقد تؤثر الأجسام في إفساد القلوب.

وقد نص العلماء على المقاصد الشرعية من اعتبار هذه الخصال والحث على التزامها، وما يرتبط بها من المصالح، وذكروا من بينها حق الزوجين من هذه الخصال، قال ابن حجر: (ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع , منها تحسين الهيئة , وتنظيف البدن جملة وتفصيلا , والاحتياط للطهارتين , والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة , ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان , وامتثال أمر الشارع, والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ (غافر:64)، لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك , وكأنه قيل: قد حسنت صوركم، فلا تشوهوها بما يقبحها, أو حافظوا على ما يستمر به حسنها , وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب , لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه , فيقيل قوله , ويحمد رأيه , والعكس بالعكس) [186]

وقد ورد التنصيص على هذه الخصال في أحاديث كثيرة صنفت فيها الرسائل الخاصة بها دلالة على أهميتها، ونرى أنه من الخطأ التعامل بحرفية مع مثل هذه المسائل، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصد الحصر، ولا التحديد أما قوله مثلا: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط) [187]، فهو من باب التمثيل لا من باب الحصر، قال ابن دقيق العيد :(دلالة [ من ] على التبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر , وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك، فدل على أن الحصر فيها غير مراد، واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة , فقيل: برفع الدلالة وأن مفهوم العدد ليس بحجة , وقيل: بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم بالزيادة , وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين , وقيل: أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة) [188]

ولأجل هذه المقاصد الشريفة، فإن الراجح هو القول بوجوب هذه الخصال، قال ابن العربي: (عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة , فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين) [189]، وقد تعقب بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس , فمجرد الندب إليها كاف.

ومثل هذا الاستدلال لا يصح من منطلقه، لأن دواعي الأنفس مختلفة، والقول بالإيجاب لا يتنافى مع دواعي الأنفس، بل يؤكدها.

وقد استدل بعضهم بأن الأحاديث دلت على أن الفطرة بمعنى الدين , والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه , وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم u  , وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم u  , وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به.

وهو دليل في غاية القوة، ومما يدل كذلك على هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقت لهم في ذلك أوقاتا، فعن أنس - رضي الله عنه - ، قال: (وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما) [190]

أما عدد هذ الخصال، فقد وردت فيه الأحاديث والروايات المختلفة، وقد حاول ابن العربي أن يجمع خصال الفطرة، فبلغ ثلاثين خصلة , قال ابن حجر تعليقا على هذا الحصر:(إذا أراد خصوص ما ورد لفظ الفطرة فليس كذلك , وإن أراد أعم من ذلك، فلا تنحصر في الثلاثين بل تزيد كثيرا) [191]

وسنذكر هنا بعض الأمثلة عن هذه الخصال، وسنرى من خلالها دورها في المحافظة على الجمال الظاهري، وفي نفس الوقت على العلاقات الأسرية:

غسل البراجم: وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف , قال النووي: وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء , يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف , وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع، وفي حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لأن الوسخ إليها سريع.

الاستحداد: والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد وقد وقع في بعض الأحاديث التعبير بحلق العانة , قال النووي: المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه, وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة[192].

وقد حكى النووي اختلاف الفقهاء في وجوب الإزالة على الزوجة إذا طلب منها زوجها كذلك، ورجح القول بالوجوب.

نتف الإبط:  ويتأدى أصل السنة بالحلق ولا سيما من يؤلمه النتف، وقد روى يونس بن عبد الأعلى قال دخلت على الشافعي ورجل يحلق إبطه فقال: إني علمت أن السنة النتف , ولكن لا أقوى على الوجع، قال الغزالي: والحلق كاف لأن المقصود النظافة[193]. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف , ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل.

تقليم الأظفار: وهو إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر , لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر , وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة, ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع.

حق الرجل في إجبار زوجته على خصال الفطرة:

نص الفقهاء على أن للرجل الحق في إجبار زوجته على النظافة من إزالة الوسخ والدرن وتقليم الأظفار، وإزالة شعر العانة، إذا خرج عن العادة، وتستوي في هذا المسلمة وغير المسلمة، لاستوائهما في حصول النفرة من ذلك حالها.

وقد اختلف الفقهاء في حقه في إجبارها على تقليم الأظافر إن طالت قليلا، بحيث تعافها النفس على قولين.

واختلفوا في حقه في منعها من أكل ما له رائحة كريهة، كالبصل والثوم والكرات ؟ على قولين:

القول الأول: أن له الحق في منعها من ذلك، لأنه يمنع القبلة، وكمال الاستمتاع.

القول الثاني: أنه ليس له منعها منه، لأنه لا يمنع الوطء.

والأرجح في كل ذلك ما ذكرنا سابقا من الوجوب، لأن مصلحة كلا الزوجين، بل مصلحة الأسرة جميعا قد تتعلق بأمثال هذه المظاهر المزعجة، ويضاف إلى ذلك في عصرنا الدخان، فهو مع حرمته خارج البيت بإجماع العلماء المعاصرين إلا أنه بالنسبة للأسرة خطر كبير قد لا يكتفى بجعله صغيرة، بل قد يحتاج إلى فتوى باعتباره من الكبائر، بل يحتاج إلى فتوى أخطر، وهي اعتباره من العيوب التي تستحق الزوجة بها الخيار، لأن مخاطر الدخان لا تصب الرجل وحده بل تعم معه زوجته وأولاده صحيا ونفسيا، ويكفي ذلك لفتاوى جريئة في هذا المجال.

4 ـ مسؤولية الزوجة على بيت الزوجية

أولا ـ حكم ملازمة الزوجة بيت الزوجية

الأصل الشرعي في النساء سواء كن متزوجات أو غير متزوجات هو لزوم البيت[194]، فلا يخرجن إلا لحاجة، ولذلك كان من حقوق الزوج على زوجته ما يسميه الفقهاء بملك الاحتباس، وهو صيرورة الزوجة ممنوعة من الخروج والبروز إلا بإذن الزوج، ومن الأدلة النصية على ذلك:

·  قوله تعالى:﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾(الطلاق:6), والأمر بالإسكان نهي عن الخروج , والبروز , والإخراج , إذ الأمر بالفعل نهي عن ضده.

·  قوله تعالى:﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب:33) قال القرطبي:( معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والإنكفاف على الخروج منها إلا لضرورة، فأمر الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -  بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفا لهن([195]

·      قوله Y : ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ ﴾(الطلاق:1)

·  قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان , وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها) [196]

·  عن أنس - رضي الله عنه -  قال: جئن النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  فقلن: يا رسول الله: ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله I  فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من قعدت – أو كلمة نحوها – منكن في بيتها , فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله) [197]

·  عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه قال:( عليكن بالبيت فإنه جهادكن([198]

·  أنها لو لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب ; لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نفي النسب.

ما يترتب على رفض الزوجة الإقامة في بيت الزوجية :

نص الفقهاء على أن المرأة إذا امتنعت عن الإقامة في بيت الزوجية بغير حق, سواء أكان بعد خروجها منه , أم امتنعت عن أن تجيء إليه ابتداء بعد إيفائها معجل مهرها , وطلب زوجها الإقامة فيه, فلا نفقة لها ولا سكنى حتى تعود إليه; لأنها بالامتناع قد فوتت حق الزوج في الاحتباس الموجب للنفقة, فتكون ناشزا، وقد سبق ذكر الخلاف في المسألة.

ثانيا ـ صفات بيت الزوجية

يمكن حصر الصفات التي تحدث عنها الفقهاء حول صفة بيت الزوجية في الصفتين التاليتين على اختلاف بينهم في بعض فروعهما:

1 ـ أن تكون بحسب حال الزوج:

اختلف الفقهاء في اعتبار حال الزوج في النفقة على قولين:

القول الأول: أن المعتبر في المسكن الشرعي للزوجة هو سعة الزوج وحال الزوجة، وهو قول المالكية والحنابلة وأكثر الحنفية, وهو قول الشيرازي من الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

·  قوله تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾(الطلاق:6) ،وقوله تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾(الطلاق:7) وهاتان الآيتان في المطلقة , فالزوجة أولى.

·  القياس على سائر النفقات باعتبار أن كلا منهما حق مترتب على عقد الزواج , ولما كان من المعتبر في النفقة هو حال الزوجين، فكذلك السكنى.

