المؤلف: نور الدين أبو لحية |
العودة للكتاب: العلاج الشرعي للخلافات الزوجية |
الناشر: دار الكتاب
الحديث |
الفهرس
ثانيا ـ العلاج التربوي للخلافات الزوجية
نريد بالعلاج التربوي في هذا المبحث
ما دعت إليه الشريعة من آداب وقيم تملأ البيت المسلم سلاما وسكينة وطمأنينة، وتنفي
النزاعات التي قد تحدث بسبب أو بغير سبب، فتترك البيوت خلفها، ولا أثر لها.
ولا نستطيع هنا أن نذكر كل ما يتعلق
بهذا الجانب، لأن جميع أخلاق الإسلام تدخل في هذا الباب، فكل خلق طيب ينفي مشكلة
من المشاكل، وكل خلق خبيث ينشئ مشكلة أو مشاكل تملأ الحياة الزوجية ظلاما
واضطرابا، فلذلك كان العلاج الشرعي لا يتوجه لعين المشكلة بقدر ما يركز على
مصدرها، ولا يترك المشكلة حتى تتفاقم، بل يبادر إلى حلها، وهي غضة طرية، وقد سبق ي
الفصول الماضية ذكر ما يتعلق بهذا.
ولكنا في هذا المبحث سنتحدث عما له
علاقة مباشرة بالخلافات الزوجية، وقد حاولنا أن نحصر العلاج التربوي في العناصر
التالية، والمستنبطة جميعا من هدية - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع أصحابه.
واتقاء أسباب الخلافات ينطلق مما سبق
ذكره من تعرف كلا الجنسين على طبيعة الآخر، والتعامل معه على أساسها، ويضاف إلى
ذلك علاجين نرى أن لهما دورا كبيرا في اتقاء الخلافات هما:
وهو أساس الحلول، فرضى الزوج عن
زوجته ورضاها عنه، وعدم طموح بصرهما إلى ما قد يسيء إلى حياتهما، هو سر السعادة
الزوجية، وبلسم الخلافات التي قد تنغص حياتهما، فأكثر الخلافات الزوجية إنما تنشأ
من تكلف غير الموجود أو غير المستطاع، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يحث على
الرضى، ويعتبره حيازة للدنيا بحذافيرها فعن عبيد اللَّه بن محصن الأنصاري الخطمي -
رضي الله عنه - قال، قال رَسُول اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم -: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت
يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) [1]
قال الغزالي معلقا على هذا
الحديث:(ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع
أنها وبال عليهم، ولا يشكرون نعمة الله فى هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم
فى الإيمان الذى به وصولهم إلى النعيم المقيم، والملك العظيم بل البصير بنبغى أن
لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان.. ولذات الدنيا كلها ناقصة مكدرة مشوشة لا
يفى مرجوها بمخوفها ولا لذتها بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن
وهكذا تكون ما بقى من الزمان) [2]
وفي حديث آخر يذكر - صلى الله عليه
وسلم - بالنعم التي ينبغي استذكارها، والتي ينسي تذكرها كل قلة من الدنيا أوضيق في
الرزق، أو خمول بين الخلق، فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:
(قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه اللَّه بما آتاه) [3]، وفي حديث آخر
بيان للجزاء المعد للقانعين الراضين بالكفاف من الرزق، فعن أبي محمد فضالة بن عبيد
الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رَسُول
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافاً،
وقنع) [4]
بل كان - صلى الله عليه وسلم - أسوة
في ذلك، فحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزوجية كانت بسيطة يغمرها الرضى
والقناعة، ومع ذلك كان بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسعد بيت على وجه
الأرض، لأن السعادة لا ينشئها المال والطعام وإنما ينشئها الرضى، وقد حفظت لنا
السنة كيف كانت معيشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ،وهي نعم الأسوة
لمن ضاقت بهم سبل الرزق، أو لمن اتسعت لهم سبله، ولكن أعينهم طمحت لغيره.
