الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: العلاج الشرعي للخلافات الزوجية

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

من القرآن الكريم

من السنة المطهرة

المقدمة

أولا ـ العلاج المعرفي للخلافات الزوجية

1 ـ  المعارف المتعلقة بالتكليف والجزاء

1 ـ عظم التكليف الشرعي

2 ـ عظم الجزاء الشرعي

3 ـ سلوك القدوة في معاملة الأهل

2 ـ المعارف المتعلقة بالزوج والزوجة

1 ـ التعرف على فطرة الجنس الآخر

2 ـ التعرف على طبائع بعضهما البعض

3 ـ النظر إلى الجوانب الإيجابية لبعضهما البعض

 

من القرآن الكريم

قال تعالى:﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء:34)

قال تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ (النساء:35)

من السنة المطهرة

قال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - :(إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت قال: فيلتزمه ) (رواه مسلم)

قال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) (رواه البخاري)

المقدمة

بعدما انتهينا في الأجزاء الماضية من ذكر أهم حقوق الحياة الزوجية، ومتطلباتها، نعرض في هذا الجزء الحلول الشرعية للخلافات الناتجة عن التقصير في تلك الحقوق أو المتطلبات.

وهذه الخلافات شيء عادي لا يخلو منه بيت، والشرع لم ينكر هذا النوع من الخلاف، ولكن الإنكار هو على عدم تلمس السبل لعلاجه، فيتفاقم الخلاف، وقد يجر معه بيت الزوجية إلى الانهيار، فلذلك وضع الشرع أنواع الحلول للخلافات الزوجية سواء كانت من باب العموم أو من باب علاج كل خلاف بعلاجه الخاص، ولهذا كثيرا ما نجد في الكتب الفقه عند عرض أي مسألة هذه العبارة (فإن اختلفا)

وما نريد ذكره في هذا الفصل هو الحلول العامة، أما الحلول الخاصة، فترد في المسائل المختلفة، وقد حصرنا هذه الحلول من استقراء ما ورد من ذلك في النصوص إلى أربعة أنواع هي:

·  العلاج المعرفي للخلافات الزوجية، وهو المعارف التي يحتاجها كلا لزوجين لتفادي الخلاف قبل وقوعه.

·  العلاج التربوي للخلافات الزوجية، وهو الأخلاق التي يتوقى بها الزوجان الخلاف، أو يتعاملان معه معاملة رشيدة تذهب أثره.

·      العلاج التأديبي، وهو ما وضعه الشارع من طرق قد تصل إلى التشديد في حال تفاقم الخلاف.

·      العلاج الاجتماعي، وهو تدخل الأهل بالإصلاح عند بلوغ الخلاف غايته.

وقد خصصنا لكل نوع من هذه الأنواع فصلا خاصا، وننبه إلى أن معظم مصادرنا في هذا الفصل هي كتب الحديث لندرة الكلام عن هذه النواحي في كتب الفقه.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هناك المزيد من الحلول أو التفاصيل التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال، وقد ذكرناها في الجزء الخاص بـ (الأساليب الشرعية لتربية الأولاد)، وهو الجزء الثاني من المجموعة الرابعة من هذه السلسلة، فلذلك لم نعد ذكرها هنا استغناء بذكرها هناك.

أولا ـ العلاج المعرفي للخلافات الزوجية

إن الجذور التي تنبت منها الاضطرابات التي تهدد كيان الأسرة، تبدأ من تلك المعارف التي قد يتلقفها الشخص تقليدا، أو تملى عليه، بصورة قد تلبس لباس الشرع، والشرع منها بريء، أو قد تكون مسلمات عرفية تلقاها الآباء عن الأجداد حتى أصبحت دينا بدل دين الله.

فقد تشكو المرأة زوجها وتضيق به ومنه، فيسألها الفقيه أو غيره: هل حرمك من مهرك؟ هل ضيق عليك في نفقتك؟ فإذا نفت كل ذلك، قيل لها: المهر شرط، والنفقة واجب، أما العشرة الحسنة، فمستحبة.

والرجل قد يشكو زوجته كذلك، فتجيبه الزوجة بطبخها لطعامه وإجابتها لفراشه، وكأن الزواج إجارة، عوضها المهر والنفقة، والعلاقة فيها بين الزوجين علاقة الأجراء، بل التجار، لأن الزواج عقد على تملك متعة.

وهذه الأخطاء النظرية، هي الأساس في الكثير من التصورات العملية، فالإنسان إنتاج أفكاره، والسلوك الإنساني ثمرة لشجرة بذرتها مغروسة في عقله وقلبه، فلذلك من الخطأ تجاهل هذه الناحية إذا أردنا تقويم هذا السلوك، وإعادته إلى النهج الشرعي، ولولا قيمة النواحي النظرية ما قال الصحابة - رضي الله عنهم -  :(كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن) [1] فالإيمان في هذا النص هو القناعات النظرية سواء تمثلت في منطق عقلي، أو تذوق قلبي، أو ترق روحي، أما القرآن فهو تعبير عن التكاليف الشرعية، التي لا تبنى إلا على تلك الأسس الإيمانية.

ولهذا بدأنا هذا الفصل الذي خصصناه للعلاج الشرعي للخلافات الزوجية، بعرض الجوانب النظرية المعرفية التي يحتاج إليها في تحقيق السكينة البيتية، ونحن نعلم أنه من الصعوبة حصر المعارف المتعلقة بذلك، لأنها في صيغتها الكاملة تشكل جميع حقائق الإيمان والإسلام، فكل حقيقة من حقائق هذا الدين تنشئ سلوكا يتعدى أثره لكل المجالات.

فالإيمان بالقضاء والقدر مثلا يقي البيت المسلم من كثير من المشاكل البسيطة التي يسببها ضعف الإيمان به، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعلل بذلك ما يحصل مما يثور له كثير من الناس، فعن أنس - رضي الله عنه -  قال :(خدمت  النبي  - صلى الله عليه وسلم - عشر  سنين، فما بعثني في حاجة لم تتهيأ إلا قال: لو قضى لكان أو لو قدر لكان) [2]، وفي رواية أخرى :(خدمت  النبي  - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف، ولا لم صنعت ولا ألا صنعت) [3]، وهذه الأقوال هي التي تنشئ المشاكل الكثيرة وتدب منها الخلافات للبيت المسلم، ولا يعالجها غير اليقين في قضاء الله وقدره.

وهكذا في كل حقائق الإيمان، ولكن مع ذلك حاولنا أن نذكر من المعارف ما له علاقة شديدة بهذا الجانب، وقد قسمناها إلى قسمين: قسم يتعلق بالتكليف والجزاء، هو الأساس الشرعي للتعامل مع المشاكل البيتية، والقسم الثاني، يتعلق بالتعرف على الشريك، وهو القسم الواقعي من هذا الجانب، فبالتزاوج بين هاتين المعرفتين، المعرفة الشرعية والمعرفة الواقعية تتحقق أسلمة الواقع، وتنتفي الأعراف والأذواق.

أما كيفية تحقيق السكينة العائلية بهذه الأسس النظرية، فهو بترديد هذه المفاهيم على العقل والقلب، وتذكرها عند الحاجة إليها بحيث تصبح هي الموجه لحياة الزوج والزوجة، وكمثال على ذلك كيفية علاج المشاكل البيتية بالتعرف على سلوك القدوة، فقد تعتري الإنسان مشكلة ما، كما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلا في حادثة الإفك، فتصرفه قد يحيل حياته جحيما لو أنه استعجل وحلها بطريقته الخاصة، والتي قد يغلب الهوى فيها على العقل، والعرف فيها على الشرع.

فهو إما أن يطلق زوجته إن كان غيورا، أو يقتلها إن بلغت الغيرة قمتها، أو يؤذي من بلغ عنه، أو يؤذي المبلغ، خاصة إن كان في منصب يشعر فيه بأن كرامته مهددة، وأن قيمته الاجتماعية قد تنهار في أي لحظة، لكنه إن تريث قليلا، واسترجع تعامله - صلى الله عليه وسلم - في حادثة كحادثته، وفي منصب أشرف من منصبه، هدأت نفسه، وصفا ضميره، وتوقفت الرياح التي تزعزع أركان عقله، ثم حل مشكلته بحل يخرج منه كل الأطراف والرضا يغمر قلوبهم.

وهكذا في سائر النواحي، ففي الجزاء مثلا، إن آذته زوجته تذكر زوجته من الحور العين، وهي تلومها وتعنفها، والمرأة تذكرت أنه جنتها أو نارها، وتذكرا جميعا قبل ذلك وبعده أن الله تعالى مطلع عليهما يختبرهما كل حين بصنوف الاختبارات ليصقل معدنهما، وينفي الخبث عن طبعهما.