القول الثاني: أن المعتبر في المسكن الشرعي هو حال الزوجة فقط، وهو قول الشافعية; لأن الزوجة ملزمة بملازمة المسكن , فلا يمكنها إبداله، فإذا لم يعتبر حالها فذلك إضرار بها , والضرر منهي عنه شرعا، أما النفقة فيمكنها إبدالها، قال الشربيني:(ولا بد أن يكون المسكن يليق بها عادة ; لأنها لا تملك الانتقال منه , فروعي فيه جانبها , بخلاف النفقة  والكسوة حيث روعي فيهما حال الزوج ; لأنها تملك إبدالهما, فإن لم تكن ممن يسكن الخان أسكنت دارا أو حجرة , وينظر إلى ما يليق بها من سعة أو ضيق , قال تعالى :﴿ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ (الطلاق:6)) [199]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ـ كما ذكرنا سابقا ـ هو اعتبار حال الزوج، وهو ما نصت عليه الآيات السالفة صراحة، وهو ما تفرضه كذلك القواعد الشرعية التي تأبى التفريق بين المسلمين بأي سبب من الأسباب إلا سبب التقوى.

2 ـ انفراد الزوجة بالسكنى:

تحدث الفقهاء عن حق المرأة في انفرادها بالسكن، وهو أن يكون لها مطلق التصرف فيه، ويمكن أن نحصر الحالات التي يمكن أن يشترك مع الزوجة فيها غيرها في الحالات التالية[200]:

الحالة الأولى: الجمع بين الزوجة ووالدي الزوج:

اختلف الفقهاء في حكم الجمع بين الزوجة ووالدي الزوجة على قولين:

القول الأول: لا يجوز الجمع بين الأبوين والزوجة في مسكن واحد، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، ولذلك يكون للزوجة الامتناع عن السكنى مع واحد منهما ; لأن الانفراد بمسكن تأمن فيه على نفسها ومالها حقها , وليس لأحد جبرها على ذلك.

ونص الحنفية على أنه لو كان في الدار بيوت، ففرغ لها بيتا، وجعل لبيتها غلقا على حدة، فليس لها أن تطالبه ببيت آخر[201].

وقد عللوا ذلك كما قال الزيلعي بأن (السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة , وقد أوجبه الله تعالى مقرونا بالنفقة , وإذا أوجب حقا لها ليس له أن يشرك غيرها فيه ; لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها , ويمنعها ذلك عن المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار ; لأنها رضيت بانتقاص حقها) [202]

القول الثاني: التفريق بين الزوجة الشريفة والوضيعة، وهو قول المالكية, فقد نصوا على عدم جواز الجمع بين الزوجة الشريفة والوالدين , وبجواز ذلك مع الزوجة الوضيعة, إلا إذا كان في الجمع بين الوضيعة والوالدين ضرر عليها، قال عبد الملك بن الماجشون في المرأة تكون هي وأهل زوجها في دار واحدة، فتقول إن أهلك يؤذونني فأخرجهم عني أو أخرجني عنهم:(رب امرأة لا يكون لها ذلك، لكون صداقها قليلا، وتكون وضيعة القدر، ولعله أن يكون على ذلك تزوجها، وفي المنزل سعة، فأما ذات القدر فلا بد له أن يعزلها، فإن حلف عن ذلك حمل على الحق أبره أو أحنثه) [203]

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن هذا الحق ثابت للمرأة بغض النظر عن نظر المجتمع لشرفها أو دناءتها، لأن الحقوق الزوجية تقتضي العدالة، وهي تستلزم المعاملة الواحدة لكل الزوجات، إلا إذا رضيت الزوجة بإسقاط حقها.

أما كون هذا حقا للمرأة، فلا شك فيه، بل نراه في ظروف كثيرة واجبا، لأن معظم المشاكل العائلية سببها تدخل الأهل في حياة الزوجين، فلذلك من سد الذريعة إغلاق هذا الباب، وتوفير الحرية الكافية للزوجة في بيت زوجها، لأن العشرة الحسنة تقتضي ذلك، فالمرأة قد تحتاج للتزين لزوجها، وسكنها مع أهله في بيت واحد يحرمها من حقها في التزين، بل يحرم الزوج أيضا من حقه في ذلك.

أما اعتبار الأعراف ذلك عقوقا، فهو من سوء الفهم لمعنى الإحسان للوالدين، فالإحسان لا يقتضي صيرورة الولد رقيقا لرغبات والديه، بل هو مضبوط بضابط الطاعة في المعروف.

ولكنا مع ذلك نستثني ما لو كان للزوج والدان كبيران يحتاجان للخدمة، وليس لديهما غيره، فإن الواجب عليه في هذه الحالة أن يحسن لهما بخدمتهما، ولا يحق للمرأة أن تطالبه بالانفراد بالسكن لما قد يؤدي إليه من ضياع حقهما، وفي هذه الحالة يجب على الزوج قبل الزواج أن يخبر زوجته بحالته حتى يكون زواجها منه عن بينة.

وقد اشتد في هذا ابن حزم، واستدل لذلك بالنصوص الكثيرة، قال ابن حزم:(إن كان الأب والأم محتاجين إلى رحمة الابن، أو الابنة الناكح، لم يجز للابن ولا للابنة الرحيل، ولا تضييع الأبوين أصلا، وحقهما أوجب من حق الزوج والزوجة، فإن لم يكن بالأب والأم ضرورة إلى ذلك، فللزوج إرحال امرأته حيث شاء مما لا ضرر عليهما فيه) [204]

ونلاحظ أن ابن حزم لم يخص بذلك الابن المتزوج وحده،، بل قال بفرضيته على المرأة المتزوجة نفسها، وقد استدل لذلك بالآيات الحاثة على طاعة الوالدين، كقوله تعالى: ﴿ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير﴾(لقمان:14)، قال ابن حزم: فقد قرن تعالى  الشكر لهما بالشكر له عز وجل، فافترض الله عز وجل أن يصحب الأبوين بالمعروف، وإن كانا كافرين يدعوانه إلى الكفر، ومن ضيعهما فلم يصحبهما في الدنيا معروفا)

طلب الزوجة الانفراد بالسكن بعد قبولها بالسكن مع والديه:

إذا اشترط الزوج على زوجته السكنى مع الأبوين, فسكنت ثم طلبت الانفراد بمسكن خاص بها، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: ليس لها ذلك، وهو قول المالكية , إلا إذا أثبتت الضرر من السكن مع الوالدين.

القول الثاني: إن كان عاجزا لا يلزمه إجابة طلبها , وإن كان قادرا يلزمه، وهو قول الحنابلة، وقيل لا يلزمه غير ما شرطته عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن يبحث الزوجان عن حل وسط، يرضيهما جميعا، ولا يضيع حق أهله كما ذكرنا سابقا، ولكن إن أبت الزوجة، أو لم يجد الزوج لعسره، فإن القواعد الشرعية تلزم الزوجة بالصبر، مع ثبوت حقها في الخلع إن أرادت ذلك، لأن الخطأ جاء من جهتها، أما مطالبتها بالتفريق بدون عوض للزوج ففيه مضرة بالغة له.

وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة، فأجاب: (لا يجب عليه ما هو عاجز عنه , لا سيما إذا شرطت الرضا بذلك , بل كان قادرا على مسكن آخر لم يكن لها عند كثير من أهل العلم كمالك , وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما , غير ما شرط لها , فكيف إذا كان عاجزا، وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء, وإن كان قادرا، فأما إذا كان ذلك للسكن ويصلح لسكنى الفقير وهو عاجز عن غيره , فليس لها أن تفسخ بلا نزاع بين الفقهاء) [205]

الحالة الثانية: الجمع بين الزوجة وأهلها:

اتفق الفقهاء على أنه ليس للزوجة أن تسكن أحدا من الأهل غير ولدها من غير الزوج، وللزوج منعها من ذلك; لأن المنزل إما ملكه, أو له حق الانتفاع به, وحق الزوج في زوجته من إسكان أقاربها معها يسقط برضاه, فإذا رضي الزوج بسكنى أحد من أهلها معها فلا شيء في ذلك.

أما إذا كان المسكن ملكا لهما، أو كان لها خاصة، فلا يجوز للزوج منع أهلها من السكنى معها إذا أرادت ذلك.

