الصفحة السابقة

العودة للصفحة الرئيسية

الصفحة التالية

المؤلف: نور الدين أبو لحية

العودة للكتاب: رحمة للعالمين

الناشر: دار الكتاب الحديث

الفهرس

سادسا ـ الفقراء

1 ـ الاستغناء

2 ـ القناعة

3 ـ الاستعفاف

4 ـ الفضل

السعي:

الإحسان:

 

سادسا ـ الفقراء

في اليوم السادس .. سرت إلى جمعية خيرية أسسها صاحب لنا من المنصرين، كان اسمه (صمويل زويمر) [1] .. وهي جمعية تهتم بالفقر والفقراء .. وقد كان اهتمامها بهم ثقافيا يربو على اهتمامها بهم ماديا .. ولذلك جعلت شعارها (أطعم الفقراء فكرا قبل أن تطعمهم خبزا)

وقد صادف ذلك اليوم الذي سرت فيه إليها أن رأيت صاحب الجمعية زويمر بنفسه قد اجتمع لديه الفقراء، وهو يخطب فيهم بلهجة ممتلئة بالحماسة .. وكان مما سمعته منه قوله: اسمحوا لي حضرات الأصدقاء الأفاضل أن أتحدث إليكم كصديق كلاما كله في صالحكم .. أدعوكم من خلاله إلى إعادة النظر وتقليب الفكر في الحياة التي تحيونها، والتوجهات التي اخترتموها أو ورثتموها.. فعساكم تجدون في ذلك التأمل ما يدلكم على المخرج الذي يخرجكم مما تعانون منه من الفقر والحرمان.

ثم لا تنتظروا بعد مني أن أدلكم على أي حل .. لأن الحل بسيط جدا .. وستجدونه عندما تعرفون سبب المعاناة التي تعانونها .. فإنه إذا إدرك السبب شخص الداء.. وإذا شخص الداء عرف الدواء ..

ولتشخيص الداء تعالوا نبحث في خارطة العالم عن أكثر الشعوب فقرا.. ثم نبحث عن سر كونها أفقر من غيرها.

لقد وضع علماء الاجتماع مقاييس كمية لمدى انتشار الحرمان في العالم باعتماد مؤشرات تقريبية معينة .. منها نقص التغذية في الفرد .. ومنها متوسط العمر المتوقع عند ولادته.. ومنها مدى انتشار الأمية، وغيرها.

هذا تصنيف علمي واقعي دقيق .. فالتغذية حاجة بدنية أساسية لازمة.. وأما متوسط عمر الفرد فيعكس مدى تأثير مختلف أنواع الحرمان.. وأضيف إلى هذين المقياسين البيولوجيين، عنصر الأمية كمؤشر للحرمان من التطور الاجتماعي.. وتعطي هذه المؤشرات الثلاثة، بنظر خبراء الأمم المتحدة، صورة موجزة وواضحة لمدى انتشار الفقر في مظاهره الشائعة.

وعلى هذا الأساس صنفت هيئة الأمم المتحدة عام 1971م دول العالم حسب المقاييس، في جدول مقسم إلى ثلاث فئات: دول متقدمة، ودول نامية فقيرة، ودول معدمة، وهي أكثر بلاد العالم فقراً وتخلفاً.

أما الفئة الأولى ـ المتقدمة ـ فتشكل 25 بالمائة من سكان العالم وهي في 37 دولة تعدادها حوالي (1100 ) مليون نسمة.

والدول النامية تشكل، مع الدول المعدمة 75 بالمائة من سكان العالم، ومجموع دولها ـ آنذاك ـ (89 ) دولة، أما سكانها فيبلغون (3000 ) مليون نسمة.

وحددت الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1971م الدول المعدمة ـ الأكثر تخلفا ً ـ بـ 24 دولة ثم أضيفت إليها أربع دول أخرى عام 1975م، وزيدت ثلاث أخرى عام 1977م، وأخيراً رفعوها إلى ست وثلاثين دولة بعد إضافة خمس دول أخر.. وقالوا: إن هذه الدول الأقل نمواً[2] (25 ) دولة منها في إفريقيا، و(8 ) في آسيا، و(2) في أوقيانوسيا وواحدة في أمريكا..

هذا ما ذكروه .. أو بالأخرى هذا ما ذكرته الإحصائيات العلمية الدقيقة ..

أتدرون ما وجه العجب في هذا؟

سكت الحضور .. فأجاب نفسه يقول: إن وجه العجب هو أن أغلبية سكان هذه الدول (في آسيا وأفريقيا ) .. هم من المسلمين، وأربع دول منها أعضاء في جامعة الدول العربية !!

أتدرون سر ذلك؟

كان الجالسون أمامه .. والذين عضهم الفقر بنابه لا يكادون يدركون شيئا مما قال، لقد كانت لهفتهم إلى الخبز أشد من لهفتهم للمعلومات والمعاني التي يريد أن يقنعهم بها.. فلذلك لم يجد (زويمر) إلا أن يجيب نفسه بقوله: سر ذلك يكمن في الإسلام ..

لقد اكتشفت من خلال دراسة موضوعية متأنية استغرقت مني عقودا من عمري أن الإسلام هو الدين الوحيد من أديان العالم الذي شجع على الفقر، ودعا إليه، وطلب من الفقراء أن يظلوا على فقرهم .. بل توعدهم بأنهم لو فكروا في الخروج من فقرهم، فإنهم بذلك يحاربون إرادة الله في قسمته بين عباده.

لقد زرت .. بل عشت، أياماً وأشهراً، في كثير من الحواضر الكبرى في ديار المسلمين..

لقد عشت في (لاغوس ) في نيجيريا و(القاهرة ) في مصر و(كراتشي ) في باكستان ، و (جاكرتا) في إندونيسيا و ( داكا ) في بنغلادش ؛ ورأيت فيها جميعاً التناقض المخيف بين من يملكون الملايين ومن لا يملكون شروى نقير، بين البيوت الفخمة والشوارع العريضة وبين الأكواخ الخشبية والطرق الضيقة، بين الحدائق الغناء في الأحياء السكنية الراقية وبين أكوام القمامة والأوساخ وتجمعات المياه الراكدة والحفر والحشرات والفئران على حواشي الحواضر الكبرى هذه وفي أحيائها القديمة؛ بين نظافة الثياب الأنيقة للفتية في الأماكن الموسرة والأجسام الممتلئة بل وربما المترهلة شحماً ودهناً من التخمة.. وبين الأسمال والخرق البالية على الأجساد الضعيفة الهزيلة المريضة الجائعة؛ بين الفنادق الفخمة ـ ذات النجوم الخمسة ـ وكثير منها للأجانب ـ وبين المقعدين المعوقين من الشحادين الفقراء صغاراً وكباراً .. على أبواب هذه الأبنية الرائعة[3].

 

اسمعوا لما يقول نبي المسلمين، وهو يشجع الفقراء على الرضوخ لفقرهم والاستسلام له: (اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء)[4]

وقال :( قمت على باب الجنة؛ فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون)[5]

وقد قرأت في بعض الكتب هذا النص الذي نقلته لكم حرفيا لتدركوا السلبية التي يحملها الإسلام، والتي هي السر في كون المسلمين هم أفقر أمم العالم ..

قلب بعض الصفحات، ثم راح يقرأ[6] :( إن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين، ومن خوف الفقر آمنين، وبالله في أرزاقهم واثقين، وبمقادير الله مسرورين، وفي البلاء راضين، وفي الرخاء شاكرين، وفي الضراء صابرين، وفي السراء حامدين، وكانوا لله متواضعين، وعن حب العلو والتكاثر ورعين.. لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها. فبالله أكذلك أنت؟ ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا: مرحباً بشعار الصالحين. وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً، وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا، وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك! قال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله r أسوة، وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة. وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا. فهذه أحوال السلف ونعتهم)

قلب صفحات أخرى، ثم قال: ليس ذلك فقط .. اسمعوا ما يقول هنا ..

راح يقرأ :( لو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به، وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا. ويحك! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا، فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى. فإنه بلغنا أن رسول الله r قال :( سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضاً، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه، يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه)، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .. ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه، لا! ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه، وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه، ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال: راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور.. ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول، نعم وكن عن جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب، فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال.. إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان المال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم، ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة. فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه)

 

***

بعد أن تحدث زويمر بما تحدث به مما ذكرت لك بعضا منه، قام الوكيل بتوزيع الطعام على الفقراء، وقبل أن يوزعه عليهم خطب فيهم يقول: هلموا إلى الطعام الذي باركه المسيح .. وصنعته لكم يد هذه الحضارة .. فلا تنسوا أن تشكروهما.

ولا تنسوا أن تتأملوا المعاني العظيمة التي شرحها لكم حضرة الأب الفاضل ..

أرجو أن لا تسيئوا فهمه .. فهو مع كونه رجلا كبيرا من رجال المسيحية إلا أنه لم يتفوه بلفظة واحدة يدعوكم فيها للمسيحية .. ذلك أن الإيمان بالمسيح يطلب نفوسا في غاية السمو والقداسة والترفع ..

ولذلك هو لم يطلب منكم أن تكونوا مسيحيين، بل طلب منكم فقط شيئا واحدا هو أن لا تميلوا بكل قلوبهم لذلك القاسي الغليظ الذي كان سبب فقركم وحرمانكم وألمكم.

وبعد ذلك ولوا وجوهكم أي وجهة شئتم[7] .. مما دلكم عليها الدليل، أو هداكم إليها البرهان ..

لا جناح عليكم أن تكونوا شيوعيين أو اشتراكيين .. فالشيوعية والاشتراكية لها موقف مشرف من الفقراء خير بكثير من موقف الإسلام .. بل لا وجه للمقارنة بينهما في ذلك.

وإن شئتم أن تلتحقوا بركب المسيحية .. فذلك شيء عظيم .. وهو لا يدل إلا على أنكم قد وصلتم إلى القمة السامقة من قمم الوعي والتفكير السليم.

بعد هذا .. لا أطلب منكم أنا إلا شيئا واحدا أرجو أن لا تخذلوني، فترفضوه.

قالوا: اطلب ما تشاء ..

قال: أنا لا أطلب منكم شيئا لنفسي .. بل أطلبه لكم .. أطلب منكم أن تحطموا ذلك الصنم الذي سكن قلوبكم سنين طويلة.

قالوا: نحن نعبد الله .. ولا نعبد أي صنم.

قال: لا أقصد الله .. فالله يمكن أن تجدوه في كل الأديان .. ولكني أقصد ذلك صنم ذلك القاسي الذي كان سببا في فقركم وجوعكم وألمكم .. أتعرفون من هو؟

قالوا جميعا بصوت ممتلئ بالضعف: من؟

قال الوكيل: محمد .. لا شك أنه محمد .. أليس محمد هو الذي جاء بالإسلام؟ .. أليست تعاليم الإسلام هي التي ملأت حياتكم بالفقر والحاجة والألم؟

هنا تغيرت وجوه الفقراء، ودبت فيهم قوة عجيبة جعلتهم يقومون..

1 ـ الاستغناء

كان أول القائمين رجل كان يلبس ثيابا بسيطة بالية، وقد علمت بعد ذلك أن اسمه (ذو البجادين)[8] ، قام وقال: لقد تحدثت أنت وصاحبك كما يحلو لكما، والآن ائذنوا لنا أن نتحدث ..

نظر الوكيل إلى زويمر، فأشار إليه أن يأذن له في الحديث، فقال ذو البجادين: أنا لا أريد أن أبين لكم هنا سر ما حصل لبلاد المسلمين من الفقر والفاقة والجوع .. فلا شك أنكم تعلمون ذلك ..

لاشك أنكم تعرفون أولئك الجبابرة الطغاة اللصوص الذين استعمروا أرضنا، ونهبوا ثرواتنا ..

لقد ذكر صاحبكم بعض الإحصاءات .. وبما أنه يؤمن بما تقوله الإحصاءات، فسأذكر له منها ما عساه يبين له سر ما تقع فيه بلاد الإسلام من الفقر والحرمان.

وبما أن صاحبكم قد قرأ لنا من كتاب كتبه بعض رجالنا، فسأقرأ لكم من كتاب كتبه بعض رجالكم .. ها هو الكتاب ..

أخرج كتابا من كيسه الذي كان يحمله، ثم قال: ها هو .. إن عنوانه هو ( إفريقيا الإمبراطورية البريطانية الثالثة)[9].. إنه يحاول أن يصف بعض ما صنع الإنجليز بالقارة الإفريقية .. لن أقرأ لكم كل ما ذكره الكاتب من جرائم المستعمرين .. ولذلك سأكتفي ببعض ما ذكر .. وسأبدأ منه بما ذكره عن جرائم البريطانيين تجاه أفارقة جنوب إفريقيا.

راح يقرأ: (يتكون اتحاد جنوب إفريقيا من أربع مقاطعات خاضعة لنظام الحكم الذى وضع فى 31 مايو سنة 1915، والذى خول سلطة الحكم للبريطانيين والبوير، وقد منحت الحكومات البريطانية بعض الحقوق السياسية للإفريقيين والملونين، وكذلك حق الانتخاب.. غير أن الذين قيدوا فى جداول الانتخاب 12.000 فقط من عدد الإفريقيين البالغ 1500.000.

وفى (ناتال) توجد حقوق انتخاب صورية للسود، لم يمارسها فى الواقع سوى القليلين، هذا مع العلم بأن السكان الوطنيين يربون على تسعة ملايين نسمة..

ومنذ عام 1913 وأجود الأراضى يمتلكها الفلاحون الأوروبيون والشركات المتحدة، وتبلغ مساحة الأراضى التى يحويها اتحاد جنوب إفريقيا 462347 من الأميال المربعة، قد وزع حوالى 88 بالمائة منها بين ما يزيد على 2.000.000 أوروبى، بينما هناك 000، 2000- إفريقى وآخرون من غير الأوروبيين يشغلون ما تبقى وقدره 12 بالمائة من المساحة الكلية للأرض.

والغريب أنه قبل انحلال النظام القبلى كانت الأرض ملكا لجميع الإفريقيين، فلم يكن هناك نظام الملكية الفردية، بل كان ينظر للأرض باعتبارها هبة الطبيعة للجميع، يقوم رئيس القبيلة بالنظر فى جميع أمورها، وحل مشاكلها، ولم تكن الأرض تباع ولا تشترى...