وفيما يلي تفصيل لهذه الجوانب بحسب ما يسمح به هذا المبحث:

1 ـ  المعارف المتعلقة بالتكليف والجزاء

وهي ثلاثة معارف أساسية بقدر التعمق في معرفتها تتحقق السكينة الزوجية، وهي معرفة عظم التكليف الشرعي، ومدى الجزاء عليه، والتعرف على القدوة الذي ينتهج نهجه في تطبيق التكليف، لأن أساس الأخطاء الفكرية في هذا الجوانب أو التصورات العرفية، إما أن ترجع لتقزيمها لضخامة قدر العلاقة الزوجية والحقوق المناطة بها، أو اعتبارها شيئا دنيويا محضا لا علاقة له بالجزاء الأخروي، أو اعتقاد الاهتمام بهذه الجوانب نوعا من القصور والنقص، قد يترفع عنه العلية من الناس، وتفصيل هذه المعارف فيما يلي:

1 ـ عظم التكليف الشرعي

فالعلاقة الزوجية مؤسسة على كلمة الله، وميثاقه الغليظ، والعقد فيها قبل أن يطلبه الزوج، أو يمضيه الولي، أو ترضى به المرأة، يأذن به الله تعالى، ويبارك فيه، فهو عقد مع الله قبل أن يكون عقدا بين البشر، ولذلك رأينا ذلك التقديس الشرعي للعقد، وتعظيمه، فلا يصح فيه الهزل ولا اللعب، بل هو جد كله كجد الصلاة والذكر.

ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - وهو في أعظم تجمع له مع المسلمين يخطب فيهم عن عظمة هذا العلاقة، وما تتطلبه من حقوق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) [4]

ولأجل هذا كان حق الزوجة على زوجها أو حق الزوج على زوجته يقرن بحق الله على عبده، فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة،فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما فقال: كل قال: فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا فقال له سلمان:(إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -  فذكر ذلك له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -  (صدق سلمان) [5]

ويقرن هذا الحق في حديث آخر بحق الجسد والعين، وكأن الزوجة جزء من زوجها كجزئية جسده وعينه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله قال:(فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا) [6]

وقد وردت النصوص الكثيرة تخص المرأة بوجوب طاعتها لزوجها وتبين عظم حقه عليها، هي لا تعني قصور حق الزوجة على زوجها عن ذلك، وإنما تشير إلى أن سكون طرف من الأطراف ووداعته لا بد أن يحمل الطرف الآخر على تلك الوداعة والسكون، زيادة على أن مطالب الرجل من المرأة والتي حثت هذه الأحاديث على رعايتها لا تعدو أن تكون مطالب للزوجة نفسها تلبي متطلبات فطرتها، وحاجيات طبيعتها.

فعن عائشة ،رضي الله عنها، قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال: أمه[7].

وفي حديث آخر بيان بأن طاعة الزوجة لزوجها من الوجوب بحيث تكاد تقرن بالسجود، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد[8] لزوجها) [9]،وفي رواية لأحمد: أن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق ان نسجد لك، فقال: اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها ان تنقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها ان تفعله) [10]

ويعتبر حديث آخر مصير المرأة مرهونا بعلاقتها بزوجها، فعن حصين بن محصن أن عمة له أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -  في حاجة، ففرغت من حاجتها، فقال لها: أذات زوج أنت، قالت: نعم قال: فأين أنت منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه قال: (انظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك)،  أي في أي منزلة أنت منه، أقريبة من مودته، مسعفة له عند شدته، ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه، كافرة لعشرته وإنعامه، فإنما هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية[11].

وفي حديث آخر حث وتشديد على المرأة في لزوم طاعة زوجها، فلا يصرفها عن ذلك أي صارف، فصحة علاقتهما تعلو على كل الصوارف، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور[12])[13]، وقد فسرت الحاجة في الحديث بأنها كناية عن الجماع، ولكنا نرى أنها أعم من ذلك لأن علاقة الزوجية لا تقتصر عليها، وحاجة الزوج إلى المرأة لا تحد عندها.

وفي حديث آخر تبيين لعظم الجزاء المعلق على تنفيذ تلك الأوامر، فعن أم سلمة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة) [14]، قال المناوي: أي مع الفائزين السابقين، وإلا فكل من مات على الإسلام لا بد من دخوله إياها، ولو بعد دخوله النار[15]، وهذا شرف عظيم، تتقاصر عن بلوغه همم الرجال.

وفي حديث آخر مقابل لهذا، يخبر - صلى الله عليه وسلم - أن غضب الزوج على زوجته سببا لسخط أهل السماء عليها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -   عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال:(إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) [16]، بل ورد في رواية أخرى ما هو أشد من ذلك، ففي رواية لمسلم بلفظ:(والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها)

وفي حديث آخر إخبار بأن سوء علاقة المرأة مع زوجها يؤثر في إساءة علاقتها مع ربها، وقد كنى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بعدم ارتفاع صلاتها إلى الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -:(ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) [17]، وهذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها أما إن كان سخط زوجها جرم منه فلا إثم عليها في ذلك.

وفي حديث آخر إخبار بما هو أخطر من ذلك كله، فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه) [18]

وبعد كل هذه الأحاديث يتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل بأن يصبر على سوء عشرة زوجته، لأن له عند الله بديلا عنها، فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -  عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال :(لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) [19]وكأن هذا الحديث يتوجه إلى المرأة نفسها مخاطبا غيرتها حتى تكف عن أذاها لزوجها.

2 ـ عظم الجزاء الشرعي

فالجزاء بقدر التكليف، وقد رأينا ما نصت عليه الأحاديث من ضخامة التكليف، وسنذكر هنا بعض ما ذكر من الجزاء على تنفيذ ذلك التكليف.

ويكفي فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربط الخيرية التي هي مبتغى كل مؤمن بالخيرية مع الزوجة، فالخير ليس الذي ينفق، ويسرف في الإنفاق، ويوزع الابتسامات بين الناس، ثم هو مع أهله عبوس قمطرير، بل خيرية الإنسان تبدأ من علاقته بزوجته لتتعدى منها إلى غيرها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم خلقا) [20]، قال الشوكاني:(هذا تنبيه على أن أعلى الناس رتبة في الخير وأحقهم بالاتصاف به هو من كان خير الناس لأهله فإن الأهل هم الأحقاء بالبشر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس وإن كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقا وأشحهم نفسا وأقلهم خيرا وإذا الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق زائغ عن سواء الطريق) [21]

وقال المناوي تعليقا على الحديث:(أي من يعاملهن بالصبر على أخلاقهن ونقصان عقلهن وطلاقة الوجه والإحسان وكف الأذى وبذل الندى وحفظهن من مواقع الريب ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس معاشرة لعياله) [22]

وفي حديث آخر قريب من هذا عبر عن الخيرية مع الأهل باللطف، وهي أدق من الخيرية كما مر معنا، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله) [23]

وهذا الجزاء المذكور، وإن عبر به بصيغة المذكر، فهو يشمل كذلك المرأة في خيريتها مع زوجها، وقد سبق ما ذكرنا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الزوج جنتها ونارها.

وفي مقابل هذا نجد العقوبة العظيمة التي تحيق بمن يتخلف عن القيام بذلك التكليف، فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -  في حديث كسوف الشمس، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:(ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظرا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن بالله قال: يكفرن[24] العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط)[25]

وفي حديث آخر تفصيل وتعليل لذلك الكفران للعشرة، فعن أسماء بنت يزيد إحدى نساء بني عبد الأشهل قالت: مر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في نسوة، فسلم علينا، وقال: إياكن وكفر المنعمين فقلنا: يا رسول الله وما كفر المنعمين؟ قال:(لعل إحداكن أن تطول أيمتها بين أبويها، وتعنس فيرزقها الله عز وجل زوجا ويرزقها منه مالا وولدا، فتغضب الغضبة فراحت تقول: ما رأيت منه يوما خيرا قط) [26]

3 ـ سلوك القدوة في معاملة الأهل

ونعني به سلوكه - صلى الله عليه وسلم - مع زوجاته، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أسوة لنا في كل شيء، وسنته لا تقتصر كما يتصور البعض على لحية أو سواك أو قميص أو هيئة معينة، بل تشمل ذلك، وتشمل قبله سلوكه مع أهله ولو في أدق التفاصيل، ولهذا كان المكرم لأهله المحسن لهن الصابر على أذاهن يمارس أعلى أنواع السنة التي تقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

بل قد صرح - صلى الله عليه وسلم - أن زواج المؤمن وحسن عشرته لزوجته وإعطاءها حقها من السنة، فعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  بعث إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: يا عثمان أرغبت عن سنتي، قال: لا والله يا رسول الله ولكن سنتك أطلب قال: (فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر وصل ونم) [27]

ويشير - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر إلى لزوم الاقتداء به في سلوكه مع زوجاته، فيقول:(خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [28]، وهذا الحديث لا يختلف كثيرا عن قوله - صلى الله عليه وسلم - :(صلوا كما رأيتموني أصلي) [29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - :(خذوا عني مناسككم) [30]، ففيها جميعا أمر بلزوم الاقتداء به كان الأمر تصريحا أم تلميحا.