الحالة الثالثة:  الجمع بين الزوجة وولد الزوج من غيرها في مسكن واحد:

اتفق الفقهاء على عدم جواز الجمع بين ولد الزوج من غيرها إذا كان كبيرا يعرف أسرار العلاقات الزوجية، لأن السكنى معه فيها إضرار بالزوجة , وهذا حق للزوجة فيسقط برضاها، أما إن كان الولد صغيرا لا يعرف ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن إسكانه معها جائز , وليس لها الحق في الامتناع من السكنى معه, وهو قول الحنفية.

القول الثاني: أن الزوجة لا يجوز لها الامتناع من السكنى مع ولد زوجها من غيرها إذا كانت تعلم به حال البناء، وهو قول المالكية، فإن كانت لا تعلم به عند البناء بها , وكان له حاضنة فللزوجة الحق في الامتناع من السكنى معه، وإن لم يكن لولد زوجها من غيرها حاضنة غير أبيه فليس لها الامتناع عن السكنى معه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن الحياة الزوجية ينبغي أن تبنى على الصراحة المطلقة بين الزوجين، فلذلك إن رأت بعد البناء ما تحس فيه بنوع من الغرر كان لها الحق في الرفض.

الحالة الرابعة: الجمع بين الزوجة وولدها من غير الزوج في مسكن واحد:

اختلف الفقهاء فيما لو كانت تريد إسكان ولدها من غير الزوج على قولين:

القول الأول: لا يجوز لها إسكانه إلا برضا الزوج، فإن لم يرض فلا يجوز لها إسكانه معهما، وهو قول الحنفية , والشافعية والحنابلة، ولم يفرقوا بين علم الزوج بوجود ولد لها وقت البناء , وعدم علمه , أو بين وجود حاضنة للولد أم لا.

بل نص الشافعية على أنه يجوز للزوج منع ولد الزوجة من الدخول إليها، إذا كانت ساكنة بمحل يستحق منفعته، دون ما إذا كانت ساكنة بملكها، إن تبرعت له بالسكنى فيه، ويستوي في الحالة الأولى ما لو كان الزوج المانع غائبا أم حاضرا، فإن أدخلته  بغير رضاه أثمت، ولا تكون ناشزة، أما إن كان إخراجه لغير المميز يضره، فإنه يلزمه رفع الأمر للقاضي، فإن تعدى وأخرجه فكسره , أو قتله جان آخر أثم الزوج والضمان على الجاني أو مالكه المقصر لأنه المباشر[206].

القول الثاني: لا يجوز للزوج أن يمنعها من إسكان ولدها من غيره إن كان يعلم به وقت البناء , أو كان لا يعلم به , ولا  حاضن له، وهو قول المالكية, فإن كان لا يعلم به وله حاضن فليس للزوجة أن تسكنه معها عندهم، وقد نص على هذا ناظمهم بقوله:

ويمنع الزوجان من إخراج من    من حين الابتناء معهما سكن

مـن ولـد لواحـد أو أم     وفي سواهم عكس هذا الحكم

وقد فسر بأنه إذا بنى الزوج بزوجته فأتت معها بولدها الصغير , أو وجدت عنده ولدا له صغيرا وسكن ذلك الولد معهما، ثم أراد إخراج ولدها , أو أرادت إخراج ولده عنها فليس ذلك له , ولا لها ويجبر الممتنع منهما على السكنى مع ذلك الولد , وكذلك إذا وجدت عند الزوج أمه وسكتت ثم امتنعت من  السكنى معها فليس لها ذلك[207].

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفصيل الذي ذكره المالكية، لمراعاتهم حق الزوج باشتراط علمه قبل البناء حتى لا يكون زواجه مبنيا على الغرر، وحق الابن باشتراط الحاضن له، وهو تفصيل لا بد منه، ولا يصح معه إطلاق القول كما ذهب الجمهور.

ولا نرى كذلك صحة ما نص عليه الشافعية من عدم إذن الزوج لابن زوجته في الدخول عليها، فأي رعاية لحق الزوجة إذا منع ابنها من زيارتها، وأي مضارة أعظم من هذه المضارة، بل نعجب أن يقول مثل هذا من يعتبر المضارة في إنقاص لقمة من القوت، ثم لا يراها في التفريق بين الأم وابنها.

وسبب هذا القول هو مغالاة بعض الفقهاء في الحقوق المادية مع التغاضي عن الحقوق المعنوية، والنفسية، والتي قد تكون أهم من الحقوق المادية، وقد رأينا مراعاة الشرع لهذه الحقوق في الفصل الخاص بذلك.

الحالة الخامسة: الجمع بين زوجتين في مسكن واحد لكل واحدة بيت فيه:

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين  امرأتين في مسكن واحد ; لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف , ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، قال الكاساني: (لو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها، كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك ; عليه أن يسكنها في منزل مفرد ; لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر، ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث) [208]

وأما الجمع بينهما في دار لكل واحدة من الزوجتين بيت فيها فذهب إلى جواز ذلك جمهور الفقهاء، بشرط أن يكون لكل بيت مرافقه الخاصة به , وغلق يغلق به , ولا يشترط رضاهما في الجمع بينهما[209].

وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم هل هو حق خالص للمرأة يسقط برضاها، أم أنه واجب شرعي على قولين:

القول الأول: إن منع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما فيسقط برضاهما، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أن هذا الحق لا يسقط ولو رضيت الزوجة به، وهو قول ابن عبد السلام من المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجمع بين القولين، مع وضع كل قول لحالة خاصة، ففي الحالة العادية، يكون هذا حقا للمرأة يجوز أن تتنازل عنه، فتسكن مع ضراتها مسكنا واحدا، أما إذا خشي الزوج الفتنة بين ضراته فإن هذا لا يصير حقا قد يتنازلن عنه، بل يصبح واجبا لعدم استقامة الحياة الزوجية بدونه.

ثالثا: ضوابط خروج المرأة من بيت الزوجية

قيد الفقهاء جواز خروج المرأة من بيتها أو من بيت زوجها بالشروط التالية:

1 ـ الخروج للحاجة الضرورية

وسنذكر بعض الأمثلة التي يمكن من خلالها حصر أنواع الحاجات التي تخرج بسببها المرأة:

الخروج للحاجة الخاصة:

اتفق الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية بلا إذن الزوج إن كانت لها نازلة , ولم يغنها الزوج الثقة أو غيره من محارمها, ومثله ما لو ضربها ضربا مبرحا , أو كانت تحتاج إلى الخروج لقاض تطلب عنده حقها، وغيرها مما قد تدعو الضرورة إليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لزوجه سودة: (قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن) [210]

وللمرأة أن تخرج من بيتها , لقضاء حاجة لها أو لزوجها وأولادها , في الحقل أو السوق , كما كانت تفعل ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر , فقد قالت، رضي الله عنها: (كنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير - زوجها - وهي من المدينة على ثلثي فرسخ) [211]

الخروج للمصلحة العامة:

ومن مواضعها التي دلت عليها النصوص:

الخروج للدعوة:

نصت الأدلة الشرعية على أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مختصا بالرجال،  فالرجل والمرأة شريكين , في تحمل أعظم المسؤوليات في الحياة الإسلامية , قال تعالى  ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾(التوبة:71)، ولهذا وجدنا امرأة في المسجد ترد على أمير المؤمنين عمر الفاروق، وهو يتحدث فوق المنبر على ملأ من الناس , فيرجع عن رأيه إلى رأيها ويقول: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)

الخروج مع الجيش:

نصت الأدلة على أن للمرأة أن تخرج مع الجيش , لتقوم بأعمال الإسعاف والتمريض وما شابه ذلك من الخدمات الملائمة لفطرتها ولقدراتها، فعن الربيع بنت معوذ الأنصارية قالت: (كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسقي القوم ونخدمه ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة) [212]، وعن أم عطية قالت: (غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات , أخلفهم في رحالهم , وأصنع لهم الطعام , وأداوي الجرحى , وأقوم على الزمنى) [213]

فمسؤولية المرأة حسب هذه النصوص تتلاءم مع طبيعة المرأة ووظيفتها, فلذلك لم يرد أنها كانت تحمل السلاح وتقاتل وتقود الكتائب لأن ذلك ليس من شأنها , إلا إذا دعت الضرورة لذلك, فقد اتخذت أم سليم يوم حنين خنجراً , فلما سألها زوجها أبو طلحة عنه قالت: (اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه) [214]، ومثلها أم عمارة الأنصارية التي أبلت بلاءً حسناً في القتال يوم أحد , حتى أثنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - , وفى حروب الردة شهدت المعارك بنفسها, حتى إذا قتل مسيلمة الكذاب عادت وبها عشر جراحات.

