الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: رحمة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

خامسا ـ المحبطون

1 ـ السكينة

2 ـ الحركة

 

 

خامسا ـ المحبطون

في اليوم الخامس .. سرت إلى مستشفى نفسي كان قد أسسه صاحب لنا اسمه (إيرنست جونز)[1]، وقد أراد من خلاله أن ينشر في نفوس المرضى المحبطين ما يجعلهم يشنون حربا لا هوادة فيها على الإسلام.

ومن فضل الله علي في ذلك اليوم أني شهدت موقفا من المواقف زادني قربا من الإسلام، وزادني محبة لطبيب اليائسين والمحبطين رحمة الله للعالمين رسول الله r .

سأحكي لك الحكاية من البداية ..

عندما دخلت قاعة المستشفى الممتلئة بالحزن والأسى واليأس .. رأيت رجالا كثيرين يضعون أكفهم على خدودهم، وقد امتلأت أسارير وجوههم بالأسى والألم والحزن ..

وكان من بينهم صاحبنا (إيرنست جونز) مؤسس المستشفى .. فقد أصيب هو الآخر بعدوى الألم والحزن واليأس.

اقتربت منه، وقلت: ما بالك حضرة البروفيسور .. أرى اليأس على وجهك؟

قال: وكيف لا أيأس .. وأنا قد استعملت كل المراهم ، وخضت غمار كل الأساليب التي ابتدعها أصحابنا في العلاج النفسي[2] .. لكني لم أظفر مع هؤلاء بشيء .. لكأن اليأس قد غرس جذوره في قلوبهم، فلا يكادون ينفكون عنه، ولا يكاد ينفك عنهم.

قلت: فما ترى سببا لذلك؟

قال: الدين .. لا شك أنه الدين .. إنه أخطر فيروس يمكنه أن يفتك بالنفس الإنسانية.. إن الدين هو أيدز النفس وسرطانها .. ولذلك لا سبيل للنجاة لمن ابتلي به ..

لقد كتب صديقي الفيلسوف (أجوست سياته) في كتابه (فلسفة الأديان) يقول:( لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين، لأني لا أستطيع خلاف ذلك، لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي. يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها)

وقبله كتب المؤرخ الإغريقي (بلوتارك) يتحدث عن تغلغل هذا السرطان في جميع المجتمعات الإنسانية، قال: (قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد)

ولذلك .. لا أرى لهذه النفوس المدنسة بدنس الدين أي فرصة للشفاء.

قلت: إن ما تقوله يا بروفيسور يخالف ما ذهب إليه الكثير من العقلاء ..

فالمؤرخ الفيلسوف (آرنولد توينبى) يقول: (الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا)

ويقول الدكتور (كارل بانج) في كتابه (الإنسان العصري يبحث عن نفسه) : (إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم)

ويقول (وليم جيمس) فيلسوف المنفعة والذرائع: (إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان)

ويقول الدكتور (بريال): (إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا)

ويقول (ديل كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة): (إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض)

أما الدكتور (هنري لنك)، فقد ذكر في كتابه (العودة إلى الإيمان) البراهين الكثيرة الدالة على الدور الإيجابي للدين من خلال ما لمسه وجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي.

أما (ديل كارنيجي)، فقد تحدث عن الأثر المبارك للصلاة في النفس البشرية، فقال: (ولا يقعد بك عن الصلاة والضراعة والابتهال أنك لست متديناً بطبعك، أو بحكم نشأتك، وثق أن الصلاة سوف تسدي إليك عوناً أكبر مما تقدر، لأنها شيء عملي فعال، تسألني: ماذا أعني بشيء عملي فعال، أعني بذلك أن الصلاة يسعها أن تحقق لك أموراً ثلاثة لا يستغني عنها إنسان سرواء أكان مؤمناً أو ملحداً:

فالصلاة تعينك على التعبير بأمانة ودقة عما يشغل نفسك، ويثقل عليها، وقد بينا فيما سلف أن من المحال مواجهة مشكلة مادامت غامضة غير واضحة المعالم، والصلاة أشبه بالكتابة التي يعبر بها الأديب عن همومه، فإذا كنا نريد حلاً لمشكلاتنا وجب أن نجريها على ألسنتنا واضحة المعالم، وهذا ما نفعله حيث نبث شكوانا إلى الله.

والصلاة تشعرك بأنك لست منفرداً بحل مشكلاتك وهمومك. فما أقل من يسعهم احتمال أثقل الأحمال وأعسر المشكلات منفردين، وكثيراً ما تكون مشكلاتنا ماسة أشد المساس بذواتنا فنأبى أن نذكرها لأقرب الناس إلينا، ولكننا يسعنا أن نذكرها للخالق عز وجل في الصلاة.

والأطباء النفسيون يجمعون على أن علاج التوتر العصبي، والتأزم الروحي يتوقف -إلى حد كبير- على الإفضاء بمبعث التوتر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب، أو ولي حميم. فإذا لم نجد من نفضي إليه كفانا بالله ولياً.

والصلاة بعد هذا تحفزنا إلى العمل والإقدام، بل الصلاة هي الخطوة الأولى نحو العمل، وأشك في أن يوالي امرؤ الصلاة يوماً بعد يوم، دون أن يلمس فائدة أو جدوى، أو بمعنى آخر، دون أن يتخذ خطوات مثمرة نحو تحسين حالته، وتفريج أزمته، وقد قال (الكسيس كاريل) (مؤلف كتاب (الإنسان .. ذلك المجهول) - والحائز على جائزة نوبل – :( الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى الآن، فلماذا لا ننتفع بها؟)[3]

قال: وما كانت أديان هؤلاء الذين ذكرتهم؟

قلت: لقد كانوا مسيحيين .. لاشك أنك تعلم ذلك.

قال: الدين المسيحي مختلف عن سائر الأديان .. ولذلك يمكن للمريض النفسي أن يجد عزاءه فيه .. بل يمكن للمريض أن يجد عزاءه النفسي في جميع الأديان ما عدا الإسلام ..

الإسلام مختلف تماما .. إنه فيروس قاتل .. إنه يحطم النفس تحطيما لا تستطيع بعده الحلم بأي خلاص ..

ألا ترى كيف يتحدث المسلمون عن العبودية لله .. ويجعلونها قمة قمم طموحهم .. مع كونها من وجهة النظر النفسية الهاوية التي إذا انحدرت إليها النفس، فلا مطمع لها بعد في نجاة ولا راحة ولا سعادة؟

قال ذلك، ثم نظر إلى من حوله من المرضى، وقال: وللأسف، فإن هؤلاء مسلمون .. لقد حاولت بكل الأساليب أن أخلصهم من إسلامهم .. فلم أستطع .. لقد ضرب الإسلام جذوره في أعماق قلوبهم، ولذلك لا مطمع لهم في النجاة منه.

نظرت إليهم، فلم يبدو لي على وجوههم أي سيما من سيما المتدينين، فقلت: كيف عرفت يا حضرة البروفيسور بأن الدين هو سبب ما هم فيه؟

قال: لقد ذكرت لك أنهم مسلمون .. ويكفي ذلك لتشخيص حالتهم.

قلت: هل رأيتهم يرفعون أيديهم إلى السماء يدعون ربهم؟

قال: لا ..

قلت: هل رأيتهم يذكرون ربهم كثيرا؟

قال: لا ..

قلت: فهل رأيتهم يصلون؟

قال: لا .. هم مقصرون في جميع هذه النواحي .. ولكن ما غرضك من كل هذه الأسئلة؟

قلت: أردت أن أعرف علاقة الدين بمرضهم.

قال: فما رأيت؟

قلت: أرى أن تشخيصك لحالتهم بكون الدين سببها خطأ .. فهؤلاء لا علاقة لهم بالدين.

قال: ولكنهم يذكرون عن أنفسهم أنهم مسلمون.

قلت: أجل .. هم مسلمون ورثوا إسلامهم ولم يعيشوه، وفرق كبير بين أن ترث شيئا، وبين أن تستخدمه.

***

ما قلت هذا حتى رأيت رجلا كانت سيما الورثة ظاهرة عليه .. لقد كان أشبه الناس بمحمد والحكيم وكل الورثة الذين حدثتك عنهم ..

سألت (إيرنست جونز) عنه، فقال: لا أدري.. لعله زائر من الزوار الذين تعود المستشفى أن يسمح لهم بالدخول في هذه الأوقات .. لكن ما سؤالك عنه؟

قلت: لست أدري .. ولكن أشعر أن هذا الرجل يمكن أن يمثل الإسلام تمثيلا صالحا.

قال: كيف عرفت ذلك .. أنا يبدو لي أنه كسائر الناس؟

قلت: لست أدري .. ولكني أشعر في قرارة نفسي أن هذا الشخص يحمل الإكسير الذي يحطم به أصنام جميع الأوهام التي يحملها هؤلاء المرضى.

ابتسم، وقال: أصدقك القول .. لقد جاءني هذا الرجل مرات كثيرة يطلب مني أن يجتمع بالمرضى، ويحدثهم .. لكني رفضت ذلك رفضا شديدا.

قلت: لم؟

قال: لقد خشيت عليهم .. لقد رأيت أنه يحمل أفكارا خطيرة يمكنها أن تتسبب لهم في تشوهات نفسية لا يمكنهم النجاة منها.. ألا ترى أنه يبدو مسلما ملتزما؟

قلت: وذلك ما يدعوني لأن أطلب منك أن تأذن له فيما يريد من الخطاب .. فلعلنا نظفر منه بشيء.

قال: إن ما تقوله خطير ..

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا ترى أن هؤلاء، ومع كونهم غير ملتزمين، دب إلي اليأس من شفائهم .. فكيف إذا سرب إليهم هذا الرجل أمراض الالتزام حينها سيصابون بإعاقة نفسية دائمة لا يمكن لهذا المستشفى أن يتحمل تبعاتها.

قلت: لقد ذكرت لي أنك قد يئست من شفائهم .. واليائس لا يبالي أي مركب ركب ..

سكت قليلا، ثم قال: لا بأس .. سآذن له اليوم بالحديث إكراما لك .. ولكن لابد أن تكون حاضرا لترى الخرافات التي يريد أن يسربها للمرضى.

***

تقدمت مع (إيرنست جونز) إلى الرجل .. وقد كان منشغلا بتأمل المرضى والنظر فيهم .. وهو مع ذلك يحرك لسانه بكلمات لم نتبينها.

قال له إيرنست: أنا لا أزال محتارا في سر حضورك بين الحين والحين إلى هذا المستشفى، مع أني أعلم أنه لا قريب لك فيه ولا صديق .. فما سر إصرارك على الحضور؟

قال: أنا أشعر بألم كبير نحو هؤلاء.. أنا أراهم كعطشى استبد بهم العطش، ولا أحد يسقيهم الشراب الذي يتناسب معهم.

ابتسم إيرنست، وقال: وهل لديك مثل هذا الشراب الذي تتحدث عنه؟

قال: أجل .. وهذا مصدر حزني .. ألا ترى يا بروفيسور أنه من المحزن أن يحال بين المنقذ وبين من يريد أن ينقذه؟

ضحك إيرنست بصوت عال، وقال: أنت تزعم أنك منقذ كالمسيح؟

قال: كل من تربى على يد الأنبياء صار مسيحا .. ومنقذا .. ومخلصا.

قال إيرنست: ولكنك تربيت على يد محمد لا على يد المسيح.

قال: المسيح ومحمد وجميع الأنبياء من مدرسة واحدة ..

قال إيرنست: ولكن تلاميذ المسيح يختلفون عن تلاميذ محمد؟

قال: المحرفون من تلاميذ محمد والمحرفون من تلاميذ المسيح هم الذين يختلف بعضهم عن بعض .. أما الصادقون من كليهما فهم أبناء مدرسة واحدة.

قال إيرنست: من أنت؟

قال: أنا تلميذ بسيط للأنبياء الذين أرسلهم الله لخلاص الإنسان.

قال إيرنست: أريد اسمك الذي سماك به أبوك.