وقد نقلنا في الفصول الماضية الكثير من سلوكه - صلى الله عليه وسلم - مع أهل بيته، ولكنا سننقل هنا بعض الأحاديث التي لها علاقة بهذا الموضوع، تبين كيف يتعامل - صلى الله عليه وسلم - مع المشاكل التي قد تعرض للبيت المسلم:

أما الحديث الأول[31] ـ وسنسوقه جميعا بطوله حتى تكتمل الصورة ـ فقد رواه عمر - رضي الله عنه -  قال:(كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ،فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فقالت: ما تنكر من ذلك فوالله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل.

قال عمر - رضي الله عنه - : فقلت في نفسي قد خابت من فعلت ذلك منهن وخسرت، وكان منزلي بالعوالي في بني أمية وكان لي جار من الأنصار كنا نتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وأنزل يوما فآتيه بمثل ذلك، وكنا نحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا قال فجاءني يوما عشاء فضرب على الباب فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم قلت: أجاءت غسان قال: أعظم من ذلك طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه قال: فقلت: في نفسي قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا كائنا.

قال: فلما صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قالت: لا أدري هو ذا معتزل في هذه المشربة قال: فانطلقت فأتيت غلاما أسود فقلت: استأذن لعمر قال: فدخل ثم خرج إلي قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئا قال: فانطلقت إلى المسجد، فإذا حول المنبر نفر يبكون فجلست إليهم، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئا قال فانطلقت إلى المسجد أيضا فجلست، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئا قال: فوليت منطلقا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك.

قال: فدخلت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ على رمل حصير قد رأيت أثره في جنبيه فقلت: يا رسول الله أطلقت نساءك قال: لا قلت: الله أكبر لقد رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك فقالت ما تنكر فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل قال فقلت: لحفصة أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قالت نعم وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال: فقلت لحفصة لا تراجعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك إن كانت صاحبتك أوسم منك وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  قال: فتبسم أخرى فقلت يا رسول الله أستأنس قال: نعم قال: فرفعت رأسي فما رأيت في البيت إلا أهبة ثلاثة قال فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه فاستوى جالسا فقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا قال وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرا فعاتبه الله في ذلك وجعل له كفارة اليمين.

أما لحديث الثاني، فهو علاجه - صلى الله عليه وسلم - لحادث الإفك، وهو من أخطر الحوادث والتي يرتج عندها التفكير، وتحار فيها العقول، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك تصرف تصرفا هادئا، فلم تؤثر فيه - صلى الله عليه وسلم - تلك الجبال التي كان يحملها، وهو يفكر في هذا الحادث شهرا كاملا، يقول سيد: (هذا الحادث. حادث الإفك. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ؛ وعلق قلب رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - وقلب زوجة عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل شهرا كاملا، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق) [32]

ولنستمع إلى هذا الحديث الذي ترويه عائشة، رضي الله عنها، ونكتفي بحديثها ووصفها، فهو خير تعليق على ما حدث[33]:

قالت: كان رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة  فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه ؛ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام ؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه ؛ وكنت جارية حديثة السن ؛ فبعثوا الجمل وساروا.

ثم تحكي ما حصل بعد هذا التصرف البسيط مع ما يحمله من المعاني الجليلة، قالت :(فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد منهم، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت،  وكان صفوان بن المعطل السلمي. ثم الذكواني. قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي ؛ فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ؛ والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ؛ وهوى حتى أناخ راحلته، فوطى ء على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعد ما نزلوا معرسين.

فهذا هو الموقف جميعا بكل ملابساته وتفاصيله، ولكن النفوس المريضة تأبى إلا أن تنشر غلها وحسدها، ولو على أطهر خلق الله، قالت:فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول.

ثم تذكر موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أشيع عنها ما أشيع، وهو موقف المتأني المتثبت الذي لا يستعجل حتى في إخبارها بما قيل عنها، قالت: فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرا ؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي  - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ؟ ثم ينصرف، فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي. فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت. أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ فقلت:وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي.

ثم تتحدث موقفها بعدما سمعت بما يتحدث الناس به عنها، فقالت: فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:كيف تيكم ؟ فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي، وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي، فأتيت أبوي، فقلت لأمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. فقلت:سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.

ثم ذكرت موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في تلك الحالة، وهو موقف التحري والاستشارة، قالت: فدعا رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة:هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك. قالت:فدعا رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - بريرة  فقال لها:أي بريرة. هل رأيت فيها شيئا يريبك ؟ فقالت:لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه  عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن  فتأكله. قالت:فقام رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - من يومه.

ثم تذكر موقفه - صلى الله عليه وسلم - العام والذي أظهره على الملأ قبل أن يتحدث إلى عائشة، رضي الله عنها، قالت :(واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. قالت:فقام سعد بن معاذ  - رضي الله عنه - فقال:يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية. فقال لسعد بن معاذ:كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:كذبت - لعمر الله - لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان - الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله  - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل.

ثم تبين كيف واجهها - صلى الله عليه وسلم - بعد تلك الفترة الطويلة من التأني والانتظار، وهو لا يجزم بأي قرار لا نحوها ولا نحو غيرها، ولم تكن تلك الفترة التي سكت فيها - صلى الله عليه وسلم - إلا اختبارا لعائشة، رضي الله عنها، وعلاجا للمشكلة وهي في عنفوانها بتركها إلى أن يخف لهيبها، فتعالج بعدها معالجة حكيمة، فالزمن كما يقال جزء من العلاج، بل جزء أساسي منه، فلما تبين له - صلى الله عليه وسلم - ما تبين من أمر عائشة، رضي الله عنها، حصل ما ذكرته عائشة، رضي الله عنها، بقولها :(وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس، ثم قال:  أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه.

وهو حوار إيماني هادئ مع زوجته يذكرها بالله، وليس فيه أي انفعال قد يمكن للمشكلة دون أن يؤثر في علاجها، وقد كان لهذا الحديث تأثيره الشديد الإيجابي في نفس عائشة، رضي الله عنها، حيث قالت: فلما قضى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة،  فقلت لأبي:أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله  - صلى الله عليه وسلم - قالت:وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن. فقلت:إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به. فلئن قلت لكم:إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقنني. فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(يوسف:18)

ثم تتحدث عن خاتمة هذا الاختبار الذي حصل لها، فقالت :(ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه  - صلى الله عليه وسلم - فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، فسري عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك. فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - فقلت:والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾(النور:11)العشر الآيات.

أما الحديث الثالث فقد روته عائشة ،رضي الله عنها، وهي تحكي ليلة من لياليها معه - صلى الله عليه وسلم - قالت: ألا أحدثكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  وعني، قالوا: بلى قال قالت لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم -  فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب، فخرج ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، فانحرفت فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت فسبقته، فدخلت فليس إلا أن اضطجعت.

قالت: فدخل فقال: ما لك يا عائش حشيا رابية قالت قلت: لا شيء قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير قالت قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي قلت: نعم فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) [34]

2 ـ المعارف المتعلقة بالزوج والزوجة

وهي ثلاثة معارف كذلك تتعلق بمعرفة الجنس الآخر عموما، والشريك خصوصا، ثم البحث عن النواحي الإيجابية في الشريك، والتي يبدأ منها في تعميق الخير في نفس الشريك، وتفصيل هذه الجوانب فيما يلي:

1 ـ التعرف على فطرة الجنس الآخر

وهو معرفة كل طرف للطبيعة الجبلية التي خلق عليها الطرف الآخر، فالرجل رجل والمرأة امرأة، ومن أكبر أسباب المشاكل العائلية تعامل الرجل مع المرأة وكأنها رجل، وتعامل المرأة مع الرجل بهذا المنظار، مع أن لكل منهما أسلوب تفكيره الخاص الذي قد يتناقض مع أسلوب الآخر، تناقضا تحتاج إليه الحياة لاستمرارها، كما تحتاج الذرة إلى الجمع بين تناقضات إلكتروناتها وبروتوناتها.