الخروج للعمل وضوابطه الشرعية:

تختلف مواقف الأزواج من عمل المرأة، فهناك الزوج المحافظ الذي لا يجيز لزوجته أي عمل ولو توقفت عليه المصلحة العامة وتقيد بكل القيود الشرعية، وفي مقابله الذي يحرص على عملها بغض النظر عن نوعه وانضباطه، فالمهم عنده أن تكون زوجته ذات مال ليأخذ منه بحق أو غير حق.

ولهذا يحتاج الكلام في هذه المسألة إلى نوع من الضبط يضع الأمور في نصابها، لتبنى الحياة الزوجية على أسس شرعية صحيحة.

وقد كان عمل المرأة في فترة من الفترات محل نزاع كبير بين المحافظين وأنصار الحداثة والتغيير، ولا يزال هذا الصراع قائما في بعض المجالات، والموقف العلمي يقتضي ذكر كلا الموقفين: موقف أنصار عمل المرأة وما أوردوه من أدلة، والموقف الشرعي المباين لذلك.

وبما أن مثل هذه المسائل والخلافات لم ترد في كتب الفقه القديمة، فسيكون جل اعتمادنا على ما كتبه المعاصرون وخاصة الشيخ يوسف القرضاوي الذي أولى هذه الناحية أهمية خاصة في كتبه الفقهية أو الفكرية.

دعاة العمل المطلق للمرأة وأدلتهم:

من الأدلة أو الشبهات التي يتعلق بها أنصار العمل المطلق للمرأة على حسب تعبير الشيخ يوسف القرضاوي ما يلي:

أن المرأة نصف المجتمع , وإبقاؤها في البيت بلا عمل تعطيل لهذا النصف , وضرر على الاقتصاد القومي , فمصلحة المجتمع تقضي بعمل المرأة.

مصلحة الأسرة كذلك تقضى بعملها , فإن تكاليف الحياة قد تزايدت في هذا العصر , وعمل المرأة يزيد من دخل الأسرة ويعاون الرجل على أعباء المعيشة , وخصوصا في البيئات المحدودة الدخل.

مصلحة المرأة نفسها تدعو إلى العمل , فإن الاحتكاك بالناس وبالحياة وبالمجتمع خارج البيت يصقل شخصيتها , ويمدها بخبرات وتجارب , ما كان لها أن تحصل عليها داخل الجدران الأربعة.

أن العمل سلاح في يدها ضد عوادي الزمن , فقد يموت أبوها أو يطلقها زوجها , أو يهملها أولادها , فلا تذلها الفاقة والحاجة. ولا سيما في زمن غلبت فيه الأنانية , وشاع فيه العقوق , وقطيعة الأرحام , وقول كل امرئ: نفسي نفسي.

الرد على هذه الشبهات:

ومما رد به على الشبهات السابق ذكرها وغيرها:

·  أن الاحتجاج بالغرب احتجاج باطل لا يصح الاستدلال به، لأنه ليس حجة علينا , ولسنا مكلفين أن نتخذه إلها يعبد ولا قدوة تتبع، وقد قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين﴾ِ(الكافرون:6)، وحذرت النصوص القرآنية الكثيرة من الانصياع الأعمى والموالاة المطلقة لغير المسلمين، فكيف إذا كانوا أعداء لنا.

·  أن المرأة في الغرب خرجت إلى العمل مجبورة لا مختارة , تسوقها الحاجة إلى القوت , بعد أن نكل الرجل عن إعالتها , في مجتمع قاس لا يرحم صغيراً لصغره , ولا أنثى لأنوثتها , وقد أغنانا الله بنظام النفقات في شريعتنا عن مثل هذا، وقد ذكر الأستاذ محمد يوسف أثناء حديثه عن عناية الإسلام بالأسرة قال: (ولعل من الخير أن أذكر هنا أنى حين إقامتي بفرنسا كانت تخدم الأسرة التي نزلت في بيتها فترة من الزمن فتاة يظهر عليها مخايل كرم الأصل , فسألت ربة البيت: لماذا تخدم هذه الفتاة ؟ أليس لها قريب يجنبها هذا العمل , ويوفر لها ما تقيم به حياتها ؟ فكان جوابها: أنها من أسرة طيبة في البلدة , وعمها غني موفور الغنى , ولكنه لا يعنى بها ولا يهتم بأمرها. فسألت: لماذا لا ترفع الأمر للقضاء , ليحكم لها عليه بالنفقة ؟ فدهشت السيدة من هذا القول , وعرفتني أن ذلك لا يجوز لها قانونا. وحينئذ أفهمتها حكم الإسلام في هذه الناحية , فقالت: ومن لنا بمثل هذا التشريع؟ لو أن هذا جائز قانونا عندنا لما وجدت فتاة أو سيدة تخرج من بيتها للعمل في شركة أو مصنع أو معمل أو ديوان من دواوين الحكومة)

·  أن الغرب اليوم يشكو من عمل المرأة وما جره من آثار , وأصبحت المرأة نفسها هناك تشكو من هذا البلاء , الذي لم يكن لها فيه خيار , تقول الكاتبة الشهيرة (آنا رود) في مقالة نشرتها في جريدة (الاسترن ميل): (لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل , حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد...ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهر رداءً , الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش , ويعاملان كما يعامل أولاد البيت , ولا تمس الأعراض بسوء.. نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن نجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال , فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام بالبيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها).

·  أن مصلحة المجتمع ليست في أن تدع المرأة رسالتها الأولى في البيت , لتعمل مهندسة أو محامية أو نائبة أو قاضية أو عاملة في مصنع , بل مصلحته أن تعمل في مجال تخصصها الذي هيأتها له الفطرة: مجال الزوجية والأمومة - وهو لا يقل - بل يزيد - خطراً عن العمل في المتاجر والمعامل والمؤسسات , وقد قيل لنابليون: أي حصون فرنسا أمنع ؟ فقال: الأمهات الصالحات!!

·  أن الذين يزعمون أن المرأة في البيت عاطلة , يجهلون أو يتجاهلون , ما تشكو منه فضليات النساء , من كثرة الأعمال والأعباء المنزلية , التي تستنفد وقتها وجهدها كله , ولا يكاد يكفي , فإن كان عند بعض النساء فضل وقت فلنعلمها قضاءه في الخياطة والتطريز , وما يليق بها من الأعمال , التي لا تتعارض مع واجبها في البيت، ويمكن أن تعمل هذا بأجر لبعض المؤسسات , وهي في البيت أو في خدمة مجتمعها وبنات جنسها , والإسهام في مقاومة الفقر والجهل والمرض والرذيلة.

·  أن سعادة الأسرة ليست في مجرد زيادة الدخل , الذي ينفق معظمه في أدوات الزينة , وثياب الخروج , وتكاليف الحياة المختلطة , التي تقوم على التكلف والتصنع وسباق الأزياء, ويقابل هذه الزيادة في الدخل حرمان البيت من السكينة والأنس , الذي تشيعه المرأة في جو الأسرة , أما المرأة العاملة فهي مكدودة الجسم , مرهقة الأعصاب , وهي نفسها في حاجة إلى من يروح عنها , وفاقد الشيء لا يعطيه.

·  أن مصلحة المرأة ليست في إخراجها عن فطرتها واختصاصها وإلزامها أن تعمل عمل الذكر, وقد خلقها الله أنثى , فهذا كذب على المرأة وعلى الواقع , وقد تفقد المرأة من هذا الصنف أنوثتها بالتدريج , حتى أطلق عليها بعض الكتاب الإنجليز (الجنس الثالث)

·  أن الادعاء بأن العمل سلاح في يد المرأة , إن صح في الغرب فلا يصح عندنا نحن المسلمين, لأن المرأة في الإسلام مكفية الحاجات بحكم النفقة الواجبة شرعا على أبيها , أو زوجها , أو أبنائها أو أخيها , أو غيرهم من العصبات والأقارب , وان كان تقليد الغرب بدأ يفقدنا خصائصنا شيئا فشيئا.