قال: لدي أسماء كثيرة .. وأنا الآن أدعى بين الناس (سهل بن سعد)[4]

قال إيرنست: ما أعجب هذا .. إن اسمك ممتلئ تفاؤلا وسعادة .. اسمع يا سهل.. لقد بدا لي اليوم أن أعطيك فرصة لأن تسقي المرضى بالشراب الذي تريد .. لكن احذر أن تسقيهم السم.

بدا البشر على وجه سهل، وقال: شكرا يا بروفيسور .. لا تخف .. فالسم لا يوجد عند تلاميذ الأنبياء.. السم لا يوجد إلا عند الشياطين.

***

طلب إيرنست من الممرضين أن يحولوا المرضى إلى قاعة أشبه بقاعة محاضرات ..

وما هي إلا لحظات قصيرة حتى جلس المرضى بإحباطهم ويأسهم وآلامهم ينتظرون من المخلص أن ينقذهم من القيود التي وضعها الألم فيهم.

صعد سهل المنصة، ووقفت مع إيرنست في محل خاص نرقبه ..

وقف سهل على المنصة بخشوع ووقار، ثم راح ينظر في المرضى يتأملهم، ثم قال: سادتي الأفاضل.. لاشك أنكم تبحثون عن الأمل والراحة والسكينة..

ولاشك أنكم تهتم في البحث عنها..

ويحق لكم أن تتيهوا .. لأنكم وليتم وجهتكم نحو اليأس والتعب والقلق والجور، ويستحيل أن تجدو في هذه المحال ما تريدون البحث عنه.

قال رجل من الحاضرين: فهل تعرف المحال التي تنشر فينا الأمل والراحة والسكينة؟

قال سهل: أجل .. ولذلك جئت لأحدثكم عنها.

قال الرجل: أسرع .. أخبرنا.

قال سهل: هو محل واحد لا غير .. وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

قال: فما هو؟

قال سهل: هو الله ..

قال الرجل مقاطعا: ولكنا نؤمن بوجوده.. ومع ذلك نمتلئ هما وحزنا ويأسا.

قال سهل: هل فكرتم في الأسرار التي يحملها وجود الله؟.. هل تعلمون ما معنى أن الله موجود؟

قال الجميع: حدثنا ..

قال سهل[5]: إن معنى أن الله موجود هو أن العدل موجود والرحمة موجودة والمغفرة موجودة.

معناه أن يطمئن القلب وترتاح النفس ويسكن الفؤاد ويزول القلق.. فالحق لابد واصل لأصحابه.

معناه لن تذهب الدموع سدى، ولن يمضي الصبر بلا ثمرة، ولن يكون الخير بلا مقابل، ولن يمر الشر بلا رادع، ولن تفلت الجريمة بلا قصاص.

معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود وليس البخل.. وليس من طبع الكريم أن يسلب ما يعطيه.. فإذا كان الله منحنا الحياة، فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة.. وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية.

معناه أنه لا عبث في الوجود، وإنما حكمة في كل شيء.. وحكمة من وراء كل شيء.. وحكمة في خلق كل شيء.. في الألم حكمة وفي المرض الحكمة وفي العذاب حكمة وفي المعاناة حكمة وفي القبح حكمة وفي الفشل حكمة وفي العجز حكمة وفي القدرة حكمة.

معناه ألا يكف الإعجاب وألا تموت الدهشة وألا يفتر الانبهار وألا يتوقف الإجلال.. فنحن أمام لوحة متجددة لأعظم المبدعين.

معناه أن تسبح العين وتكبر الأذن ويحمد اللسان ويتيه الوجدان ويبهت الجنان.

معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر وتحتفل الأحاسيس بكل لحظة وتزف الروح كل يوم جديد كأنه عرس جديد.

معناه ألا نعرف اليأس ولا نذوق القنوط.

معناه أن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم ومغفرة الغفار..

معناه أن يذوب ضيقنا وألمنا وإحباطنا في فرج الله وفضله وكرمه .. ألم يقل لنا ربنا :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) (الشرح) ؟

ولأن الله سبحانه واحد.. فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده .. ولن ننقسم على أنفسنا .. ولن تتوزعنا الجهات .. ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء وارتماء على أعتاب الأقوياء.. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل ما نطمح إليه ين يديه.. والهرب ليس منه، بل إليه.. فهو الوطن والحمى، والملجأ والمستند، والرصيد والباب والرحاب.

وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل .. وتلك ثمرة (لا إله إلا الله) في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها، ويؤمن بها ويعيشها .. وتلك هي أخلاق المؤمن بلا إله إلا الله.

وتلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس، وتشفى كل علل العقول وتبرئ كل أدواء القلوب.

وتلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي والأرجل والأعناق .. وهي أيضا مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا، وكلمة السر التي تحرك الجبال وتشق البحور وتغير ما لا يتغير.

ولم يخلق إلى الآن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الأثر في النفس.

وكل عقاقير الأعصاب تداوي شيئا وتفسد معه ألف شيء آخر.. وهي تداوي بالوهم وتريح الإنسان بأن تطفئ مصابيح عقله وتنومه وتخدره وتلقى به إلى قاع البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة.

أما كلمة (لا إله إلا الله) فإنها تطلق الإنسان من عقاله وتحرره من جميع العبوديات الباطلة، وتبشره بالمغفرة وتنجيه من الخوف وتحفظه من الوسواس وتؤيده بالملأ الأعلى وتجعله أطول من السماء هامة وأرسخ من الأرض ثباتا.. فمن استودع همه وغمه عند الله بات على ثقة، ونام ملء جفنيه.

ولأن الله هو خالق الكون ومقدر الأقدار ومحرك المصائر.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.. لأنه المبدع بلا شبيه.. لا يفوقه في صنعته أحد.. فلن تعود الدنيا مسرحا دمويا للشرور، وإنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.

و لأن الله موجود فإنكم لستم وحدكم.. وإنما تحف بكم العناية حيث سرتم وتحرسكم المشيئة حيث حللتم.

و ذلك معناه شعور مستمر بالإئتناس والصحبة والأمان.. لا هجر.. ولا غدر.. ولا ضياع.. ولا وحدة.. ولا وحشة ولا اكتئاب. وذلك حال أهل (لا إله إلا الله)

إنهم يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الآخرة .. وهم الملوك بلا عروش وبلا صولجان.. وهم الراسخون المطمئنون الثابتون لا تزلزهم الزلازل، ولا تحركهم النوازل.

تلك هي الصيدلية الإلهية لكل من داهمه القلق.. فيها علاجه الوحيد.. وفيها الإكسير والترياق وماء الحياة الذي لا يظمأ بعده شاربه.. وفيها الرصيد الذهبي والمستند لكل ما نتبادل على الأرض من عملات ورقية زائلة متبدلة.. وفيها البوصلة والمؤشر والدليل.. و فيها الدواء لكل داء.

1 ـ السكينة

قام رجل من الجمع، وقال: نعم ما ذكرتنا به .. فلاشك أن الغفلة عن ربنا وسوء معرفتنا به هي سر ما حصل لنا من ألم ويأس وإحباط .. ولكن أنى لنا أن نستقر ونسكن لما ذكرت .. ونحن نتشتت بين أنواع الهموم والآلام .. فلا نكاد نستقر في محل حتى نرحل إلى غيره.

ابتسم سهل، وقال: أنت تسأل عن السكينة .. فالسكينة هي الدواء الوحيد الذي تستقر به النفس .. وهي الدواء الوحيد الذي يشفيها من كل آلام التشتت ..

قال الرجل: فأين نجدها؟

قال آخر: لقد قرأت منذ أعوام كلمة ناضرة لأحد الأطباء اللامعين في أمريكا، قال فيها: (وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت هذا البيان بالرغائب الدنيوية: الصحة، والحب، والموهبة، والقوة، والثراء، والشهرة، ثم تقدمت بها في زهو إلى شيخ حكيم.

فقال صديقي الشيخ: جدول بديع، وهو موضوع على ترتيب لا بأس به، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبثاً لا يطاق، وضرب بالقلم على الجدول كله، وكتب كلمتي : (سكينة النفس) وقال: هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه، وإنه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة، والمال مبتذل، وليست الشهرة بنادرة، أما سكينة القلب، فإنه يمنحها بقدر.

وقال على سبيل الإيضاح: ليس هذا برأي خاص لي، فما أنا إلا ناقل من المزامير، ومن أوريليوس، ومن لادنس، هؤلاء الحكماء يقولون: خل يا رب نعم الحياة الدنيا تحت أقدام الحمقى، وأعطني قلباً غير مضطرب!

وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من التجربة الخاصة، والملاحظة الدقيقة، أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، وأنا أعرف الآن أن جملة المزايا الأخرى ليس من الضروري أن تفيد المرء السكينة، وقد رأيت هذه السكينة تزهو بغير عون من المال. بل بغير مدد من الصحة، وفي طاقة السكينة أن تحول الكوخ إلى قصر رحب، أما الحرمان منها فإنه يحيل قصر الملك قفصاً وسجناً)

قال سهل: صدق الرجل .. فالسكينة هي الإكسير الذي تذوب لمرآه الآلام.

قال الرجل: فأين نجدها؟ .. لقد تهنا في البحث عنها.

قال سهل: لقد ذكرها الله، وذكر محلها، فقال :﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) (الفتح)

قال الرجل: فما الدواء الذي تصفه هذه الآية؟

قال سهل: إنها تصف دواء محددا واضحا ظاهرا .. إنه الإيمان ..

قالوا جميعا: الإيمان !؟

قال سهل[6]  : أجل .. فسكينة النفس التي هي الينبوع الأول للسعادة، لا يثمرها الذكاء ولا العلم ولا الصحة ولا القوة، ولا المال، ولا الغنى، ولا الشهرة، ولا الجاه، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية؟

إن للسكينة مصدراً واحداً لا شريك له، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الصادق العميق، الذي لا يكدره شك، ولا يفسده نفاق.

هذا ما يشهد به الواقع الماثل، وما أيده التاريخ الحافل، وما يلمسه كل إنسان بصير منصف، في نفسه وفيمن حوله.

لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً وضيقاً واضطراباً، وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان، وبرد اليقين.

إن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق، وإن حفلت باللذائذ والمرفهات، لأنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفاً، ولا يفقهون لها سراً، فكيف يظفرون مع هذا بسكينة نفس، أو انشراح صدر؟

إن هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان، وشجرة التوحيد الطيبة، التي تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.

فهي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض، ليثبتوا إذا اضطرب الناس، ويرضوا إذا سخط الناس، ويوقنوا إذا شك الناس، ويصبروا إذا جزع الناس، ويحلموا إذا طاش الناس.

هذه السكينة هي التي عمرت قلب رسول الله يوم الهجرة، فلم يعره هم ولا حزن، ولم يستبد به خوف ولا وجل، ولم يخالج صدره شك ولا قلق فقد ﴿ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (40) (التوبة)

لقد غلبت على صاحبه الصديق مشاعر الحزن والإشفاق، لا على نفسه وحياته، بل على الرسول r ، وعلى مصير الرسالة، حتى قال والأعداء محدقون بالغار: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فيقول الرسول مثبتاً فؤاده: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)

هذه السكينة روح من الله، ونور يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق، ويتسلى به الحزين، ويستروح به المتعب، ويقوى به الضعيف، ويهتدي به الحيران.

هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده: منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجاً صغيراً لما ينتظرهم من نعيم، فينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان، والسلام والأمان.

قام رجل من الجمع، وقال: لماذا كان المؤمن أولى الناس بسكينة النفس، وطمأنينة القلب؟ .. ولماذا لا يجد الإنسان السكينة في العلم والثقافة والفلسفة، وفيما أنتجه التقدم العلمي من وسائل وأدوات يسرت العيش وجملت الحياة؟

التفت سهل إلى (إيرنست)، ثم قال: إن الجواب عن هذا يحتاج إلى بسطة من التفصيل قد لا يسمح بها طبيبكم الذي قد يزعجه إطالة جلوسي معكم.

التفتُ إلى صديقي (إيرنست)، فوجدته مستغرقا تمام الاستغراق فيما يقوله سهل .. لذلك ما إن قال سهل ذلك حتى رد (إيرنست) مباشرة .. ومن غير شعور: تفضل .. لا حرج عليك .. فإن لكلامك تأثيرا لم يسبق لي أن رأيت مثله.