وقد صور - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث مختلفة طبيعة المرأة، وحث على مراعياتها تفاديا للخلاف الذي قد يحصل بين الزوجين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -  قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها على عوج) [35]، قال الشوكاني:(الحديث فيه الإرشاد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة  ) [36]

فهذا الحديث إذن ليس ذما للمرأة كما قد يتصور البعض، بل هو كقول القائل: إن القوس منحني الشكل، فليس في ذلك أي ذم للقوس، بل هو وصف له، ودليل على جماله، ولو وصف بالاستقامة لكان وصفا لغير القوس.

فكذلك المرأة تقتضي منها طبيعتها، وفطرتها الأنثوية والعاطفة التي جبلت عليها أن تميل معها حيث تميل، فلذلك أرشد الرجل لأن يميل لميلها مراعيا طبيعتها، كمن يسير في منعرجات ومنحنيات يحتاج إلى السير كما تقتضي تلك المنحنيات والمنعرجات، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

هي الضلع العوجاء لست تقيمها     ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

تجمع ضعفا واقتدارا على الفـتى      أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

ولهذه المعرفة دور كبير في حل الكثير من الخلافات الزوجية، بل في الوقاية من وقوعها، وقد ورد في الآثار ما يدل على استخدام هذه المعرفة في هذا السبيل، فقد قدم جرير بن عبد الله على عمر فشكا إليه ما يلقى من النساء من سوء أخلاقهن , قال فقال عمر: إني ألقى مثل ما تلقى منهن , إني لآتي , قال السوق أو الناس أشتري منهم الدابة أو الثوب فتقول المرأة: إنما انطلق ينظر إلى فتاتهم أو يخطب إليهم , قال فقال عبد الله بن مسعود: أو ما تعلم أن شكا إبراهيم من سوء في خلق سارة فأوحى الله إليه: إنما هي من ضلع فخذ الضلع فأقمه فإن استقام وإلا فالبسها على ما فيها[37]، وفي رواية:(فأوحى  الله إليه إنما هي من ضلع، فارفق بها أما ترضى أن تكون نصيبك من المكروه) [38]

وفي هذا الأثر زيادة على استخدام هذا العلاج المعرفي نرى كيف يحدث الصحابة - رضي الله عنهم -  بعضهم بعضا عن مشاكلهم البيتية بحثا عن العلاج، واجتماع هذا العدد منهم يشير إلى أنهم عقدوا اجتماعا بسبب شكاية جرير بن عبد الله للبحث عن حل لمشكلته.

وفي حديث آخر نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستخدم هذا النوع من المعرفة في عذر نسائه عند مخالفته، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: مري أبا بكر يصلي بالناس قالت: إنه رجل أسيف[39] متى يقم مقامك رق فعاد، فعادت، فقال في الثالثة أو الرابعة: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر) [40]

ففي هذا الحديث أرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر إلى طبع النساء، ولم يرجعه إلى عائشة ،رضي الله عنها، خصوصا، قال ابن حجر: (والمراد أنهن مثل صواحب يوسف u في إظهار خلاف ما في الباطن، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرحت هي فيما بعد ذلك فقالت: لقد راجعته، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا) [41]

وقد ورد في حديث آخر بيان بأن هذا الطبع وراثي ورثته المرأة من أمها حواء كما ورث الرجل الجحود من أبيه آدم u، فعنه - صلى الله عليه وسلم - قال :(لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها) [42]، وليس المراد بالخيانة هنا المعصية، قال ابن حجر: (وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها وقريب من هذا حديث:جحد آدم فجحدت ذريته) [43]

ثم قال في بيان الأثر العملي للحديث :(وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء قصد إليه أو على سبيل الندور وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن) [44].

***

 ومن خلال هذا العرض، ومن خلال الواقع يتبين لنا خطأ ما يسمى بـ (المساواة بين المرأة والرجل) [45]، وهي من النظريات التي بنى عليها المجتمع الغربي سلوكه مع المرأة ـ كما يدعي ـ ويريد بالمساواة المساواة في كل شيء، في الحقوق والواجبات، وفي الالتزامات والمسؤوليات، فيقوم الجنسان بأعمال من نوع واحد، وتقسم بينهما واجبات جميع شعب الحياة بالتساوي.

وبسبب هذه الفكرة الخاطئة للمساواة، انشغلت المرأة الغربية، بل انحرفت عن أداء واجباتها الفطرية ووظائفها الطبيعية، التي يتوقف على أدائها بقاء المدنية، بل بقاء الجنس البشري بأسره، واستهوتها الأعمال والحركات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وجذبتها إلى نفسها بكل ما في طبعها وشخصيتها من خصائص، وشغلت أفكارها وعواطفها شغلاً، أذهلها عن وظائفها الطبيعية، حتى أبعدت من برنامج حياتها، القيام بتبعات الحياة الزوجية، وتربية الأطفال وخدمة البيت، ورعاية الأسرة، بل كُرّه إلى نفسها كل هذه الأعمال، التي هي وظائفها الفطرية الحقيقية، وبلغ من سعيها خلف الرجل طلباً للمساواة إلى حد محاكاته في كل حركاته وسكناته.

وكان من نتيجة ذلك أن تبدد شمل النظام العائلي في الغرب الذي هو أس المدنية ودعامتها الأولية، وانعدمت – أو كادت – الحياة البيتية، التي تتوقف على هدوئها واستقرارها قوة الإنسان، ونشاطه في العمل، وأصبحت رابطة الزواج - التي هي الصورة الصحيحة الوحيدة لارتباط الرجل والمرأة، وتعاونهما على خدمة الحياة والمدنية - أصبحت واهية وصورية في مظهرها ومخبرها.

والعجيب أن يوجد في عالمنا الإسلامي اليوم من ينادي بهذه الأفكار، ويعمل على نشرها وتطبيقها في مجتمعنا الإسلامي، على الرغم مما ظهر واتضح من نتائجها، وآثارها السيئة المدمرة، ونسي أولئك أو تناسوا أن لدينا من مباديء ديننا ومقومات مجتمعنا وموروثات ماضينا ما يجعلنا في غنى عن أن نستورد مبادئ وتقاليد وأنظمة لا تمت إلى مجتمعنا المسلم بصلة، ولا تشده إليها آصرة، ولا يمكن أن ينجح تطبيقها فيه، لأن للمجتمع المسلم من الأصالة والمقومات، وحرصه عليها ما يقف حائلاً دون ذلك التطبيق، أو على الأقل كمال نجاحه، كما نسي أولئك المنادون باستيراد هذه النظم والنظريات، ونسي معهم أولئك الواضعون لهذه النظم من الغربيين أو تناسوا الفروق الجوهرية الدقيقة العميقة التي أوجدها الخالق سبحانه بين الذكر والأنثى من بني البشر مما يتعذر بل يستحيل تطبيق نظرية المساواة الكاملة بين الذكر والأنثى في جميع الحقوق والواجبات والالتزامات والمسؤوليات.

وهاهي شهادة من أحد مفكري الغرب واضعي نظرية المساواة، يقول كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) :(إن ما بين الرجل والمرأة من فروق، ليست ناشئة عن اختلاف الأعضاء الجنسية، وعن وجود الرحم والحمل، أو عن اختلاف في طريقة التربية، وإنما تنشأ عن سبب جد عميق، هو تأثير العضوية بكاملها بالمواد الكيماوية، ومفرزات الغدد التناسلية، وإن جهل هذه الوقائع الأساسية هو الذي جعل رواد الحركة النسائية يأخذون بالرأي القائل: بأن كلا من الجنسين الذكور والإناث يمكن أن يتلقوا ثقافة واحدة وأن يمارسوا أعمالاً متماثلة، والحقيقة أن المرأة مختلفة اختلافاً عميقاً عن الرجل، فكل حُجَيرة في جسمها تحمل طابع جنسها، وكذلك الحال بالنسبة إلى أجهزتها العضوية، ولا سيما الجهاز العصبي، وإن القوانين العضوية (الفيزيولوجية) كقوانين العالم الفلكي، ولا سبيل إلى خرقها، ومن المستحيل أن نستبدل بها الرغبات الإنسانية، ونحن مضطرون لقبولها كما هي في النساء، ويجب أن ينمين استعداداتهن في اتجاه طبيعتهن الخاصة، ودون أن يحاولن تقليد الذكور، فدورهن في تقدم المدنية أعلى من دور الرجل، فلا ينبغي لهن أن يتخلين عنه)

ويقول الأستاذ المودودي :(فهذا علم الأحياء، قد أثبتت بحوثه وتحقيقاته أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء، من الصورة والسمت، والأعضاء الخارجية، إلى ذرات الجسم والجواهر الهيولينية (البروتينية) لخلاياه النسيجية، فمن لدن حصول التكوين الجنسي في الجنين يرتقي التركيب في الصنفين في صورة مختلفة، فهيكل المرأة ونظام جسمها، يركب تركيباً تستعد به لولادة الولد وتربيته، ومن التكوين البدائي في الرحم إلى سن البلوغ، ينمو جسم المرأة، وينشأ لتكميل ذلك الاستعداد فيها، وهذا هو الذي يحدد لها طريقها في أيامها المستقبلة)