وبصدور القانون الوطنى للأراضى عام 1913، قضى قضاء تاما على نظام الحياة الاقتصادية الكريمة للإفريقيين، كما أصبحت السيطرة على الإفريقيين فى يد وزير أجنبى يسمى وزير الأعمال الوطنية.. ولقد كان هذا القانون حجر الأساس للناحية الاقتصادية وعليه بنى نظام التقسيم فى اتحاد جنوب إفريقيا.. ومنذ ذلك الحين والإفريقيون يضطرون للعمل بالقوة، فى نظام من السخرة يوجب أن يقضى تسعة أعشار السود حياتهم فى عمل جسمانى، أو يدوى، يستغرق يومهم بأكمله.. ويلاحظ أن الكثير من الأراضى المحلية المخصصة للإفريقيين غير صالحة للزراعة أو الرى، ومع ذلك يحرم القانون عليهم امتلاك أراضى أخرى، كما يقضى بغرامة قدرها مائة جنيه أو السجن مدة ستة أشهر للأوروبى الذى يسمح لأى إفريقى يرعى قطيعه فى أراضيه الخاصة به!!

وكان من نتائج هذا النظام الاقتصادى أن بلغ فقر الإفريقيين أشده، فشكلت حكومة برئاسة (وليم بيومنت) لبحث الحالة، وأوصت بتخصيص 8.000.000 فدان لصالح الملايين المشردة من الإفريقيين، ولكن هذه التوصية لم تنفذ، بل صدر قانون سنة 1932 واعتبر تأجير الإفريقى لأرض خارج نطاق المنطقة المخصصة لبنى جنسه جريمة يعاقب عليها بالجلد أو السجن.

والغرض من ذلك ألا تسنح الفرصة للإفريقى بتحسين حالته المادية.. وعلى العموم كانت القوانين تفرق دائما بين البيض والسود، وتعاقب من يخالفها بالسجن أو الغرامة. وترتب على ذلك الظلم وتلك المعاملة القاسية أن هرب الكثيرون من الإفريقيين إلى المدن، وتملك اليأس الآخرين، وهم حوالى 2.000.000 فعاشوا عبيدا للأرض التى حرمت عليهم القوانين امتلاكها.

ولابد لكل إفريقى يعمل بأرض أوروبى أن يشتغل مدة 180 يوما فى العام، يحددها السيد كما يشاء ليربطه بالأرض طوال العام.

ويفضل السيد أن يصطحب الأسود أفراد أسرته للعمل معه، وبعض هذه الأسر يتقاضى أجورا زهيدة جدا، أما الكثرة فلا تتقاضى شيئا.

وليس للإفريقى حق مغادرة الحقل الذى يعمل به، إلا بأمر سيده، ومن يهرب يقبض عليه، ثم يرد إلى سيده بعد توقيع العقوبة عليه إما جلدا وإما سجنا.

وفى حالة بيع الأرض تنتقل بما فيها من عمال إلى السيد الجديد، ومن هذا يتضح أن كل القوانين توضع لصالح الرجل الأبيض.

وفى حكومة (أورنج)  الحرة، يعاقب العامل الذى يفسخ العقد مع سيده بحرمانه من محصول البقعة الخاصة به من الأرض..

وتدل الأبحاث والإحصاءات على أن الأمراض متفشية بين أغلب الوطنيين، وأن نسبة الوفيات مرتفعة جدا بينهم.

وتفكير الوطنيين بدائى، ولا يوجد اتجاه نحو تعليم أطفالهم، بل إن بعض البيض يمنعون هؤلاء الأطفال من التعليم. وإذا كان هناك وجود للمدارس بالنسبة للسود، فإنهم سوف يعجزون عن شراء أتفه الضرورات لدخولها. والعجيب أنه يتحتم على جميع السود سداد المصروفات المدرسية إذا رغبوا فى التعلم، بينما يعفى منها جميع البيض.

وحالة الفقر المدقع بالإضافة إلى ضرورة تسديد الضرائب المقررة تدفعهم إلى العمل لدى البريطانيين بأجور زهيدة لا يكاد يتصورها العقل.

فعلى كل إفريقى من الذكور بين الثانية عشرة والخامسة والستين ـ سواء أكان يؤدى عملا أم لا عمل له ـ أن يدفع ضريبة الرأس، وقدرها (شلن)، وضريبة الكوخ، وقدرها (عشرة شلنات) سنويا..!

والصبية الذين يرعون الأغنام نظير أجور زهيدة قدرها خمسة شلنات شهريا، ويدل مظهرهم على أنهم قد بلغوا الثامنة عشرة، يتحتم عليهم دفع ضريبة الرأس، وهذا يكون 50 بالمائة من الضرائب، فى الوقت الذى يعفى فيه فقراء البيض من أية ضريبة مباشرة. وقبل الحرب الأخيرة كان الأوربيون الذين يبلغ دخل الواحد منهم 500 جنيه أو أقل لا يدفع شيئا، كما أن الأوروبى لا يطالب بالضريبة قبل الحادية والعشرين من عمره.

وتستعمل عادة طرق وحشية فى جمع الضرائب، كأن تحاط مساكن السود بالجنود فى أوقات متأخرة من الليل، أو فى الصباح الباكر، ثم تطلب ايصالات السداد، فإذا لم تحضر فورا ضربوا وركلوا، ثم قذفوا فى عربات البوليس حيث يودعون السجون، ويسخرون فى رصف الطرقات، وأداء الأعمال الأخرى.

ويتضح أن كثيرا من جرائم الإفريقيين ترتكب نتيجة للبطالة التى تواجههم عقب خروجهم من السجن، وشدة الحاجة للمال اللازم لقضاء ضرورات الحياة، كما أن الجهل عامل آخر للجرائم، ولكن الحكومة لا تحاول بناء مدارس لتحارب الجهل، بدلا من بناء السجون لهؤلاء التعساء..!

وينص القانون على ألا ينتقل الإفريقى من بلدة إلى أخرى لأى سبب من الأسباب دون تصريح خاص. ويحتم نظام التفرقة فى جنوب إفريقيا: أن تحكم القلة من البيض الكثرة من السود.

وقد أدى ازدياد مساحة الأراضى الزراعية إلى زيادة الحاجة للأيدى العاملة من الإفريقيين، وترتب على هذا حدوث صدام بين ملاك الأراضى من ناحية، وأصحاب المناجم من ناحية أخرى، إذ كلاهما يريد احتكار السود له، ونتيجة لذلك وضع نظام خاص لتوزيع العمال حسب الحاجة كما يقررها السادة، أما الزائدون فيردون للعمل من حيث أتوا!.

لقد أدى التقدم الصناعى إلى القضاء على مجتمع (البانتو) القبلى ، وفى خلال السنين العشر الأخيرة كثرت هجرة الإفريقيين إلى المدن حتى أصبح من يقطنها منهم يزيدون على مليونين، وهم يقومون بخدمة الأوروبيين نهارا، ثم يعودون للجهات المخصصة لهم فى المساء، بوسائل النقل التى أعدت لهم وحدهم! فالقانون يحرم عليهم الوسائل الخاصة بالبيض.

كذلك تخصص للسود والكلاب مصاعد فى العمارات الكبيرة. ويحرم القانون السود من الجلوس على مقاعد البيض بجوار البحيرة، ومن يخالف القانون يجلد أو يزج فى السجن.

والأحياء الوطنية قذرة للغاية، والبيوت لا تتعدى أن تكون أكواخا من الطوب القديم، يعيش فيها الأصحاء من الصبية، يأكلون وينامون فى نفس المكان مع المرضى بالسل.

وقلما توجد أسرة لم يمرض أحد أفرادها منه!

والمرض عموما منتشر بين الوطنيين بنسبة كبيرة، والعلاج يكاد يكون منعدما. ففى بعض الأحياء يوجد طبيب واحد لعلاج أربعين ألفا من السكان. ولا يوجد علاج بالمجان، لذلك نجد أن 65 بالمائة من الأطفال يموتون قبل أن يصلوا إلى سن الثانية من عمرهم، وتصل نسبة الوفيات عادة إلى 50 بالمائة.

وتظهر التفرقة بين البيض والسود حتى فى الموت، إذ يخصص للأخيرين مدافن بعيدة.

إنه لمن العسير أن يتصور من لم ير بنفسه الحياة فى جنوب إفريقيا ما يجرى هناك من عنف وتعسف فى المعاملة.

وحدث عن قسوة رجال البوليس وكبتهم للحريات، وكيف تنهب الأموال التى كسبت بعرق ودماء الملايين من السود، بدلا من استغلالها فى تحسين حالهم.

وإذا جرؤ إفريقى على نقد هذا النظام، وقف عند حده، بالزج فى السجن، أو النفى دون محاكمة..

ويعمل بمناجم الذهب بالترنسفال ما يقرب من 400000 إفريقى و20000 أوروبى، ويعمل حوالى نصف الإفريقيين بالقوة، كما يرحل حوالى 63000 بالقوة أيضا إلى عدة جهات، مثل نيوزيلندا وروديسيا الشمالية، وتنجانيقا، كذلك يمكن إحضار 100.000 عامل سنويا من مقاطعة جنوب شرق إفريقيا البرتغالية بموزمبيق  للعمل بالمناجم.. ويمكن القول بأن جميع هؤلاء العمال مسخرون، لأن ما يصرف من أجور لهم ضئيل جدا، فبينما يتقاضى الأوروبى عشرين شلنا يوميا، يتقاضى الإفريقى 2.8 من الشلنات مضافا إليها الغذاء.

ويصل متوسط ما يتقاضاه الأوروبي خمسة وأربعين جنيها شهريا، أما السود فليس لهم متوسط يذكر. ومن العجيب أن أرباح شركات التعدين باهظة، وتزيد على خمسين مليونا من الجنيهات سنويا، حصة الحكومة منها 27.000.000 جنيه، ويوزع على أعضاء الشركة ما ينوف على 17000000 من الجنيهات.

ورغم أن هذه الثروة إنما يأتى بها العمال الإفريقيون، لم تزد أجورهم منذ عام 1914 حتى اليوم.

ولقد كان مستوى المعيشة فى جنوب إفريقيا قبل الحرب العالمية الثانية أكثر جهات العالم ارتفاعا، ومازال كذلك حتى اليوم، ويضطر العامل الإفريقى إلى شراء ضروراته من الأسواق الأوروبية، ومع ذلك لا يتقاضى أجورا أوروبية. وليس هناك قانون يمنع الإفريقيين من تكوين الجمعيات التجارية أو الصناعية، غير أنهم لا ينتفعون بمثل هذه المشروعات أمام البيض الذين تعمل القوانين على حماية منتجاتهم وتجارتهم، وعلى دوام استيطانهم للبلاد التى غلبوا عليها..

وينشر البريطانيون نظمهم فى المقاطعات التابعة لهم فى هذه الجهات بسرعة، حيث يحلمون بتكوين حكومة (دومنيون) جديدة للبيض هناك، وتقع مسئولية الحكم حاليا بأيدى الموظفين الإنجليز، كما يرتبط الإفريقيون إلى حد كبير بروديسيا الجنوبية، ويخشون أن يتسع هذا الارتباط فيشمل تطبيق النظم المتبعة فى الجنوب، وهم محقون فى هذا، فلقد أصبح 20000 أوروبى يسيطرون فعلا على أجود الأراضى فى روديسيا الشمالية، بينما تسيطر الشركات الأجنبية على السكك الحديدية وطرق المواصلات الرئيسية وجميع منابع الثروة. ويعيش المليون ونصف من السود فى المنطقة الموبوءة بذباب (التسى تسى)، مما يضطر الأهالى إلى الهجرة بحثا عن العمل فى مناجم النحاس، بينما يرحل آخرون إلى روديسيا الجنوبية واتحاد جنوب إفريقيا للعمل لتسديد الضرائب، وتتبع فى (روديسيا) الشمالية نفس نظم التفرقة بين البيض والسود المتبعة فى روديسيا الجنوبية وجنوب إفريقيا.

إن استغلال الأراضى الإفريقية هو الدافع الأول للاستعمار الأوروبى، ولولا هذا الغرض لما تمكن البيض من استيطان هذه المناطق الحارة، مهما عظم الأمل فى كثرة الأرباح.

فمثلا فى روديسيا الشمالية يملك 20.000 من المستوطنين مساحة قدرها 2.000.000 فدان من الأراضى الزراعية يزرع منها فعلا 100.000 فدان فحسب.

وقد أخذ فى إعداد مليونين من الأفدنة للأعمال الخاصة بالمناجم، بينما تسيطر شركة اتحاد جنوب إفريقية البريطانية وفروعها على ما يقرب من 6.250.000 فدان تحتوى على مراكز التعدين.

والنحاس هو الملك فى شمال روديسيا حيث يكون 90 بالمائة من صادرات المستعمرة، ويقدر الصادر منه فى النصف الأول من عام 1940 بما قيمته ستة ملايين من الجنيهات، وقد اكتشف النحاس عام 1925 فقط، ولكن إيراده خطا خطوات واسعة. ففى عام 1935 قدر الصادر منه 0 00. 5.000 جنيه زادت عام 1937 فبلغت 11.000.000 جنيه، ولقد بلغ الصادر منذ الحرب الأخيرة 300.000 طن فى العام، فلحقت بذلك الحمولات الكندية التى كانت أعلى حمولات العالم إلى مدى قريب.

والرصيد فى المقاطعة حوالى 000. 750 طن، ويستخدم فى الصناعة عدد من الإفريقيين يتراوح بين 0 0 26.0 و 00 28.0 ومن الأوروبيين ما بين 3500 و 0 380. وأغلب الأوروبيين يأتون من جنوب إفريقيا وروديسيا، ويتقاضون مرتبات بين أربعين وسبعين جنيها شهريا.

بينما متوسط ما يتقاضاه الإفريقى من العمل مدة ثلاثين يوما ستين شلنا فقط، والكثيرون يتقاضون ما يزيد قليلا على تسعة وأربعين شلنا شهريا، إذ أن الأجور تزداد حسب نوع العمل: فوق الأرض أو تحتها.

ويصرف حوالى مليون جنيه سنويا للموظفين الأوروبيين، بينما عشرة أضعافهم من الإفريقيين يتقاضون 250.000 جنيه فقط.

ويحتج الأوروبيون المستوطنون شمال روديسيا غالبا على شركة جنوب إفريقيا البريطانية التى تفرض سلطانها على المناجم، فتصل أرباحها حوالى 000. 500 جنيه سنويا وأكثر، وتتحكم فى 2.708 ـ أميال من السكك الحديدية ـ كما يخشون قوة الإنجليز الذين يعملون لصالح بلادهم، والذين قد يندمجون فى الشمال والجنوب، وتصبح أمور التعدين كلها فى أيديهم)

أغلق ذو البجادين الكتاب، ثم التفت إلى زويمر وصاحبه، وقال: هذا هو السبب الحقيقي والأكبر للفقر .. وأنتم ترون أنه لا علاقة للإسلام بذلك.