ابتسم سهل، وقال: سأذكر لكم عشرة أسباب تجعل المؤمن أحق الناس بالسكينة وأولاهم بها.

قالوا: فما السبب الأول؟

قال: إن أول أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدى إلى فطرته التي فطره الله عليها.. وهي فطرة متسقة كل الاتساق مع فطرة الوجود الكبير.. فلذلك يعيش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام، لا في حرب وخصام.

إن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.

وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.

هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من مخافة.

هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة، والضرب في أرض التيه.

فإذا لم يجد الإنسان ربه - وهو أقرب إليه من حبل الوريد - فما أشقى حياته، وما أتعس حظه، وما أخيب سعيه!

 إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة، ولن يجد الحقيقة .. لن يجد نفسه ذاتها .. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) (الحشر)

تصوروا إنساناً يعيش دون أن يجد نفسه، وهو في رأي نفسه، وفي نظر الناس بشر عاقل، سميع بصير، بل لعله جامعي مثقف، ولعله - فوق ذلك- دكتور كبير في العلوم والآداب!

وكيف يجد نفسه من لم يعرفها؟ وكيف يعرفها من حجب عنها بالغرور والكبر؟ أو شغل عنها باتباع الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، والغرق في لذائذ الحس، ومطالب الجسد والطين؟

إن الإنسان خلق عجيب، جمع بين قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله.. فمن عرف جانب الطين، ونسي نفخة الروح، لم يعرف حقيقة الإنسان.

ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما أنبتت الأرض، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها، وجهل قدرها، وحرمها ما به حياتها وقوامها.

لقد ذكر بعض العارفين ذلك، فقال[7] : (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله.. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله.. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته.. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه.. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً)

إن هذا ليس كلام عالم فحسب، بل كلام ذائق مجرب، يقول ما خبره وأحس به في نفسه، وما رآه ولاحظه في الناس من حوله.

إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء إلى الله والإيمان به، والالتجاء إليه.

إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرةً وعناداً .. قال تعالى مخبرا عنهم :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) (العنكبوت)، وقال:﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)﴾ (الزخرف)

نعم قد يتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات أو غبار الشهوات.. وقد تنحرف وتتدنس باتباع الظن أو اتباع الهوى، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء، أو الطاعة العمياء للسادة والكبراء.. وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب فيظن نفسه شيئاً يقوم وحده، ويستغني عن الله!!

بيد أن هذه الفطرة الأصيلة تذبل ولا تموت، وتكمن ولا تزول.. فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها ما لا قبل له به، ولا يد له ولا للناس في دفعه، ولا رفعه، فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة، وينطلق الصوت المخنوق المحبوس، داعياً ربه، منيباً إليه، كما قال تعالى:﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)﴾(الإسراء)

هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله.

والانحراف الكبير الذي أصاب البشرية في تاريخها الطويل، لم يكن بإنكار وجود الله والعبودية له، إنما كان بتوجيه العبادة لغيره، أو إشراك آلهة أخرى معه من مخلوقات الأرض أو السماء.

ومن هنا عنى كتاب الله الخالد - القرآن الكريم -في الدرجة الأولى- بالدعوة إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والاستعانة والتوكل والإنابة.. لا بإثبات وجوده سبحانه، فإن هذا الوجود -على وجه عام- مسلَّم به ومفروغ منه، ولا يجادل فيه إلا قلة مغمورة في كل عصر، لا يقام لها وزن. ولا تسمع لها دعوى.

ولقد قرأت لبعض الملاحدة الذين اشتهروا بالشك في الدين والتشكيك فيه، كلمات عجيبة، يطالب فيها قراءه ألا يصدقوه إذا كتب هو نفسه وبقلمه ما ينفي عنه الإيمان، أو يخلع عليه الإلحاد.. لقد قال: (لو أردت من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشك لما استطعت. ولو أني نفيت إيماني بالقول لما صدقت أقوالي، فشعوري أقوى من كل أقوالي! ماذا لو أن إنساناً قال: إنه لا يحب نفسه أو لا يحب الحياة، فهل تصدقه؛ أو هل يصدق هو كلامه؟ هل يمكن أن ننفي أنفسنا أو إحساسنا بها بالكلام؟ إن الحقائق الكبيرة لا تسقطها الألفاظ. كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان من الحقائق القوية التي لا يمكن أن تضعفها أو تشكك فيها الكلمات التي قد تجيء غامضة أو عاجزة لأن فورة من الحماس قد أطلقتها.

إن إيماني يساوي: أنا موجود إذن أنا مؤمن -أنا أفكر إذن أنا مؤمن- أنا إنسان إذن أنا مؤمن!)

إنني في هذا المحل آسي أشد الأسى لأولئك المساكين الذين صادروا فطرتهم وغلظ حجابهم، وأظلمت قلوبهم فلم تنفذ إليها أشعة الإيمان..

أولئك الأشقياء المطموسين الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

إني آسي لهؤلاء مرتين:

آسي لهم لأنهم دخلوا الحياة ثم خرجوا منها، ولم ينعموا بأطيب ما فيها وأعظم ما فيها وهو الإيمان.

إنهم بؤساء محرومون حقاً. إن الناس يقولون عن الإنسان إذا فاته شيء مهم من مسرات الدنيا: ضاع نصف عمره. فكيف بمن فاته روح الحياة، وحياة الروح؟ كيف بمن حرم قلبه بشاشة الإيمان؟

لقد خسر المساكين أنفسهم، خسروا وجودهم، خسروا الحياة وما بعد الحياة، خسروا الخلود، خسروا كل شيء، لأنهم خسروا الإيمان، وما أصدق ما ورد في بعض الآثار الإلهية عن الله تعالى أنه يقول لعبده: (عبدي اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء)

ورحم الله العبد الصالح الذي قال: (إلهي ماذا وجد من فقدك؟! وماذا فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بدلاً، وخسر من بغى عنك حولاً)

ثم آسي لهؤلاء الملاحدة المحرومين مرة أخرى، حين أراهم خلعوا رداء العبودية لله، فوقعوا في العبودية لغير الله.

لقد ظن هؤلاء في أنفسهم، وزعموا لغيرهم، أنهم تحرروا من كل عبودية، وأنهم نبذوا الخضوع للإله نبذ النواة، وأطرحوا الإيمان بالرب وراء الظهور.

وكذبوا. فالواقع أنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا بالعبودية للخالق، العبودية للمخلوق، واستبدلوا بالإله الواحد آلهة شتى، واتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.

فلا واحد منهم إلا وهو عبد لأكثر من سيد، وخاضع لأكثر من إله، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع.

أين هذا من المؤمن الذي رفض كل الآلهة الزائفة من حياته، وحطم كل الأصنام من قلبه، ورضي بالله وحده رباً، عليه يتوكل، وإليه ينيب، وبه يعتصم، وإليه يحتكم، فلا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً، ولا يبتغي غير الله حكماً؟

فليت شعري أي الفريقين خير مقاماً، وأهدى سبيلاً، من عرف الله فلم ينحن لأحد سواه، أم من جحد الله فصار عبداً لأكثر من إله؟ ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) ﴾ (يوسف)..﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)﴾(الزمر)

انظروا إلى الآية الكريمة كيف تمثل المشرك بعبد يملكه أكثر من سيد، وهم شركاء متشاكسون، كل يريد منه غير ما يريده الآخر، ويوجهه إلى غير وجهته، فهو حائر معذب بين إرضاء هذا وذاك.

أما المؤمن فمثله مثل عبد خالص لرجل واحد، لا شركة فيه ولا مشاكسة، فهو يعرف سيده، ويعرف ما يرضيه، وكيف يرضيه.

وإذا كانت الآية في شأن المشرك والموحد، فقد أثبت الواقع أن كل ملحد مشرك، وإن كان الفرق أن المشركين يعبدون مع الله آلهة أخرى، والملحدون يعبدون من دون الله آلهة شتى.

قالوا: عرفنا السبب الأول .. فما السبب الثاني؟

قال: السبب الثاني من أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدى إلى الإجابة على تلك الأسئلة العميقة الغامضة التي يختزنها سر كل إنسان .. والتي لن يلقى الراحة من دونها.

قال رجل من الجمع: فما تلك الأسئلة؟

قال: إن في أعماق كل إنسان أصواتا خفية تناديه، وأسئلة عميقة تلح عليه منتظرة الجواب الذي يذهب به القلق، وتطمئن به النفس.. وهذه الأسئلة هي: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟

هذه الأسئلة التي ألحت على الإنسان من يوم خلق، وستظل تلح عليه إلى أن تطوى صفحة الحياة، لم تجد - ولن تجد- لها أجوبة شافية إلا في الدين.

الدين وحده هو الذي يحل عقدة الوجود الكبرى، وهو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يجيبنا عن تلك الأسئلة بما يرضي الفطرة، ويشفي الصدور.

والإسلام – خاصة - خير دين أجاب عن هذه الأسئلة إجابة شافية، ترضي الفطرة النيرة، والعقل السليم، بل إجابة تنبع من أعماقهما، بل أعلن القرآن أن هذا الدين هو الفطرة الأصيلة نفسها:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾ (الروم) .. فلو تركت الفطرة الإنسانية ونفسها بلا مؤثر خارجي، لانتهت إلى الإسلام نفسه.. وفي هذا يقول رسول الله r :( كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)[8]

تقول الفطرة والعقل: إن الناس لم يخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا هم أنفسهم، ولم يخلقوا مما حولهم: ذرة في الأرض أو السماء.. ويقول القرآن:﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) (الطور)

وتقول الفطرة والعقل: لابد - إذن- من خالق لهذا الإنسان العجيب ولهذا الكون العريض، ولابد أن يكون هذا الخالق واسع العلم، بالغ الحكمة، نافذ المشيئة، عظيم القدرة.. ويقول القرآن:﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)﴾ (غافر)

وتقول الفطرة والعقل: إن هذا الخالق الحكيم لابد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون، ووضع الإنسان فيه غاية وحكمة، وتعالت حكمته أن يكون خلق هذا كله عبثاً.. ويقول القرآن :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)(الدخان)

وهذا الحق الذي به خلقت السموات والأرض هو ما يستشفه العقل، وتحس به الفطرة - وإن يكن إحساساً غامضاً- أن لهذا الإنسان في الوجود رسالة، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، هي الغاية وإليها المنتهى، يجزى فيها المحسن بإحسانه؛ والمسيء بإساءته، حتى لا يستوي الخبيث والطيب؛ والبر والفاجر، وهذا ما تقتضيه الحكمة. ويقول القرآن:﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾ (ص)، ويقول  :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾ (المؤمنون)

بهذه الأجوبة القرآنية وغيرها اهتدى المؤمن إلى سر وجوده، ووجود العالم كله.. لقد عرف الله فعرف به كل شيء، وحل به كل لغز، واهتدى به إلى كل خير.. فالعالم مملكة الله، وكل ما فيه من آثار رحمة الله، والإنسان خليفة الله، خلق لعبادة الله، وتحمل أمانة الله، والحياة هبة من الله، والموت قدر من الله، والدنيا مزرعة لطاعة الله، والآخرة موعد الحصاد والجزاء من الله.. والسعيد من اهتدى بهدى الله، والشقي من أعرض عن ذكر الله.

والإنسان مبتلى ومسئول في هذه الدار الفانية، ليصقل ويعد للخلود في تلك الدار الباقية، والموت هو القنطرة التي تصل ما بين الدارين.

إن الذي أفنى الفلاسفة فيه أعمارهم، وأذابوا فيه شموع حياتهم، دون أن يجنوا ثمرة تشبع جوعهم الفكري، قد حصله المؤمن في دعة وهدوء. فعرف: من أين جاء؟ ولم جاء؟ والى أين يذهب؟ ولم يحيا؟ ولم يموت؟ وماذا ينتظره هناك؟ عرف ذلك من مصدره الذي لا يضل ولا ينسى، من وحي الله عز وجل. ومن عرف حقيقة الوجود من رب الوجود، فقد هدي إلى صراط مستقيم.