قالت عائشة، رضي الله عنها:(ما شبع
آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض) [5]، وفي رواية:
ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال
تباعاً حتى قبض، وعن عروة عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها أنها كانت تقول: والله يا
ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال: ثلاثة أهلة في شهرين وما
أوقد في أبيات رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نار. قلت: يا خالة فما كان
يعيشكم قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرَسُول اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رَسُول
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقينا.
ويصف ابن عباس - رضي الله عنه - كيف كان يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكيف كان يعيش معه أهل بيته، فيقول: كان رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبر الشعير[6].
أما اللباس، وهو الذي يتباهي به
الكثير ويتعالون به، ومنه ينطلقون في الحكم على الناس، فقد احتفظت لنا عائشة، رضي الله
عنها، بنموذج عنه فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: أخرجت لنا عائشة، رضي الله عنها، كساء
وإزاراً غليظاً قالت: قبض رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذين[7].
أما فراشه - صلى الله عليه وسلم -
فتصفه عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها بقولها: (كان فراش رَسُول اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - من أدم حشوه ليف[8].
وعندما فتح الله عليه الدنيا أبى إلا
أن يكون أسوة للمستضعفين والفقراء من المسلمين، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت:
توفي رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين
صاعاً من شعير[9].
ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - ضجرا
من حياته هذه، بل كان سعيدا بها راضيا عنها، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو
فيقول في دعائه :(اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) [10]
وعلى هذه السنة كانت الحياة بعده -
صلى الله عليه وسلم - في القرون الخيرة، قال الغزالي :(كانت عادة النساء في السلف
أن الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته: إياك وكسب الحرام فإنا نصبر
على الجوع والضر ولا نصبر على على النار. وهمَّ رجل من السلف بالسفر فكره جيرانه
سفره، فقالوا لزوجته: لم ترضين بسفره ولم يدع لك نفقة؟ فقالت: زوجي منذ عرفته
عرفته أكّالاً وما عرفته رزاقاً، ولي رب رزاق. يذهب الأكال ويبقى الرزاق) [11]
وذلك بألا يخرج كلا الجنسين عن
طبيعته، فلا تتصرف المرأة بطريقة الرجل، ولا يتصرف الرجل بأسلوب المرأة، فيتكلف كل
منها خلاف مقتضيات طبعه، وهو مما يسيء للحياة الزوجية، لأن الرجل يريد من زوجته أن
تكون امرأة، وتريد هي من زوجها أن يكون رجلا.
وقد جاء في الأحاديث الكثيرة النهي
عن تشبه كل واحد من الجنسين بالآخر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة
لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة،
والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما
أعطى) [12]
وقد عد خروج كلا الجنسين عن طبعه من
الكبائر، وقد عنون ابن حجر من الكبائر:(تشبه الرجال بالنساء فيما يختصصن به عرفا
غالبا من لباس أو كلام أو حركة أو نحوها وعكسه) [13]
واعتبار ذلك كبيرة هو ما توحي به
الأحاديث الكثيرة التي رويت في هذا الباب، والتي تدل على مبلغ خطورة هذا التطبع،
فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لعن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء , والمتشبهات من
النساء بالرجال[14]، وروي أن امرأة مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقلدة قوسا فقال: لعن الله المتشبهات من
النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء[15].
ومن هذا الباب تدخل الرجل في خصوصيات
المرأة أو المرأة في خصوصيات الرجل، فهو من التكلف الممقوت، وهو خروج من الطبع
الذي خلق الله عليه كلا الجنسين، زيادة على أن كثيرا من المشاكل تحدث بسبب هذا.
ومما يصح ضربه مثالا على هذا أن
الرجل مفطور على الغيرة، وهي من طبعه الذي لا ينفك عنه، فلذلك لو تعاملت معها
المرأة ب
فالخلاف الزوجي لا بد أن يحصل، فلذلك
يحتاج التعامل معه إلى التمرن الخلقي تفاديا لآثاره، فقد يكون خلافا بسيطا لكن
تدخل الأمراض النفسية، واعتلال الخلق يعمقه لأنه يكسوه بكل الأمراض الموجودة في
النفس، أما صاحب الخلق الطيب والنفس المترفعة، فهو بمنأى عن ذلك كله، بل قد لا
يشعر بالخلاف أصلا.