ضحك الوكيل بصوت عال، وقال: عجبا لك في استدلالك .. ما أغربه .. لقد ذكرت نموذجا هو أبعد النماذج عما تريده .. فجنوب إفريقيا نملكها نحن، ولا يملكها الإسلام .. فكيف تستدل بها؟

ابتسم ذو البجادين، وقال: لا تزال فيكم روائح الاستعمار والعنصرية .. جنوب إفريقيا لأهل جنوب إفريقيا .. نحن في الإسلام نعتقد أن كل من أحيا أرضا مواتا فهي له .. نحن لا نتعلق بالأرض .. ولا ننزع الأرض من أهليها.. ولا ننسب الأرض لغير أهلها.

ولكن مع ذلك سأذكر لك نموذجا مما تريد .. سأذكر لك نموذجا يعتبره قومك، وكثير من قومي نموذجا للحضارة .. لاشك أنكم تعرفونه .. إنه نابليون ذلك المجرم المغرور الذي اجتهد الكل في تحسين صورته التي لا يمكن أن تتحسن .. لأن المستبد الظالم يبقى مستبدا ظالما، ولو غسل بجميع بحار الدنيا.

وسأذكر لكم من خلاله نموذجا عن بلد من بلاد الإستعمال أعمل فيه هذا المجرم من السلب والنهب ما لا يزال أثره إلى اليوم ..

لقد ذكر المؤرخون الثقاة أنه[10] عندما دخل نابليون بجنوده مدينة القاهرة اتخذ هو وقومه سياسة جديدة اجتهدوا أن يكفكفوا فيها لصوصيتهم المأثورة، وأن يلبسوا زيا يخدعون فيه الناس عن حقيقتهم، فادعى نابليون الإسلام، ثم زعم أنه هو وجيشه ما جاءوا إلا ليردوا للشعب حقوقه التى غصبها المماليك، فماذا كان من أمرهم؟

كان من أمرهم أن قاموا من كبيرهم إلى صغيرهم، بأخس أعمال اللصوص.. ابتداء من نابليون إلى أحقر جندى.

إنهم لم يستطيعوا أن يتخلوا عن طباعهم مهما حاولوا.. لقد وجدوا أمامهم قصور المماليك والأغنياء بعد أن تركها أصحابها وفروا هاربين بأنفسهم، وكانت تلك القصور تحوى الأموال الطائلة، والجواهر الثمينة، والتحف النادرة، والمصوغات الغالية، والأمتعة النفيسة، ومختلف أنواع الفرش والأثاث والأوانى، عدا السيوف والدروع وأدوات الحرب.

فماذا فعل الشرفاء، الذين جاءوا ليردوا إلى الشعب حقوقه المغصوبة؟

كان من أمرهم أن انطلق الجميع إلى هذه القصور بحجة البحث عن السلاح فنهبوها، وأخذوا ما فيها من الأموال والجواهر، والمصوغات والنفائس الغالية، بل إنهم فعلوا أكثر من ذلك، فقد كانوا يدخلون البيوت المسكونة بأفراد الشعب الذين لم يهاجروا، بحجة البحث عن السلاح أيضا، فيسرقون كل ما يجدون عند هؤلاء المساكين من مال قليل، أو مصوغات متواضعة.

ولم تقف نذالة هؤلاء الحقراء عند هذا الحد، فإنهم قد علموا أن بعض زوجات الأمراء، ونساء كبار المماليك، لم يستطعن الهرب مع أزواجهن، فاضطررن إلى الاستخفاء فى أماكن مجهولة خوفا على حياتهن.. فأمر نابليون الهمام أن ينادى بالأمان لهؤلاء النساء الضعيفات، ولكن عليهن أن يدفعن ثمن هذا الأمان.. على كل منهن أن تصالح على نفسها بمبلغ من المال، لكى تعود إلى قصرها أو بيتها.

ولم ير الناس فى تاريخ الهمج أو اللصوص نذالة مثل هذه النذالة!..

وأخذ النساء يظهرن، ويصالحن على أنفسهن بأموال طائلة... ولكن هل وقفت الخسة مع النساء عند هذا الحد؟

ذكر الجبرتى أن زوجة رضوان بك- أحد كبار المماليك- ظهرت من مكانها الذى كانت تختبىء فيه .. وصالحت على نفسها وبيتها بثلاثمائة وألف ريال فرنسى، وأخذت منهم ورقة بهذا الأمان.. ولم تكتف بذلك، بل ألصقتها على باب بيتها، ليعرف الجنود الشرفاء أنها دفعت الضريبة فيكفوا عنها.. ولكن ذلك لم يفدها بشىء.. فبينما هى فى منزلها آمنة مطمئنة، فاجأها جماعة من العسكر ومعهم ترجمان، فقالوا لها: لقد بلغنا أن عندك أسلحة، ونريد البحث عنها.. فأخبرتهم أنه ليس عندها سلاح.. فقالوا: لابد من التفتيش.. ففتشوا، ووجدوا ملابس ثمينة جدا لزوجها وأمتعة غالية.. قال الجبرتى: (ثم نزلوا إلى تحت السلالم، وحفروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة، وحجاب ذهب فى داخله دنانير).. وكان هذا كله هو المطلوب، فأخذه لصوص الاحتلال وأخذوا معهم السيدة المسكينة وانصرفوا، وهم يسخرون بورقة الأمان التى علقتها على باب بيتها.. ومكثت عندهم فى الاعتقال هى وجواريها ثلاثة أيام، ولم تعد إلا بعد أن اشترت لنفسها منهم أمانا جديدا بالمال.

وذكر الجبرتى أيضا أن (الست نفيسة) زوجة مراد بك، ظهرت وصدقتهم، وصالحت على نفسها وأتباعها بمبلغ قدره عشرون ومائة ألف ريال فرنسى، ومضت إلى بيتها مطمئنة إلى الأمان الذى أمضاه لها نابليون قائد القوات الفاتحة.. وما لها لا تطمئن وهى زوجة الفارس القائد الذى كان يقود جيوش مصر فى وجه نابليون.. الفارس القائد الذى عرفت عنه أن من تقاليد الفروسية احترام النساء.. نعم ذهبت مطمئنة، وهى تعلم أن تقاليد الفروسية تأبى على أربابها الأمان للنساء بالمال... وأن ذلك القائد الفرنسى النذل إذا رضى لنفسه أن يبيع الأمان للنساء فقد يكون له بقية من شرف الجندية تأبى عليه أن يعود فيه مرة أخرى.

ذهبت إلى بيتها وهى مطمئنة على نفسها من أجل هذه المعانى كلها، ولكن هل كان هؤلاء الأنذال عند ظن النساء بهم؟ لقد أرسلوا إليها يطلبون منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجى.. ويتهمونها أنها تخفيها فى منزلها، أو فى مكان ما.. وهكذا انقلبت مهمة جنود الجمهورية الفرنسية لا إلى البحث عن جنود المقاومة السرية، أو البحث عن القواد المختفين، بل إلى البحث عن النساء، لكى يرغموهن على شراء الأمان لأنفسهن بالمال.. فهل وجد إنسان أحط من هذه المروءة؟! وذعرت السيدة الفاضلة من هذا الطلب، وقررت أنها لا تعرف مكان السيدة المطلوبة.. ولكنهم رفضوا تصديقها، وأبوا ألا أن يفتشوا البيت، بحثا عن المال تحت ستار البحث عن السيدة..

فأرسلت فورا تستنجد بشيوخ الأزهر، فحضر لها بعض الشيوخ على عجل.. ولم يتمكن الجنود اللصوص- أمام الشيوخ- أن ينهبوا شيئا مما وجدوه فى القصر، ولم يجدوا السيدة المزعومة، فأغتاظوا وقرروا أن يعتقلوا صاحبة القصر التى صالحت على أمانها بالمال من قبل.. فحاول الشيوخ أن يمنعوا هذا الاعتقال، فأبوا وأصروا على أخذها.. وهنا لم يجد الشيوخ الفضلاء بدا من مرافقة السيدة الكريمة إلى معتقلها، وهم مذهولون من أن يروا النساء يعتقلن لأول مرة فى تاريخ مصر بدون سبب وعلى هذه الصورة المهينة...

ونظر القائمقام (دبوى) قصتها، فلم يثبت عليها شيء مما اتهمت به.. فطلب الشيوخ إطلاق سراحها، ولكن القائمقام رفض أن يفرج عنها ولفق لها تهمة جديدة، هى أنها أرسلت أحد الخدم إلى زوجها بملابس وأمتعة، ووعدته إذا نجح فى الوصول إليه أن تكافئه مكافأة حسنة، ولكن الجنود قبضوا على الخادم قبل أن يؤدى مهمته، واعترف لهم بكل شىء.. فأنكرت السيدة ذلك الاتهام الجديد بشدة، وطلبت مواجهتها بهذا الخادم، فوعدوها بذلك.. ومضت الساعات وانتهى النهار، ولم يحضر الخادم المزعوم.. وهنا طلب المشايخ إطلاق سراحها.. ولكن القائمقام (دبوى) رفض ذلك بشدة، وعاد المشايخ إلى طلب الإفراج، على أن تحضر إليهم فى اليوم التالى، وضمنوا له ذلك.. ولكن القائد الشهم رفض رجاءهم مرة أخرى.

وعز على المشايخ أن تهان سيدات مصر هذه الإهانة البالغة، فعرضوا على القائد أن تذهب هى لتبيت فى بيتها ويبيتوا هم عنده عوضا عنها، وضمانا لها.. ولكن الضابط الذى يمثل شهامة الفرنسيين، رفض أن يقبل هذا العرض النبيل.. وظل المشايخ يعالجون الأمر معه بكل وسيلة، ولكن نذالته أبت عليه أن يستجيب لأى مكرمة.. فلما يئسوا منه تركوها ومضوا وأرسلوا إليها بعض كرائم السيدات المسلمات ليقضين الليل معها.. وسمع نساء الفرنج المقيمات بمصر هذا التصرف الدنىء، فذهب بعضهن وانضممن مع النساء المسلمات فى المبيت مع السيدة الكبيرة فى معتقلها..

ولما أصبح الصباح ذهب كبار المشايخ إلى نابليون بونابرت نفسه، وكلموه فى الإفراج عن السيدة التى باع لها الأمان بالمال من قبل.. فرضى قائد فرنسا العظيم أن يطلق سراحها، ولكن بعد أن يبيع لها الأمان مرة أخرى بالمال.. وحدد بنفسه المبلغ: ثلاثة آلاف ريال، فدفعتها السيدة وانصرفت..

قال الجبرتى: (وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضى ، وأقامت فيه، لتكون فى حمايته)

التفت ذو البجادين إلى زويمر ووكيله، وقال: لا شك أنكم فى دهشة مما تسمعون .. لقد اعتدتم أن تصوروا نابليون فى هالة من المجد والعظمة المزورة ..

لا شك أنكم فى دهشة بالغة .. لا تكادون تصدقون معها أن هذا الرجل الذى يجعله الفرنسيون مصدر فخرهم، وعنوان مجدهم، ينحط فى إنسانيته ومروءته إلى هذا الدرك المعيب..

ولكن - مع الأسف الشديد - هذا هو الواقع المر الذى نجده فى مذكرات الجبرتى التى كان يكتبها يوما بيوم يسجل فيها ما رأى من حوادث تلك الأيام، وهو عالم ثقة، ومؤرخ صادق...

ولا ندرى لماذا اجتنب المؤرخون أن ينقلوا للناس ما ذكره هذا المؤرخ فى مذكراته اليومية عن هذا الرجل وجنوده من صور عجيبة.. نعم صور عجيبة لم يقف فيها العجب عند بيع الأمان للنساء مرة ومرة، بل تعدى ذلك إلى بيع الأمان للخيول والثيران..

فهذا المحارب العجيب، يطلب إلى الناس أن يقدموا له كل ما يملكون من خيل وجمال، وأبقار وثيران..

ومن عز عليه أن يقدم ذلك، فعليه أن يشترى الأمان لماشيته، أى أن يصالح عنها بالمال، وفى ذلك يقول الجبرتى بالحرف الواحد: (وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال، والسلاح، فكان شيئا كثيرا.. وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات.. وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بجهة سوق السلاح وغيرها، وأخذوا ما وجدوه فيها.. وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق ما لا يحصى)

سكت قليلا، ثم قال: لم يقنع نابليون ورجاله بالأموال الطائلة التى نهبوها من بيوت الأمراء، وغصبوها من ضعاف النساء، ولا بما فرضوه للمصالحة على الخيول والثيران، بل لجأوا إلى امتصاص دماء الأهالى بأسلوب يدعو إلى السخرية والمهانة..

كان نابليون قد ألف مجلسا من الأهالى والشيوخ ليحكم به البلاد، يسمى الديوان.. فدعا أعضاء الديوان يوما، وطلب منهم أن يجمعوا له خمسمائة ألف ريال (سلفة) من التجار..

وهذه السلفة على هذا النحو تبين لك أن القوم وعلى رأسهم نابليون، لم يكن لهم أقل إحساس بالكرامة، فراحوا يستجدون الناس، أو يتسولون باسم (السلفة).. وليت هؤلاء المتسولين كانوا مهذبين فى طلبهم، بل كانوا فى منتهى الصفاقة وقلة الحياء، فإن التجار حين ضجوا منها، فرضوها عليهم بقوة الحديد والنار.. فتوسلوا وتضرعوا لكى يخففوا عنهم (سلفتهم) المشئومة، فرفض المتسولون وأبوا إلا أن يأخذوا (السلفة) كاملة غير منقوصة.. ولكن هل وقف أمر السلفة عند هذا الحد؟ لا، فإنهم بعد ما قبضوها لم يلبثوا أن طلبوا سلفة جديدة..