حضرت الوفاة بعض الملاحدة من الفلاسفة المتشككين، فهاله الموت وما بعده، فأنشد يقول:

لعمرك ما أدري - وقد أذن البلى = بعاجل ترحالي- إلى أين ترحالي؟

وأين محل الروح بعد خروجه = عن الهيكل المنحل، والجسد البالي؟

وبلغ ذلك بعض الصالحين، فقال: (وما علينا من جهله؟ إذا كان لا يدري إلى أين ترحاله؟ فنحن ندري إلى أين ترحالنا وترحاله، قال تعالى:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾ (الانفطار)

لقد جاء الدين بما يكمل الفطرة، ويأخذ بيد العقل، ولم يجيء بما يصادم الفطرة أو يناقض العقل.

ما أحست به الفطرة في غموض، جاء الدين فبينه أحسن بيان وأتمه، وما اهتدى إليه من العقل في إجمال واشتباه جاء الدين ففصله أحسن التفصيل، ومحا عنه الاشتباه، ونفي أوهام العقل، وأغاليط الحس، ووضح الغاية ورسم الطريق.

والفطرة ليست تفكيراً خالصاً، ولا شعوراً محضاً، إنها مزيج من التفكير والشعور، والدين قد جاء يخاطب الفطرة كلها.. يخاطب التفكير والشعور معاً.. يخاطب العقل والقلب جميعاً.. والذين يعتمدون على سلطان العقل وحده في الوصول إلى عقيدة سليمة راسخة، وفكرة كلية واضحة تفسر هذا الوجود، وتحل ألغازه، قد جاوزوا بالعقل حدوده واختصاصه، وأهملوا جانباً هاماً في الفطرة الإنسانية هو جانب الشعور والوجدان، جانب القلب كما أغلقوا على أنفسهم باباً واسعاً ما كان أحوجهم إليه، وما أضل سعيهم بغيره. هو باب الوحي.

إن العقل - مهما أوتى من الذكاء والقدرة على التجربة والقياس والاستنتاج- محدود بحدود الطاقة البشرية، مقيد بقيود المكان والزمان والوراثة والبيئة، فلا غنى له أبداً عن سند ومعين، يسدده إذا أخطأ، ويهديه إذا ضل، ويرده إلى الصواب إذا شرد، وهذا السند هو الوحي، الذي هو أساس الدين.

إن الوحي قد أراح الإنسان من عناء البحث فيما يبدد طاقته دون الظفر بما يشبع ويغني، وأعفاه من تجشم رحلات طويلة وشاقة، والسير في دروب معتمة وملتوية، لا يدرى إلام تنتهي به؟ وقدم له ما ينبغي أن يعلمه - وما يستطيعه - عن مبدأ الوجود ومنتهاه، وعلته وأسراره، قدمها إليه خالصة سائغة، سالمة من جدل المجادلين، وتعمقات المتفلسفين، وتخرصات المتكلفين.

وليت شعري ما الذي يستطيع أن يعلمه الإنسان عن وجوده هو، وعن وجود العالم الكبير من حوله، وعن صاحب هذا الملك الكبير -سبحانه- لو مشى في الطريق وحده، دون دليل من وحي الله؟

إنه سيضرب في بيداء لا يعرف فيها طريقاً، ولا يجد فيها غير السراب يحسبه ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ويسبح في بحار من الظلمات لا يهتدي فيها إلى بر ولا قرار، كالتي حدثنا الله عنها في كتابه، قال تعالى :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)﴾ (النور)

لقد حاول كثير من المفكرين في القديم والحديث أن يحلوا ألغاز الوجود، ويظفروا بطمأنينة النفس عن طريق الفلسفة البشرية بعيداً عن هدى الله، ووحي السماء، فأفلسوا وعجزوا..

وهكذا أفلست الفلسفات البشرية أن تمنح القلب الإنساني طمأنينته التي هي أول عنصر لسعادته، ومحال أن يسعد إنسان يؤرق الشك ليله، ويكدر القلق نهاره.

لقد عرف المنصفون أن أهدى السبل وأقربها وآمنها للظفر بالطمأنينة إنما هو سبل الوحي الإلهي المعصوم.. إنه المصل الواقي من الشك المحطم، والقلق المفزع، قال تعالى:﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف)

والحق المبين هو الذي اتضحت أعلامه واستبان طريقه، وزال عنه الغموض واللبس والاختلاف والريب.

وشعور الإنسان واعتقاده أنه (على الحق المبين) وأنه (على صراط مستقيم) شعور لا يظفر به غير المؤمن بوحي الله وهداه.

أما الذي شرد من هدى الله ورسالاته، فهو :﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)﴾ (الأنعام)

إن الوحي وحده هو السبيل الفذة للوصول إلى اليقين في قضايا الوجود الكبرى.. وبغير الوحي لن يكون يقين، وبغير اليقين لن تكون سكينة، وبغير السكينة لن تكون سعادة.

بالوحي يبلغ المؤمن درجة علم اليقين، وقد يرتقى روحه ويشف ويرف حتى يشارف عين اليقين أو حق اليقين.. وفي هذا قال بعض الصالحين: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً!) ذلك لأنه آمن بما أخبر به الوحي إيماناً تجلت به حقائق الوجود لعين قلبه، كأنه يراها بعيني رأسه، ويشهدها حاضرة ظاهرة، كالشمس في الضحى، ليس دونها سحاب ولا ضباب.

إن هذه المكاسب الهائلة التي غنمها المؤمن، واجتنى ثمارها، وقطوفها الدانية، لا يقدرها حق قدرها إلا من حرمها، أو تأمل بعين بصيرته حال من حرمها.

فالجاحدون بالله، أو المرتابون فيه، وفي لقائه يوم الحساب، يحيون حياة لا طعم لها ولا معنى.. حياة كلها قلق وحيرة، كلها علامات استفهام.. كلها أسئلة لا تجد لها عندهم جواباً.

إنهم لا يوقنون بشيء يطمئنون إليه. ويستريحون له في قضية وجودهم أنفسهم، ووجود الكون كله من حولهم: من أين جاءوا؟ ومن جاء بهم؟ ولماذا جاء بهم؟ وإلى أين يذهبون بعد هذه المرحلة القصيرة، التي لم يفهموا لها سراً، ولم يعرفوا لها غاية؟ وما هذا الكون؟ وما مبدؤه؟ وما غايته؟ وما علاقتهم به؟

إن عقولهم المحدودة لا تستطيع أن تجيبهم إجابة تسفي الصدور، وتنقع الغلة، وتمحو بنورها الشك والحيرة والاضطراب.

ربما يهتدون في يوم إلى جواب عن هذه الأسئلة الحائرة المحيرة، ثم يعودون في اليوم الثاني فينقضون ما أبرموا، ويحلون ما عقدوا، ويتبرأون مما قالوا.

إن هذا الشك والاضطراب والقلق الذي يتقلب على جمره الحائرون المرتابون في وجود الله وحكمته، وعدله ورحمته، وجزائه في الآخرة ووحيه إلى رسله -هذا الشك ليس شيئاً هيناً، إنه عذاب أليم، وكوة من الجحيم فتحت على أهله، تلفحهم بنارها، وتشوي قلوبهم بحميمها، وكلما خف لهيبها هبت عليهم عواصف الشك من جديد، فاشتعلت النار، ليذوقوا العذاب.

إن هذا القلق أمر لا مناص لهم منه، إنه سيحرمهم سكون النفس، وهدوء الضمير.. سيقض عليهم مضاجعهم، وينغص عليهم حياتهم، ويؤرق عليهم ليلهم، ويكدر عليهم نهارهم.

قالوا: عرفنا السبب الثاني .. فما السبب الثالث؟

قال: السبب الثالث هو وضوح الغاية والطريق عند المؤمن .. فبينما يعيش غير المؤمن في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة، وتتنازعه غايات شتى، هذه تميل به إلى اليمين، وتلك تجذبه إلى الشمال، فهو في صراع دائم داخل نفسه، وهو في حيرة بين غرائزه الكثيرة، أيها يرضي: غريزة البقاء، أم غريزة النوع، أم المقاتلة، أم غيرها من الغرائز.

وهو حائر مرة أخرى بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه، وهو حائر مرة ثالثة في إرضاء المجتمع، أي الأصناف يرضيهم، ويسارع في هواهم، فإن رضا الناس غاية لا تدرك.

في نفس الوقت نجد المؤمن قد استراح من هذا كله، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص وإليها يسعى، وهي رضوان الله تعالى، لا يبالي معه برضى الناس أو سخطهم، شعاره ما قال الشاعر:

فليتك تحلو والحياة مريرة = وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر= وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين = وكل الذي فرق التراب تراب

كما جعل المؤمن همومه هماً واحداً، هو سلوك الطريق الموصل إلى مرضاته تعالى، والذي يسأل الله في كل صلاة عدة مرات أن يهديه إليه، ويوفقه لسلوكه، :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾ (الفاتحة)، وهو طريق واحد لا عوج فيه ولا التواء :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾ (الأنعام)

وما أعظم الفرق بين رجلين، أحدهما عرف الغاية، وعرف الطريق إليها، فاطمأن واستراح، وآخر ضال، يخبط في عماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدرى إلام المسير؟ ولا أين المصير؟ .. ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾ (الملك)

واستهان المؤمن في سبيل هذه الغاية بكل صعب، واستعذب كل عذاب، واسترخص كل تضحية، بل قدمها راضياً مستبشراً.

ألم تروا إلى خبيب بن زيد وقد صلبه المشركون؟ وأحاطوا به يظهرون الشماتة فيه، يحسبون أنه ستنهار أعصابه، أو تضطرب نفسه، ولكنه نظر إليهم في يقين ساخر، وأنشد يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً = على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله، وإن يشأ = يبارك على أوصال شلو ممزع

ألم تسمعوا بمن نفذ الرمح في صدره حتى وصل إلى ظهره، فما كان منه إلا أن قال: فزت ورب الكعبة.

وفي غزوة الأحزاب، وقد ابتلي المؤمنون، وزلزلوا زلزالاً شديداً إذ جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن الناس بالله الظنون، وكشف المنافقون النقاب، فقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً..

في هذا الجو الرهيب كان موقف المؤمنين هو موقف السكينة والطمأنينة الذي عهد منهم، والذي سجله الله لهم في كتابه:﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)﴾ (الأحزاب)

ما الذي وهب هؤلاء المجاهدين السكينة، والقتال مستعر الأوار؟ ومنحهم الطمأنينة والموت فاغر فاه؟

إنه الإيمان وحده، وصدق الله إذ قال في ذلك :﴿  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)﴾ (الفتح)

لقد عرف المؤمن الغاية فاستراح إليها، وعرف الطريق فاطمأن به، إنه طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنه (الصراط المستقيم) الذي يهدي إليه محمد r :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾ (الشورى)

وبهذا الصراط المستقيم، كان المؤمن في أخلاقه وسلوكه مطمئناً غير قلق، ثابتاً غير متقلب، واضحاً غير متردد، مستقيماً غير متعوج، بسيطاً غير معقد، لا يحيره تناقض الاتجاهات، ولا يعذبه تنازع الرغبات، ولا يحطم شخصيته الصراع الداخلي في نفسه. أيفعل أم يترك؟ أيفعل هذا أم ذاك؟

هذا هو شأن الإيمان القوي الصادق، وهذه بعض ثمراته..

لقد قص القرآن علينا قصة عجيبة لأب وابن مؤمنين، كانا مثلا رائعا لليقين الذي لا يعرف الشك، والمسارعة التي لا تعرف التردد أو الحيرة أو التخاذل في أمر الله:

شيخ كبير، اشتاق إلى الولد، ودعا ربه، فأوتيه على الكبر، وبشرته به السماء، فتعلق به قلبه، وأفرغ فيه كل ما لديه من حنان وحب، وظل ينمو فينمو معه حب أبيه، ويشب فيشب معه الأمل والرجاء فيه، وإذا الحكمة الإلهية تأبى إلا أن تصهرهما في امتحان قاس عسير.. كان هذا الامتحان متمثلا في أن يقرب الأب إلى الله قرباناً، فيذبح ولده، ويذبح معه حبه ورجاءه وأمله.. فهل توقف الوالد عن الأمر؟ أو حتى تردد بين نداء العاطفة ونداء الإيمان؟ بين صوت الوحي من فوقه، وصوت الأبوة ينبثق من حناياه؟ وهل تمرد الابن على أمر يتعلق برقبته؟ أو حتى اصطرعت في نفسه العوامل المتضادة من حب الحياة، والامتثال لأمر الله؟

كلا. لقد كان يقينهما أكبر من نوازع النفس، وعوامل التردد، فأسلم الوالد ولده. وأسلم الولد عنقه.