حكم عمل المرأة وشروطه:

اتفق الفقهاء القدامى والمحدثون على جواز عمل المرأة وفق القيود الشرعية التي سنذكرها، بل قد يكون مطلوباً كما لو احتاجت إليه لضرورة من الضرورات، سواء تعلقت بها أو بأسرتها.

فقد تكون الأسرة هي التي تحتاج إلى عملها كأن تعاون زوجها , أو تربي أولادها , أو إخوتها الصغار , أو تساعد أباها في شيخوخته , كما في قصة ابنتي الشيخ الكبير التي ذكرها القرآن الكريم في سورة القصص , وكانتا تقومان على غنم أبيهما , قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾(القصص:23)

وقد يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عمل المرأة , كما في تطبيب النساء وتمريضهن , وتعليم البنات , ونحو ذلك من كل ما يختص بالمرأة، فالأولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها , لا مع رجل , وقبول الرجل في بعض الأحوال يكون من باب الضرورة التي ينبغي أن تقدر بقدرها , ولا تصبح قاعدة ثابتة.

ولكن هذا الحكم ليس عاما، بل مقيد بقيود كثيرة ذكرت في محلها، كالالتزام الأخلاقي وعدم التبرج واستئذان الزوج وغيرها مما سبق ذكره، ولكن ما يختص منها بالعمل خصوصا شرطان:

الشرط الأول ـ أن يكون العمل مشروعا:

فلا يجوز أن تشتغل وظيفة هي حرام في نفسها أو مفضية إلى حرام, كالتي تعمل خادماً لرجل أعزب , أو سكرتيرة خاصة لمدير تقتضي وظيفتها أن يخلو بها وتخلو به , أو راقصة تثير الشهوات والغرائز الدنيا , أو عاملة في الحانات تقدم الخمر التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساقيها وحاملها وبائعها، أو مضيفة في طائرة يوجب عليها عملها التزام زي غير شرعي , وتقديم ما لا يباح شرعاً للركاب , والتعرض للخطر بسبب السفر البعيد بغير محرم , بما يلزمه من المبيت وحدها في بلاد الغربة , وبعضها بلاد غير مأمونة , أو غير ذلك من الأعمال التي حرمها الإسلام على النساء خاصة أو على الرجل والنساء جميعا.

الشرط الثاني ـ تناسب عمل المرأة مع طبيعتها:

وهو أن يكون العمل متناسبا مع قدرات المرأة الجسمية والعقلية والاجتماعية، فلا يصح إقحامها في عمل الرجال لما ينشأ عن ذلك من مضرة بالغة للمرأة، بل لزوجها وللمجتمع جميعا، وقد ذكر الشيخ القرضاوي وجوها من تلك المضرة منها:

·      مضرة على المرأة نفسها، لأنها تفقد أنوثتها وخصائصها , وتحرم من بيتها وأولادها , حتى إن كثيراً من النساء أصبن بالعقم. وبعضهم سماهن (الجنس الثالث) أي الذي لا هو رجل ولا هو امرأة.

·  مضرة على الزوج، لأنه يحرم من نبع سخي كان يفيض عليه بالأنس والبهجة , فلم يعد يفيض عليه إلا الجدل , والشكوى من مشكلات العمل , زيادة على أن الرجل يفقد كثيراً من سلطانه وقوامته عليها , لشعورها بأنها مستغنية بعملها عنه , وربما كان راتبها أكبر من راتبه , فتشعر بالاستعلاء عليه، زيادة على ما يشعر به كثير من الأزواج من عذاب الغيرة والشك.

·  مضرة على الأولاد، لأن حنان الأم لا يغني عنه غيره من خادم أو مدرسة , وكيف يستفيد الأولاد من أم تقضي نهارها في عملها , فإذا عادت إلى البيت عادت متعبة مهدودة , متوترة , فلا تسمح حالتها الجسمية ولا النفسية بحسن التربية وسلامة التوجيه.

·  مضرة على جنس الرجال، لأن كل امرأة عاملة , تأخذ مكان رجل صالح للعمل , فما دام في المجتمع رجال متعطلون , فعمل المرأة إضرار بهم.

·  مضرة على العمل نفسه، لأن المرأة كثيرة التخلف والغياب عن العمل , لكثرة العوارض الطبيعية التي لا تملك دفعها , من حيض وحمل ووضع وإرضاع وما شابه ذلك , وهذا كله على حساب انتظام العمل وحسن الإنتاج فيه.

·  مضرة على الحياة الاجتماعية، لأن الخروج على الفطرة , ووضع الشيء في غير موضعه الذي اقتضته هذه الفطرة , يفسد الحياة نفسها , ويصيبها بالخلل والتخبط والاضطراب.

الشرط الثالث ـ تجنب الاختلاط بالرجال:

تختلف أنظار الناس والأعراف في تحديد معنى الاختلاط وحكمه، فمنهم من يتشدد في ذلك، ويعتبر كل تواجد للنساء مع الرجال تواجدا محرما مهما كانت دواعيه وصوته، ومنهم المتغربون الذين ينادون بالتفتح التام في العلاقات بين الرجل والمرأة، وكلا الموقفين لا يصح اعتمادهما، فالفيصل في ذلك للحكم الشرعي الذي تبينه النصوص التفصيلية لا الذي تصدره الأهواء والأعراف.

والذي يدل عليه هدي السلف الصالح ،وقد مر ذكر الكثير من أمثلة ذلك أن المرأة كانت تشهد الجماعة والجمعة , في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  , وكان - صلى الله عليه وسلم - يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال , وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان أفضل , خشية أن يظهر من عورات الرجال شيء , وكانوا في أول الأمر يدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم, فيحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج , فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء) [215]. فخصصوه بعد ذلك لهن , ولا زال يعرف إلى اليوم باسم (باب النساء).

وكن يحضرن الجمعة , ويسمعن الخطبة , حتى إن إحداهن حفظت سورة (ق) من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة ،وكن يحضرن صلاة العيدين , في الخلاء مهللين مكبرين مع الرجال، فعن أم عطية قالت: (كنا نؤمر بالخروج في العيدين , والمخبأة والبكر) [216]، وفى رواية قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن الصلاة , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت: يا رسول الله , إحدانا لا يكون لها جلباب , قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) وهذه المواضع كلها يختلط فيها الرجال والنساء، ومع ذلك لم ينه النساء عن الخروج.

وكان النساء يحضرن دروس العلم مع الرجال عند النبي - صلى الله عليه وسلم -, ويسألن عن
أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم , حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار , أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين , فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها.

قال الشيخ يوسف القرضاوي بعد ذكره للأمثلة الكثيرة عن اختلاط الرجال بالنساء في العهد الأول من غير إنكار منهم لذلك:( والخلاصة  أن اللقاء بين الرجال والنساء في ذاته إذن ليس محرما , بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل , من علم نافع أو عمل صالح , أو مشروع خير , أو جهاد لازم , أو غير ذلك مما يتطلب جهوداً متضافرة من الجنسين , ويتطلب تعاونا مشتركا بينهما في التخطيط والتوجيه والتنفيذ(

ولكن هذا الاختلاط كما ذكرنا يبقى محكوما بالضوابط الشرعية التي تجعل منه أمرا محدودا لا يتعدى حدوده الضرورية، وقد وصف ابن العربي في رحلته ما رآه من التزام المسلمات بعدم الخروج إلا لضرورة بقوله:( لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل - صلى الله عليه وسلم -  بالنار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتليء المسجد منهن فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه)[217]

 



([1])   قوام، لغة: فعال للمبالغة من القيام على الشئ والإستبداد بالنظر فيه وحفظه بالإجتهاد.

([2])   المحلى: 9/508.

([3])   القرطبي:5/168.

([4])   تفسير الطبري:5/57.

([5])   زاد المسير:2/74.

([6])   الألوسي:5/23.

([7])   تفسير البيضاوي:2/184.

([8])   تفسير ابن كثير :1/492.

([9])   القرطبي:5/168.

([10])   الألوسي:5/23.

([11])   قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم:4/191، ابن ماجة:1/648، المعجم الأوسط:7/179، أحمد: 5/252.

([12])   القرطبي: 5/69.

([13])   تفسير البيضاوي: 2/184.

([14])   الإحياء: 2/44.

([15])   الإحياء: 2/45.

([16])  الإحياء: 2/45 .