طلبوها بعد الأولى بيومين اثنين فقط، مما لم يسمع بمثله فى التاريخ، فقد كانت الأولى يوم سبت، قال الجبرتى: (وفى يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق، وقرروا عليهم دراهم على سبيل السلفة.. مبلغا يعجزون عنه.. وحددوا لهم وقتا مقداره ستون يوما يدفعونه فيه، فضجوا واستغاثوا، وذهبوا إلى الجامع الأزهر، والمشهد الحسينى، وتشفعوا بالمشايخ، فتكلم المشايخ لهم، ولطفوا السلفة إلى نصف المطلوب)

واستمر الفرنسيون على هذه (البلطجة) يأخذون المال من الناس جبرا باسم السلفة تارة.. وغصبا وسلبا تارة أخرى.. وكانت جنودهم قد تفرقت فى قرى الريف ومدن الأقاليم فكانوا يصنعون مع أهل القرى ما يصنعه زملاؤهم مع أهل القاهرة، من أخذ المال بأساليب (البلطجية) الذين يعيشون (تلقيحة) على عباد الله، يغتصبون أموالهم بكل وسيلة من وسائل القوة والتهديد..

ويطول بنا القول إذا رحنا نسرد كل ما كان منهم، فنكتفى بذكر حادث واحد هو صورة مكررة لما كان يحدث فى ذلك الوقت.. نزلوا بجهة الخانكة وأبى زعبل بعساكرهم وضباطهم، قال الجبرتى: (وطلبوا من الأهالى (كلفة) فامتنعوا .. والكلفة هى الاسم الذى تستروا به للغصب والنهب فى الريف كما تستر زملاؤهم بمهزلة (السلفة) فى القاهرة. ورفض الأهالى هذه (التلقيحة)، وسخروا من هذه (الكلفة)، وأبوا أن يدفعوا شيئا لهؤلاء البلطجية..

فما كان من اللصوص الأخساء- ضباطهم وجنودهم- إلا أن أعلنوا القتال على القرية الآمنة، وسلطوا عليها مدافعهم، وأنزلوا بها الخراب والدمار، وأشعلوا فيها الحرائق ونهبوا ما استطاعوا منها، وارتحلوا..

ولم يقف جشع هؤلاء فى سلب المال عند حد، ففكر نابليون فى مصادرة أملاك الناس، وابتزاز أموالهم، ولكن باسم القانون، وتحت ستار النظام.. لم يكن للدولة فى ذلك العهد البعيد دواوين، ولا سجلات تضبط للناس ما يملكون من البيوت والأراضى.. وما وجد من تلك السجلات كان على حال غير منظمة، علاوة على أن الأهالى لم يكونوا يهتمون فى تلك الأيام البعيدة بتسجيل ما يملكون فى تلك السجلات.. وانتهز نابليون تلك الفرصة، وأصدر قانونا للغصب والنهب، نكتفى بذكر مضمونه دون التعليق عليه:

أولا: على أصحاب الأملاك أن يقدموا حججهم التى تثبت ملكيتهم لما يضعون عليه أيديهم.. فإذا لم يستطع المالك أن يقدم تلك الحجج، صودرت أملاكه فورا.

وإذا علمنا أن الأهالى فى الأزمنة البعيدة ما كانوا يهتمون بحفظ تلك الحجج لديهم، أدركنا مبلغ ما صادر نابليون من أملاك الناس وأراضيهم..

ثانيا: إذا قدم المالك ما لديه من الحجج لا يكتفون بها، بل يؤمر بالكشف عليها فى السجلات نظير ضريبة يدفعها.. فإذا دفع الضريبة، ولم توجد الأملاك مقيدة بالسجلات صودرت أملاكه فورا.

ثالثا: إذا وجدت الأملاك مقيدة فى السجلات، لا يكتفون بذلك، بل يطلبون إليه أن يحضر الشهود الذين يشهدون بأن المالك يملك هذه الأملاك بطريق البيع أو الميراث، ويلزمونه دفع ضريبة لسماع هؤلاء الشهود.. فإذا لم يستطع المالك إحضار الشهود لوفاتهم أو لوجودهم فى أقطار بعيدة، صودرت أملاكه فورا.

رابعا: إذا حضر الشهود، كانت شهادتهم ترد فى الغالب وتصادر الأملاك!

هذا قانون من القوانين فقط .. والقوانين كثيرة .. اسمعوا ما يقول هذا القانون:

أولا: إذا مات شخص ما، وجب على أهله أن يدفعوا على موته ضريبة..

سأورد لك نص ما قاله الجبرتى فى ذلك فإنه أمر لا يكاد يصدق: (إذا مات الميت يشاورون عليه (أى يخبرون عنه) ويدفعون (معلوما) لذلك)

ثانيا: تفتح تركة الميت فى ظرف أربع وعشرين ساعة، فإذا مضت تلك المدة ولم تفتح التركة صودرت فورا .. ولا حق للورثة فيها.

وإذا علمت أن تقاليد بلادنا الشرقية كانت تتشبث بإقامة المأتم فى تلك الأيام البعيدة لمدة سبعة أيام أو ثلاثة على الأقل، وأنه كان لهؤلاء الأجداد من الآنفة ما يصرفهم عن تعجل النظر فى تركة المتوفى..

إذا علمت ذلك أدركت مبلغ التركات التى صادرها هؤلاء بقوانينهم الهمجية.

ثالثا: إذا فتحت التركة فى الموعد المقرر، يجب أن يكون فتحها بإذن رسمى، ويدفع على ذلك الإذن ضريبة مقررة.

رابعا: على كل وارث للتركة أن يثبت وراثته، وأن يدفع على ذلك الثبوت ضريبة..

خامسا: إذا قبض كل وارث ما يخصه، يجب أن يدفع عنه ضريبة مقررة.

سادسا: إذا كان الميت مدينا، وجب على الدائن أن يثبت دينه، وأن يدفع على هذا الإثبات ضريبة، ويأخذ ورقة يتسلم بها الدين.. فإذا تسلم الدين دفع عليه ضريبة أخرى.

وكذلك قرروا ضريبة على من يريد أن يسافر من مكان إلى آخر، لا أجرا للركوب، فإن المسكين كان يسافر على دابته أو جمله أو على سفينة من سفن النيل، بل يدفع تلك الضريبة مقابل الإذن له بالسفر.

وكما فرضوا على الموت ضريبة فرضوا للحياة ضريبة أخرى، فعلى كل من يولد له ولد أن يدفع عليه مبلغا معلوما.

ويطول بنا القول إذا رحنا نستقصى الوسائل التى ابتدعوها لاستنزاف أموال الشعب، ويكفى أن نعلم أنهم كانوا يفرضون الضرائب على المبايعات، والدعاوى، والمنازعات، والمشاجرات، والاشهادات ، والمؤجرات وقبض أجر الأملاك، وغير ذلك مما يطول استقصاؤه.. فلندع هذا الاستقصاء، فإن ما ذكرناه كاف للدلالة على أن ما ارتكبوه اليوم فى بورسعيد من السلب والنهب إنها هو امتداد لما ارتكبوه من قبل فى القاهرة منذ مائة وستين عاما، وهو فى الحالين وحى خصوصية النذالة فيهم، وتوجيه دواعى الطبع الخسيس..

لا أدرى لماذا لم تنشر هذه الصحائف السود عند دراسة الحملة الفرنسية على مصر؟ إن المعلومات التى تحشى بها أذهان التلامذة تغاير هذه الحقائق المخزية! حتى ليظن الظان أن غزو فرنسا لمصر كان بركة علمية وشعلة ثقافية! ولا شك أن ذلك التاريخ المزور هو أثر الاحتلال البريطانى فى صياغة العقول الجديدة وتكوين أفكار معينة بها والظالمون بعضهم لبعض ظهير..

سكت قليلا، ثم قال: إن ما ذكرته لكم هو قليل من كثير من فظائع الفرنسيين بمصر يوم احتلوها حتى تم جلاؤهم عنها بعد مقاومة شعبية عامة.. وقد تناول مؤرخون آخرون هذا الوضوح كاشفين جوانب مما استخفى من هذه المآسي.. قال بعضهم، وهو ساطع الحصري: (أخذت قيادة الحملة تفرض على الأهالى- على الدوام- أنواعا شتى من الضرائب والقروض والغرامات، وصارت تكثر من مصادرة الأموال والذخائر ومن تسخير الدواب والجمال، ومن إرهاق كواهل الناس بسلسلة طويلة من التكاليف. وكان قواد الحملة يقدمون- من وقت إلى آخر- على هدم عدد كبير من المبانى- بين دور وحوانيت ومساجد ومدارس وقصور، لغايات عسكرية بحتة لأ نهم كانوا يجدون ذلك ضروريا، تارة لتسهيل المراقبة على الأهالى مع منعهم من التترس والتحصن فى الأزقة، وطورا لحفر الخنادق، وتشييد القلاع، وتعبئة المدافع. كما أنهم كانوا لا ينقطعون عن قطع الأشجار وتخريب البساتين لتسهيل أعمال الضبط والمراقبة من جهة، والحصول على الأحطاب الضرورية؛ لصنع المراكب وتشييد الحصون وتقوية الخنادق من جهة أخرى.

ويجد الباحث فى اليوميات التى كتبها الجبرتى من تلك الحقبة من الزمن كثيرا من الصحائف التى تصف هذه التخريبات، وتذكر أسماء أهم القصور والمساجد والمدارس والحارات التى ذهبت ضحية لأمثال هذه الأعمال والتدابير العسكرية.

غير أن تخريبات الجيش الفرنسي فى مصر لم تقتصر على الأموال والأشجار والمباني وحدها، بل تعدت كل ذلك إلى النفوس أيضا، فإن قواد الحملة عندما لاحظوا عدم انخداع الناس بالدعايات الساذجة التى كانوا قاموا بها تحت ستار الدين، أخذوا يسلكون مسالك القسوة والاعتساف، وصاروا يكثرون من أخذ الرهائن واعتقال الناس، وأقدموا على إعدام الكثيرين منهم لأتفه الأسباب، عقابا لهم أو تخويفا لأمثالهم، وقاموا غير مرة بأعمال تعذيبية وإرهابية فظيعة، لا تختلف كثيرا عن همجية القرون الأولى.

وقد قابل الفرنسيون الثورات التى قامت فى البلاد على حكمهم الجائر بمنتهى الصرامة والوحشية: أنهم صوبوا نيران مدافعهم على مختلف أحياء المدينة، وأزهقوا أرواح الآلاف من الأشخاص، وسببوا حرائق كثيرة، واسترسلوا فى التعذيب والتخريب والسلب والنهب بشتى الصور والأساليب.

يقول الجبرتى عن أحوال البلد عند بدء الاحتلال الفرنسى: (إنها كانت فى غاية الشناعة. جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر، ولا سمعنا ما شابه بعضه فى تواريخ المتقدمين)

كما أنه يصف الفظائع التى ارتكبها الفرنسيون- من قتل ونهب وسلب عند ثورة القاهرة الثانية بقوله: (فعلوا بالأهالى ما يشيب من هوله النواصى، وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور. ثم إنهم استولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال.. وما لم تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور)

ويصرح الجبرتى بأنهم لم يستثنوا من هذه الفظائع حتى العجزة والمسالمين قائلا: (والذى وجدوه منعطفا فى داره أو طبقته ولم يحارب، ولم يجدوا عنده سلاحا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه)

ويعترف المؤرخون الفرنسيون أن نابليون كان يصدر أوامر يومية كثيرة (توصى القواد بالإكثار من إعدام الأشخاص على أن تقطع رؤوسهم بعد ذلك ويطاف بها فى الشوارع إرهابا للناس)، لأنه كان يرى أن هذه (الطريقة الوحيدة لفرض الطاعة على هؤلاء)

وكان يضرب لهم مثلا بما يفعله هو فى القاهرة، ليقتدوا به فى مناطق حكمهم.. وقد قال نابليون فى أحد أوامره اليومية: نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأسا.. وكتب مرة إلى أحد القواد يبلغه بوجود قطع رؤوس ما لا يقل عن تسعة أو عشرة أشخاص.

إن أمثال هذه الأوامر كثرت بوجه خاص بعد عودة نابليون من بر الشام خائبا مقهوراً، حتى أن قائد حامية العاصمة رأى أن يقترح عليه تغيير طريقة الإعدام بغية (الاقتصاد فى الرصاص!)

 ويعترف المؤرخون الفرنسيون أنفسهم بأن نابليون أمر بقتل الجنود الذين كانوا استسلموا خلال حملته على بر الشام- خلافا لأبسط قواعد الحقوق الدولية- وكان عدد هؤلاء الأسرى يزيد على ثلاثة آلاف.. كما أنهم لا ينكرون أن الجنود كانوا يسترسلون فى السلب والنهب والتدمير دون أن يبالوا بنصائح ضباطهم وأوامر قوادهم فى هذا المضمار.

قال وكيل زويمر: فلم لم يثر هؤلاء .. أليس الإسلام هو الذي منعهم من ذلك .. أليس الإسلام هو الذي جعلهم يرضخون لكل من ينيلهم ألوان الهوان؟

ابتسم ذو البجادين، وقال: إن الناظر إلى أقطار الغرب قد تخدعه مظاهر المدنية التى بلغتها، وقد يظن أن نظافة القوم فى وجوههم وملابسهم فيض من نظافة ضمائرهم وأرواحهم، وهذا خطأ شديد، ووهم بعيد فالقوم من أقذر أهل الأرض ضمائر وأرواحا، وتقدمهم البادى فى مضمار العلوم والكشوف الكونية لم يخلعهم عن طبائعهم القبلية الأولى يوم كانت تسكن أوروبا قبائل الغال والقوط والوندال والسكسون وغيرهم، بل لعل تطور وسائل الإبادة والفتك زاد ضراوتهم، ووسع المجال أمامهم لإرواء ظمئهم إلى العدوان والسطو...

وأفعالهم فى المستعمرات التى سقطت بين براثنهم تدل دلالة حاسمة على صدق الحكم.

إن الأوروبيين يملكون الآن وسائل شتى لإخفاء فضائحهم، وسيطرتهم على العالم تمكنهم من ارتكاب أبشع الجرائم فيه، ثم تفرض الرقابة على الأنباء، فلا يدرى الناس شيئا عن الركن البائس من أركان الدنيا، الذى بطش الأوروبيون به، وأحلوا مقتهم بأهله.

هل تدري أن أن جزيرة (مدغشقر) ثارت بعد الحرب العالمية الثانية تطلب حريتها، فكان جزاء الثائرين أن تحركت القوات الفرنسية، وقتلت من الأهلين ثمانين ألف نسمة! .. ثمانين ألف نفس فى ضربة واحدة! لقد داخ الثوار إثر هذه المجزرة، وساد الجزيرة الصريعة صمت مطبق، وقضى على حركة التحرر فيها قضاء لا يعرف مداه، وركنت بقية الأحياء إلى الخنوع وهم فى فزع لمقتل الآباء والأبناء، والأمهات والبنات بهذه الصورة المسرفة!!