تلك هي قصة إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل - عليهما السلام-

لقد عبر القرآن الكريم عن هاتين النفسيتين المؤمنتين، ومدى طمأنينتهما في أحلك ساعات الشدة، ومبلغ الثبات الخلقي الراسخ الذي بدا في تضحية الأب العظيم، وصبر الابن الكريم.. قال تعالى في شأن إبراهيم وولده إسماعيل :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) (الصافات)

وفي هذا الختام سر القصة كلها، ومفتاح ما سجلته من بطولة وفدائية:﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)﴾ (الصافات)

إنها العبودية لله وحده، والإيمان به وحده .. والعبودية لله تعني: التحرر من التبعية لكل من سواه وما سواه، فلا خضوع لمخلوق في الأرض أو في السماء.. حتى الشيطان الوسواس الخناس ليس له سبيل على عباد الله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)(الإسراء)

والعبودية لله تعني: الانقياد لحكمه سبحانه، مع رضا النفس، وتسليم القلب، دون أدنى حرج أو ارتياب، لثقته بأن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه وأنه تعالى أرحم به من أمه وأبيه، وأنه سبحانه أعلم بما يصلحه ويزكيه.

والمؤمن الصادق هو الذي عرف لهذه العبودية حقها، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وحطم الأصنام كلها من قلبه، ورفض الطواغيت كلها من حياته، ولم يرض غير الله رباً، ولم يتخذ غير الله ولياً؛ ولم يبتغ غير الله حكما؛ اتضحت لعين بصيرته الوجهة؛ واستقام أمامها الطريق؛ لا لبس ولا غموض؛ ولا عوج ولا أمت:﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾ (الأنعام)

وبهذا الاتجاه الواضح انحلت العقد في نفس المؤمن وفي حياته.. فقد عرف الطريق فسلكها على بصيرة، غير هياب ولا متردد، ولا قلق ولا مرتاب.. طريق الرجوع إلى أمر الله، والاستسلام الكامل لحكم الله، واليقين بأن خيري الدنيا والآخرة في اتباعه والرضا به :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾ (الأحزاب) ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)﴾ (النور)

أجل هم المفلحون: مفلحون في الآخرة بدخول الجنات ورضوان من الله أكبر.. ومفلحون في الدنيا بما أنعم الله عليهم من سكينة الأنفس وطمأنينة القلوب، وانشراح الصدور.

قالوا: عرفنا السبب الثالث .. فما السبب الرابع؟

قال: السبب الرابع هو أنس المؤمن بالوجود كله .. فالمؤمن يعيش موصولاً بالوجود كله، ويحيا في أنس به، وشعور عميق بالتناسق معه، والارتباط به، فليس هذا الكون عدواً له، ولا غريباً عنه، إنه مجال تفكره واعتباره، ومسرح نظره وتأملاته، ومظهر نعم الله وآثار رحمته.

هذا الكون الكبير كله يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن، ويسبح بحمد الله كما يسبح المؤمن.

والمؤمن ينظر إليه نظرته إلى دليل يهديه إلى ربه، وإلى صديق يؤنسه في وحشته..

وبهذه النظرة الودود الرحبة للوجود، تتسع نفس المؤمن، وتتسع حياته، وتتسع دائرة الوجود الذي يعيش فيه.

فليس هناك أوسع من صدر المؤمن وقلبه الذي وسع العالمين، المنظور وغير المنظور، عالم الشهادة وعالم الغيب، ووسع الحياتين: الدنيا والآخرة، حياة الفناء، وحياة الخلود، ووسع الوجودين: الوجود المحدث الفاني، والوجود الواجب الباقي، الوجود الأزلي الأبدي، وجود الله جل جلاله.

وليس هناك أضيق من صدر الملحد والشاك في الله والآخرة، إن حياته أضيق من سجن، بل من زنزانة في سجن، إنه يعيش معزولاً عن الأزل والأبد، عن الأمس والغد لا يعرف إلا يومه، ولا يعرف من يومه إلا لذاته المحسة، وهو يعيش معزولاً عن الوجود العريض، لا يرى منه إلا شخصه وشخوصاً محدودة أخرى، ولا يرى من شخصه إلا جسمه المادي، ودوافعه الحيوانية.

هذه حقيقة ثابتة، وسنة ماضية، منذ أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض ثم قال لهما :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه)

فإذا رأيتم بعض هؤلاء المعرضين عن هدى الله في بحبوحة من العيش المادي، والنعيم الحسي، فلا يخدعنكم ذلك عن حقيقة حالهم، فإن الضنك الحقيقي في أنفسهم. وإذا ضاقت النفس، وضاق الصدر، ضاقت المعيشة وضاقت الحياة كلها. وإذا اتسعت النفس، اتسعت الحياة.

إن دائرة الوجود بالنسبة للحيوان دائرة ضيقة محدودة بحدود معدته وكرشه، وما يملؤها من كلأ ومرعى، ولا التفات إلى ما وراء ذاك.

وقريب من ذلك الطفل، فوجوده ينحصر في أمه، فإذا كبر قليلاً اتسع فشمل أباه وأخوته ومسرح لعبه، فإذا نما شيئاً فشيئاً، بدأت تتسع دائرة حسه، ثم انتقل -كلما قارب الرشد- من المحسوس إلى غير المحسوس، فبدأ يدرك المعاني الكلية والمعقولات المجردة.

فالإيمان بالله وبالغيب هو الذي يرتفع بالإنسان من الحيوانية إلى الإنسانية، ومن الطفولة إلى الرشد، لأنه يرتفع بالإنسان من المحسوس إلى المعقول، ومن المنظور إلى غير المنظور، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب.

إن المؤمن يعيش في سعة من نفسه وقلبه، ولو لم يكن في سعة من عيشه، فطبيعة الإيمان توسع النفس والقلب والحياة لأنه يصل صاحبه بالوجود كله، ظاهره وباطنه، علوية وسفليه، وما يبصر منه وما لا يبصر، ماضيه وحاضره ومستقبله.. يصله بالسموات والأرض ومن فيهن.. يصله بالملائكة وحملة العرش والقوى الروحية من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو.. يصله بحملة النور الإلهي، وأصحاب الرسالات السماوية من لدن آدم أبي البشر إلى محمد r، يصله بالصديقين والشهداء والصالحين من كل أمة، ومن كل عصر، يصله بالآخرة والبعث والحساب والجنة والنار، وباختصار: يصله بالوجود ورب الوجود، الأول والآخر، والظاهر والباطن .

النفس المؤمنة نفس رحبة واسعة، وكيف لا وهي تعيش في وجود سعته السموات والأرض، والعرش والكرسي، والدنيا والآخرة، والأزل والأبد؟

والنفس المؤمنة رحبة واسعة، لأنها تعيش في نور يهديها سبيلها، ويكشف لها من حولها، ومن شأن النور أن يوسع الدائرة التي يحيا فيها الإنسان على عكس الظلام، فإن الذي تكتنفه الظلمة لا يرى ما حوله ولا من حوله.. بل لا يرى الشيء وهو بجواره تكاد تلمسه يداه، بل لا يرى نفسه، ولا شيء أقرب إليه من نفسه، فإذا لاح له شعاع خافت بدأ يرى نفسه، أو شيئاً مما حوله.. فإذا قوي هذا النور وانتشرت أشعته العريضة، أضاء له دائرة أوسع، وعلى قدر قوة هذا النور وقوة البصر عند الإنسان تكون سعة الدائرة التي يدركها البصير.

وقد روي في الأثر في قوله تعالى:﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ .. (22) (الزمر) فقال: (إن النور إذا دخل في القلب اتسع وانفسح)

فالقلب يتسع وينفسح وينشرح بنور الإيمان واليقين، كما يضيق وينكمش بظلمة الإلحاد والشك والنفاق:﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾ (الأنعام)

قالوا: عرفنا السبب الرابع .. فما السبب الخامس؟

قال: السبب الخامس هو أن المؤمن يعيش في معية الله .. ولذلك لا يعتريه ذلك المرض النفسي الوبيل، الذي يفتك بالمحرومين من الإيمان، ذلك هو مرض الشعور بالوحدة المقلقة، فيحس صاحبه أن الدنيا مقفلة عليه، وأنه يعيش فريداً منعزلاً؛ كأنه بقية غرقى سفينة ابتلعها اليم، ورمت به الأمواج في جزيرة صغيرة موحشة يسكنها وحده، لا يرى إلا زرقة البحر وزرقة السماء، ولا يسمع إلا صفير الرياح، وهدير الأمواج.

وأي عالم أشد على النفس من هذا العالم، وأي إحساس أمر من هذا الإحساس؟ إن أقسى ما يصنعه السجان بالسجين أن يحبسه في سجن انفرادي (زنزانة) ليحرمه من لذة الاجتماع، وأنس المشاركة والاختلاط، فما بالنا بمن وضع نفسه دائماً في تلك الزنزانة، وعاش فيها بمشاعره وتصوره وحده، وإن كانت الدنيا تضج من حوله بخلق الله من بني الإنسان؟!

والمختصون متفقون على أن هذا المرض من أخطر أمراض النفس، لما يجلبه على صاحبه من عزلة وفقدان للثقة بمن يتعاملون معه، إذ يعتقد أن كل من حوله دونه، وأنهم يخالفونه في كل مقومات الحياة، وأينما التفت لا يجد غير نفسه، وقد مثل بعضهم حالة هذا المريض بإنسان قد سجن في غرفة جميع جدرانها (مرايا) فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وأن هذه الغرفة التي سجن فيها لا أبواب لها، ولا منافذ بها، فأين السبيل إلى الهرب منها؟

فهل يستطيع مثل هذا الإنسان أن يعمل أو ينتج، أو أن يظل محتفظاً بوعيه وقدرته على الفهم والتركيز؟ وهل يمكن لمثله أن يظفر بالسكينة والاطمئنان؟ الجواب طبعاً: لا.

بل قال المختصون في علاج هذه الأمراض: إن لهذا المرض النفسي آثاراً عضوية تظهر على جسم صاحبه، كما تظهر في حركاته وتصرفاته.. فقد يصيبه الدوار ويتصبب عرقه، وتسرع نبضات قلبه، كأنه خائف من عدو قاهر، أو مقدم على موقف عصيب وقد يتخبط في حركاته ومشيه كأنه يريد الهرب.

يقول الدكتور (موريس جوبتهيل) مدير إدارة الصحة العقلية بنيويورك: (إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية)

ولم يدخر الأطباء وعلماء النفس وسعاً في البحث عن علاج ناجع لهذا المرض، وبذلوا في ذلك جهوداً جمة، وأجروا تجارب كثيرة، وحاولوا محاولات مخلصة حتى انتهى رأي المنصفين منهم أخيراً إلى أن العلاج الأمثل لهذا المرض هو اللجوء إلى الدين، والاعتصام بعروة الإيمان الوثقى، وإشعار المريض بمعية الله والأنس به.

فهذا الإيمان القوي هو خير دواء لعلاج هذا المرض الخطير، كما أنه خير وقاية من شره.. قال الدكتور (فرانك لوباخ) العالم النفسي الألماني: (مهما بلغ شعورك بوحدة نفسك فاعلم أنك لست بمفردك أبداً. فإذا كنت على جانب من الطريق فسر وأنت على يقين من أن الله يسير على الجانب الآخر)

واعتقاد المسلم أكبر من هذا وأعمق.. إنه يؤمن أن الله معه حيثما كان، وليس على الجانب الآخر من الطريق، إن الله سبحانه يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني).. ويقول في كتابه:﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)(محمد)

إن شعور المؤمن بأنه مع الله، وأن عنايته تسير بجانبه، وأنه ملحوظ بعينه التي لا تنام، وأنه معه حيث كان، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويزيح عن نفسه كابوسها المزعج.