وإذا تقرر هذا الاختلاف الدقيق في التكوين بين الذكر والأنثى، فمن الطبيعي والبديهي أن يكون هناك اختلاف في اختصاص كل منهما في هذه الحياة، يناسب تكوينه وخصائصه التي ركبت فيه، وهذا ما قرره الإسلام وراعاه، عندما وزع الاختصاصات على كل من الرجل والمرأة، فجعل للرجل القوامة على البيت، والقيام بالكسب والإنفاق، والذود عن الحمى، وجعل للمرأة البيت، تدبر شئونه، وترعى أطفاله، وتوفر فيه السكينة والطمأنينة، هذا مع تقريره أن الرجل والمرأة من حيث إنسانيتها على حد سواء، فهما شطران متساويان للنوع الإنساني، مشتركان بالسوية في تعمير الكون، وتأسيس الحضارة، وخدمة الإنسانية، كل في مجال اختصاصه، وكلا الصنفين قد أوتي القلب والذهن، والعقل والعواطف، والرغبات والحوائج البشرية، وكل منهما يحتاج إلى تهذيب النفس، وتثقيف العقل، وتربية الذهن، وتنشئة الفكر، لصلاح المدنية وفلاحها، حتى يقوم كل منهما بنصيبه من خدمة الحياة والمدنية، فالقول بالمساواة من هذه الجهات صواب لا غبار عليه، ومن واجب كل مدنية صالحة أن تعني بالنساء عنايتها بالرجال، في إيتائهن فرص الارتقاء والتقدم، وفقاً لمواهبهن وكفاءتهن الفطرية.

ثم إن ما يزعمون أنه مساواة بين الرجل والمرأة، ويحاولون إقناع المرأة بأن القصد منه مراعاة حقوقها، والرفع من مكانتها، إنما هو في الحقيقة عين الظلم لها، والعدوان على حقوقها، وذلك لأنهم بمساواة المرأة بالرجل في الأعباء والحقوق، حملوها أكثر مما حمَّلوا الرجل، فمع ما خصصت له المرأة من الحمل والولادة، والإرضاع وتربية الأطفال، ومع ما تتعرض له في حياتها، وما تعانيه من آلام الحيض والحمل والولادة، ومع قيامها على تنشئة أطفالها، ورعاية البيت والأسرة، مع تحملها لهذا كله، يحمّلونها زيادة على ذلك، مثل ما يحمل الرجل من الواجبات، ويجعلون عليها مثل ما عليه من الالتزامات التي أعفي الرجل لأجل القيام بها من جميع الالتزامات، فيفرض عليها أن تحمل كل التزاماتها الفطرية، ثم تخرج من البيت كالرجل لتعاني مشقة الكسب، وتكون معه على قدر المساواة في القيام بأعمال السياسة والقضاء، والصناعات، والمهن، والتجارة، والزراعة، والأمن، والدفاع عن حوزة الوطن.

وليس هذا فحسب، بل يكون عليها بعد ذلك، أن تغشى المحافل والنوادي، فتمتع الرجل بجمال أنوثتها، وتهيئ له أسباب اللذة والمتعة.

وليس تكليف المرأة بالواجبات الخارجة عن اختصاصها ظلماً لها فحسب، بل الحقيقة أنها ليست أهلاً كل الأهلية، للقيام بواجبات الرجال، لما يعتور حياتها من المؤثرات والموانع الطبيعية التي تؤثر على قواها العقلية والجسمية، والنفسية، وتمنعها من مزاولة العمل بصفة منتظمة، وتؤثر على قواها وهي تؤديه.

ثم إن قيام المرأة بتلك الأعمال، فيه مسخ لمؤهلاتها الفطرية والطبيعية، يقول (ول ديوارنت) مؤلف قصة الحضارة :(إن المرأة التي تحررت من عشرات الواجبات المنزلية ونزلت فخورة إلى ميدان العمل بجانب الرجل، في الدكان والمكتب، قد اكتسبت عادته وأفكاره وتصرفاته، ودخنت سيجاره، ولبست بنطلونه)

2 ـ التعرف على طبائع بعضهما البعض

لأن لكل رجل أو امرأة طبعه الخاص، والذي يفيد التعرف عليه كثيرا في حل الخلافات البيتية، فلذلك يستحسن في هذا الباب تعريف كلا الزوجين لبعضهما ما يحبان وما يبغضان تفاديا لأي خلاف، وفي السنة ما يشير إلى ذلك، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعلم ذاك، قال: إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم u قلت: أجل والله ما أهجر إلا اسمك) [46]

ففي هذا الحديث تعرف منه - صلى الله عليه وسلم - على طبيعة عائشة ،رضي الله عنها، وتعامل منه معها على أساسها، قال القاضي: مغاضبة عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي من الغيرة التي عفى عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة، ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما  فيه، لأن الغضب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجره كبيرة عظيمة، ولهذا قالت: لا أهجر إلا اسمك، فدل على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة) [47]

ولكن التعرف على الطبيعة، ومراعاتها تجنبا للخلافات الزوجية لا يعني السكوت عن الحق أو المداهنة على المنكر، ولهذا لم يمنع - صلى الله عليه وسلم - غيرة عائشة، رضي الله عنها، من الثناء على خديجة، رضي الله عنها، وذكر مناقبها، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ما غرت على امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن[48].

***

 وسنذكر هنا انطلاقا من هذا دور تعرف المرأة على طبيعة زوجها في اتقاء الخلاف، وننتقي لذلك أخطر ما قد يحدث الخلاف بين الزوجين، ومثله قد يقال مع الرجل.

فمن منابع الخلافات الزوجية: الغيرة، وسوء العلاقة بأهل الطرف الآخر، وعناد أحد الزوجين[49].

أما الغيرة، فقد تحدثنا في هذه المجموعة عما يرتبط بها من أحكام وآداب، ولكنا نريد هنا أن تعرف المرأة أن الغيرة من طبع الرجل الصالح المحب، فلذلك لا تنظر إليها على أنها شك وريبة بقدر ما هي محبة ومودة، (فالمسلم يحب زوجته، ويتمنى لها الخير والصلاح، ويكره لها الفحش والمجون، وكل ما يهون من رفعتها ومقدارها عنده، فغيرة الزوج على زوجته من الإيمان، وبها تسعد وتفخر كل زوجة مسلمة)

ولهذا قرن - صلى الله عليه وسلم - غيرة المؤمن بغيرة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرَّم الله) [50]

والرجل الذي لا يغار على أهله، ولا يغضب إذا رأى زوجته متبرجة، أو رآها وهي تحدث الرجال في ميوعة أو خضوع فإنه ديوث يقبل الفحش والسوء على أهله، قال - صلى الله عليه وسلم - :(ثلاثة لا يدخلون الجنَّة: العاق لوالديه، والديوث، ورَجُلَة النساء) [51]

والمرأة إذا عرفت هذه الطبيعة في زوجها اتقتها، فتمنع الغيرة والريبة عن زوجها إذا تحلتْ بالفضائل، والتزمتْ بأوامر الشرع في خروجها من بيتها، وفي زيها، وقولها، وفعلها، ومشيتها، وفي سائر أخلاقها، والرجل يدفع الغيرة عن زوجته، إذا تمسك بأوامر الله، وانتهى عن نواهيه في كل أحواله.

وبذلك تتحول الغيرة من منبع من منابع الخلاف إلى منبع من منابع حفظ العلاقة الزوجية، بل إنها توفر السعادة، وتقضي على كثير من المشكلات.

أما إذا اشتدتْ الغيرة (وهي الغيرة في غير ريبة)، فأصبح كل من الزوجين يشك في الآخر، ويتمنى أن يكون شرطيًّا على رفيقه، يراقبه في كل أعماله، ويسأله عن كل صغيرة وكبيرة، فهذا مما يوجد أسباب الخلاف، فتكون الغيرة مدخلاً للشيطان بين الزوجين، وربما أحدث الفرقة من هذه السبيل، وعلى الزوجين أن يثقا في بعضهما البعض، فلا يكثرا من الظن والشك، فذلك وسوسة من الشيطان، كما قال - صلى الله عليه وسلم - :(إياكم والظن، فإنه أكذب الحديث) [52]

والزوجة الفَطِنَة هي التي تبعد الغيرة عن زوجها،فلا تصف رجلا أمامه، ولا تمدحه ولا تثني عليه؛ فذلك مما يسبب غيرته، وضيق صدره، مما قد يدخل التعاسة بين الزوجين، بل تمتدح زوجها وتثني عليه بما فيه من خير، وتعترف بفضله.