أما الفرنسيون فقد استأنفوا حمل مشعل الحضارة مع غيرهم من مؤسسى هيئة الأمم المتحدة..

أتدري ماذا حدث فى (كينيا؟)

إن قبائل (ماوماو) ثارت هى الأخرى تطلب حريتها من الإنجليز المحتلين، واستطاعت هذه القبائل أن تكون جيشا على شىء من النظام والدربة، له قائد برتبة (جنرال)، ودارت رحى القتال بين البيض والسود، وبين قبائل الإنجليز السكسون، وقبائل الزنوج الإفريقيين، وكانت حربا لا تكافؤ فيها ولا شرف.

كان قادة (الماوماو) يشنقون إذا سقطوا فى الأسر، وضرب المستعمرون الأقوياء نطاقا حول وسط أفريقيا، ثم شرعوا فى صمت يبيدون أهل البلاد، ويقتلونهم بالعشرات والمئات، حتى تم لهم الإجهاز على الثورة والثائرين.

لقد أعلن ناطق عسكرى منذ أيام أنه لم يبق من هؤلاء سوى 250 أو 300 على الأكثر..

إذن لقد أبيدت عشرات الألوف من هؤلاء الطالبين بحقوق الإنسان، ولعل كثيرين لا يعلمون أنه ـ حين كانت هذه الجماعات تباد بمختلف الوسائل.

أذاع الإنجليز فجأة أن وحوشا مفترسة تأكل البشر قد ظهرت بكثرة، وانتشرت فى مواطن أولئك المجاهدين، وأنها تفتك بهم فتكا ذريعا، وأن حملات عسكرية وجهت لإبادة هذه الوحوش، ونجحت فى إبادتها، وأغلب الظن أنه لم تكن ثمة وحوش، لكنهم أرادوا تغطية جرائمهم البشعة أمام العالم، فاختلقوا هذه المزاعم ليلصقوا بالوحوش البريئة تهمة إبادة البشر، على حد المثل (رمتنى بدائها وانسلت).. لقد كانوا وحدهم الوحوش التى أكلت البشر.

***

لم يجد زويمر ما يرد به على الحقائق الكثيرة التي ذكرها ذو البجادين، فراح يحاول تغيير الموضوع .. فقال: نحن لم نجتمع هنا لندرس التاريخ .. فلكل أمة مساوئها التاريخية وجرائمها ..

نحن هنا اجتمعنا لنبحث في الفكر السامي النبيل الذي يخرجكم من جحيم الفقر إلى جنة الغني ..

وقد ذكرت لكم من الأدلة ما يكفي للبرهنة على أن النصوص المقدسة للمسلمين .. وأن تراثهم الذي يحرصون عليه هو الذي يحمل الفيروس الذي يجعل من الفقر صديقهم الصديق الذي لا يمكنه أن يفارقهم، ولا يمكنهم أن يفارقوه.

ابستم ذو البجادين، وقال: أنت تريد مني إذن أن أجيبك عن المعاني التي تحملها تلك النصوص.

قال زويمر: لا يمكن للمعاني التي تطرحها تلك النصوص أن يجمل صورتها أحد من الناس.

قال ذو البجادين: أنا لا أريد أن أجمل صورتها .. فالقبيح يبقى قبيحا، حتى لو وصفته بأجمل الأشعار.. ولكني أريد أن أذكر المعاني التي تحملها .. وهي معان تنطوي ضمن منظومة شاملة عالج بها الإسلام الفقر والفقراء ..

الإسلام نظر إلى الفقير كإنسان .. والإنسان فيه جانب مادي هو جسده .. وهو جانب يحتاج غذاء وكساء ومأوى وغير ذلك من الضرورات .. وقد دعا الإسلام إلى توفير كل ذلك بكل الأساليب ..

ولكنه لم يكتف به .. فللفقير جانب آخر يحتاج إلى الرعاية .. ولا يمكن أن نرحمه إن لم نرع فيه ذلك الجانب.

قال وكيل زويمر: وما هو؟

قال ذو البجادين: نفسه .. وروحه .. وحقيقته .. ومعناه .. كل هذه يصيبها من الفقر ما يصيب الجسد، وهي تحتاج لذلك إلى معاملة خاصة .. ربما كانت أهم من المعاملة المادية نفسها.

ولهذا فقد ورد في النصوص المقدسة النهي عن المساس بنفس الفقير بأي أسلوب من الأساليب:

فقد نهى القرآن عن المن واعتبر القول المعروف خيرا من الصدقة التي يتبعها من، قال تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)﴾ (البقرة)

وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي r قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.. قال قرأها رسول الله r ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) [11]

وقال :( أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : عاق ومنان ومدمن خمر ومكذب بقدر)[12]

بل إن علماء المسلمين اعتبروا – انطلاقا من النصوص المتشددة في هذا الباب – أن كل ما يؤذي الفقير يجب اجتنابه حتى لو كان في ظاهره معروفا .. فعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه - أي لكونه يتكلف لك قياما ونحوه لأجل إحسانك عليه - فكف سلامك عنه)

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لآخر : أحسنت إليك وفعلت وفعلت ، فقال له ابن سيرين : اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي.

ضحك زويمر بصوت عال، وقال: وما علاقة كل ذلك بما نحن فيه .. لقد أوردت لك النصوص التي يحث فيها الإسلام على الفقر .. فهل من علاج الفقير حثه على الفقر؟

ابتسم ذو البجادين، وقال: أرأيت لو أنك خاطبت مريضا مرضا مزمنا عجز جميع الأطباء عن شفائه، بقولك: لا بأس عليك – يا أخي – فما المرض إلا حالة بسيطة تمر بها بعض أعضائك، ويمكنك أن تعيش معه حياة طبيعية سليمة إن راعيت ما يتطلبه من أنواع العلاج.. فهل ترى في هذا الكلام ما يدعو إلى المرض، أو يحرض عليه؟

قال زويمر: وما علاقة المرض بالفقر؟

قال ذو البجادين: كلاهما سواء في هذه الناحية .. فالمريض مس الألم جسده، وجعله محروما من بعض متع الحياة، وهكذا الفقير، ولكن الألم لم يمس جسده، وإنما مس ذات يده، وهو لذلك يحرم من بعض المتع التي يتمتع بها سائر الناس.

قال زويمر: فلنفرض وجود التشابه بينهما، فما علاقة المثال الذي ذكرته بالعلاج النفسي للفقير؟

قال ذو البجادين: ذلك الخطاب الطيب هو نفسه الخطاب الذي خاطب به الإسلام الفقير .. لقد ذكر له أن الفقر شيء هين، لا ضرر منه على دينه ولا على حياته .. بل ذكر له من الثمار التي قد يجنيها من فقره إن هو أحسن التعامل معه ما لا يجده الأغنياء في غناهم.

قال زويمر: فهو يحثهم على الكسل إذن؟

قال ذو البجادين: فرق كبير بين الأمرين .. فرق بين خطاب نفس الفقير وروحه بما يطمئنها ويملؤها بالسعادة والسلام وبين ما ذكرته من الكسل والعجز ..

قال زويمر: أنا لا أرى أي فرق.

قال ذو البجادين: الفرق في المخاطب بكلا الأمرين، فالنفس والروح لا علاقة لها في الأصل بالفقر والغني.. ولذلك تخاطب بما يرفع همتها عن النظر إلى الدنيا ومتاعها .. أما جسد المكلف وقواه وقدراته، فتخاطب بما يجعلها تسعى وتتحرك في الحياة بحسب القدرات التي وهبت لها.

سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك ..

أرأيت لو أن قوما مسافرين نفذ من بعضهم الزاد، فصاروا فقراء .. هل ترى نخاطبهم بما يملؤهم بالألم واليأس، أو ترى أن الخطاب الأمثل لهم هو أن نقول لهم: نعم .. أنتم نفذ منكم الزاد .. وصرتم لذلك فقراء .. ولكن ذلك لن يحول بينكم وبين مواصلة سفركم .. لأنكم إن وصلتم إلى بلادكم، فستجدون أموالكم تنتظرون، وسترون من الغنى ما فقدتموه في هذه الطريق؟

سكت زويمر، فقال ذو البجادين: هذا المثال ينطبق على معاملة الإسلام للفقير في هذه الناحية .. إنه يقول له: نعم أنت فقير .. ولكن فقرك المادي لا يعني فقرك الروحي .. أو لا ينبغي أن يجرك إلى الفقر الروحي.

فالفقر المادي مرحلة بسيطة تمر بها .. ويوشك لو أحسنت التعامل معها أن تنال من فضل الله أن تنال من الغنى ما تبز به جميع الأغنياء ..

هكذا خاطب الإسلام الفقراء .. وهكذا ملأ أرواحهم بالهمة العالية .. ولقد ضرب لهم الأمثلة بالصالحين الذين ارتفعت هممهم، فلم يبق في قلوبهم همة لغير مولاهم.. قال تعالى :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنعام:52)

وقال :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ (الكهف:28)

وقد روي أن  رجلا مَرَّ على رسولِ الله r ، فقال لرجل عندهُ جالِس : ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشْرافِ النَّاسِ، هذا واللهِ حَرِيّ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شَفَع أن يُشفَّعَ، قال : فسكت رسولُ الله r، ثم مَرَّ رجل، فقال له رسولُ الله r : ما رأيكَ في هذا ؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فُقَراءِ المسلمين، هذا حَرِيّ إن خطب أنْ لا يُنكح، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ، وإن قال : أن لا يُسْمَعَ لقوله، فقال رسولُ الله r : ( هذا خير من مِلءِ الأرض مِثلِ هذا)[13]

وعن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسولَ الله r يقول: ( أُبْغُوني ضُعَفَاءكم، فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم)[14]

وعن مصعب بن سعد قال: رأى سعد أن له فضلا على مَن دونه، فقال رسولُ الله r : هل تُنصَرون وتُرزَقون إِلا بضعفائكم؟)[15]

وفي رواية: أنه ظنَّ أن له فَضلا على من دونَه من أصحاب النبي r ، فقال النبيُّ r : (إِنما ينصُر الله هذه الأمةَ بضعيفها : بدعوتِهم، وصلاتِهم، وإِخلاصهم)[16]

وعن أبي هريرة أَنَّ رسولَ اللَّهِ r قال : ( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ)[17]

وعن عبد الله بن مغفل قال : جاء رجل إِلى النبي r فقال : يا رسول الله، والله إني لأُحِبُّكَ، فقال : (انْظُرْ ما تقول)، قال : والله إِني لأُحِبُّكَ - ثلاث مرات - قال : (إِن كنت تُحِبُّني فأعِدَّ للفقر تِجفافا، فإن الفقر أَسرع إِلى من يُحِبُّني من السَّيل إلى منتهاه)[18] 

وعن علي بن أبي طالب قال : إِنَّا لَجُلُوسٌ مع رسول الله r إِذ طلع علينا مُصْعَبُ بن عُمَير، ما عليه إِلا بُرْدَةٌ، مُرَقَّعةٌ بِفَرْوٍ، فلما رآه رسول الله r بَكَى للذي كان فيه من النِّعْمة، والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسولُ الله r : (كيف بكم إِذا غَدَا أَحَدُكم في حُلَّةٍ، وراح في حلة أخرى، وَوُضِعَتْ بين يديه صَحْفَةٌ ورُفِعَتْ أخرى، وسَتَرْتُمْ بيوتَكم كما تُسْتَرُ الكعبة؟) قالوا : يا رسول الله، نحن يومئذ خَيْرٌ مِنَّا اليوم، نُكْفَى المُؤْنَةَ، وَنَتَفَرَّغُ للعبادة، فقال رسول الله r : (بل أنتم اليوم خيرٌ منكم يومئذ)[19]  

وعن عبد الله بن بريدة: أن رجلا من أصحاب رسول الله r رحل إِلى فَضَالة بن عُبيد، وهو بمصر، فَقَدِم عليه، فقال : إِني لم آتِكَ زائرا، ولكني سمعت أنا وأَنت حديثا من رسول الله r : فرجوتُ أَن يكون منه عندك عِلمٌ، قال : ما هو ؟ قال : كذا وكذا، قال : فَمالي أراك شَعِثا وأنت أميرُ الأرض ؟ قال : كان رسولُ الله r ينهانا عن كثير من الإِرْفَاه، قال : فمالي لا أرى عليكَ حِذَاء؟ قال : كان رسول الله r يأمرنا أن نَحْتفيَ أَحيانا[20].

التفت ذو البجادين إلى زويمر، وقال: لقد أعطت هذه النصوص وغيرها للفقراء مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي وقتهم من تلك العقد النفسية التي يجدها الفقراء في المجتمعات المنحطة ..

فعن يحيـى بن معاذ قال: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين.

وجاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له: تخطّ، لو كنت غنياً لما قربتك، وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء.

وقال آخر: ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري، ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله.

وروي أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم، فأبى عليه أن يقبلها، فألح عليه الرجل، فقال له إبراهيم: أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم؟ لا أفعل ذلك أبداً.

 

 

 

 

 

 

 

 

2 ـ القناعة

بعد أن أنهى ذو البجادين حديثه قام رجل من الجلوس، عرفت بعد ذلك أن اسمه (أويسا)[21]، قام، وقال مخاطبا الجموع: ما ذكره لكم أخي ذو البجادين هو العلاج الأول الذي جاء به الإسلام للفقر ..

إنه علاج مهم، لأنه يبدأ من الجذور التي يتكون منها الفقر ..

إن الإسلام يقول من خلاله للفقراء: (نعم أنتم فقراء .. ولكن لا ينبغي لأحد من الناس أن يتسلط عليكم بسبب فقركم، فأنتم مثلهم تماما .. كلكم عبيد رب واحد .. نعم أنتم تختلفون في درجات الرزق، ولكنكم لا تختلفون في الإنسانية .. بل إن الفقير الذي رفع همته إلى ربه يصير له من الفضل والكمال والغنى ما لا يظفر به الأغنياء في غناهم)

نهض بعض الحاضرين، وقال: وعينا هذا .. فهل من علاج غيره؟

قال أويس: أجل .. وهو نابع مما قبله .. والإسلام يخاطب من خلاله الفقير ليقول له: انظر إلى ما عندك من فضل الله، واستثمره، ولا تنظر إلى ما لم يعطك حتى لا تجحد نعمة الله عليك ..