كيف يشعر بالوحدة من يقرأ في كتاب ربه :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)﴾ (البقرة) ، ويقرأ: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾ (الحديد)؟

إن المؤمن لا يشعر إلا بما شعر به موسى حين قال لبني إسرائيل :﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾ (الشعراء) .. وما شعر به محمد في الغار حين قال لصاحبه: :﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة)

إن شعور المؤمن بمعية الله وصحبته دائماً يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، يحس أبداً بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم.. ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين، ينشد ما قاله العبد الصالح يناجي ربه:

إن قلبا أنت ساكنه = غير محتاج إلى السرج

وجهك المأمول حجتنا = يوم يأتي الناس بالحجج

قالوا: عرفنا السبب الخامس .. فما السبب السادس؟

قال: السبب الخامس هو أن المؤمن لا يشعر أنه في عزلة عن إخوانه المؤمنين.. إنهم، إن لم يكونوا معه في عمله أو مسجده أو داره - يعيشون دائماً في ضميره، ويحيون في فكره ووجدانه، فهو إذا صلى - ولو منفرداً- تحدث باسمهم:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾ (الفاتحة) .. وإذا دعا دعا باسمهم :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)﴾ (الفاتحة) .. وإذا ذكر نفسه ذكرهم :( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .. هذا في التشهد الذي يتكرر في الصلوات المفروضة وحدها تسع مرات يومياً عدا السنة والنوافل .. وإنه لأوسع مدى من أن يعيش مع مؤمني عصره وحدهم، بل انه ليتخطى الأجيال، ويخترق العصور والمسافات، ويحيا مع المؤمنين وإن باعدت بينه وبينهم السنون والأعوام، ويقول ما قال الصالحون: :﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾ (الحشر)

المؤمن يشعر أنه يعيش بإيمانه وعمله الصالح مع أنبياء الله ورسله المقربين، ومع كل صدِّيق وشهيد وصالح من كل أمة وفي كل عصر: :﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)﴾ (النساء)

وأي إنسان أسعد ممن يرافق هؤلاء ويرافقونه؟ إنها ليست مرافقة جسد وصورة، ولكنها مرافقة روح ووجدان، وفكر وقلب، وكفى أنه (معهم)، وليس خلفهم، ولا قريبا منهم .. ولا يحسبن امرؤ من الناس أن مرافقة هؤلاء للمؤمن شيء هين ضئيل، أو أمر خيالي موهوم، فإنه لفرق كبير دين إنسان تاريخه هو تاريخ شخصه أو أسرته، أو حزبه مثلاً، فهو قريب القاع، سطحي الجذور، وإنسان تاريخه هو تاريخ الإيمان والهدى من عهد آدم، تاريخه هو تاريخ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد من أولي العزم من الرسل، ومن غيرهم من أصحاب النبوات والرسالات منذ بعث الله رسولاً، وأنزل كتاباً، فهو يستلهم هذا التاريخ المؤمن الحافل في كل ما ينزل به من أحداث، وما يعرض له من مشكلات، وما يقف في سبيله من عوائق، ويجد فيه الأسوة والهداية كما يجد فيه السلوى والعزاء، كما يجد فيه الأنس والود، ومن كل ذلك يأخذ الزاد لفكره، والنور لقلبه، والمدد لإرادته.

قالوا: عرفنا السبب السادس .. فما السبب السابع؟

قال: السبب السابع هو ما أتيح للمؤمن من مناجاة ربه في الصلاة والدعاء والذكر .. وذلك كله مما لا يجده الماديون، وإنما هو نعيم خالص للمؤمنين..

فالصلاة لحظات ارتقاء روحي يفرغ المرء فيها من شواغله في دنياه، ليقف بين يدي ربه ومولاه ويثني عليه بما هو أهله، ويفضي إليه بذات نفسه: داعياً راغباً ضارعاً.

وفي الاتصال بالله العلي الكبير قوة للنفس، ومدد للهزيمة، وطمأنينة للروح.

لهذا جعل الله الصلاة سلاحاً للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه بها كوارثها وآلامها، قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾(البقرة) .. وكان محمد رسول الله r إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولم تكن صلاته مجرد شكل أو رسم يؤدى، وإنما كانت استغراقاً في مناجاة الله، حتى أنه كان إذا حان وقتها قال لمؤذنه بلال في لهفة المتشوق واشتياق الملهوف: (أرحنا بها يا بلال) .. وكان يقول :(جعلت قرة عيني في الصلاة)

أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمد من قبل: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنى الدين، وأغنني من الفقر)[9]

وأي طمأنينة ألقيت في قلب محمد r يوم عاد من الطائف دامي القدمين، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم، فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السماء يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحية النابضة التي دعا بها محمد ربه، فكانت على قلبه برداً وسلاماً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ! أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي . أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله)[10]

قالوا: عرفنا السبب السابع .. فما السبب الثامن؟

قال: السبب الثامن هو أن المؤمن لا يعيش بين (لو) و(ليت) .. ذلك أن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر، وخوفه من المستقبل.

إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل فيها شهوراً وأعواماً، يجتر آلامها ويستعيد ذكرياتها القاتمة، متحسراً تارة، متمنياً أخرى.. شعاره: ليتني فعلت، وليتني تركت، لو أنى فعلت كذا لكان كذا.

ولذا ينصح الأطباء النفسيون، والمرشدون الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولى لا يعود.

ولكن الضعف الإنساني يغلب على الكثيرين، فيجعلهم يطحنون المطحون ويبكون على أمس الذاهب، ويعضون على أيديهم أسفاً على ما فات، ويقلبون أكفهم حسرة على ما مضى.

وأبعد الناس عن الاستسلام لمثل هذه المشاعر الأليمة، والأفكار الداجية هو المؤمن الذي قوي يقينه بربه، وآمن بقضائه وقدره، فلا يسلم نفسه فريسة للماضي وأحداثه، بل يعتقد أنه أمر قضاه الله كان لابد أن ينفذ، وما أصابه من قضاء الله لا يقابل بغير الرضى والتسليم.

إن المؤمن لا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، كما أخبرنا الرسول r[11].

إن المؤمن يوقن أن قدر الله نافذ لا محالة، فلم السخط؟ ولم الضيق والتبرم؟ والله تعالى يقول:﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)﴾ (الحديد)

وفي غزوة أحد التي قتل فيها سبعون من المسلمين، نعى القرآن على طائفة من المنافقين ومرضى القلوب، وضعاف الإيمان، عاشوا بين (لو) المتندمة و(ليت) المتحسرة، فيقول:﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾ (آل عمران)

ويرد على أولئك الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا:﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)﴾ (آل عمران)

المؤمن لا يقف موقف هؤلاء المنافقين، ولا موقف إخوانهم من الكفار الذين نهى القرآن عن التشبه بهم في تحسراتهم الأسيفة، وتمنياتهم الحزينة:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) (آل عمران)

إن شعار المؤمن دائماً: (قدر الله وما شاء فعل .. والحمد لله على كل حال).. وبهذا لا يأسى على ما فات، ولا يحيا في خضم أليم من الذكريات، وحسبه أن يتلوا قوله تعالى:﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾  (التغابن)

قالوا: عرفنا السبب الثامن .. فما السبب التاسع؟

قال: السبب التاسع هو أن المؤمن يعيش في حالة رضا تام عن ربه .. ولذلك لا يصيبه ذلك التشتت والألم الذي يصيب الساخطين المعترضين .. لقد ذكر رسول الله r ذلك، فقال :( إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك)[12]

في هذا الحديث الشريف كشف رسول الله r عن حقيقة نفسية باهرة، فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة، فإن سنته تعالى في عالم النفس والروح قد ربطت الفرح والروح والسرور وراحة النفس بالرضا واليقين.. فبرضا الإنسان عن نفسه وربه يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله والآخرة والجزاء، يطمئن إلى غده ومستقبله.. ومن غير المؤمن في رضاه عن يومه، ويقينه بغده؟ كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.

فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً.. إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار ولا يرتقب له فجر صادق.

وقد ربط الحديث النبوي الكريم بين السخط والشك، وهما متلازمان، فلا سخط من غير شك، ولا شك من غير سخط.

ولذلك ترون الساخط دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، ضيق الحياة، ضيقا بالناس، ضيقا بنفسه، ضيقا بكل شيء، كأن الدنيا - على سعتها- في عينيه سم الخياط.

إن المؤمن قد تصيبه الكآبة، وقد يعتريه الحزن.. ولكن حزن المؤمن لغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه.. وإذا حزن لدنياه فهو حزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقشع إذا هبت عليه ريح الإيمان.. حتى النفوس المنقبضة والطبائع المتشائمة، ينشر الإيمان عليها من ضيائه وإشراقه، فيبدد كثيراً من ظلامها ويخفف كثيراً من انقباضها ويطارد أسباب السخط والتشاؤم من وجودها.

أما المرتاب في الله والآخرة، فهو يعيش في مأتم مستمر، ومناحة دائمة.. لأنه يعيش في سخط دائم، وغضب مستمر، فهو ساخط على الناس، ساخط على نفسه، ساخط على الدنيا، ساخط على كل شيء، وقديما قالوا: من غضب على الدهر طال غضبه. ولهذا هو في مأتم مستمر، يبكي دائماً حظه وينعي نفسه، وينوح على دنياه، ويولول على وجوده.

إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية التي هي سر السعادة.. ولهذا قال رسول الله r :( من سعادة المرء استخارته ربه، ورضاه بما قضى، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بعد القضاء)[13]

فكل أمر مقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه، والسعيد من جمع بينهما، وذلك هو المؤمن، والشقي من حرمهما.. المؤمن يسأل الله قبل إقدامه على أمر من الأمور أن يهديه إلى أرشد الأعمال وأهدى السبل، ومن الأدعية التي علمها لنا الرسول r : (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فيسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)[14]

والمؤمن وحده هو الذي يغمره الإحساس بالرضا بعد كل قدر من أقدار الله.

المؤمن هو الذي يحس تلك الحالة النفسية التي تجعله مستريح الفؤاد، منشرح الصدر، غير متبرم ولا ضجر، ولا ساخط على نفسه، وعلى الكون والحياة والأحياء.. ومنشأ ذلك رضاه عن وجوده الخاص في نفسه، وعن الوجود العام من حوله، ومبعث هذا وذاك رضاه عن مصدر الوجود كله، وينبوع هذا الرضا هو الإيمان بالله رب العالمين.

الرضا نعمة روحية جزيلة، هيهات أن يصل إليها جاحد بالله، أو شاك فيه، أو مرتاب في جزاء الآخرة، إنما يصل إليها من قوي إيمانه بالله وحسن اتصاله به. وقد خاطب الله رسوله r بقوله:﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)﴾(طه) وامتن عليه بقوله:﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾ (الضحى)

وقال النبي r :( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)[15]

وأثنى الله تعالى على المؤمنين بقوله:﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)﴾ (المائدة)

قالوا: عرفنا السبب التاسع .. فما السبب العاشر؟

قال: السبب العاشر هو أن المؤمنين – بسبب إيمانهم - أهل حلم وصبر وتواضع وتسامح وحياء:﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾ (الفرقان)

ولذلك يعرفون بطول الصمت، وتواصل الفكر، وخفض الصوت، والبعد عن الهرج والصخب والتلاعن.

ويعرفون بالتأني والاتقان والإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال.

ويعرفون بالدماثة ولين الطبع والصدق والوفاء والاعتدال في الأخذ من كل شيء.

وهذا كله يدل على انسجام عناصر النفس والتوافق بين متناقضاتها، وانقيادها في خضوع وسلاسة لصاحبها وهي أمر لا يوهب إلا للمؤمن.. لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس والغد وعلاقته بالموت.. وعلاقته بالناس.. وعلاقته بعمله ونظرته للأخلاق.

فالأخلاق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما لا يتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا، فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الأولى، وهدفها حسن توزيع اللذات.