ومما قد تكون له علاقة بهذا الباب ما يحدث من خلافات تتعلق بأهل الزوجين، فقد تنشأ بين الزوجين مشاكل تتعلق بأهل أحدهما، وربما تتفاقم هذه المشاكل حتى تصبح عائقًا أمام سعادتهما، ولها مظاهر كثيرة منها:

·  خروج الزوجة من بيت زوجها لزيارة أهلها بدون إذنه؛ مما يغضبه. فعلى الزوجة أن تستأذن زوجها عند خروجها، وعلى الزوج أن يسمح لها بزيارتهم، ويذهب معها كلما استطاع، وعلى الزوجة أن تعلم أنه قد أصبح لها بيت آخر غير بيتها الذي نشأت فيه، فلا تكثر من زيارة أهلها، وتهتم ببيتها، وترعى شؤونه، فلابد لها من فطام أسري تستعين به على قضاء حاجات زوجها وبيته.

·  اختلاف الزوجة مع أهل زوجها إن كانوا يسكنون معها في بيت واحد، فعلى الزوجة أن تكون مطيعة لأم زوجها، فلا تكثر من الاختلاف والتشاجر معها أو التخاصم، ولا تدفع زوجها إلى مقاطعة أهله، ولتكن عاملا مساعدًا في تقريب الزوج من أهله، والمسارعة إلى إزالة أسباب الخلاف بين زوجها وأهله، وعليها أن تنظر إلى أم الزوج وأبيه كنظرتها لوالديها، وتعامل أخواته كأخواتها، ولتجعل من نفسها أمًّا لهم إذا كانوا صغارًا، وعليها أن تترفع عن الأمور الصغيرة وتتجاوز عنها.

·  دخول الرجال من أهل الزوج على الزوجة: فعلى الزوجة أن تتفق مع زوجها في هذه المسألة، فلا يدخل عليها في بيتها أحد من أقاربه في غيابه، قال - صلى الله عليه وسلم - :(إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الْحَمُو (أخو الزوج)؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - :(الْحَمُو الموت) [53]

·  غضب الزوجة إذا أنفق الزوج كثيرًا من ماله على أهله، برًّا بهم، وهذا لا يليق بالمسلمة، بل عليها أن تمدح له ذلك.

·       بخل الزوج في معاملته لأهل زوجته، أو بخل الزوجة في معاملة أهل زوجها، فالبخل ليس من شيم المسلمين، فما بالنا به مع الأهل والأصهار.

·      كثرة استضافة الزوج لأهله في البيت، وإرهاق الزوجة في خدمتهم، والمسلمة صحيحة الفهم تفرح لذلك، وتجعله مدخلا لقلب زوجها، وبابًا واسعًا من أبواب كسب الحسنات.

·  إهمال أهل الزوج في حق الزوجة، وعلى المسلمة أن تتسامح في مثل هذه الأمور من أجل زوجها، فتكسب الكثير إذا أشعرته أنها تقابل السيئة بالحسنة إرضاء لله تعالى.

·  تدخُّل أهل أحد الزوجين الدائم والزائد في حياتهما، مما يحدث خلافات ومضايقات لهما، وعلى الزوجة هنا أن تبعد أهلها عن حياتها الخاصة مع زوجها، وأن تتفاهم مع زوجها في تودد في حالة تدخل أهله في حياتهما، وأن مثل هذه التدخلات قد يُحدِث تصدعًا في حياتهما.

ومما قد يدخل في هذا الباب (عناد أحد الزوجين) فعلى الزوجة أن تكون لطيفة لينة هينة مع زوجها بلا عناد ولا غضب. والعناد منع الحق مع العلم به، وهو مثيل الكبر، وكل متكبر عاقبته وخيمة، وقد وردت لفظة العنيد في القرآن الكريم أربع مرات، فاقترنتْ بالكفر والجبروت، فقد تخالف المرأة زوجها في الرأي عنادًا، وتصرُّ على موقفها بشكل متصلِّب، وهذا الفعل من عمل الشيطان، ومما يسعده، والمسلمة العاقلة لا تعرف العناد، فهي ترضي زوجها، وتطيعه وتلين له، وتنزل عن رأيها، وتميل إلى رأيه؛ إرضاءً له ما لم يكن مخالفًا للشرع.

والزوجة الذكية هي التي لا تواجه زوجها عند الغضب، وتغتنم لحظات المودة بينهما، فتنصحه بلطف وبشكل غير مباشر، وبأسلوب رقيق، مع تذكيره بسائر مزاياه الطيبة - أثناء ذلك-، وأنها تراه نموذجًا كاملا للزوج، ولكن حبذا لو ابتعد عن العناد والغضب؛ حتى لا يسيء ذلك إلى كماله أو رجاحة عقله وشخصيته.

3 ـ النظر إلى الجوانب الإيجابية لبعضهما البعض

ويشير إلى هذه المعرفة قوله تعالى:﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (النساء:19)، ففي الآية تنبيه إلى الانشغال بوجوه الخير الكبيرة والعميقة، حتى لا تحجب عنها المشاكل البسيطة.

يقول سيد قطب مبينا النظرة الإيمانية في هذا الباب :(والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب.. هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾(النساء:19) كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك) [54]

ثم ساق فهم الصحابة - رضي الله عنهم -  وتعايشهم مع الآية، فقال :(وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  لرجل أراد أن يطلق زوجه لأنه لا يحبها :(ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية وأين التذمم ؟)

ثم علق على ذلك بقوله :(وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم الحب وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها ! أليست لا تحبه ؟! وخيانة الزوج لزوجته ! أليس أنه لا يحبها ؟! وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور. ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل، ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر.. الله.. فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوقة ! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين:  فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) [55]

وفي معنى الآية ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر) [56]، قال الشوكاني:(والحديث فيه الإرشاد إلى حسن العشرة والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خلق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة  ) [57]

وقد فسر القاضي عياض النهي الوارد في الحديث بأنه ليس على سبيل النهى، بل هو خبر أي لا يقع منه بغض تام لها، وقد تعقبه ابن حجر بقوله :(هذا كلام القاضى وهو ضعيف أو غلط، بل الصواب أنه نهى أي ينبغى أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خلقا يكره وجد فيها خلقا مرضيا، بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك) [58]،ثم علل هذا بأن المعروف في الروايات لا يفرك  بإسكان الكاف لا برفعها، وهذا يتعين فيه النهى ولو روى مرفوعا لكان نهيا بلفظ الخبر، والثاني أنه قد وقع خلافه فبعض الناس يبغض زوجته بغضا شديدا، ولو كان خبرا لم يقع خلافه[59].

ومما ينطلق منه المؤمن للبحث في الإيجابيات التي يمكنها ستر العيوب التي قد يراها في حياته الزوجية أن يعلم بأن زوجته قسمة الله له، وأن الله اختارها له، ويعلم نتيجة لذلك أن الله تعالى مدخر له منها خيرا، خاصة إن كان قد استخار الله تعالى قبل زواجه منها، وقد قال في هذا المعنى ابن عمر - رضي الله عنه -  :(إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له فيسخط على ربه عزوجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له) [60]

وقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - بعض الجوانب من المرأة، والتي قد لا يلتفت لها كثيرا من الرجال مثنيا عليها، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه -  أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله ومعها صبيان لها، فأعطاها ثلاث تمرات فأعطت كل واحد منهما تمرة، ثم إن أحد الصبيين بكى قال: فشقتها فأعطت كل واحد نصفا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(حاملات والدات رحيمات بأولادهن لولا ما يصنعن بأزواجهن لدخل مصلياتهن الجنة)[61]، فهذا الإيثار جانب جمالي من جوانب المرأة قد ينسي النظر إليه أكثر ما يراه الرجل من عيوب.

ومن المسائل المهمة الواقعية في هذا الباب تشاؤم بعض الناس بنسائهم إن حصل في حياتهم معهن بعض ما يسوؤهم، مغلبين النظر إلى الجوانب السلبية، والتي قد لا يكون للزوجة أي دخل فيها، وقد يستدلون لذلك بفهم خاطئ لبعض الأحاديث في هذا الباب، ومنها ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: (إن كان الشؤم في شيء، ففي الدار والمرأة والفرس) [62]، وفي حديث آخر: (لا شؤم، وقد يكون اليمن في الدار والمرأة والفرس) [63]

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث اختلافا شديدا، ولا بأس من عرض الأقوال فيه، وما يفيد في علاج هذه الظاهرة.