وسنذكر في هذا المطلب ثلاث درجات
للتعامل مع الأذى الذي قد يحصل بين الزوجين، فينشر الشقاق بينهما، وهذه الدرجات
هي:
وهو أن يجهد على مراقبة نفسه من أن
يؤذي زوجته بأي نوع من أنواع الأذى، فهي مسلم، وإذية المسلم حرام، فلذلك ينطبق في
معاملتها كل ما ورد من التحذير من الإذية، ونفس الأمر ينطبق على إذية المسلمة
لزوجها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث جامع لذلك :(من كانت عنده مظلمة
لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن
كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه
فحمل عليه) [16] ،وفي حديث آخر
قال - صلى الله عليه وسلم - :(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من
هجر ما نهى اللَّه عنه)
أما ما ورد خصوصا في النهي عن إذية
الزوجة فنصوص كثيرة منها زيادة على مع ما سبق ذكره ما رواه عبد الله بن زمعة أنه سمع
النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، وذكر
الناقة، والذي عقر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع
في رهطه مثل أبي زمعة، وذكر النساء فقال: (يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد،
فلعله يضاجعها من آخر يومه) [17]، وهذا الجمع
بين شقي ثمود ومن يضرب امرأته دليل على تجبر هذا الزوج وتكبره على نعمة ربه كما
فعل الذي عقر الناقة، وقد كان يشرب من لبنها.
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال :(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء
خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن
تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا) [18]
أما إذية المرأة لزوجها، فقد سبق ذكر
قوله - صلى الله عليه وسلم - :(لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من
الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) [19]
وهو درجة أخرى فوق كف الأذى، لأن كف
الأذى أمر سلبي، ليس فيها عناء، ولا فيه تفضل، ومن القبيح أن يثنى على شخص بأنه لا
يؤذي غيره، وقد قال الغزالي عند ذكره لآداب العلاقة الزوجية: (واعلم أنه ليس حسن
الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت أزواجه تراجعنه، وتهجره الواحدة منهن
يوماً إلى الليل) [20]
ويذكر ابن العربي من ذلك عن ابن أبي
زيد القيرواني، ما رواه عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي
زيد من العلم والدين في المنزلة المعروفة , وكانت له زوجة سيئة العشرة , وكانت
تقصر في حقوقه , وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها فيسدل بالصبر عليها , وكان
يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي , وما ملكت يميني , فلعلها
بعثت عقوبة على ديني , فأخاف إذا فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها) [21]
وفي هذا الباب كذلك يذكر قوله تعالى:
﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ
اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(النساء:19) قال ابن العربي:(إن وجد الرجل في
زوجته كراهية , وعنها رغبة , ومنها نفرة من غير فاحشة ولا نشوز فليصبر على أذاها
وقلة إنصافها , فربما كان ذلك خيرا له) [22]
وهو درجة أخرى فوق احتمال الأذى، فقد
يحتمل الشخص الأذى على مضض، أو يخبئ ذلك التحمل أحقادا يملأ بها صدره ليخرجها في
يوم من الأيام محملة بكل سموم الحقد التي استقرت في كيانه، فلذلك كان العفو بمعناه
الحقيقي الذي هو محو الزلة من الصدر، ومن الذاكرة، أكمل، وصاحبه أهنأ، والحياة به
أقر.
وقد قسم الغزالي العفو بحسب موضوع
الذنب إلى نوعين:
النوع الأول: العفو عن
الذنب المتعلق بحقوق الله تعالى، وقد ذكرنا سابقا أن الزوج لا يداهن فيه، بل ينكر
على زوجه، وتنكر على زوجها، وينصحها، وتنصحه، فذلك هو علاج هذه الحالة لا التقاطع،
وقد ورد عن السلف الصالح - رضي الله عنهم -
ما يحث على استعمال هذا العلاج في العلاقات، وقد ذكرنا سابقا ان الضوابط
التي تحكم العلاقات جميعا علاقات واحدة منضبطة، فلذلك لا حرج أن نستدل للعلاقة
الزوجية بالعلاقة الأخوية، وليس من حرج كذلك أن نستدل لعلاقة الأخوة بعلاقة
الزوجية، فهناك من القواسم ما يجمع بينها جميعا.
فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: (إذا
تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى)
وقال إبراهيم النخعي:(لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه فإن يرتكبه اليوم
ويتركه غداً)، وفي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض
من قدم عليه وقال: ما فعل أخي؟ قال: ذلك أخو الشيطان قال: مه، قال: إنه قارف
الكبائر حتى وقع في الخمر. قال: إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه ﴿
بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِن اللَّهِ العَزيز العَليم
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَديدِ العِقَاب﴾ (غافر:1 ـ 3)
الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله. فلما قرأالكتاب بكى وقال: صدق الله ونصح لي عمر
فتاب ورجع.
ويحكي الغزالي من ذلك عن أخوين من
السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ففقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره، فقال: أحوج ما
كان إليَّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بـيده وأتلطف له في المعاتبة
وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه.
وقد ذكر الغزالي ان هذا النوع من
المعاملة أفضل من الخشونة والشدة والمقاطعة، وإن ورد في الاثار عن السلف الصالح -
رضي الله عنهم - ما يدل عليها، فقال :(أما
كونه ألطف فلما فيه من الرفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة
لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة، ومهما قوطع وانقطع طمعه عن الصحبة أصر واستمر،
وأما كونه أفقه فمن حيث إن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة فإذا انعقدت تأكد الحق
ووجب الوفاء بموجب العقد، ومن الوفاء به أن لا يهمل أيام حاجته وفقره وفقر الدين
أشدّ من فقر المال، وقد أصابته جائحة وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه فينبغي أن
يراقب ويراعي ولا يهمل، بل لا يزال يتلطف به ليعان على الخلاص من تلك الوقعة التي
ألمت به، فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان وهذا من اشدّ النوائب، والفاجر إذا
صحب تقياً وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب ويستحي من الإِصرار بل
الكسلان يصحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه) [23]
النوع الثاني: العفو عن
الذنب في حقه، وهو أولى بالمغفرة، والنسيان، بل من الكمال أن يحمل إيذا غيره له
على احسن المحامل، وقد قال الغزالي :(لا خلاف في أن الأولى العفو والاحتمال، بل كل
ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ويتصوّر تمهيد عذر فيه قريب أو بعيد فهو واجب بحق
الأخوة، فقد قيل: ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً، فإن لم يقبله قلبك فرد
اللوم على نفسك، فتقول لقلبك: ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله،
فأنت المعيب لا أخوك، فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين فينبغي أن لا تغضب إن قدرت) [24]
ولذلك ليس من الكمال أن ينتظر المؤمن
اعتذار غيره ليعفو عنه، بل يقدم العفو على الذنب، ويسترضي قلبه بنفسه نيابة عن
غيره.
والدرجة التي تلي هذه الدرجة أن يقبل
العذر صادقا كان المذنب أو كاذبا، وقد ورد التحذير في النصوص من عدم قبول
الاعتذار، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :(مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَخُوهُ
فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُ إِثْمِ صَاحِبِ المَكْسِ) [25]، وعن جابر -
رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من اعتذر إليه فلم يقبل لم يرد على الحوض) [26]
والدرجة التي تلي هذه الدرجة، وهي
أدناها بل ليست من درجات الكمال أصلا، ولكنها مع ذلك أحسن مما هو دونها، وهي عدم
المبالغة في مقابلة الذنب، قال الغزالي :(وينبغي أن لا يبالغ في البغضة عند الوقيعة) [27]
ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم﴾ٌ(الممتحنة:7) وقد قال عمر - رضي الله عنه - في هذا :(لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفا ً)
والدرجة التي هي دون هذه الدرجات،
ومع ذلك يقصر عنها أكثر الناس هي ستر الذنب وعدم إفشائه مهما احتاج إلى ذلك، وقد
قال الغزالي وهو يذكر آداب العلاقة الزوجية:(أن لا يفشي سرها لا في الطلاق ولا عند
النكاح، فقد ورد في إفشاء سر النساء في الخبر الصحيح وعيد عظيم، ويروى عن بعض
الصالحين أنه أراد طلاق امرأة، فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟ فقال: العاقل لا يهتك
ستر امرأته، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري) [28]
3 ـ المعالجة
الحكيمة للخلافات الزوجية
وهي الركن الثالث من أركان التعامل
مع الخلافات الزوجية، فلا يكفي الزوج أو الزوجة أن يعفوا ويصفحا ويتحملا، بل
يحتاجان إلى النظر في المشكلة التي سببت الخلاف، ويعالجاها علاجا حكيما يقضي على
كل آثارها، ويستوي في هذا جميع ما يراه الناس من مشاكل وخلافات سواء كانت كبيرة
ضخمة، أو حقيرة صغيرة، فقد يتحول الصغير كبيرا والدقيق جليلا.