([17])   الإحياء: 2/45.

([18])  البخاري: 5/2002، مسلم: 4/2114 ابن حبان: 1/528، الترمذي: 3/471، البيهقي: 10/225، أحمد: 2/343.

([19])   البخاري: 5/2002، مسلم: 2/1136، الحاكم: 4/398 الدارمي: 2/200.

([20])   سبق تخريجه.

([21])   سبق تخريجه.

([22])   البخاري: 3/1185، ابن حبان: 15/311.

([23])   النسائي: 2/42 مسند أبي يعلى: 9/408، شعب الإيمان: 6/192.

([24])   ابن حبان: 1/530، الدارمي: 2/200، البيهقي: 9/156، النسائي: 2/40، أبو داود: 3/50.

([25])   النووي على مسلم: 15/203.

([26])   الترمذي: 4/369، 5/702.

([27])   حمراء الشدقين أي: لم يبق بشدقها بياض شيء من الأسنان قد سقطت من الكبر، النووي على مسلم: 15/202.

([28])   البخاري: 3/1389، مسلم:4/1889 ،ابن حبان: 15/468، الحاكم: 4/318، البيهقي: 7/307، أحمد: 6/150.

([29])   البخاري: 5/1999، مسلم: 4/1894 البيهقي: 7/302، النسائي: 5/300.

([30])   البخاري: 5/2003، الدارمي: 2/343، البيهقي: 6/96، الدارقطنيك 4/153، أبو داود: 3/297، النسائي: 5/285، ابن ماجة: 2/782 أحمد: 3/105.

([31])   الفتاوى الكبرى: 2/484.

([32])   البخاري: 5/1959، مسلم: 4/2097، ابن حبان: 13/306، الترمذي: 5/103، البيهقي: 7/91، النسائي: 5/364، ابن ماجة: 2/1325.

([33])   سبق تخريجه.

([34])   الحاكم: 4/323، المعجم الأوسط: 1/135. قال الحاكم صحيح: وقال المناوي معقبا: أقول بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة أورده الذهبي في الضعفاء وقال قال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به قال: وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، انظر: فيض القدير: 6/356.

([35])   البخاري: 1/236، مسلم: 1/313، البيهقي: 3/94، الموطأ: 170، أحمد: 6/224، أبو يعلى: 7/452.

([36])   الموافقات:2/365.

([37])   القرطبي:3/125.

([38])   القرطبي:5/170.

([39])   سبق تخريجه.

([40])   تفسير أبي السعود:2/174.

([41])   فتح القدير:1/461.

([42])   تفسير النسفي:1/220.

([43])   سبق تخريجه.

([44])   ذكره القرطبي: 5/168.

([45])   سبق تخريجه.

([46])   ابن خزيمة: 3/11، الترمذي: 2/191، مجمع الزوائد: 2/68، البيهقي: 3/128، أبو داود: 1/162، ابن ماجة: 1/311، المعجم الكبير: 1/115.

([47])   رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبدالحميد بن عبيدالله بن حمزة وهو ضعيف جدا، مجمع الزوائد:8/24، قال المنذري: رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، الترغيب والترهيب:3/281، وانظر: مجمع الزوائد: 8/24، المعجم الأوسط: 6/232، الفردوس بمأثور الخطاب: 1/194.

([48])   البخاري: 3/1080، مسلم: 3/1469، الترمذي: 4/209، البيهقي: 3/127، أبو داود: 3/40، النسائي: 4/434، ابن ماجة: 2/956، أحمد: 2/17.

([49])   ابن حبان: 10/430، ابن أبي شيبة:  6/544، أحمد: 1/129، الطيالسي:17.

([50])   البخاري: 5/2217، أحمد: 6/350.

([51])   الترمذي: 5/278.

([52])   البخاري: 3/1080، مسلم: 3/1466، ابن خزيمة: 3/46، ابن حبان: 1/196، الحاكم: 3/131، البيهقي: 8/155، النسائي: 4/462، ابن ماجة: 2/954.

([53])   البخاري: 5/2378، مسلم: 4/1788.

([54])   الجصاص: 2/302.

([55])   البخاري: 6/2588، مسلم: 3/1470، ابن حبان: 10/413، البيهقي: 10/158، النسائي: 4/422، ابن ماجة: 2/957، أحمد: 5/314.

([56])   سبق تخريجه.

([57])   البخاري: 1/20، مسلم: 3/1282، الترمذي: 4/334، البيهقي: 8/7، أبو داود: 4/340، ابن ماجة: 2/1216.

([58])   البخاري: 6/2634، مسلم: 1/75، البيهقي: 8/145، النسائي: 4/430، المعجم الأوسط: 2/32.

([59])   الحاكم: 4/80 ،الترمذي: 4/151، الدارقطني: 4/147، النسائي: 4/429، الموطأ: 2/958، أحمد: 6/357 المعجم الكبير: 24/186.

([60])   سبق تخريجه.

([61])   البخاري: 4/1577، مسلم: 3/1469، ابن حبان: 10/429، البيهقي: 8/156، النسائي: 5/221، أحمد: 1/94.

([62])   الحاكم: 2/66، البيهقي:6/69، الدارقطني: 3/77، مسند الشافعي:224، الموطأ: 2/745، ابن ماجة:2/784، أحمد:1/313.

([63])   جامع العلوم والحكم:10.

([64])   الطبري:2/480.

([65])   ذكره في التنوير، نقلا عن تفسير الثعالبي:3/45.

([66])   أخرجه أحمد فى الزهد وابن أبى حاتم والبيهقى فى الشعب عن ثابت، فتح القدير:3/396.

([67])   أخرجه أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني فى الأوسط وأبو نعيم فى الحلية والبيهقى فى الشعب بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام، فتح القدير:3/396.

([68])   الفتاوى الكبرى: 5/488.

([69])   الفتاوى الكبرى: 5/488.

([70])   المدخل: 2/169.

([71])   المدخل: 2/169.

([72])   يقال: مجلت يده تمجل مجلا ومجلت تمجل مجلا إذا ثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البتر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة من الطحين  أي بسبب   الطحين  وهو الدقيق، تحفة الأحوذي: 9/250.

([73])   الترمذي: 5/477، النسائي: 5/373.

([74])   البخاري: 5/2002، ابن حبان: 10/352، البيهقي: 7/293.

([75])   سبق تخريجه.

([76])   المحلى: 9/227.

([77])   ابن أبي شيبة: 6/10.

([78])   ابن  أبي شيبة:6/101.

([79])   فتح الباري: 9/324.

([80])   فتح الباري: 9/324.

([81])   سبق تخريجه.

([82])   سبق تخريجه.

([83])   تبيين الحقائق :3/211.

([84])   البخاري: 1/385، الحاكم: 4/593، الترمذي: 4/608، البيهقي: 3/130، المعجم الأوسط: 2/160، أحمد: 1/407، شعب الإيمان: 4/202.

([85])   نيل الأوطار:6/344.

([86])   سبق تخريجه.

([87])   أحمد: 6/117.

([88])   مصنف عبد الرزاق: 3/146.

([89])   سبق تخريجه.

([90])   مسلم: 3/1678، ابن حبان: 12/315، مسند أبي يعلى: 9/74.

([91])   وروى عن عمر إنكار ذلك وقال إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، القرطبي:5/393.

([92])   القرطبي:5/393.

([93])   القرطبي:5/393.

([94])   القرطبي:5/392.

([95])   أحكام القرآن لابن العربي:1/630.

([96])   الزواجر عن اقتراف الكبائر:1/234.

([97])   اتفق الفقهاء على أن النهي عن التنمص في الحديث محمول على الحرمة , ونقل عن أحمد وغيره أن النهي محمول على الكراهة، انظر: الآداب الشرعية:3/339.

([98])   سبق تخريجه.

([99])   من معاني الحف الإزالة يقال: حف اللحية يحفها حفا: إذا أخذ منها ويقال: حفت المرأة وجهها حفا وحفافا: أي أزالت عنه الشعر بالموسى وقشرته. فالفرق بين الحف والتنمص أن الحف بالموسى.

([100])   الحلق هو استئصال الشعر بالموسى ونحوها , قال تعالى: ) محلقين رءوسكم ومقصرين ﴾ ويطلق - أيضا - على قطع الشعر , والأخذ منه.

([101])   المغني:1/68.

([102])   الآداب الشرعية:3/339.