أما الأخلاق بالمعنى الإسلامي فهي عكس ذلك .. فهي أن تقمع رغباتك، وتخضع نفسك، وتخالف هواك، وتحكم شهواتك لتتحقق برتبتك ومنزلتك العظيمة كخليفة عن الله ووارث للكون المسخر من أجلك.. فأنت لا تستحق هذه الخلافة والسيادة على العالم، إلا إذا استطعت أولا أن تسود نفسك وتحكم مملكتك الداخلية.. ومفهوم الأخلاق هنا فردي، وهدفه بلوغ الفرد درجة كماله وإن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك الفرد فإنها تأتي بالتبعية.

فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلاء الأفراد لابد أن يسوده الوئام والسلام والمحبة.

و الأخلاق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا.. خروج من الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الإله.. خروج من الجزء إلى الكل.. من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون.. وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم تصحيح وتكميل بصر العين.. فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه ونسبته لا تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالات الإلهية.

و لهذا تبدأ الأخلاق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها وتخضعها ولا تبدأ بالتسليم لها وبإشباعها كما هو شائع، فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات وإنما هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات، وهكذا تختلف النظرتان تماما وتؤدي كل منهما إلى انسان مختلف.

فالانسان المادي يستهدف النزوة واللذة الفورية والمقابل المادي العاجل، لأنه لا يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية، وهو لهذا يجري وراء اللحظة، ويلهث وراء الآن، ولكن اللحظة متفلتة و(الآن) هارب والفوت والحسرة تلاحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها، وهو متروك دائما، وفي حلقه غصة، وفي لبه حسرة، وكلما أشبع شهوته ازدادت جوعا.. وهو يراهن كل يوم بلا ضمان وبلا رصيد فهو محكوم عليه بالموت، لا يعرف متى وكيف وأين، فهو يعيش في قلق وتوتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت رغم أنفه.

أما الانسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف وأخلاقية مختلفة، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة، وأنها لا تساوي شيئا، وأنها مجرد امتحان إلى منازل ودرجات وراءها، وأن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل والدرجات الباقية.. وأن الدنيا كالخيال وأن الله هو الضمان الوحيد في رحلة الدنيا والآخرة.. وأنه لا حاكم ولا مقدر سواه.. ولو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، وإن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك.

و ثمرة ذلك عند المؤمن هي السكينة والهدوء النفسي واطمئنان البال والثقة في حكمة الله وعدله ورحمته وتصريفه.

و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه ومما يجد من النور في بصيرته.

و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق، ويترك الدعاوى إلى الأوامر، ويترك أهواء النفس إلى وجه الحق، و يكف عن التلهف والحركة وراء الأغراض والمناصب والرياسات والمغانم ويسكن إلى جنب الله.. وهل بعد الله مغنم؟!!

ومن صفات هذا المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام، لا يفتر ولا يكسل ولا يتواكل، بينما يفتر من يعمل للأجر ويفتر من يعمل للخوف .. أما القاصد وجه ربه فإنه لا يفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر وهو لا يكسل متواكلا على مغفرة لأنه لا يتحرك بالخوف من عقاب وإنما هو عبد محب متطوع، العمل عنده سعادة، لهذا لا تجده متبرما ولا متسخطا، وإنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل، حماد لربه في جميع الحالات لا يسب الدهر ولا ينسب لربه نقصا ولا قصورا.

وهذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة الايمان بالقرآن، وهي ثمرة التوحيد.. والتوحيد يجمع عناصر النفس، ويوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي، فيؤدي بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد الآلهة وتعدد مصادر الخوف والنفع والضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر وانقسام النفس وتشتت الانتباه إلى العديد من الجهات، ويؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية.

لأجل هذا كله يختلف علم النفس المادي وعلم النفس القرآني في علاج الأمراض النفسية.. فعلم النفس لا يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا، لأن النفس تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة.. ولا يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج المكبوت فيها إلى الوعي.. أو فتح نوافذ للتنفيس والتعبير وتخفيف الغليان الداخلي.. وبهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلاج بالتنويم المغناطيسي أو العلاج بالإيحاء أو بالتنفيس والتعبير والفن واللعب أو العلاج بالاستغراق في عمل آلي أو العلاج بالإشباع المباشر.

و كل هذه الصور أشبه بعلاج السرطان بالمراهم أو المسكنات لأنها لا تحاول أن تغير من النفس شيئا، فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض:( اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غن لتنفس عن آلامك).. أو تضع يده على الدمل وتقول له:( هنا الدمل).. وهذا كل جهدهم.

أما الدين فيقول بإمكانية تبديل النفس وتغييرها جوهريا، ويقول بإمكانية إخراجها من ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة الإلهية ،ومن حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالات الخلقية وذلك بالرياضة والمجاهدة.

فبينما يرى فرويد (الطيبة) تخاذلا وسلبية وينصح مريضه قائلا له: (كل وإلا فأنت مأكول) يرى المؤمن الطيبة قوة إيجابية.. وبينما يرى فرويد من الأعمال ما يساعد على تفريغ وتنفيس الغليان النفسي، يشترط المؤمن العمل الصالح.. وبينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان وموجه لأفعاله لا يقول المؤمن بحاكم إلا الله، ولذلك يرى أنه يمكنه - بفضل الله – أنه يمكن أن يخرج من أي حكم.. وبينما يقول فرويد بفطرة عدوانية وبغريزة التحطيم والهدم وبالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية، يقول المؤمن: إن الإنسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة والموجبة يختار ما يشاء منذ البداية.

وسبب مادية علم نفس فرويد، وعلم النفس بوجه عام هو أنهم يتعاملون مع النفس الإنسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح والتجربة.. وهم يفعلون هذا عن إيمان بأنه لا روح هناك ولا ذات ولا نفس.. وإنما مجموعة مركبات كيميائية وجينات وراثية اسمها الإنسان، وتلك هي خطيئة الحضارة المادية، فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لأن النفس الإنسانية (ذات) قبل كل شيء، ولا يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد.. وهي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح ماتت في يدك.. والنفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية، وتتنكر بما تطرح في الظاهر من ردود أفعال سلوكية، وهي لا تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ يتدبرها كموضوع، لأنها ليست موضوعا بل هي في جوهرها (ذات) بكر إذا حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية استعصت عليك، وتفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة وتحولت إلى شيء آخر.. ولم تعد (هي)

و يظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر وما خفى عليك من حقيقتها، كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر والروح التي تسكنه.. وأنت لن تصل أبدا إلى كنه الروح بتشريح الجسد.. وإنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر، ولكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح ولغزها.. قال تعالى:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾(الإسراء)

2 ـ الحركة

قام بعض المحبطين، وقال: لقد وعينا ما ذكرت .. ونعم ما ذكرت .. ولكنا نريد أن تبين لنا المفاتيح التي تنفتح بها مغاليق الهمم من نفوسنا المكدرة بسموم اليأس.

سكت سهل، ثم قال[16]: لا شك أنكم تعلمون أن النفس الإنسانية تمر بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانًا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق لمعجزات.. تدهمها أمواج اليأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف..

ولا شك أنكم تعلمون أن من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها أن شيئًا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلاً من القيام والبحث عن حل.

ولا شك أنكم تعلمون أن الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية يقضي على أي أمل للإصلاح .. فبدلاً من الكدّ في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم تُسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!

قام الرجل، وقال: نحن لا نشك في كل ما ذكرت .. ولكنا نريد العلاج .. لقد شخصت الداء، ونحن نطالبك أن تتفضل علينا بالعلاج.

قال سهل: ما دمتم قد سلمتم لكل ما ذكرت لكم .. فسأذكر لكم الآن سبعة مفاتيح تنفتح بها المنافذ التي يسدها الشيطان في وجه الأمل ..

وسأستعير هذه المفاتيح من فيض النور الأزلي كلام رب العالمين الذي شرح الله به الصدور، ورفع به الهمم، وأحيا به الأمل.

وسأستعير في ذلك ما نزل من القرآن الكريم في غزوة من غزوات رسول الله r تسمى (غزوة أحد) أصاب المسلمين فيها بعض ما يمكن أن يسمى هزيمة[17] .. وكان من الممكن أن يضع ذلك المسلمين في أجواء من الكآبة والحزن والإحباط .. ولكن الله تعالى برحمته أنقذهم من كل ذلك، لينهضوا في فترة قصيرة جدا لإكمال ما عهد إليهم من رسالة، غير متأثرين بأي ألم أو إحباط.

لقد نزلت آيات من القرآن الكريم تخاطب ذلك الجيل .. وتخاطب معه كل من وقع في بلاء أو مصيبة .. وكان من ذلك الخطاب هذه المفاتيح العشرة.

قالوا: فما المفتاح الأول؟

قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى، وهو يخاطب عباده المنكسرين نفسيًا من آثار تلك الغزوة..:﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (آل عمران: 139)

قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟

قال: إن ما ذكرته الآية الكريم هو المفتاح الأول .. وهو مفتاح يرفع الروح المعنوية للنفس بلفت نظرها إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة..

لقد كان ذلك الخطاب خطابًا واقعيًا، ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم (تعالى الله عن ذلك)؛ فليس هناك شخص مركب من شر محض أو فشل محض أو ضعف محض.. إن بكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.. ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيًا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه..

يخاطب بهذا المعنى كل إنسان فقد مقومًا من مقومّات نجاحه في الحياة.. كمن فقد مالاً أو صحة أو حاسّة.. بل حتى لمن فقد عزيزًا لديه كان يحسبه سنده الوحيد في الحياة ويرى الحياة صفرًا يدونه..

ويخاطب أيضًا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه..

ولست في حاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيًا، فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة، وإلا لما شرط الله علوّ المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيًا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية..

قالوا: عرفنا المفتاح الأول .. فما المفتاح الثاني؟

قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى في هذه الغزوة:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ (آل عمران: 166 – 167)

قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟

قال: إن هذه الآية الكريمة تذكر النفوس اليائسة بأن الألم قد يحوي من الخير والنفع والأمل ما لا قد تفطن النفس لرؤيته، فتنحجب بالألم عن الأمل.

لقد ذكر الله ذلك في مواضع من القرآن .. فالله تعالى يقول:﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (البقرة: 216)، ويقول:﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (النساء: 19)

ففي هذه النصوص يلفت الله انتباه المؤمنين إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية..

وهكذا .. فقد ذكر الله تعالى من خلال سياق علاجه لمصيبة (أحد) الفوائد التي يمكن للمؤمنين أن يحصّلوها من خلال ذلك الحدث المؤلم، ومن خلال الجراح والآلام التي أصابتهم..

لقد ظهر ذلك واضحًا في تلك الغزوة، حيث تميز الصادق من المنافق .. وتلك ثمرة إيجابية تفيد أي مجتمع يكافح من أجل البقاء والنهوض، ولولا المصيبة التي وقعت لبقى المنافق جرثومة مستترة جاهزة لنفث سمومها في جسد المجتمع في أي وقت..

وليس معنى هذا أن نسعى في طلب المصائب وتمنيها، بل نحن مأمورون بسؤال الله العافية.. إنما المقصود أن المصيبة أو الانكسار والألم كلها ليست نهاية الدنيا.. وليست شرًا محضًا بل في باطنها ـ دومًا ـ خير كثير لا يراه إلا أهل التوفيق..

قالوا: عرفنا المفتاح الثاني .. فما المفتاح الثالث؟

قال: تعميق الإيمان بأن المصائب أمر مقدّر.. كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد..

نعم هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة، ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره.. وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر، لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقًا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها..

فالإنسان وأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.

بهذه الفلسفة لحركة القدر في الحياة يتحرك المؤمن إيجابيًا فاعلاً قويًا أمام المصائب.. سريع القدرة على القيام بعدها وعلاج آثارها..

وهو بذلك عصى على الهزيمة النفسية والانكسار تحت وطأة الحدث مهما كان مريرًا.. لا يعرف معنى للإحباط وتمنّي المستحيل ولا تطول به الأيام والليالي في انتظار معجزة متوهمة تردّ عجلة الزمان إلى الوراء.