ويقول له :(ابن آدم عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك.. ابن آدم لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع.. ابن آدم إذا أصبحت معافى في جسدك آمنا في سربك[22] عندك قوت يومك، فعلى الدنيا العفاء )[23]

ويقول له:( مَنْ أصبَحَ منكم آمِنا في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها)[24]

ويقول له: (ليس لابنِ آدم حق في سوى هذا الخصال : بيت يسكُنه ، وَثوْب يُوارِي عورتَه ، وجِلْفُ الخبزِ[25] والماء)[26]

ويقول له: (قال الله : إنَّ أَغْبَطَ أوليائي عندي : مؤمِن خفيفُ الحاذِ ، ذو حظّ من الصلاة ، أحْسَنَ عبادَة ربِّه ، وأطاعه في السِّرِّ ، وكان غامِضا في الناس ، لا يُشار إليه بالأصابع ، وكان رِزْقُه كَفافا فصبر على ذلك ، ثم نَقَرَ بيده ، فقال : عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ ، قَلَّ تُرَاثُهُ ، قَلَّتْ بواكيه)[27]

ويقول له : ( قد أفْلَحَ مَنْ أسلم ، ورُزِقَ كفافا ، وقَنَّعه الله بما آتاه )[28]

ويقول له: (طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام ، وكان عَيْشُه كَفَافا وَقنِعَ)[29] 

ويقول له: ( ليس الغِنى عن كثرة العَرَض ، ولكن الغِني غني النفسِ )[30]

ويقول له: (ليس المسكينُ الذي تَرُدُّه اللقمةُ واللقمتان ، والتمرةُ والتمرتان ، ولكنَّ المسكين الذي لا يجد غِنى يُغنيه ، قال : ( عَرَض عليَّ رِّبي لِيَجْعَلَ لي بطحاءَ مكة ذَهبا ، فقلت : لا ياربِّ ، ولكن أشبَعُ يوما ، وأجوعُ يوما فإذا جُعتُ تضَرَّعتُ إليكَ وذكَرْتُكَ ، وإذا شبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشكَرْتُك)[31]

قال زويمر: ألا ترى أن هذه النصوص تحث على الكسل .. إنها تطلب من الفقير أن يقنع بما عنده، ولا يتطلع إلى ما ليس عنده؟

قال أويس: لا .. هذه النصوص لا تخاطب العضلات، فتقول لها: كفي عن العمل .. ولا تخاطب الاجتهاد لتقول له: اركن إلى الكسل .. بل هي تخاطب نفس الإنسان التي لا تشبع، لتقول لها: كفي عن أهوائك، فعندك ما يكفيك من فضل الله..

إنها تخاطب ذلك الخواء الذي في نفس الإنسان، والذي لا يملؤه إلا التراب .. والذي عبر عنه رسول الله r، فقال :( لو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب)[32]

قال زويمر: وهي بذلك تقضي على أهم ما يحث على الكسب والعمل .. وتدعو بطريقة غير مباشرة إلى الركون إلى الراحة والكسل.

قال أويس: إن مفهوم العمل في الإسلام أشرف من أن ينحصر في ملأ ما يقتضيه الطمع والحرص .. ولذلك، فإن هذه النصوص لن تؤثر في جد الإنسان واجتهاده .. ذلك أن الذي يحركه للعمل هو طلب مرضاة الله، لا طلب شهوات النفس ..

لقد قال رسول الله r يعبر عن ذلك :( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها ، فليغرسها فله بذلك أجر)[33]

قال زويمر: إن هذا لعجيب، فما فائدة الغرس حينذاك.

قال أويس: إن رسول الله r بذلك الحديث يأمرنا أن نعمل لوجه الله .. ولا يهمنا بعد عملنا هل استفدنا منه في حياتنا أم لم نستفد ..

إنه يربينا على القناعة بفضل الله، وفي نفس الوقت يربينا على العمل الجاد المخلص الذي يحقق النفع العام بغض النظر عن استفادتنا منه.

ولهذا ينهانا r أن ننشغل بترف المترفين وغنى الأغنياء عن حياتنا التي قدر الله لنا أن نعيشها، ففي الحديث قال r: ( إذا نظرَ أحدُكم إلى مَنْ فُضِّل عليه في المال والَخْلقِ ، فلينظر إلى من هو أسفل منه)[34] ، وفي رواية قال : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدرُ أن لا تزدَرُوا نعمة الله عليكم)

قال عونُ بن عبد الله بن عُتبة : كنتُ أصحبُ الأغنياء فما كان أحد أكثرَ هَمَّا مني ، كنت أرى دابة خيرا من دابَّتي ، وثوبا خيرا من ثوبي ، فلما سمعت هذا الحديث صَحِبْتُ الفقراء فاستَرْحتُ.

 

 

 

 

3 ـ الاستعفاف

نهض بعض الحاضرين، وقال: وعينا هذا .. فهل من علاج غيره؟

قام رجل آخر عرفت بعد ذلك أن اسمه (أبا ذر)[35] .. قام، وقال:  أجل .. وهو نابع مما قبله .. لقد سماه القرآن تعففا، وأثنى على أهله، فقال:﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة:273)

وقد ربى رسول الله r أمته على هذا الخلق الرفيع .. ففي الحديث أن ناسا من الأنصار سألوا رسولَ الله r فأَعْطَاهم ، ثم سألوه فأَعْطَاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى إذا نَفِذَ ما عِنْدَهُ ، قال : ما يكون عنْدي من خير فلَنْ أدَّخِرَهُ عنكم ، ومَنْ يَسْتَعِفف يُعِفُّه الله ومَن يستَغْنِ يُغْنهِ الله ، ومن يتصبَّر يُصَبِّره الله ، وما أُعْطِي أحد عطاء هو خَير وأوسَع من الصبر)[36]

وروي أنَّه r استعمل رُجلا من بني عبد الأشْهَلِ على الصدقةِ ، فلما قَدِمَ سأله بعِيرا منها ، فَغَضِبَ رسولُ الله r حتى احْمَرَّ وَجْهُه ، وعُرِفَ الغضب في وجهه - وكان مما يُعْرَفُ به الغضب في وجهه أن تحمرَّ عيناه - ثم قال : (ما بالُ رجال يسألني أحدهم ما لا يَصْلحُ لي ولا له فإن منعته كَرهتُ مَنْعَهُ ، وإنْ أعطيتُهُ أعطيتُه مالا يصلح لي ولا له؟) فقال الرجل : يا رسولَ الله ، لا أسألك منها شيئا أبدا[37].

وروي أن حكيم بن حزام قال : سألتُ رسولَ الله r فأعطاني ، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم ، إن هذا المال خَضر حُلْو ، فَمَنْ أخذَه بسَخَاوَةِ نفسه بُورِكَ له فيه ، ومن أخذه يأشراف نفسه لم يُبَاركْ له فيه، وكان كالذي يأْكلُ ولا يشبَعُ، واليَدُ العُلْيا خير من اليد السفلى)، قال حكيم : فقلت : يا رسولَ الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ لا أرْزَأُ أحدا بَعدَكَ شيئا حتى أُفارِقَ الدنيا ، فكان أبو بكر يدعو حَكيما لِيُعطِيَهُ عطاءه ، فيأْبى أن يقبلَ منه شيئا ، ثم إن عمر دعاه ليُعْطِيه عطاءه ، فأبى أن يَقْبلَ منه شيئا ، فقال عمر : يا معشر المسلمين إني أعرض على حكيم حقَّهُ الذي له مِنْ هذا الفيء ، فيأبَى أن يأخذه ، فلم يَرْزَأْ حكيم شيئا أحدا من الناس بعدَ رسولِ الله r حتى تُوفيَ[38].

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال لي عبد الله بن الأرقم : ادللْني على بعير من المطايا أستَحْمِلُ عليه أميرَ المؤمنين، فقلت : نعم جمل من إبل الصدقة ، فقال عبد الله بن الأَرقم : أتُحِبُّ لو أن رجلا بادنا في يومِ حارّ غَسلَ لك ما تحت إزارِه ورُفْغَيْهِ ، ثم أعطاكه فشربْتَه ؟ قال : فَغَضِبْتُ ، وقلت : يغفر الله لك ، لِمَ تَقُول مثل هذا لي ؟ قال : فإنما الصدقة أوساخُ الناس يَغْسِلُونها عنهم[39].

وروي أن رجلا أتى رسولَ الله r، فسأله فأعطاه ، فلما وضع رجلَه على أسْكُفَّة الباب ، قال رسولُ الله r: (لو تعلمون ما في المسألة ، ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا)[40]

وروي أنه قال: ( مَنْ يَكْفُلُ لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتَكَفَّلُ له بالجنّة) ؟ فقال ثوبان : أنا ، فكان لا يسأل أحدا شيئا[41].

وهكذا وردت الأحاديث الكثيرة تحذر من السؤال، وترغب في العفة والقناعة .. ففي الحديث قال رسول الله r: ( يا ابن آدم ، إنكَ أن تَبْذُلَ الفَضَل خير لك ، وأن تُمسكَه شَرُّ لك ، ولا تُلامُ على كفَاف ، وابدأْ بمَنْ تعُول ، واليد العليا خير من اليد السفْلَى)[42] 

وقال: (ليس المسكين الذي تردُّه الأُكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ، ولا يفطنون به فَيُعْطُونه)[43]

وقال: ( لا تزالُ المسألة بأَحَدِكُم ، حتى يلقي الله وليس في وجهه مُزعة لحم ) وفي رواية (حتى يأتي يوم القيامة)[44]

وقال : ( المَسَائل كُدوح يَكدَحُ بها لرجل وجهه ، فمن شاء أبقى على وجهه ، ومن شاء تركه ، إلا أن يسأل الرجلُ ذا سلطان ، أو في أمر لا يجد منه بُدا)[45]

وقال: ( لأن يأخذ أحدكُم أحْبُلَهُ ، ثم يأتي الجبلَ فيأتي بحُزْمة من حَطَب على ظهره فيبيعها ، خير له من أن يسأل الناس أعْطَوْهُ أم مَنَعوُه)[46]

وقال : ( لا تُلْحِفُوا في المسألة ، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرِجُ له مسألتُه منّي شيئا وأنا له كاره ، فيبارَكَ له فيما أعطيُتهُ)[47]

وقال : (من سَألَ الناس ، وله ما يغنيه ، جاء يوم القيامة ومسألتُه في وجهه خُموش- أو خدوش أو كُدوح -)[48]

وقال: ( مَنْ سأل الناس تكُّثرا ، فإنما يسأل جَمْرا ، فليستقِل أو ليستكثر)[49]

قال زويمر: إن نبيكم بهذا قد ضيق واسعا، فمن للفقير المحتاج الذي لا يفطن له الناس؟ .. أتراه يتركه يموت جوعا؟

قال أبو ذر: ليس هذا ما قصده رسول الله r .. رسول الله r في الأحاديث التي ذكرتها ينهانا عن السؤال والشحاذة التي قد يلجأ إليها المرء من غير حاجة إليها .. أو يلجأ إليها من حاجة غير ضرورية .. أو يلجأ إليها، وفي إمكانه أن يلجأ إلى غيرها.. أو يلجأ حين اضطراره إليها إلى من لا يستحق أن يلجأ إليه.

ولهذا وردت الأحاديث تنظم السؤال، وتجعل له محلا محدودا لا يتجاوزه ..

فقد ورد في الحديث عن ابن الفراسي أن أباه قال لرسولِ الله r: أسأل يا رسول الله ؟ قال : (لا ، وإن كنتَ سائلا ولا بد ، فاسأل الصالحين)[50]

وعن أبي سعيد الخدري: قال : قال رسولُ الله r: (مَنْ سأل وله قيمة أو قية فقد ألحفَ) ، قال قلت : ناقتي الياقوَتةُ هي خير من أوقية، فرجَعْتُ ولم أسأله[51].

وعنه، قال: سَرَّحَتْنِي أُمِّي إلى رسول الله r، فأتَيتُ وقَعدْتُ فاستقبلني ، وقال : (مَنْ استغنى أغناهُ الله ، ومَن استعفَّ أعفَّه الله ، ومن استكفَى كفاهُ الله ، ومن يسأل وله قيمةُ أو قية ، ققد ألحْفَ) فقلت : ناقتي الياقوَتَةُ هي خير من أوقية ، فرَجعتُ ولم أسأله)[52]

وعن عطاء بن يسار: أن رجُلا من بني أسد قال له : نزلتُ أنا وأهْلي ببقيع الغَرْقَدِ ، فقال لي أهلي : لو أتيْتَ رسولَ الله r وسألته لنا شيئا ؟ وجعلوا يذكرون من حاجتهم ، فأتيتُ رسولَ الله r، فَوَجَدْتُ عِنده رجُلا يَسألُهُ ، ورسولُ الله rيقول : لا أجِدُ ما أعْطِيكَ ، فولّى الرجل وهو مُغْضَب يقول : لَعَمْري ، إنك لَتُعْطِي مَنْ شئتَ ، فقال رسولُ الله r : (إنه لَيَغْضبُ عَلَيَّ أن لا أجِدَ ما أُعطِيهِ ، مَنْ سَألَ منكم وله أوقية أو عَدْلُها ، فقد سأل إلحْافا) ، قال الأَسدي ، فقلت : لَلَقْحَتُناَ خير مِنْ أوقية ، وكانت الأوقيةُ أربعين دِرْهَما فَرَجَعْتُ ولم أسأله شيئا ، فَقُدِمَ بعد ذلك على رسول الله r بشعير وزبيب ، فَقَسمَ لنا منه ، حتى أغنانا[53].

وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمَّلت حَمَالة، فأتيتُ رسول الله r أسأله فيها ، فقال : أقِمْ حتى تأتيَنا الصدقةُ ، فنأمُرَ لك بها ، ثم قال : ياقبيصة ، إنَّ المسألةَ لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة ، فَحلَّتْ له المسألة حتى يُصيبَها ، ثم يُمْسِكُ ، ورجُل أصابتهُ جائحة اجتاحت ، فحلّتْ له المسألة حتى يُصيب قوَاما مِنْ عَيْش - أو قال : سِدادا مِنْ عَيْش - ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلّت له المسألة ، حتى يصيبَ قَوَاما من عَيْش - أو قال : سِدَادا من عيش - فما سِوَاُهنَّ من المسألة ياقبيصة سُحْت ، يأكلها صاحبها سُحْتا)[54]

وروي أن رُجلا من الأنصار أتى النبيَّ r يسأله ، فقال : أمَا في بيتك شيء ؟ قال : بَلَى ، حِلْس نَلْبَسُ بعضَه ، ونَبْسُطُ بعضَهُ ، وقَعْب نَشْرَبُ فيه من الماء ، قال : ائتني بهما فأتاه بهما ، فأخذها رسولُ الله r بيده ، وقال : من يشتري هذين ؟ قال رجل : [ أنا] آخذها بدرهم ، قال رسول الله r : مَنْ يزيد على درهم ؟ - مرتين أو ثلاثا - قال رجل : أنا آخذهما بدرهَمْينِ ، فأعطاهما إياه ، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاريَّ ، وقال : اشَترِ بأحدهما طعاما ، فانبِذْه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قَدُّوما فائْتِني به ، فأتاه به ، فشَدَّ فيه رسولُ الله r عودا بيده ، ثم قال : اذَهبْ فاحتَطِبْ وَبِعْ ، ولا أرَيَنَّكَ خَمْسة عشر يوما ، ففعل ، فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما، فقال له رسولُ الله r : هذا خْير لك من أن تجيء المسألة نُكْتَة في وجهك يومَ القيامة ، إن المسألة لا تَصْلُحُ إلا الثلاث : لذي فقر مُدْقِع ، أو لذي غُرْم مُفْظِع، أو لذي دم مُوِجع)[55]

وعن حبشي بن جنادة: قال: سمعتُ رسولَ الله r في حجة الوداع يقول - وهو واقف بعرفة ، وأتاه أعرابيّ ، فأخذ بطرف ردائه ، فسأله فيه ، فأعطاه إياه ، وذهب به ، فعند ذلك حُرِّمتِ المسألة ، فقال : رسول الله r : (إنَّ الصدقةَ لا تَحِلّ إلا لذي فقر مُدْقع ، أو غُرم مُفْظع ، أو دم موجع ، ومن سأل الناس ليُثرِيَ به ماله ، كان خموشا في وجهه يوم القيامة ، ورَضْفا يأْكله مِنْ جهنم، فمن شاء فليُقِلّ ، ومن شاء فليُكْثِر)[56]

وعن عبد الله بن مسعود: قال : قال رسولُ الله r : (مَنْ نَزَلَتْ به فَاقَة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقَتُه ، ومَنْ نزلتْ به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له بِرِزْقِ عاجِل أو آجل)[57]

وعن عمر قال : كان رسولُ الله r يعطني العَطَاءَ ، فأقول : أعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَر إليه مِني قال : فقال : خذه ، وإذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرِف ولا سائل ، فَخُذه فَتَمَوَّله ، فإن شئتَ كُلْه ، وإن شئتَ تصَدَّقْ به ، وما لا فلا تُتْبِعّةُ نَفْسَك) ، قال سالم بن عبد الله: (فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسألُ أحدا شيئا ، ولا يرُدّ شيئا أعْطِيَهُ)[58]

وعن عمرو بن تغلب أنَّ رسولَ الله r أُتِي بمال - أو سَبيْ - فقسمه ، فأعطى رِجالا ، وترك رِجالا ، فَبَلَغَهُ أن الذي ترك عَتَبُوا ، فحمِدَ الله ، ثم أثنى عليه ، ثم قال : (أما بعدُ ، فوالله إني لأعطي الرَّجل، وأدَعُ الرجل، والذي أدَعُ أحبُّ إليَّ مِنَ الذي أُعطي ، ولكنِّي أُعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزَعِ والهَلَع ، وأكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قُلُوبِهمْ من الغِنَي والخير ، منهم : عمرو بن تغلب ، فوالله ما أحِب أن لي بكلمةِ رسولِ الله r حُمْرَ النَّعَم)[59] 

وعن عبد الرحمن الحبلي قال : سمعتُ عبد الله بن عمرو، وسأَله رجل، فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله: أَلك امرأةٌ تأوي إليها؟ قال : نعم، قال : ألك مسكنٌ تَسْكنُهُ ؟ قال : نعم، قال : فأنت من الأغنياء، قال : فإنَّ لي خادما، قال : فأَنت من الملوك .. قال أبو عبد الرحمن : وجاء ثلاثةُ نَفَر إلى عبد الله بن عمرو، وأنا عندَه، فقالوا: يا أبا محمدٍ، إِنا والله ما نَقْدِرُ على شيءٍ : لا نَفَقَةٍ، ولا دَابَّةٍ، ولا مَتَاعٍ.. فقال لهم : ما شئتم، إن شئتم رجعتم إلينا، فأَعطيناكم ما يَسَّرَ الله لكم، وإن شئتم ذكرنا أمرَكم للسُّلطان، وإِن شئتم صبرتم، فإني سمعتُ رسولَ الله r يقول : (إِن فقراء المهاجرين يَسْبقون الأغنياء يوم القيامة إِلى الجنة بأربعين خريفا)، قالوا: فإنا نصبر، لا نسأَل شيئا[60].

 

 

 

4 ـ الفضل

نهض بعض الحاضرين، وقال: وعينا هذا .. فهل من علاج غيره؟

قام رجل آخر عرفت بعد ذلك أن اسمه (عبد الله بن مسعود)[61].. قام، وقال:  أجل .. وهو ما يرمي إليه – حضرة زويمر – وقد سماه القرآن الكريم (فضلا) .. قال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾ (الجمعة)

ففي هذه الآية الكريمة يدعو الله المؤمنين – بعد ممارستهم للشعائر التعبدية - بالانتشار في الأرض بحثا عن فضل الله .. وهو بالنسبة للفقراء يشمل أمرين: السعي والإحسان.

السعي:

قالوا: فحدثنا عن الأول.

قال: لقد ورد في النصوص المقدسة الكثيرة الدعوة إلى العمل باعتباره أشرف وسائل الحصول على الرزق[62].. بل اعتبر r الساعي والضارب في الأرض بحثا عن فضل الله مجاهدا في سبيل الله، ففي الحديث أن بعض الصحابة رأوا شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله r عليهم بقوله: ( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)[63]

بل صرح r بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله )[64]

وقد فهم عمر هذه المعاني التي ورد الحث عليها في النصوص، فقال:( لأن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغى من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله ; لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله :﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (المزمل: من الآية20)

وبما أن الكثير قد يستكبرون على بعض الأعمال ظنا منهم أنها من الأعمال الخسيسة التي لا تتنسب مع مكانتهم، وقد يكون ذلك سبب فقرهم، فقد أخبر r عن نفسه وعن الأنبياء عدم تعففهم عن أي عمل نافع:

ففي الحديث قال رسول الله r:( ما بعث الله نبيّا إِلا راعي غَنَمٍ)، فقال أَصحابه : وأنت ؟ فقال : (نعم، كنتُ أرْعاها على قَرَارِيطَ لأهل مكة)[65]  

وقال :( ما أكل أحد طعاما خيرا من عمل يديه إن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) [66]

وقد ورد في الآثار[67]: أن آدم u لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل u بالحنطة، وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها.

وأن نوحا u كان نجارا يأكل من كسبه .. وأن إدريس u كان خياطا .. وأن إبراهيم u كان بزارا ..

وذكر الله داود u فقال :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ (سـبأ: من الآية10)، وقال :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ (الانبياء:80)، فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق.

وكان سليمان u يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك.

وكان زكريا u نجارا.. وهكذا سائر الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام -

الإحسان:

قالوا: حدثتنا عن الأول .. فحدثنا عن الثاني[68].

قال: لقد ورد في الشريعة منظومة كاملة للتكافل الاجتماعي بين المسلمين لم يوجد مثلها في جميع أديان الدنيا وقوانينها ..

وحسبكم من ذلك أن أقرأ عليكم من النصوص المقدسة التي يقرؤها المسلمون صباح مساء لتعرفوا قيمة الإنفاق في سبيل الله .. ذلك الإنفاق الذي جعل جميع المجتمعات الإسلامية في جميع عصورها مجتمعات متضامنة متحدة لا صراع فيها بين غني أو فقير.. ولا وجود فيها لبروليتاريا، ولا لبرجوازيين.

قال تعالى - وهو يقرن التوجه إليه بالعبودية بالتوجه للمحتاجين بما يسد حاجاتهم -:﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)﴾ (البقرة)

وقال:﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) (الأنفال)

وقال:﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ(31) (إبراهيم)

وقال:﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) (البقرة)

وقال:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾ (آل عمران)

وقال:﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) (آل عمران)

وقال:﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) (سبأ)

وقال:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) (البقرة)

وعلى هذا الهدي جاءت أحاديث رسول الله r تحث على الإنفاق في سبيل الله، وترغب فيه بكل الوسائل:

ففي الحديث قال رسول الله r :( إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت , ولزوجها أجره بما كسب , وللخازن مثل ذلك , لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً)[69]

وقال :(سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله . إمام عدل , وشاب نشأ في عبادة الله , ورجل قلبه معلق في المساجد و ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه , ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال أني أخاف الله, ورجل تصدق بصدقة , فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه , ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) [70]

وقال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما أعط منفقاًُ خلفاً , ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً) [71]

وقال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب - يعني الجنة - يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة , ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد , ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة , ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان) [72]

وقال: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف)[73]

وقال: (إن الصدقة على المسكين صدقة , وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة)[74]

وقال: (على كل مسلم صدقة), قيل : أرأيت إن لم يجد ؟ قال: (يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق), قيل : أرأيت إن لم يستطيع ؟ , قال : (يعين ذا الحاجة الملهوف)، قيل له : أرأيت إن لم يستطع ؟ , قال: (يأمر بالمعروف أو الخير), قال : أرأيت إن لم يفعل ؟ , قال : (يمسك عن الشر فإنها صدقة) [75]

وقال: (كل سلامي من الناس عليه صدقة , كل يوم تطلع فيه الشمس, تعدل بين الإثنين صدقة , وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها , أو ترفع له عليها متاعه صدقة , والكلمة الطيبة صدقة , وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة)[76]

وقال: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه , وإن كانت تمرة, فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل , كما يُربّي أحدكم فلوه أوفصيله) [77]

وجاء رجل إلى رسول الله r، فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : (أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح , تخشى الفقر , وتأمل الغني , ولا تُمهلِ حتى إذا بلغت الحُلقُوم قلت : لفلان كذا وفلان كذا وقد كان لفلان)[78]

***

ما وصل (عبد الله بن مسعود) من حديثه إلى هذا الموضع حتى أصابت (صمويل زويمر) نوبة أشبه بنوبات الصرع.. فقد أخذ يصيح بصوت عال ملأني رعبا، في الحين الذي كانت أطرافه جميعا تتحرك حركات كثيرة لا إرادية.

وقد كان مما سمعته منه قوله: اغربوا عني .. لماذا تتبعونني حيث سرت .. لماذا تكدرون حياتي .. لماذا تملأون أحلامي بالكوابيس.. لماذا تملأون يقظتي بأحاديثكم المنتنة.

أسرع إليه وكيله، وراح يهدئه، فلما لم يستجب، راح يحقنه بحقنة كبيرة..

اقتربت من الوكيل، ورحت أناجيه متسائلا عن سر هذه الحالة، فقال: هذه هي حاله دائما كلما سمع أحاديث عن الإسلام ..

لقد ذهب يعالج داءه في كل مستشفيات العالم لكنه لم يحظ بأي علاج .. وقد نصحه بعضهم بأن يلتمس أشعة من شمس محمد ليستدفئ بنورها، ويتنعم بضيائها، وأخبره أنها علاجه الوحيد .. لكنه كان يرفض ذلك كل حين، وكان يقول لي: لا .. لا .. أنا أطيق الجنون .. ولا أطيق تحمل تلك الأشعة .. إنها أشعة حارقة .. والجنون أفضل منها.

قلت للوكيل: فما الذي يمنعك أنت منها؟

قال الوكيل: لست أدري .. ولكني أشعر أن هذا الرجل هو شقي الثاني .. ولا يمكن لأحد من الناس أن يعيش من دون شقه الثاني.

قال ذلك، ثم انصرف عني ليتركني أتأمل في تلك الجموع، وأتأمل تلك الأنوار العظيمة التي كانت تتنزل عليهم من تلك الشمس التي هي رحمة الله للعالمين.

 

 



([1])  أشير به إلى صموئيل زويمر (1867 - 1952م)، وهو أشهر منصِّر في هذا القرن، وهو مؤسس مجلة العالم الإسلامي الأمريكية، له كتاب بعنوان: (الإسلام تَحَدٍّ لعقيدة)

وقد ذكر عبد الله التل انتماءه لليهودية، فقال: (وأعجب العجب أن يعلم القارئ بأن صموئيل زويمر هذا ، الذي كان يرأس مؤتمرات التبشير من أدنبرة في أقصى الغرب إلى لكنو في أقصى الشرق ، والذي قاد معارك التبشير طوال ستين عاما انتهت بهلاكه سنة 1952 ، قد كشف عن يهوديته الدفنية الراسخة في أعماق نفسه ، وذلك بأن طلب حاخاما يلقنه في ساعاته الأخيرة أثناء احتضاره .. وقد أخبرني راهب من أصدقائي أيام معركة القدس ، أن الكنيسة تحتفظ بهذا السر المذهل ، ولا تبوح به ، حتى لا تنكشف حيل اليهود الذين يتضاهرون باعتناق النصرانية ، وحتى لا يظهر إخفاق جمعيات التبشير التي تبذل الملايين عبثا ، وتنخدع بمكر اليهود وخططهم الخبيثة لبث الفتن والبغضاء بين الإسلام والمسيحية) (انظر : جذور البلاء، عبد الله التل، ص 228)

([2])  صنفت هكذا على أساس شروط ثلاثة قائمة فيها، هي أن إجمالي الدخل القومي للفرد كان أقل من (100 ) دولار أمريكي في العام .. وكان نصيب الصناعة من إجمالي الدخل القومي لا يتعدى 10بالمائة.. وكانت نسبة الأمية فيها 80 بالمائة أو أكثر..

([3])  انظر (الحرمان والتخلف في ديار المسلمين)، وهو الكتاب السابع في سلسلة (كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر، وهو للدكتور نبيل صبحي الطويل.

([4])  رواه أحمد، قال المنذري والهيثمي : (وإسناده جيد)، ورواه ابن حبان في صحيحه.

([5])  رواه البخاري ومسلم.

([6])  هذا النص من الإحياء، وقد ذكر أنه نقله عن الحارث المحاسبي.