([103])   المحلى:1/423.

([104])   المجموع:1/344.

([105])   ذهب الحنابلة إلى عدم جواز التنمص - وهو النتف - ولو كان بإذن الزوج , وإلى جواز الحف والحلق، وخالفهم ابن الجوزي فأباحه , وحمل النهي على التدليس , أو على أنه كان شعار الفاجرات.

([106])   سير أعلام النبلاء:2/188.

([107])   سبق تخريجه.

([108])   المجموع:1/344.

([109])   مواهب الجليل:1/217.

([110])   وهو من الفلج (بفتح الفاء واللام) وهو الفرجة بين الثنايا والرباعيات.

([111])   أحمد: 1/415.

([112])   نقلا عن: أسنى المطالب:1/37.

([113])   سبق تخريجه.

([114])   سبق تخريجه.

([115])   المجموع:3/149.

([116])   سبل السلام:2/212.

([117])   مسلم: 3/1680، ابن حبانك 13/64، الحاكم: 4/483، البيهقي: 2/234، أحمد: 2/223.

([118])   فتح الباري:1/375.

([119])   ذكر العلماء قولا ثالثا هو أنه يجوز بكل شيء , وهو مروي عن عائشة , قال: ولا يصح عنها، سبل السلام:2/212.وهو الظاهر لتنافيه مع الحديث، قال ابن حجر:» ومنهم من أجاز الوصل مطلقا سواء كان بشعر آخر أو بغير شعر إذا كان بعلم الزوج وباذنه وأحاديث الباب حجة عليه« فتح الباري:1/375.

([120])   فتح الباري:10/375.

([121])   المغني:1/67.

([122])   المغني:1/68.

([123])   فتح الباري:1/375.

([124])   فتح الباري:1/375.

([125])   البخاري: 1/436، مسلم: 1/100.

([126])   الترمذي: 3/257، النسائي: 5/407، مجمع الزوائد:3/263، مسند البزار:2/92.

([127])   روح المعاني:18/217.

([128])   النسائي: 5/418، المجتبى: 8/141.

([129])   القواعد هن العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، وهذا قول أكثر العلماء، وقال ربيعة هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها، انظر: القرطبي:12/309.

([130])   كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية:51/373.

([131])   ابن كثير:3/305.

([132])   القرطبي:12/310.

([133])   في ظلال القرآن: 5/2861.

([134])   البيهقي:2/234، البزار:7/30، المعجم الكبير:1/160.

([135])   نيل الأوطار:2/115.

([136])   ابن ماجة: 2/1326، مسند إسحاق: 2/330.

([137])   انظر: روح المعاني:22/7، فتح القدير:4/278، زاد المسير:6/380، الدر المنثور:6/602.

([138])   بدليل أنه U جعل الظهار منكرا من القول وزورا , وهو تشبيه الزوجة بظهر الأم في حق الحرمة , ولو لم يكن النظر إلى ظهر الأم وبطنها أو لمسها حراما لم يكن الظهار منكرا من القول وزورا.

([139])   أحكام القرآن لابن العربي:3/621.

([140])   وقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور " جملة وفيرة من هذه الأقوال:

فأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الكحل والخاتم.

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وعبد بن حمـيد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ولا يبدين زينتهـن إلا ما ظهـر منها) قال: الكحل والخـاتم والقرط، والقلادة.

وأخـرج عبد الرزاق وعبد بـن حميد عـن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: هو خضاب الكف، والخاتم.

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: وجهها، وكفاها، والخاتم.

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: رقعة الوجه، وباطن الكف.

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت: القلب والَفَتخ، وضمت طرف كمها.

وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه وثغرة النحر.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكف.

وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الكفان والوجه.

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: المسكتان والخاتم والكحل.

قال قتادة: وبلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى ها هنا ويقبض نصف الذراع.

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن المسـور بن مخرمـة في قوله: (إلا ما ظهـر منها) قال: القلبين يعني السوار، والخاتم، والكحل.

وأخرج سعيد وابن جـرير عن ابـن جـريج قـال: قـال ابن عباس في قـوله تعـالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهـر منهـا) قال: الخاتم والمسـكة، قال ابن جريج وقالت عائشة رضي الله عنها: "القلب، والفتخة".قالت عائشة: دخلت على ابنة أخي لأمي، عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعرض.. فقالت عائشة رضي الله عنها: إنها ابنة أخي وجارية فقال: " إذا عركـت المرأة لم يحـل لها أن تظهر إلا وجههـا وإلا ما دون هذا " وقبض على ذراع نفسـه، فترك بين قبضـته وبين الكـف مثل قبضة أخـرى.

وقد خالف ابن مسعود هنا ابن عباس وعائشة وأنسًا رضي الله عنهم، فقال ما ظهر منها الثياب والجلباب.

([141])   البيهقي: 2/226، شعب الإيمان: 6/165، قال المنذري: رواه أبو داود وقال: هذا مرسل وخالد بن دريك لم  يدرك عائشة، الترغيب والترهيب: 3/69، والحديث لا تقوم به حجة وحده ؛ لما فيه من إرسال، وضعف الراوي عن عائشة كما هو معلوم، ولكن له شاهدًا من حديث أسماء بنت عميس، فيتقوى به، وبجريان عمل النـســاء عليـه في عهـد النبي r وصحابته.. لهـذا حســنه المحـدِّث الألباني في كتبـه :" حجـاب المرأة المسلمة "، و" الإرواء " و" صحيح الجامع الصغير "، و" تخريج الحلال والحرام.

([142])   رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([143])   رواه الشيخان.

([144])   رواه النسائي.

([145])   رواه البخاري.

([146])رواه البخاري ومسلم.

([147])   رواه مسلم.

([148])   أبو داود.

([149])   عبد الرزاق في المصنف.

([150])   رواه ابن مردويه.

([151])   رواه البخاري.

([152])   البخاري ومسلم.

([153])   رواه أحمد والبخاري.

([154])   وقد رد الشيخ القرضاوي على هذا الاستدلال بقوله :« نحن لا نعارض أن يكون بعض النساء في غير حالة الإحرام، يلبسن النقاب والقفازين اختيارًا منهن، ولكن أين في هذا الدليل على أن هذا كان واجبًا؟؟ بل لو استدل بهذا على العكس لكان معقولاً، فإن محظورات الإحرام أشياء كانت في الأصل مباحة، مثل لبس المخيط والطيب والصيد ونحوها، وليس منها شيء كان واجبًا ثم صار بالإحرام محظورًا، ولهذا استدل كثير من الفقهاء - كما ذكرنا من قبل - بهذا الحديث نفسه: أن الوجه واليدين ليسا عورة، وإلا لما أوجب كشفهما.

([155])   رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي.

([156])   وقد رد المخالفون لهذا على هذا الاستدلال بوجوه:

1ـ أن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال، ولا يحتج في الأحكام بضعيف.

2ـ أن هذا الفعل من عائشة ـ رضي الله عنها ـ لا يدل على الوجوب، فإن فعل الرسول r نفسه لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره؟

3ـ ما عرف في الأصول: أن وقائع الأحوال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال، والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من جملة أحكام خاصة بهن، كحرمة نكاحهن بعد رسول الله r، وما إلى ذلك.

([157])   رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

([158])   قال الشيخ القرضاوي تعليقا على هذا الاستدلال :« والصحيح أن الحديث لا يفيد هذه الكلية التي ذكروها، بل يدل على أن الأصل في المرأة هو التصون والستر، لا التكشف والابتذال، ويكفي لإثبات هذا أن يكون معظم بدنها عورة، ولو أخذ الحديث على ظاهره ما جاز كشف شيء منها في الصلاة، ولا في الحج، وهو خلاف الثابت بيقين »

هذا بالإضافة إلى أن الحديث مما تفرد به الترمذي عن سائر أصحاب السنن، ولم يصفه بالصحة بل اكتفى بوصفه بالحسن والغرابة، وذلك لأن بعض رواته ليسوا في الدرجة العليا من القبول والتوثيق، بل لا يخلو من كلام في حفظهم.

([159])   وقد رد أصحاب القول على هذا الاستدلال بأن الشرع إذا فتح شيئًا بنصوصه وقواعده، فلا ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا فنحل بذلك ما حرم الله، أو نشرع ما لم يأذن به الله.