وإلى هذا المعنى أشار النبي r في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان)[18]

وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل..

قالوا: عرفنا المفتاح الثالث .. فما المفتاح الرابع؟

قال: توجيه المؤمنين بعد مصيبة أحد إلى إمكانية استئناف المسير وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت (وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي r)

نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر.. اسمع إلى قوله تعالى في هذا :﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ (آل عمران)

ثم بعد هذا يجد المتألم دواءً جديدًا في هدى رب العالمين إذ يعده ـ ولا أصدق من الله ـ بالقيام من جديد يغذيه بالأمل في نصر قادم إن أحسن الاستدراك لما فات..

في أوساط خطاب الله تعليقًا على أحداث أحد يقول الله لعباده المنكسرين نفسيًا :﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾ (آل عمران: 160)

إن فرص النجاح قائمة حتمًا لمن توكل على الله حق التوكل وأحكم الأخذ بالأسباب..

قالوا: عرفنا المفتاح الرابع .. فما المفتاح الخامس؟

قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران)

قالوا: فما في هذه الآية من مفاتيح الأمل؟

قال: إن القرآن لكريم في هذه الآيات يسلك سبيلاً آخر حكيمًا إلى النفوس المنكسرة يمسح عنها الأسى حين يلفت أنظارها دائمًا إلى عبرة الماضي المتكررة وهي أن السقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب.

وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي حين ضاق الحال تمامًا برسول الله r وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدوداً عن لحق، فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله.. ثم يختتمها الله تعالى بقوله :﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾ (هود)

فتعرّف أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك، بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان..

كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخافٍ ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعًا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنيه، ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر..

إلا أنه ـ عليه السلام ـ لما وجّه بنية للبحث عن يوسف وأخيه ذيّل كلامه لهم قائلاً :﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (يوسف: 87)

فتتجسد العبرة وينضح الدرس الذي من أجله يسوق الله هذا القصص كما قال عز وجل في نهاية نفس السورة:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف)

قالوا: عرفنا المفتاح الخامس .. فما المفتاح السادس؟

قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ (آل عمران: 140)

قالوا: فما في هذا من العلاج؟

قال: في هذه الآية الكريمة يلفت القرآن أنظار المسلمين تعقيبًا على أحد إلى أن الألم الذي أصابهم قد أصاب عدوّهم مثله، فلم يخرج عدوّهم من المعركة (وإن بدا منتصرًا) سالمًا من الجراح والآلام.. وبذلك، فإن كفاح المؤمنين ضد عدوهم لم يذهب سدى، بل إن عدوهم قد أصابه ما أصابهم من أذى (قرح مثله) .. وهي سنة ماضية في معركة الحق مع الباطل فصّلها الله في موضع آخر من كتابه حين قال :﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ﴾ (النساء: 104)

ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار، ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!!

قالوا: عرفنا المفتاح السادس .. فما المفتاح السابع؟

قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ (آل عمران: 140)

قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟

قال: كما يربي القرآن الكريم المنهزمين نفسيًا على أن الجراح والآلام ليست حكرًا عليهم دون أعدائهم يوجه أبصارهم نحو سنة كونية ثابتة متى استقرت في النفس المحبطة عاودها الأمل من جديد.. تلك السنة هي المتمثلة في أن من شأن الأحوال أنها لا تثبت على هيئة واحدة، بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين عليها، فلا المهزوم يظل مهزومًا، ولا المنتصر يظل منتصرًا..

وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم..

وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجاوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته..

قالوا: عرفنا المفتاح السابع .. فما المفتاح الثامن؟

قال:  ما أشار إليه القرآن الكريم – تعقيبا على تلك الغزوة – من أن الإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه، ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا..

والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل، ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل..

فلذلك يربط القرآن الجهود والخطط بما تستطيع النفوس تحقيقه، لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض..

ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله :﴿ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ ﴾ (آل عمران: 148).. فالثواب الحسن حقًا هو ثواب الآخرة.

أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فيهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى :﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾ (آل عمران)، ويقول :﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)﴾ (آل عمران)

قالوا: عرفنا المفتاح الثامن .. فما المفتاح التاسع؟

قال: ذلك ما أشار إليه القرآن الكريم من أن طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسًا وإحباطًا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد ..

يقول تعالى في ذلك معالجًا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾ (آل عمران: 144)

لقد فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي r :( ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه) .. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل..

أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح .. فقد كان يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: (إن كان محمد قد قتل فإن الله حتى لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم).. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة سعيه فلن ييأس لأنها جهة مفتوحة على الدوام..

بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي r أصحابه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها أزمة أحد.. فها هو r بعد أحد بيوم واحد يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر r ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعًا.. إلا أن رسول الله r أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!

وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارًا تربويًا من الدرجة الأولى..

فقد تعمد r أن يأخذ الذين شاركوا في ( أحد ) مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله r ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تمامًا، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم.. وأن ما حدث في ( أحد ) لم يكن إلى حدثًا عابرًا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله..

لقد كان هذا التكليف من رسول الله r بمثابة عودة لأجساد الصحابة وعزائمهم، فقاموا مسرعين ملبين برغم أزماتهم الجسدية والنفسية، وبرغم أحزانهم لفقد سبعين من إخوانهم وأحبابهم.. لقد قاموا جميعًا ولم يتخلف واحد.. لقد نجح الجميع في الاختبار وقامت الأمة من كبوتها في أقل من أربع وعشرين ساعة!!

وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرًا على بعد ستة وثلاثين ميلاً.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوّفهم من أعداد المشركين وقوّتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف نفوسًا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين...

وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح..

وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم..

قالوا: عرفنا المفتاح التاسع .. فما المفتاح العاشر؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران)

قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟

قال: في تلك الآيات الكريمة يمجد الله أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أُحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم.. فاستحقوا ذلك التمجيد العظيم..

وبذلك يكون الأمل هو المفتاح الوحيد الذي يعالج الألم، ويكسر الإحباط، ويصحح المسير.

***

ما إن وصل سهل من حديثه إلى هذا الموضع حتى قام جميع المرضى يهللون ويكبرون .. وقد عجبت إذ رأيت صاحبي (إيرنست جونز) يهلل ويكبر معهم .. ولم أملك – حينها - إلا أفعل ما يفعلون، وأصيح بما يصيحون.

وقد تنزلت علي حينها أنوارجديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



 

 

 



([1])  أشير به إلى إيرنست جونز (1879 - 1958م)، وهو طبيب بريطاني ساعد في إدخال قواعد التحليل النفسي في الولايات المتحدة و بريطانيا وكندا.. كان صديقًا ومساندًا قويًا لفرويد، مطوّر التحليل النفسي ليكون أسلوبًا لمعالجة الأمراض العقلية، وتعد السيرة التي كتبها جونز (1953 - 1957م) عن حياة فرويد وعمله ـ وهي في ثلاثة مجلدات ـ من أوثق المراجع عن فرويد.

ولد جونز فيما يسمى الآن جاورتون بالقرب من سوانسي بويلز. ونال شهادة الطب من الكلية الجامعية بلندن عام 1900م، وعمل منذ ذلك الوقت في تطوير التحليل النفسي. وأسهمتْ جهوده فيما بعد في قبول نظريات فرويد من قِبَل الأطباء الغربيين والعلماء الآخرين.

ساعد جونز في تأسيس جمعية التحليل النفسي الأمريكية عام 1911م، والجمعية البريطانية للتحليل النفسي عام 1913م. وعمل محررًا لصحيفة التحليل النفسي العالمية، وكتب مقالات كثيرة تؤيد نظريته القائلة بأن التحليل النفسي يُعطي فهمًا أكثر للفن والأدب ولمجالات أخرى في الإبداع. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([2])  يستخدم المعالجون النفسانيون أنواعا كثيرة من المعالجة النفسية، وأغلبها يقوم على مناقشات بين المريض والطبيب النفساني.. حيث يحاول الطبيب تعزيز ثقة المريض، ويساعده على أن يكون أكثر تقبلاً للحياة.. ويلتقي المريض والطبيب في جلسة علاج نفساني مرة أو مرتين في الأسبوع لعدة شهور، ويجوز أن تتوالى الجلسات أكثر أو أقل من ذلك.

وفي بعض الأحيان تشترك مجموعات من ثلاثة مرضى أو أكثر في علاج جماعي.. فاجتماعهم بالطبيب النفساني في مجموعة يساعد المرضى على فهم أنفسهم، وقد يشجع الطبيب المرضى على التعبير عن مشاكلهم في تمثيليات نفسانية.

وفي حالة الأطفال قد يستخدم الطبيب النفساني طريقة العلاج باللعب.. فعوضًا عن حديث الطفل عن مشاكله، فإنه يمثلها بأدوات اللعب واللهو.

والنوعان الأكثر استخدامًا للمعالجة النفسانية هما التحليل النفسي ومعالجة السلوك:

حيث يركز التحليل النفسي على الأفكار والأحاسيس اللاشعورية، ووفقًا لنظرية التحليل النفسي تكمن أسباب كثير من الأمراض العقلية في اللاوعي.. يزور المريض الطبيب النفساني ويتحدث عن كل ما يخطر على باله، ويساعد الطبيب المريض على فهم مشاكله بالكشف عن أسبابها. وقد يستمر المريض في العلاج التحليلي لعدة سنوات.

ويستخدم الطبيب عند معالجة السلوك أسلوب المكافأة والعقاب لتشجيع المرضى ليسلكوا سلوكًا أفضل.. والهدف من معالجة السلوك هو محاولة مساعدة المرضى على تغيير سلوكهم أكثر من محاولة مساعدتهم على فهم أسباب ذلك السلوك.  (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([3])  دع القلق وابدأ الحياة: ص 301 .

([4])  أشير به إلى (سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي .. صحابي جليل شهد قضاء رسول الله r في المتلاعنين وأنه فرق بينهما، وكان اسمه حزنا فسماه رسول الله r سهلا .. وهذا سر اختيارنا له في هذا المحل.

عاش سهل وطال عمره حتى أدرك الحجاج بن يوسف وامتحن معه .. حيث أرسل الحجاج سنة أربع وسبعين إلى سهل بن سعد وقال له : ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان قال : قد فعلته قال : كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه وختم أيضا في عنق أنس بن مالك حتى ورد عليه كتاب عبد الملك بن مروان فيه، وختم في يد جابر بن عبد الله يريد إذلالهم بذلك وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم.

توفي سهل سنة إحدى وتسعين وقد بلغ مائة سنة، ويقال : إنه آخر من بقي من أصحاب النبي r بالمدينة.

وقد كان – رضي الله عنه - من شيعة أهل البيت في الشام، لقي قافلة سبايا كربلاء خارج باب دمشق، وتعجّب مما كان عليه الناس من فرح.. فتحدّث إلى سكينة وعرّفها بنفسه وسألها إن كانت لها حاجة.. فقالت له: قل لحامل الرأس أن يسير به أمام القافلة حتّى ينشغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى وجوه بنات الرسالة، ففعل ذلك. (انظر: أسد الغابة، وموسوعة عاشوراء)

([5])  استفدنا المادة المذكورة هنا من فصل بعنوان (علم نفس قرآني) كتبه مصطفى محمود في بعض كتبه، بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.

([6])  رجعنا في هذا المطلب لكتاب (الإيمان والحياة) للدكتور يوسف القرضاوي بالإضافة للمرجع السابق.

([7])  هذا الكلام لابن القيم في كتابه (مدارج السالكين)

([8])  رواه البخاري ومسلم.

([9])  رواه مسلم.

([10])  رواه الطبراني.

([11])  رواه مسلم.

([12])  رواه الطبراني.

([13])  رواه البزار ومعناه عند أحمد والترمذي.

([14])  رواه البخاري وغيره.

([15])  رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([16])  رجعنا في هذا المطلب لمقال مهم للدكتور راغب السرجانى بعنوان (المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية) بتاريخ: 04/10/2006.

([17])  ذكرنا في رسالة (النبي المعصوم) النواحي الإيجابية الكثيرة المرتبطة بما حصل في غزوة أحد.

([18])  رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.