([7])  ذكر الكثير من الباحثين عن صموئيل زويمر قوله في هذا المعنى مخاطبا إخوانه من المبشرين: (لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن الأداء ، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيل إلى أنه مع إتمامكم العمل على أكمل وجه ، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه ، إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين ، لقد كانوا ، كما قلتم ، أحد ثلاثة ؛ إما صغير لم يكن له من أهله من يعرّفه ما هو الإسلام، وإما رجل مستخفّ بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته ، وقد اشتد به الفقر ، وعزت عليه لقمة العيش، وإما آخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية.. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية ، فإن في هذا هداية لهم وتكريما .. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله ، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها .. ولذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية .. وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام .. وهذا ما أهنئكم وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعا) (انظر: جذور البلاء، عبد الله التل، ط2 بيروت: المكتب الإسلامي ، 1408 هـ - 1988م ،  ص 275)

وينقلون عن البابا شنودة قوله: (إنه يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية ، على أن الخطة التبشيرية التي وضعت بنيت على أساس أن الهدف الذي اتفق عليه التبشير في المرحلة القادمة هو التركيز إلى التبشير بين الفئات والجماعات أكثر من التبشير بين الأفراد ، وذلك لزحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم ، أو التمسك به ، على أن لا يكون من الضروري دخولهم في المسيحية .. ويكون التركيز في بعض الحالات على زعزعة الدين في نفوس المسلمين ، وتشكيك الجموع الغفيرة في كتابهم ، وفي صدق محمد .. وإذا نجحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة القادمة فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئات عن طريقنا . وحتى هذه الحالة إن لم تكن لنا فلن تكون علينا) (انظر: ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير، إبراهيم السليمان الجبهان، ص27)

([8])  أشير به إلى (عبد الله ذي البجادين)، قدم على النبي r ، وكان اسمه عبد العزى فسماه رسول الله r عبد الله، ولقبه:(ذو البجادين)، لأنه لما أسلم عند قومه جردوه من كل ما عليه وألبسوه بجادا - وهو الكساء الغليظ الجافي - فهرب منهم إلى رسول الله r فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين، فاتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم أتى رسول الله r ، فقيل له : ذو البجادين . وقيل : إن أمه أعطته بجادا فقطعته قطعتين فأتى فيهما رسول الله r .

صحب رسول الله r ، وأقام معه، وكان أواها فاضلا كثيرا لتلاوة القرآن العزيز..

حدث محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال : كان عبد الله - رجل من مزينة ذو البجادين - يتيما في حجر عمه، فكان يعطيه وكان محسنا إليه، فبلغ عمه أنه قد تابع دين محمد، فقال له : لئن فعلت وتابعت دين محمد لأنزعن منك كل شيء أعطيتك، قال : فإني مسلم . فنزع منه كل شيء أعطاه حتى جرده من ثوبه، فأتى أمه فقطعت بجادا لها باثنين فاتزر نصفا وارتدى نصفا، ثم أصبح، فصلى مع رسول الله r الصبح فلما صلى رسول الله r تصفح الناس ينظر من أتاه وكان يفعل ذلك، فرآه رسول الله r، فقال : (من أنت؟)، قال : أنا عبد العزى، فقال : (أنت عبد الله ذو البجادين فالزم بابي)، فلزم باب رسول الله r، وكان يرفع صوته بالقرآن والتسبيح والتكبير، فقال عمر : يا رسول الله أمراء هو؟ قال : (دعه عنك فإنه أحد الأواهين)

وقد توفي في حياة رسول الله r .. فعن عبد الله بن مسعود قال : لكأني أرى رسول الله r في غزوة تبوك وهو في قبر عبد الله ذي البجادين وأبو بكر وعمر يدليانه ورسول الله r يقول : أدنيا مني أخاكما، فأخذه من قبل القبلة حتى اسنده في لحده، ثم خرج رسول الله r، ووليا هما العمل، فلما فرغا من دفنه استقبل القبلة رافعا يديه يقول: (اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه) قال : يقول ابن مسعود : (فوالله لوددت أني مكانه ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة)

 وقد روى من طريق آخر قال : فقال أبو بكر : (وددت أني - والله - صاحب القبر) (انظر: أسد الغابة، وغيره)

([9])  هذه النقول من هذا الكتاب وغيره نقلناها من كتاب (الاستعمار أحقاد وأطماع) لمحمد الغزالي.

([10])  المعلومات التي نذكرها هنا نقلناها من كتاب (الاستعمار أحقاد وأطماع) لشيخنا محمد الغزالي، وهو بدوره نقل أكثره من مؤرخ مصر الكبير (الجبرتي)

([11])  رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود.

([12])  رواه الطبراني وابن عدي.

([13])  رواه البخاري ومسلم.

([14])  رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.

([15])  رواه البخاري.

([16])  رواها النسائي.

([17])  رواه مسلم.

([18])  رواه الترمذي.

([19])  رواه الترمذي.

([20])  رواه أبو داود، وفي رواية النسائي عن عبد الله بن شقيق، قال : كان رجل من أَصحاب النبي r عاملا بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شَعِثُ الرأس، مُشْعَانٌ، قلت: مالي أَراك مُشْعَانّا، وأَنت أَمير ؟ قال : كان النبي r ينهانا عن الإِرْفاه، قلنا: وما الإِرفاه؟ قال : التَّرجيلُ كل يوم.

([21])  أشير به إلى أويس القرني (ت 37 هـ)، وهو أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني، من بني قرن بن ردمان بن ناجية ابن مراد: أحد النساك العباد المقدمين، من سادات التابعين.. أصله من اليمن، كان يسكن القفار والرمال، وأدرك حياة النبي r ولم يره، فوفد على عمر، ثم سكن الكوفة، وشهد وقعة صفين مع علي، واستشهد فيها.

روى مسلم عن أسير بن جابر، قال: لما أقبل أهل اليمن، جعل عمر يستقرئ الرفاق فيقول: هل فيكم أحد من قرن، فوقع زمام عمر أو زمام أويس فناوله - أو ناول أحدهما الآخر - فعرفه، فقال عمر: ما اسمك ؟ قال: أنا أويس، قال: هل لك والدة ؟. قال: نعم. قال: فهل كان بك من البياض شئ ؟ قال: نعم، فدعوت الله فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لاذكر به ربي. قال له عمر: استغفر لي. قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله r، فقال عمر: إني سمعت رسول الله r يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فدعا الله، فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته)، فاستغفر له، ثم دخل في غمار الناس، فلم ندر أين وقع، قال: فقدم الكوفة. قال: فكنا نجتمع في حلقة، فنذكر الله، فيجلس معنا. فكان إذا ذكر هو، وقع في قلوبنا، لا يقع حيث غيره. فذكر الحديث..

وعن سعيد بن المسيب، قال: نادى عمر بمنى على المنبر: يا أهل قرن، فقام مشايخ.. فقال: أفيكم من اسمه أويس؟ فقال شيخ: يا أمير المؤمنين، ذاك مجنون يسكن القفار، لا يألف ولا يؤلف. قال: ذاك الذي أعنيه، فإذا عدتم فاطلبوه وبلغوه سلامي وسلام رسول الله r ، قال، فقال: عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي، اللهم صلى على محمد وعلى آله، السلام على رسول الله. ثم هام على وجهه، فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهرا، ثم عاد في أيام علي، فاستشهد معه بصفين، فنظروا، فإذا عليه نيف وأربعون جراحة.

وروى هشام بن حسان، عن الحسن، قال: يخرج من النار بشفاعة أويس أكثر من ربيعة ومضر. (انظر: تاريخ الاسلام، 2 / 174 و 175)

([22] )  السرب: بكسر السين وسكون الراء: المأوى.

([23] )  رواه ابن عدي والبيهقي.

([24])  رواه الترمذي.

([25])  جِلْفُ الخبز: يعني ليس معه إدام.

([26])  رواه الترمذي.

([27])  رواه الترمذي.

([28])  رواه مسلم والترمذي.

([29])  رواه الترمذي.

([30])  رواه البخاري ومسلم والترمذي.

([31])  رواه الترمذي.

([32] )  رواه البخاري ومسلم والترمذي.

([33])  رواه أحمد والبخاري في الأدب.

([34])  رواه البخاري ومسلم.

([35])  أشير به إلى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة .. وكان من السابقين الأوائل للإسلام، وقد روى عنه أنه قال :( أنا رابع الإسلام)، وقيل خامساً، ثم رجع إلى بلاد قومه بعدما أسلم، فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم على النبي r المدينة فصحبه إلى أن مات وخرج بعد وفاة أبي بكر إلى الشام، فلم يزل بها حتى ولي عثمان، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية به بسبب ثورته على الترف والمترفين .. وقد نفي إلى الربذة فمات بها سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه عبد الله ابن مسعود صادفه وهو مقبل من الكوفة مع نفر من فضلاء من أصحابه منهم حجر بن الأدبر ومالك بن الحارث الأشتر وفتى من الأنصار دعتهم امرأته إليه فشهدوا موته وغسلوه وكفنوه في ثياب الأنصار.

وقد قيل إن ابن مسعود كان يومئذ مقبلاً من المدينة إلى الكوفة فدعى إلى الصلاة عليه، فقال ابن مسعود: من هذا قيل: أبو ذر، فبكى بكاء طويلاً، وقال :( أخي وخليلي عاش وحده ومات وحده ويبعث وحده .. طوبى له)

حدث ابن المديني عن الأشتر عن أم ذر أنها قالت تخاطب أبا ذر: ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك ولا يد لي للقيام بجهازك، قال: فابشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله r يقول: (لا يموت بين امرأين مسلم ولدان أو ثلاثة فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً)، وقد مات لنا ثلاثة من الولد وإني سمعت رسول الله r يقول لنفر أنا فيهم: (ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين)، وليس أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري الطريق وقلت: وأنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطريق، قال: اذهبي فتبصري، قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينا هو أنا كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تحث بهم رواحلهم فأسرعوا إلى حتى وقفوا علي فقالوا: يا أمة الله ما لك؟ قلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر قالوا: صاحب رسول الله r قلت: نعم قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال: لهم أبشروا، لقد قال رسول الله r :( ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين)، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية وجماعة والله ما كذبت ولا كذبت، ولو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد فارق بعض ما قال إلا فتى من الأنصار فقال: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا وفي ثوبين في غيبتي من غول أمي قال أنت تكفنني يا بني.. قال: فكفنه الأنصاري وغسله في النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان. (انظر: الاستيعاب وغيره)

([36])  رواه الجماعة.

([37])  رواه مالك في الموطأ.

([38])  رواه البخاري ومسلم والترمذي.. وزاد رزين بعد قوله : السفلى ( ومَنْ يستَغْنِ يُغْنِهِ الله ، وَمْن يستَعفِفْ يُعفُّهُ الله، فاسْتَغْنيت ، فْأغناني الله ، فما بالمدينة أكثر مِنَّا مالا)

([39])  رواه مالك في الموطأ.

([40])  رواه النسائي.

([41])  رواه أبو داود.

([42])  رواه مسلم والترمذي.

([43])  رواه أبو داود.

([44])  رواه البخاري ومسلم.

([45])  رواه أبو داود والنسائي، وفي رواية الترمذي (المسألة كَدّ يكُدّ الرجل بها وجهه ، إلا أن يسأل الرجل سُلْطَانا ، أو في أمر لا بد منه )

([46])  رواه البخاري.

([47])  رواه مسلم والنسائي.

([48])  رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

([49])  رواه مسلم.

([50])  رواه أبو داود والنسائي.

([51])  رواه أبو داود، قال أبو داود : زاد هشام في حديثه ( وكانت الأوقية على عهد رسول الله r أربعين درهما)

([52])  رواه النسائي.

([53])  رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي.

([54])  رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

([55])  رواه أبو داود، واختصره الترمذي، وقال : ( باعَ النبيُّ r قَدَحا وِحلْسا ، وقال : مَنْ يشتري هذا الحِلْس والقَدَحَ ؟ فقال رجُل: أَخذْتُهما بدِرْهَم ؟ فقال النبيُّ : مَنْ يزيد على درهم ؟ فأعطاه رجل درهمين ، فباعهما منه.

([56])  رواه الترمذي، وزاد رزين ( وإني لأُعْطِي الرجلَ العطيةَ فَيَنْطِلِقُ بها تحت إبطه ، وما هي إلا نار- أو قال : ينطلق بها جاعلها في بطنه ، وما هي إلا نار - فقال له عمر : ولم تعطي يا رسول الله ما هو نار ؟ فقال : أبى الله لي البخلَ ، وأبوا إلا مسألتي ، قالوا : وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة ؟ قال : قَدْرُ ما يُغَدِّيه أو يعشِّيه)، وفي رواية ( أن يكون له شِبَعُ يومِ وليلة)

([57])  رواه الترمذي، وفي رواية أبي داود ( أوشَكَ الله له بالغني : إمَّا بَموت عَاجِل ، أو غِنى عاجِل)

([58])  رواه البخاري ومسلم والنسائي.

([59])  رواه البخاري.

([60])  رواه مسلم.

([61])  أشير به إلى أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي، من أكابر الصحابة فضلا وعقلا، وقربا من رسول الله r وهو من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم رسول الله r، وصاحب سره، ورفيقة في حله وترحاله وغزواته، يدخل عليه كل وقت ويمشي معه.. نظر إليه عمر يوما وقال: وعاء ملئ علما.. وولي بعد وفاة النبي r بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان، فتوفي فيها عن نحو ستين عاما.

وكان قصيرا جدا، يكاد الجلوس يوارونه، وكان يحب الإكثار من التطيب، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مر، من طيب رائحته.. له 848 حديثا. (انظر: الأعلام للزركلي)

([62])  تحدثنا عن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)

([63])  رواه الطبراني في الكبير.

([64])  رواه الحاكم.

([65])  رواه البخاري ومالك.

([66])  رواه البخاري.

([67] )  انظر: المبسوط: 30/246.

([68])  تحدثنا عنه بتفصيل في رسالة (كنوز الفقراء) بالإضافة لرسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة، فصل (التكافل)

([69])  رواه البخاري ومسلم.

([70])  رواه البخاري ومسلم.

([71])  رواه البخاري ومسلم.

([72])  رواه البخاري ومسلم.

([73])  رواه النسائي.

([74])  رواه النسائي وابن ماجة.

([75])  رواه البخاري ومسلم.

([76])  رواه البخاري ومسلم.

([77])  رواه البخاري ومسلم.

([78])  رواه البخاري ومسلم.