ويكفينا الأحكام والآداب التي قررها الشرع، لتسد الذرائع إلى الفساد والفتن، من فرض اللباس الشرعي، ومنع التبرج، وتحريم الخلوة، وإيجاب الجد والوقار في الكلام والمشي والحركة. مع وجوب غض البصر من المؤمنين والمؤمنات، وفي هذا ما يغنينا عن التفكير في موانع أخرى من عند أنفسنا.

([160])   وقد رد أصحاب القول الأول على هذا بما يلي:

1ـ أن هذا العرف مخالف للعرف الذي ساد في عصر النبوة، وعصر الصحابة وخير القرون، وهم الذين يقتدي بهم فيهتدي.

2ـ أنه لم يكن عرفًا عامًا، بل كان في بعض البلاد دون بعض، وفي المدن دون القرى والريف، كما هو معلوم.

3ـ أن فعل المعصوم وهو النبي r لا يدل على الوجوب، بل على الجواز والمشروعية فقط، كما هو مقرر في الأصول، فكيف بفعل غيره؟.

ومن هنا لا يدل هذا العرف حتى لو سلمنا أنه عام على أكثر من أنهم استحسنوا ذلك، احتياطًا منهم، ولا يدل على أنهم أوجبوه دينًا.

4ـ أن هذا العرف يخالفه عرف حادث الآن، دعت إليه الحاجة، وأوجبته ظروف العصر، واقتضاه التطور في شئون الحياة ونظم المجتمع، وتغير حال المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الهمود إلى الحركة، ومن القعود في البيت إلى العمل في ميادين شتى.

وما بني من الأحكام على العرف في مكان ما، وزمان ما يتغير بتغيره.

([161])   وقد رد الشيخ القرضاوي على هذا الاستدلال بما يلي:

أن العصر الأول وإن كان عصرًا مثاليًا حقًا، ولم تر البشرية مثله في النقاء والارتقاء، لم يكن إلا عصر بشر مهما كانوا، ففيهم ضعف البشر، وأهواء البشر، وأخطاء البشر، ولهذا كان فيهم من زنى، ومن أقيم عليه الحد، ومن ارتكب ما دون الزنى، وكان فيه الفُسَّاق والمُجَّان الذين يؤذون النساء بسلوكهم المنحرف، وقد نزلت آية سورة الأحزاب التي تأمر المؤمنات بإدناء الجلابيب عليهن، حتى يعرفن بأنهن حرائر عفيفات فلا يؤذين: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).

وقد نزلت آيات في سورة الأحزاب تهدد هؤلاء الفسقة والماجنين إذا لم يرتدعوا عن تصرفاتهم الشائنة، فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قيلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً). (الأحزاب: 60، 61).

ثانيًا: أن أدلة الشريعة - إذا ثبت صحتها وصراحتها - لها صفة العموم والخلود، فليست هي أدلة لعصر أو عصرين، ثم يتوقف الاستدلال بها. ولو صح هذا لكانت الشريعة مؤقتة لا دائمة، وهذا ينافي أنها الشريعة الخاتمة.

ثالثا: أننا لو فتحنا هذا الباب، لنسخنا الشريعة بآرائنا، فالمشددون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ميسرة بدعوى الورع والاحتياط، والمتسيبون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ضابطة، بدعوى مواكبة التطور، ونحوها.

والصواب أن الشريعة حاكمة لا محكومة، ومتبوعة لا تابعة، ويجب أن نخضع نحن لحكم الشريعة، لا أن تخضع الشريعة لحكمنا :))وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِن)(المؤمنون: من الآية71).

([162])   سبق تخريجه.

([163])   أحكام القرآن: 3/419، وانظر:القرطبي:12/310.

([164])   قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم:4/483، ابن حبان: 13/64، مجمع الزوائد: 5/137، أحمد: 2/223..

([165])   سبق تخريجه.

([166])   المنتقى:7/224.

([167])   القرطبي:14/177.

([168])   روح المعاني:22/5.

([169])   في ظلال القرآن:5/2859.

([170])   في ظلال القرآن:5/2859.

([171])   انظر: زاد المسير:6/31.

([172])   القرطبي:12/229.

([173])   الزواجر عن اقتراف الكبائر:2/72.

([174])   الحاكم 2/430، ابن حبان: 10/270، البيهقي: 3/246 النسائي: 5/430.

([175])   انظر هذه الآثار في: مصنف ابن أبي شيبة:6/216.

([176])   البيهقي: 3/133، النسائي: 5/432.

([177])   المحلى:1/396.

([178])   نقلا عن: طرح التثريب:2/316.

([179])   المغني: 7/224.

([180])   المدخل: 2/170.

([181])   المدخل 2/170.

([182])   المدخل: 2/174.

([183])   المغني 7/224، القرطبي:3/90.

([184])   اختلف العلماء في المراد بالفطرة، وقد ذهب أكثر العلماء  إلى أن المراد بها هنا السنة , وأن المعنى أنها من سنن الأنبياء، وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين، وقال الراغب: أصل الفطر بفتح الفاء الشق طولا. ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الإيجاد , والفطرة الإيجاد على غير مثال، وقال أبو شامة , أصل الفطرة الخلقة المبتدأة , ومنه فاطر السماوات والأرض أي المبتدئ خلقهن.والمراد بالفطرة في أحاديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة.

([185])   شرح العمدة:1/232.

([186])   فتح الباري: 10/339.

([187])   البخاري: 5/2209، مسلم: 1/221، ابن حبان: 12/293، البيهقي 1/149، أبو داود: 4/84، النسائي: 1/65، ابن ماجة: 1/107، أحمد: 2/239، مسند الحميدي: 2/418.

([188])   نقلا عن: فتح الباري: 10/337.

([189])   نقلا عن فتح الباري: 10/339.

([190])   مسلم: 1/222، الترمذي: 5/92، البيهقي: 1/150، النسائي: 1/66، ابن ماجة: 1/108، أحمد: 3/122.

([191])   فتح الباري: 10/337.

([192])   نقلا عن: عون المعبود: 1/54.

([193])   الإحياء: 1/145.

([194])   الموسوعة الفقهية :19/107، المغني:7/225، الفتاوى الكبرى: 3/153، المدخل:2/12، الفروع: 5/328، الآداب الشرعية:3/374، فتح القدير:3/437، الإنصاف:2/360، التاج والإكليل: 5/548.

([195])   القرطبي:14/178.

([196])   ابن خزيمة: 3/93، ابن حبان: 12/412، الترمذي: 3/476، مجمع الزوائد: 4/314.

([197])   المعجم الأوسط: 3/163، قال ابن الجوزي: حديث لا يصح قال ابن حبان روح أي أحد رجاله يروي عن الثقات الموضوعات لا تحل الرواية عنه، انظر: فيض القدير: 6/248، المجروحين: 1/299.

([198])   أحمد: 6/68.

([199])   مغني المحتاج:5/161.

([200])   بدائع الصنائع:4/23، العناية:4/397، الجوهرة النيرة:2/86، فتح القدير:4/397،رد المحتار:3/599، التاج والإكليل:5/548، فتاوى السبكي:4/214، شرح ميارة:1/275، الخرشي:4/189، منح الجليل:4/395.

([201])   بدائع الصنائع:4/23.

([202])   نصب الراية:3/560 وانظر: العناية:4/397.

([203])   انظر: الخرشي: 4/188، التاج والإكليل: 5/549، حاشية الدسوقي:2/513.

([204])   المحلى:10/331.

([205])   الفتاوى الكبرى:3/97.

([206])   الفتاوى الفقهية الكبرى:4/214.

([207])   شرح ميارة:1/275.

([208])   بدائع الصنائع:4/23.

([209])   وذهب بعض المالكية، إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في هذه الدار إلا برضاهما، فإن أبين منه أو كرهته إحداهما فلا يصح الجمع بينهما.

([210])   البخاري: 5/2006، ابن خزيمة: 1/32، ابن حبان: 4/256، البيهقي: 7/88، مسند ابي يعلى: 7/409.

([211])   سبق تخريجه.

([212])   البخاري: 3/1056.

([213])   مسلم: 3/1447، النسائي: 5/278، ابن ماجة: 2/952، أحمد: 5/84.

([214])   مسلم: 3/1442، مسند عبد بن حميد: 361.

([215])   سبق تخريجه.

([216])   مسلم: 2/606، المعجم الكبير: 25/52.

([217])   نقلا عن القرطبي:14/181.