وأول موقف حول هذا الحديث هو إنكار ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - بذريعة منافاته للقطعي من النصوص، ويتزعم هذا الفريق عائشة ،رضي الله عنها، فقد كانت تنكر أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكر أنه إنما حكاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجاهلية وأقوالهم، فقد ذكر ابن عبد البر عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة، رضي الله عنها، وقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض ثم قالت :(كذب[64] والذي أنزل الفرقان على أبى القاسم من حدث عنه بهذا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة، رضي الله عنها قوله تعالى:﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(الحديد:22)) [65]

وكانت عائشة، رضي الله عنها، وهي المصاحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر أحواله تنفي الطيرة وتشتد في نهيها وتسد كل الذرائع المؤدية إليها حتى قالت لنسوة كن يكرهن البناء بأزواجهن في شوال: ما تزوجني رسول الله إلا في شوال وما دخل بي إلا في شوال، فمن كان أحظى مني عنده، وكان تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال[66].

ولكن ابن القيم أنكر ردها هذا، ومما استدل به على إنكاره، قوله :(ولكن قول عائشة هذا مرجوح، ولها رضي الله عنها اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة، وهي رضي الله عنها، لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده، ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده، ولو انفرد به، فهو حافظ الأمة على الإطلاق وكلما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو صحيح، بل قد رواه عن النبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسهل بن سعد الساعدى وجابر بن عبد الله الأنصاري وأحاديثهم في الصحيح) [67]

ومع ثبوت عدم رد الحديث، فقد اختلف العلماء في تفسيره، وكان من التفاسير ما هو أقرب إلى فهم الجاهلية، منه إلى تصور الإسلام لهذا الأمر، وقد روي ذلك عن أئمة أجلاء  ولا نرى صحة ذلك عنهم، ومن ذلك ما روي عن ابن القاسم عن مالك أنه سئل عنه، فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا، قال المازري: فيحمله مالك على ظاهره والمعنى أن قدر الله ربما اتفق ما يكره عند سكنى الدار فتصير في ذلك كالسبب، فتسامح في إضافة الشيء إليه اتساعا[68].

وقال ابن العربي:لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جرى العادة فيها فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل[69].

قال ابن حجر تعليقا على قول ابن العربي :(وما أشار إليه بن العربي في تأويل كلام مالك أولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة لئلا يوافق شيء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نهى عن اعتقاده فأشير إلى اجتناب مثل ذلك، والطريق فيمن وقع له ذلك في   الدار  مثلا أن يبادر إلى التحول منها لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم) [70]

ولا نرى صحة ما ذهب إليه ابن العربي ولا ابن حجر لأن الفرار من البيت أو الفرار من المرأة تأكيد لهذا التشاؤم، وتقرير له، وهو من حيث النتيجة التي ذكروها لا يختلف عن نتيجة الفكر الجاهلي، فالمؤمن بهذا يفر من الذي تشاءم منه حتى لا يعتقد تأثيره، والجاهلي يفر منه اعتقادا في تأثيره، وفي كليهما يحصل الضرر، وينتفي التوحيد.

وما ذكره الإمام مالك قد يكون مبتورا، أو أسيء فهمه، فقد روي عن ابن القاسم ـ كما يذكر ابن القيم ـ أنه سئل مالك عن الشؤم في الفرس والدار فقال: إن ذلك كذب فيما نرى، كم من دار قد سكنها ناس فهلكوا، ثم سكنها آخرون فملكوا[71].

وقد فسر الحديث تفسيرا آخر قريبا من هذا، وهو ما قاله بعضهم :(المخاطب بقوله الشؤم من التزم التطير ولم يستطع صرفه عن نفسه، فقال لهم: إنما يقع ذلك في هذه الثلاثة التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك فانزعوها عنكم، ولا تعذبوا أنفسكم بها، ويدل على ذلك تصديره في بعض طرق الحديث بنفي الطيرة) [72]

وقد علل الخطابي ما ورد في الحديث تعليلا حسنا، يفيد لمن تأمله في علاج هذا المرض الذي يدعوه للنظر للجوانب السلبية ويقصر بصره عليها، فقال: (اليمن والشؤم علامتان لما يصيب الإنسان من خير وشر، ولا يكون شيء من ذلك إلا بقضاء الله تعالى، وهذه الثلاثة ظروف جعلت مواقع الأقضية، ليس لها بأنفسها وطبائعها فعل ولا تأثير لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الإنسان ولا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه ولا يخلو عن عارض مكروه في زمانه أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان) [73]

وقد ذكر ابن القيم بعض التفصيل لما ذكره الخطابي يساهم في علاج هذه الظاهرة[74]، وهو أن إضافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشؤم إلى هذه الثلاثة مجاز واتساع، أي قد يحصل مقارنا لها وعندها، لا أنها هي أنفسها مما يوجب الشؤم، فقد يكون الدار قد قضى الله تعالى عليها أن يميت فيها خلقا من عباده كما يقدر ذلك في البلد الذي ينزل الطاعون به، وفي المكان الذي يكثر الوباء  به، فيضاف ذلك إلى المكان مجازا، والله خلقه عنده وقدره فيه، كما يخلق الموت عند قتل القاتل، والشبع والري عند أكل الآكل وشرب الشارب، فالدار التي يهلك بها أكثر ساكنيها توصف بالشؤم لأن الله تعالى قد قصها بكثرة من قبض فيها.

ومما ذكر ابن القيم أيضا من الأقوال مما له علاقة بعلاج هذا المرض أن الشؤم في هذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها فيكون شؤمها عليه، بخلاف من توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير، فإنها لن تكون مشؤمة عليه، وهذا معنى صحيح دلت عليه السنة، فقد ورد في حديث أنس - رضي الله عنه -  (الطيرة على من تطير) [75]

ومما قد يسهم في علاج هذه الظاهرة، والمرض الذي يتسبب فيها، هو أن يعلم العبد أن الله تعالى قد يجعل تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به، وقد ذكر ابن القيم سر ذلك بقوله :(وسر هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى والخوف من غيره وعدم التوكل عليه والثقة  به لذا كان صاحبها غرضا لسهام الشر والبلاء، فيتسرع نفوذها فيه لأنه لم يتدرع من التوحيد والتوكل بجنة واقية، وكل من خاف شيئا غير الله سلط عليه، كما أن من  أحب مع الله غيره عذب به، ومن رجا مع الله غيره خذل من جهته، وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها) [76]

وقد ذكر أن هذا الطبع الذي يغلب الكثير من الناس ناتج عن ضعف الإيمان، أما المؤمن القوي الايمان  فإنه يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله لأن من توكل على الله وحده كفاه من غيره، كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(النحل:99)، ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -  :(ما منا إلا ـ يعني من يقارب التطير ـ ولكن الله يذهبه بالتوكل)

وبهذا يصح ما ذكرناه سابقا من أن الشؤم الذي في الدار والمرأة والفرس قد يكون مخصوصا بمن تشاءم بها وتطير، وأما من توكل على الله وخافه وحده ولم يتطير ولم يتشاءم فإن الفرس والمرأة والدار لا يكون شؤما في حقه وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام الإمام مالك - رضي الله عنه -.

هذا فيما يتعلق بنظرة الرجل لزوجته، أما نظرة الزوجة إلى زوجها، فينبغي أن تقصر على صلاحه وتدينه قبل أي شيء آخر، وهذا يدعو المرأة المسلمة أن تنظر إلى زوجها بالنظرة الإيمانية التي لا تغريها المظاهر مهما كانت جاذبيتها لما قد تخفيه خلفها من عفن وفساد، وفي هذا جاءت النصوص الكثيرة تخاطب الناس عموما والأزواج خصوصا، فقال تعالى:﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ (البقرة:221)

وفي هذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم - :(ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على اللَّه لأبره. ألا أخبركم بأهل النار  كل عتل[77] جواظ[78] مستكبر) [79]

ويضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلا عمليا على ذلك ليظل راسخا في الأذهان، فعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -  قال: مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع. فسكت رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم مر رجل آخر فقال له رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيك في هذا ؟ فقال: يا رَسُول اللَّهِ هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) [80]

وفي حديث آخر هو بلسم المرأة المسلمة التي ترى زوجها، فتستاء لما ترى من حاله، فيخاطبها - صلى الله عليه وسلم - بقوله :(رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبره) [81]، وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -:(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللَّه جناح بعوض) [82]

ولهذه المعاني الجليلة ترك سعيد بن المسيب تزويج ابنته للخليفة، وزوجها لتلميذه الفقير الذي لا يجد حتى القوت الذي يأكله، وكانت ابنته مثل أبيها، فرضيت عن حياتها، تطبيقا للرؤية الإيمانية في أقدار الناس.