وقد حفظت لنا السنة بعض هديه - صلى
الله عليه وسلم - في ذلك، وهو يشير بعمومه إلى غيره، فقد كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت زوجة له أخرى بقصعة فيها طعام فضربت
عاءشة، رضي الله عنها، يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسقطت القصعة فانكسرت
فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع
فيها الطعام ويقول :(غارت أمكم، كلوا فأكلوا فأمسك حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها
فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وترك المكسورة في بيت التي كسرتها) [29]، وعن أنس قال
أهدت بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - :(طعام بطعام وإناء بإناء)
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت ما
رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء فيه طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فسألت
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كفارته فقال: إناء كإناء وطعام كطعام.
وفي رواية أخرى عن رجل من بني سوءة
قال قلت لعائشة، رضي الله عنها، أخبريني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قالت: أو ما تقرأ القرآن ﴿
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم﴾ٍ(القلم:4) قالت: كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مع أصحابه فصنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما، فسبقتني حفصة فقلت
للجارية انطلقي فأكفئي قصعتها، فلحقتها وقد همت أن تضع بين يدي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فأكفأتها فانكسرت القصعة وانتشر الطعام قالت فجمعها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وما فيها من الطعام على النطع فأكلوا، ثم بعث بقصعتي فدفعها
إلى حفصة، فقال: خذوا ظرفا مكان ظرفكم وكلوا ما فيها قالت فما رأيت ذلك في وجه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ففي هذا الحديث برواياته المختلفة
نلاحظ كيف عالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المشكلة بكل يسر وسهولة مع
أنها مع بساطتها لو لم تعالج كذلك كان يمكن أن تتحول إلى خلاف عظيم يصعب حله، وهذا
الحل يتعلق بجميع جوانب المشكلة لا ببعض عوارضها.
فأول ما فعل الرسول - صلى الله عليه
وسلم - بعد حصول هذا هو توجهه للحاضرين اعتذارا لهم عن السبب الذي حصلت به هذه
المشكلة، وهو سبب لا يمكن تفاديه باعتباره مركوزا في طبائع النساء، فقال - صلى
الله عليه وسلم - :(غارت أمكم) قال ابن
حجر :(الخطاب لمن حضر والمراد بالأم هي التي كسرت الصحفة[30]، فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما لأنها في تلك الحالة يكون
عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي اثارته الغيرة) [31]، بل في قوله -
صلى الله عليه وسلم - :(أمكم) إشارة إلى عدم المؤاخذة، لأن الإنسان لا يؤاخذ أمه
لارتفاع الكلفة بينهما.