ونختم هذا العلاج المعرفي ـ أخيرا ـ بكلام ذكره الغزالي يكفي تأمله للحياة المستقرة التي يشع الرضى فيها في جوانب البيت جميعا، بل يملأ الحياة سكينة واستقرارا، قال الغزالي وهو يتحدث عن صحبة الإخوان، وقد ذكرنا في الفصول الماضية عدم صحة التفريق بينها وبين صحبة الزوجة :(أن تعلم أنك لو طلبت منزهاً عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوىء، فإذا غلبت المحاسن المساوىء فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبداً يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم فإنه أبداً يلاحظ المساوئ والعيوب) [83]

ثم ينقل عن ابن المبارك قوله :(المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات)، وقول الفضيل: (الفتوة العفو عن زلات الإِخوان)

بل ذكر الغزالي مرتبة أعظم من هذه، وهي أن يبتعد عن مجرد الخواطر التي قد توحي له بالعيوب، قال :(وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضاً، وحدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن، فأما ما انكشف بـيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن) [84]

 



([1])   سن سعيد بن منصور: 1/206، البيهقي: 3/120.

([2])   ابن حبان: 7/152.

([3])   البخاري: 5/2245، مسلم: 4/1804.

([4])   سبق تخريجه.

([5])   البخاري:2/694.

([6])   البخاري:2/697، النسائي: 2/128.

([7])   الحاكم:4/167، النسائي:5/363.

([8])   السجود هو تعبير عن منتهى التذلل والخضوع، ولا يستدعي بالضرورة الحركة المعروفة في الصلاة، وقد اختلف العلماء هل أن السجود الموطأ بآدم u، فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله U  أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب u  لقوله U :) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ،فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين، والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله r، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين، روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد،انظر: القرطبي:1/293، أما ما نراه أحيانا في بعض الأعراف من الانحناء وتقبيل اليد والجبهة، كمظهر من مظاهر الاحترام، فليس من الركوع والسجود في شيء.

([9])   الحاكم:2/207، الترمذي: 3/465، البهقي: 7/84، النسائي: 5/363، ابن ماجة: 1/595، مسند البزار: 9/199.

([10])   أحمد: 6/76.

([11])   فيض القدير:3/60.

([12])   أي وإن كانت تخبز على   التنور،  مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه، تحفة الأحوذي:4/272.

([13])   قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، الترمذي:3/465، النسائي: 5/313.

([14])   قال الحاكم: ذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، الحاكم:4/191، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، 3/466، ابن ماجة:1/595، مسند أبي يعلى:12/331، شعب الإيمان:6/421.

([15])   فيض القدير:3/138.

([16])   البخاري:3/1182، مسلم:2/1060، مسند أبي عوانة:3/86.

([17])   للحديث روايات تختلف في عد الثلاثة، وتتفق على اعتبار الزوجة واحدا منها، انظر:الترمذي: 2/191، 193، البيهقي:3/128، ابن ماجة:1/311، مصنف ابن أبي شيبة:1/358، 3/558.

([18])   قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، الحاكم:2/207، البيهقي: 7/294، النسائي:5/354.

([19])   قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، الترمذي:3/476، ابن ماجة: 1/649، أحمد: 5/242.

([20])   الترمذي: 3/466، ابن ماجة:1/636، مسند أبي يعلى:10/333.

([21])   نيل الأوطار:6/360.

([22])   فبض القدير:2/97.

([23])   الحاكم: 1/119، الترمذي:5/9، أحمد: 6/99، ابن أبي شيبة:5/210.

([24])   المراد بالكفر هنا معناه اللغوي، وهو الستر والتغطية، ومنه قول الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها، أي سترها، ومنه سمي الليل كافرا، لأنه يغطي كل شيء بسواده.انظر في شرح الحديث:فتح الباري:2/542، التمهيد:3/302.

([25])   البخاري:1/19،5/1994، البيهقي:3/321، مسند الشافعي:77، المجتبى: 3/147، أحمد:1/298.

([26])   أحمد:6/452، مسند إسحق بن راهويه: 1/173، مسند الحميدي:1/179، المعجم الكبير:24/164، مجمع الزوائد:4/311.

([27])   الدارمي:2/179، أبو داود: 2/48، مجمع الزوائد:4/301.

([28])   ابن حبان: 9/484، الترمذي:5/709، البيهقي: 7/468، ابن ماجة: 1/636، مسند أبي يعلى: 10/330.

([29])   ابن حبان: 4/541، البيهقي: 2/345، الدارقطني: 1/273.

([30])   انظر: البيهقي: 5/125.

([31])   البخاري:5/1992، مسلم: 2/1112، الترمذي:5/420، البيهقي: 7/37، النسائي: 5/367.

([32])   في ظلال القرآن: 4/2495.

([33])   انظر الحديث في: البخاري: 2/942، النسائي: 6/416.

([34])   مسلم: 2/670.

([35])   قال الترمذي:حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وإسناده جيد، الترمذي:3/493، مسند أبي عوانة: 3/142، المعجم الأوسط:1/293.

([36])   نيل الأوطار:6/358.

([37])   الحاكم: 2/612، مصنف ابن أبي شيبة:4/197، شعب الإيمان: 6/411.

([38])   انظر: فيض القدير:1/503.

([39])   أسيف بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل من الاسف، وهو شدة الحزن والمراد أنه رقيق القلب.

([40])   البخاري:1/236، مسلم: 1/313، ابن حبان: 15/293، البيهقي: 3/94، الموطأ:1/170، أحمد: 6/224، مسند أبي يعلى: 7/452.

([41])   فتح الباري: 2/153.

([42])   البخاري:3/1212، مسلم:2/1092، ابن حبان:9/477، الحاكم:4/194، أحمد: 2/304.

([43])   فتح الباري:6/368.

([44])   فتح الباري:6/368.

([45])   هذا النص بطوله منقول من موقع islamunveiled.

([46])   البخاري:5/2004، النسائي:5/365، مسند أبي يعلى: 8/298، ابن حبان: 16/49.

([47])   شرح النووي على مسلم:15/203.

([48])   البخاري:5/2004، الترمذي:4/369، النسائي:5/94.

([49])   )   كثير من النصوص الواردة في هذا المحل منقولة من «  شبكة مواقع عالم حواء» hawaaworld.com.

([50])   البخاري ومسلم.

([51])   النسائي.

([52])   أحمد، وأبو داود، والترمذي.

([53])   البخاري، ومسلم.

([54])   في ظلال القرآن: 1/606.

([55])   في ظلال القرآن: 1/606.

([56])   المسند المستخرج على صحيح مسلم:4/142، البيهقي:7/295، أحمد: 2/329، مسند ابي يعلى:11/303.

([57])   نيل الأوطار:6/358.

([58])   شرح النووي على مسلم:10/59.

([59])   شرح النووي على مسلم:10/59.

([60])   انظر: القرطبي:5/98.

([61])   الحاكم: 4/192، أحمد: 5/252، شعب الإيمان: 6/409.

([62])   البخاري:  5/1959، النسائي: 3/38، ابن ماجة: 1/642.

([63])   الترمذي:5/127، المعجم الكبير:3/208.

([64])   قال أبو عمر وقولها في أبي هريرة كذب فإن العرب تقول كذبت بمعنى غلطت فيما قدرت وأوهمت فيما قلت ولم تظن حقا ونحو هذا وذلك معروف من كلامهم موجود في أشعارهم كثيرا، كما قال شاعر من همدان:

كذبتم وبيت الله لا تأخذونه      مراغمة مادام للسيف قائم

([65])   التمهيد:9/ 289.

([66])   سبق تخريجه.

([67])   مفتاح دار السعادة: 2/254.

([68])   نقلا عن: فتح الباري:6/62.

([69])   نقلا عن: فتح الباري:6/62.

([70])   فتح الباري:6/62.

([71])   مفتاح دار السعادة: 2/256.

([72])   شرح الزرقاني:4/487.

([73])   فيض القدير:3/33.

([74])   انظر: مفتاح دار السعادة:2/252.

([75])   نص هذه الرواية :« لا طيرة والطيرة  على من تطير، وإن تك في شيء ففي الدار والفرس والمرأة»  انظر: ابن حبان: 13/492.

([76])   مفتاح دار السعادة: 2/256.

([77])   الغليظ الجافي.

([78])   بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع. وقيل: الضخم المختال في مشيته. وقيل: القصير البطين.

([79])   البخاري: 4/1870، مسلم: 4/2190، ابن حبان: 12/492، الترمذي: 4/717.

([80])   البخاري: 5/1958 أحمد: 1/333، البزار: 3/15.

([81])   مسلم: 4/2024.

([82])   مسلم: 4/2147، البخاري: 4/1759.

([83])   إحياء علوم الدين: 2/177.

([84])   إحياء علوم الدين: 2/177.