ثم أصلح - صلى الله عليه وسلم -
الأثر المادي للمشكلة، فقد أخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها
الطعام، وهو علاج آني للمشكلة، فقد أسرع إليه - صلى الله عليه وسلم - فور حصوله في
الوقت الذي يثورون فيه الناس ويهيجون، أما هو - صلى الله عليه وسلم - فبدل أن يعنف
من فعلت أو يعاقبها توجه إلىالصحن المكسور أمامه يرأب صدعه، ثم توجه إلى من فعلت
ذلك يلزمها بالضمان، فقال - صلى الله عليه وسلم - :(طعام بطعام وإناء بإناء)، قال
ابن حجر :(عاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في بيت
صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين، ويحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رأى ذلك
سدادا بينهما فرضيتا بذلك ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي فيه بالمال) [32]
أما الآثار المستقبلية لهذا التصرف،
فقد عالجه - صلى الله عليه وسلم - بنفس القول الذي بدأ به - صلى الله عليه وسلم -
موقفه من هذه المشكلة، لأن الأثر المستقبلي عادة ما ينبع من الموقف الآني، قال
الطيبي في قوله - صلى الله عليه وسلم - :(غارت أمكم) :(الخطاب عام لكل من يسمع
بهذه القصة من المؤمنين اعتذارا منه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يحملوا صنيعها
على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغريزة، فإنها مركبة في نفس البشر بحيث
لا تقدر أن تدفعها عن نفسها) [33]
والأكمل من ذلك كله هو ما عبرت عنه
عائشة، رضي الله عنها، بقولها:(فما رأيت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -)
***
ونقترح هنا أن يعلق الزوجان جدولا
يضعان فيه ما قد يحدث بينهما من خلاف، وكيفية علاجه بحيث يصبح مرجعهما عند كل
خلاف، وقد وضع بعضهم حلولا لأهم الخلافات الزوجية لا بأس من نقلها هنا في هذا
الجدول مع بعض التصرف[34]، وهو نموذج لما يمكن أن يفعل:
المشكل |
أسبابه |
طريقه العلاج |
الغيرة |
الرغبة بالامتلاك الشك بالشريك الآخر الافتقاد إلى الصراحة |
احترام حرية وخصوصية الشريك الآخر الصراحة التامة والمناقشة الهادئة
الموضوعية الابتعاد عن الاختلاط قدر الامكان |
الكذب |
الخوف التقصير الهروب وعدم المواجهة |
تجاوز الأخطاء البسيطة للشريكين معرفه الوجبات والمسؤوليات لكليهما
الاعتراف بالأخطاء ببساطه حين
حدوثها |
العنف |
العناد والتحدي والجدال
الاستفزازي. ضعف الشريك الآخر وعدم التكافؤ. |
الصبر.المسايرة.التسامح.القناعة العطف والحميمة في العلاقة الزوجية
الصدق والصراحة في كل الأحوال |
الملل |
روتين الحياة الافتقار إلى التجديد في الأمور
اليومية الفراغ |
السعي إلى التجديد حتى في ابسط
الأمور قليل من التغير وخلع ثوب المثالية
قد يفيد ملا الفراغ بأشياء مفيدة وأفكار
متجددة |
تدخل الأهل |
تسرب المشاكل الشخصية خارج المنزل كثره الزيارات للأهل واطلاعهم على
تفاصيل خاصة وبدون مبرر |
المحافظة على سريه وخصوصية العلاقة
الزوجية والاعتدال في الزيارات والاهتمام في شوؤن المنزل والعائلة أولا |
الانانيه |
حب الذات عدم الشعور بالمسؤولية |
احترام حاجات الطرف الآخر المشاركة بين الطرفين في السراء
والضراء |
البخل |
طبع سيء وصفه منفره |
الحمد والشكر على عطاء الله
والتمتع بالرزق الحلال واليقين بان الموت قريب دائما |
الكسل |
منشأ ذاتي الاتكاليه |
تنظيم الحياة اليومية الاعتماد على الذات قدر الامكان الإحساس بالمسؤليه |
([5]) البخاري: 5/2055، مسلم: 4/2282، ابن
حبان: 14/255، الحاكم: 4/16، البيهقي: 2/150، النسائي: 4/150، ابن ماجة: 2/1110.
([9]) البخاري: 3/1068، ابن حبان: 13/262،
الترمذي: 3/519، البيهقي: 6/36، النسائي: 4/49، ابن ماجة: 2/815، أحمد: 1/361.
([10]) مسلم: 2/730، ابن حبان: 14/254،
الترمذي: 4/580، البيهقي: 2/150، ابن ماجة: 2/1387، أحمد: 2/446..
([29]) البخاري: 5/2003، الدارمي: 2/343،
الدارقطني: 4/153، ابو داود: 3/297، النسائي: 5/285، ابن ماجة: 2/782، أحمد: 3/263.